محمد مهدي شمس الدين
كثيرون من الذين يعتبرون أنفسهم خارج المجال الذي كان يعمل فيه الإمام الصدر، لا يدركون الآن لماذا تحوّل إخفاؤه إلى قضية.القاسم المشترك بين هؤلاء، إنهم جميعاً يقفون خارج الدائرة الثقافية التي نحرك الإمام إنطلاقاً من قيمها وتقاليدها، وخارج الدائرة الإجتماعية التي تحرك الإمام إنطلاقاً من واقعها ومطالبها وحقوقها. لذلك فهم غير قادرين فعلاً على تقدير قيمة التحوّلات العميقة التي بدأها، والتي ما تزال تتفاعل مرتبطة بشخصه، رغم مرور هذا الزمن الطويل على إخفائه.
إن فهم هذه التحوّلات وتفاعلاتها في وعي وواقع الإنسان الآخر ( أي ذلك الذي يعتبر نفسه موضوعاً مباشراً لعمل الإمام ) يلزمنا بالعودة إلى فهم موقع عالم الدين المسلم من جمهوره، والمشكلة الإجتماعية المزمنة لهذا الجمهور، بالإضافة إلى تأثيرات الحرب الأهلية ومضاعفاتها، ودور الإمام في ذلك كله.
لم يكن عالم الدين القيادي، في كثير من الأحيان، بعيداً عن هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم أن تربيته وثقافته وهدف حياته تدفعه إلى أن يكون إنساناً ملتزماً بقضايا مجتمعه .
وقد كان ثمة، ولا تزال حتى الآن، حالة ثقافية تتعارض مع هذه الوضعية لعالم الدين المسلم، هي بقية من الفهم الصوفي لوظيفة الدين وعلمائه .. هذا الفهم الذي كان سائداً في العالم الإسلامي في عصور إنحطاطه وإنهزامه وتوقف حركته التاريخية.
وقد جاء الفهم الغربي للدين مع الإستعمار وثقافته، ليعزز هذه الحالة الثقافية في العصر الحديث، ويعطيها مبررات ليست من الإسلام في شيء، وليست من الحقيقة في شيء.
هذه الحالة الثقافية تعفي عالم الدين من أي إلتزام سياسي، ومن أي إهتمام إجتماعي، بل لقد كان الإهتمام السياسي يشكل في بعض الحالات طعناً في مصداقية عالم الدين، وتعلم المجتمع أن يعفي عالم الدين من حمل هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم. ولا نريد أن ننفي أن عالم الدين، في بعض الحالات، أو في كثير من الحالات، كان يستجيب لهذا الموقف فيعفي نفسه كما كان المجتمع، وفي كثير من الحالات أيضاً، يستجيب لهذه الثقافة، فيعفي عالم الدين من الإهتمام السياسي .
وبالمقابل، كانت هذه الحالة الثقافية تحصر وظيفة عالم الدين في أن يعد جمهوره إعداداً جيداً للآخرة، وأن يعالج المشكلات والنزاعات الصغيرة في نطاق العائلة والحي والقرية وأن يقوم بدور وعظي في الحياة العامة.. وكان يحدث أن يصطفي لنفسه، أو تصطفيه، جماعة من الناس تقل أو تكثر، تتخرج عليه وتتادب بأخلاقه، وقد تقتبس حتى عادات حياته اليومية وبعض أسلوبه في الحديث.
كان دور عالم الدين حقل تنافس بين هذه الحالة الثقافية، وبين روح الإسلام الحية المتحركة الجهادية.
وحين جاء الإمام الصدر إلى لبنا، كانت قد نضجت في وعي المسلم اللبناني،حالة ثقافية بالنسبة إلى دور عالم الدين المسلم أكثر صدقاً وأقرب إلى روح الإسلام وحقيقته الحية المتحركة. وكان الإمام عنوانها الكبير المتألق في لبنان، بل لقد كان أكثر عناوينها تألقاً ووهجاً وقوة على الإجتذاب والإستقطاب.
جاء الإمام إلى لبنان فاكتشف وضعية الإنسان في البقاع((بعلبك-الهرمل))((وفي الجنوب)) ((جبل عامل)) (( وامتداده البشري في ضواحي بيروت البائسة)). واكتشف أن هذا الإنسان مسحوق مستلب، يتمتع بحرية شكلية لا يستطيع أن يستخدمها في تغيير وضعه، بل لا يستطيع أن يستخدمها في الإعلان عن شكواه..و((يتمتع)) – إلى جانب هذه الحرية بإهمال مطلق من قبل الدولة.
فحاول أن يستجيب لهموم هذا الإنسان ومطامحه وحاجاته، وكانت تلك المرحلة مرحلة المؤسسات: مؤسسة جبل عامل المهنية، ومعهد التمريض، وبيت الفتاة.
ثم تنامى، وعيه لمشكلة هذا الإنسان على ضوء تجارب الطوائف اللبنانية الأخرى، وتأكدت لديه الحاجة إلى مستوى من التنظيم في مؤسسة لها أمثال كثيرة في لبنان، تكوّن ضمير هذا الإنسان ولسانه وأداته في السعي نحو المساواة والكرامة.. فكان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى .
ثم تنامى وعيه هذا إلى مستوى أعمق، وأدرك ضرورة إيجاد مستوى آخر من التنظيم فكانت حركة المحرومين، ومن ثم حركة أمل والتي تترجم أعمق نزعات هذا الإنسان نحو الحرية والكرامة بما يتجاوز الإطار الطائفي والمذهبي .
وقد أدى به وعيه الموجع لمشكلة هذا الإنسان إلى أن يتحد مع قضايا المحرومين وتطلعاتهم، وإلى أن يجعل منهم قضية حياته.
وبالمقابل أدرك الإنسان المحروم وأدركت قياداته، وهي النخبة المستقبلية الواعية في الجنوب والبقاع وغيرها، من شتى الطوائف والمذاهب والمناطق في لبنان.. أدرك هؤلاء جميعاً أن موسى الصدر قد باع نفسه لقضية الإنسان هذه .. باعها بصدق وحرارة وإخلاص صوفي نابع من إسلامه وثقافته وأخلاقيته وحسه الإنساني الحاد المرهف. ومن هنا إكتسب الإمام هذه الصفة التمثيلية لأعرض قطاع من الشعب اللبناني، وهي صفة فاقت، وما تزال حتى الآن، ورغم كل شيء، ما نجده لدى أي قيادة أخرى .
حاول الإمام الصدر، في بداية تحسسه لمشكلة الإنسان في لبنان، أن يعمل على تحقيق مطامحه من خلال التعامل مع الوضع اللبناني( ولا ندخل في مكونات هذا الوضع وتبيان عناصره وخصوصياته). ولكنه أدرك في وقت مبكر أن هذا الوضع، بمنطقه الخاص، يحاول تدجينه وجعله جزءاً مه. ثار الإمام على هذا التفكير، ومضى يعمل على عقلنة الوضع وأنسنته، وجعله أكثر إدراكاً لحقيقة الأخطار التي كانت تتجمع ويمكن أن تنفجر لتعصف بالوطن كله. ولكن الوضع في لبنان كان ذا مزاج إفتراسي فبدأت محاولات تحطيم الإمام. وقد إشتركت قوى كثيرة في هذه المحاولات، بعضها من موقع الصديق، وبعضها من موقع الخصم، وبعضها الثالث من موقع رمادي. لأن الجميع رأوا في ظاهرة الإمام، الذي فشل الوضع اللبناني في تدجينه، خطراً عليهم، لأن الفهم الذي طرحه لقضية الإنسان المحروم ونمط التعامل الرسالي، هدد هؤلاء جميعاً بخسارة المواقع التي يحتلونها، على حساب الحرمان والمحرومين، سواء من كان منهم مستفيداً مباشراً أم من كان مستفيداً ثانوياً وبالواسطة، هؤلاء جميعاً وحّدتهم المصلحة في إطفاء الشعلة التي أضاءها الإمام، وإسكات الصرخة التي أطلقها .
ولكن محاولات التحطيم فشلت كلها لأن الإمام موسى الصدر لم يستند في وجوده إلى معادلة سياسية، أو توازنات بين القوى. وإنما إستند إلى الشعب إلى الإنسان المحروم الذي غدا الإمام قلبه الخافق وصوته وإحتجاجه على البؤس والحرمان.
نعم أحياناً كانت هذه الجماعة أو تلك، من جماعات هذا الإنسان المحروم، تقع أسيرة الإرهاب الفكري الجسدي، أو ضحية الدعاية المأجورة والإشاعات الباطلة. ولكن هذا الإنسان كان يدرك أنه ضحية إعتبار سياسي يقوده متنفذ صغير لمصلحة متزعم كبير، أو ضحية لإعتبار حزبي، ومن ثم فقد كان يجد نفسه في النهاية إلى جانب الإمام ووراءه وحوله. وهكذا بقي الإمام عصياً على التحطيم، بل نما وكبر وغدا في قلوب الناس البسطاء رمزاًُ لقضيتهم. وبقي هو موزّع القلب والعقل بين الإهتمام بالمسائل الصغيرة للمواطن، والإهتمام بالمسائل الكبرى للوطن، وهذه المسائل ذات الطابع المصيري.
وجاءت الفتنة اللبنانية الكبرى، فانغمست فيها قوى سياسية كثيرة إما عن قصد وتصميم، وإما عن جهالة لا تبرر النيات التي دفعت إليها الآثار الفاجعة التي نجمت عنها. ورفض الإمام، من خلال المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، أن يكون طرفاً في الفتنة، بل أعطى نفسه مهمة إستعادة السلام، مع العمل على تطوير النظام نحو وضع أكثر عدالة وإستجابة لمطالب المحرومين. من هنا غدا موسى الصدر موضوع كراهية وعداء ظاهر أو مستتر من قبل جميع أطراف الفتنة، أو الذين كانوا يعدون العدة للإستفادة من الفتنة، فقد عبر كثير من هذه الأطراف عن كراهيته بإعلان فاجر فقد كل قيمة اخلاقية ضد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وخطه السياسي، وضد شخص الإمام نفسه، وضد دوره وتطلعاته .. ولكن هجمة البغضاء التي تجاوزت كل حد، لم تلن من قناته، بل مضى في مساعيه وتجاوز بها لبنان إلى المحيط العربي حاملاً هم لبنان ومصيره في قلبه وعقله، وأثمرت مساعيه، فإستطاع أن ينقل خوف الناس العاديين وعذابهم اليومي إلى وعي المسؤولين العرب، وأني يحرك بذلك القلوب والضمائر، لا بلغة السياسة واساليبها، وإنما بلغة الإنسانية، لغة القلب والضمير. ووضع حدّاً للفتنة المشتعلة، وهدأ بركان الدم قليلاً، وإمتلأ قلبه بالأمل في غد مشرق للبنان وغد سعيد للمحرومين .
ولكن الحرب الأهلية البشعة توقفت لتكشف الفتنة عن أبشع وأخطر نتائجها في مقياس قضايا المصير. لقد تعاظمت مأساة لبنان الجنوبي، وانكشفت أخطار الوجود التي تحيط به: أخطار الإحتلال الإسرائيلي والتجزئة، والتوطين، وما ينجم عن هذه الأخطار من تشريد للإنسان الجنوبي يضاف إلى حرمانه.
وعاد موسى الصدر إلى جهاده على الصعيد اللبناني وعلى الصعيد العربي، يتباحث مع الرؤساء والملوك، ومع القيادات السياسية، ومع الجماعات الحزبية، شارحاص الأخطار المحدقة بالجنوب، محذّراً من العواقب الوخيمة التي تتعدى الجنوب إلى لبنان كله، وتتعدى لبنان إلى المحيط العربي كله، محاوراً في صيغ الخلاص.
كل هذا والإنسان المحروم يسمع ويرى ويفهم. وكان كل ذلك يجعل هذا الإنسان يزداد توحداً مع الإمام الصدر وحبّاً له وثقة به وهكذا غدا الإمام حقيقة في كل بيت محروم، لم يعد شخصاً وإنما غدا ممثلاً لقضية الإنسان المحروم والجماعات المحرومة والمناطق المحرومة .. واستمر يطارد الفتن حيثما أطلت برأسها يطاردها في لبنان وخارجه .
وحمله تطوافه في مطاردة الفتنة ومطاردة الخطر إلى ليبيا. ليبيا التي دعته سلطته الرسمية العليا لزيارتها لتباحثه ويباحثها في شأن لبنان وطريق خلاصه وسبيل وأد الخطر المحدق بجنوبه.
وكانت الدعوة فخاً، وكان الطعم هو التلويح لموسى الصدر بالأمل في أن يجد عند حاكم ليبيا وأعوانه عوناً على الفتنة وعوناً على الخطر وهكذا إحتجز حكام ليبيا موسى الصدر ورفيقيه المجاهدين الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين وأخفوا أثرهم، وزعموا – كذباً – انهم غادروا ليبيا.
وتكشفت الحقيقة الراغبة البشعة للإنسان المحروم في وقت قصير. أين الإمام؟ اخفته السلطات في ليبيا. لماذا ذهب إلى ليبيا؟ ينقذ لبنان .
وكما يحدث في كل لحظات الصدمة .. إستعاد الإنسان المحروم كل ما يعرفه عن موسى الصدر، كل جهاده وجهوده، فرأى فيه قضيته هو .. رأى فيه رزقه الشريف، وأمنه وبيته،وكرامته، ومدرسة ولده، ومستشفى مريضه، ومعونة بائسه. رأى فيه مستقبل لبنان. رأى فيه حقول الجنوب المحروقة، ومدنه وقراه التي تنزف أيتاماً وأرامل ومشردين، وبيوته الخالية من أهلها، ودروبه المشتاقة إلى وقع أقدامه، والأمل في غد مشرق. ولن يستطيع أحد أن ينتزع من كل هؤلاء الحق في الأمل …
تقديم لكتاب دراسات في الميثاق عن مكتب العقيدة والثقافة/ حركة امل