الاثنين، 11 مايو 2009

الى أهلنا في بعلبك-الهرمل

الى أهلنا في بعلبك-الهرمل
كنا نتمنى ان نقوم بواجبنا الوطني في خوض معركة ديمقراطية يتاح لكم ولنا أن نعبر فيها عن أفكار وآراء وعن برامج ومشاريع تخدم الوطن وتساهم في انماء منطقتنا وتمثيل أهلها تمثيلا صحيحاً.... الا اننا وجدنا ان العدول عن الامر أولى واوجب وذلك للاسباب التالية:
1= كان من ضمن نتائج اتفاق الدوحة أن جرى اعتماد قانون انتخابي عرف باسم قانون الستين (ولعله يعيدنا الى عام 1860 وليس 1960) لن نناقش في عيوبه وقد استفاض الذين أقرّوه بالاجماع في ذمه بالمفرّق، وفي التنصل منه والتشنيع على أهله وكأنه لقيط لا أباً له وانما عشرات الامهات...!! المهم ان القانون المذكور أسقط في البقاع امكانية حصول الاقليات (من مسيحيين سنة) على حق التمثيل الصحيح، وهو الحق الذي ادعى البعض انهم حصلوه في الدوحة لمناطق اخرى.فلماذا استثنوا بعلبك-الهرمل؟
2= غير ان الامر الاشد والادهى هو ان قانون الستين السيء الذكر هذا، سلّم البقاع الشمالي وأهله الى مصير محتوم .. فهو جعل بعلبك-الهرمل دائرة واحدة مساحتها تعادل خمس مساحة لبنان كله..وعدد ناخبيها أكبر من أعداد عدة دوائر كبرى مجتمعة، وعدد نوابها هو الاكبر في دائرة واحدة... لا بل زاد فشرّع المال الانتخابي الذي تنفقه قوة واحدة لا يستطيع أحد ان ينافسها في أي مجال، فكيف ان كانت هذه القوة تبيح لنفسها تخوين الناس وتصنيفها تحت عنوان ان الانتخابات استفتاء على المقاومة وان من سيترشح في وجهها يكون ضد المقاومة والتحرير... !!! وكيف اذا كانت هذه القوة تملك دكاناً للفتاوى الشرعية غب الطلب لتكفير الناس وارهابها؟؟
3= وكأن كل ذلك لا يكفي فإذا بنا نسمع يومياً رفضاً مسبقاً متعمداً واضحاً، لنتائج الانتخابات ، على اعتبار ان "الاكثرية النيابية" ان كانت من غير تلك الفئة، فانها لا تعكس "الاكثرية الشعبية" الحقيقية ..وهذا المنطق الانقلابي ليس جديداً..انما الخطر فيه انه يعطي لنفسه حق التعطيل ساعة يشاء.. أي الى أبد الأبدين..!!! طالما انه لا يحصل على ما يريد... هذه هي الديموقراطية التي يعدوننا بها......وهي ديمقراطية الفاشيين والنازيين والشيوعيين الذين كانوا يقولون "لا ديمقراطية لاعداء الشعب".......اي ان كل من ليس معهم هو عدو للشعب لا يستحق الديمقراطية ولا الحرية ولا العدالة ولا حتى المصالحة والسلم الاهلي: انها دعوة لحروب اهلية مديدة لا ينتصر فيها الا الخراب.....
4= كل هذا ونحن ما نزال نلملم جراحنا الدامية على امتداد السهل والجرد.. فلا يكفينا الحرمان والتهميش، ولا يكفينا مصادرة قرار المنطقة وسياستها واقتصادها واجتماعها الاهلي والمدني، ولا يكفينا غياب الدولة ما يزيد على النصف قرن، حتى تأتينا وصمة الخروج على الدولة والقانون.. نحن الذين كنا خزان المقاومة والتحرير، وأبطال السيادة والاستقلال، وأبناء الدولة والجيش والقانون ، نحن أهل الكرامة والشهامة وعزة النفس والاباء ، نصل الى حافة الهوان في هذا الزمن الرديء..فلا يقال بعلبكي او هرملاني الا وتلحق بنا وصمة الطفار والقتلة والمخدرات والعصيان والهجوم على الجيش والدرك والقتل....الى آخر ذلك مما لا علاقة له بتراث المنطقة وتاريخها ولا بحاضرها وحقيقة توجهات اهلها.حتى صرنا نتساوى بعصابة فتح الاسلام وصارت العشائر والعائلات الكريمة التي قدمت للوطن وللدولة خيرة الابناء متهمة مطاردة ملاحقة معتدى على كراماتها وحرية ابنائها !!
5= وما زاد الطين بلة ان غيابنا عن ساحة الفعل والقرار وتسليم مقادير امورنا لقوى الامر الواقع، جعلنا خارج جنة "التنمية والتحرير" ، وجعل بلادنا "وفية للمقاومة"، فقط لا غير؟؟ اي ميتة اقتصادياً و سياسياً، مهمشة ثقافياً واجتماعياً، تنتظر اعاشة من هنا ومنّة من هناك....فلا مشاريع ولا استثمارات ولا سياحة ولا اصطياف ولا قروض ميسرة ولا زراعات بديلة ولا زراعة حتى بعد منع الصناعة بقرارات حكومية سابقة...فكأن المطلوب للجنوب تنمية بعد التحرير، والمسموح لنا فقط استمرار الوفاء للمقاومة (كما تدلنا على ذلك اسماء اللوائح في المنطقتين)... فهل تنقصنا الكفاءات أم الطاقات أم الفكر أم التطلعات؟؟ وهل ينقصنا التاريخ؟ ونحن كنا وما نزال سيف الوطنية وترسها، ورأس العروبة ورمحها، ومقلع الرجال والفرسان المبرزين في كل المجالات !! اذن أية داهية دهتنا حتى صرنا على قارعة الطريق ؟
6= الا ان ثالثة الاثافي تمثلت في اسلوب تعامل جماعة 14 آذار مع المنطقة وأهلها، لا بل مع الشيعة عموماً.......فرغم المسؤولية الفعلية والمباشرة لجماعة الموالاة عن تسليم المنطقة وشيعة لبنان الى سيطرة امل وحزب الله طوال السنوات العشرين الماضية (1989-2009)، ورغم ما عانته المنطقة من اهمال وحرمان من طرف السلطة اللبنانية طوال عقود وعقود، ورغم التحالفات المعلنة والخفية بين جميع الاطراف قبل وبعد 2005 على ابقاء المنطقة ساحة متوحشة فالتة لا رأس لها ولا قرار، ورغم ورغم ورغم.الا ان اهلنا لم يتركوا الخيار اللبناني الاصيل ولا تركوا تمسكهم بالوطن النهائي وبالدولة المدنية وبالمؤسسات وبالانماء المتوازن وبالمقاومة التي تستمد شرعيتها من الشعب والوطن والدولة.......الى ان كانت السنوات الاربع الماضية وهي من السنين العجاف التي رأينا فيها ما لا تحمد عقباه..فمن توزيع للمال على الازلام والمحاسيب ممن لا علاقة لهم لا بالمنطقة ولا بثورة الارز ولا بخيار لبنان الدولة والوطن، الى فرض وجوه من الهواة والصبيان الذين صاروا بغمضة عين من اصحاب المال والقرار، ثم تركوا المنطقة لمصيرها بعد 4 سنوات من التفشيط والتشبيح، وترشحوا في اماكن مريحة وعلى لوائح مريحة طمعا بالمقعد النيابي حتى ولو من غير كرامة او شرف،الى تفريخ عشرات الهيئات والشخصيات (نعف عن ذكرها هنا) وبشكل مقرف ومستفز، بحيث صار الناس يبتعدون عن كل ما له علاقة ب14 آذار تحت عنوان ان جماعتهم عندنا هم من شيعة المستقبل الذين لا همّ لهم سوى المال والاعلام ......الى غير ذلك مما لا مجال للاطالة حوله هنا....الا ان ذلك كله تسبب فعلاً بفراغ سياسي قاتل وبدخول اشخاص من خارج المنطقة على خط توزيع المال وتشكيل اللوائح وتسجيل المواقف...
7= أخيراً أعلن الرئيس السيد حسين الحسيني عزوفه عن الترشح وكان سبقه الى ذلك نخبة من كرام المنطقة وعموم العشائر والعائلات التي تحترم نفسها..... وأعلن العشرات بعد ذلك عن انسحابهم وبقي في الميدان عدد من المرشحين لا يملكون ان يشكلوا لائحة لانهم لا يملكون افقاً سياسياً وطنياً او انمائياً او حتى عشائرياً........ فمن المسوؤل عن ذلك؟؟ بالطبع ليس الذي يحتل قرار المنطقة ويمسك بكل ما فيها وما عليها وحده هو المسؤول.....اذ "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"......
أهلنا الكرام
نحن ضنينون بكرامتنا وكرامتكم.. نحن نحترم عقولكم وقلوبكم وضمائركم.. نحن صبرنا معكم وسنصبر.. ونحن وانتم لن نكون الا مع الديمقراطية ومع الحرية ومع الوطن والدولة ومع التنمية والتحرير.. فالى أن يحين موعدنا وموعدكم، ندعو أنفسنا وندعوكم الى احترام ما تبقى من كرامة ومن شهامة في هذه المنطقة الأبية المعطاءة... والى اخلاء الساحة لمن يقبض على الحياة والموت في هذه المنطقة.
حركة خيار لبنان الوطن النهائي والدولة المدنية في بعلبك-الهرمل
في 10 نيسان 2009

في يوم العرفان: فلسطين تبقى هي العنوان

في يوم العرفان: فلسطين تبقى هي العنوان

خير الكلام ما قلّ ودلّ.......... وأول الكلام العرفان، والعرفان في عرف بني معروف معرفة، وأول المعرفة بحسب أهل العرفان معرفة الحق، ومعرفة الحق هي طريق كل معرفة بحسب إمامنا عليّ عليه السلام: "اعرف الحق تعرف أهله"، ومعرفة أهل الحق بداية الانسانية لانها بداية كل تعارف الذي هو أصل كل اجتماع بشري : "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..
وأهل الحق والعرفان صار لهم اليوم عنوان: مؤسسة تربوية تعليمية ثقافية اجتماعية نهضوية رائدة.......... فتحية الى أصحاب هذا المقام، مؤسسة العرفان، وتحية الى أهلها والقائمين عليها من مشايخ أجلاء، ومن مربين ومربيات، وعاملين وعاملات..... وتحية اليكم جميعاً في يوم العرفان هذا...........
والعرفان أيضاً خصال حميدة ومكارم أخلاق بُعِث بها ولها كل الانبياء (جاء في الحديث النبوي الشريف:انما بُعثتُ لأتمم مكارم الاخلاق)..."فمن منحه الله القبول والترقي والعروج الى حد الانسانية كان من ثمرة أفعاله العقل والعلم والسكون والرزانة والعفاف والنظافة والطاعة والصبر ومكارم الاخلاق "( على ما جاء في المأثور عن السيد التنوخي)..
هكذا عرفت اخواني بني معروف الموحدين وهكذا أعرفهم اليوم حين يعودون الى الاصول والى الجذور، لتأسيس الحاضر والمستقبل على قواعد ثابتة ، فيبدأون من حيث كانوا، في أن الدين النصيحة، وأن الدين المعاملة، وأن الدين الاستقامة ... وهم في ذلك لا يستوحون غير معاني المسلك التوحيدي العرفاني لبني معروف.. ولا يفعلون غير تجسيد الخصال العربية الأصيلة لجبل عربي أشم حمل أهلوه رايات النبل والشهامة والمعرفة والزهد والمودة الصادقة والشجاعة.. وقد رفع تلك الرايات أعلام كبار من الامير السيد عبد الله التنوخي الى الشيخ الفاضل محمد بو هلال ، ومن أسد العروبة سلطان باشا الأطرش الى فارسها وأميرها شكيب أرسلان، ومن بطل معركة دمشق 1945 المقدام الشيخ محمد أبو شقرا، الى معلّم الأجيال وحارس مبادئ النضال كمال جنبلاط .......
وما كان الدروز في تاريخهم الا حماة الثغور والذادة عن الأرض والعرض ، ونحن وهم مدعوون اليوم ، كما في الامس الى الاستقامة على الحق كما أمر رب العباد ، والاستقامة على العدل، ولو على النفس أو ذي قربى ، فالعدل هو أساس كل ملك وحكم، وهو أقرب الى التقوى، وذلكم هو الجهاد الأكبر.......
ونحن وهم مدعوون اليوم الى العمل على لمّ الشمل وتوحيد الصفوف خوفاً على التجربة اللبنانية وعلى العيش المشترك وعلى عروبة لبنان وعلى مستقبل فلسطين والعرب ...
ونحن وهم مدعوون اليوم الى التزام القول الحسن، والحكمة، والموعظة ، دون مزايدات أو تشبيح ، ودون تعبئة أو تحريض، وذلكم هو طريق العرفان....
أيها الاخوة والاخوات ، سادتي المشايخ الاجلاء........
من معاني هذا اليوم الثقافي المجيد التأكيد على معنى الاختلاف وعلى حق الاختلاف وعلى حرية التعبير عن الاختلاف ... فالاختلاف سنّة الهية وحقيقة بشرية طبيعية....
"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً"، "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"........
ومن معانيه ايضاً التأكيد على أن الخلاف والاختلاف لا ينبغي أن يفسد للعيش المشترك قضية ، ولا أن يورث الإحن والبغضاء والتفرق والتنازع ، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، وانما تنافسوا في الخير والعمل الصالح والبر والتقوى، وفي خدمة الحق والعدل.......
هكذا تتأسس الاوطان ، وقد كان بنو معروف من مؤسسي هذا الوطن، وهكذا تحفظ العروبة وقد كان بنو معروف سيف العروبة ورمحها وترسها على مر الأزمان........ وهم اليوم أمام تحدي حفظ هذا الوطن وصيانة سلمه الأهلي وعيشه المشترك ...والاستمساك بعروبة لبنان وبحرية فلسطين وبعزة العرب وتقدمهم.....
ومن خلال الاضاءة على تاريخ القوم وعاداتهم وتقاليدهم ، تضيء مؤسسة العرفان على تجذّر
المعروفيين الموحدّين في إسلامهم وعروبتهم وفي خصوصية مذهبهم، وفرادة مسلكهم ،ما يجعل تلك الخصوصية والفرادة مداميك معمار متوازن لشخصية سوية متوازنة، تقوم على الانفتاح والتسامح،لا الانعزال والانغلاق،وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الالغاء أو الاقصاء او الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدد ، وعلى الاعتراف بهذا التعدد والتنوع دون خجل أو تمويه ، وعلى الاعتراف بأهمية كل مكوّن وبخصوصية كل انتماء بذاته، وبها جميعاً ومعاً ، ما يشكل معنى لبنان وسر اجتماعه الأهلي والسياسي، ومعنى هوية اللبنانيين والعرب.
ان الأمانة للتراث الروحي والثقافي والحضاري للموحدين الدروز في لبنان ودنيا العرب، هي أمانة للبنان أولاً وللعروبة ثانياً وللاسلام ثالثاً، دون تعصب أو عنصرية أو انعزال ودون ادعاء أو تفاخر.. وهي أمانة لوصايا المسلك التوحيدي في صدق اللسان وحفظ الاخوان، وفي عفة اليد واللسان، وفي الزهد والامتناع عن كل حرام، وفي الشجاعة والإقدام....... وعلى هذا الطريق يسير الموحدون الدروز اليوم من أجل اعادة الاعتبار للثوابت والمسلمات التالية:
1= ان لبنان بلد صعب ولكنه ممكن... ووجه الصعوبة يكمن في تجاوز إحن الماضي ومحن الجهل والتعصب، وفي فهم الواقع وطريقة التعامل معه لبناء الممكن والمطلوب، أي العيش الواحد القائم على احترام الخصوصيات الدينية والمذهبية والثقافية، واحترام التوازن، والحرية والمساواة والكرامة للجميع وبين الجميع....
2= ان الممكن يصير حاضراً عبر الحوار الدائم .. والحوار ليس لغة خشبية أو خطابات رنانة بل هو صدق ومصارحة ومكاشفة وصولاً الى المودة والمصالحة، مع الذات قبل الآخر.. فالحوار المطلوب هو حوار الصداقة لا المجاملة، وحوار الصدق لا التقية، وحوار المصالحة لا تسجيل النقاط......
3= ان الحوار الحق يفضي بأهله الى ميثاق وعهد "إن العهد كان مسؤولاً". وعهدنا وميثاقنا ودستورنا اليوم هو اتفاق الطائف...... فالحفاظ على ميثاق ودستور الطائف، والسعي الى تطبيقهما وتطويرهما هو عهدنا في هذا اليوم وفي هذا المقام.
4= إن لبنانيتنا وحرصنا على الوطن النهائي هي جزء من عروبتنا والتزامنا قضايا العرب ومصيرهم........ فلا انعزال ولا تطرف، ولا إفراط ولا تفريط ، بل معادلة صادقة شفافة صاغها الامير شكيب ارسلان في مطلع القرن العشرين ، وحملها المعلّم كمال جنبلاط حتى لحظة استشهاده، وفي القلب منها فلسطين: الاسم الحركي لكل أحلامنا وآمالنا، نحن وأنتم مؤتمنون عليها.... الى يوم الدين...........
5= ختاماً أذكر وأتذكّر وأذكرّكم قول أحمد شوقي في الموحدين الدروز:
"وما كان الدروز قبيلَ شرٍ وإن اُخذوا بما لم يستحقوا
ولكن ذادة وقراة ضيف كينبوع الصفا خشنوا ورقوا
لهم جبل أشم له شعاف موارد في السحاب الجون بلقُ
لكل لبوءة ولكل شبل نضال دون غايته ورشقُ
كأن من السمؤل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ وخُلُقُ



الدكتور سعود المولى

الفلسطينيون في لبنان: رؤية لبنانية

مداخلة الدكتور سعود المولى في مؤتمر التربية والثقافة الفلسطيني-بيروت 20 ايار 2009
الفلسطينيون في لبنان: رؤية لبنانية

نحن ننتمي الى جيل والى مدرسة تفتخر بأنها ما تركت ولن تترك فلسطين ولا قضيتها ولا أهلها ولا ثورتها...... فهذا الموقف، والمشاعر والعواطف الملازمة له، هو ما عاش له وما سيموت عليه جيلنا الذي كانت فلسطين اسماً حركياً لوطنه لبنان، الذي حلم به وطناً حراً لشعب حر، ولعروبته التي أرادها ديمقراطية تقدمية تحررية. وعلى قاعدة هذا الانتماء الفلسطيني كان لنا موقف واضح وحازم في مسألة حقوق الفلسطينيين المقيمين في لبنان، هو موقف الدعم المطلق، ودون استنساب أو تردد، لكل ما يحقق الكرامة والحرية والامن والامان والاستقرار لهؤلاء الاخوة في كل تفاصيل حياتهم في لبنان وحتى ساعة عودتهم الى ديارهم واقامة دولتهم الوطنية السيدة الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.......ونحن لم نستسغ يوماً ، ولا نستسيغ اليوم، كل ذلك النفاق والدجل الذي يتستر بشعار رفض التوطين وبدعوى حق العودة ، وهو يخفي (لا بل ويُعلن) أبشع أنواع العنصرية والفاشية ضد شعب فلسطين وضد حقوق اللاجئين منه في لبنان...

وقد قدمت الورقة التي أعدها الدكتور سعود المولى قراءة تفصيلية لأشكال التعامل الرسمي اللبناني مع اللاجئين الفلسطينيين على أرضهم، ثم جردة تفصيلية أخرى بالقوانين اللبنانية التي تنظم موضوع حق العمل وحق الاقامة والتنقل وحق التملك،
وسجلت الورقة أن معظم القوانين اللبنانية التي تنظم شؤون اللاجئين الفلسطينيين تنطلق من مبدأ المعاملة بالمثل الساري بين الدول (( 319 –1962 )) وطالما لا توجد دولة فلسطينية تعامل اللبنانيين بالمثل فان اللاجئين المتواجدين في لبنان لا يحصلون على حقوقهم في التعليم والطبابة والعمل والضمان الاجتماعي والانتساب إلى النقابات اللبنانية وبالتالي فان الحكومة اللبنانية لا تتحمل التبعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين ولذلك لا تمارس أي دور في إدارة المخيمات والتجمعات الفلسطينية كما انه ليس للوزارات آو المؤسسات آو البلديات اللبنانية أي دور تجاه الشؤون الحياتية اليومية للاجئين الفلسطينيين باستثناء تسجيل اللاجئين ومنحهم بطاقات هوية وسفر وخضوع الفلسطينيين للقوانين اللبنانية من أصول محاكمات وأحوال مدنية وتجارية ..
وللتذكير فإن اتفاقية جنيف المتعلقة باللاجئين وفي الفقرة 24 منها نصت على حق اللاجئين الاستفادة من الامتيازات التي يستفيد منها المواطنون كالضمان الاجتماعي والأجور والتعويضات العائلية ومدة ساعات العمل، كذلك فإن بروتوكول الدار البيضاء الذي صدر عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب في العام 1965 في الفقرة الاولى ينص على ان يعامل الفلسطيني في الدول العربية التي يقيم فيها معاملة رعايا الدول العربية سواءً في سفرهم او إقامتهم وتيسير فرص العمل لهم مع احتفاظهم بجنسيتهم..كما ان قرار مجلس جامعة الدول العربيه رقم 462، في 23-9-1952، سمح للفلسطينين بحق العمل والاستخدام في الاقطار العربية........
ويعتبر مبدأ المعاملة بالمثل الذي تضعه السلطات اللبنانية كأساس للتعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين في قضايا العمل مخالفًا للمعاهدات والاتفاقات التي وقعتها ووافقت عليها الدولة اللبنانية.
فمبدأ المعاملة بالمثل مخالف لاتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين المعقودة في 28/7/1951 والتي تنص "بعد فترة إقامة ثلاث سنوات يستفيد كل اللاجئين على أراضي الدول الموقعة بإيقاف قانون التعامل بالمثل". وتقول في المادة "17": "الإجراءات المفروضة على الأجانب أو على عمل الأجانب لحماية السوق الوطنية لا يعمل بها على اللاجئين...
ورغم أن لبنان كان من بين الدول التي صادقت على بروتوكول الدار البيضاء إلا أن للبنان ضمن مذكرة التوقيع بتاريخ 3 آب/ 1966 تحفظات قوضت عملياً المضامين الأساسية للبروتوكول بمنح الحقوق المدنية الاقتصادية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين ، وبقي اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يعاملون كأجانب محرومين من أبسط الحقوق المدنية من حيث العمل والاقامة والتنقل والتملك......كما ان قانون منع اللاجئ الفلسطيني من التملك يشكل انتهاكا للاتفاقية الدولية للقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري الذي ينص في المادة الثانية منه:
"ويحظر على اي دولة او مؤسسة او جماعة او أي فرد اجراء أي تمييز عنصري كان في ميدان حقوق الانسان والحريات الاساسية في معاملة الاشخاص او الجماعات او المؤسسات بسبب العرق او اللون او الاصل الإثني. "


اللاجئون الفلسطينيون والوضع اللبناني:
لم يمض على استقلال لبنان أكثر من 5 سنوات حتى كانت نكبة فلسطين زلزالاً على حدوده الجنوبية استمرت تداعياته الى يومنا هذا... ذلك ان البلد الصغير، الحديث التشكيل، المعقد التركيب، الدقيق التوازنات، وجد نفسه في خضم أمواج عاتية لا قدرة له على خوض غمارها..ولم يكن الامر ليتعلق بأفواج اللاجئين الهاربين الى جنوب لبنان من مجازر عصابات الصهاينة، وقد كان لبنان الرسمي والشعبي حريصاً على التضامن والتعاطف معهم..... وقد تجلى الترحيب اللبناني في أبهى صوره في التصريحات والمواقف الإيجابية المرحبة التي أطلقها رئيس الجمهورية بشارة الخوري ووزير خارجيته عبد الحميد فرنجية.
وبلغ التضامن والتأييد اللبناني للفلسطينيين أن الجيش اللبناني شارك في المعارك ضد الاسرائيليين عام 1948 كما أن مئات المتطوعين اللبنانيين خاضوا المعارك بكل تضحية وشجاعة إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين. ولم يتوان اللبنانيون عن فتح منازلهم للاجئين وتقديم كل ما أمكن تقديمه إليهم، وهذا ما فعلته المؤسسات الحكومية والمنظمات والجمعيات.لا بل ان هذا التعاطف استمر طوال الخمسينيات حيث كان اللبنانيون يرافقون المتسللين الفلسطينيين الى ديارهم المحتلة لتفقد منازلهم وأرزاقهم.....وحول هذا الترافق الكفاحي نسجت نواة المقاومة الفلسطينية اللاحقة وقواعدها في الجنوب اللبناني...........

الا انه، وبعد سنوات قليلة من شهر العسل تفجرت التناقضات العربية عن سلسلة انقلابات عسكرية حملت عنوان تحرير فلسطين..ثم كانت أحزاب وحركات قومية سورية وقومية عربية واسلامية تحريرية حملت هي ايضاً شعارات التحرير والعودة... بحيث صارت المخيمات مركزاً للنشاطات الراديكالية على أنواعها..وهكذا فان السلطات اللبنانية صارت تخشى من النتائج السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمكن أن تعكسها قضية اللاجئين الفلسطينيين، خاصة بعد اتضاح حجم الكارثة التي سببها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وطرد سكانها، والدعم السياسي الذي كانت تتلقاه الدولة الصهيونية من الغرب. وفي تلك الآونة بدأت مشاريع ومخططات توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تظهر من خلال ممارسات المنظمات الدولية، وهذا ما أقلق اللبنانيين على مستقبل المعادلة الطائفية في البلد، ودفع الدولة اللبنانية إلى التعاطي الأمني مع قضية اللاجئين، حيث باتت الأجهزة الأمنية هي المكلّفة بمتابعة قضية اللاجئين وأصبحت هذه الأجهزة تفرض الرقابة على المخيمات وتعنى برصد الأنشطة السياسية.
الى أن كانت نكسة 1967 والانطلاقة الثانية للعمل الفدائي الفلسطيني الذي وجد في المخيمات قاعدة صلبة لانتشاره ولحمايته......ثم كانت انتفاضة تشرين 1969 التي حررت المخيمات ونقلتها الى سلطة الكفاح المسلح الفلسطيني وفق ما نصت عليه اتفاقية القاهرة الشهيرة يومذاك..وشهدت سنوات 1970-1975 تمددا وانتشارا فلسطينيا في جنوب لبنان، تردفه عناصر لبنانية يسارية أو فتحاوية وجدت في الثورة الفلسطينية و لأسباب مختلفة، الحلم والأمل في التغيير...إلى جانب الأسباب اللبنانية الإسلامية المتعلقة بانهيار التوازن الذي قام عليه الكيان اللبناني.... أدى ذلك الى حرب أهلية شارك فيها الفلسطينيون الى جانب الحركة الوطنية اللبنانية والطوائف الاسلامية بحيث صارت المقاومة الفلسطينية بالنسبة للكثير من اللبنانيين جزءاً لا يتجزأ من ما كان يسمى حركة التحرر الوطني العربية ومن اليسار الدولي والإقليمي ومن استراتيجيات مصرية وسورية وسوفياتية وفلسطينية (ولاحقا ليبية وعراقية وعدنية وغيرها) وجدت في بقاء جبهة الجنوب مفتوحة وفي استمرار الحرب الأهلية اللبنانية خير جسر للعبور إلى ما تريد أو لإيصال الرسائل أو لخدمة مصالحها الخ..وفي حين انه لم يكن هناك من مشروع عربي للمواجهة خصوصاً بعد حرب تشرين 1973 ثم اتفاقيات فك الاشتباك الاولى في سيناء 1975 ونشوء جبهة الصمود والتصدي 1975 وصولاً الى اتفاقية كامب ديفيد المصرية-الاسرائيلية 1977-1979، فانه لم يكن هناك ايضاً من هوية لبنانية وطنية جامعة ومستقلة تحمل عنوان المقاومة، بل يمكن القول حتى أن القوات المشتركة في الجنوب كانت جزءا من الانقسام الداخلي كما أنها كانت تغذيه من جهة أخرى....لكل ذلك اضطربت العلاقات اللبنانية-الفلسطينية وخضعت للانقسام الدولي من جهة (يمين- يسار) وللانقسام الطائفي اللبناني من جهة اخرى(مسلمين-مسيحيين) وللانقسامات العربية من جهة ثالثة (اعتدال في مقابل الصمود والتصدي)......وقد تميزت المرحلة من 1978 الى 1982 بصراعات لبنانية-لبنانية خصوصاً بين شيعة الجنوب (بعد خطف الامام الصدر) وأحزاب اليسار اللبناني والفلسطيني...ثم كان اجتياح 1982 الذي اخرج منظمة التحرير من بيروت واستكملت سوريا مهمة اخراج المنظمة من البقاع والشمال ثم الاجهاز على قواها المستقلة في حروب المخيمات (طرابلس 1983-1985 وبيروت والجنوب 1985-1987)...ورغم ذلك استطاع الشعب الفلسطيني اطلاق الانتفاضة الاولى (كانون الاول 1987 اي قبل ولادة حركة حماس) التي كانت الايذان الرسمي باعلان خروج العامل الفلسطيني من الوضع الداخلي اللبناني...

أكّد اتفاق الطائف (1989) الذي وضع أسس لبنان الجديد على شرعية المقاومة اللبنانية وأعطاها حصانة الالتفاف الشعبي والإجماع الوطني الذي صار حقيقة ملموسة عبّرت عن التوافق على أمرين:1- عدم إدخال العامل الإسرائيلي في أي تناقض داخلي، أي إنهاء ذلك التاريخ الأسود والمشؤوم الذي "اضطر" فيه بعض الأطراف إلى اللجوء للعون الإسرائيلي..و2-عدم طرح موضوع الانسحاب السوري قبل إنجاز التحرير من الاحتلال الإسرائيلي...وكان هذا يعني تحديداً سحب الموضوع الفلسطيني من التداول اللبناني الداخلي لا بل من كل معاني التضامن والتعاطف باعتباره صار شأناً أمنياً سورياً.......وقد شهدت سنوات 1990-2005 حالة فقدان ذاكرة لدى اللبنانيين بحيث صاروا يتبرأون من أي شيء له ولو أدنى علاقة بالوجود الفلسطيني وتاريخه على أرضهم.... .. وليس صدفة بالتالي ان اتفاق الطائف لم يأت على ذكر الفلسطينيين الا من خلال شعار رفض التوطين (في البند 9 من المبادئ العامة ترد عبارة:"ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين"...) ثم من خلال البند المتعلق ببسط سيادة الدولة على كامل اراضيها (في عبارة: "الاعلان عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم اسلحتها الى الدولة خلال ستة اشهر.."...) ودون مجرد ذكر اسم فلسطين او الشعب الفلسطيني او اللاجئين...


موضوع السلاح الفلسطيني:
في 18 من آذار عام 1986 أجاز البرلمان اللبناني قانوناً يلغي ما يسمى بالاتفاقية الإسرائيلية ـ اللبنانية (اتفاقية 17 ايار) ، والاتفاقية الفلسطينية ـ اللبنانية (اتفاقية القاهرة). الفقرة الثانية من القانون رقم 87/25 تقول: "2- تعتبر المعاهدة الموقعة بتاريخ 3/11/1969 بين رئيس البعثة الجنرال أميل البستاني وبين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي تعرف باتفاقية القاهرة لاغية وكأنها لم توجد في الواقع أصلا. وكذلك فان كل الاتفاقيات والملحقات المتعلقة باتفاقية القاهرة تعتبر ملغاة وكأنها لم توجد أصلا".
اتفاق القاهرة عام 1969 كان أقر جزءاً من حقوق الفلسطينيين أهمها حق حمل السلاح والدفاع عن النفس أمام الهجمات الإسرائيلية المتوالية على المخيمات الفلسطينية .
واليوم يكثر الحديث عن السلاح الفلسطيني داخل وخارج المخيمات ...... البعض يربطه بالقرار 1559 الذي يدعو إلى تجريد الميليشيات من سلاحها والبعض الآخر يستعمله للتهييج على الفلسطينيين والتحريض على اقتحام المخيمات وإنهاءها كبؤر أمنية خارج السيادة اللبنانية .
في منتصف أيار 1990 توصلت الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى تفاهم غير مكتوب تم بموجبه أ= جمع السلاح الفلسطيني الثقيل والمتوسط وتقديمه هدية إلى الجيش اللبناني وقد تم ذلك بكشوف موثقة ومدققة من قبل قيادة الجيش اللبناني وأعلن بعدها أن المهمة قد أنجزت بالكامل .
ب- ينطبق على السلاح الخفيف في المخيمات ما ينطبق عليه بيد اللبنانيين أي لا يتم جمعه ويترك للتنظيمات والفصائل الفلسطينية التعامل معه بالطريقة المناسبة .
ج- ينكفئ المقاتلون الفلسطينيون من المحيط اللبناني إلى داخل المخيمات وقد تم ذلك بدءاّ من أقلم التفاح وبيروت الكبرى والجبل وانتهاء في منطقتي صيدا وصور ومحيط المخيمات .
ورغم أن السلاح الخفيف ، المتواجد في مخيمين فقط من أصل 12 مخيماّ ، له ما يبرره (في الذاكرة الفلسطينية إلى الآن مجازر صبرا وشاتيلا عام1982، والتجربة المرة التي عاشها الفلسطينيون في حرب طرابلس (1983-1985) ثم المخيمات 1987-1985 ، بالإضافة إلى عدم نزع السلاح من الميليشيات اللبنانية، واستمرار الاعتداءات والتهديدات الإسرائيلية على المخيمات ، الا ان المسألة تتعلق بضبط السلاح الثقيل ووضعه تحت امرة الشرعية الفلسطينية وبالتنسيق مع الشرعية اللبنانية، ناهيك عن الخلاص من موضوع السلاح خارج المخيمات وهو ليس سلاحاً فلسطينياً بقدر ما انه سلاح اقليمي يخدم سياسات اقليمية معروفة.....

موضوع التوطين:
يعرف الناس جميعاً ان مشاريع التوطين حقيقة واقعية عرفتها بلادنا منذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت الولايات المتحدة ولا تزال هي المسوق الاكبر لهذه المشاريع .... ولكن الشعب الفلسطيني رفض وما يزال كل مشاريع التوطين والتعويض محافظاً على حلم العودة الى ارضه ودياره في فلسطين........ وهذا الحلم حق شرعي وطني وانساني كرسته مواثيق المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية من الامم المتحدة الى الجامعة العربية الى المؤتمر الاسلامي الى عدم الانحياز، كما المجالس الوطنية الفلسطينية على امتداد تاريخ نضال الشعب الفلسطيني..وكلنا نذكر مشاريع منتصف الخمسينيات وابرزها مشروع جونستون (نسبة الى السيد اريك جونستون مبعوث الرئيس الاميركي دوايت ايزنهاور الى الشرق الاوسط لاقناع العرب بالتعويض والتوطين)......
وكلنا يعرف ان النقطة المركزية في الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي والعربي-الاسرائيلي كانت ولا تزال حق العودة ورفض التوطين...وان الشعب الفلسطيني على اختلاف تياراته واتجاهاته يرفض بالكامل اي حديث عن التوطين ويتمسك بالمطلق بمبدأ حق العودة...كما ان لبنان المتضامن مع اشقائه العرب في الصراع مع اسرائيل، والمتمسك بوحدته وسيادته واستقراره يرفض التوطين ويدعم الشعب الفلسطيني في التمسك بحق العودة.
الى جانب هذا فانه ليس من العيب ان نعترف بأن لبنان لا يتحمل نتائج اي تسوية مفروضة خصوصاً لجهة التوطين. فلا جغرافيته ولا ديموغرافيته ولا اقتصاده ولا سياسته بقادرة على الصمود في وجه اي مشروع للتوطين مما قد يؤدي الى تفجيره او انفجاره. وهذا الخطر حقيقي وليس وهماً او عنصرية مقيتة.... ان القول بان لبنان لا يتحمل اقتصادياً او جغرافياً او سكانياً او سياسياً توطين اللاجئين الفلسطينيين ليس موقفاً طائفياً (لانهم من أهل السنة) ولا عنصرياً (غرور لبناني بازاء العرب) بقدر ما هو حقيقة واقعية لا يقلل من واقعيتها وجود طائفيين او عنصريين في صف من يرقض التوطين........ واذا أعطي مثال توطين الارمن وتجنيسهم وقبول لبنان لهم فاننا نقول باننا لو كنا نملك في تلك المرحلة قرارنا الوطني ودولتنا المستقلة لكنا رفضنا توطين وتجنيس الارمن من نفس المنطلقات المتعلقة بحق العودة الى وطنهم وبعدم قدرة لبنان على تحمل نتائج التوطين والتجنيس. وهذا الامر لا علاقة له باحترامنا وتقديرنا ومحبتنا لاخواننا الارمن الذين حملوا هم ايضاً السلاح من اجل قضيتهم. ان عدم الاعتراف بالوضع الحساس والدقيق للبنان والتعامل معه على انه "ساحة" عليه ان يتقبل ويتحمل كل "الحالات"، هو الاساس المبدئي للخلل العميق في رؤية وتفسير أسباب معارضتنا للتوطين......ولكن معارضة التوطين التي هي معارضة فلسطينية بالاساس ، لا علاقة لها بتلك الجوقة من "ابطال حق العودة" من جزاري الشعب الفلسطيني واللبناني الذين صاروا اليوم بقدرة قادر يدافعون عن حق العودة ولا يتركون مناسبة دون ادخال موضوع التوطين فيها حتى صار قميص عثمان وصار لونه بائخاً لكثرة الاستعمال....... ينبغي وضع حد لهذا الاستغلال الذي ينبع من عنصرية شوفينية فاشية مقيتة لا علاقة لها بحقوق الشعب الفلسطيني ولا بنضال الشعب اللبناني الى جانب اخوانه الفلسطينيين...

المراجعات الفلسطينية واللبنانية : نحو رؤية مشتركة:

حين كان اللبنانيون يسيرون في اتجاه اقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف (1989) كان الفلسطينيون قد بدأوا مسيرة تصويب نضالهم من خلال الانتفاضة الاولى (كانون الاول 1987) وقد روتها لاحقاً دماء الشهداء أبو جهاد وأبو اياد وأبو الهول (ومعهم علي ومروان وحمدي وابوحسن) .. ثم كانت وثيقة اعلان استقلال دولة فلسطين في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالجزائر (15 تشرين الثاني 1988) وصولاً الى المشاركة في مؤتمر مدريد (تشرين الثاني 1991)وانجاز اتفاقية اوسلو(13 أيلول 1993) ثم الانتقال الى الارض المحتلة لاقامة السلطة الوطنية(1 تموز 1994)....وبغض النظر عن تقييمنا لهذه المسيرة (من الجزائر الى مدريد الى اوسلو الى اليوم) الا ان ما نريد ابرازه هنا هو ان الشعب الفلسطيني ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية (ممثله الشرعي الوحيد) لم يعد له اي مشروع أمني أو سياسي في لبنان أو انطلاقاً منه، ولا عاد أداة (أو رافعة) في خدمة أي مشروع على أرض لبنان........
وقد جاء اعلان فلسطين في لبنان الذي صدر كوثيقة رسمية عن منظمة التحرير في لبنان (9 كانون الثاني 2008) ليفتح صفحة جديدة في العلاقات اللبنانية الفلسطينية اساسها الاعتراف بأخطاء وخطايا الماضي والدعوة الى تجاوزها من الطرفين وانجاز مصالحة حقيقية بين الشعبين .. والوثيقة تؤكد على الموقف الرسمي الفلسطيني الذي ما انفكت تؤيده كل القيادات الفلسطينية، في الداخل والخارج،في منظمة التحرير والسلطة الوطنية وخارجها،في حماس والجهاد والفصائل الموجودة في دمشق،والذي يعلن الالتزام الكامل وبلا تحفظ بسيادة لبنان واستقلاله وعدم التدخل في شؤونه الداخلية.. الا ان الاهم في الوثيقة كما في المواقف التي أعلنها ويعلنها الرئيس محمود عباس ،والاخوة في فتح وحماس على السواء،هو الاعلان عن التمسك بحزم وثبات بحق العودة ورفض كل اشكال التوطين والتهجير مع التمسك بالحق في العيش بكرامة....والاعلان بان السلاح الفلسطيني في لبنان يخضع لسيادة الدولة اللبنانية وقوانينها وعن استعداد منظمة التحرير للتفاهم مع الشرعية اللبنانية على موضوع السلاح وعلى الحقوق المشروعة للاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وقد تجاوبت قيادات لبنانية عديدة مع الاعلان الفلسطيني أبرزها الرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع والوزير نسب لحود، في حين استمر البعض الآخر في التحريض ضد الشعب الفلسطيني ومخيماته في لبنان وبعبارات وصيغ أقل ما يقال فيها انها مثال فاقع على العنصرية...الا ان المعيار في التعامل اللبناني الفلسطيني ينبغي ان يكون ما ورد في خطاب القسم للرئيس ميشال سليمان (26 أيار 2008):" إن رفضنا القاطع للتوطين، لا يعني رفضا لاستضافة الأخوة الفلسطينيين، والاهتمام بحقوقهم الانسانية، بل تأسيسا لحق العودة حتى قيام الدولة القابلة للحياة. ولهذا، فإن لبنان، يشدد على ما ورد في المبادرة العربية، التي انطلقت من عاصمته بيروت العام 2002"، كما على البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة الاولى في عهد الرئيس سليمان(6 آب 2008) والذي ورد فيه: "وانطلاقاً من وثيقة الوفاق الوطني التي أُعلنت في الطائف، وما نصت عليه بشأن بسط سيادة الدولة على كل الأراضي اللبنانية وضرورة احترام الإخوة الفلسطينيين المقيمين في لبنان سلطة الدولة وقوانينها، سوف تعمل الحكومة، تنفيذاً لما أجمعت عليه هيئة الحوار الوطني، على إنهاء وجود السلاح الفلسطيني خارج المخيمات ومعالجة قضية الأمن والسلاح في داخل المخيمات، مع تشديدها على مسؤولياتها والتزامها حماية المخيمات الفلسطينية من أي اعتداء. ستعمل الحكومة بالتعاون مع ممثلي القوى الفلسطينية والأطراف العربية المعنية للوصول إلى المعالجات المطلوبة، بما يحفظ أمن اللبنانيين والفلسطينيين.من جهة أخرى، سوف تواصل الحكومة اللبنانية الجهود المبذولة لمعالجة المشكلات الإنسانية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان، داخل المخيمات وخارجها، مع ما يقتضيه ذلك من إجراءات وتدابير تعزّز الموقف اللبناني الرافض للتوطين وتتماشى مع حق الفلسطينيين المقيمين في العيش الكريم. وفي هذا الإطار، ستتابع الحكومة العمل على وضع السياسات التي تخفف من الأعباء الاقتصادية وسواها من المفاعيل السلبية على لبنان. وتعمل على زيادة الدعم العربي الدولي في هذا المجال. كما ستواصل مطالبتها المجتمع الدولي بتحمل كامل مسؤولياته تجاه الفلسطينيين. وستواصل كل الجهود الضرورية من أجل إعادة إعمار مخيم نهر البارد لتأمين الإقامة فيه بكنف السلطة اللبنانية"..........
وكنا السباقين (مع سمير فرنجيه وفارس سعيد ومحمد حسين شمس الدين في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني) الى طرح رؤية متكاملة للعلاقات اللبنانية الفلسطينية وذلك في اعلان بيروت (17 حزيران 2004) الذي قلنا فيه:
"نريد أن نقول لأشقائنا الفلسطينيين: لقد طوينا نهائياً صفحة الحرب المشؤومة، التي كنا، نحن وأنتم، من ضحاياها، على اختلاف المواقع والتصوّرات والرهانات والأوهام .من الدروس الأساسية التي استفدناها معاً، ودفعنا ثمنها معاً، أن خلاص لبنان لا يكتمل إلا باستقرار الشعب الفلسطيني في دولة سيّدة مستقلة، بالشروط التي يرتضيها الشعب الفلسطيني لنفسه: فليس لنا أن نعلّمكم أو أن نملي عليكم أي خيار. ومن الدروس الأساسية التي استفدناها معاً، ودفعنا ثمنها معاً، أن لبنان المعافى داخلياً هو خير عونٍ لقضية فلسطين ولكل القضايا العربية: وليس لكم أن تحدّدوا لنا مواصفات موقفنا القومي. بإمكانكم التأكد من حقيقة هذه الخلاصة حين ترون اليوم هذا الاجماع اللبناني، من مختلف الطوائف والاحزاب، على تأييد قضيتكم بعد انتقال مركز نضالكم الى داخل فلسطين، وبعد إعلانكم، قولاً وعملاً، أنه لم يعد لديكم أي مشروع سياسي أو أمني في لبنان، أو عبر لبنان: لم تعد القضية الفلسطينية مسألة خلافية بين اللبنانيين. وعليه فإننا نرفض معكم الاستغلال السياسي الذي يتعرّض له وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، كما نتضامن معكم للحصول على كامل حقوقكم الانسانية. كذلك ينبغي أن نعمل معاً على بسط سيادة الدولة اللبنانية على جميع المخيمات. وهذا الأمر يتحقق عبر اتفاق مباشر بين الحكومة اللبنانية والقيادة الفلسطينية الشرعية. نحن نؤمن، أخيراً، بأن قيام دولة فلسطينية مستقلّة في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس ، تكون مسؤولة عن الفلسطينيين في الداخل كما في بلدان الشتات، سيساهم إلى حدٍ بعيد في حلّ مشكلة اللاجئين، وسيطرد عملياً شبح التوطين الذي نرفضه وإياكم على السواء."........

المسلمون في لبنان

المسلمون في لبنان: الحياة الدينية والثقافية
________________________________________
رضوان السيد


شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر نهوضاً في مدن سواحل الشام على كل المستويات، ومن ضمن ذلك الحياة العلمية والدينية. وكان اساس ذلك حركة السكان وتنقلاتهم، كما بدا في نظام الولايات العثماني. وفي أواخر القرن التاسع كانت طرابلس لا تزال ولاية تتبعها ألوية وأقضية، وفقدت صيدا صفة الولاية، وصارت بيروت ولاية منذ العام 1888. وأبرز ما يمكن ذكرُه في المجال التعليمي والديني: حركة الشيخ حسين الجسر ومدرسته وجريدته في طرابلس، وجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت. الشيخ الجسر كتب الرسالة الحميدية، والحصون الحميدية. ويمثّل الكتابان محاولة نهضوية توفيقية بين متطلبات الاعتقاد السني التقليدي، ومتطلبات الحداثة أو العصرية كما سمّاها هو. والمعروف ان الشاب محمد رشيد رضا من بلدة القلمون، والتي ما تزال تتبع قضاء طرابلس الى اليوم، تأثر في البداية بنهضة الشيخ الجسر. لكنه لا لبث ان تجاوز ذلك الى طموح اكبر، بالذهاب الى مصر للالتحاق بالشيخ محمد عبده الذي كان قابله مرة في بيروت. وفي مصر كما هو معروف ايضاً أنشأ عام 1899 مجلة المنار، التي ظلت تصدر حتى العام 1935 عام وفاته، وصارت سيدة المجلات الإسلامية في العالم كله. واختلفت مصائر جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية المنشأة في بيروت عام 1876م عن مصائر مدرسة الجسر في طرابلس. فقد أراد القائمون من الوجهاء البيروتيين لكن برئاسة الشيخ عبدالقادر قباني ان تكون المحاولة شاملة، أي القيام بنهضة في مجال التعليم المدني العام، متخذين من مدارس الإرساليات التي قامت لدى المسيحيين اللبنانيين مثالاً، في نطاق الحفاظ على الهوية الإسلامية العامة. وهكذا، ومع نشوء الكيان اللبناني عام 1920 كان هناك نوعان متواضعان ولكنهما ثابتان، من وجوه النهوض لدى المسلمين: النهوض الديني الإصلاحي في نطاقي محمد عبده والجسر، واللذين ضمّهما معاً محمد رشيد رضا. والنهوض التعليمي المدني الذي قادته جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، ومدرسة الشيخ أحمد عباس الأزهري. وكلا الأمرين اتخذ من مصر وجهة له، أي النهوض الديني، والنهوض التعليمي. المسلمون في لبنان وحياتهم الدينية: اقتضى ظهور الكيان اللبناني، واتخاذ بيروت عاصمة أن تقوم مؤسسات دينية جديدة تتركز في بيروت. ومن ضمن ذلك منصب مفتي الجمهورية ذي الدور الوطني، والمهام الوقفية، والرمزية والتي تطورت وتنظمت من خلال المرسوم الاشتراعي رقم 18، والذي يعطي للمسلمين ممثلين بالمفتي ودار الفتوى حقوقاً في حرية العبادة، وحرية التعليم الديني، وقضاء الأحوال الشخصية، وادارة أوقافهم. وفي موازاة ذلك بُدئ بإنشاء جهاز ديني من الأئمة والخطباء والمدرّسين والقضاة، إضافة للوظائف الموروثة من العصر العثماني. وفي العام 1933 أنشئت الكلية الشرعية، وهي ثانوية دينية لتخريج الأئمة والخطباء والمدرّسين في المساجد. ومن هذه الكلية أو المدرسة تخرج أوائل القضاة. ومنذ الثلاثينات من القرن العشرين، بدأت مصر، وبدأ الأزهر يرسل بعثة بدأت بسبع مشايخ، وصاروا في الستينات أربعين، ويعترف الأزهر بالثانوية البيروتية، ويقبل الطلاب اللبنانيين الذين يتابعون دراستهم في الأزهر للحصول على شهادة الدراسات العالية من إحدى الكليات الثلاث: الشريعة أو اللغة العربية أو أصول الدين. ويعود هؤلاء لتولي مناصب القضاء والفتوى. وكان الشيخ حسن خالد رحمه الله هو أول من تولى إفتاء الجمهورية من خريجي الأزهر. اما القضاء الشرعي فقد بدأ الازهريون توليه منذ الخمسينات من القرن الماضي.وما اقتصرت حياة المسلمين الدينية بالطبع على الأئمة والخطباء والمدرّسين من خريجي الكلية الشرعية (أو كلية فاروق الأول أو أزهر لبنان في ما بعد)، بل كان هناك القطب الآخر، قطب الطرق الصوفية. وهي طرق كانت مزدهرة في سائر المدن الاسلامية، وبخاصة الطريقتين الشاذلية والقادرية، وأقل الطريقة الرفاعية. وبخلاف شيوخ التعليم والقضاء والإمامة، والذين صاروا يتخرجون حتى السبعينات في مصر وحدها تقريباً، ظل ذوو الثقافة الصوفية والمنزع الصوفي يذهبون الى دمشق وحلب، كما يأتي دمشقيون وحلبيون وحمصيون ليقودوا طرقاً في لبنان.وقد تغيّر الوضع منذ السبعينات من القرن الماضي، إذ حدثت ظاهرتان: قلّ عدد طلاب العلوم الشرعية الذين يذهبون الى مصر، وذهبوا بدلاً من ذلك الى المملكة العربية السعودية وليبيا وأحياناً دمشق، والظاهرة الاخرى نشوء معاهد وكليات جامعية إسلامية بخاصة في طرابلس وبيروت وصيدا والبقاع وعكار. ثم عمدت دار الفتوى الى إنشاء كلية للدعوة أو الشريعة في الثمانينات، صارت هي بدورها جامعة. وما عادت دار الفتوى تتحكم بالتعليم الشرعي، بل تطورت تعددية لها جوانبها السلبية والايجابية.وما ظهر في لبنان في زمن الاستقلال، وتكوّن الجهاز الديني اللبناني، شيوخ كبار لهم قدم راسخة في الاجتهاد، ومؤلفات معروفة شأن ما حدث في دمشق أو عمّان أو القدس، على رغم الازدهار الذي عرفه المسلمون في لبنان، وعرفته بيروت في ما بين الأربعينات والسبعينات. لدينا طبعاً اجتهادات الشيخ حسين الجسر، ونهضويات الشيخ عبدالقادر قباني، وورع ومواقف أول مفتٍ للجمهورية الشيخ عبدالباسط الفاخوري. ولدينا كتاب «قصة الايمان» الشهير لمفتي طرابلس في الستينات والسبعينات الشيخ نديم الجسر. ولدينا مؤلفان للمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد في الأحوال الشخصية، والعقائد المقارنة. بيد أن الحياة الفكرية وحتى الدينية الاسلامية ما كانت تصنع في الكلية الشرعية في بيروت، أو كلية التربية والتعليم في طرابلس، بل في المقاصد والى حد ما في جامعة بيروت العربية.أما الإسهام الفكري والعلمي/الديني من جانب المسلمين في لبنان، وفي ديار العروبة والإسلام في القرن العشرين، فتمّ على يد خمسة أعلام: الشيخ عبدالله العلايلي، والدكتور صبحي المحمصاني، والدكتور عمر فروخ، والدكتور صبحي الصالح، والشيخ طه الولي. عبدالله العلايلي تخرج في كلية اللغة العربية في الأزهر، وظل يلبس العمامة طوال حياته، وأنجز بعض الاجتهادات الفقهية في مسائل الثروة والتنمية، لكن انجازه الرئيس تمّ في مجال فقه اللغة والمعجميات. وقد شارك في الأربعينات والخمسينات في الحياة الفكرية والسياسية اللبنانية، ثم انقطع وتفرغ لكتابة معجمه الكبير، بعد أن اشتهر في مصر والشام بكتابه: مقدمة في درس لغة العرب. وهو يتضمن نظرية في اللغة، وأخرى في القومية.أما الدكتور صبحي المحمصاني فتخرج في القانون في جامعة القديس يوسف، وفي فرنسا. ثم درّس في الجامعة، وافتتح مكتباً للمحاماة، وصار نائباً ووزيراً. بيد أنه أنجز مؤلفات في القانون الدولي الخاص، وفي الالتزامات والعقود، لا تزال مراجع على مستوى العالمين العربي والأوروبي. وفي العشرين سنة الأخيرة من حياته كتب واجتهد في المجال الفقهي الإسلامي، ولا تزال مؤلفاته لهذه الناحية مراجع أيضاً تدرّس في الشرق والغرب. ومن ذلك كتاباته المبكرة في فقه المقاصد الشرعية، وفي الفقه الدولي الاسلامي، وفي اعادة اكتشاف فقه الإمام الأوزاعي.والدكتور عمر فروخ، الشديد الورع والتديّن، ما درس أيضاً في معهد شرعي، بل أكمل دراساته العليا في ألمانيا وفرنسا، وفي تاريخ الأدب العربي. لكنه عندما عاد الى لبنان تفرغ للتعليم في المقاصد، وكتب في شتى فروع المعرفة الأدبية والتاريخية والعلمية الإسلامية. وكانت له صولات وجولات في مسائل الهوية وفي نقد الاستشراق. كما أنه أنجز قطيعة مع المناهج الموروثة عن مدارس الارساليات، وعن مدرسة الخصوصية اللبنانية الفكرية والحضارية. وحتى الثمانينات من القرن الماضي ظل بعض كتبه يدرّس في الجامعات العربية.والشخصيتان الأخيرتان: صبحي الصالح، وطه الولي، درسا في الأزهر، في كلية اللغة العربية، لكن الرجلين ما اهتما كثيراً بالاجتهاد الفقهي. أما صبحي الصالح الذي حضّر الدكتوراه في السوربون، فقد درّس في جامعة دمشق، وبغداد، والجامعة اللبنانية. وترك أربعة مؤلفات اكاديمية لا تزال ثلاثة منها في أيدي الطلاب حتى اليوم: دراسات في علوم القرآن، ودراسات في علوم الحديث، ودراسات في فقه اللغة. ولعب دوراً في الحياة الثقافية والفكرية في لبنان من خلال مشاركته في الستينات في الندوة اللبنانية. ومن بين الذين ذكرناهم تميز الشهيد الشيخ الصالح بأنه خطيب بارز بالفعل، وبالعربية والفرنسية.وكان للشيخ طه الولي غرام خاص بالكتابة عن المساجد والجوامع والرحلات. وجل ما نعرفه عن مساجد بيروت مأخوذ من كتبه، إضافة الى اهتمامه مثل الدكتور فروخ بمسائل الهوية الاسلامية، والتاريخ الاسلامي للبنان الذي صنع طه الولي مصطلحه بالاشتراك مع مؤرخ طرابلس والإسلام الدكتور عمر تدمري.لقد أردتُ لمناسبة افتتاح جامع محمد الأمين (صلى الله عليه وسلم) أن ألقي بعض الأضواء على الحياة الدينية والثقافية للمسلمين منذ قيم الكيان, والواقع أن الهم العام والاسلامي منه لدى مسلمي لبنان في القرن العشرين، كان هماً عربياً، وله مصادره في القاهرة ودمشق وفلسطين وبغداد، وليس في بيروت. ولذا وبخلاف الحال لدى المسيحيين اللبنانيين ما نشأت مدرسة في التفكير الاسلامي، بل كان ما ينتج حتى في هذه الناحية صدى لما يكون وينتشر في ديار العروبة والاسلام. ويضاف الى ذلك أن النهوض لكي يتوطن يحتاج الى بيئات مستقرة على مدى متطاول، وهو ما لم يتوافر للبنانيين جميعاً وليس للمسلمين فقط. ثم إن النشاط الفكري الأصيل يحتاج الى تفرغ كامل وتام، وباستثناء الدكتور عمر فروخ ما تفرغ أحد من الذين ذكرناهم للتعليم والتأليف. ومع ذلك، فإن التحديات الكثيرة والقوية التي طرحتها مسألة لبنان ولا تزال، أنتجت في البيئتين المسيحية والاسلامية الشيعية، نتاجاً يستحق الانتباه. والذي أراه اننا وبفعل الواقع والتحديات، مُقبلون على نهوض كبير، وفي المجالات الأربعة: مجال تجديد العلاقات العربية والاسلامية، ومجال التجديد الفقهي والديني، ومجال المبادرة في الحوار الاسلامي - المسيحي، ومجال الأطروحات الثقافية العصرية.
________________________________________
Almultaka Alfikri - http://www.almultaka.net

ما هي الامة وهل هناك امة لبنانية

ما هي الامة وهل هناك امة لبنانية؟
بقلم المؤرخ الكبير جواد بولس
نشرت في: الفصول اللبنانية / العدد 14- 1984

الأمة في المعنى الحديث، هي حصيلة التاريخ… هي التجمع البشري الاكثر تطورا والاكمل تنظيما جتماعيا. انها خاتمة سلسلة طويلة من التحولات التطورية، ذات المراحل المتعاقبة التالية: الأسرة، العشيرة العيلة، القبيلة، المدينة، الشعب والامة. وككل شيء بشري، عرف هذا التطور التاريخي مراحل من التقدم والجمود والانحطاط والتقهقر.
الأمة هي شراكة شعوب مختلفة في دولة معينة، وهذه الشراكة هي متجانسة نوعا ما. هذه الشراكة عن رضى وقبول تحددها ارادة العيش والتعاون المشترك في الصراع من أجل الحياة. العنصر الأساسي الذي يحث على هذا الاتحاد هو حاجة الفرد، في صراعه من أجل البقاء والدفاع عن نفسه، الى التعاون مع هؤلاء المعاصرين له الذين تتسل بهم ظروف حياته.
عناصر أخرى واحداث تسهم في خلق الارادة المشتركة من أجل الحياة. هذه العناصر ليست بالضرورة متشابها كلها، وليست متشابهة أينما كان، لكننا نستطيع ان نعددها على الشكل التالي: الشعور بالانتماء الى بقعة مشتركة: التشابه في الشكل الخارجي، تقارب معنوي، أخلاق، تقاليد، وعادات أجتماعية متشابهة، ووحدة المصالح والمشاعر والثقافة والذكريات التاريخية التي تتجلى تارة بالقرابة الاتنية وطورا باللغة وحينا بالدين. وتبعا للظروف والأمكنة أو للزمان والمكان فأن واحدا أو أكثر من هذه العناصر قد يترجح على سائرها أو ينقص دون ان تتأثر بذلك الوحدة الوطنية.
وحسب تحديد (رينان) الشهير، الذي اصبح تقليديا اليوم، فالأمة هي (روح، أسرة روحية). انها مكونة من عنصر جوهري هو اساسها ولحمتها وسداها. أنه ارادة العيش المشترك المتجلي عند الشعوب التي تتكون منهم، دون اعتبار للدم الذي يجري في عروقهم، والدين الذي يعتنقونه واللغة التي يتكلمون بها والنزاعات التي كانت تفرقهم في الماضي.
الأمة ليست شراكة افراد وحسب، ومجرد جمع للارادات. انها ايضا (مبدأ روحي) يولد المشاعر العليا التي يأتي في رأسها التضامن الاجتماعي أو الشعور الوطني. الأمة، أخيرا، هي (أم روحية)، هي الوطن الذي يوحي بالتضحيات الاكثر نبلا.
الأمة اللبنانية، حقيقة أجتماعية
مما تتقدم نستنتج ان (الأمة اللبنانية) هي حقيقة اجتماعية، مكونة بفعل الجغرافيا والتاريخ وملتحمة بفضل ارادة سكانها. ان هذا البلد اللبناني او هذه البقعة الجغرافية المتفردة التي تحميها الطبيعة تحتضن بالفعل شعوبا متجانسة نسبيا، تعيش وتتعاون طوعا ضمن اطار بلد ودولة مشتركين.
ان احوال البلد الطبيعية أي التضاريس والمناخ والموقع الجغرافي تطبع بسمة مشتركة اخلاق اللبنانيين وعاداتهم ومؤهلاتهم الى اي عرق أو دين انتموا. هذا الطابع الخاص، وليس العرق او الدين، هو الذي يميز الشعب اللبناني عن شعوب البلدان الاخرى المتاخمة او البعيدة. وفضلا عن ارادة العيش المشترك فأن لدى اللبنانيين عناصر توحيد مهمة، ربما لا نجدها الا لدى الشعوب الاكثر تجانسا: القرابة الاتنية، اللغة، الثقافة والنشاط الاقتصادي معا.
البيئة الاتنية اللبنانية
ان اللبنانيين على الرغم من تنوع معتقداتهم الدينية، والى اي مذهب ديني انتموا، هم نوعا ما متقاربون من الناحية الاتنية. اننا لا نعني بالطبع قرابة الدم، التي تفرض تحضرهم من سلف مشترك. فليس بمقدورنا ان نجد قرابة الدم الا في المجموعات الاجتماعية الصغيرة من مثل العشيرة العيلية او القرية، وهي ليست موجودة في الحقيقة، في المجتمعات المركبة.
ونعيد الى الاذهان ان الاعراق والشعوب، هي مزيج مبعثر، مستقر ومبوتق بفعل ظروف السكن الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية. والمظهر الغريب (غير المتجانس) للشعب اللبناني يعود، عامة، الى انتمائه لطوائف دينية مختلفة، وهي تفسر خطأ بأنها تجمعات اتنية متميزة، وليس الى الاصول العرقية المتنوعة.
في الحقيقة، ثمة ميل الى الاعتقاد، ان مختلف المجموعات الطائفية في لبنان متحدرة من مجموعات اتبنية مختلفة. الا انه على العكس من ذلك، يعلمنا التارخ انه، اذا استثنينا بعض المجموعات الاجتماعية المهاجرة التي يصعب اليوم تحديد المتحدرين منها، فأن سكان لبنان الاصليين هم الذين اعتنقوا، في الماضي وخلال عصور مختلفة، ديانات متنوعة، أو انتموا الى مذاهب طائفية متحدرة من هذه الديانات.
طبعا، هناك في لبنان طوائف دينية كالموارنة مثلا والدروز والشيعة وقد جاء العناصر الاولى منهم الى لبنان من سورية ومصر والعراق وبلاد فارس بحثا عن الحرية. لكن نواة هؤلاء الاوائل الذين قدموا تميزوا بقلة عددهم. غير ان خلفاءهم تذايدوا فيما بعد بفضل الاتباع المحليين الذين التحقوا تدريجيا بمجموعاتهم. أما مسلموا لبنان، بأستثناء بعض الاسر التي قدمت من الجزيرة العربية مع الفاتحين، فكل هؤلاء الباقين، اي الجزء الاكبر منهم، من المواطنين الاصليين الذين اعتنقوا ديانة المنتصرين.
هكذا، ومهما قيل، فأن تقسيم اللبنانيين الى مجموعات اتنية متباينة هو تقسيم خاطئ. فالمجموعات الطائفية المختلفة في هذا البلد هي حصيلة مزيج اتني مستقر، مؤلف من قاعدة اصلية، هي هي بالنسبة الى الجميع، طعمت خلال العصور الغابرة، بعناصر من اعراق مختلفة. فهذه العناصر المستوردة، القليلة العدد نسبيا، اندمجت منذ زمن بعيد بمجموعة السكان الاصليين وبوتقتها البيئية.
لا يستطيع احد ان يؤكد ان اي عرق غريب او اي شعب غاز تمكن من ان يسم بنوع خاص بسمته طبائع الشعب اللبناني الاساسية. فمنذ الالف الثالث كان سكان لبنان الحالي، على غرار سكان مناطق غرب الشرق الاوسط الاخرى، منذ ذلك الوقت مزيجا مركبا، وكانت لديهم صفات عامة مشتركة تشبه الى حد بعيد طبائع خلفائهم. فطبائع الشعوب الفينيقية القديمة النفسية والخلقية في خطوطها العريضة هي هي طبائع لبنانيي اليوم. فمأثرة فرد من آل بلطجي الى عهد قريب، ابان انقاذ السفينة (شامبوليون) من الغرق، تنطبق علي التقاليد البحرية القديمة للبحارة الفينيقيين الشجعان والمهرة، سادة البحار القديمة. والفرنسيون، الذين اعتنقوا اللغة الرومانية او اللاتينية اثر الفتح الروماني ولذلك اصبحوا اليوم ينتمون الى الاسرة او العرق اللاتينيين، هم اليوم مزيج معقد لا يشكل العنصر اللاتيني الدخيل اليهم الا جزءا لا يذكر. وهذا هو ايضا شأن العنصر الفرنكي الذي اعطى اسمه للبلد (فرنسا)، والذي كان ذا أهمية عددية ضئيلة.
ان اي مواطن فرنسي يقول (رينان)، لا يعرف اذا كان بورغوندي أو الاني، أو تيفالي أو فيزيغوتي. لا يوجد في فرنسا عشر اسر تستطيع ان تبرهن انها من اصل فرنكي، وحتى ان هذا البرهان قد يكون خاطئا من اساسه نتيجة الف تزاوج من شأنه ان يبلبل كل قواعد علماء الانساب… فمثال ما يسمى خطأ العرق الانغلو ساكسوني ليس في الواقع البروطوني… ولا الانغلوساكسوني …ولا الدانمركي…ولا النورماندي…أنه حصيلة كل هؤلاء.
قليلة هي الاسر اللبنانية او السورية او المصرية او العراقية التي تستطيع ان تؤكد اصلها الغريب الذي يعود الى قرنين او ثلاثة قرون مضت. ففيما عدى بعض الجزر الاتنية التي لم تنصهر تماما بعد (شركس، ارمن…) فاللبنانيون والسوريون والمصريون والعراقيون، هم حصيلة كل الاعراق والشعوب التي انضمت تدريجيا خلال العصور الى جملة الشعوب الاصلية وقد تأقلموا معها في النهاية. واذا بدا ان عرب الجزيرة العربية، الذين جاؤوا مع الاسلام، قد تركوا في الاقطار المجاورة التي احتلوها، آثارا أكثر ديمومة، فهذا يعود الى كون شعوب سورية والعراق ومصر منذ ما قبل الاحتلال العربي، متقاربة نوعا ما مع شعوب الحضارة العربية. فالساميون العرب، معاصروا النبي كانوا بالفعل، من حيث اللغة والثقافة والتنظيم الاجتماعي وحتى من حيث العرق قليلا، اشقاء الساميين الاراميين والكلدان والفينيقيين في الهلال الخصيب وانسباء حاميي وادي النيل.
ففيما حافظت هذه الشعوب المحتلة، وهي تعد حوالي عشرين مليون نسمة، على طوابعها الاساسية الخاصة بكل منها، فأنها اعتنقت تدريجا لغة شقيقة هي العربية، وديانة حامية جديدة تلائم ذهنية هذه الشعوب السامية - الحامية. اما الغزاة القادمون من شبه الجزيرة العربية، والذين استوطنوا البلدان المحتلة، فكان عددهم محدودا مسبيا، وقد ذوبتهم تدريجا كثافة الشعوب الاصلية، كما سبق وامتصت الغزاة الذين سبقوهم طبقا للسنة العامة التي تقول (بأن الخميرة تذوب وتحتفي في العجينة التي خمرتها) “رينان” .
اكثر من اسرة تتدعي اليوم انتمائها الى الفاتحين العرب الا ان هذا الادعاء لا ينطبق على الواقع نظرا للقرون العديدة التي تفصلنا عن الملحمة العربية ونظرا لفعل البيئة المبوتق خلال هذه الفترة الطويلة. ربما كانت هذه الاسر من اصل تركي او كردي او فرنكي او بكل بساطة من السكان الاصليين، بينما نرى ان اسرا اخرى تنفي هذه القرابة قد تكون من الخلفاء الاصليين للعرب. فهذه وتلك، هي في الحقيقة اليوم مستقرة بفعل البيئة اللبنانية ومطبوعة بالطابع اللبناني.
فاللبنانيون، اتنيا، انسباء الى حد ما. فالانقسامات الطائفية لا تمت الى العرق بصلة. وسواء اكانوا من السكان الاصليين او المستوطنين، فأن العناصر التي يتكون منها الشعب اللبناني هي بالاجمال والى حد ما: ارضية متوسطية وسامية تحركها بأستمرار، وعبر العصور، دفعات مهاجرة، استوعبها وتشربها الطابع اللبناني وطبعا بطابعها الخاص، تبعا لسنن الجغرافية البشرية. فالفينيقيون، وهم ساميون اصليون ، طبعوا البلد اللبناني بالطابع السامي الا انهم (تلبننوا) بدورهم فهذا ما حصل مع الاموريين ومن بعدهم العرب انفسهم.
البيئة اللغوية اللبنانية
اذا كانت المشكلة العرقية غير واردة في لبنان، فأنه من الاوضح ان المشكلة اللغوية ليست موجودة اطلاقا. فهذا البلد الذي تكلم خلال العصور القديمة، وخلال ما يزيد عن الفي سنة، اللغة السامية الكنعانية او الفينيقية، رمز تفردهم المبكر، اعتنق فيما بعد اللغة السامية - الارامية او السريانية، كلغة وطنية ومن ثم اللغة السامية - العربية اثر الفتح الاسلامي.
وقد رأينا ان لغة اجنبية او اكثر تكون، الى جانب اللغة الام، للشعوب كما للافراد رأسمالا لا يستهان به. فالبلد اللبناني، وقد اوجدته الطبيعة على مفترق طرق دولية كبيرة منذ اقدم العصور، استعمل لغات اجنبية الى جانب لغته الام، كما تنبئ آثار مدرسة قديمة في جبيل (2300 ق.م.) اذ كان الطلاب يتعلمون اللغة الاكادية او البابلية الى جانب اللغة المحلية: الفينيقية. دلائل اخرى تشير الى ان السكان كانوا يتكلمون ايضا اللغة المصرية وفيما بعد اللغة الارامية او السريانية فاليونانية واللاتينية. واليوم يتكلم اللبنانيون الى جانب اللغة الوطنية، الفرنسية والانكليزية والاسبانية والايطالية فضلا عن التركية والارمنية.
المعضلة الدينية في لبنان
اذا كانت ارض الوطن والاصل الاتني واللغة مشتركة في لبنان، فالدين على العكس ليس هو هو لدى كل اللبنانيين. لكن الدين ليس عنصر توحيد فعالا في السياسة. فالايمان، على غرار الفكر هو احدى الحريات الطبيعية عند الانسان: والايمان متعدد الاشكال ولا يسعه الا ان يكون حصيلة الوجدان الفردي.
ان الدولة اللبنانية الحالية هي ثمرة اتفاق بين مختلف طوائف البلد الدينية. ومهما يكن الاسم المعطى لهذا الاتفاق، فهو يطابق تماما تحديد الامة المعاصرة أو تعريفها. كم من المجموعات المختلفة التي لديها وطن ولغة وثقافة ومصالح مشتركة ترتضي طوعا بأنهاء خلافاتها القديمة والعيش والتعاون معا في اطار الدولة الواحدة. هل من شهادة ابلغ من ارادة العيش المشترك، وهذا التضامن المطلوب الذي هو اساس الامة ولحمتها وسداها.
طبعا لا ننكر ان هذه المجموعات الدينية المخنلفة تصرفت احيانا، في الماضي تصرف الاخوة الالداء. فالنزاعات الدينية والصراعات الداخلية عكرت التقدم التاريخي في هذا البلد القديم، ابان بعض المراحل القاتمة. لكن ينبغي الا يلتبس الامر حول طبيعة النزاعات المسماة طائفية والتي تحرك من حين الى آخر، بعض البيئات في هذا البلد. هذه الخلافات هي بعيدة كل البعد عن ان تكون عوارض مرض حقيقي وعميق، بل على العكس ان هي في عين مراقب موضوعي وعاقل، الا حركات سطحية مصطنعة افتعلها محرضون اختصاصيون ذوو مصلحة. ان هذه الظواهر التي تظهر هنا وهناك والمصطبغة بصبغة دينية، تخفي في الواقع، مصالح خاصة متضاربة. اننا لا ندعي الدفاع عن المعتقدات والممارسات الدينية التي لا مجال للجدل فيها، بل عن المعادلة الطائفية، التي بسبب غياب الاحزاب المنظمة، تؤمن الحرية والعدالة السياسيتين في توازن الطوائف الدينية. ولنقتنع أكثر بما نقول، ما علينا الا ان نلاحظ ان المعضلة الطائفية لا تنبت في معظم الاحيان، الا بمناسبة توزيع الوظائف والاموال العامة، وفي هذه المناسبات لا تكون المعتقدات والممارسات الدينية هي موضوع النزاع. وهذه التسوية بين الطوائف التي تجمع اللبنانيين اليوم ليست بدعة جديدة في تاريخها الطويل. فمواثيق مماثلة جمعت دوما سكان لبنان في الماضي البعيد والقريب على السواء.
فنصوص رأس شمرا، المكتوبة حوالي العام 1400 ق.م. تخبرنا انه منذ تلك العصور البعيدة كانت الشعوب الكنعانية والفينيقية تؤلف تجمعين دينيين كبيرين، يعبد احدهما (بعل) والاخر (أيل)الهي البلد الكبيرين. وكان يشار الى هذين التجمعين بأسم (شعب بعل) و (شعب أيل).
واذا تذكرنا ان الالهة القديمة الكبيرة كان لديها وظائف دينية عدة، وان كل تجمع كان يركز على وظيفة او اخرى، عندئذ تتكون لدينا فكرة عن تنوع المذاهب الدينية في هذا البلد الكنعاني القديم.
وبرغم هذا ففي بلاد كنعان - فينيقيا او لبنان لاحقا ولدت فسيفساء الطوائف المتعددة الالهة، والدول الجماعية الاولى، واتحادات الدول الاولى وجمهوريات العالم الاولى.
وفي الازمنة الحديثة ايضا، نجد انه في منحدرات الجبل اللبناني، ووسط شعوبه المضيافة والمتسامحة، وريثة التقاليد الكنعانية او الفينيقية، وجدت التجمعات المختلفة من حيث الاتنية والدين، المسيحية والمسلمة، خلآل العصور، ملجأ يحميها. وبفضل اتحاد هذه التجمعات الطائفي منها والعفوي اثر (تسوية) سابقة، مشابهة للتسوية الحاضرة اعاد آل فخرالدين وخلفاؤهم بناء لبنان القوي الذي فرض نفسه على الخارج، سيد البلدان المجاورة. فالتسوية الحالية بين الطوائف ليست اذن ظاهرة فريدة ولا عابرة، ولا الامر هدنة موقتة بين متحاربين متعبين، ينوون متابعة الصراع في اول فرصة. فالعناصر المقررة التي ادت الى هذا الاتفاق، ابعد من ان تكون مؤقتة وعابرة، بل على العكس هي دائمة نسبيا. فاليوم، مثل البارحة والغد، والاطماع الخارجية والنزاعات الدولية، وموقع لبنان الجغرافي وطبع سكانه الحر وتعقيد نزاعاتهم المتشابكة، واخيرا الجهود المشتركة والمستمرة، الضرورية لدعم الاستقلال، هذه الامور كلها تفرض دوما على اللبنانيين الوحدة في الحكمة والتسامح.
• المؤرخ الكبير جواد بولس

الأربعاء، 6 مايو 2009

الشيخ حسن الصفار عن الشيخ شمس الدين

شمس الدين ونهجه في الجهاد
الشيخ الدكتور حسن الصفار:



الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين

يحتل مفهوم الجهاد مساحة واسعة من النصوص الدينية، حيث تبلغ الآيات القرآنية التي تناولته بلفظ الجهاد ومشتقاته حوالي 40 آية، أما الأحاديث الواردة حوله فهي تعد بالمئآت.

الجهاد لغة وشرعاً:

الجهاد على وزن فِعال مأخوذ من (الجُهد) -بالضم- وهو المشقة البالغة، و(الجَهد) -بالفتح والضم- الطاقة ومنه قولـه تعالى ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾[1] .

فتحمّل المشقة وبذل الطاقة والجهد في أي مجال يطلق عليه جهادٌ لغةً.

وقد اعتمد الشرع هذا الإطلاق في النصوص الدينية، فجاء في الآيات والأحاديث، استعمال كلمة الجهاد ضمن المعنى اللغوي العام الذي هو بذل الوسع وتحمل المشقة في سبيل شيء ما، خيراً كان أو شراً. فقد جاء في القرآن الكريم استعمال مادة الجهاد بمعنى السعي في الحرام، كقولـه تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾[2] . فأطلق على سعي الوالدين لإضلال الولد وحمله على الشرك: جهاداً وهما يبذلان جهدهما في طريق الحرام والشر.

وفي نصوص عديدة أطلق الشرع عنوان الجهاد على موارد مختلفة من أعمال البر والتوجهات الصالحة، كالروايات الواردة حول جهاد النفس، والذي اعتبره الحديث النبوي المشهور (الجهاد الأكبر). وكذلك ما ورد عن رسول الله من أن « الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللَّه »[3] وما ورد من أن « جهاد المرأة حسن التبعّل »[4] .

وضمن هذا السياق كان اعتبار القتال في سبيل اللَّه، والمشاركة فيه بالمال والنفس جهاداً، لما يمثله من أجلى صور البذل وتحمل المشاق. بحيث تنصرف غالب الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الجهاد إلى هذا اللون منه، وهو القتال والعمل الحربي وما يتعلق به، وإن كان للجهاد مفهوم واسع وشامل، إلا أن هذا المصداق أصبح هو الأبرز والأوضح من مصاديقه، والذي تتبادر إليه الأذهان، ومتى ما أطلق يقصد به وخاصة في اصطلاح الفقهاء.

وحديثنا الآن في هذه الكلمة عن الجهاد بمعناه العام الشامل والذي يعني بذل الجهد والطاقة، وتحمّل العناء والمشقة في سبيل الله، للدفاع عن المبادئ والقيم، ولخدمة مصالح الأمة.

الجهاد فريضة وضرورة:
من يتأمل الواقع الذي تعيشه الأمة، والتحديات التي تواجهها، يدرك الحاجة إلى بذل أقصى الجهود، وإعلان حالة الاستنفار على جميع الجبهات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولوقف تداعيات التخلف والانهيار الذي تعاني منه الأمة منذ زمن بعيد.

إننا نواجه تحديات خطيرة رهيبة تهدد قيمنا وهويتنا، في ظل العولمة المادية الطاغية، كما نواجه عدواً شرساً (الكيان الصهيوني) تدعمه قوى الاستكبار العالمي، يحتل مقدساتنا، ويمارس البغي والعدوان ضد أبناء أمتنا، متفنناً في أساليب البطش والفتك بالأبرياء العزل من أطفال ونساء. على مسمع ومرأى من العالم. والأدهى من ذلك ما نعانيه من تخلف حضاري في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية.

ولسنا بحاجة للاسترسال في تشريح واقعنا المأساوي الأليم، فصورته واضحة، وغصصه يتجرعها الجميع.

فكيف السبيل إلى الخلاص؟ وكيف يمكن وضع حد لهذه المعاناة؟

إن الاستسلام للواقع والرضوخ له وكأنه قدر لا يمكن تغييره أو تجاوزه، موقف خاطئ لا يقبله العقل ولا الشرع، وانتظار الفرج والتغيير من الغيب، مخالف لمنطق القرآن وسنة الله في الحياة يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾[5] .

والسعي والعمل هو وحده طريق النجاة، لكنه يجب أن يكون بمستوى المواجهة، وفي حجم التحدي الخطير، أما العمل والتحرك ضمن الحدود الدنيا، وفي إطار البرامج الاعتيادية لحياتنا بحيث لا تكلفنا صعوبة ولا عناءً.. العمل بهذا المستوى المنخفض لا يحقق أي نتيجة، ولا يردم شيئاً من الهوّة العميقة، والمسافة الشاسعة التي تفصلنا عن ركب الحضارة المتقدم.

إننا بحاجة إلى إعلان النفير العام، لنستنهض كل طاقاتنا، ولنبذل كل ما في وسعنا من جهد وإمكانية، عسى ولعلا أن نفعل شيئاَ لإنقاذ أنفسنا ومستقبلنا، ولحماية ديننا وكرامتنا.

إننا بحاجة إلى روح الجهاد بالمعنى الشامل للجهاد، ليصبح كل واحد منا جندياً مقاتلاً يتحمل المشاق والعناء، ويبذل أقصى طاقته من خلال موقعه، في أي ساحة أو مجال، في ميدان العلم أو العمل، وعلى مستوى الفكر أو الحركة.

وعلماء الدين هم في طليعة من يتحملون مسؤولية الجهاد من أجل الدين والأمة، حيث « أخذ الله على العلماء ألاّ يُقارُّوا على كِظَّةِ ظالم، ولا سغب مظلوم »[6] كما يقول الإمام علي . ولأنهم بجهادهم يحيون روح الجهاد في الأمة، ويشقون أمامها طريق التضحية والعطاء.

لكننا نلحظ أن الكثيرين من علماء الدين قد أصبحوا جزءاً من الحالة العامة السائدة في الأمة، حيث يعيشون ضمن برنامج اعتيادي تقليدي، ويكتفون بأداء أدوار ومهام محدودة، في إطار إقامة بعض الشعائر والمراسيم الدينية، وتبيين شيء من الأحكام والمسائل الفقهية.

وإذا كنا نحترم ونقدر هذه الأعمال التي يؤدونها باعتبارها إحياءً لجزء من شعائر الدين، وحفظاً لمظهر من مظاهر الخير والصلاح في المجتمع، إلا أنها وبكل تأكيد لا ترقى إلى مستوى المسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتق العلماء في هذه الظروف الحساسة، ولا تشكّل ثقلاً في معادلة الصراع مع أعداء الدين والأمة.

وما يبعث الأمل في النفوس، ويحي الثقة والاطمئنان، هو انطلاق عدد من العلماء الرساليين المخلصين، وتصديهم لتحمل مسؤوليات المواجهة والتغيير لواقع الأمة.

والإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله)، والذي فجعت الأمة بفقده هذه الأيام، هو في الطليعة من تلك النخبة المجاهدة الواعية، وقد تركت وفاته أثراً وصدى عظيماً في أوساط الأمة، وشعر الجميع بالفراغ الكبير الذي خلّفه رحيله، ليس على مستوى الساحة اللبنانية فحسب، بل على الصعيد العربي والإسلامي بأجمعه.

وإذا كنا افتقدناه شخصاً، فيجب أن نخلّده مسيرةً ونهجاً.

إنه أنموذج لعالم الدين المجاهد الذي يشتغل بأقصى طاقة وقدرة لديه، ويستنفر كل جهد وإمكانية، ويستثمر كل فرصة وظرف، من أجل خدمة الإسلام والأمة.

ونستعرض بإيجاز بعض معالم نهجه الجهادي.

الجهاد في ميدان العلم:
قد يتعاطى عالم الدين مع الشأن العلمي ضمن الحدود المتداولة المألوفة، فيدرس ويدرّس، ويفتى للناس ويعلمهم الأحكام، ويكتب بعض المؤلفات والأبحاث. كل ذلك في إطار حياة اعتيادية طبيعية، أما العالم المجاهد فهو الذي يشمّر عن ساعديه، ويعلن حالة الطوارئ الدائمة في حياته، ويتعاطى مع الشأن العلمي كميدان جهاد، يبذل فيه كل جهدْ وطاقة، ويتحمل المصاعب والمشاق، في سبيل خدمة الدين والأمة على الصعيد العلمي.

والشيخ شمس الدين مثلٌ رائع معاصر لهذا الصنف من العلماء المجاهدين، فإبداعاته وابتكاراته العلمية تدل على نشاطه الفكري الدائم، ونوعية الأبحاث العلمية التي أنجزها مؤشر على اهتمامه بالتحديات الخطيرة التي يواجهها الإسلام والأمة.

فهناك مسائل وقضايا حساسة يحذر الكثيرون من العلماء من خوضها وتناولها بالبحث والتحقيق، لأنها تستلزم جهداً كبيراً بسبب قلة الطارقين والمتعرضين لها. ولأن نتائج البحث فيها قد تكون مخالفة للسائد والمشهور.

حيث تعاني أوساطنا العلمية الدينية من مشكلة مزدوجة ذات وجهين: الوجه الأول منها: يكمن في التحفّظ على الرأي الجديد المخالف للسائد والمألوف، في مجالات الفكر والفقه والحركة الاجتماعية، لذلك ينطوي الكثير من العلماء على آرائهم حذراً من ردود الفعل في طرحها من أبناء الصنف، وينقل الشيخ المطهري عن السيد البروجردي وكان المرجع الأعلى في عصره للحوزة العلمية في قم، إنّه كان مضطراً لاستخدام التقية في المحيط الداخلي، وأنّ الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم طلب من عدة من الطلبة تعلم اللغات الأجنبية وبعض العلوم كمقدمات، لكي يستطيعوا عرض الإسلام على الطبقات المثقفة الجديدة، وفي البلدان الأجنبية، لكنه تراجع عن هذا الأمر تحت ضغط المعارضين الذين رأوا في عمله بدعة وانحرافاً [7] .

وفي النجف الأشرف اضطر الشيخ محمد حسين النائيني (1273هـ- 1355هـ) وهو مرجع كبير إلى سحب كتابه ‎(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) من الأسواق، والكتاب كان دعوة إلى الأخذ بالشورى وتشكيل المجالس النيابية، ورفضاً للاستبداد.

ومن يقرأ عن معاناة العلماء المصلحين في الحوزة العلمية كتجربة الشيخ محمد رضا المظفر ورفاقه في تأسيس منتدى النشر وأمثالها، يدرك عمق هذه المشكلة، ودورها في إيقاف حركة الإبداع والتطوير.

أمّا الوجه الآخر للمشكلة فيظهر في استخدام أسلوب الإثارة والتحريض عند طرح الآراء الجديدة، لتكون مادة للتعبئة والتحشيد ضد الطرف الآخر، ووسيلة للاستقطاب والجذب. فيكون الطرح مسيّساً فئوياً، يساعد على اندفاع الفئات الأخرى للتمسك بمواقعها والدفاع عن مصالحها.

وبين هذين الوجهين للمشكلة تكون المصلحة العليا للعلم والدين هي الضحية.

وقد وعى الشيخ شمس الدين هذه المشكلة، وتجاوزها إلى حد كبير، بامتلاكه لشجاعة إبداء الرأي، حينما يتحقق لديه بالأدلة الشرعية، مهما كان مخالفاً لما هو سائد أو مشهور في الأوساط العلمية، لكن مع الالتزام بأكبر قدر ممكن من الحكمة في الطرح، حيث يعرض آراءه الاجتهادية ضمن قنوات البحث العلمي من تدريس أو مشاركة في منتدى، أو من خلال كتاب تخصّصي، كما يؤصل طروحاته بالبرهنة والاستدلال، وفق آليات المنهج العلمي المقبول. ويناقش الرأي الآخر السائد والمشهور بهدوء واحترام، ولا يتعمّد التسويق لآرائه في الوسط الجماهيري بتعبئة وتحشيد.

ونسوق هنا مثلاً على ذلك رأيه حول ولاية الأمة على نفسها، والذي يخالف فيه من يرون أن لا شرعية لأي شكل من أشكال الحكم والسلطة في عصر غيبة الإمام المعصوم، كما يخالف فيه القائلين بولاية الفقيه المطلقة، إنّه يطرح رأيه في المسألة مع الأدلة والبراهين التي قادته إليه، لكن دون أن يؤثر ذلك على علاقته واحترامه لأصحاب الرأيين الآخرين، ودون أن يوظّف رأيه في صراع مع هذا الطرف أو ذاك.

ونلحظ الشجاعة العلمية الفائقة عند الشيخ شمس الدين في ما ذهب إليه وانفرد به من جواز تولي المرأة للسلطة ورئاسة الدولة، مع اتفاق من تعرض للموضوع من علماء السنة والشيعة على المنع من ذلك، ولكنه يناقش الرأي المخالف المجمع عليه بموضوعية وهدوء، فيورد كل الأدلة التي ذكروها، أو التي يُحتمل أن يستدلوا بها، مشيراً إلى ثغراتها ونقاط ضعفها، وبالتالي عجزها عن البرهنة على المنع. ويحتمل تأثر الفقهاء في موقفهم هذا بالخلفية الكلامية السائدة عندهم حول الإمامة والخلافة. وقد أفرد لهذا البحث كتاباً مستقلاً طبع تحت عنوان (أهلية المرأة لتولي السلطة).

وكذلك رأيه حول مشروعية تولي الأكفاء المخلصين من غير المسلمين من حاملي جنسية الدولة الإسلامية ومواطنيها مناصب قيادية تنفيذية، مخالفاً بذلك الرأي الفقهي المشهور عند الشيعة، وقد أفرد له فصلاً في كتابه (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) تحت عنوان: (الخيار بين الكفاءة المهنية والإخلاص الديني).

ومن روائع بحوثه وابتكاراته العلمية الفقهية كتابه حول الجهاد (جهاد الأمة) والذي قرّر فيه إنكار مشروعية الجهاد الابتدائي، وهو القتال المبتدأ من المسلمين لأجل الدعوة إلى الإسلام بإدخال الكفار فيه وحملهم على اعتناقه، أو إخضاعهم لسلطان الإسلام بأداء الجزية إن كانوا من أهل الكتاب، وإنّما سمي ابتدائياً لأنه يتم بدون عدوان مسبق من الكفار على المسلمين.

ورغم اتفاق الفقهاء سنة وشيعة على انقسام الجهاد إلى قسمين: ابتدائي ودفاعي، إلاّ أنّ الشيخ شمس الدين ينكر هذا الانقسام ويرى أنّ الجهاد المشروع في الإسلام واحد هو الجهاد الدفاعي، وأن لا مشروعية للجهاد الابتدائي.

ويناقش كل الأدلة التي اعتمدها الفقهاء في رأيهم من آيات وروايات وسيرة وإجماع مناقشة علمية مستوعبة، بمنهجية رائعة شيقة.

في ساحة العمل السياسي:
لم يتزعم الشيخ شمس الدين تنظيماً سياسياً، ولا قاد ثورة جماهيرية، ولم يدخل ضمن تشكيلة حكومية، لكن حضوره السياسي كان بارزاً ملفتاً في أكثر من ساحة عربية وإسلامية، خصوصاً في هذا العقد الأخير.

لقد أصبح مرجعية دينية سياسية ينظر لها بإكبار واحترام، فهو صاحب رؤية سياسية، ذات عمق فقهي ديني، إنه يستشرف الأحداث، ويواكب تطوراتها، فيكتشف الإشكاليات مبكراً، ويحذر من المؤامرات والأخطاء قبل وقوعها، ثم يجتهد كثيراً في وضع المعالجات وتقديم الحلول، بنظرة واقعية، مؤصلة من الناحية الشرعية.

إن الموقف الصلب والثابت من الكيان الصهيوني الغاصب، يعتبر محوراً رئيساً في تفكيره وحركته السياسية، فوجود هذا الكيان العدواني في قلب الأمة العربية والإسلامية، يعتبره الشيخ أكبر تحد للأمة في هذا العصر، والاستجابة لهذا التحدي تعني تعبئة طاقات الأمة للمقاومة، لذلك تبنى الشيخ مشروع المقاومة المدنية الشاملة، فمواجهة إسرائيل لا تقتصر على العمل الحربي، ولا تنحصر في القوى العسكرية، بل هي مسؤولية كل الأمة بكل قطاعاتها وجوانب حياتها.

ولذلك يجب أن تجمّد الأمة كل خلافاتها الجانبية، وصراعاتها الداخلية، لتتفرغ لإدارة معركتها الأساسية ضد الصهاينة الغزاة المعتدين.

وعلى الصعيد اللبناني ومع ضغط القوى الطائفية المتصارعة، واشتداد محنة الحرب الأهلية السيئة الذكر، التي عاشها لبنان طيلة خمسة عشر عاماً، إلا أن الشيخ شمس الدين ناء بنفسه عن الانغماس في أوحالها، أو التلوث بأوساخها، وبقي أباً وراعياً لجميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، ومن مختلف الفرقاء والفئات، يدعوهم إلى ضبط انفعالاتهم وعواطفهم، وأن يتخاطبوا بالمنطق والحوار، لا بالسلاح والعنف. وحينما استعاد لبنان عافيته بعد اتفاقية الطائف، واصل الشيخ نشاطه في حماية السلم الأهلي، وتكريس صيغة التعايش المشترك على أساس أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.

وكتاباته وخطبه ومقابلاته الإعلامية وتصريحاته السياسية، ستبقى خير كنز وذخيرة للبنانيين، تعينهم على حماية تجربتهم المتميزة، وتساعدهم على مواجهة الأخطار والتحديات.

المشكل الطائفي:

ولعل من أهم المواقف والأدوار السياسية التي قام بها الإمام شمس الدين، دوره في معالجة المشاكل الطائفية التي تعاني منها العديد من المجتمعات الإسلامية، وكان ينطلق في حركته من المبادئ التالية:
1- إن تعدد المذاهب وانقسام المسلمين إلى سنة وشيعة ليس أمراً جديداً بل قد حصل منذ العهود الأولى في تاريخ الأمة، وهذا التعدد المذهبي لا يصح أن يشرخ وحدة الأمة، أو يشق صفها، بل يجب أن تبقى أمة واحدة كما أمر الله تعالى ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾. خاصة مع التحديات الكبيرة التي تواجهها والأخطار الشديدة المحدقة بها.

2- والتمايز المذهبي لا ينبغي أن يترتب عليه أي تمايز أو تمييز في نظام المواطنة من حيث الحقوق أو الواجبات.

3- والأقليات المذهبية سنية أو شيعية يجب أن تبقى جزءاً من محيطها، وأن يكون ولاؤها السياسي لوطنها ومجتمعها.

4- كما تحتاج الاقليات إلى المبادرة والسعي لإزالة أي لبس أو سوء فهم يحصل حول واقعها وأوضاعها، وأن تقدم عن نفسها الصورة الصحيحة الواضحة، فلا تترك المجال للمغرضين والأعداء الذين يصطادون في الماء العكر، ويصطنعون الفتن والمشاكل.

5- كذلك فإن على الأكثرية أن تعترف للأقليات بخصوصياتها المذهبية، وأن تمنحها الشعور بالأمن والاطمئنان حتى لا تستجيب لأي تحريض داخلي أو خارجي، ولا تفكر في الإستقواء بأي جهة خارج محيطها.

6- والانفتاح والحوار هو السبيل لتجاوز حالات الاحتقان، واحتواء أي مشكلة أو تشنج طائفي مذهبي. ذلك أن التباعد والقطيعة تفسح المجال لسوء الظنون، والإشاعات المغرضة، وتقيم الحواجز بين النفوس.

وانطلاقاً من هذه المبادئ قام بمبادرات عديدة، في الانفتاح على الحكومات، واللقاء مع الزعامات الدينية والسياسية، في العالم العربي والإسلامي، وسارع لاحتواء بعض الأزمات ذات الصبغة المذهبية، كما حدث في مصر حيث أُعتقل مجموعة من الأشخاص المتشيعين، ورافق ذلك ضجة إعلامية، تعزف على الوتر الطائفي، فقام (رحمه الله) بحركة سريعة للالتفاف على هذه المحاولات، وتواصل مع القيادة السياسية والدينية في مصر، وترتب له برنامج لزيارة القاهرة، حيث تحدث مع المسؤولين لمعالجة الموقف بحكمة ونضج، وحقق بذلك نجاحاً باهراً يسرّ قلب كل مسلم غيور على وحدة الأمة، مهتم بمصلحة الإسلام والمسلمين.

وضمن هذا السياق كانت له زيارات متكررة لدول الخليج، كما بذل مجهوداً فكرياً وإعلامياً ضخماً، لتوعية جماهير الأمة من السنة والشيعة بأضرار الفتن الطائفية، وضرورة الالتزام بمبادئ الدين وتعاليمه في أخلاقيات التعامل داخل المجتمع الإسلامي، لحماية وحدة المجتمع، وضمان أمنه واستقراره، وحماية مستقبله ومصالحه.

وأهم ما يميز طروحات الشيخ شمس الدين ومواقفه السياسية، تأصيله لها من الناحية الشرعية الفقهية، فهو لا يطرحها انطلاقاً من تكتيك سياسي، أو مصلحة مرحلية، بل يستنبطها من نصوص الكتاب والسنة، وضمن مناهج الاستدلال العلمي وحسب ضوابطه، ويطالب الفقهاء المسلمين بإمعان النظر في استنباط الأحكام الشرعية المرتبطة بالمواقف السياسية، حتى لا تكون متأثرة بأجواء انفعالية، أو آراء متوارثة من عهود التخلف والصراعات التاريخية. يقول (رحمه الله): (والتمس من ساداتي وأخواني العلماء، ومن المشتغلين بعلم الحديث، ومن المفكرين، أن يعيدوا النظر في النصوص التاريخية والتشريعية، الواردة في المسألة السياسية، ليروا كما رأيت وأرجو أن أكون قد أصبت..)[8] .

هكذا كان نهجه في الجهاد والحركة السياسية، والذي يجب أن يتحول إلى مدرسة في الرؤية والتحليل، وتأصيل المواقف حسب فقه الشريعة المقدسة.

وكان (رحمه الله) حركة دائبة، لجمع الشمل، ورأب الصدع، ورغم اصابته بالمرض الخطير في الاشهر الاخيرة من حياته، الا انه كان يرهق نفسه بالاتصال والتواصل، والاستقبالات وعقد القاءات، مخالفاً نصائح الاطباء، حتى اليوم الاخير، حيث دخل في غيبوبة نقلته الى الرفيق الاعلى.

رحم الله الشيخ الفقيد، وجزاه خير الجزاء على جهوده وأتعابه، ووفق الأمة للاستفادة من تجربته الثرية الناضجة والحمد لله رب العالمين

حسن نصرالله عن محمد مهدي شمس الدين-

كلمة سماحة حجة الاسلام والمسلمين المجاهد السيّد حسن نصر الله أمين عام حزب الله في ذكرى أربعين الإمام محمّد مهدي شمس الدين-شباط 2001)



بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد ونبينا ابي القاسم محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين وصحبه الآخيار المنتجبين.

أيها السادة السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته…

لن يتمكن أيُ منا في هذا الحفل أن يحيط بشخصية الراحل الكبير المتعددة الأبعاد في الوقت المتاح للحديث مهما إختصر وأجمل. فهو الفقيه المجتهد الذي طرق أبواب المسائل الحرجة وأكد على قيمة عاملي الزمان والمكان في عملية الاجتهاد الفقهي فكان الفقيه الذي تصدى لقضايا العصر المتعددة ومسائله الشائكة، محددا فيها موقف الاسلام ومستندا في رأيه الآجتهادي إلى مجموعة من المباني العلمية المحكمة والعميقة. معه تستضر كل السلف الصالح من العلماء والفقهاء، ولكنّك تبقى في عصرك فترى الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل. وهو المفكّر المبدع، يعالج كل إشكاليات الفكر المطروحة حديثا بالدليل والمنطق، مدافعا عن الاسلام كرسالة الهية أبدية خالدة أمام التيارات الفكرية التي أرادت أن تضع الاسلام في متاحف التاريخ وتعزله عن حياة الناس. وهو الذي عمل على تأصيل الكثير من النظريات من موقع التزامه الفكري والقائدي وخاصة في مجالات الاجتماع والسياسة. هو المحقق التاريخي الذي قدم أعمق تحليل إجتماعي سياسي لثورة الامام الحسين عليه السلام في كربلاء وقدمها بلغة معاصرة وأسلوب رائع حتى بات كتابه عن ثورة الامام الحسين أحد أهم المؤلفات على الاطلاق في هذا المجال، فأدخل الصورة في ظروفها وأهدافها الى العقل والوعي والتخطيط كما كانت حاضرة بقوة في الوجدان والعاطفة. هو الخطيب والمحاضر الذي يملك ناصية الفكر وناصية الكلمة، فيسكب فكره في قوالب الكلمات بعناية فائقة وينحت العبارة نحتاً فلا تدري أيهما أعذب وأطرب وأشدّ جاذبية، الكلمة أم المعنى، حتى موسيقى الصوت يحكمها ولا تحكمة، كلّ رنةٍ ونغمةٍ لها حساب دقيق في الزمان والمكان وطبيعة الحضور ومضمون الكلام. هو القائد السياسي الثائر والهادئ في آن، عاش هموم الوطن والأمّة وحمل قضيته الى كل المحافل والمنابر. لم يقف عند حدود الاوطان فضلاً عن حدود الطوائف وكانت الأمة كلها شغله الشاغل. قد تختلف معه ، ولكنك لا تستطيع الا أن تحترم منطقه وموقفه وانسجام رؤيته. كان يعرف تماما أهدافه ومشروعه وماذا يريد، يدرس خطواته بتأنٍ ويحاكمها بين الحين والاخر يقلب فيها البصر كرتين أو أكثر ولا يتردد أن يقول لك هنا أصبت في الموقف ، وهنا أخطأت التقدير، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما قلت كذا ولما فعلت كذا. أو أن يقول لك إني ما زلت أتأمل في هذه المسألة وأجول فيها ولم أصل بعد إلى قرار تطمئنّ له نفسي. في كل شأن من شؤون الوطن والأمّة له رأي ووجهة نظر، وهو الذي يملك كل الشجاعة اللازمة ليجاهر بما يؤمن به، وإن إختلف معه الاخرون في ذلك. موقفه من المقاومة وفلسطين والقدس والمشروع الصهيوني والصراع مع إسرائيل وأصل وجود هذا الكيان الغاصب، كان في الدرجة الأولى موقفاً عقائدياً دينيّا فقهيا قبل أن يكون موقفاً سياسيّاً، ولذلك لم تكن المسألة هنا قابلة للمساومة أو التردد على الإطلاق.

قاوم ونظر لمنطق المقاومة، في الفقه والفكر والسياسة، ورأى في مجاهديها وشهدائها تعبير الارادة والعزم والتصميم. كان يتوقع انتصارها، أكثر وأقرب ممّا كنا نتوقعه نحن. كان يتوقع انتصارها وينتظره بلهفة ، وقدّر الله له أن يعيش سعادة النصر الالهي الكبير على الصهاينة في لبنان بعد كل تلك الآلام التي عاشها وعايشها طوال هذا الصراع الدامي.

لاشكّ أنّه حقق العديد من آماله وأحلامه ولكن لا شكّ أيضا أنّه غادرنا وفي قلبه حسرات، فالعديد من الآمال لا زال بحاجة إلى جهد كبير، وبعضها لا يزال في دائرة المجهول، وأهمها قضية أخيه ورفيق دربه سماخة الامام القائد المغيّب السيّد موسى الصدر ورفيقيه أعادهم الله علينا بخير.

لقد أوصانا بالوحدة والتعاون والتكامل، وسنفي له بذلك إنشاء الله، وسيكتشف بعض المراهنين أنهم مخطِئون تماماً.

أوصانا بالانتفاضة المباركة التي رأى فيها على حدّ تعبيره باب خير كبير للأمة، أوصانا أن لا نخذلها، وأن لا نتركها وحيدة. وسنفعل إنشاء الله.

أوصانا أن نكون على مستوى التحدّي والمواجهة وسنكون كذلك إنشاء الله.

ونقول له في وداعه الأليم، يا شيخنا وكبيرنا وحكيمنا، فليطمئنّ قلبك، وليهدأ خاطرك، ولتسكن نفسك، فأنما عاهدناك عهد المؤمنين الرجال على حفظ وحدتنا الوطنية ووحدتنا الاسلامية وصفاء بيتنا الداخلي وصيانة الانتصار ودعم الانتفاضة وتقديم الصورة المشرقة عن الاسلام الذي ننتمي إليه في زمن التشوية والتشوّه وأننا نع كل أحبائك سنحفظ الوصية ونصون الأمانة وأنّك ستبقى فينا الكبير والعلم والمنارة والدليل ومفخرة الدنيا.



رحم الله فقيدنا الجليل، وجزاه عنا خير جزاء العلماء الربانيين العاملين المجاهين المضحين وألهم أله وكلّ أحبّائه الصبر والسلوان ، ووفقنا جميعا لمواصلة دربه ومسيرته وحفظ وصيته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.