الأربعاء، 30 يونيو 2010

الإسلاميون والديمقراطية

سعود المولى
من نافلة القول ان الهيئات الاسلامية المعاصرة ، على اختلاف أنواعها وألوانها (مؤسسات دينية رسمية وأهلية ، أحزاب وجماعات وحركات سياسية، طرق وجمعيات ومشاريع خيرية ودعوية وتبليغية ) لا تقيم أدنى وزن أو اعتبار في وعيها وسلوكها لما يمكن نعته بالديمقراطية . أكان ذلك في طريقة تشكيلها وتكوين نفسها أم في وسيلة وكيفية إدارة شؤونها الداخلية وعلاقاتها الخارجية . وهي تستوي في ذلك مع مثيلاتها من الأنواع والاصناف والمسميات الماركسية واليسارية والقومية من حيث إمتناع المراقبة والمساءلة والمحاسبة والشورى وتداول السلطة وانتقالها وغياب حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف واحترام الآخر.. وتبدو السمة العامة الغالبة والمشهورة ( ولا عبرة باستثناءات أو مظاهر ذات طابع إعلامي فولكلوري) في فكر وممارسة الهيئات والحركات السياسية العربية (هي) سمة الادارة المركزية والقيادة الآمرة والقاعدة المنضبطة المطيعة مما أعطى صورة سلبية واقعية عن الحزبية والعمل الحزبي في بلادنا..
وليس هنا مجال استعراض الظروف التاريخية والسياقات الاجتماعية والفكرية والثقافية التي ساهمت في تحوّل المذاهب والفرق الكلامية والفقهية الى أحزاب ايديولوجية حملتها كتل اجتماعية ذات ديناميات عصبوية لا علاقة لها بالكلام او الفقه او الاجتهاد العقلي . فالتشيّع كما التصوّف كما السلفية تحوّلت الى عصبية حزبيات عائلية طائفية متشكلة في أحزاب وقوى تشهد تكتلات داخلية وانشقاقات وشرذمات وصراعات دموية غايتها السلطة والنفوذ. ولا يختلف الحزبيون الاسلاميون عن البعثيين أو القوميين السوريين أو الماركسيين في تقولبهم ضمن أشكال من النمطية الجامدة المنغلقة التي لا تتسع للحياة في المجتمع الواسع أو الوطن المتنوع الانتماءات أو الأمة المتعددة الشعوب والأعراق والأقاليم..

انغلق الاسلاميون (كما أسلافهم) في مجتمعهم الخاص (الجماعة او الحزب او الطريقة) وبنوا وطنهم الخاص وامتهم الخاصة وانتجوا فتاويهم وأنظمتهم وقوانينهم الخاصة مكررين التجربة الحزبية القومية والماركسية من حيث بناء التنظيم النخبوي، ومن حيث الشعار والممارسة السياسية، ومن حيث استهداف الامساك بسلطة الدولة، وخصوصاً من حيث تركيز القوة في رأس الهرم الحزبي- السلطوي- الدولتي بدل نشر القوة في المجتمع. ولم يعدم الاسلاميون نصوصاً دينية تبرر التسلط والاستبداد والمركزية وعبادة الشخصية وتحنيط الحزب ، ومن تعابير ومصطلحات تفيد معنى الأمر والقيادة المركزية والطاعة الالزامية..
وعليه فانه لا يستقيم بحثنا عن أسباب تعثّّر فكرة وممارسة الديمقراطية في نطاق الهيئات الاسلامية ما لم نبحث عن معنى الشرعية السياسية ، ومصادرها ، وضوابطها في الشريعة الاسلامية. فاذا كانت الشرعية السياسية تعني مدى قبول الناس لنظام سياسي معين ، فهل الامة هي مصدر السلطات وصاحبة السلطان الحقيقي؟ وكيف تمارس هذه السلطة ؟ واذا كان الانتخاب أي احترام رأي الشعب هو مصدر الشرعية في النظام الليبرالي ، واحترام الدستور هو أهم ضوابط الشرعية فيه ، فما الذي يُقابل ذلك عند المسلمين مما يمكن ان يكون قابلاً للتطبيق في زماننا ؟ وما تأثير ذلك على فهم الاسلاميين لمسألة من هو صاحب السلطة والقرار في الدولة والحزب والمجتمع ؟ أي من هو ” ولي الأمر“ ( او الأمير) وما هي مواصفاته وما هي ضوابطه؟ وهل ما نصت عليه كتب الفقه نهائي ام مؤقت خاضع لظروف الزمان والمكان ؟ من يملك صلاحية تعيين او اختيار ولي الامر ، ومن يملك صلاحية مراقبته ومساءلته وعزله عند الضرورة ؟ ما مدى شرعية الغلبة والوراثة ؟ ومن هم أهل الحل والعقد ؟ وهل للمصطلح أساس في الشرع؟ ومن يعيّنهم او يختارهم ؟ وما هي صلاحياتهم ومن يقررها ؟ وما هي آليات مقاومة الاستبداد ؟ وهل صحيح أن الشورى هي الديمقراطية وأن هل الحل والعقد هم البرلمان وحكم الشعب؟

فائض التدين والتراجع الأخلاقي

بقلم‏:‏ د‏.‏ حنا جريس - القاهرة



حديثي هذا ليس حديثا في التدين من حيث كونه فعلا دينيا وإنما هو حديث عن التدين من حيث كونه مظهرا اجتماعيا‏..‏ فهناك اتفاق عام بأن فعل التدين إن كان خالصا لوجه الله فهو بالضرورة فعل حسن ينعكس إيجابيا على أخلاق الفرد والمجتمع.
غير أن ما نعانيه الآن في مجتمعاتنا العربية وعلى الأخص في المجتمع المصري هو هذا التناقض الصارخ بين فعل التدين من جهة ومردوده الأخلاقي على المجتمع من جهة أخرى‏.‏ فبينما يرتفع معدل التدين ليصل في المجتمع المصري إلى مائة بالمائة طبقا لما جاء في أحد استطلاعات الرأي‏،‏ يلاحظ الجميع أن الأخلاق الفردية والعامة تتراجع على نحو مخيف‏،‏ ويكفي أن تطالع بعض صفحات الحوادث في الصحف اليومية حتى تدرك أن معدل تدهور الأخلاق العامة وازدياد معدلات الفساد قد وصل إلى مستويات خطيرة‏.‏
هذا التناقض أثار من جديد السؤال القديم‏،‏ كيف أمكن أن يتدهور المجتمع المتدين على كل المستويات المادية والمعنوية‏،‏ وأصبح يعاني من الهزائم في الوقت الذي يتقدم فيه المجتمع غير المتدين وينتقل من انتصار إلى انتصار ويمارس السطوة والهيمنة وإدارة أحوال العالم‏.‏؟
وهو سؤال قديم قدم تاريخنا الحديث‏،‏ وقد تصدى له وحاول الإجابة عليه ثلاثة من شيوخنا الأفاضل من رواد النهضة المصرية الحديثة.. وعندي أن اول من طرح السؤال كان الشيخ عبد الرحمن الجبرتي‏،‏ الذي بالرغم من مقته الشديد للمحتل الفرنسي‏،‏ تتناثر في حولياته المقارنات بين ما يقدمه المحتل الذي لا دين له من تصرفات أخلاقية حميدة في مواجهة ما كان يصدر من حكام مصر السابقين الذين يدّعون الدين ويغالون في التدين‏،‏ ولعل ابرز الأمثلة التي ساقها كانت في تعليقاته الكثيرة على محاكمة سليمان الحلبي والتي رأى فيها مع آخرين من عصره أن قيمة العدل مصونة لدى هؤلاء أكثر بكثير مما رأوه في مجتمعاتهم‏.(الحلبي هو قاتل قائد الحملة الفرنسية).
ثم جاءت مقاربة الشيخ رفاعة الطهطاوي لنفس السؤال‏،‏ التي حاول فيها قراءة الآخر عن قرب ومقارنته بما نحن عليه‏،‏ وهو في هذا السياق ينكر أن للدين علاقة بالرفعة أو الانحطاط فمسيحيو الغرب استطاعوا التقدم في المعايير الأخلاقية وهو ما لم يحدث للأقباط في مصر‏.‏
ثم يأتي الإمام محمد عبده الذي يعلن أنه وجد في أوروبا مسلمين بغير إسلام بينما وجد في الشرق مسلمين بغير إسلام‏،‏ وآية ما يطرحه الإمام أن الغرب غير المتدين تقدم فيه النسق الأخلاقي ليقارب لب الدعوة الإيمانية بينما الشرق يملك الدعوة الدينية ولا يستطيع أن يتمثلها نسقا أخلاقيا‏.‏
ويبدو أن القضية كانت مثار اهتمام المثقفين المصريين علي مدي أعوام القرن العشرين‏،‏ ففي أوله قدم لنا فتحي زغلول ترجمة لكتابي جوستاف لوبون "سر تطور الأمم‏"،‏ و"سر تقدم الأنجليز الساكسونين"،‏ ليتبعهم كتاب "حاضر المصريين أو سر تأخرهم" لمؤلفه محمد عمر‏.‏ والمطالع لكل هذه الكتابات يلاحظ أنها امتداد لنفس التساؤل الذي طرحه الجبرتي‏،‏ كيف يكون لدينا هذا الرصيد الروحي الضخم في الوقت الذي نفتقد فيه المعايير الأخلاقية السليمة التي تدفعنا نحو التقدم‏.‏
وليس من شك انه كانت هناك محاولات جادة للخروج من هذا المأزق المركب‏،‏ الذي فيه ينبغي الاعتراف بتردي واقعنا الأخلاقي دون الدخول في عقدة النقص والضآلة وفي الوقت ذاته نتمكن من استلهام المعين الروحي والحضاري للتقدم للأمام وتحسين نسقنا الأخلاقي‏.‏
وعندي أن أهم هذه المحاولات كانت محاولة الإمام محمد عبده الذي حاول الإصلاح الديني كما حاول إصلاح مفهوم التدين‏،‏ غير أن مشروع الامام تحول على يد الشيخ حسن البنا إلى الدعوة إلى إصلاح المجتمع بالمزيد من التدين‏،‏ ثم تحول على يد الجماعات الراديكالية إلى إجبار المجتمع على شكل ومظهر محدد من التدين‏،‏ ثم انتهى عهد السلفية إلى إغراق الفرد والمجتمع في تفاصيل التفاصيل القادمة من دهاليز التاريخ والتراث ليدخل الجميع في مسابقة لا تنتهي من التظاهر الديني على حساب الالتزام الأخلاقي‏.‏
والمفارقة أن مسار الأقباط لم يختلف قيد أنملة عن المسار العام‏،‏ ففي نفس فترة الإمام محمد عبده أو قبلها بقليل كانت هناك الدعوة الإصلاحية والتي كان يقودها الحداثيون من الأقباط‏،‏ تلك الدعوة التي تحولت على يد حركة مدارس الأحد في ثلاثينيات القرن العشرين إلى دعوة للتدين التقليدي وتكثيفه‏،‏ ثم انتهت في نهايات القرن العشرين إلى الاستغراق في التدين الظاهري المغلف بتفاصيل تاريخية وتراثية لا تنتهي‏،‏ وأيضا على حساب الالتزام الأخلاقي‏.‏
وهكذا تحول الدين إلى تدين وتحول التدين إلى فائض من التدين يتم استثماره في الحصول على المكاسب المادية وتثبيت المكانة الاجتماعية‏.‏ وهو في تقديري استخدام لا أخلاقي للدين بغرض الحصول على الدنيا‏.‏