جاد تابت
عادت مجلة «الطريق» إلى الصدور بعد توقف دام ثماني سنوات. يبدأ عدد المجلة في عامها السبعين بافتتاحية الأستاذ محمد دكروب، التي ذكّرت بالعدد الأخير الذي صدر عام 2003، معلنة ان «قدراً غاشماً شاء ان يطول زمن عودة المجلة... إلى ان وصلنا إلى زمن صار فيه بالامكان ان تستأنف هذه المجلة مسيرتها في شق الطريق إلى المستقبل». لا بد في البداية من ان يهنئ قراء «الطريق» أنفسهم بصدور المجلة من جديد. لكن من حق هؤلاء أيضاً ان يتساءلوا لماذا توقفت المجلة عن الصدور هذه الفترة الطويلة، ولماذا عادت اليوم؟ افتتاحية العدد الجديد لا تجيب عن هذين السؤالين. كما انها تُبقي أسباب غياب المجلة محاطة بغموض ضبابي، مؤكدة ان الأسباب المالية التي كانت تُعطى لتفسير «سر» الغياب، لم تكن سوى «تهرّب»، ثم تبشرنا «بخبر سار» جاء «في شكل قرار» سمح للمجلة بأن تستأنف صدورها. من الواضح ان الافتتاحية لا تقدم سوى جواب تبسيطي وغير مقنع. فكي نفهم لماذا توقفت الجلة عن الصدور خلال ثمانية أعوام، لا بد لنا من استعادة المراحل التي مرت بها «الطريق» والدور الذي لعبته في الحياة الفكرية والثقافية في لبنان والعالم العربي. عام 1941 أسس انطون تابت مجلة «الطريق» كرسالة ثقافية تصدرها «عصبة مكافحة الفاشستية في سورية ولبنان»، وضمت هيئة التحرير إضافة إلى تابت نخبة من الأدباء والمثقفين كان من بينهم عمر فاخوري ويوسف ابراهيم يزبك ورئيف خوري وقدري قلعجي... منذ تأسيسها، ربطت المجلة بين النضال التحرري للشعوب العربية من أجل الاستقلال والتقدم الاجتماعي من جهة، والكفاح الفكري ضد الفاشستية والنازية بوصفهما «أخبث أشكال السيطرة الاستعمارية»، من جهة ثانية. فقدمت نفسها «كلسان الأحرار في هذا البلد وصدى الحرية في العالم». وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمة النازية والفاشستية، استمرت «الطريق» في نهجها المنفتح على أسئلة النهضة العربية وأفكار التنوير واليسار والتجديد، وواكبت صعود حركة التحرر العربية خلال الخمسينات، والنضال ضد الأحلاف العسكرية ونشوء حركة عدم الانحياز. وإذا كانت المجلة قد واكبت مسار الحزب الشيوعي اللبناني والاتجاهات الماركسية في العالم العربي، إلا انها حافظت دوماً على هامش من الاستقلالية سمح لها بأن تكون منبراً ثقافياً يتميز بالتعددية والتنوع، بحيث صارت، مثلما قدمت نفسها، في العدد الخاص بالذكرى الأربعين لتأسيسها «مجلات عدة في مجلة واحدة». وعلى الرغم من تأكيدها على هويتها الفكرية الواضحة، فإن خطاب المجلة وخطها تعرضا لمراجعات نقدية عدة فرضتها التحولات السياسية التي عصفت بالمنطقة، من هزيمة حزيران وانهيار الناصرية، إلى بروز المقاومة الفلسطينية واندلاع الحرب اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وانطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية. عبر مواكبتها لهذه التحولات استطاعت «الطريق» ان تحافظ حتى بداية التسعينات، على موقعها كمجلة تقدمية تنطلق من التزامها الفكري والأيديولوجي الواضح بأن تكون منبراً حوارياً في كافة ميادين الفكر والثقافة. غير ان نهاية الحرب اللبنانية ترافق مع تحولات أساسية زعزعت القواعد الفكرية التي كانت ترتكز إليها المجلة. فانهيار النظام السوفياتي كشف طابعه السلطوي وعجزه عن تحقيق الشعارات التي آمن بها ملايين المناضلين في العالم، وبذلوا في سبيلها أغلى التضحيات. وقد ترافق هذا الانهيار مع تراجع الأفكار الاشتراكية والتحررية وسيطرة الخطاب النيوليبرالي وتأليه السوق الحرة في كافة أنحاء العالم، من أميركا جورج بوش إلى صين ما بعد ماو. أما على الصعيد العربي، فقد أدى فشل التيارات القومية إلى إقامة أنظمة استبدادية أخضعت الشعوب العربية لأبشع أنواع القمع وكادت تُخرجها من التاريخ. وكانت إحدى نتائج عجز اليسار العربي عن الاستجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة هي صعود التيارات الدينية الأصولية التي تقدم حلولاً سحرية كبديل عن واقع اليم تتخبط فيه الجماهير العربية في ظل قمع الأنظمة العسكرية والعدوانية الصهيونية المتمادية، إضافة إلى نهب ثروات المنطقة من قبل الشركات العالمية. أمام هذه التحولات العاصفة، كان لا بد من ان تقوم «الطريق» بمراجعة نقدية جذرية لتوجهاتها الأساسية على الصعيدين الفكري والسياسي، وان تطرح أسئلة منهجية حول الدور الذي يمكن ان تلعبه في عصر العولمة. وبعد صدور العدد الأخير في شتاء 2003، اتصل بي الصديق كريم مروة، الذي كان يشرف على إصدار «الطريق» في تلك المرحلة، بصفتي ممثلاً لورثة انطون تابت، مالكي المجلة. وتباحثنا في ضرورة إرساء أسس جديدة للمجلة، واتفقنا على ان التحولات الجذرية على الصعيدين العالمي والعربي، تتطلب صوغ مشروع جديد متكامل قادر على بلورة توجّه يساري منفتح ومتحرر من رواسب الماضي، ينطلق من الأسئلة الفكرية والثقافية الجديدة التي يطرحها الحاضر المتغيّر. كا اتفقنا على ان الشرط الأساسي لنجاح هذه التجربة يكمن في تأمين الاستقلالية التامة لمجلة «الطريق»، على المستويات السياسية والفكرية والمالية، وفي إيجاد هيكلية متقدمة تتصف بمهنية عالية، من أجل تأمين استمرارية المجلة في الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع الصحف والمجلات في العالم. ورغم الجهود التي بذلها الأستاذ كريم مروة ومعه مجموعة من المثقفين المؤمنين برسالة «الطريق»، لم يكن في الإمكان تأمين الشروط الضرورية لإصدار المجلة على المدى الطويل، ففضل ان يعيد إليّ التكليف الذي منحته له، بدلاً من مباشرة مشروع لا ضمانة لاستمراريته. غير انني فوجئت منذ بضعة أشهر بتسريبات صحافية عن قرب صدور «الطريق»، ثم اكتشفت العدد الأول المؤرخ في صيف 2011 في الأسواق، هذا من دون استشارتي، ولو من باب اللياقة الاجتماعية. قرأت كغيري من محبي هذه المجلة إعلان عودتها إلى الصدور بفضل «قرار» جاء «كخبر سعيد» سمح بالتغلب على «القدر الغاشم الذي سمح باحتجاب المجلة خلال ثماني سنوات». وقد توقفت افتتاحية العدد عند الصدفة التي جعلت قرار إعادة الصدور متلازماً مع «قرارات الجماهير باندلاع الانتفاضات الثورية في أكثر من بلد عربي»، كما تضمن العدد محوراً خاصاً حول «خصوصية ثورتي مصر وتونس والانتفاضات الشعبية». الثورات المشتعلة في العالم العربي تطرح مجموعة من الأسئلة الكبرى التي من شأنها قلب كافة الأطر التقليدية للتحليل السياسي والفكري، وتلقي على عاتق اليسار مسؤوليات جسيمة عليه ان يثبت انه قادر على الاضطلاع بها كي يستطيع ان يلعب دوراً في المرحلة المقبلة. الأفق الذي يفتحه الربيع العربي، يتطلب مراجعة نقدية شاملة لكافة المسلمات النظرية والتجارب التي مرتبها حركة التحرر العربية. تشمل هذه المراجعة النقدية تجربة الحركات القومية، التي تمكنت في أوج المد الناصري خلال الخمسينات وبداية الستينات من تعبئة الجماهير في معركة التحرر من الاستعمار ومناهضة المشروع الصهيوني، لكنها تعثرت بسبب القمع وغياب الديموقراطية وانتهت بهزيمة تاريخية أدخلت العالم العربي في مرحلة إحباط امتدت نصف قرن. كما تشمل مراجعة «ورثاء» الناصرية وخصوصاً تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أطلق في أواخر الأربعينات شعار الوحدة والحرية والاشتراكية، وانتهى إلى إقامة نظامين قطريين استبداديين تميزا بقمعهما الوحشي وبالهيمنة على السلطة واستئثار زمر عسكرية ـ عائلية بالثروات الاقتصادية. وتشمل أيضاً مراجعة تجارب الحركات الدينية الثورية التي نمت على أنقاض التيارات القومية واليسارية، وأنهت إلى تفتيت المجتمعات العربية في ملل ونحل وعشائر متصارعة، أدخلت المجتمعات في دوامة الحروب الأهلية والمجابهات المذهبية. وتشمل أخيراً وليس آخراً تجربة التيارات الماركسية العربية بشقيها «الرسمي» أي الأحزاب الشيوعية، و«الهامشي»، أي التيارات القومية التي تمركست بعد هزيمة حزيران 1967، والتي لم تتمكن إلا في بعض الحالات الاستثنائية من ان تلعب دوراً فاعلاً في التأثير الفكري والسياسي وفي خلق حال من التعبئة الجماهيرية القادرة على طرح خيارات حقيقية في وجه أنظمة الاستبداد العربية. هذه المراجعات هي المدخل من أجل الوصول إلى قراءة الأفق الديموقراطي والتحرري الذي تطرحه الثورات الشعبية العربية، التي لم تفاجئ الأنظمة فقط، بل فاجأت المعارضة أيضاً، وفاجأت جميع تيارات الثقافة العربية. هذا الأفق الجديد يتطلب لغة ورؤية جديدتين، ويساراً قادراً على ربط مسألة حرية المواطن وكرامته بالتقدم والعدالة الاجتماعية، وعلى ربط المسألتين بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. هل يمكن الاستعاضة عن هذه المراجعة النقدية الشاملة برفع شعار إنتاج ماركسية عربية أو «ماركسية لنا» بحسب ما تطرحه افتتاحية «الطريق» كعنوان للمرحلة المقبلة؟! من حقنا ان نتساءل، بعد كل ما يجري، إذا كان هذا الشعار القديم، له علاقة بنبض المرحلة، أو يستطيع ان يكون عنواناً فكرياً لفهم ما يجري اليوم في العالم العربي؟ وهل تستطيع «الطريق» ان تلعب دورها في مرحلة اليقظة العربية الجديدة بمجرد صدور «قرار» يرفع شعاراً عاماً كهذا الشعار؟ وهل يُغني هذا القرار عن العمل الجماعي الهادف إلى صوغ خطة متكاملة تسمح للمجلة بأن تكون على مستوى التحديات التي تفرضها المرحلة؟ ألا تتطلب عملية إعادة الصدور الانفتاح على التيارات التحررية والشبابية منها بخاصة، بهدف رسم الإطار العام للمجلة، وتشكيل هيئة تحرير حقيقية تحدد خط المجلة ومنهجها وتضم إلى جانب مثقفي اليسار الكلاسيكي مفكرين مجددين قادرين على تخطي الأطر التقليدية التي لا تزال تحكم الأداء الفكري لليسار العربي؟ أليس من حقنا ان نتساءل عن ضمانات استمرارية المجلة من دون تأمين هيكلية إدارية متطورة تتحلى بمهنية عالية وترسم خطة مالية تؤمن للمجلة موازنة ثابتة واستقلالية تسمح لها بأن تصير منبراً حياً وخلاقاً، ومركز إبداع فكري وثقافي يكون على مستوى تحديات المرحلة؟ حرصت في هذا المقال على ان أكتب في وصفي قارئاً ومتابعاً ومحباً لمجلة «الطريق»، لا في وصفي ممثلاً لورثة انطون تابت الذين يملكون امتياز المجلة. فأنا تربيت على فكرة ان «الطريق» والتراث الفكري والنضالي الذي خلّفه انطون تابت ورفاقه، ليسا ملكية خاصة، بل هما ملك للتراث العقلاني واليساري في الثقافتين اللبنانية والعربية. كتبت حرصاً على هذا الإرث الثقافي الكبير ومن أجل تصويب المسيرة لا من أجل أي هدف آخر. وإذا كان حرصي وحرص ورثة انطون تابت واضحين في عدم التصرف بهذا الإرث لأننا لا ننظر إليه كملكية خاصة، فإن كنا ننتظر من الآخرين الذين أصدروا «القرار»، وخصوصاً من الناقد محمد دكروب، الذي نشأ وكبرت قامته النقدية في «الطريق»، ان يتصرفوا هم أيضاً بالروحية نفسها، لا ان يتم «تهريب» إصدار العدد من دون موافقتنا ومن دون استشارة كوكبة كبيرة من الكتاب والمثقفين الذين رافقوا المجلة في محطات مختلفة من مسيرتها. ان الصدور بهذا الشكل وعبر قرار لم يأخذ في الاعتبار واقع المجلة وآفاق تطورها، يدعونا إلى رفع الصوت كي يلتزم الجميع بمسؤولياتهم الأخلاقية تجاه إرث لا نستطيع ان لا نحميه من الضياع.
الاثنين، 22 أغسطس 2011
أزمة الخطاب في السعودية
فؤاد ابراهيم
التاريخ لن يعود للوراء»، عبارة تتردد في كل زوايا الشارع العربي منذ بداية «ربيع العرب» من تونس في 5 كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، وأن وكلاء التاريخ الجدد قادرون على شق درب الخلاص من الأقدار العقيمة، المفروضة نتيجة تواطؤ أطراف غير مقدّسة محلية وخارجية.
في السعودية، ثمة من يريد أن يثبت أن التاريخ يمكن إعادته للوراء، وأن «الخصوصية» السعودية قادرة على إبقاء حصرية وكالة التاريخ بيد فئة محدودة، وهي من تقرّر ما إذا كان هناك «ربيع عربي» أو هو» خريف أو صيف أو ربما زمهرير» على حد وصف الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة السابق والسفير في لندن وواشنطن سابقاً، في مقابلة مع قناة بي بي سي العربي في 8 آب الحالي.
منذ اندلاع الثورات العربية، برز العامل السعودي بكونه نذيراً من تحوّلات تفقد فيها القوى القابضة على القرار السياسي العربي السيطرة. وفيما كانت الثورة المصرية تعبر بآمال العرب الى مرحلة النصر الحسم، كانت القوى المضادة للثورة تستنفر قواها وتحالفاتها وإمكانياتها المالية لجهة تصنيع البدائل، المعادية تكويناً للثورة ولأهدافها.
حين سأل رئيس تحرير صحيفة محلية في الرياض وزير الداخلية الأمير نايف ذات لقاء خاص مع رؤوساء تحرير الصحف المحلية عن موقف المملكة من الثورة المصرية، وكيف ستتعاطى الحكومة مع مطلب التغيير، كانت إجابته مستمدة من ثقافة «الخصوصية»: إننا لسنا تونس ولسنا مصر، وإننا نطبّق الشريعة الإسلامية!
اليوم، ومع الإقتراب من الثلث الأخير من السنة الأولى لربيع العرب، نحاول أن نرصد مظاهر أزمة الخطاب في السعودية، بالنظر الى النزوع المتعاظم لدى العائلة المالكة بأنها لها وحدها حق حصري في تقرير طبيعة التغيير.
الحشد الأمني الهائل الذي قامت به وزارة الداخلية في «يوم الغضب» الافتراضي في 11 آذار الماضي، مثّل امتحاناً حقيقياً للثقة بين الحاكم والمحكوم، بخلاف ما صدر عن وزير الداخلية الأمير نايف في اليوم التالي، من أن عدم خروج تظاهرات في المدن والشوارع يعكس الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب. من راقب تدابير الفزع قبل أسابيع من اليوم المقرر للإحتجاج، شعر بأن الدولة كانت تعيش حالة طوارىء، وأن 11 آذار شهد «حظر تجوّل» غير معلن في كل أرجاء المملكة.
مهما يكن، ما أعقب ذلك اليوم يسترعي إنتباهاً خاصاً، أي حين بدأ الهجوم المضاد على الثورات العربية: دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين في 15 آذار، وإرسال سفينة محمّلة بالذخائر والأسلحة الى اليمن في 16 آذار، وتشكيل جبهة خليجية لتوفير غطاء مالي وإعلامي وسياسي لتدخل عسكري دولي في ليبيا، بدء تحريك الجماعات السلفية في مصر، والإتصال مع شخصيات سياسية لتعطيل مفاعيل مجلس الثورة في تونس.
محلياً، وهنا تكمن أزمة الخطاب في السعودية، ألقى الملك عبد الله في 17 آذار خطاباً مقتضباً بسبب أوضاعه الصحيّة، ثم تُلي عقب ذلك بيان تفصيلي عن القرارات الجديدة، والتي أحدثت خيبة أمل كبيرة لدى المتطلّعين نحو إصلاحات سياسية جديّة. وفيما جرى اختصار مطالب الناس في تقديمات اجتماعية بقيمة 36 مليار دولار، كان الأخطر، في هذه القرارات، إعادة تأسيس الدولة الأمنية والدينية، حيث أشاد بيان الملك بدور علماء الدين الذي نهروا وزجروا أهل دعوتهم من الإستجابة لأهل الغيّ والضلال بالخــروج في مظاهرات ضد ولاة الأمر، كما أطرى رجال الأمن الذين انتــشروا في كــل أرجاء البلاد في يوم الغضب المقرر، فكانت المكافأة: حظر توجيه النقد للعلماء في وسائل الإعلام بصورة حاسمة وإنزال عقوبة صارمة ضد المخالفين، وزيادة عديد رجال الأمن بتجـنيد وتدريب 60 ألفاً في قوى الأمن الـتابعة لوزارة الداخلــية..وهكذا أغلق الباب على أي نقاش داخلي حول الإصلاح السياسي!
ما جرى في سوريا في آذار الماضي مثّل مخرّجاً مثالياً للعائلة المالكة من أي استحقاقات إصلاحية، فالتعبئة الثقافية والإيديولوجية التي جرت خلال ما يربو عن ثلاثة عقود ضد النظام في سوريا، على خلفية طائفية، في المساجد والمجلات والنشريات والكتب الدينية في السعودية، أريد تثميرها في استدراج الإهتمام المحلي والدولي الى مكان آخر، وإقفال ملف (الثورة) في السعودية..
الإصلاح السياسي المرفوض داخلياً وخارجياً في الدول الحليفة للسعودية، وعلى وجه الخصوص في مصر والبحرين واليمن وتونس، بل والاشتغال على تعطيل شروط التحوّل الانتقالي فيها، تصبح ليبيا وسورية إستثناءً في ذلك الرفض.
بيان الملك عبد الله في 8 آب الجاري حول الأوضاع في سورية يعتبر «استثناءً» فعلياً في النهج السياسي السعودي. فما غفل عنه صنّاع القرار في السعودية إزاء الثورات في تونس ومصر واليمن فضلاً عن البحرين من استعمال مفرط للقوة ضد تظاهرات سلميّة، بل غضب من الحليف الأميركي لأنه تخلّى في لحظة حرجة عن (حلفائه)، في إشارة الى الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ولم نسمع عن إحترام إرادة الشعب المصري إلا بعد أصبحت عودة مبارك مستحيلة..!
بيان الملك عبد الله يضعنا أمام صورتين متقابلتين: الأولى سوريا وتشجيع التظاهر فيها حد استعمال أقصى أشكال العنف، مؤسس على فتوى دينية أطلقها رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً الشيخ صالح اللحيدان في الأيام الأولى من اندلاع الاحتجاجات في سوريا، أجاز فيها قتل ثلث الشعب السوري من أجل أن ينعم الثلثان. بيان الملك عبد الله طالب القيادة السورية بتفعيل الإصلاحات الموعودة وتحويلها الى واقع ملموس، كما جرّم العنف..
في البحرين، كما في الداخل السعودي، وعلى الضد يصبح التظاهر عملاً غوغائياً ومحرّماً لأنه خروج على ولي الأمر، ومدخل للفتنة، وتتدخل قوات عسكرية سعودية من أجل منع التحوّل الديمقراطي السلمي، والإفراط في استعمال كل الاتهامات ضد المتظاهرين، بما في ذلك استعمال العنف، رغم أن الحركة الشعبية السلمية في البحرين أغضبت ثوّار العالم بسبب الإفراط في سلميتها، وعزوفها حتى عن تقنيات المقاومة المدنية المشروعة في الثورات الشعبية، كقانونية استعمال الغاز المسيل للدموع، والهراوات، والمياه المغلية بالنسبة لقوات مكافحة الشغب..
لعبىة محاور، إرهاب ديني، عقم سياسي، ثارات مؤجّلة.. قد تكون جميعها حاضرة في المواقف السياسية المتناقضة من الثورات العربية. لاشك أن التقارب التركي السعودي حيال الموضوع السوري يعتبر استثناءً، لأن لعبة المحاور تملي هذا النوع من التقارب، ولا ريب أن فتاوى «التحريم الكنسي» التي أصدرها علماء دين في السعودية ضد رؤوساء تحرير صحف محلية لمجرد أنهم لم ينخرطوا في حملة تجريم التظاهر، حتى خصّص الشيخ المثير للجدل محمد العريفي خطبة في صلاة الجمعة كي يطلق عبارة إستفزازية يقول فيها (أن بعض الصحافيين لا يستحقّون بصاق المفتي)، ولا ريب أن تشجيع الإصلاح السياسي في سوريّا واستغلاله كعامل رئيسي في المناكفة السياسية ولعبة المحاور، واجتياح بلد بأسره للحيلولة دون تحقيق الإصلاح السياسي المأمول شعبياً كما في البحرين، والإلتفاف عليه في اليمن، ومحاولة اختراقه في تونس ومصر نصبح أمام عقم سياسي، أما الثارات المؤجّلة فإن تخصيص ليبيا وسوريا بالعقاب الثوري، لا شأن له بالإصلاح السياسي المفقود محلياً، أو خارجياً في بلدان الحلفاء!
تطوّر آخر لافت تمثّل في قانون مناهضة الإرهاب، والذي كشفت عنه منظمة العفو الدولية في 22 تموز (يوليو) الماضي، والذي يعتبر من وجهة نظر مراقبين استكمالاً لقرارات 17 آذار الماضي، حيث يقفل القانون الجديد الباب أمام أي شكل من أشكال الإحتجاج السلمي. توحيد العقوبة، أي جعل من يكتب بالقلم في نقد سياسات الدولة، ومن يشهر السلاح في وجهها على مرتبة سواء في الجريمة والعقوبة، تحت طائل قانون مناهضة الإرهاب، يعني أن (التاريخ لا يعود للوراء) فحسب، بل يعني تعطيل حركة تاريخ الإنسان في هذا البلد.
في القانون الجديد، يصبح التشكيك في نزاهة الملك أو ولي العهد جريمة يعاقب عليها بعشر سنوات في الحد الأدنى، وهذا يضعنا أمام «خصوصية» من طراز آخر. ومهما قيل عن تعديلات ستجري على القانون بعد انتهاء عطلة مجلس الشورى في إيلول القادم، فإن القبول بهذا النوع من النقاشات القانونية في ظل تطلّعات شعبية نحول الانتقال الديمقراطي يعني أن ثمة مأزقاً تعيشه الدولة.. مأزق يمكن أن نرقب تداعياته، ولا نفهم مبررات الوقوع فيه، تماماً كمقولة (السلفية مطلب وطني) بحسب مؤتمر عقد مؤخراً تحت رعاية وزير الداخلية الأمير نايف، مستحضراً مقولات له في 2006 و2008، حول سلفية الدولة السعودية!
صراع الأجنحة و«ربيع العرب»
لابد من الإنطلاق من حقيقة داخلية، قد ينظر إليها بعض المراقبين بقليل من الإهتمام، ولكّنها تمثّل جزءً من «أسطورة الهيبة» السعودية. الحقيقة هي: أن الجيل الثاني الذي شهد مرحلة التأسيس أو عاش الأخطار المحدقة بالكيان، يقترب من نهاية زمنه الإفتراضي بفعل قوانين الطبيعة، فأعمار أفراد الطبقة الحاكمة اليوم تتراوح بين 80 ـ 90 عاماً، وأن الأوضاع الصحيّة المتدهورة التي يعاني منها أغلب أفراد الطبقة، تزيد في وتيرة التكّهنات والأسئلة عن القادم من أشخاص ومتغيّرات. ويمكن أيضاً في هذا الصدد التنبوء بطبيعة الأوضاع النفسية التي يعيشها شعب بأكلمه، بانتظار رحيل أي من الأمراء الكبار، وما ينجم عن ذلك من تحوّلات بأحجام متفاوتة، تبعاً لموقع الأمير في السلطة.
الإنغماس السعودي في أكثر من ثورة عربية (اليمن، والبحرين، وسورية)، دع عنك ما يقال عن أموال سعودية تغذي جماعات مناهضة للثورة لمنع انتقال ديموقراطي رصين في كل من تونس ومصر، وشكوك حول ضلوع غير مباشر في تسليح جماعات غير ثورية في ليبيا، لا يعكس وضعاً صحياً داخلياً. صراع الأجنحة داخل العائلة المالكة في ظل استحقاقات قريبة قادمة، نتيجة عوامل عديدة منها الأجل الوشيك لأعضاء جيل التأسيس، يستره الهروب للأمام والانخراط الكثيف في الثورات العربية..
التناغم المعدوم بين أداء خارجي يوهم بالقوة والتماسك وآخر داخلي يدفع المقرّبين من السلطة إلى حبس أنفاسهم من احتمالات قائمة لتمزّق خطوط التوارث داخل العائلة المالكة بفعل ما يصفه أحدّ المقرّبين من العائلة المالكة (افتراس داخلي). صفقات المحاصصة بين جناحين أو أكثر تجري الآن على حساب الأجنحة الأخرى التي ستجد نفسها على هامش (لعبة التسويات) داخل العائلة المالكة، وربما ستكون هذه الأجنحة ضمن (نظام الرعاية) لدى أحد كبار الأمراء في الجناح السديري.
في المحصّلة، هناك أزمة خطاب في السعودية، تزداد خطورة بمرور الوقت، كلما تزايدت درجة انخراط السعودية في شؤون الثورات العربية في الخارج، وتمسّكت بالنموذج الأصلي (prototype) للدولة الدينية ـ الأمنية المتخاصمة مع شعبها، حيث الإقتراب من لحظة القطيعة والمصادمة.
التاريخ لن يعود للوراء»، عبارة تتردد في كل زوايا الشارع العربي منذ بداية «ربيع العرب» من تونس في 5 كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، وأن وكلاء التاريخ الجدد قادرون على شق درب الخلاص من الأقدار العقيمة، المفروضة نتيجة تواطؤ أطراف غير مقدّسة محلية وخارجية.
في السعودية، ثمة من يريد أن يثبت أن التاريخ يمكن إعادته للوراء، وأن «الخصوصية» السعودية قادرة على إبقاء حصرية وكالة التاريخ بيد فئة محدودة، وهي من تقرّر ما إذا كان هناك «ربيع عربي» أو هو» خريف أو صيف أو ربما زمهرير» على حد وصف الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة السابق والسفير في لندن وواشنطن سابقاً، في مقابلة مع قناة بي بي سي العربي في 8 آب الحالي.
منذ اندلاع الثورات العربية، برز العامل السعودي بكونه نذيراً من تحوّلات تفقد فيها القوى القابضة على القرار السياسي العربي السيطرة. وفيما كانت الثورة المصرية تعبر بآمال العرب الى مرحلة النصر الحسم، كانت القوى المضادة للثورة تستنفر قواها وتحالفاتها وإمكانياتها المالية لجهة تصنيع البدائل، المعادية تكويناً للثورة ولأهدافها.
حين سأل رئيس تحرير صحيفة محلية في الرياض وزير الداخلية الأمير نايف ذات لقاء خاص مع رؤوساء تحرير الصحف المحلية عن موقف المملكة من الثورة المصرية، وكيف ستتعاطى الحكومة مع مطلب التغيير، كانت إجابته مستمدة من ثقافة «الخصوصية»: إننا لسنا تونس ولسنا مصر، وإننا نطبّق الشريعة الإسلامية!
اليوم، ومع الإقتراب من الثلث الأخير من السنة الأولى لربيع العرب، نحاول أن نرصد مظاهر أزمة الخطاب في السعودية، بالنظر الى النزوع المتعاظم لدى العائلة المالكة بأنها لها وحدها حق حصري في تقرير طبيعة التغيير.
الحشد الأمني الهائل الذي قامت به وزارة الداخلية في «يوم الغضب» الافتراضي في 11 آذار الماضي، مثّل امتحاناً حقيقياً للثقة بين الحاكم والمحكوم، بخلاف ما صدر عن وزير الداخلية الأمير نايف في اليوم التالي، من أن عدم خروج تظاهرات في المدن والشوارع يعكس الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب. من راقب تدابير الفزع قبل أسابيع من اليوم المقرر للإحتجاج، شعر بأن الدولة كانت تعيش حالة طوارىء، وأن 11 آذار شهد «حظر تجوّل» غير معلن في كل أرجاء المملكة.
مهما يكن، ما أعقب ذلك اليوم يسترعي إنتباهاً خاصاً، أي حين بدأ الهجوم المضاد على الثورات العربية: دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين في 15 آذار، وإرسال سفينة محمّلة بالذخائر والأسلحة الى اليمن في 16 آذار، وتشكيل جبهة خليجية لتوفير غطاء مالي وإعلامي وسياسي لتدخل عسكري دولي في ليبيا، بدء تحريك الجماعات السلفية في مصر، والإتصال مع شخصيات سياسية لتعطيل مفاعيل مجلس الثورة في تونس.
محلياً، وهنا تكمن أزمة الخطاب في السعودية، ألقى الملك عبد الله في 17 آذار خطاباً مقتضباً بسبب أوضاعه الصحيّة، ثم تُلي عقب ذلك بيان تفصيلي عن القرارات الجديدة، والتي أحدثت خيبة أمل كبيرة لدى المتطلّعين نحو إصلاحات سياسية جديّة. وفيما جرى اختصار مطالب الناس في تقديمات اجتماعية بقيمة 36 مليار دولار، كان الأخطر، في هذه القرارات، إعادة تأسيس الدولة الأمنية والدينية، حيث أشاد بيان الملك بدور علماء الدين الذي نهروا وزجروا أهل دعوتهم من الإستجابة لأهل الغيّ والضلال بالخــروج في مظاهرات ضد ولاة الأمر، كما أطرى رجال الأمن الذين انتــشروا في كــل أرجاء البلاد في يوم الغضب المقرر، فكانت المكافأة: حظر توجيه النقد للعلماء في وسائل الإعلام بصورة حاسمة وإنزال عقوبة صارمة ضد المخالفين، وزيادة عديد رجال الأمن بتجـنيد وتدريب 60 ألفاً في قوى الأمن الـتابعة لوزارة الداخلــية..وهكذا أغلق الباب على أي نقاش داخلي حول الإصلاح السياسي!
ما جرى في سوريا في آذار الماضي مثّل مخرّجاً مثالياً للعائلة المالكة من أي استحقاقات إصلاحية، فالتعبئة الثقافية والإيديولوجية التي جرت خلال ما يربو عن ثلاثة عقود ضد النظام في سوريا، على خلفية طائفية، في المساجد والمجلات والنشريات والكتب الدينية في السعودية، أريد تثميرها في استدراج الإهتمام المحلي والدولي الى مكان آخر، وإقفال ملف (الثورة) في السعودية..
الإصلاح السياسي المرفوض داخلياً وخارجياً في الدول الحليفة للسعودية، وعلى وجه الخصوص في مصر والبحرين واليمن وتونس، بل والاشتغال على تعطيل شروط التحوّل الانتقالي فيها، تصبح ليبيا وسورية إستثناءً في ذلك الرفض.
بيان الملك عبد الله في 8 آب الجاري حول الأوضاع في سورية يعتبر «استثناءً» فعلياً في النهج السياسي السعودي. فما غفل عنه صنّاع القرار في السعودية إزاء الثورات في تونس ومصر واليمن فضلاً عن البحرين من استعمال مفرط للقوة ضد تظاهرات سلميّة، بل غضب من الحليف الأميركي لأنه تخلّى في لحظة حرجة عن (حلفائه)، في إشارة الى الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ولم نسمع عن إحترام إرادة الشعب المصري إلا بعد أصبحت عودة مبارك مستحيلة..!
بيان الملك عبد الله يضعنا أمام صورتين متقابلتين: الأولى سوريا وتشجيع التظاهر فيها حد استعمال أقصى أشكال العنف، مؤسس على فتوى دينية أطلقها رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً الشيخ صالح اللحيدان في الأيام الأولى من اندلاع الاحتجاجات في سوريا، أجاز فيها قتل ثلث الشعب السوري من أجل أن ينعم الثلثان. بيان الملك عبد الله طالب القيادة السورية بتفعيل الإصلاحات الموعودة وتحويلها الى واقع ملموس، كما جرّم العنف..
في البحرين، كما في الداخل السعودي، وعلى الضد يصبح التظاهر عملاً غوغائياً ومحرّماً لأنه خروج على ولي الأمر، ومدخل للفتنة، وتتدخل قوات عسكرية سعودية من أجل منع التحوّل الديمقراطي السلمي، والإفراط في استعمال كل الاتهامات ضد المتظاهرين، بما في ذلك استعمال العنف، رغم أن الحركة الشعبية السلمية في البحرين أغضبت ثوّار العالم بسبب الإفراط في سلميتها، وعزوفها حتى عن تقنيات المقاومة المدنية المشروعة في الثورات الشعبية، كقانونية استعمال الغاز المسيل للدموع، والهراوات، والمياه المغلية بالنسبة لقوات مكافحة الشغب..
لعبىة محاور، إرهاب ديني، عقم سياسي، ثارات مؤجّلة.. قد تكون جميعها حاضرة في المواقف السياسية المتناقضة من الثورات العربية. لاشك أن التقارب التركي السعودي حيال الموضوع السوري يعتبر استثناءً، لأن لعبة المحاور تملي هذا النوع من التقارب، ولا ريب أن فتاوى «التحريم الكنسي» التي أصدرها علماء دين في السعودية ضد رؤوساء تحرير صحف محلية لمجرد أنهم لم ينخرطوا في حملة تجريم التظاهر، حتى خصّص الشيخ المثير للجدل محمد العريفي خطبة في صلاة الجمعة كي يطلق عبارة إستفزازية يقول فيها (أن بعض الصحافيين لا يستحقّون بصاق المفتي)، ولا ريب أن تشجيع الإصلاح السياسي في سوريّا واستغلاله كعامل رئيسي في المناكفة السياسية ولعبة المحاور، واجتياح بلد بأسره للحيلولة دون تحقيق الإصلاح السياسي المأمول شعبياً كما في البحرين، والإلتفاف عليه في اليمن، ومحاولة اختراقه في تونس ومصر نصبح أمام عقم سياسي، أما الثارات المؤجّلة فإن تخصيص ليبيا وسوريا بالعقاب الثوري، لا شأن له بالإصلاح السياسي المفقود محلياً، أو خارجياً في بلدان الحلفاء!
تطوّر آخر لافت تمثّل في قانون مناهضة الإرهاب، والذي كشفت عنه منظمة العفو الدولية في 22 تموز (يوليو) الماضي، والذي يعتبر من وجهة نظر مراقبين استكمالاً لقرارات 17 آذار الماضي، حيث يقفل القانون الجديد الباب أمام أي شكل من أشكال الإحتجاج السلمي. توحيد العقوبة، أي جعل من يكتب بالقلم في نقد سياسات الدولة، ومن يشهر السلاح في وجهها على مرتبة سواء في الجريمة والعقوبة، تحت طائل قانون مناهضة الإرهاب، يعني أن (التاريخ لا يعود للوراء) فحسب، بل يعني تعطيل حركة تاريخ الإنسان في هذا البلد.
في القانون الجديد، يصبح التشكيك في نزاهة الملك أو ولي العهد جريمة يعاقب عليها بعشر سنوات في الحد الأدنى، وهذا يضعنا أمام «خصوصية» من طراز آخر. ومهما قيل عن تعديلات ستجري على القانون بعد انتهاء عطلة مجلس الشورى في إيلول القادم، فإن القبول بهذا النوع من النقاشات القانونية في ظل تطلّعات شعبية نحول الانتقال الديمقراطي يعني أن ثمة مأزقاً تعيشه الدولة.. مأزق يمكن أن نرقب تداعياته، ولا نفهم مبررات الوقوع فيه، تماماً كمقولة (السلفية مطلب وطني) بحسب مؤتمر عقد مؤخراً تحت رعاية وزير الداخلية الأمير نايف، مستحضراً مقولات له في 2006 و2008، حول سلفية الدولة السعودية!
صراع الأجنحة و«ربيع العرب»
لابد من الإنطلاق من حقيقة داخلية، قد ينظر إليها بعض المراقبين بقليل من الإهتمام، ولكّنها تمثّل جزءً من «أسطورة الهيبة» السعودية. الحقيقة هي: أن الجيل الثاني الذي شهد مرحلة التأسيس أو عاش الأخطار المحدقة بالكيان، يقترب من نهاية زمنه الإفتراضي بفعل قوانين الطبيعة، فأعمار أفراد الطبقة الحاكمة اليوم تتراوح بين 80 ـ 90 عاماً، وأن الأوضاع الصحيّة المتدهورة التي يعاني منها أغلب أفراد الطبقة، تزيد في وتيرة التكّهنات والأسئلة عن القادم من أشخاص ومتغيّرات. ويمكن أيضاً في هذا الصدد التنبوء بطبيعة الأوضاع النفسية التي يعيشها شعب بأكلمه، بانتظار رحيل أي من الأمراء الكبار، وما ينجم عن ذلك من تحوّلات بأحجام متفاوتة، تبعاً لموقع الأمير في السلطة.
الإنغماس السعودي في أكثر من ثورة عربية (اليمن، والبحرين، وسورية)، دع عنك ما يقال عن أموال سعودية تغذي جماعات مناهضة للثورة لمنع انتقال ديموقراطي رصين في كل من تونس ومصر، وشكوك حول ضلوع غير مباشر في تسليح جماعات غير ثورية في ليبيا، لا يعكس وضعاً صحياً داخلياً. صراع الأجنحة داخل العائلة المالكة في ظل استحقاقات قريبة قادمة، نتيجة عوامل عديدة منها الأجل الوشيك لأعضاء جيل التأسيس، يستره الهروب للأمام والانخراط الكثيف في الثورات العربية..
التناغم المعدوم بين أداء خارجي يوهم بالقوة والتماسك وآخر داخلي يدفع المقرّبين من السلطة إلى حبس أنفاسهم من احتمالات قائمة لتمزّق خطوط التوارث داخل العائلة المالكة بفعل ما يصفه أحدّ المقرّبين من العائلة المالكة (افتراس داخلي). صفقات المحاصصة بين جناحين أو أكثر تجري الآن على حساب الأجنحة الأخرى التي ستجد نفسها على هامش (لعبة التسويات) داخل العائلة المالكة، وربما ستكون هذه الأجنحة ضمن (نظام الرعاية) لدى أحد كبار الأمراء في الجناح السديري.
في المحصّلة، هناك أزمة خطاب في السعودية، تزداد خطورة بمرور الوقت، كلما تزايدت درجة انخراط السعودية في شؤون الثورات العربية في الخارج، وتمسّكت بالنموذج الأصلي (prototype) للدولة الدينية ـ الأمنية المتخاصمة مع شعبها، حيث الإقتراب من لحظة القطيعة والمصادمة.
الانتفاضة السورية وعزم الاستمرار...
أكرم البني
هو سؤال يثار باستغراب هذه الآونة، عن سر استمرار الانتفاضة الشعبية في سورية أمام هذا القمع العنيف والمعمم، ومن أين تستمد قوتها وعزمها بعد العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمعتقلين واللاجئين، وفي ظل مشهد تبدو فيه كأنها تُترك وحيدة لتواجه مصيرها، في إشارة الى ضعف الموقفين العربي والدولي، فالأول لا يزال متردداً، لم يرق الى مصاف شدة هذه الأزمة وعمقها، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية تعوق خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين أخلاقياً هذا التوغل في العنف والتنكيل.
اليوم، يلمس المرء إصراراً قوياً وغير مسبوق عند الناس على التغيير، نابعاً بلا شك من قهر وإذلال مديدين ومن معاناة شديدة من التمييز والتهميش، أوضح وأكثف صورة لها، أن يبيح أهل الحكم لأنفسهم كل شيء على حساب أبسط حقوق الناس ومصالحهم! فأي إصرار يكون حين تصل الأمور إلى حدود غير مقبولة، وتتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالاً وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم؟ وأي حافز للنهوض والانتفاض حين تمدّه الثورات العربية المتواترة، إلى جانب قوة الدفع الأولى، بروح الدأب والمثابرة.
وما يزيد في دينامية النهوض والحراك الشعبي ويرفع روح الإيثار ودرجة الاستعداد لمواجهة العنف المفرط، شيوع إحساس لدى المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها ولنقل فرصة تاريخية نادرة للخلاص من منطق القوة والتمييز والغلبة، والأهم حضور إدراك عام بأن أي عودة الى الوراء أو توقف هو الطامة الكبرى ويمكن الدولة الأمنية من تثبيت تحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن. وهنا لعبت الأخطاء التي يرتكبها النظام في إدارة الأزمة واستهتاره بمعاداة الناس وأيضاً حجم الاحتجاجات الشعبية وطبيعتها، التي امتدت لتشمل عشرات المدن والبلدات السورية، دوراً كبيراً في منح الانتفاضة كثيراً من الأمل والثقة بقدرتها على تحقيق أهدافها، في مقابل ارتباك وتراجع مستمرين في قدرة الأدوات القمعية على سحقها أو محاصرتها وقمعها.
إن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تستطع أن تثني الناس عن الخروج الى الشارع والتعبير عن شعاراتها ومطالبها، ولم تنفع في تغطيتها مناورات النظام السياسية ودعواته الى الحوار والإصلاح، أو محاولات استمالة البشر بزيادة الأجور وتوفير بعض الحاجات الضرورية، أو تخويفهم بالفوضى وبتنظيمات إسلامية متطرفة وبخطر خارجي داهم! وبعبارة أخرى، فإن عجز الخيار الأمني والعسكري بأسلحته الجبارة عن حسم الأمور ولنقل فشله وبعد خمسة شهور في كسر شوكة الحراك الشعبي وإطفاء جذوته، عزز من ثقة الناس بأنفسهم وبخياراتهم وبجدوى ما يقومون به، وكأن قضيتهم أصبحت قضية عصية على القمع، بدليل أن المناطق المنكوبة هي المناطق الأكثر تحدياً وأول من تبادر ما إن ينحسر الحضور الأمني الكثيف للتظاهر والاحتجاج، وما يزيد الثقة والإصرار وعزم الاستمرار، نجاح الانتفاضة في إفشال محاولات تشويهها أخلاقياً بالطعن بسلميتها والتشكيك بأغراضها السياسية، أو عزلها وإثارة الفتن والتفرقة بين صفوفها وفئاتها، ما يشجع على الاستنتاج بأن لغة الحديد والنار، لم يعد لها مكان في الخصوصية السورية، بل صارت تحفز همم الحراك الشعبي أكثر، وتترك أصحابها عرضة للمزيد من ردود الأفعال العربية والدولية ولتأثيرات سلبية بعيدة المدى في علاقتهم مع المجتمع ومدى تماسكهم.
ثمة حافز آخر في الخصوصية السورية مكّن المحتجين وشد من أزرهم، هو تنوع التكوينات القيادية الميدانية التي أفرزتها الانتفاضة وانتشارها في كل مكان وتفاعلها مع بعضها بطرق غير مباشرة، ما جعلها عصية على الاعتقال، عرفت باسم «التنسيقيات» كشكل تنظيمي مرن نجح نسبياً في تحويل التظاهرات إلى ما يشبه الفعل اليومي، وهو شرط ضروري لاستمرارها وتغذيتها بالحماسة، وأيضاً في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهام وتوحيد إيقاع النشاطات!
ويبدو للعيان أن هذه «التنسيقيات» قد اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة على التنظيم وتحمل مسؤوليات متعددة كالرصد والإعلام والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، والأهم الإحساس الذي أشاعته بين المحتجين والمتظاهرين، بأنهم ليسوا مغيبين أو أرقاماً نكرة، وأن تضحياتهم لا تذهب هدراً بل توظف لفائدة تقدم الحراك العام وتطويره، وبأن انتفاضتهم صارت الشغل الشاغل للعالم وما تسطره من شجاعة وإيثار ومن إبداعات نضالية هو موضع تقدير وإعجاب كبيرين، وأن شعوب كثيرة تترقب على أحر من الجمر النتائج ومقدار ما تتركه انتفاضتهم من أثر إيجابي في مستقبل المشرق العربي خصوصاً والعرب عموماً.
وضوح مطالب الحرية والكرامة والتمسك بالقيمة الأخلاقية السلمية واتساع بنيتها التكوينية وتنوع قياداتها الميدانية هي حوافز صريحة لهذا الاستمرار المبين للانتفاضة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة وأيضاً روح الوفاء للدماء الذكية ولمعاناة الجرحى والمعتقلين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال من أجل استمرارها، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت لبعض الوقت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت سهلاً دونها... يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب المنتفض وتساعد تالياً على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة الى الصفوف. وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدوداً أو ضوابط، أم لإيمانها أخيراً بأن ما يحصل اليوم هو المعطى الأصيل للخروج من الأزمة السورية المزمنة.
ليس الغرض من عرض نقاط قوة الانتفاضة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل لتأكيد أن الاحتجاجات الشعبية قد تجاوزت مرحلة الانتكاس ووصلت نقطة لا عودة منها، وأن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأيضاً لتأكيد أن الشعب السوري خرج أخيراً من خانة الاستثناء في حسابات الانتفاضات والثورات، وأثبت للعالم أجمع أنه شعب مثلما كابد وصمد طيلة عقود في مواجهة شروط لا ترحم، فهو يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية، وأن خلاصه الذي كان يظن أنه مجرد وهم أو حلم جميل وربما مغامرة خطرة، هو أمر آخذ في التجسد على أرض الواقع.
هو سؤال يثار باستغراب هذه الآونة، عن سر استمرار الانتفاضة الشعبية في سورية أمام هذا القمع العنيف والمعمم، ومن أين تستمد قوتها وعزمها بعد العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمعتقلين واللاجئين، وفي ظل مشهد تبدو فيه كأنها تُترك وحيدة لتواجه مصيرها، في إشارة الى ضعف الموقفين العربي والدولي، فالأول لا يزال متردداً، لم يرق الى مصاف شدة هذه الأزمة وعمقها، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية تعوق خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين أخلاقياً هذا التوغل في العنف والتنكيل.
اليوم، يلمس المرء إصراراً قوياً وغير مسبوق عند الناس على التغيير، نابعاً بلا شك من قهر وإذلال مديدين ومن معاناة شديدة من التمييز والتهميش، أوضح وأكثف صورة لها، أن يبيح أهل الحكم لأنفسهم كل شيء على حساب أبسط حقوق الناس ومصالحهم! فأي إصرار يكون حين تصل الأمور إلى حدود غير مقبولة، وتتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالاً وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم؟ وأي حافز للنهوض والانتفاض حين تمدّه الثورات العربية المتواترة، إلى جانب قوة الدفع الأولى، بروح الدأب والمثابرة.
وما يزيد في دينامية النهوض والحراك الشعبي ويرفع روح الإيثار ودرجة الاستعداد لمواجهة العنف المفرط، شيوع إحساس لدى المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها ولنقل فرصة تاريخية نادرة للخلاص من منطق القوة والتمييز والغلبة، والأهم حضور إدراك عام بأن أي عودة الى الوراء أو توقف هو الطامة الكبرى ويمكن الدولة الأمنية من تثبيت تحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن. وهنا لعبت الأخطاء التي يرتكبها النظام في إدارة الأزمة واستهتاره بمعاداة الناس وأيضاً حجم الاحتجاجات الشعبية وطبيعتها، التي امتدت لتشمل عشرات المدن والبلدات السورية، دوراً كبيراً في منح الانتفاضة كثيراً من الأمل والثقة بقدرتها على تحقيق أهدافها، في مقابل ارتباك وتراجع مستمرين في قدرة الأدوات القمعية على سحقها أو محاصرتها وقمعها.
إن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تستطع أن تثني الناس عن الخروج الى الشارع والتعبير عن شعاراتها ومطالبها، ولم تنفع في تغطيتها مناورات النظام السياسية ودعواته الى الحوار والإصلاح، أو محاولات استمالة البشر بزيادة الأجور وتوفير بعض الحاجات الضرورية، أو تخويفهم بالفوضى وبتنظيمات إسلامية متطرفة وبخطر خارجي داهم! وبعبارة أخرى، فإن عجز الخيار الأمني والعسكري بأسلحته الجبارة عن حسم الأمور ولنقل فشله وبعد خمسة شهور في كسر شوكة الحراك الشعبي وإطفاء جذوته، عزز من ثقة الناس بأنفسهم وبخياراتهم وبجدوى ما يقومون به، وكأن قضيتهم أصبحت قضية عصية على القمع، بدليل أن المناطق المنكوبة هي المناطق الأكثر تحدياً وأول من تبادر ما إن ينحسر الحضور الأمني الكثيف للتظاهر والاحتجاج، وما يزيد الثقة والإصرار وعزم الاستمرار، نجاح الانتفاضة في إفشال محاولات تشويهها أخلاقياً بالطعن بسلميتها والتشكيك بأغراضها السياسية، أو عزلها وإثارة الفتن والتفرقة بين صفوفها وفئاتها، ما يشجع على الاستنتاج بأن لغة الحديد والنار، لم يعد لها مكان في الخصوصية السورية، بل صارت تحفز همم الحراك الشعبي أكثر، وتترك أصحابها عرضة للمزيد من ردود الأفعال العربية والدولية ولتأثيرات سلبية بعيدة المدى في علاقتهم مع المجتمع ومدى تماسكهم.
ثمة حافز آخر في الخصوصية السورية مكّن المحتجين وشد من أزرهم، هو تنوع التكوينات القيادية الميدانية التي أفرزتها الانتفاضة وانتشارها في كل مكان وتفاعلها مع بعضها بطرق غير مباشرة، ما جعلها عصية على الاعتقال، عرفت باسم «التنسيقيات» كشكل تنظيمي مرن نجح نسبياً في تحويل التظاهرات إلى ما يشبه الفعل اليومي، وهو شرط ضروري لاستمرارها وتغذيتها بالحماسة، وأيضاً في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهام وتوحيد إيقاع النشاطات!
ويبدو للعيان أن هذه «التنسيقيات» قد اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة على التنظيم وتحمل مسؤوليات متعددة كالرصد والإعلام والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، والأهم الإحساس الذي أشاعته بين المحتجين والمتظاهرين، بأنهم ليسوا مغيبين أو أرقاماً نكرة، وأن تضحياتهم لا تذهب هدراً بل توظف لفائدة تقدم الحراك العام وتطويره، وبأن انتفاضتهم صارت الشغل الشاغل للعالم وما تسطره من شجاعة وإيثار ومن إبداعات نضالية هو موضع تقدير وإعجاب كبيرين، وأن شعوب كثيرة تترقب على أحر من الجمر النتائج ومقدار ما تتركه انتفاضتهم من أثر إيجابي في مستقبل المشرق العربي خصوصاً والعرب عموماً.
وضوح مطالب الحرية والكرامة والتمسك بالقيمة الأخلاقية السلمية واتساع بنيتها التكوينية وتنوع قياداتها الميدانية هي حوافز صريحة لهذا الاستمرار المبين للانتفاضة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة وأيضاً روح الوفاء للدماء الذكية ولمعاناة الجرحى والمعتقلين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال من أجل استمرارها، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت لبعض الوقت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت سهلاً دونها... يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب المنتفض وتساعد تالياً على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة الى الصفوف. وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدوداً أو ضوابط، أم لإيمانها أخيراً بأن ما يحصل اليوم هو المعطى الأصيل للخروج من الأزمة السورية المزمنة.
ليس الغرض من عرض نقاط قوة الانتفاضة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل لتأكيد أن الاحتجاجات الشعبية قد تجاوزت مرحلة الانتكاس ووصلت نقطة لا عودة منها، وأن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأيضاً لتأكيد أن الشعب السوري خرج أخيراً من خانة الاستثناء في حسابات الانتفاضات والثورات، وأثبت للعالم أجمع أنه شعب مثلما كابد وصمد طيلة عقود في مواجهة شروط لا ترحم، فهو يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية، وأن خلاصه الذي كان يظن أنه مجرد وهم أو حلم جميل وربما مغامرة خطرة، هو أمر آخذ في التجسد على أرض الواقع.
من يقف وراء الاحتجاجات في سورية؟
رضوان زيادة
مع تزايد الاحتجاجات والتظاهرات وتصاعدها في أكثر من مدينة سورية حتى شملت في 22 نيسان (أبريل) الماضي أكثر من 84 مدينة وبلدة سورية، بدأ السؤال يتصاعد بقوة وهو من يقف وراء الاحتجاجات في سورية؟ وما هو دور المعارضة السورية؟ وهل ستلعب المعارضة في المستقبل دوراً في توجيه مسار الأمور في سورية فيما لو سقط النظام السوري الحالي كنتيجة لتصاعد الاحتجاجات واتساعها؟
لا بد من القول في البداية أن الانتفاضة السورية هي انتفاضة شعبية غير منظمة من دون قيادة محددة ولا تحمل أية أيديولوجيا محددة. إنها شبيهة تماماً بالحالة التونسية أكثر منها بالمصرية حيث لعبت الحركات الشبابية مثل حركة 6 أبريل أو مجموعة «كلنا خالد سعيد» دوراً محورياً في تحديد يوم الخروج للتظاهر ضد نظام الرئيس مبارك في يوم عيد الشرطة في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، لكن في الحالة السورية وبحكم شدة القبضة الأمنية فقد كان من المستحيل تماماً وجود حالات منظمة أو شبه منظمة لحركات شعبية حتى ولو نشطت في السر، ولذلك وجدنا عشوائية كبيرة في مناطق خروج التظاهرات في كل المدن السورية تقريباً ومن دون تنظيم مسبق، وعشوائية أخرى في طريقة رفع الشعارات رغم تركيزها الكبير على الحرية والكرامة التي هي بالتأكيد العنوان الرئيسي للثورة السورية، كرد على احتقار الدولة الأمنية السورية لطريقة التعامل مع مواطنيها.
لكن مع تطور الاحتجاجات كانت التظاهرات تزداد حجماً من أسبوع إلى آخر كما أن المطالب والشعارات تزداد جرأة في الوقت نفسه، حتى توحدت بشكل ما تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، هذا الشعار الشهير الذي بدأ من تونس وتردد في مصر ونجح في إسقاط نظامين من أكثر الأنظمة القمعية في المنطقة العربية.
كان من الطبيعي بعد ذلك أن يخرج قادة ميدانيون في كل مدينة قادرون على تنظيم التظاهرات وحركتها ومحتوى الشعارات التي يجب أن ترفع، وقد لعب هؤلاء القادة الميدانيون دوراً محورياً في تصاعد هذه الاحتجاجات. وبالرغم من أنهم ما زالوا حتى هذه المرحلة أشبه بالقادة المحليين ولم يرتقوا كي يصبحوا قادة على المستوى الوطني، فهذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، إلا أن طريقة تنظيم التظاهرات تعكس أن هناك تنسيقاً ما بدأ يؤتي بثماره في تنظيم التظاهرات على المستوى الوطني.
لقد لعب المسجد بكل تأكيد دوراً محورياً بخاصة في مراكز المدن الرئيسية في استخدامه كنقطة بدء للتظاهرات أكثر من كونه موجهاً لها، فتطبيق قانون الطوارئ في سورية لمدة تزيد عن 47 سنة لم يؤدِّ فقط إلى حظر التظاهرات والتجمعات وإنما قضى على التقاليد الضرورية لتمرين الشباب على الخروج والتظاهر من أجل المطالبة بحقوقهم، وهي الحالة التي وجدناها تماماً في أميركا اللاتينية حيث لعبت الكنيسة دوراً رئيسياً في قيادة الاحتجاجات ضد الأنظمة العسكرية هناك ولذلك أطلق عليها ما سمي بلاهوت التحرير.
في الحقيقة لا ينتمي أي من هؤلاء القادة الميدانيين إلى أي من الأحزاب السياسية الأيديولوجية التقليدية، بل ربما يحاذرون الانتساب إليها أو حتى فتح حوار مع قادتها حول أفكارها التي لم تعد جاذبة لهم ولحركتهم.
وعلى ذلك فإنه يمكن تقسيم المعارضة السورية اليوم إلى ثلاثة أنواع رئيسية تلعب دوراً في تصاعد الاحتجاجات الحالية في سورية:
- المعارضة التقليدية: وهي تشمل أحزاب المعارضة التقليدية التي أبعدت أو رفضت الدخول في «الجبهة الوطنية التقدمية» الحاكمة التي تشكلت في عام 1972 ثم انتظمت في ما يسمى «التجمع الوطني الديموقراطي» في عام 1983 وهي تشمل حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الشعب الديموقراطي وحزب العمال الثوري وحزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي، وكما نلحظ فإنه يغلب التوجه القومي واليساري على توجهات كل الأحزاب المنخرطة في هذا التجمع، وهناك أيضاً «الإخوان المسلمون» الذين خاضوا صراعاً مسلحاً مع السلطات السورية في ثمانينات القرن الماضي خلّف عشرات الآلاف من القتلى وقامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال أكثر من مئة ألف خلال فترة الثمانينات والتسعينات من أجل قمع الاحتجاجات وإلى الآن يوجد أكثر من 17 مفقوداً لا تعرف عائلاتهم مصيرهم، وقد أصدرت السلطات السورية القانون رقم 49 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب إلى «الإخوان المسلمين».
ولذلك فتواجدهم على الأرض انعدم تماماً مع بقاء بعض التعاطف تجاههم كونهم تحمّلوا الكثير من القمع والاضطهاد، لكن في الوقت نفسه هناك من يحمّلهم من السوريين المسؤولية عن حملهم السلاح ويلقي باللائمة عليهم بالرغم من أنه يدرك تماماً أن المسؤولية الكاملة إنما تقع على عاتق الدولة، ولذلك فإن تأثيرهم في هذه الأحداث ضعيف تماماً حتى بعد أن اتخذوا قرارهم بدعم الاحتجاجات في سورية.
وقد استطاعت المعارضة السورية وتحديداً بعد عام 2005 أن ترتقي خطوة أخرى باتجاه تجميع جهودها تحت مظلة ما يسمى «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي»، وقد ضم تحت مظلته بالإضافة إلى التجمع شخصيات مستقلة، كما أعلن «الإخوان المسلمون» السوريون الموجودون خارج سورية عن تأييدهم لهذا الإعلان والانضمام إليه.
كل هؤلاء لعبوا دوراً ثانوياً في قيادات التظاهرات أم حتى التحريض للخروج فيها، بل ولم تظهر أحزاب المعارضة التقليدية تلك القيادة الضرورية لتوجيه التظاهرات وتحقيق ضغط أكبر على النظام من أجل رحيله والتحول باتجاه نظام ديموقراطي كما تطالب كل وثائقها السياسية التي صدرت خلال العقود الماضية، لكن لا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه القيادات لعب دوراً محلياً في توجيه التظاهرات وقيادتها ولكن في مرحلة متأخرة كما فعل حزب الاتحاد الاشتراكي في تصاعد التظاهرات في مدينة دوما بالقرب من مدينة دمشق حتى زادت الأرقام عن 50 ألف متظاهر.
لكن لا بد من القول هنا أنه وبحكم خبرة أعضائها السياسية الطويلة فإن هذه المعارضة التقليدية تتمتع بالخبرة السياسية الضرورية في التفاوض ربما من أجل إدارة المرحلة الانتقالية القادمة في المستقبل، وربما ولهذا السبب قامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال كل قياداتها بالرغم من أنها تدرك تماماً دورهم المحدود في إخراج التظاهرات، لكنها رغبت في منع هؤلاء القادة من تطوير البديل المناسب والضروري، بحيث يبقى النظام السوري ممسكاً بكل خيوط اللعبة ومهدداً بنفس الوقت بأن الفوضى هي البديل الوحيد عنه.
- أما النوع الثاني من المعارضة فهم القادة الميدانيون، فقد برز خلال هذه التظاهرات نوع جديد من القادة هو ما أشرنا إليه بأنهم قادة ميدانيون يتمتعون بالاحترام داخل مدنهم المحلية وأثبتوا قدرة على القيادة وتنظيم التظاهرات وتوجيهها، وفي نفس الوقت امتلكوا القدرة على امتلاك خطاب صلب مناهض للنظام بالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشون فيها مما شجع الكثيرين على الخروج والتظاهر، وهم ينتمون جميعاً إلى الطبقة الوسطى وذات تحصيل علمي عال. إن كل هؤلاء القادة الميدانيين إما معتقلون أو يعيشون متخفين خوف الاعتقال مما يصعب مهمتهم، لكن وكما قلنا فلما كانت هذه الانتفاضة لا تملك قيادة خاصة بها فإن من المستحيل على النظام قمعها عبر اعتقال قياداتها لأنه كل يوم تقريباً تظهر قيادات جديدة تقود التظاهرات وتحرض عليها.
- أما النوع الثالث من المعارضة التي برزت خلال هذه الانتفاضة فهم النشطاء الحقوقيون ونشطاء الإنترنت الذين أبدوا قدرة رائعة ونادرة على كشف انتهاكات حقوق الإنسان وفضحها وتمرير هذه المعلومات إلى المنظمات الحقوقية الدولية مما ساعد في كشف حجم الجرائم المرتكبة من قبل قوات الأمن السورية وزاد من حجم الانتقادات من قبل المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، وهو ما زاد من حجم الضغوط الدولية التي كان أبرزها صدور قرار من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإرسال لجنة تحقيق دولية إلى سورية للتحقيق في كل انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت خلال الأشهر الماضية.
وفي النهاية هناك دور المعارضة السورية في الخارج، فتصاعد الانتفاضة قرّبها كثيراً من الداخل بحيث تلعب الآن الدور المحوري والأساسي في إيصال صوت السوريين إلى الخارج عبر الإعلام بحكم منع تواجد الإعلام والصحافة في كل المدن السورية. هذه المعارضة أتاحت لها لقاءاتها السياسية تصاعد الضغوط الدولية على النظام السوري، كما تمكنت من شرح وجهة نظر المعارضة في الداخل بحكم اعتقال معظم قياداتها أو منعهم من السفر.
مع تزايد الاحتجاجات والتظاهرات وتصاعدها في أكثر من مدينة سورية حتى شملت في 22 نيسان (أبريل) الماضي أكثر من 84 مدينة وبلدة سورية، بدأ السؤال يتصاعد بقوة وهو من يقف وراء الاحتجاجات في سورية؟ وما هو دور المعارضة السورية؟ وهل ستلعب المعارضة في المستقبل دوراً في توجيه مسار الأمور في سورية فيما لو سقط النظام السوري الحالي كنتيجة لتصاعد الاحتجاجات واتساعها؟
لا بد من القول في البداية أن الانتفاضة السورية هي انتفاضة شعبية غير منظمة من دون قيادة محددة ولا تحمل أية أيديولوجيا محددة. إنها شبيهة تماماً بالحالة التونسية أكثر منها بالمصرية حيث لعبت الحركات الشبابية مثل حركة 6 أبريل أو مجموعة «كلنا خالد سعيد» دوراً محورياً في تحديد يوم الخروج للتظاهر ضد نظام الرئيس مبارك في يوم عيد الشرطة في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، لكن في الحالة السورية وبحكم شدة القبضة الأمنية فقد كان من المستحيل تماماً وجود حالات منظمة أو شبه منظمة لحركات شعبية حتى ولو نشطت في السر، ولذلك وجدنا عشوائية كبيرة في مناطق خروج التظاهرات في كل المدن السورية تقريباً ومن دون تنظيم مسبق، وعشوائية أخرى في طريقة رفع الشعارات رغم تركيزها الكبير على الحرية والكرامة التي هي بالتأكيد العنوان الرئيسي للثورة السورية، كرد على احتقار الدولة الأمنية السورية لطريقة التعامل مع مواطنيها.
لكن مع تطور الاحتجاجات كانت التظاهرات تزداد حجماً من أسبوع إلى آخر كما أن المطالب والشعارات تزداد جرأة في الوقت نفسه، حتى توحدت بشكل ما تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، هذا الشعار الشهير الذي بدأ من تونس وتردد في مصر ونجح في إسقاط نظامين من أكثر الأنظمة القمعية في المنطقة العربية.
كان من الطبيعي بعد ذلك أن يخرج قادة ميدانيون في كل مدينة قادرون على تنظيم التظاهرات وحركتها ومحتوى الشعارات التي يجب أن ترفع، وقد لعب هؤلاء القادة الميدانيون دوراً محورياً في تصاعد هذه الاحتجاجات. وبالرغم من أنهم ما زالوا حتى هذه المرحلة أشبه بالقادة المحليين ولم يرتقوا كي يصبحوا قادة على المستوى الوطني، فهذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، إلا أن طريقة تنظيم التظاهرات تعكس أن هناك تنسيقاً ما بدأ يؤتي بثماره في تنظيم التظاهرات على المستوى الوطني.
لقد لعب المسجد بكل تأكيد دوراً محورياً بخاصة في مراكز المدن الرئيسية في استخدامه كنقطة بدء للتظاهرات أكثر من كونه موجهاً لها، فتطبيق قانون الطوارئ في سورية لمدة تزيد عن 47 سنة لم يؤدِّ فقط إلى حظر التظاهرات والتجمعات وإنما قضى على التقاليد الضرورية لتمرين الشباب على الخروج والتظاهر من أجل المطالبة بحقوقهم، وهي الحالة التي وجدناها تماماً في أميركا اللاتينية حيث لعبت الكنيسة دوراً رئيسياً في قيادة الاحتجاجات ضد الأنظمة العسكرية هناك ولذلك أطلق عليها ما سمي بلاهوت التحرير.
في الحقيقة لا ينتمي أي من هؤلاء القادة الميدانيين إلى أي من الأحزاب السياسية الأيديولوجية التقليدية، بل ربما يحاذرون الانتساب إليها أو حتى فتح حوار مع قادتها حول أفكارها التي لم تعد جاذبة لهم ولحركتهم.
وعلى ذلك فإنه يمكن تقسيم المعارضة السورية اليوم إلى ثلاثة أنواع رئيسية تلعب دوراً في تصاعد الاحتجاجات الحالية في سورية:
- المعارضة التقليدية: وهي تشمل أحزاب المعارضة التقليدية التي أبعدت أو رفضت الدخول في «الجبهة الوطنية التقدمية» الحاكمة التي تشكلت في عام 1972 ثم انتظمت في ما يسمى «التجمع الوطني الديموقراطي» في عام 1983 وهي تشمل حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الشعب الديموقراطي وحزب العمال الثوري وحزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي، وكما نلحظ فإنه يغلب التوجه القومي واليساري على توجهات كل الأحزاب المنخرطة في هذا التجمع، وهناك أيضاً «الإخوان المسلمون» الذين خاضوا صراعاً مسلحاً مع السلطات السورية في ثمانينات القرن الماضي خلّف عشرات الآلاف من القتلى وقامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال أكثر من مئة ألف خلال فترة الثمانينات والتسعينات من أجل قمع الاحتجاجات وإلى الآن يوجد أكثر من 17 مفقوداً لا تعرف عائلاتهم مصيرهم، وقد أصدرت السلطات السورية القانون رقم 49 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب إلى «الإخوان المسلمين».
ولذلك فتواجدهم على الأرض انعدم تماماً مع بقاء بعض التعاطف تجاههم كونهم تحمّلوا الكثير من القمع والاضطهاد، لكن في الوقت نفسه هناك من يحمّلهم من السوريين المسؤولية عن حملهم السلاح ويلقي باللائمة عليهم بالرغم من أنه يدرك تماماً أن المسؤولية الكاملة إنما تقع على عاتق الدولة، ولذلك فإن تأثيرهم في هذه الأحداث ضعيف تماماً حتى بعد أن اتخذوا قرارهم بدعم الاحتجاجات في سورية.
وقد استطاعت المعارضة السورية وتحديداً بعد عام 2005 أن ترتقي خطوة أخرى باتجاه تجميع جهودها تحت مظلة ما يسمى «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي»، وقد ضم تحت مظلته بالإضافة إلى التجمع شخصيات مستقلة، كما أعلن «الإخوان المسلمون» السوريون الموجودون خارج سورية عن تأييدهم لهذا الإعلان والانضمام إليه.
كل هؤلاء لعبوا دوراً ثانوياً في قيادات التظاهرات أم حتى التحريض للخروج فيها، بل ولم تظهر أحزاب المعارضة التقليدية تلك القيادة الضرورية لتوجيه التظاهرات وتحقيق ضغط أكبر على النظام من أجل رحيله والتحول باتجاه نظام ديموقراطي كما تطالب كل وثائقها السياسية التي صدرت خلال العقود الماضية، لكن لا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه القيادات لعب دوراً محلياً في توجيه التظاهرات وقيادتها ولكن في مرحلة متأخرة كما فعل حزب الاتحاد الاشتراكي في تصاعد التظاهرات في مدينة دوما بالقرب من مدينة دمشق حتى زادت الأرقام عن 50 ألف متظاهر.
لكن لا بد من القول هنا أنه وبحكم خبرة أعضائها السياسية الطويلة فإن هذه المعارضة التقليدية تتمتع بالخبرة السياسية الضرورية في التفاوض ربما من أجل إدارة المرحلة الانتقالية القادمة في المستقبل، وربما ولهذا السبب قامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال كل قياداتها بالرغم من أنها تدرك تماماً دورهم المحدود في إخراج التظاهرات، لكنها رغبت في منع هؤلاء القادة من تطوير البديل المناسب والضروري، بحيث يبقى النظام السوري ممسكاً بكل خيوط اللعبة ومهدداً بنفس الوقت بأن الفوضى هي البديل الوحيد عنه.
- أما النوع الثاني من المعارضة فهم القادة الميدانيون، فقد برز خلال هذه التظاهرات نوع جديد من القادة هو ما أشرنا إليه بأنهم قادة ميدانيون يتمتعون بالاحترام داخل مدنهم المحلية وأثبتوا قدرة على القيادة وتنظيم التظاهرات وتوجيهها، وفي نفس الوقت امتلكوا القدرة على امتلاك خطاب صلب مناهض للنظام بالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشون فيها مما شجع الكثيرين على الخروج والتظاهر، وهم ينتمون جميعاً إلى الطبقة الوسطى وذات تحصيل علمي عال. إن كل هؤلاء القادة الميدانيين إما معتقلون أو يعيشون متخفين خوف الاعتقال مما يصعب مهمتهم، لكن وكما قلنا فلما كانت هذه الانتفاضة لا تملك قيادة خاصة بها فإن من المستحيل على النظام قمعها عبر اعتقال قياداتها لأنه كل يوم تقريباً تظهر قيادات جديدة تقود التظاهرات وتحرض عليها.
- أما النوع الثالث من المعارضة التي برزت خلال هذه الانتفاضة فهم النشطاء الحقوقيون ونشطاء الإنترنت الذين أبدوا قدرة رائعة ونادرة على كشف انتهاكات حقوق الإنسان وفضحها وتمرير هذه المعلومات إلى المنظمات الحقوقية الدولية مما ساعد في كشف حجم الجرائم المرتكبة من قبل قوات الأمن السورية وزاد من حجم الانتقادات من قبل المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، وهو ما زاد من حجم الضغوط الدولية التي كان أبرزها صدور قرار من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإرسال لجنة تحقيق دولية إلى سورية للتحقيق في كل انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت خلال الأشهر الماضية.
وفي النهاية هناك دور المعارضة السورية في الخارج، فتصاعد الانتفاضة قرّبها كثيراً من الداخل بحيث تلعب الآن الدور المحوري والأساسي في إيصال صوت السوريين إلى الخارج عبر الإعلام بحكم منع تواجد الإعلام والصحافة في كل المدن السورية. هذه المعارضة أتاحت لها لقاءاتها السياسية تصاعد الضغوط الدولية على النظام السوري، كما تمكنت من شرح وجهة نظر المعارضة في الداخل بحكم اعتقال معظم قياداتها أو منعهم من السفر.
سوريا تنزف
أوكتافيا نصر
ما هي المدينة التالية التي ستلقى نصيبها من الهجوم السوري؟ أي "عدو" ستواجه سوريا هذا الأسبوع؟ أي واحدة من ترساناتها ستستعمل في معركتها ضد نفسها؟ أي كابوس ستزرعه في قلوب شعبها؟
كم مواطناً سورياً سيموت بعد قبل أن يدرك الرئيس بشار الأسد أنه حان الوقت ليعتدل او يعتزل؟
بعد الكثير من المدن السورية، بدأت الزوارق الحربية السورية قصف اللاذقية. وقد أعرب سكّان المدينة الساحلية عن شعورهم بالخوف والقلق، فيما تحدّثت التقارير الإعلامية عن "قصف الزوارق الحربية الثقيلة" المدينة الأحد، وأوردت "بي بي سي" أن مرفأ اللاذقية تعرّض لـ"هجوم عسكري دموي". لقي كثرٌ حتفهم من جرّاء الهجمات، ويخشى الناس أن الأسوأ لا يزال ينتظرهم؛ فالكلام عن احتمال حصول إبادة لم يعد بعيداً من الواقع. في وجه الهجوم المتواصل والمتصاعد، يبدو أن المعارضة للرئيس الأسد تنمو داخلياً وخارجياً.
بعد خمسة أشهر من انطلاق الانتفاضة السورية، ثمة أمر أكيد: الرئيس الأسد في مأزق لكنّه متمسّك بالسلطة وهو مستعدّ للذهاب الى النهاية في استخدام كل الوسائل العنفية المتوافرة لديه. إنه يطبّق القول العربي المأثور "يا غالب يا مغلوب" ولا يقبل بحل وسط بين الاثنين. بعبارة أخرى، لا يهمّه التوصل إلى تسوية للنزاع يخرج الجميع منها منتصرين. ومن المؤكّد أنه لا يهمّه أن تخرج سوريا منتصرة. فعلى غرار نظرائه، ولا سيما منهم صدام حسين وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح وسواهم، يعتقد أنه يستطيع أن يكون الفائز الوحيد.
وكانت دول الخليج قد استدعت في وقت سابق سفراءها في دمشق احتجاجاً على لجوء النظام السوري إلى القوّة ضدّ شعبه. وأصدر العاهل السعودي إدانة شديدة اللهجة، فيما دعت تركيا إلى وقف العنف فوراً. تزداد سوريا الأسد عزلةً، ومع ذلك ليست ثمة مؤشرات لانحسار العنف على الأرض، ولا تلوح في الأفق أي نهاية منطقية للأزمة.
تحتل سوريا صدارة الاهتمامات على شبكات التواصل الاجتماعي مثل "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب". يبدي الناشطون عبر هذه المواقع دعماً قوياً جداً للبلاد وشعبها. لا يمكن تجاهل المعارضة التي ترفع صوتها عالياً ضد بشار الأسد في أنحاء العالم. تشكّل هذه الشبكات فسحة يتشاطر فيها المشتركون الأخبار وأشرطة الفيديو والمعلومات والمستجدّات. من خلالها ينفِّسون غضبهم وينظّمون حملات للتضامن مع معاناة الشعب السوري والشعوب الأخرى. الأهم هو أن شبكات التواصل الاجتماعي تتيح للجميع التعبير عن آرائهم، وكثرٌ لا يوفّرون جهداً لاستخدامها.
خلال شهر رمضان الكريم، ركّز الناشطون جهودهم على تسليط الضوء على الهجوم الذي شنّته القوّات السورية على مدينة حماه، وأطلقوا عليه اسم "مجزرة هلال رمضان". والأسبوع المنصرم شنّوا حملة بعنوان "سوريا تنزف". يبدو أن التطوّرات في سوريا ستظلّ الخبر الرئيسي هذا الأسبوع، فيما تستمرّ الأنباء عن إصدار الأسد أوامر بإرسال الدبّابات إلى القرى بينما يتواصل قصف المدنيين جواً وبحراً.
لقد أصبحت سوريا بكاملها مقبرة للكثير من المدنيين الأبرياء، وحيث من يُفترَض فيهم أن يؤمّنوا الحماية للشعب هم من يصدرون الأوامر ويرتكبون المجازر. في مرحلة ما، سيُدرك منفِّذو الأوامر أنهم يقتلون شعبهم وعائلاتهم. وعندئذٍ سينعطفون ويتمرّدون على من يصدرون الأوامر. يجب أن يشعر الأسد بالخوف، لأنه يبدو أن هذا اليوم لناظره قريب.
ما هي المدينة التالية التي ستلقى نصيبها من الهجوم السوري؟ أي "عدو" ستواجه سوريا هذا الأسبوع؟ أي واحدة من ترساناتها ستستعمل في معركتها ضد نفسها؟ أي كابوس ستزرعه في قلوب شعبها؟
كم مواطناً سورياً سيموت بعد قبل أن يدرك الرئيس بشار الأسد أنه حان الوقت ليعتدل او يعتزل؟
بعد الكثير من المدن السورية، بدأت الزوارق الحربية السورية قصف اللاذقية. وقد أعرب سكّان المدينة الساحلية عن شعورهم بالخوف والقلق، فيما تحدّثت التقارير الإعلامية عن "قصف الزوارق الحربية الثقيلة" المدينة الأحد، وأوردت "بي بي سي" أن مرفأ اللاذقية تعرّض لـ"هجوم عسكري دموي". لقي كثرٌ حتفهم من جرّاء الهجمات، ويخشى الناس أن الأسوأ لا يزال ينتظرهم؛ فالكلام عن احتمال حصول إبادة لم يعد بعيداً من الواقع. في وجه الهجوم المتواصل والمتصاعد، يبدو أن المعارضة للرئيس الأسد تنمو داخلياً وخارجياً.
بعد خمسة أشهر من انطلاق الانتفاضة السورية، ثمة أمر أكيد: الرئيس الأسد في مأزق لكنّه متمسّك بالسلطة وهو مستعدّ للذهاب الى النهاية في استخدام كل الوسائل العنفية المتوافرة لديه. إنه يطبّق القول العربي المأثور "يا غالب يا مغلوب" ولا يقبل بحل وسط بين الاثنين. بعبارة أخرى، لا يهمّه التوصل إلى تسوية للنزاع يخرج الجميع منها منتصرين. ومن المؤكّد أنه لا يهمّه أن تخرج سوريا منتصرة. فعلى غرار نظرائه، ولا سيما منهم صدام حسين وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح وسواهم، يعتقد أنه يستطيع أن يكون الفائز الوحيد.
وكانت دول الخليج قد استدعت في وقت سابق سفراءها في دمشق احتجاجاً على لجوء النظام السوري إلى القوّة ضدّ شعبه. وأصدر العاهل السعودي إدانة شديدة اللهجة، فيما دعت تركيا إلى وقف العنف فوراً. تزداد سوريا الأسد عزلةً، ومع ذلك ليست ثمة مؤشرات لانحسار العنف على الأرض، ولا تلوح في الأفق أي نهاية منطقية للأزمة.
تحتل سوريا صدارة الاهتمامات على شبكات التواصل الاجتماعي مثل "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب". يبدي الناشطون عبر هذه المواقع دعماً قوياً جداً للبلاد وشعبها. لا يمكن تجاهل المعارضة التي ترفع صوتها عالياً ضد بشار الأسد في أنحاء العالم. تشكّل هذه الشبكات فسحة يتشاطر فيها المشتركون الأخبار وأشرطة الفيديو والمعلومات والمستجدّات. من خلالها ينفِّسون غضبهم وينظّمون حملات للتضامن مع معاناة الشعب السوري والشعوب الأخرى. الأهم هو أن شبكات التواصل الاجتماعي تتيح للجميع التعبير عن آرائهم، وكثرٌ لا يوفّرون جهداً لاستخدامها.
خلال شهر رمضان الكريم، ركّز الناشطون جهودهم على تسليط الضوء على الهجوم الذي شنّته القوّات السورية على مدينة حماه، وأطلقوا عليه اسم "مجزرة هلال رمضان". والأسبوع المنصرم شنّوا حملة بعنوان "سوريا تنزف". يبدو أن التطوّرات في سوريا ستظلّ الخبر الرئيسي هذا الأسبوع، فيما تستمرّ الأنباء عن إصدار الأسد أوامر بإرسال الدبّابات إلى القرى بينما يتواصل قصف المدنيين جواً وبحراً.
لقد أصبحت سوريا بكاملها مقبرة للكثير من المدنيين الأبرياء، وحيث من يُفترَض فيهم أن يؤمّنوا الحماية للشعب هم من يصدرون الأوامر ويرتكبون المجازر. في مرحلة ما، سيُدرك منفِّذو الأوامر أنهم يقتلون شعبهم وعائلاتهم. وعندئذٍ سينعطفون ويتمرّدون على من يصدرون الأوامر. يجب أن يشعر الأسد بالخوف، لأنه يبدو أن هذا اليوم لناظره قريب.
المعضلة الطائفية في التحول الديموقراطي السوري
جهاد الزين
ما هي التركيبة الاجتماعية للسلطة في الزمن الآتي بعد تراكم 90 عاما شهد مأزقين: مدينيا (1958) وريفيا (2011) في بنية النخب الحاكمة؟
يمكن النظر الى التاريخ السوري المعاصر من زاوية سوسيو- سياسية على انه منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى وسقوط الدولة الفيصلية في دمشق، ينقسم الى حقبتين:
حقبة سيطرة اعيان المدن الكبرى ولاسيما دمشق وحمص وحلب وحماه، السيطرة التي امتدت من العام 1920 حتى العام 1958، اما الحقبة الثانية فهي حقبة سيطرة حزبيي الارياف بقيادة العسكريين والتي امتدت الى اليوم... 2011.
في ضوء هذا التوصيف الاجتماعي للتاريخ السياسي السوري المعاصر فان الازمة الداخلية السورية المتفجرة اليوم هي حصيلة "نهايتين": افلاس نمط قيادة اعيان المدن للدولة السورية الذي عبر عن نفسه بـ"تسليم" عبد الناصر للسلطة في سوريا عام 1958 وهو ما سيتحول الى استلام نهائي للحزبيين الريفيين مع انقلاب1966... حقبة ستمتد اكثر من اربعة عقود ونصف العقد... هي التي نشهد "نهايتها" حاليا ولا نعرف بالضبط كم ستطول؟ وليس اوضح من البيان الختامي الصادر امس عن "اللقاء التشاوري للحوار الوطني" والذي ترأسه نائب رئيس الجمهورية في الاعلان "الرسمي" عن هذه "النهاية".
اذن السؤال الجوهري في سوريا الراهنة من منظور البنية الداخلية للبلد والدولة هو: ما هي التركيبة الاجتماعية الجديدة للسلطة في الزمن "الديموقراطي" الآتي بعد تراكم تسعين عاما ادى الى "افلاسين" مديني وريفي في بنية النخب الحاكمة السابقة والحالية؟
لكن لا يمكن الاكتفاء بهذه الصياغة للتاريخ السوري المعاصر بدون التشديد على ان نخبة اعيان المدن قبل ان" تفلس" سياسيا بشكل نهائي كانت قد نجحت في توحيد الدويلات السورية الاربع، دمشق وحلب والعلويين والدروز، في كيان واحد هو الجمهورية العربية السورية التي نعرفها اليوم او ما سمي ذات يوم "جمهورية ما تبقى من سوريا" اي بدون المناطق التي ضمتها فرنسا بطلب ماروني – مسيحي الى لبنان (والتي اظن ان موارنة جبل لبنان غيروا رأيهم تجاهها وما عادوا يرغبون بها منذ العام 1975!) كما بدون لواء الاسكندرون وفلسطين الانتدابية واجزاء من حوران وشرق الاردن. كذلك ستتمكن طبقة اعيان المدن من تحقيق الاستقلال عن فرنسا في الاربعينات قبل ان يبدأ تعثرها العميق الارتدادات على مصيرها كله كطبقة حاكمة امام المنعطف الهائل الذي شكله تأسيس اسرائيل عام 1948 وهو التأسيس الذي سيؤدي عمليا الى الهاوية بالبورجوازيات العربية الحاكمة في سوريا والعراق ومصر وليبيا والسودان وسيقضي بالنتيجة على العصر الذهبي لليبرالية العربية الذي امتد في النصف الاول من القرن العشرين.
اما حزبيو الارياف السورية بقيادة الضباط فقد ضيقوا، لاشك، الهوة الاجتماعية الاقتصادية الانمائية بين الريف والمدينة، كما شهدت العاصمة دمشق ترييفا افقيا هائلا ضاعف عدد سكانها فنقلها في نصف قرن من نصف مليون الى اكثر من خمسة ملايين فيما مدن اخرى كاللاذقية وطرطوس تبدلت معالمها الديموغرافية تبدلا جعل باحثا فرنسيا كفابريس بالانش وهو مؤلف كتاب "السلطة السورية والمنطقة العلوية" يكتب مؤخرا ان عدد السكان العلويين زاد بنسب محدودة عن عدد السكان السنة في اللاذقية وجبلة وبانياس فيما وصلت النسبة في طرطوس الى65 بالماية (ع) والى 35 بالماية (س). لكن لايجب ان ننسى ان هذه النسب تتعلق بمدن الساحل في حين ان الفارق على المستوى السوري العام هو 70 الى 80 بالماية سُنّة مقابل 10 الى 15 بالماية هم علويون. وعموما يقدر البعض كل الاقليات الدينية والمذهبية في سوريا بين ربع الى ثلث السكان مقابل ثلاثة ارباع الى ثلثين من السنة (توفيق كسبار في دراسته عن العلاقات الاقتصادية اللبنانية السورية المنجزة مؤخرا يورد رقم 20 مليونا واربعماية الف نسمة هم عدد سكان سوريا الاجمالي بالاستناد الى الاحصاءات الرسمية السورية لعام 2009).
لقد توسل ريفيو السلطة الاقوياء العلاقات القانونية للتمركز في دمشق الصغرى والكبرى ولكنهم غضوا النظر بشكل مثير عن انتشار احياء سكنية غير مرخصة في ضواحي دمشق الغربية والجنوبية (قرب المخيم الفلسطيني) فانتشر الريفيون الفقراء، عسكريين ومدنيين، من اكراد وحوارنة وعلويين وغيرهم منذ السبعينات يبنون داخل حدود دمشق (بما فيها بعض سفوح قاسيون) وحولها بلا ترخيص. لكن الدولة خلافا لبلدان اخرى كانت تسارع في العديد من الحالات الى مد بنية خدمات صحية للمناطق غير القانونية. وقد اذهلني منذ حوالى العام ونصف العام اعتراف مجلة سورية صادرة بالانكليزية وقريبة من السلطة وبقلم خبير تنظيم مدني اوروبي بأن حجم مخالفات البناء في دمشق الكبرى يصل الى الخمسين بالماية. وان "أربعين بالماية من سكان المدن الكبرى يعيشون في مساكن مخالفة للقوانين".
حقق ريفيو السلطة استقرارا سياسيا وامنيا طويل الامد وغيروا توزيع الثروة السورية. ورغم الاحتكارات التي بلغت حدا فضائحيا فسيبقى الانطباع بالنتيجة اذا تمكنت سوريا من عبور مرحلة انتقالية بشكل سلمي ان اجحاف حقبة اعيان المدن الفضائحية بحق الارياف على اكثر من مستوى قد ردت عليها الحقبة الريفية بتسلط غير ديموقراطي بوليسي ادى تاريخيا الى احداث توزيع جديد للثروة رغم وسائل الفساد المستفحلة في المدن والفجوات التنموية الخطرة التي لا تزال تطبع الارياف السورية والنمو المركزي الفاحش للعاصمة حتى بوجود السدود الكبيرة وشبكة الطرقات الشاسعة والمرافئ المتوسعة.
لكن الظاهرة التي تخللت بشكل بارز الاحداث السورية هي لعب الارياف أو التجمعات السكانية الكبيرة في الارياف من درعا الى محيط دمشق الى جسر الشغور جنوب ادلب دورا اساسيا في اطلاق الاحتجاجات الشعبية وتفعيلها قبل انتقالها الى مناطق اخرى. هذا عنى في جملة ما عناه ان التوصيف التقليدي السابق لاصول النخب الحاكمة الريفية لم يعد بدوره كافيا لاعتماد التحليل السياسي اعتمادا وحيد الجانب على ثنائية "المدينة – الريف" بعدما بدا حجم التململ الريفي، الناتج عن سوء الاوضاع الاقتصادية التي تعيشها شرائح واسعة، كبيرا في مواجهة الجيل الثاني من السلطة الريفية او الادق ذات الاصول الريفية لأن هذا الجيل الثاني عاش في دمشق معظم حياته واصبح جزءا من نسيج طبقتها العليا المتعددة الطوائف بين البورجوازيتين القديمة والجديدة.
الذي اريد ان اصل اليه هنا ان الافق الديموقراطي الاكيد الذي تدخل اليه سوريا ضمن التحولات العربية ليس واضحا حتى الآن ما اذا كان سيأخذ منحى سلميا في المستقبل ام يتجه الى الحرب الاهلية (ونحن اللبنانيين نعرف ان الحرب الاهلية هي ايضا ظاهرة تكوينية في "ديموقراطيتنا" الطائفية –المذهبية)... هذا الافق الديموقراطي له مضمون طائفي اكثري/اقلاوي- مديني/ريفي – اسلامي/ مسيحي. وحول النقطة الاخيرة، هناك خاصية في تاريخ سوريا خلال القرن ونيف الماضي هي انها منذ اواخر العهد العثماني شكلت ملاذا فعليا للاقليات المسيحية بدأ مع قوافل الهاربين الارمن والسريان من الاناضول وكيليكيا خلال الحرب العالمية الاولى وسنوات الاضطراب التي تلتها قبل استتباب الامر لمصطفى كمال اتاتورك في تلكما المنطقتين ثم امتد الملاذ السوري مع استقبال الانتداب الفرنسي في منطقة الجزيرة لقوافل الهاربين الاشوريين من شمال العراق في الثلاثينات من القرن الماضي بعد قمع الجيش العراقي الملكي للتمرد الاشوري على الدولة المركزية ثم في التسعينات والعقد الاخير مع استقبال عشرات آلاف المسيحيين (ومئات آلاف المسلمين العراقيين) الهاربين من الجحيم العراقي في حين يعيش معظم المسيحيين السوريين الاصليين وضعا من الازدهار الاجتماعي. وبدون معرفة هذه الخلفية لا يمكن فهم الموقف المسيحي "الهادئ جدا" في الاحداث الجارية. حتى احداث 1860 في دمشق، التي تذهب في الاتجاه المعاكس للشواهد السابقة، قد تكون في الذاكرة التي تحفظها الكنائس مؤشرا على مخاطر التطرف الشارعي.
تحمل سوريا سمة مصرية من زاوية انطوائها كمصر على مسألة طائفية في دولة مركزية قوية ذات جيش قوي وهذا الى الآن يختلف عن الوضع اللبناني المتمثل بالدولة الضعيفة التي باتت تتقاذفها الطائفيات ليس ككرة بل كحذاء مهترئ.
يجب ان تأخذ المسألة الطائفية في سوريا المنحى الذي يليق بدولة فعلية تستعد للانتقال الصعب الى "التعددية" وفق تعبير فاروق الشرع.
لقد خذلتنا النخبة العراقية الجديدة بعد عام 2003 عندما قدمت نموذجا لبنانيا – بل اسوأ- للحرب الاهلية والفساد الوقح. وكم كان العديد من الليبراليين واليساريين العراقيين المعارضين قبل سقوط نظام صدام حسين يرفضون مجرد المقارنة بالطائفية اللبنانية معتبرين النسيج العراقي اكثر تماسكا وطنيا!! بعض المعارضين العلمانيين السوريين- لاسيما في الداخل - يبدون اكثر واقعية من "اسلافهم" العراقيين من حيث اعترافهم بوطأة المسألة الطائفية كأحد تحديات الانتقال الديموقراطي السوري كما تظهرها سطور واضحة في كتاباتهم.
النخب السورية من كل الاطياف والمواقع داخل السلطة وخارجها هل بامكانها تقديم نموذج للتحول الديموقراطي الذي يحمل من ضمنه مشروع تأسيس مصالحة طائفية مناطقية سلمية على غرار "المصالحة" بين الجنوب والشمال بعد الحرب الاهلية الاميركية؟ الفارق الجوهري انها "مصالحة" يجب ان تستبق الحرب الاهلية فتحول دونها كمهمة اساسية من بين مهمات بناء نظام سياسي جديد. دعونا نجازف بالتفاؤل في هذا السياق فقد سبق لسوريا في الخمسينات والستينات ان حصرت "الحرب الاهلية" داخل مؤسسات الدولة ومنعت انفلاتها في المجتمع على النمط اللبناني؟؟
هذه مصالحات تكرسها عادة على المدى الابعد تحالفات جديدة بين قوى اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في ظل نظام اول شروطه البنيوية ان تحمل الاكثرية- وهذا زمن عودة الاكثريات من كل الانواع - مشروعا ديموقراطيا بل مشاريع ديموقراطية.
ما هي التركيبة الاجتماعية للسلطة في الزمن الآتي بعد تراكم 90 عاما شهد مأزقين: مدينيا (1958) وريفيا (2011) في بنية النخب الحاكمة؟
يمكن النظر الى التاريخ السوري المعاصر من زاوية سوسيو- سياسية على انه منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى وسقوط الدولة الفيصلية في دمشق، ينقسم الى حقبتين:
حقبة سيطرة اعيان المدن الكبرى ولاسيما دمشق وحمص وحلب وحماه، السيطرة التي امتدت من العام 1920 حتى العام 1958، اما الحقبة الثانية فهي حقبة سيطرة حزبيي الارياف بقيادة العسكريين والتي امتدت الى اليوم... 2011.
في ضوء هذا التوصيف الاجتماعي للتاريخ السياسي السوري المعاصر فان الازمة الداخلية السورية المتفجرة اليوم هي حصيلة "نهايتين": افلاس نمط قيادة اعيان المدن للدولة السورية الذي عبر عن نفسه بـ"تسليم" عبد الناصر للسلطة في سوريا عام 1958 وهو ما سيتحول الى استلام نهائي للحزبيين الريفيين مع انقلاب1966... حقبة ستمتد اكثر من اربعة عقود ونصف العقد... هي التي نشهد "نهايتها" حاليا ولا نعرف بالضبط كم ستطول؟ وليس اوضح من البيان الختامي الصادر امس عن "اللقاء التشاوري للحوار الوطني" والذي ترأسه نائب رئيس الجمهورية في الاعلان "الرسمي" عن هذه "النهاية".
اذن السؤال الجوهري في سوريا الراهنة من منظور البنية الداخلية للبلد والدولة هو: ما هي التركيبة الاجتماعية الجديدة للسلطة في الزمن "الديموقراطي" الآتي بعد تراكم تسعين عاما ادى الى "افلاسين" مديني وريفي في بنية النخب الحاكمة السابقة والحالية؟
لكن لا يمكن الاكتفاء بهذه الصياغة للتاريخ السوري المعاصر بدون التشديد على ان نخبة اعيان المدن قبل ان" تفلس" سياسيا بشكل نهائي كانت قد نجحت في توحيد الدويلات السورية الاربع، دمشق وحلب والعلويين والدروز، في كيان واحد هو الجمهورية العربية السورية التي نعرفها اليوم او ما سمي ذات يوم "جمهورية ما تبقى من سوريا" اي بدون المناطق التي ضمتها فرنسا بطلب ماروني – مسيحي الى لبنان (والتي اظن ان موارنة جبل لبنان غيروا رأيهم تجاهها وما عادوا يرغبون بها منذ العام 1975!) كما بدون لواء الاسكندرون وفلسطين الانتدابية واجزاء من حوران وشرق الاردن. كذلك ستتمكن طبقة اعيان المدن من تحقيق الاستقلال عن فرنسا في الاربعينات قبل ان يبدأ تعثرها العميق الارتدادات على مصيرها كله كطبقة حاكمة امام المنعطف الهائل الذي شكله تأسيس اسرائيل عام 1948 وهو التأسيس الذي سيؤدي عمليا الى الهاوية بالبورجوازيات العربية الحاكمة في سوريا والعراق ومصر وليبيا والسودان وسيقضي بالنتيجة على العصر الذهبي لليبرالية العربية الذي امتد في النصف الاول من القرن العشرين.
اما حزبيو الارياف السورية بقيادة الضباط فقد ضيقوا، لاشك، الهوة الاجتماعية الاقتصادية الانمائية بين الريف والمدينة، كما شهدت العاصمة دمشق ترييفا افقيا هائلا ضاعف عدد سكانها فنقلها في نصف قرن من نصف مليون الى اكثر من خمسة ملايين فيما مدن اخرى كاللاذقية وطرطوس تبدلت معالمها الديموغرافية تبدلا جعل باحثا فرنسيا كفابريس بالانش وهو مؤلف كتاب "السلطة السورية والمنطقة العلوية" يكتب مؤخرا ان عدد السكان العلويين زاد بنسب محدودة عن عدد السكان السنة في اللاذقية وجبلة وبانياس فيما وصلت النسبة في طرطوس الى65 بالماية (ع) والى 35 بالماية (س). لكن لايجب ان ننسى ان هذه النسب تتعلق بمدن الساحل في حين ان الفارق على المستوى السوري العام هو 70 الى 80 بالماية سُنّة مقابل 10 الى 15 بالماية هم علويون. وعموما يقدر البعض كل الاقليات الدينية والمذهبية في سوريا بين ربع الى ثلث السكان مقابل ثلاثة ارباع الى ثلثين من السنة (توفيق كسبار في دراسته عن العلاقات الاقتصادية اللبنانية السورية المنجزة مؤخرا يورد رقم 20 مليونا واربعماية الف نسمة هم عدد سكان سوريا الاجمالي بالاستناد الى الاحصاءات الرسمية السورية لعام 2009).
لقد توسل ريفيو السلطة الاقوياء العلاقات القانونية للتمركز في دمشق الصغرى والكبرى ولكنهم غضوا النظر بشكل مثير عن انتشار احياء سكنية غير مرخصة في ضواحي دمشق الغربية والجنوبية (قرب المخيم الفلسطيني) فانتشر الريفيون الفقراء، عسكريين ومدنيين، من اكراد وحوارنة وعلويين وغيرهم منذ السبعينات يبنون داخل حدود دمشق (بما فيها بعض سفوح قاسيون) وحولها بلا ترخيص. لكن الدولة خلافا لبلدان اخرى كانت تسارع في العديد من الحالات الى مد بنية خدمات صحية للمناطق غير القانونية. وقد اذهلني منذ حوالى العام ونصف العام اعتراف مجلة سورية صادرة بالانكليزية وقريبة من السلطة وبقلم خبير تنظيم مدني اوروبي بأن حجم مخالفات البناء في دمشق الكبرى يصل الى الخمسين بالماية. وان "أربعين بالماية من سكان المدن الكبرى يعيشون في مساكن مخالفة للقوانين".
حقق ريفيو السلطة استقرارا سياسيا وامنيا طويل الامد وغيروا توزيع الثروة السورية. ورغم الاحتكارات التي بلغت حدا فضائحيا فسيبقى الانطباع بالنتيجة اذا تمكنت سوريا من عبور مرحلة انتقالية بشكل سلمي ان اجحاف حقبة اعيان المدن الفضائحية بحق الارياف على اكثر من مستوى قد ردت عليها الحقبة الريفية بتسلط غير ديموقراطي بوليسي ادى تاريخيا الى احداث توزيع جديد للثروة رغم وسائل الفساد المستفحلة في المدن والفجوات التنموية الخطرة التي لا تزال تطبع الارياف السورية والنمو المركزي الفاحش للعاصمة حتى بوجود السدود الكبيرة وشبكة الطرقات الشاسعة والمرافئ المتوسعة.
لكن الظاهرة التي تخللت بشكل بارز الاحداث السورية هي لعب الارياف أو التجمعات السكانية الكبيرة في الارياف من درعا الى محيط دمشق الى جسر الشغور جنوب ادلب دورا اساسيا في اطلاق الاحتجاجات الشعبية وتفعيلها قبل انتقالها الى مناطق اخرى. هذا عنى في جملة ما عناه ان التوصيف التقليدي السابق لاصول النخب الحاكمة الريفية لم يعد بدوره كافيا لاعتماد التحليل السياسي اعتمادا وحيد الجانب على ثنائية "المدينة – الريف" بعدما بدا حجم التململ الريفي، الناتج عن سوء الاوضاع الاقتصادية التي تعيشها شرائح واسعة، كبيرا في مواجهة الجيل الثاني من السلطة الريفية او الادق ذات الاصول الريفية لأن هذا الجيل الثاني عاش في دمشق معظم حياته واصبح جزءا من نسيج طبقتها العليا المتعددة الطوائف بين البورجوازيتين القديمة والجديدة.
الذي اريد ان اصل اليه هنا ان الافق الديموقراطي الاكيد الذي تدخل اليه سوريا ضمن التحولات العربية ليس واضحا حتى الآن ما اذا كان سيأخذ منحى سلميا في المستقبل ام يتجه الى الحرب الاهلية (ونحن اللبنانيين نعرف ان الحرب الاهلية هي ايضا ظاهرة تكوينية في "ديموقراطيتنا" الطائفية –المذهبية)... هذا الافق الديموقراطي له مضمون طائفي اكثري/اقلاوي- مديني/ريفي – اسلامي/ مسيحي. وحول النقطة الاخيرة، هناك خاصية في تاريخ سوريا خلال القرن ونيف الماضي هي انها منذ اواخر العهد العثماني شكلت ملاذا فعليا للاقليات المسيحية بدأ مع قوافل الهاربين الارمن والسريان من الاناضول وكيليكيا خلال الحرب العالمية الاولى وسنوات الاضطراب التي تلتها قبل استتباب الامر لمصطفى كمال اتاتورك في تلكما المنطقتين ثم امتد الملاذ السوري مع استقبال الانتداب الفرنسي في منطقة الجزيرة لقوافل الهاربين الاشوريين من شمال العراق في الثلاثينات من القرن الماضي بعد قمع الجيش العراقي الملكي للتمرد الاشوري على الدولة المركزية ثم في التسعينات والعقد الاخير مع استقبال عشرات آلاف المسيحيين (ومئات آلاف المسلمين العراقيين) الهاربين من الجحيم العراقي في حين يعيش معظم المسيحيين السوريين الاصليين وضعا من الازدهار الاجتماعي. وبدون معرفة هذه الخلفية لا يمكن فهم الموقف المسيحي "الهادئ جدا" في الاحداث الجارية. حتى احداث 1860 في دمشق، التي تذهب في الاتجاه المعاكس للشواهد السابقة، قد تكون في الذاكرة التي تحفظها الكنائس مؤشرا على مخاطر التطرف الشارعي.
تحمل سوريا سمة مصرية من زاوية انطوائها كمصر على مسألة طائفية في دولة مركزية قوية ذات جيش قوي وهذا الى الآن يختلف عن الوضع اللبناني المتمثل بالدولة الضعيفة التي باتت تتقاذفها الطائفيات ليس ككرة بل كحذاء مهترئ.
يجب ان تأخذ المسألة الطائفية في سوريا المنحى الذي يليق بدولة فعلية تستعد للانتقال الصعب الى "التعددية" وفق تعبير فاروق الشرع.
لقد خذلتنا النخبة العراقية الجديدة بعد عام 2003 عندما قدمت نموذجا لبنانيا – بل اسوأ- للحرب الاهلية والفساد الوقح. وكم كان العديد من الليبراليين واليساريين العراقيين المعارضين قبل سقوط نظام صدام حسين يرفضون مجرد المقارنة بالطائفية اللبنانية معتبرين النسيج العراقي اكثر تماسكا وطنيا!! بعض المعارضين العلمانيين السوريين- لاسيما في الداخل - يبدون اكثر واقعية من "اسلافهم" العراقيين من حيث اعترافهم بوطأة المسألة الطائفية كأحد تحديات الانتقال الديموقراطي السوري كما تظهرها سطور واضحة في كتاباتهم.
النخب السورية من كل الاطياف والمواقع داخل السلطة وخارجها هل بامكانها تقديم نموذج للتحول الديموقراطي الذي يحمل من ضمنه مشروع تأسيس مصالحة طائفية مناطقية سلمية على غرار "المصالحة" بين الجنوب والشمال بعد الحرب الاهلية الاميركية؟ الفارق الجوهري انها "مصالحة" يجب ان تستبق الحرب الاهلية فتحول دونها كمهمة اساسية من بين مهمات بناء نظام سياسي جديد. دعونا نجازف بالتفاؤل في هذا السياق فقد سبق لسوريا في الخمسينات والستينات ان حصرت "الحرب الاهلية" داخل مؤسسات الدولة ومنعت انفلاتها في المجتمع على النمط اللبناني؟؟
هذه مصالحات تكرسها عادة على المدى الابعد تحالفات جديدة بين قوى اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في ظل نظام اول شروطه البنيوية ان تحمل الاكثرية- وهذا زمن عودة الاكثريات من كل الانواع - مشروعا ديموقراطيا بل مشاريع ديموقراطية.
المعضلة السورية ومآلاتها المحتملة
ياسين الحاج صالح
مع دخول الأزمة الوطنية السورية شهرها السادس، تقف جميع الأطراف المحلية والدولية المعنية بها أمام معضلات عسيرة. الانتفاضة تواجه معضلة. إذا ثابرت على الاعتماد على التظاهرات السلمية أداة احتجاج أساسية لها في مواجهة نظام لا يمتنع عن القتل، تحفظ تفوقها الأخلاقي والوطني، لكنها تدفع ثمناً إنسانياً باهظاً. وهي في الوقت نفسه لا تستطيع مواجهة العنف بالعنف لأسباب مبدئية وعملية معاً، ولا التعويل على التدخل الخارجي لأن من شأنه أن يدرج الانتفاضة في «لعبة الأمم»، فتخسر روحها. فهل يسعها، من دون سند داخلي أو خارجي، تحقيق هدفها الأولي المتمثل في إسقاط النظام؟
الانتفاضة تعالج معضلتها عبر استيعاب ضربات النظام، والاستمرار من جديد. وعبر محاصرة النظام أخلاقياً وإعلامياً، واستنزافه مادياً ومعنوياً، تعمل الانتفاضة على أن يكون الزمن حليفاً لكسب المعركة ضد النظام.
النظام أيضاً أمام معضلة. ما لم يتمكن من تحقيقه بالعنف (الأمني)، لم يتمكن من تحقيقه بمزيد من العنف أيضاً. فهل يمكن لمزيد على المزيد من العنف أن يثمر؟ قصف المدن بالطيران الحربي مثلاً؟ ربما. لكن هذا سيعني تدمير البلد. وماذا يستفيد حكام الغصب من تدمير البلد؟ وماذا سيحكمون أصلاً إن دمروا البلد؟ هذا فوق أن من شأن نهج مجنون كهذا أن يجر تدخلاً دولياً، يتسبب بمزيد من الضرر على سورية، من دون أن يستفيدوا هم منه.
في الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن الاكتفاء بمستوى المزيد من العنف (أمني وميلشياوي وعسكري) أن يطفئ الانتفاضة أو يحد من انتشارها. بل يبدو أن المجتمع السوري يستوعب موجات التصعيد العنفي المتتابعة، ويستأنف احتجاجاته بعزم متجدد. قد يستطيع النظام أن يحجّم لبعض الوقت بعض بؤر الاحتجاج الكثيرة، على نحو ما فعل بدرعا والرستن وتلبيسة وحمص، لكنها عادت بنشاط إلى ميادين الاحتجاج ما إن خف عنها الضغط الأمني والعسكري. والأكيد أنه لا يستطيع إخماد جميع البؤر طوال الوقت. هذا يتجاوز قواه وموارده المادية.
في الوقت نفسه لم يعد ثمة مخرج من دائرة العنف التي أسر النظام نفسه والبلاد فيها. فات أوان مبادرات سياسية أكثر جدية من طرفه، بما في ذلك وقف العنف والإفراج عن معتقلي الانتفاضة. ولم يعد أحد يثق به، ومن شأن تراجعه أن يلهب الاحتجاجات الشعبية أكثر. لقد أحرق النظام ورقته «السياسية»، ولا يبدو أن ورقته العسكرية تجديه نفعاً ما لم تبلغ حد الجنون. فإن بلغته، لا يبقى هناك بلد يحكمه.
ومن وجوه معضلة النظام أن رهانه منصبّ على سحق الانتفاضة بغرض إعادة الأمور لما كانت عليه قبل تفجرها، لكن إذا نجح في مسعاه، فسيدين الحكم للساحقين، أي للشبيحة ومن في حكمهم، وسنعود ثلاثين عاماً إلى الوراء، وليس نصف عام فقط.
وإلى الانتفاضة والنظام، يبدو أن القوى الدولية المعنية بالشأن السوري تواجه معضلة تخصها. فوراء التعارض الظاهر بين غضب القوى الغربية وتركيا الشديد من النظام وبين تواضع مواقفها العملية منه وتعويلها حتى اليوم على أن يتصرف بطريقة مسؤولة، ثمة تضارب في الخيارات: فإذا سكتت هذه القوى على النظام تصرف بطريقة طائشة، تحرجها أمام شعوبها أو قطاعات منها وأمام «المجتمع المدني العالمي»، من دون ضمان أن تبقى مفاعيل طيش النظام النازعة للاستقرار قيد الداخل السوري. وفي الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن التصعيد ضده في صورة عقوبات محددة وضغوط سياسية أن يثمر شيئاً بالنظر إلى الطابع العصبوي المغلق وغير العقلاني للنظام. هذا بينما ليس لهذه القوى مصلحة في تدخل عسكري لا يريده السوريون أيضاً.
الدول العربية المعنية، دول الخليج ومصر والأردن أيضاً في مأزق. فهي لا تستطيع أن تداوم على الصمت بينما يتشكل ما يقارب إجماعاً دولياً على إدانة النظام، وبينما تعلو فيها أصوات داخلية غاضبة ضد سلوكه المتجاوز لكل حد. وهي أيضاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً ضده، بمفردها، ولا يبدو واضحاً لأحد إن كان هناك جهد دولي منظم ضد النظام في وقت قريب أو في أي وقت.
وروسيا في الوضع نفسه. فالنظام لا يوفر لها ما تقنع به نفسها والعالم من مبررات الدفاع عنه ما دام مستمراً في قتل محكوميه، وهي في الوقت نفسه لا تريد أن تساند القوى الغربية وحلف الناتو في عزل النظام وربما ضربه، ما من شأنه أن يعزز الهيمنة الدولية لهذه القوى، ويضعفها هي. وحتى حلفاء النظام الممانعون يبدون مرتبكين. حماس نأت بنفسها مبكراً لأنها لا تستطيع تحمل أكلاف التماهي مع سياسة النظام. وحزب الله توقف عن إطلاق التصريحات المؤيدة له بعد أن رأى ما أثارته من غضب في الشارع السوري، وإن مضت قناة «المنار» في ترداد الرواية الرسمية الكاذبة. وحدها إيران تبدو حاسمة في الوقـوف إلـى جانب النظام حتى النهاية.
وهكذا، تبدو سورية عنواناً لمعضلة جامعة. ففي أي اتجاه يمكن أن تنحل؟
الأمر تابع لتطورات الوضع السوري.
لا ريب أن الاحتمال الأعدل والأوفق للمصلحة الوطنية السورية هو أن تنجح الانتفاضة في إزالة النظام بقواها الذاتية. ستواجه سورية بعد التغيير كل أنواع المشكلات، بدرجة تفوق ما تواجهه مصر وتونس اليوم، لكن لعلها ستكون في وضع أفضل لمعالجة مشكلاتها بالنظر لاتساع قاعدة الانشغال العام، ولتوافق نمط التغيير هذا مع النازع الاستقلالي الذي طبع سورية منذ ما قبل تكون كيانها الحديث قبل أقل من قرن.
الاحتمال الثاني هو «حكم الشبيحة»: أن يحل النظام معضلته بحل سورية، دولة ومجتمعاً وكياناً ومعنى. سيكون هذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للبلد، وسيسجل الانحلال الاجتماعي والأخلاقي مستويات غير مسبوقة، وستسود القسوة ويعم الفساد ويرتفع منسوب الكراهية العام، وستكون سورية معزولة وتعاني من أزمات اقتصادية خانقة، وسنشهد موجة هائلة من هجرة الشباب والأدمغة والكفاءات من البلد.
الاحتمال الثالث هو «لعبة الأمم»، أي تحكم القوى الخارجية، الغربية والعربية، بالداخل السوري. قد تنشأ أوضاع سياسية توفر قدراً أكبر من الحرية، لكنها ستكون أوضاعاً غير مستقرة، وستفقد سورية استقلالها وسيطرتها على مصيرها لسنوات. وهذا لن يتأخر في أن يضع الحرية المكتسبة بمشقة في مواجهة الاستقلال، فيقلل من شأنها.
فرص التسوية الداخلية فاتت. النظام لم يظهر أي استعداد لدفع الثمن (نهاية الحكم الأبدي وحاكمية الاستخبارات)، والانتفاضة لم تعد تقبل بما هو أقل من ذلك.
مع دخول الأزمة الوطنية السورية شهرها السادس، تقف جميع الأطراف المحلية والدولية المعنية بها أمام معضلات عسيرة. الانتفاضة تواجه معضلة. إذا ثابرت على الاعتماد على التظاهرات السلمية أداة احتجاج أساسية لها في مواجهة نظام لا يمتنع عن القتل، تحفظ تفوقها الأخلاقي والوطني، لكنها تدفع ثمناً إنسانياً باهظاً. وهي في الوقت نفسه لا تستطيع مواجهة العنف بالعنف لأسباب مبدئية وعملية معاً، ولا التعويل على التدخل الخارجي لأن من شأنه أن يدرج الانتفاضة في «لعبة الأمم»، فتخسر روحها. فهل يسعها، من دون سند داخلي أو خارجي، تحقيق هدفها الأولي المتمثل في إسقاط النظام؟
الانتفاضة تعالج معضلتها عبر استيعاب ضربات النظام، والاستمرار من جديد. وعبر محاصرة النظام أخلاقياً وإعلامياً، واستنزافه مادياً ومعنوياً، تعمل الانتفاضة على أن يكون الزمن حليفاً لكسب المعركة ضد النظام.
النظام أيضاً أمام معضلة. ما لم يتمكن من تحقيقه بالعنف (الأمني)، لم يتمكن من تحقيقه بمزيد من العنف أيضاً. فهل يمكن لمزيد على المزيد من العنف أن يثمر؟ قصف المدن بالطيران الحربي مثلاً؟ ربما. لكن هذا سيعني تدمير البلد. وماذا يستفيد حكام الغصب من تدمير البلد؟ وماذا سيحكمون أصلاً إن دمروا البلد؟ هذا فوق أن من شأن نهج مجنون كهذا أن يجر تدخلاً دولياً، يتسبب بمزيد من الضرر على سورية، من دون أن يستفيدوا هم منه.
في الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن الاكتفاء بمستوى المزيد من العنف (أمني وميلشياوي وعسكري) أن يطفئ الانتفاضة أو يحد من انتشارها. بل يبدو أن المجتمع السوري يستوعب موجات التصعيد العنفي المتتابعة، ويستأنف احتجاجاته بعزم متجدد. قد يستطيع النظام أن يحجّم لبعض الوقت بعض بؤر الاحتجاج الكثيرة، على نحو ما فعل بدرعا والرستن وتلبيسة وحمص، لكنها عادت بنشاط إلى ميادين الاحتجاج ما إن خف عنها الضغط الأمني والعسكري. والأكيد أنه لا يستطيع إخماد جميع البؤر طوال الوقت. هذا يتجاوز قواه وموارده المادية.
في الوقت نفسه لم يعد ثمة مخرج من دائرة العنف التي أسر النظام نفسه والبلاد فيها. فات أوان مبادرات سياسية أكثر جدية من طرفه، بما في ذلك وقف العنف والإفراج عن معتقلي الانتفاضة. ولم يعد أحد يثق به، ومن شأن تراجعه أن يلهب الاحتجاجات الشعبية أكثر. لقد أحرق النظام ورقته «السياسية»، ولا يبدو أن ورقته العسكرية تجديه نفعاً ما لم تبلغ حد الجنون. فإن بلغته، لا يبقى هناك بلد يحكمه.
ومن وجوه معضلة النظام أن رهانه منصبّ على سحق الانتفاضة بغرض إعادة الأمور لما كانت عليه قبل تفجرها، لكن إذا نجح في مسعاه، فسيدين الحكم للساحقين، أي للشبيحة ومن في حكمهم، وسنعود ثلاثين عاماً إلى الوراء، وليس نصف عام فقط.
وإلى الانتفاضة والنظام، يبدو أن القوى الدولية المعنية بالشأن السوري تواجه معضلة تخصها. فوراء التعارض الظاهر بين غضب القوى الغربية وتركيا الشديد من النظام وبين تواضع مواقفها العملية منه وتعويلها حتى اليوم على أن يتصرف بطريقة مسؤولة، ثمة تضارب في الخيارات: فإذا سكتت هذه القوى على النظام تصرف بطريقة طائشة، تحرجها أمام شعوبها أو قطاعات منها وأمام «المجتمع المدني العالمي»، من دون ضمان أن تبقى مفاعيل طيش النظام النازعة للاستقرار قيد الداخل السوري. وفي الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن التصعيد ضده في صورة عقوبات محددة وضغوط سياسية أن يثمر شيئاً بالنظر إلى الطابع العصبوي المغلق وغير العقلاني للنظام. هذا بينما ليس لهذه القوى مصلحة في تدخل عسكري لا يريده السوريون أيضاً.
الدول العربية المعنية، دول الخليج ومصر والأردن أيضاً في مأزق. فهي لا تستطيع أن تداوم على الصمت بينما يتشكل ما يقارب إجماعاً دولياً على إدانة النظام، وبينما تعلو فيها أصوات داخلية غاضبة ضد سلوكه المتجاوز لكل حد. وهي أيضاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً ضده، بمفردها، ولا يبدو واضحاً لأحد إن كان هناك جهد دولي منظم ضد النظام في وقت قريب أو في أي وقت.
وروسيا في الوضع نفسه. فالنظام لا يوفر لها ما تقنع به نفسها والعالم من مبررات الدفاع عنه ما دام مستمراً في قتل محكوميه، وهي في الوقت نفسه لا تريد أن تساند القوى الغربية وحلف الناتو في عزل النظام وربما ضربه، ما من شأنه أن يعزز الهيمنة الدولية لهذه القوى، ويضعفها هي. وحتى حلفاء النظام الممانعون يبدون مرتبكين. حماس نأت بنفسها مبكراً لأنها لا تستطيع تحمل أكلاف التماهي مع سياسة النظام. وحزب الله توقف عن إطلاق التصريحات المؤيدة له بعد أن رأى ما أثارته من غضب في الشارع السوري، وإن مضت قناة «المنار» في ترداد الرواية الرسمية الكاذبة. وحدها إيران تبدو حاسمة في الوقـوف إلـى جانب النظام حتى النهاية.
وهكذا، تبدو سورية عنواناً لمعضلة جامعة. ففي أي اتجاه يمكن أن تنحل؟
الأمر تابع لتطورات الوضع السوري.
لا ريب أن الاحتمال الأعدل والأوفق للمصلحة الوطنية السورية هو أن تنجح الانتفاضة في إزالة النظام بقواها الذاتية. ستواجه سورية بعد التغيير كل أنواع المشكلات، بدرجة تفوق ما تواجهه مصر وتونس اليوم، لكن لعلها ستكون في وضع أفضل لمعالجة مشكلاتها بالنظر لاتساع قاعدة الانشغال العام، ولتوافق نمط التغيير هذا مع النازع الاستقلالي الذي طبع سورية منذ ما قبل تكون كيانها الحديث قبل أقل من قرن.
الاحتمال الثاني هو «حكم الشبيحة»: أن يحل النظام معضلته بحل سورية، دولة ومجتمعاً وكياناً ومعنى. سيكون هذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للبلد، وسيسجل الانحلال الاجتماعي والأخلاقي مستويات غير مسبوقة، وستسود القسوة ويعم الفساد ويرتفع منسوب الكراهية العام، وستكون سورية معزولة وتعاني من أزمات اقتصادية خانقة، وسنشهد موجة هائلة من هجرة الشباب والأدمغة والكفاءات من البلد.
الاحتمال الثالث هو «لعبة الأمم»، أي تحكم القوى الخارجية، الغربية والعربية، بالداخل السوري. قد تنشأ أوضاع سياسية توفر قدراً أكبر من الحرية، لكنها ستكون أوضاعاً غير مستقرة، وستفقد سورية استقلالها وسيطرتها على مصيرها لسنوات. وهذا لن يتأخر في أن يضع الحرية المكتسبة بمشقة في مواجهة الاستقلال، فيقلل من شأنها.
فرص التسوية الداخلية فاتت. النظام لم يظهر أي استعداد لدفع الثمن (نهاية الحكم الأبدي وحاكمية الاستخبارات)، والانتفاضة لم تعد تقبل بما هو أقل من ذلك.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)