ياسين الحاج صالح
مع دخول الأزمة الوطنية السورية شهرها السادس، تقف جميع الأطراف المحلية والدولية المعنية بها أمام معضلات عسيرة. الانتفاضة تواجه معضلة. إذا ثابرت على الاعتماد على التظاهرات السلمية أداة احتجاج أساسية لها في مواجهة نظام لا يمتنع عن القتل، تحفظ تفوقها الأخلاقي والوطني، لكنها تدفع ثمناً إنسانياً باهظاً. وهي في الوقت نفسه لا تستطيع مواجهة العنف بالعنف لأسباب مبدئية وعملية معاً، ولا التعويل على التدخل الخارجي لأن من شأنه أن يدرج الانتفاضة في «لعبة الأمم»، فتخسر روحها. فهل يسعها، من دون سند داخلي أو خارجي، تحقيق هدفها الأولي المتمثل في إسقاط النظام؟
الانتفاضة تعالج معضلتها عبر استيعاب ضربات النظام، والاستمرار من جديد. وعبر محاصرة النظام أخلاقياً وإعلامياً، واستنزافه مادياً ومعنوياً، تعمل الانتفاضة على أن يكون الزمن حليفاً لكسب المعركة ضد النظام.
النظام أيضاً أمام معضلة. ما لم يتمكن من تحقيقه بالعنف (الأمني)، لم يتمكن من تحقيقه بمزيد من العنف أيضاً. فهل يمكن لمزيد على المزيد من العنف أن يثمر؟ قصف المدن بالطيران الحربي مثلاً؟ ربما. لكن هذا سيعني تدمير البلد. وماذا يستفيد حكام الغصب من تدمير البلد؟ وماذا سيحكمون أصلاً إن دمروا البلد؟ هذا فوق أن من شأن نهج مجنون كهذا أن يجر تدخلاً دولياً، يتسبب بمزيد من الضرر على سورية، من دون أن يستفيدوا هم منه.
في الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن الاكتفاء بمستوى المزيد من العنف (أمني وميلشياوي وعسكري) أن يطفئ الانتفاضة أو يحد من انتشارها. بل يبدو أن المجتمع السوري يستوعب موجات التصعيد العنفي المتتابعة، ويستأنف احتجاجاته بعزم متجدد. قد يستطيع النظام أن يحجّم لبعض الوقت بعض بؤر الاحتجاج الكثيرة، على نحو ما فعل بدرعا والرستن وتلبيسة وحمص، لكنها عادت بنشاط إلى ميادين الاحتجاج ما إن خف عنها الضغط الأمني والعسكري. والأكيد أنه لا يستطيع إخماد جميع البؤر طوال الوقت. هذا يتجاوز قواه وموارده المادية.
في الوقت نفسه لم يعد ثمة مخرج من دائرة العنف التي أسر النظام نفسه والبلاد فيها. فات أوان مبادرات سياسية أكثر جدية من طرفه، بما في ذلك وقف العنف والإفراج عن معتقلي الانتفاضة. ولم يعد أحد يثق به، ومن شأن تراجعه أن يلهب الاحتجاجات الشعبية أكثر. لقد أحرق النظام ورقته «السياسية»، ولا يبدو أن ورقته العسكرية تجديه نفعاً ما لم تبلغ حد الجنون. فإن بلغته، لا يبقى هناك بلد يحكمه.
ومن وجوه معضلة النظام أن رهانه منصبّ على سحق الانتفاضة بغرض إعادة الأمور لما كانت عليه قبل تفجرها، لكن إذا نجح في مسعاه، فسيدين الحكم للساحقين، أي للشبيحة ومن في حكمهم، وسنعود ثلاثين عاماً إلى الوراء، وليس نصف عام فقط.
وإلى الانتفاضة والنظام، يبدو أن القوى الدولية المعنية بالشأن السوري تواجه معضلة تخصها. فوراء التعارض الظاهر بين غضب القوى الغربية وتركيا الشديد من النظام وبين تواضع مواقفها العملية منه وتعويلها حتى اليوم على أن يتصرف بطريقة مسؤولة، ثمة تضارب في الخيارات: فإذا سكتت هذه القوى على النظام تصرف بطريقة طائشة، تحرجها أمام شعوبها أو قطاعات منها وأمام «المجتمع المدني العالمي»، من دون ضمان أن تبقى مفاعيل طيش النظام النازعة للاستقرار قيد الداخل السوري. وفي الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن التصعيد ضده في صورة عقوبات محددة وضغوط سياسية أن يثمر شيئاً بالنظر إلى الطابع العصبوي المغلق وغير العقلاني للنظام. هذا بينما ليس لهذه القوى مصلحة في تدخل عسكري لا يريده السوريون أيضاً.
الدول العربية المعنية، دول الخليج ومصر والأردن أيضاً في مأزق. فهي لا تستطيع أن تداوم على الصمت بينما يتشكل ما يقارب إجماعاً دولياً على إدانة النظام، وبينما تعلو فيها أصوات داخلية غاضبة ضد سلوكه المتجاوز لكل حد. وهي أيضاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً ضده، بمفردها، ولا يبدو واضحاً لأحد إن كان هناك جهد دولي منظم ضد النظام في وقت قريب أو في أي وقت.
وروسيا في الوضع نفسه. فالنظام لا يوفر لها ما تقنع به نفسها والعالم من مبررات الدفاع عنه ما دام مستمراً في قتل محكوميه، وهي في الوقت نفسه لا تريد أن تساند القوى الغربية وحلف الناتو في عزل النظام وربما ضربه، ما من شأنه أن يعزز الهيمنة الدولية لهذه القوى، ويضعفها هي. وحتى حلفاء النظام الممانعون يبدون مرتبكين. حماس نأت بنفسها مبكراً لأنها لا تستطيع تحمل أكلاف التماهي مع سياسة النظام. وحزب الله توقف عن إطلاق التصريحات المؤيدة له بعد أن رأى ما أثارته من غضب في الشارع السوري، وإن مضت قناة «المنار» في ترداد الرواية الرسمية الكاذبة. وحدها إيران تبدو حاسمة في الوقـوف إلـى جانب النظام حتى النهاية.
وهكذا، تبدو سورية عنواناً لمعضلة جامعة. ففي أي اتجاه يمكن أن تنحل؟
الأمر تابع لتطورات الوضع السوري.
لا ريب أن الاحتمال الأعدل والأوفق للمصلحة الوطنية السورية هو أن تنجح الانتفاضة في إزالة النظام بقواها الذاتية. ستواجه سورية بعد التغيير كل أنواع المشكلات، بدرجة تفوق ما تواجهه مصر وتونس اليوم، لكن لعلها ستكون في وضع أفضل لمعالجة مشكلاتها بالنظر لاتساع قاعدة الانشغال العام، ولتوافق نمط التغيير هذا مع النازع الاستقلالي الذي طبع سورية منذ ما قبل تكون كيانها الحديث قبل أقل من قرن.
الاحتمال الثاني هو «حكم الشبيحة»: أن يحل النظام معضلته بحل سورية، دولة ومجتمعاً وكياناً ومعنى. سيكون هذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للبلد، وسيسجل الانحلال الاجتماعي والأخلاقي مستويات غير مسبوقة، وستسود القسوة ويعم الفساد ويرتفع منسوب الكراهية العام، وستكون سورية معزولة وتعاني من أزمات اقتصادية خانقة، وسنشهد موجة هائلة من هجرة الشباب والأدمغة والكفاءات من البلد.
الاحتمال الثالث هو «لعبة الأمم»، أي تحكم القوى الخارجية، الغربية والعربية، بالداخل السوري. قد تنشأ أوضاع سياسية توفر قدراً أكبر من الحرية، لكنها ستكون أوضاعاً غير مستقرة، وستفقد سورية استقلالها وسيطرتها على مصيرها لسنوات. وهذا لن يتأخر في أن يضع الحرية المكتسبة بمشقة في مواجهة الاستقلال، فيقلل من شأنها.
فرص التسوية الداخلية فاتت. النظام لم يظهر أي استعداد لدفع الثمن (نهاية الحكم الأبدي وحاكمية الاستخبارات)، والانتفاضة لم تعد تقبل بما هو أقل من ذلك.