المستقبل - الاحد 19 أيلول 2010 - العدد 3775 -
بغداد ـ شاكر الأنباري
مشكلة تشكيل الحكومة العراقية ليست الوحيدة من بين مشاكل هذا البلد، بل قد تكون مظهرا من مظاهر أشد خطرا، أبرزها مشكلة الفساد، وقد بدا الفساد فايروسا مستعصيا، ينخر في جسد الدولة والمجتمع مثل وباء فتاك. يجده المرء في الوزارات، والجيش، والشرطة، والقضاء، والهيئات المستقلة، ومجالس المحافظات، وفي أصغر وحدة إدارية لها تماس بحياة المواطنين. لم تنفع معه أجهزة الرقابة ولا هيئة النزاهة التي تشكلت لمحاربة الفساد في أجهزة الدولة. صار يعترف بوجوده الجميع، سواء كانوا في دست الحكم كرئيس الوزراء، أو معارضين، خارج العراق أو داخله. انه يبث سمومه في نسيج المجتمع ذاته فيخرب نفوس العامة من الشعب، وقد فشلت لحد الآن كل الحلول المطروحة والمعالجات.
عقود وهمية، ورشاوى، وتزوير وثائق، واستخدام النفوذ السياسي والحزبي والعشائري، ومحسوبيات، وولاءات، وقرابات، وتصفيات، كل هذا في ظل غياب قانون حقيقي يطبق على الجميع، وفي ظل فوضى عارمة هيمنت على كل منحى من مناحي الحياة. حتى اصبح من الصعب وجود منصب يتيح الفساد فلا يستغل من صاحبه. ولعل أخطر ما ينتجه الفساد هو سايكولوجيا محاربة النزيهين وأصحاب الأيادي البيض، ممن يكشفون الفساد وطرقه ودروبه، ويقاومون اغراءات فائقة الجاذبية. ولهذا ان لم ينصع النظيف لبيئة الفساد تلك فسرعان ما يقتل، بكاتم صوت او عبوة لاصقة او ناسفة، هذا ان لم يدفع عن طريق التهديد والضغط لمغادرة البلد. استشراس الفساد جاء بسبب وجود ثروة هائلة يتنافس عليها المفسدون، يدخل الخزينة يوميا من عوائد النفط ما يقرب من ربع مليار دولار، وهي ثروة تنفق دون تخطيط حقيقي، ودون متابعة صارمة، ودون ردع قانوني. بواسطة النقود يحل كل منغلق ومستعص، ومن لا ينصاع لإغراء المال يرسل إلى طريق لا عودة منه. وحين تبدأ التحقيقات تصاحبها ضجة إعلامية مؤقتة لا تلبث أن تنزوي ثم تموت، وتوضع الملفات على الرفوف أو تحرق بحادثة توصف بالعرضية، ثم يطوي النسيان كل شيء.
عن ذلك الجو الغامض، جو الفساد، صرح القاضي رحيم العكيلي، رئيس هيئة النزاهة، لبرنامج (سحور سياسي) الذي تبثه قناة البغدادية الفضائية، بحقائق مرعبة. قال ان هناك طبقة سياسية في العراق هي فوق القانون، بمعنى تفعل ما تريد دون أن يطالها أحد. لا هيئة النزاهة ولا ديوان الرقابة والتفتيش، ولا القضاء. والمعروف أن هذه الطبقة تتمثل برؤساء أحزاب، وقادة سياسيين، ووجهاء دينيين واجتماعيين، وحولهم من المستشارين والوزراء والمدراء العامين وقادة الميليشيات السابقين. مصنع الطبقة تلك بدأ بعد سقوط النظام، وازاه فساد آخر في جبهة القوى التي احتلت البلد من أميركيين وبريطانيين وسواهم، واستمر وتفاقم طوال سنوات الصراع السياسي والاجتماعي والحزبي. واذا سار الوضع كما هو عليه فسوف تنتج بطانة ستكون أسوأ حتى من بطانة صدام حسين كما قال العكيلي.
فعلا شهد الشارع العراقي أفظع قضية للفساد حدثت في وزارة التجارة، وكان الاتهام موجها لوزيرها عبد الفلاح السوداني المقرب من المالكي، وقد اثبتت التحقيقات وجود تلاعبات هائلة في قضية الحصة التموينية. والحصة التموينية هي توزيع مواد غذائية بأسعار رمزية على الأسر العراقية، واستحدث هذا النظام منذ الحصار في التسعينيات، واستطاعت الحصة التموينية انقاذ ملايين المعدمين من غائلة الجوع في ظل بطالة عالية، وانعدام للخدمات، وتفكك المؤسسات الاجتماعية، والتهجير المذهبي. ورغم وجود تلاعب بالمال العام وصل إلى مليارات الدولارات لم يعاقب الوزير والمدراء العامون المتورطون، وبرئوا جميعا من تهمة الفساد، وكان تسيس القضاء، وممارسة الضغط السياسي لغلق الملف، واضحا لجميع المراقبين.
وحدث أمر مشابه في عقود وزارة الدفاع ايام الوزير حازم الشعلان وزير الدفاع في حكومة اياد علاوي، اذ وصلت الأموال المنهوبة حوالي المليار دولار، واستطاع الشعلان الهروب إلى الخارج وتحصن بجنسيته الأجنبية (بريطانية) التي لا تبيح تسليم المواطنين إلى دولة ثانية. وكذلك الأمر مع ايهم السامرائي، وهو وزير كهرباء سابق، اعتقل في المنطقة الخضراء فدخلت عليه قوة أمنية تابعة للجيش الأميركي وأخرجته من السجن وسُفّر إلى خارج العراق، كونه يحمل الجنسية الأميركية. هذه الحوادث وغيرها يتذكرها الشارع العراقي بدقة، لأنها كانت مدار حديث الصحافة والإعلام، وتحولت إلى فضائح لم يعد احد يستطيع الدفاع عنها، او السكوت عليها. فوجود عدد من السياسيين العراقيين يحملون جنسية ثانية هي واحدة من العقبات التي لا تسمح بمعاقبة المتهمين بالفساد كما يقول القاضي رحيم العكيلي.
هناك كثير من الموظفين الكبار نهبوا وزوروا، ثم تركوا مناصبهم وعادوا إلى بلدان يحملون جنسيتها فلم يعد بالامكان استردادهم. اذ عادة ما يفسر قرار الاتهام او الاسترداد بالقرار السياسي، وهي وجهة نظر تبدو مقبولة، اذ ان هناك كثيرا من الفاسدين والقتلة وقادة الميليشيات ممن ارتكبوا جرائم معروفة، الا انهم لم يقدموا للمحاكمة بسبب دعم أحزابهم السياسية ووقوفها خلفهم. وثمة قادة سياسيون يتصدرون اليوم واجهة المشهد كانوا حتى الأمس القريب ممن قادوا مباشرة، أو من خلف الستار، العمل الميداني للتصفيات المذهبية، والتهجير، والتفخيخ، والقتل على الهوية، والسرقات، وتهريب النفط، وهم موجودون في عدد من الحركات والأحزاب الحالية. فمن بين حوالى خمسة آلاف موظف كبير، بدرجة وزير ومدير عام ومستشار ووكيل وزير، هناك حوالى مئة وسبعين شخصا متهمين بقضايا فساد كبيرة، ومن بين هؤلاء خمسة وزراء، كما يقول القاضي رحيم العكيلي رئيس هيئة النزاهة. لكن الملاحقات عادة معطلة لأن بعضهم ينتمون إلى الطبقة السياسية التي وصفها بأنها فوق القانون.
هذه الحقائق ربما توضح الكثير مما يجري في الساحة، على الصعيد السياسي والاقتصادي. والا أين ذهبت ثلاثمئة مليار دولار خلال السنوات السبع الماضية؟ لا سيما أن آثارها لم تلمس في تطوير الواقع الاجتماعي؟ في الواقع الرث على كل المستويات؟ الجميع يعرف ان مجالس المحافظات، على سبيل المثال، أصبحت امبراطوريات شبه مستقلة، تتلاعب بالمال العام، وتصدر احيانا قرارات تتناقض مع الدستور، وتستطيع التأثير على القضاء المحلي بالشكل الذي يلائم نزواتها في جمع المال، وتسيس التعليم والشارع والتقاليد الاجتماعية. ولعل أخطر ما قيل في هذا المجال هو وجود عصابات في السجون العراقية تتقاضى مبالغ ضخمة لإطلاق سراح المجرمين، بمن فيهم معتقلو القاعدة او عصابات التزوير وبقايا الميليشيات، ويدير هذه العصابات ضباط كبار وموظفون في أماكن حساسة. اما قطاع المقاولات فهناك قصص حولها تدخل في اطار الحكايات السوريالية التي لا يصدقها عقل. عقود تباع أكثر من مرة، وتنفيذ رديء للشوارع والأبنية والجسور، وصفقات تتم احيانا خارج العراق لمقاولين يقطنون في بيروت او عمان او الدول الأوروبية، لهم امتدادات مع مسؤولين في أجهزة الدولة المختلفة، أغذية مستوردة منتهية الصلاحية، وأدوية غير صالحة، تتسرب من هكذا صفقات مئات ملايين الدولارات إلى الخارج.
والفساد لا يشمل نهب المال العام فقط، انما يمتد إلى الوظائف العليا، التي استأثرت بها الأحزاب الحاكمة. فأغلب مفاصل الدولة الحساسة يشرف عليها ويديرها أشخاص قريبون لهذا الحزب أو ذاك، وفي السنوات الأربع تفاقمت هذه الظاهرة بشكل كبير حتى بدأت الأحزاب تلك تعاني هي الأخرى من التهميش بعد أن سارت سلسلة التعيينات لتنحصر في حزب واحد أو حزبين، وعادة ما يكون الولاء لا الكفاءة هو ما يحدد أولئك الأشخاص. وتم التلاعب حتى في قانون المساءلة والعدالة، ليسري على البعض من الأبعدين دون أن يطبق على الموالين. وواحدة من معضلات التفاهمات بين القوى السياسية في تشكيل الحكومة هي اختلاف رؤيتها على فتح ملفات الفساد المالي، والإداري، والسياسي، للسبع سنوات السابقة. ثمة اعتراض صريح من قبل الأحزاب الحاكمة، وبعض الرموز المتنفذة، أباطرة السنوات العجاف، على فتح تلك الملفات، وهي ملفات قد تقود إلى فضح جرائم جنائية، وسياسية، ومالية، وحزبية.
في انتخابات مجالس المحافظات السابقة تعهد المرشحون الجدد أثناء الانتخابات بفتح ملفات الفساد للمجالس السابقة. لكنهم ما ان فازوا في الانتخابات، واحتلوا مقاعدهم الوثيرة التي تبيض ذهبا، حتى نسوا تعهداتهم، وانشغلوا بتلقف الميزانية الدسمة، والسفرات خارج البلد، وابتكار طرق جديدة لجمع الثروات وخلق البطانات. وأخذ المواطنون في بعض تلك المحافظات يترحمون على المجالس السابقة. وظلت الجرائم وقضايا الفساد والفضائح الكبيرة طي الكتمان. ولم يحاكم أي مسؤول بشكل صريح ومباشر عن تلك الجرائم، فآخر المحاكمات العلنية كانت لأركان نظام صدام حسين، التي فقدت الاهتمام هي الأخرى، لأن ما يحاكم عليه اولئك من جرائم قد لا يصل بعضها إلى الجرائم التي ارتكبت من أغلب الأطراف في العهد الجديد. لكل ذلك صنف العراق عالميا بأنه يحتل رأس القائمة في الدول الأكثر فسادا في العالم، والأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان، كون القانون لم يعد يسري الا على الضعفاء من الموظفين والمواطنين الذين لا حول ولا قوة لهم سوى الدعاء إلى السماء.
الخميس، 21 أكتوبر 2010
آداب الحوار والمناظرة عند الأقدمين...فهل نتعلم؟
إعداد سعود المولى
قال الكفوي في الكليات: "المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب. والمجادَلة:هي المنازعة في المسألة العلمية لإلزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسداً أم لا. وإذا علم بفساد كلامه، وصحة كلام خصمه فنازعه فهي المكابرة، ومع عدم العلم
بكلامه وكلام صاحبه فنازعه فهي المعاندة، وأمّا المغالطة: فهي قياسٌ مركّب من
مقدمات شبيهة بالحق، ويسمى سفسطة، أو شبيهة بالمقدمات المشهورة، ويسمى مشاغبة،
وأما المناقضة ـ في علم الجدل ـ فهي منع مقدمة معينة من الدليل إما قبل تمامه
وإما بعده. والمعارضة هي في اللغة عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة
والمدافعة." (الكليات:معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي،مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1998).
وقد أورد ابن وهب الكاتب (أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب) في كتابه (البرهان في وجوه البيان) ( تقديم وتحقيق حفني محمد شرف، القاهرة، مكتبة الشباب، 1969)
مبادىء القدماء في (أدبيات الحوار) أو (أدب الجدل) ، وهذه أهمها:
1ـ على المرء ألا يفرط في الإعجاب برأيه، وما تسوّل لـه نفسه، حتى يُفضي بذلك
إلى نصحائه، ويلقيه إلى أعدائه فيصدقونه عن عيوبه، ويجادلونه. ويقيمون الحجة
عليه فيعرف مقدار ما في يده إذا خولف فيه.
2ـ أن يكون منصفاً غير مكابر؛ لأنه إنما يطلب الإنصاف من خصمه، ويقصده بقوله
وحجته. فإذا طلب الإنصاف بغير الإنصاف فقد طلب الشيء بضده.
3ـ أن يتجنب الضجر وقلة الصبر، لأن عمدة الأمر في استخراج الغوامض، وإثارة
المعاني، وعماد كل ذلك الصبر على التأمل والتفكر.
4ـ وأن يحلم عما يسمع من الأذى والنبز.
5ـ أن يتحرز من مغالطات المخالفين، ومشبهات المموهين.
6ـ وألا يشغب إذا شاغبه خصمه، ولا يرد عليه إذا أربى في كلامه، بل يستعمل
الهدوء والوقار، ويقصد مع ذلك، لوضع الحجة في موضعها.
7ـ وألا يستصغر خصمه، ولا يتهاون به، وإن كان الخصم صغير المحلّ في الجدال، فقد
يجوز أن يقع لمن لا يؤبه به لـه الخاطر الذي لا يقع لمن هو فوقه في الصناعة.
8ـ وأن يصرف همته إلى حفظ النكت التي في كلام خصمه مما يبني منها مقدماته
ويُنتج منها نتائجه، ويصحح ذلك في نفسه، ولا يشغل قلبه بتحفظ جميع كلام خصمه،
فإنه متى اشتغل بذلك أضاع ما هو أحوج إليه منه.
9ـ وألا يجيب قبل فراغ السائل من سؤاله، ولا يبادر بالجواب قبل تدبره، واستعمال
الروية فيه.
10ـ وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله، عز وجل، يقول: (ولا
تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
11ـ وألا يجادل ويبحث في الأوقات التي يتغير فيها مزاجه ويخرج عن الاعتدال؛ لأن
المزاج إذا زاد على حد الاعتدال في الحرارة كان معه العجلة، وقلة التوقف، وعدم
الصبر، وسرعة الضجر، وإذا زاد في البرودة على حال الاعتدال أَوْرَث السهو
والبلادة، وقلة الفطنة، وإبطاء الفهم, وقد قال جالينوس: إن مزاج النفس تابع
لمزاج البدن.
12ـ وألا يستعمل اللجاج والمَحْك، فإن العصبية تغلب على مستعملها فتبعده عن
الحق وتصده عنه.
13ـ وأن يتجنب العجلة، ويأخذ بالتثبت، فإن مع العملِ الزلل.
قال الكفوي في الكليات: "المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب. والمجادَلة:هي المنازعة في المسألة العلمية لإلزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسداً أم لا. وإذا علم بفساد كلامه، وصحة كلام خصمه فنازعه فهي المكابرة، ومع عدم العلم
بكلامه وكلام صاحبه فنازعه فهي المعاندة، وأمّا المغالطة: فهي قياسٌ مركّب من
مقدمات شبيهة بالحق، ويسمى سفسطة، أو شبيهة بالمقدمات المشهورة، ويسمى مشاغبة،
وأما المناقضة ـ في علم الجدل ـ فهي منع مقدمة معينة من الدليل إما قبل تمامه
وإما بعده. والمعارضة هي في اللغة عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة
والمدافعة." (الكليات:معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي،مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1998).
وقد أورد ابن وهب الكاتب (أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب) في كتابه (البرهان في وجوه البيان) ( تقديم وتحقيق حفني محمد شرف، القاهرة، مكتبة الشباب، 1969)
مبادىء القدماء في (أدبيات الحوار) أو (أدب الجدل) ، وهذه أهمها:
1ـ على المرء ألا يفرط في الإعجاب برأيه، وما تسوّل لـه نفسه، حتى يُفضي بذلك
إلى نصحائه، ويلقيه إلى أعدائه فيصدقونه عن عيوبه، ويجادلونه. ويقيمون الحجة
عليه فيعرف مقدار ما في يده إذا خولف فيه.
2ـ أن يكون منصفاً غير مكابر؛ لأنه إنما يطلب الإنصاف من خصمه، ويقصده بقوله
وحجته. فإذا طلب الإنصاف بغير الإنصاف فقد طلب الشيء بضده.
3ـ أن يتجنب الضجر وقلة الصبر، لأن عمدة الأمر في استخراج الغوامض، وإثارة
المعاني، وعماد كل ذلك الصبر على التأمل والتفكر.
4ـ وأن يحلم عما يسمع من الأذى والنبز.
5ـ أن يتحرز من مغالطات المخالفين، ومشبهات المموهين.
6ـ وألا يشغب إذا شاغبه خصمه، ولا يرد عليه إذا أربى في كلامه، بل يستعمل
الهدوء والوقار، ويقصد مع ذلك، لوضع الحجة في موضعها.
7ـ وألا يستصغر خصمه، ولا يتهاون به، وإن كان الخصم صغير المحلّ في الجدال، فقد
يجوز أن يقع لمن لا يؤبه به لـه الخاطر الذي لا يقع لمن هو فوقه في الصناعة.
8ـ وأن يصرف همته إلى حفظ النكت التي في كلام خصمه مما يبني منها مقدماته
ويُنتج منها نتائجه، ويصحح ذلك في نفسه، ولا يشغل قلبه بتحفظ جميع كلام خصمه،
فإنه متى اشتغل بذلك أضاع ما هو أحوج إليه منه.
9ـ وألا يجيب قبل فراغ السائل من سؤاله، ولا يبادر بالجواب قبل تدبره، واستعمال
الروية فيه.
10ـ وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله، عز وجل، يقول: (ولا
تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
11ـ وألا يجادل ويبحث في الأوقات التي يتغير فيها مزاجه ويخرج عن الاعتدال؛ لأن
المزاج إذا زاد على حد الاعتدال في الحرارة كان معه العجلة، وقلة التوقف، وعدم
الصبر، وسرعة الضجر، وإذا زاد في البرودة على حال الاعتدال أَوْرَث السهو
والبلادة، وقلة الفطنة، وإبطاء الفهم, وقد قال جالينوس: إن مزاج النفس تابع
لمزاج البدن.
12ـ وألا يستعمل اللجاج والمَحْك، فإن العصبية تغلب على مستعملها فتبعده عن
الحق وتصده عنه.
13ـ وأن يتجنب العجلة، ويأخذ بالتثبت، فإن مع العملِ الزلل.
المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية: الثابت والمتحول
إعداد: رندى حيدر
تغييرات كثيرة طرأت منذ محادثات "واي ريفر" التي أجراها بنيامين نتنياهو في تشرين الأول من عام 1998 بصفته رئيساً للحكومة الإسرائيلية آنذاك، مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بوساطة فعالة من الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
يومها لعب الرئيس الأميركي دوراً أساسياً في اقناع نتنياهو الذي كان كثير الشكوك والتردد، بالتوقيع على اتفاق الإنسحاب من الخليل الذي سمح للسلطة الفلسطينية باسترجاع نحو 7 في المئة من أراضي الضفة وجعلها تحت سيطرتها الكاملة.
أدرك نتنياهو منذ مجيء باراك أوباما الى الرئاسة الأميركية، بأن لا مفر له من القبول برؤية حل الدولتين، وهي رؤية ورثها أوباما عن سلفه جورج بوش الذي سعى هو ايضاً الى تحقيقها، لكنه لم ينجح سوى في اطلاق خطة خريطة الطريق عام 2003 التي سرعان ما تعثر تطبيقها، وعقد مؤتمر أنابوليس في عام 2007 الذي فتح المجال أمام مفاوضات سياسية بين الفلسطينيين والاسرائيليين أيام حكومة إيهود أولمرت. وكان أولمرت قد سعى في الفترة الأخيرة لحكمه الى التعويض عن اخفاقاته العسكرية في حرب تموز على لبنان وعن فضائحه المالية وقضية الفساد والرشى التي تورط فيها، من خلال تحقيق انجاز سياسي أخير عبر تحفيز المفاوضات مع الفلسطينيين.
لكن كل ذلك لم يثمر عن تفاهمات حقيقية على الرغم من الساعات الطويلة التي قضاها المفاوضون الفلسطينيون والاسرائيليون. وتبخر بعد تنحي أولمرت عن زعامة حزب كاديما، وبعد فوز الليكود بزعامة نتنياهو برئاسة الحكومة في الانتخابات المبكرة التي جرت في شباط 2009.
اليوم يفتتح بنيامين نتنياهو صفحة جديدة من المفاوضات مع الفلسطينيين بإدارة أميركية وبإشرافه ورقابته الشخصية. وما يميز هذه المفاوضات عن غيرها المدة الطويلة التي استغرقها الاعداد لها، والجهد الكبير الذي بذله الموفد الأميركي الخاص الى الشرق الأوسط جورج ميتشل في ردم الهوات بين الطرفين، وفي صوغ التسوية للمشكلات المطروحة.
ولم يسبق أن شهدت المفاوضات الفلسطينية –الإسرائيلية هذا الحجم من الاعداد والتحضير، سواء على المستوى الفلسطيني أم على المستويين الإسرائيلي والأميركي. ومن يقرأ تفاصيل الجولات التفاوضية الماضية يرى أن عدم وجود تصور واضح وتفصيلي ودقيق للحلول المقترحة للمشكلات،كان دائماً أحد الأسباب الأساسية في إفشال هذه المفاوضات.
ويقال إن طاقم المفاوضين الإسرائيلي المحدود العدد الذي يترأسه المحامي إسحق مولخو، وهو أحد أقرب المستشارين السياسيين الى نتنياهو، على الرغم من أنه ليس عضواً في حزب الليكود، يحمل معه التصور الإسرائيلي للحل، أو لإتفاق سلام "ثابت ودائم" مع الفلسطينيين وليس "هدنة بين حربين" بحسب قول نتنياهو.
ثمة عدد من المشكلات الأساسية المطروحة على جدول الأعمال، سيحاول المجتمعون التوصل الى تسوية بشأنها بمساعدة الأميركيين الذين ستكون مهمتهم ردم الهوات بين الطرفين، واقتراح صيغ للحل، والضغط على كلا الطرفين حين تبرز الحاجة. في طليعة هذه المشكلات: ترسيم الحدود بين الدولتين ومستقبل المستوطنات اليهودية، والترتيبات الأمنية، ومستقبل مدينة القدس، وحل مشكلة اللاجئين. هنا تتباين مواقف الطرفين وتختلف (أنظر الجدول)، وسيحاول الوسطاء الأميركيون تسويق تسوية مقبولة من الطرفين.
المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية التي بدأت هي حلقة من سلسلة جولات تفاوضية شهدتها الأعوام الماضية (أنظر كرونولوجيا المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين). ولكنها تختلف عن سابقاتها بأنها تأتي في ظل ظروف فلسطينية وإسرائيلية مختلفة.
فعلى الصعيد الفلسطيني أحدثت وفاة ياسر عرفات، فراغاَ كبيراً على صعيد التمثيل الفلسطيني. فاقم ذلك واقع الانقسام الداخلي في ظل سيطرة حركة"حماس" بالقوة على قطاع غزة، والخلاف الحاد بين قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وزعامة "حماس" في القطاع، والتي باتت تنكر على قادة السلطة تمثيلها الأوحد للشعب الفلسطيني، وتطالب بأن تكون شريكاً في أي اتفاقات يجري التوصل اليها. هذا مع العلم بأن "حماس" ترفض مبدأ التفاوض مع اسرائيل.
والهجمات الأخيرة التي قام بها أنصار الحركة في الضفة الغربية ضد مستوطنين يهود أبرز دليل على هذا الرفض. ومن المنتظر أن يلاقي محمود عباس معارضة قوية من جانب "حماس" وسائر الأطراف الفلسطينية المتشددة لأي اتفاق يتم التوصل اليه، الأمر الذي سيشكل اختباراً حقيقياً لزعامته السياسية، وعقبة أمام قدرة السلطة الفلسطينية على الالتزام بتطبيق الاتفاقات.
على الصعيد الإسرائيلي، شهد الرأي العام تحولاً مهماً نحو اليمين برز في الانتخابات الأخيرة للكنيست، وفي الأصوات الكبيرة التي حصدها حزب أفيغدور ليبرمان المناهض للتسوية مع الفلسطينيين والمؤيد لبقاء المستوطنات. كما أن الجمهور الإسرائيلي يبدو وكأنه يئس من امكانية التوصل الى تسوية مع الفلسطينيين بعد استيلاء "حماس" على السلطة في غزة، وبعد صورايخ القسام التي أخذت تتساقط على المستوطنات المتاخمة للقطاع. ويتمتع اليمين القومي المتشدد اليوم بنفوذ كبير داخل الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو.
وعلى الرغم من تأييد أعضاء الإئتلاف مبدأ المشاركة في المفاوضات، إلا أنهم وضعوا قيوداً كثيرة على رئيسهم، وطالبوه بوضعهم في صورة المحادثات، وألحوا عليه عدم التوقيع على أي شيء من دون العودة اليهم. وعملياً يمكن اعتبار تمسك اكثرية وزراء الحكومة باستئناف البناء في المستوطنات بعد 26 أيلول تاريخ انتهاء قرار التجميد مؤشراً على ما ستؤول اليه الأمور. فإذا أصر وزراء اليمين على ذلك، فإنهم سيضعون نتنياهو أمام خيارين إما الرضوخ لهم، وتالياً تفجير المفاوضات؛ أو التمسك بالصيغة التي اقترحها الوزير مريدور بتجميد البناء في المستوطنات المعزولة فقط، والتي لا يوافق عليها المفاوض الفلسطيني، علماً أن هذا القرار قد يضعه في مواجهة ليس فقط مع اليمين القومي المتشدد، وإنما ايضاً مع صقور حزب الليكود الذين لا يقلون تشدداً عن هؤلاء. إن الطريقة التي سيتصرف بها نتنياهو ستشكل دليلاً واضحاً على توجهاته الحقيقية التي لم يكشف عنها علناً حتى الآن.
على صعيد الكنيست الإسرائيلية، يمكن رسم الصورة التالية: في حال طُرح اقتراح الإتفاق مع الفلسطينيين على التصويت فإنه على الأرجح سينال موافقة حزب المعارضة كاديما(28 صوتاً) وحزب العمل (13)، بالإضافة إلى أصوات أحزاب اليسار والأحزاب العربية (14 صوتاً). أما على جبهة أحزاب اليمين، من المعلوم أن هناك عدداً من أعضاء حزب الليكود في الكنيست يعارضون مبدأ تقسيم القدس وتفكيك المستوطنات اليهودية، وهؤلاء قد يتمردون على قرار زعيمهم، ولكن من ناحية أخرى المعارضون الشرسون لأي تنازلات للفلسطينيين هم حزب "إسرائيل بيتنا"(15 صوتاً)، وحزب الاتحاد القومي (4)، وحزب البيت اليهودي –المفدال الجديد(3).
أما تصويت الأحزاب الدينية مثل "شاس"(11 صوتاً) و"يهودوت هاتوراه"(4)، فليس محسوماً منذ الآن وهو عرضة لمقايضات سياسية داخلية.
لكن الثابت في هذه المفاوضات كما في كل سابقاتها، الهجمة التي تتعرض لها من جانب كل الأطراف الراديكالية الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، والتي تأخذ شكل هجمات وحملات تحريض من كلا الطرفين. ناهيك بتأثير دول "الممانعة" العربية التي بدأت منذ الآن حملتها ضد المفاوضات.
أكثر من 19 عاماً مرت منذ انعقاد مؤتمر مدريد، وبدء العملية التفاوضية بين إسرائيل والعرب. المفاوضات الدائرة حالياً في واشنطن قد تشكل فرصة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من أجل تسوية نهائية للنزاع. ووجود رئيس مثل باراك أوباما على رأس الإدارة الأميركية، واجماع الرأي العام الدولي على تسوية النزاع يشكل ايضاً حافزاً مهماً من اجل نجاح الطرفين في مهمتهما.
كرونولوجيا المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية
- 1/9/1993: التوقيع في واشنطن على اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
- 4/5/1994: التوقيع في القاهرة على اتفاق الحكم الذاتي في غزة وأريحا.
- 28/9/1995: التوقيع في واشنطن على الإتفاق الانتقالي بين إسرائيل ومنظمة التحرير.
- 4/11/1995: اغتيال اسحاق رابين، على يد يهودي متدين هو ريغال عمير.
-23/10/1998: اتفاق واي ريفر بين نتنياهو وعرفات.
- 17/5/1999: انتخاب إيهودا باراك رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 4/9/1999: التوقيع على مذكرة شرم الشيخ بين ياسر عرفات، وإيهود باراك.
- 8/11/1999: بدء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في رام الله.
- 10/5/2000: مفاوضات سرية إسرائيلية-فلسطينية في السويد.
- 11- 25/7/2000: قمة كمب ديفيد بين كلينتون وعرفات وباراك.
- 29/9/2000: بداية انتفاضة الأقصى.
- 23/12/2000: خطة كلينتون لإتفاق فلسطيني - إسرائيلي.
- 18/1/2001: مفاوضات إسرائيلية - فلسطينية في طابا.
- 6/2/2001: انتخاب أرييل شارون رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 30/5/2003: اعلان البيت الأبيض عن خريطة الطريق لحل الدولتين، وحل النزاع حتى عام 2005.
- 3/6/2003: قمة شرم الشيخ بين الرئيس مبارك وجورج بوش ورئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس، ورئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون.
- حزيران 2005: أرييل شارون يعلن خطته للانفصال عن غزة. في أيلول من العام عينه ينهي شارون خطته باخلاء كل المستوطنات اليهودية في القطاع.
-27/11/2007: الرئيس جورج بوش يعقد مؤتمر أنا بوليس للبدء بالمفاوضات الاسرائيلية -الفلسطينية بمشاركة محمود عباس وإيهود أولمرت.
- 22/9/2009: لقاء مشترك بين باراك أوباما ومحمود عباس وبنيامين نتنياهو في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
-27/7/2010: لقاء سري في العاصمة الأردنية يجمع بين محمود عباس ونتنياهو.
"جدول أعمال" الاختلافات
قضية ترسيم الحدود
الموقف الفلسطيني
إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والعودة الى حدود الرابع من حزيران عام 1967، كشرط أساسي لدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة. من المتوقع أن يرفض عباس إدخال مستوطنة أريئيل ضمن الكتل الاستيطانية، لأنها تقع على بعد 18 كلم من الخط الأخضر، وتقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة. كما سيصر على نسبة متساوية لتبادل الأراضي.
الموقف الإسرائيلي
إعلان الفلسطينيين انهاء حالة النزاع والإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، مقابل الإنسحاب الى ما وراء الخط الأخضر، وضم الكتل الاستيطانية اليهودية الكبرى الواقعة وراء هذا الخط، ومبادلة أراض مع السلطة الفلسطينية. إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. تفكيك المستوطنات اليهودية المعزولة في الضفة ونقل سكانها الى داخل إسرائيل.
قضية الترتيبات الأمنية
الموقف الفلسطيني
المطالبة بدولة ذات سيادة، قادرة عن الدفاع عن أمن مواطنيها. مع رفض أي وجود عسكري إسرائيلي في الضفة وغور الأردن، ومع المطالبة بوجود قوات تابعة للحلف الأطلسي.
الموقف الاسرائيلي
تشدد إسرائيلي في المطالبة بدولة منزوعة السلاح، وبإبقاء منطقة غور الأدرن تحت السيطرة العسكرية لإسرائيل، والحصول على ضمانات أميركية تضمن سلامة وأمن إسرائيل.
قضية القدس
الموقف الفلسطيني
اعلان القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، تفكيك المستوطنات اليهودية المقامة داخل المدينة، المطالبة بالسيادة على الحرم الشريف.
الموقف الإسرائيلي
الرسمي ليس واضحاً تماماً حتى الآن. ولكن يجري الحديث عن إمكان تقسيم القدس بحيث تكون الأحياء اليهودية خاضعة للسيادة الإسرائيلية، والأحياء العربية خاضعة للسيادة الفلسطينية؛ أما المدينة القديمة والأماكن المقدسة فتخضع لسلطة خاصة ويطبق عليها تفاهمات متفق عليها.
قضية اللاجئين
الموقف الفلسطيني
التمسك بحق اللاجئين بالعودة الى أراضيهم، مع إبقاء الباب مفتوحاً امام صيغ للحل.
الموقف الإسرائيلي
رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين الى إسرائيل، والعمل على إيجاد حل لهم في الدولة الفلسطينية، أو التعويض عليهم، ودعوة دول العالم للمساعدة في ايجاد حل لهم.
البناء في المستوطنات
الموقف الفلسطيني
يطالب الفلسطينيون بتمديد قرار تجميد البناء بحيث يشمل كل المستوطنات الاسرائيلية بما في ذلك القدس.
الموقف الإسرائيلي
ثمة توجه الى الاستمرار في قرار تجميد البناء في المستوطنات المعزولة التي سيجري اخلاؤها في التسوية المقبلة، مع استئنافه في الكتل الاستيطانية الكبرى، وفي القدس التي ستبقى تابعة للسيادة الإسرائيلية.
تغييرات كثيرة طرأت منذ محادثات "واي ريفر" التي أجراها بنيامين نتنياهو في تشرين الأول من عام 1998 بصفته رئيساً للحكومة الإسرائيلية آنذاك، مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بوساطة فعالة من الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
يومها لعب الرئيس الأميركي دوراً أساسياً في اقناع نتنياهو الذي كان كثير الشكوك والتردد، بالتوقيع على اتفاق الإنسحاب من الخليل الذي سمح للسلطة الفلسطينية باسترجاع نحو 7 في المئة من أراضي الضفة وجعلها تحت سيطرتها الكاملة.
أدرك نتنياهو منذ مجيء باراك أوباما الى الرئاسة الأميركية، بأن لا مفر له من القبول برؤية حل الدولتين، وهي رؤية ورثها أوباما عن سلفه جورج بوش الذي سعى هو ايضاً الى تحقيقها، لكنه لم ينجح سوى في اطلاق خطة خريطة الطريق عام 2003 التي سرعان ما تعثر تطبيقها، وعقد مؤتمر أنابوليس في عام 2007 الذي فتح المجال أمام مفاوضات سياسية بين الفلسطينيين والاسرائيليين أيام حكومة إيهود أولمرت. وكان أولمرت قد سعى في الفترة الأخيرة لحكمه الى التعويض عن اخفاقاته العسكرية في حرب تموز على لبنان وعن فضائحه المالية وقضية الفساد والرشى التي تورط فيها، من خلال تحقيق انجاز سياسي أخير عبر تحفيز المفاوضات مع الفلسطينيين.
لكن كل ذلك لم يثمر عن تفاهمات حقيقية على الرغم من الساعات الطويلة التي قضاها المفاوضون الفلسطينيون والاسرائيليون. وتبخر بعد تنحي أولمرت عن زعامة حزب كاديما، وبعد فوز الليكود بزعامة نتنياهو برئاسة الحكومة في الانتخابات المبكرة التي جرت في شباط 2009.
اليوم يفتتح بنيامين نتنياهو صفحة جديدة من المفاوضات مع الفلسطينيين بإدارة أميركية وبإشرافه ورقابته الشخصية. وما يميز هذه المفاوضات عن غيرها المدة الطويلة التي استغرقها الاعداد لها، والجهد الكبير الذي بذله الموفد الأميركي الخاص الى الشرق الأوسط جورج ميتشل في ردم الهوات بين الطرفين، وفي صوغ التسوية للمشكلات المطروحة.
ولم يسبق أن شهدت المفاوضات الفلسطينية –الإسرائيلية هذا الحجم من الاعداد والتحضير، سواء على المستوى الفلسطيني أم على المستويين الإسرائيلي والأميركي. ومن يقرأ تفاصيل الجولات التفاوضية الماضية يرى أن عدم وجود تصور واضح وتفصيلي ودقيق للحلول المقترحة للمشكلات،كان دائماً أحد الأسباب الأساسية في إفشال هذه المفاوضات.
ويقال إن طاقم المفاوضين الإسرائيلي المحدود العدد الذي يترأسه المحامي إسحق مولخو، وهو أحد أقرب المستشارين السياسيين الى نتنياهو، على الرغم من أنه ليس عضواً في حزب الليكود، يحمل معه التصور الإسرائيلي للحل، أو لإتفاق سلام "ثابت ودائم" مع الفلسطينيين وليس "هدنة بين حربين" بحسب قول نتنياهو.
ثمة عدد من المشكلات الأساسية المطروحة على جدول الأعمال، سيحاول المجتمعون التوصل الى تسوية بشأنها بمساعدة الأميركيين الذين ستكون مهمتهم ردم الهوات بين الطرفين، واقتراح صيغ للحل، والضغط على كلا الطرفين حين تبرز الحاجة. في طليعة هذه المشكلات: ترسيم الحدود بين الدولتين ومستقبل المستوطنات اليهودية، والترتيبات الأمنية، ومستقبل مدينة القدس، وحل مشكلة اللاجئين. هنا تتباين مواقف الطرفين وتختلف (أنظر الجدول)، وسيحاول الوسطاء الأميركيون تسويق تسوية مقبولة من الطرفين.
المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية التي بدأت هي حلقة من سلسلة جولات تفاوضية شهدتها الأعوام الماضية (أنظر كرونولوجيا المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين). ولكنها تختلف عن سابقاتها بأنها تأتي في ظل ظروف فلسطينية وإسرائيلية مختلفة.
فعلى الصعيد الفلسطيني أحدثت وفاة ياسر عرفات، فراغاَ كبيراً على صعيد التمثيل الفلسطيني. فاقم ذلك واقع الانقسام الداخلي في ظل سيطرة حركة"حماس" بالقوة على قطاع غزة، والخلاف الحاد بين قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وزعامة "حماس" في القطاع، والتي باتت تنكر على قادة السلطة تمثيلها الأوحد للشعب الفلسطيني، وتطالب بأن تكون شريكاً في أي اتفاقات يجري التوصل اليها. هذا مع العلم بأن "حماس" ترفض مبدأ التفاوض مع اسرائيل.
والهجمات الأخيرة التي قام بها أنصار الحركة في الضفة الغربية ضد مستوطنين يهود أبرز دليل على هذا الرفض. ومن المنتظر أن يلاقي محمود عباس معارضة قوية من جانب "حماس" وسائر الأطراف الفلسطينية المتشددة لأي اتفاق يتم التوصل اليه، الأمر الذي سيشكل اختباراً حقيقياً لزعامته السياسية، وعقبة أمام قدرة السلطة الفلسطينية على الالتزام بتطبيق الاتفاقات.
على الصعيد الإسرائيلي، شهد الرأي العام تحولاً مهماً نحو اليمين برز في الانتخابات الأخيرة للكنيست، وفي الأصوات الكبيرة التي حصدها حزب أفيغدور ليبرمان المناهض للتسوية مع الفلسطينيين والمؤيد لبقاء المستوطنات. كما أن الجمهور الإسرائيلي يبدو وكأنه يئس من امكانية التوصل الى تسوية مع الفلسطينيين بعد استيلاء "حماس" على السلطة في غزة، وبعد صورايخ القسام التي أخذت تتساقط على المستوطنات المتاخمة للقطاع. ويتمتع اليمين القومي المتشدد اليوم بنفوذ كبير داخل الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو.
وعلى الرغم من تأييد أعضاء الإئتلاف مبدأ المشاركة في المفاوضات، إلا أنهم وضعوا قيوداً كثيرة على رئيسهم، وطالبوه بوضعهم في صورة المحادثات، وألحوا عليه عدم التوقيع على أي شيء من دون العودة اليهم. وعملياً يمكن اعتبار تمسك اكثرية وزراء الحكومة باستئناف البناء في المستوطنات بعد 26 أيلول تاريخ انتهاء قرار التجميد مؤشراً على ما ستؤول اليه الأمور. فإذا أصر وزراء اليمين على ذلك، فإنهم سيضعون نتنياهو أمام خيارين إما الرضوخ لهم، وتالياً تفجير المفاوضات؛ أو التمسك بالصيغة التي اقترحها الوزير مريدور بتجميد البناء في المستوطنات المعزولة فقط، والتي لا يوافق عليها المفاوض الفلسطيني، علماً أن هذا القرار قد يضعه في مواجهة ليس فقط مع اليمين القومي المتشدد، وإنما ايضاً مع صقور حزب الليكود الذين لا يقلون تشدداً عن هؤلاء. إن الطريقة التي سيتصرف بها نتنياهو ستشكل دليلاً واضحاً على توجهاته الحقيقية التي لم يكشف عنها علناً حتى الآن.
على صعيد الكنيست الإسرائيلية، يمكن رسم الصورة التالية: في حال طُرح اقتراح الإتفاق مع الفلسطينيين على التصويت فإنه على الأرجح سينال موافقة حزب المعارضة كاديما(28 صوتاً) وحزب العمل (13)، بالإضافة إلى أصوات أحزاب اليسار والأحزاب العربية (14 صوتاً). أما على جبهة أحزاب اليمين، من المعلوم أن هناك عدداً من أعضاء حزب الليكود في الكنيست يعارضون مبدأ تقسيم القدس وتفكيك المستوطنات اليهودية، وهؤلاء قد يتمردون على قرار زعيمهم، ولكن من ناحية أخرى المعارضون الشرسون لأي تنازلات للفلسطينيين هم حزب "إسرائيل بيتنا"(15 صوتاً)، وحزب الاتحاد القومي (4)، وحزب البيت اليهودي –المفدال الجديد(3).
أما تصويت الأحزاب الدينية مثل "شاس"(11 صوتاً) و"يهودوت هاتوراه"(4)، فليس محسوماً منذ الآن وهو عرضة لمقايضات سياسية داخلية.
لكن الثابت في هذه المفاوضات كما في كل سابقاتها، الهجمة التي تتعرض لها من جانب كل الأطراف الراديكالية الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، والتي تأخذ شكل هجمات وحملات تحريض من كلا الطرفين. ناهيك بتأثير دول "الممانعة" العربية التي بدأت منذ الآن حملتها ضد المفاوضات.
أكثر من 19 عاماً مرت منذ انعقاد مؤتمر مدريد، وبدء العملية التفاوضية بين إسرائيل والعرب. المفاوضات الدائرة حالياً في واشنطن قد تشكل فرصة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من أجل تسوية نهائية للنزاع. ووجود رئيس مثل باراك أوباما على رأس الإدارة الأميركية، واجماع الرأي العام الدولي على تسوية النزاع يشكل ايضاً حافزاً مهماً من اجل نجاح الطرفين في مهمتهما.
كرونولوجيا المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية
- 1/9/1993: التوقيع في واشنطن على اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
- 4/5/1994: التوقيع في القاهرة على اتفاق الحكم الذاتي في غزة وأريحا.
- 28/9/1995: التوقيع في واشنطن على الإتفاق الانتقالي بين إسرائيل ومنظمة التحرير.
- 4/11/1995: اغتيال اسحاق رابين، على يد يهودي متدين هو ريغال عمير.
-23/10/1998: اتفاق واي ريفر بين نتنياهو وعرفات.
- 17/5/1999: انتخاب إيهودا باراك رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 4/9/1999: التوقيع على مذكرة شرم الشيخ بين ياسر عرفات، وإيهود باراك.
- 8/11/1999: بدء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في رام الله.
- 10/5/2000: مفاوضات سرية إسرائيلية-فلسطينية في السويد.
- 11- 25/7/2000: قمة كمب ديفيد بين كلينتون وعرفات وباراك.
- 29/9/2000: بداية انتفاضة الأقصى.
- 23/12/2000: خطة كلينتون لإتفاق فلسطيني - إسرائيلي.
- 18/1/2001: مفاوضات إسرائيلية - فلسطينية في طابا.
- 6/2/2001: انتخاب أرييل شارون رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 30/5/2003: اعلان البيت الأبيض عن خريطة الطريق لحل الدولتين، وحل النزاع حتى عام 2005.
- 3/6/2003: قمة شرم الشيخ بين الرئيس مبارك وجورج بوش ورئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس، ورئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون.
- حزيران 2005: أرييل شارون يعلن خطته للانفصال عن غزة. في أيلول من العام عينه ينهي شارون خطته باخلاء كل المستوطنات اليهودية في القطاع.
-27/11/2007: الرئيس جورج بوش يعقد مؤتمر أنا بوليس للبدء بالمفاوضات الاسرائيلية -الفلسطينية بمشاركة محمود عباس وإيهود أولمرت.
- 22/9/2009: لقاء مشترك بين باراك أوباما ومحمود عباس وبنيامين نتنياهو في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
-27/7/2010: لقاء سري في العاصمة الأردنية يجمع بين محمود عباس ونتنياهو.
"جدول أعمال" الاختلافات
قضية ترسيم الحدود
الموقف الفلسطيني
إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والعودة الى حدود الرابع من حزيران عام 1967، كشرط أساسي لدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة. من المتوقع أن يرفض عباس إدخال مستوطنة أريئيل ضمن الكتل الاستيطانية، لأنها تقع على بعد 18 كلم من الخط الأخضر، وتقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة. كما سيصر على نسبة متساوية لتبادل الأراضي.
الموقف الإسرائيلي
إعلان الفلسطينيين انهاء حالة النزاع والإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، مقابل الإنسحاب الى ما وراء الخط الأخضر، وضم الكتل الاستيطانية اليهودية الكبرى الواقعة وراء هذا الخط، ومبادلة أراض مع السلطة الفلسطينية. إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. تفكيك المستوطنات اليهودية المعزولة في الضفة ونقل سكانها الى داخل إسرائيل.
قضية الترتيبات الأمنية
الموقف الفلسطيني
المطالبة بدولة ذات سيادة، قادرة عن الدفاع عن أمن مواطنيها. مع رفض أي وجود عسكري إسرائيلي في الضفة وغور الأردن، ومع المطالبة بوجود قوات تابعة للحلف الأطلسي.
الموقف الاسرائيلي
تشدد إسرائيلي في المطالبة بدولة منزوعة السلاح، وبإبقاء منطقة غور الأدرن تحت السيطرة العسكرية لإسرائيل، والحصول على ضمانات أميركية تضمن سلامة وأمن إسرائيل.
قضية القدس
الموقف الفلسطيني
اعلان القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، تفكيك المستوطنات اليهودية المقامة داخل المدينة، المطالبة بالسيادة على الحرم الشريف.
الموقف الإسرائيلي
الرسمي ليس واضحاً تماماً حتى الآن. ولكن يجري الحديث عن إمكان تقسيم القدس بحيث تكون الأحياء اليهودية خاضعة للسيادة الإسرائيلية، والأحياء العربية خاضعة للسيادة الفلسطينية؛ أما المدينة القديمة والأماكن المقدسة فتخضع لسلطة خاصة ويطبق عليها تفاهمات متفق عليها.
قضية اللاجئين
الموقف الفلسطيني
التمسك بحق اللاجئين بالعودة الى أراضيهم، مع إبقاء الباب مفتوحاً امام صيغ للحل.
الموقف الإسرائيلي
رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين الى إسرائيل، والعمل على إيجاد حل لهم في الدولة الفلسطينية، أو التعويض عليهم، ودعوة دول العالم للمساعدة في ايجاد حل لهم.
البناء في المستوطنات
الموقف الفلسطيني
يطالب الفلسطينيون بتمديد قرار تجميد البناء بحيث يشمل كل المستوطنات الاسرائيلية بما في ذلك القدس.
الموقف الإسرائيلي
ثمة توجه الى الاستمرار في قرار تجميد البناء في المستوطنات المعزولة التي سيجري اخلاؤها في التسوية المقبلة، مع استئنافه في الكتل الاستيطانية الكبرى، وفي القدس التي ستبقى تابعة للسيادة الإسرائيلية.
محمد أركون: "إعادة التفكير في الظاهرة الدينية..."
(محاضرة ألقاها المرحوم الدكتور محمد اركون في جامعة البلمند-شمال لبنان-2002
عنوان محاضرتي هو "الظاهرة الدينية بعد حادثة 11 أيلول"، وقد اخترت هذا العنوان لنعيد التفكير في الظاهرة الدينية بعد هذا الحدث اعتماداً على ما يمكننا أن نستنتجه من أفكار جديدة وبرامج جديدة للبحث العلمي عن الاديان وتفسيرها من منطلق كونها ظاهرة.
حادثة 11 أيلول كان يمكن أن تكون منطلقاً لتفكير آخر ولسياسة أخرى. ولأنها حصلت في الولايات المتحدة، ومسّت رموز الحضارة الغربية كما نسميها، فلقد أثارت في هذه الحضارة، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، الردود التي نعرفها اليوم، والتي هي ردود القوة والحرب. ولكن لم نسمع إلى الآن ردودًا على صعيد المعاني الرمزية التي تحملها هذه الحادثة.
1. معاني الرمزية
لقد مسّت هذه الحادثة ما يسميه العلماء في أميركا ويصفوه بمفهوم "القيم الحضارية الغربية"، مسّت تلك القيم الغربية التي، باعتقادهم، غير موجودة في حضارات أخرى. ولطالما سمعنا علماء يكررون أن هناك اقتتالاً بين الحضارات، وصدامًا بين الثقافات، بسبب تفاوت بين الثقافات والحضارات تبعًا للقيم التي بنيت عليها.
ولذلك كان من المنتظر أن نسمع، من طرف العلماء الغربيين وأيضًا من طرف العلماء المسلمين، كلاماً على هذه القيم الحضارية. خاصة أن هذه الحادثة، على ما نعرفه وتعرفه وسائل الاعلام، قد قام بها طرف إسلامي، حركة إسلامية.
هناك في أميركا معهدٌ يحمل اسم "معهد القيم الأميركية". وقد صدر عنه بيان وقّعه ثمانون عالماً وباحثاً وكاتباً أميركيًا، يبررون فيه مفهوم الحق الذي يدافع عن العدل، والمبنيّ على فكرة الدفاع عن العدل (La guerre juste). هذا المفهوم يأتينا من القديس أوغسطينوس، وهو مفهوم لاهوتي قديم يترجم تماماً ما يسميه المسلمون "الجهاد".
غير أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء العلماء، الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين يفكرون في إطار حديث، يرجعون إلى معجم ديني-لاهوتي لتبرير الحرب التي نحن فيها. وقد تكرّر هذا أثناء حرب الخليج. فالرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران والأميركي جورج بوش الأب، استعملا المفهوم نفسه (La guerre juste) لتبرير الحرب حينذاك. من جهتنا كذلك، نحن العرب والمسلمين، نبرّر ما نقوم به، ونبرّر حادثة 11 أيلول، بالاعتماد على مفهوم "الجهاد" بالإحالة الى المعجم اللاهوتي إياه.
هذا الواقع يفرض علينا كباحثين، وكباحثين في البلدان العربية الإسلامية تحديدًا، أن نعيد النظر في المعجم الديني برمّته، لنسأل ما هي الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب، وتجعل الغرب من جهته في حروب ضدنا. إلى الآن لم نجد حلاً، ولم نوجِد معجماً آخر نعتمد عليه كي نفكر تفكيراً جديداً في ما نسميه "القيم".
كيف يمكننا أن نقوم بهذا العمل، وننتقل بالتالي من الاستعمال الإيديولوجي لما نسميه "القيم"، الغربية أو الإسلامية، إلى إيجاد معجم آخر، وإصدار دراسات أخرى، للكلام على الحضارات والثقافات؟
أقدم مثلاً يمكّننا من الانتقال من هذه المعاجم القديمة التي نستعملها، إلى معجم آخر، وهو معجم يعتمد على اللسانيات، والتاريخ المقارن للأديان، وعلى ما نسميه "انتروبولوجيا" الأديان.
أ) المقاربة التاريخية
للظاهرة الدينية
كيف ندرس الأديان دراسة مقارنة في فضاء البحر المتوسط. في هذا الفضاء، وفي إطار فكري واحد، ظهرت ديانات استعملت المعجم نفسه و"القيم" نفسها التي نجدها في الديانات الثلاث المنزلة. غير أن ثمة استعمال لمعجم آخر، منذ القرون الوسطى خاصة، مبني على الفكر الفلسفي كما كان يمارس في تلك المرحلة. حينذاك لم يكن الفكر الفلسفي يُعنى بالفلسفة فقط، وإنما بالعلوم جميعها.
والمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من أن نقارن العلاقات الفكرية والثقافية بين الأديان التي تطوّرت معاجمها وتغيرت أثناء التطور التاريخي منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا. هذا ما يجب أن نبدأ منه لتكون لنا أرضية للتحليل التاريخي لكل ما يتعلق بهذه الأديان، ولتكون لنا أيضاً نظرة تحليلية نقدية للمعاجم الدينية من جهة، وللمعاجم العلمية–الفلسفية من جهة أخرى. لذلك اخترت الخوض في مسألتي المعنى والهيمنة.
ب) البحث عن المعنى
وإرادة الهيمنة
هناك توتر، في كل ثقافة وإطار فكري، بين البحث عن معنى - وهو ما تقصده الأديان - وإرادة الهيمنة من خلال استعمال المعاني التي تأتي بها الأديان والفلسفات. والهيمنة معناها: هيمنة سياسية للمجتمعات. هنا يكمن الصراع الذي نعرفه بين الأديان والسياسية. وهذا صراع لم نتمكّن بعد من فهم العلاقات التي تجري بين مكوّناته، ولم ندرك الخلاف الذي يضع الظاهرة الدينية في وجه الظاهرة السياسية.
ثمة ضرورة لشرح جميع المراحل التاريخية، من المرحلة الإغريقية والرومانية القديمة من جهة، إلى المرحلة المعاصرة لأنبياء العهد القديم في ما نسميه "الشرق الأوسط القديم" من جهة أخرى. بقيت هذه الثقافات والمدنيات القديمة في الشرق الأوسط حيّة قروناً وقروناً، ونجد لها تأثيرًا حتى في النصوص المقدّسة، التوراة والأناجيل والقرآن. هنا يأخذ البحث منحىً أفقيًا، تاريخيًا–تحليليًا، في مقابل قراءة عمودية، اعتدنا عليها، لتطوّر الأديان كأن نقول إن النصوص منزلة من الله إلى الأرض. هناك إذًا قراءتان علينا القيام بهما: قراءة أفقية–تاريخية، وأخرى عمودية على حسب الاستعارة المستعملة في القرآن، "التنزيل"، تنزيل العزيز الرحيم.
على قراءتنا للكتب المنزلة جميعها أن تعتمد على التاريخ الديني الذي سبقها. مثلاً، إذا قرأنا سورة "الكهف" في القرآن، نجد فيها قصصاً تحيلنا إلى الثقافات القديمة: قصة تحيلنا إلى من يسميه القرآن "ذو القرنين"، وهو "الإسكندر"، وقصة تحيلنا إلى أهل "الكهف" وهم المسيحيون الذين اضطهدوا في عهد "ديوكلسيان"، وهذه قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، يستعملها القرآن ليحكي عن الذين يستشهدون بحياتهم من أجل إيمانهم بالله. وفي هذا ما يبيّن لنا أن هناك في الشرق الأوسط وعيًا لثقافة لا تزال حيّة يُستشهد بها، ويُعتمد عليها في تقديم الحقائق الدينية من العهد القديم إلى القرآن.
جـ) أوروبا، والمسيحية الرومانية واليهودية والإسلام
لهذه الأديان الثلاثة تاريخها في القرون الوسطى، وهي تحتاج لمدى أوسع لشرح العلاقات بينها. ثمة فكرة مهمة جدًا في القرون الوسطى، امتدّت من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، تقول إن الثقافة الفلسفية في فضاء البحر المتوسط كانت تنطق باللغة العربية، وتزدهر وتنمو في إطار سياسي هو إطار الخلافة. هذه المرحلة التاريخية مهمة جداً، ولكنها لم تحظَ بعد بالدراسة اللازمة لكي نتحرّر من كثير من التأويلات التي كانت الأديان عرضة لها، وننعتق من النصوص القديمة التي فرضها علينا المفكرون، والمفسرون، والفقهاء، وأهل الكلام في هذه الحقبة من التاريخ. ونحن، في الإسلام خاصة، لم ندرس بعد هذه الحقبة دراسة تاريخية، ولذلك نلحّ على ضرورة وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في برنامج للبحوث والتعليم لكي نستخرج من هذه الحقبة ما لم نستخرجه بعد من معلومات محقّقة في الظاهرة الدينية.
د) أوروبا والغرب
أشدّد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. في خطابنا العربي، نركّز على الغرب أكثر مما نركّز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 أيلول، نجد الكلام موجّهًا ضد الغرب، المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلّم على أوروبا بتاتًا.
فأوروبا مفهوم جغرافي سياسي–تاريخي، وهو يختلف عن المفهوم الموازي والذي نسميه الغرب. بمصطلح "الغرب" نشير إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها هي الطرف المهيمن حتى على القارة الأوروبية التي، على غرار كل بلدان العالم وقاراته، بدأت تعاني وتشكو من هذه الهيمنة وتناضل ضدّها. الفارق بين "الغرب" و"أوروبا" كبير، وبالأخصّ اليوم، لأن أوروبا دخات مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الانتقال من "الدولة–الأمة" (Etat–Nation) إلى فضاء سياسي وفضاء للمواطنة أوسع من فضاء "الدولة الامة". علينا أن نهتم بهذه الثورة التاريخية ونفكّر فيها، لما لها من أبعاد فكرية، وقيمية، وسياسية لا نجدها في المفهوم الجغرافي–السياسي الذي نستعمله عادة: الغرب. هناك حوار بدأ يتأسّس بين أوروبا وأميركا. أين نحن، كمسلمين وكعرب، من هذا الحوار الذي يتمحور حول مسألة القيم التي بدأنا الكلام بها.
ما يُحكى عن صراع بين الأديان ليس بيننا وما نسميه الغرب. هناك صراع قيَم، صراع في النظرة الفلسفية لوجود البشر وأوضاعهم، صراع حول المنحى الذي يجب أن يسلكه التغيير في المسار التاريخي لوضعهم وتسييره، صراع بين الفلسفة التي تتبناها أوروبا في إرساء هذا الفضاء التاريخي الجديد، والفلسفة التي تدّعيها الولايات المتحدة وتعتمد عليها لفرضها على العالم أجمع من طريق ما يسمّى بـ"العولمة".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت أمم عُرفت بـ"العالم الثالث"، وقد اجتمعت هذه الأمم، التي استقلّت من الاستعمار، في "باندونغ" في الخمسينات من القرن الماضي. ضمن هذا السياق التاريخي، هناك ظاهرة لم نعطِها حقّها من التحليل والدراسة، وهي ما سميناه بـ"الثورة العربية الاشتراكية" التي خيض على أساسها نضال من أجل الوحدة العربية من العام 1952 وحتى وفاة جمال عبد الناصر. بعدئذ انتقلنا إلى "ثورة" أخرى غلبت عليها التيارات التي نصفها بـ"الأصولية"، والتي تلبّس بمعجم ديني كل النضالات التي نمرّ عليها، والتي هي نضالات سياسية.
ليس لي أن أشدّد كثيرًا على هذه المرحلة التاريخية في مقاربتي للبحوث والتدريس. ففي بالي دائماً، ما أستخرجه من فائدة فكرية وعلمية نبني عليها نظاماً تربوياً يختلف عن الأنظمة التربوية التي فرضتها الأنظمة السياسية في بلداننا منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا. وكلنا يعلم أن هذه الأنظمة التربوية لم تتبنّ هذه المقاربة العلمية لتقدّم نظرة علمية مثبتة ومحقّقة مبنية على النقد العلمي إن في المرحلة الثانوية أو في الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التفكير، إلى هذا النوع من البحوث كي نهيّء، على المستوى الجامعي، المدرّسين الذين بمقدورهم أن يغيّروا فهمنا لدور الدين ولدور السياسة في مجتمعاتنا.
2. إبداع الأفكار والمجتمع
هنا ندخل في ميدان أوسع لأن هذا النوع من مقاربة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يعتمد على ما نسميه "Ideation & Society". فـ "Ideation" تعني بالعربية "إبداع الأفكار"، وتأهيل العقل البشري ودفعه نحو إيجاد أفكار وبناء مفاهيم تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات، وتعيد النظر في هذه الأفكار بشكل متواصل حتى لا توظّف في استعمال إيديولوجي.
علينا التشديد على هذه النقطة أيضًا. غالبًا ما تبدأ خطاباتنا بطرح الأفكار كأفكار، بإرادة التمييز بين هذا المفهوم وذاك، بإنتاج مفاهيم تمكّننا من تحليل الواقع. ولكن سرعان ما ننتقل من هذه العمليات إلى الإيديولوجيا، إلى الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي. للحؤول دون هذا الانزلاق، علينا أن نبقى في العملية الإنتاجية–الإبداعية للأفكار والمفاهيم التي نستعملها كأدوات علمية لتفسير ما يجري في مجتمعاتنا وفهمها.
هناك أربعة مفاهيم:
• تكوين الدولة:
تكوين الدولة أو النظام السياسي الذي يجب أن نراقبه في حركته الديناميكية وفي تكوّنه المستمر من خلال التاريخ. لذلك لا يكفي أن نقول "الدولة"، ولا يكفي أن نقول "النظام السياسي". فهناك أنظمة سياسية لها تاريخ، وقد تطوّرت من النظام القبلي إلى الأنظمة الحديثة التي نجدها في مجتمعاتنا.
• الكتابة:
الكتابة دليل على نقلة مهمة في تاريخ الحضارات والثقافات. عندما نقول "الكتابة"، يجب أن نفترض وجود مقابل لها هو "الشفاهة" (Orality). وكذلك عندما نقول الثقافة العالمة (Learned Culture)، يجب أن نفترض في المقابل وجود "ثقافة شعبية". هذه المقابلات تنتج توترات جدليّة في المجتمعات لأن هناك افتراضاً بأن الدولة تعتمد على الكتابة، والكتابة العالمة تحديدًا، وعلى قوة أخرى نطلق عليها اسم "الأرثوذكسية". ليس لهذا المفهوم (الثقافة الأرثوذكسية) مرادف في العربية. وكلما طرحتُ هذا السؤال (المفهوم) ، تلقيت الجواب نفسه (السؤال): السنّية.
هناك في الإسلام مذاهب على غرار ما في المسيحية من مذاهب (أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية)، ولكل فرع منها أرثوذكسيتها. "الأرثوذكسية" مفهوم اجتماعي–ثقافي، ينتج من طريق الصراعات السياسية والثقافية، والصراعات الرمزية (حل الرموز). هناك في المجتمع نزاع حول "الرأسمال الرمزي": من يهيمن على "الرأسمال الرمزي" ويستعمله ويستغلّه. نستمدّ من الأديان هذا "الرأسمال الرمزي"، ونعتمد عليه لتعيين الحقيقة و"الأصالة الأرثوذكسية" التي يجب أن تفرض على الجميع. هذا المفهوم الأرثوذكسي مرتبط بالمجتمع كقوة فاعلة، وبالثقافة العالمة التي تنتجها النخبة، وبالكتابة والأدب المكتوب. علمًا أن اللغة المكتوبة، أتتنا، نحن العرب، من اللهجات العامية.
• تكوين الدولة
(State formation)
مقابل "الدولة"، هناك ما نسميه "المجتمعات الانقسامية" (Segmentary Societies) التي هي النظام القبلي الذي لا يزال حيًّا عندنا وله تأثيره في المجتمعات، وهو في نزاع مع الدولة المركزية. هذا النظام القبلي يعتمد على الشفاهة والثقافة الشعبية، ويرتبط بالأمية التي لا تزال متفشّية في مجتمعاتنا.
هناك إذًا جدلية تشدّ هذه القوى إلى بعضها. ومقابل الأرثوذكسية، هناك الهيتروذوكسية أو ما نسمّيه الفرق أوالملل أوالنحل أو، كما في لبنان، الطوائف. ثمة أهمية كبرى للجدلية الاجتماعية، المستمرة في كل مجتمع، وفي إنتاج كل مجتمع. غير أن التاريخ الذي نعلّمه لأبنائنا في المدارس الثانوية لا يتبنّى هذا الديالكتيك، هذا العرض التحليلي لجميع القوى المتواجدة والمتساكنة في المجتمع لكي نفهم معاني الصراعات، وعلى ماذا تعتمد، وإلى أين تذهب بنا.
علينا التمييز بين الدين الذي نتعلمه على أيدي الفقهاء والدين المكتوب والثقافة العالمة من ناحية، والدين الشعبي من ناحية أخرى. علينا أخذ كلّ هذا في الاعتبار لندرس التوتّرات والتناقضات والصراعات المستمرة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
إن تأريخًا يقتصر على ذكر الظاهرة السياسية بحوادثها المتعاقبة من جهة، والظاهرة الدينية من ناحية أخرى، قد يصوّر لنا وكأن هناك فرقًا بين الدين المتعالي الذي يعلمنا أشياء متسامية، والسياسة التي تعتني بأشياء بسيطة وسيئة ومهينة. هذه المقاربة التي تدّعي العلمية هي في الحقيقة مزيِّفة للواقع، وتجعلنا بعيدين من التعمّق والتحقيق في الظاهرة الدينية ومدى تأثيرها على الظاهرة السياسية والتصارع بينهما. هذا الصراع موجود في كل المجتمعات، من أقدمها إلى أحدثها، وهو موجود في الولايات المتحدة كما هو موجود في مجتمعاتنا. هذا الطرح للإشكاليات يهدف إلى البحث عن ماهية وظائف الأديان ووظائف السياسة وتعليلها. هذا العرض يسمى عرضًا تاريخيًا-أنثروبولوجيًا.
يعتني العلم الأنتروبولوجي بجميع القوى العاملة في المجتمع، والتي نجدها في كل زمان ومكان من دون استثناء. ولهذا السبب، نسمي هذا العلم "أنتروبولوجيا": "أنتروبوس" هو الإنسان، و"لوغوس" هو العلم. أي العلم الذي يبحث في الإنسان كإنسان، في الوضع البشري. هذا ما قصدته عندما بدأت بالقول إننا لن نتفهّم مقاصد الدين ومحتوياته ووظائفه في مجتمع من المجتمعات إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والنهاجية لنطرح الأسئلة اللازمة. ومثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، و يشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة.
هناك اختلاف بين الذاكرات الاجتماعية. وعلى أساس هذا الاختلاف، تنتج الصراعات الاجتماعية والسياسية والدينية التي غالبًا ما نخلط بينها.
قد يشكّل هذا برنامجًا شاملاً للعلوم التي يجب أن نعتني بها ونعلّمها في قسم لدراسة الأديان في كل جامعة من الجامعات الموجودة في بلداننا. وأنتم تعلمون أن العلم الأنثروبولوجي مجهول، ونادرًا ما يُعلّم.
يؤكّد بعض الأساتذة، لا بل كثيرون منهم، باسم "الأنتروبولوجيا" ما هو في الحقيقة علم إتنوغرافي. هناك فرق كبير بين " الإتنوغرافيا" و"الأنتروبولوجيا". التحليل الأنتروبولوجي للمجتمعات لا يمكن أن يبتعد عن البحث والتحليل التاريخيين، وكذلك بالنسبة إلى التحليل التاريخي لتطور المجتمعات، فهو لن يكون كاملاً ويبرز كل الحقائق والوقائع الموجودة في المجتمع إذا لم يرتبط بالإشكاليات الأنتروبولوجية للظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
أقول هذا لنعي المسافة التي تفصل بين ما نقوم به اليوم في جامعاتنا ومدارسنا الثانوية، والهدف الذي يجب أن نبلغه لنخرج من المآزق المعرفية التي نتخبط فيها، كلّما حاولنا فهم ماذا يحدث في مجتمعاتنا. وإذ لا نجد لهذه المآزق حلولا، فلأنّنا لم نتمكّن من إنشاء منظومات معرفية مختلفة تماما عن المنظومات التي لا تزال تكيّف إدراكنا وتفسيرنا للأوضاع التي نعيشها الآن.
إذًا المطلوب هو دراسة وتدريس ما نعني بـ"مجتمعات الكتاب" (La société du Livre). هذا يعني أن هناك ظاهرة الكتاب. تلاحظون أن عبارة " الظاهرة" تتكرر في خطابي. لماذا أقول ظاهرة الكتابة، الظاهرة السياسية، الظاهرة البيولوجية، الظاهرة الفيزيقية. لماذا الظاهرة؟ لأن هناك أشياء ندركها بأعيننا، بآذاننا، أشياء نراها، نلمسها، نجرّبها. هناك إذًا أشياء موجودة. غير أننا غير قادرين على تفسير وفهم كل ما يتعلق بهذه الظواهر. فعلى الرغم من أنها ظاهرة أمامنا، لا نملك بعد مفاتيح فهمها. نحن جاهلون للظاهرة الدينية. كان علينا أن نبدأ بالجهل. إننا جاهلون، ولكننا نتخاطب وكأننا عالمون علم اليقين في كلّ ما يخص الدين. نحن نجهل الكثير من الأشياء الأساسية التي يعبّر عنها الدين، وما يقوم به في المجتمع والتاريخ. لذلك أستعمل كلمة "الظاهرة"، "ظاهرة الكتاب" وغيرها من الظواهر. من بمقدوره أن يفسر الظاهرة في جميع تشعباتها وأبعادها؟ إلى الآن لم نقدّم طرحًا شاملاً لظاهرة الكتاب مثلاً.
هناك كتاب ألّفه عالم الأديان السويدي وندرغرن (Windergren) بعنوان "محمد رسول الله وظاهرة الكتاب السماوي" (Mohammad the Apostle of God and the Heavenly Book). هذه الفكرة، فكرة الكتاب السماوي، كانت موجودة ومنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد استعملها الناس واستعملتها الأديان المختلفة، وبقيت حيّة قرونًا وقرونًا إلى يومنا هذا. غير أن ما كتب عن هذه الظاهرة قليل جدًا، ولا يمكننا استخدامه استخدامًا محقّقا ومثبتًا علميًا.هذه الفكرة لا تزال في مجال "العلم الميتولوجي".
كيف نقارب الظاهرة القرآنية والظاهرة الإنجيلية أو الظاهرة التوراتية؟ يطبّق هذا البيان على القرآن طبعًا، و لكن أيضًا على جميع الكتب المؤسِّسة للأديان. أبعد من ذلك، فهذا البيان يطبق على جميع الكتب أو النصوص التي يستعملها مجتمع ما كمرجعية ملزمة، كالدستور مثلا. فالدستور مرجعية ملزمة، تلزم جميع المواطنين، وهو مرجعية لفصل الخلافات القائمة بين المواطنين في المجتمع. هذا أيضا طرح أنتروبولوجي لمفهوم ظاهرة الكتابة التي لا تخصّ القرآن فقط، أو الإنجيل فقط. هذا هو الفرق بين المقاربة التاريخية الأنتروبولوجية والإنسانية، والمقاربة اللاهوتية للموضوع نفسه. ماذا يقول اللاهوت؟ يقول إن هذا كتاب منزل، وإن اليهود شعب منتخب. بهذين القول والإيمان يحدث ما يحدث، ويعمل البشر ما يعملونه. في ما يتعلق باللاهوت المسيحي يقول الكاردينال راتسينغر[إنه البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر] في نص نشره بعنوان "Dominus Jesus" (السيد المسيح) وعنوان فرعي "Sur l’unicité et l’universalité salvifique de Jesus-Christ et de l’Eglise" (عن الوحدة والكونية المنقذة ليسوع المسيح والكنيسة)، الكلام الآتي:
"علينا التمييز بشدّة بين "الإيمان" اللاهوتي و"العقيدة" في الديانات الأخرى. فبينما "الإيمان" هو استقبال للنعمة الإلهية وللحقيقة المنزلة، تشكّل "العقيدة" في الديانات الأخرى مجموع التجارب والأفكار الإنسانية، هذه الثروة من الحكمة والتديّن التي بلغها الإنسان في بحثه عن الحقيقة وفي تفكيره لواقع العلاقة مع كل ما هو إلهي ومطلق".
تستحق هذه الجملة التحليل والتأويل لأنها تجمع في جملة واحدة مجمل القضايا اللاهوتية التي لم نعالجها بعد معالجة تنطلق من المناهج التي ذكرت. وإذا التمسنا هذه الجملة وترجمناها من منطلق إسلامي لاهوتي وقعنا في مشاكل ومآزق يستحيل علينا الخروج منها . وهذا ما حصل تاريخيًا. فنحن في مآزق بسبب مفاهيم أتتنا من القرون الوسطى، ولا نزال إلى يومنا هذا نعلّمها، ونكرّرها، ونعتمد عليها للتمييز بين ما نسميه الإيمان (La foi) المبني على نموذج لاهوتي، ومانسميه العقائد. فالعقائد موجودة أيضًا في الأديان الأخرى. أما الإيمان النموذجي فنجده في المسيحية حسب التفسير اللاهوتي. لا يحقّ لنا أن نرفضه أو نقبله. نأتي إلى هذا النوع من الخطاب بعد أن نكون قد عبرنا جميع المراحل التي ذكرتها في ما يتعلّق بالتقديم أو التمهيد لدراسة لبّ المشاكل في النصوص المنزلة نفسها.
هناك ما نسميه" المعطى المنزل". التنزيل أعطي، ونحن تلقيناه. أعطاه الله للبشر، وهو لدينا، في متناولنا. و لكن ماذا بإمكان العقل أن يقول اليوم عن هذا المعطى؟ وهو (أي العقل) يمرّ في أزمة معرفية تمس الفكر الديني كما تمسّ الفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي.
قد يغيّر هذا من طبيعة علاقتنا بالخطاب اللاهوتي الذي تلقيناه. وهذا هو المقصود من كل ما قلته عن ضرورة الطرح الجديد للظاهرة الدينية ودراستها بمنهج علمي. ذلك لأن الدراسة العلمية، كما وصفتها، لا تطلب من المسيحي أن يكون أرثوذكسيا أو كاثوليكياً حتى يشارك فيها، ولا تطلب من المسلم أن يكون سنّياً أو شيعيا كي يساهم فيها. هذا علم، نعمل عليه كما نعمل في العلم البيولوجي أو في المختبر. وهذا المفهوم لا يعارض ولا ينفي الدراسة والبحث اللاهوتيين. في كلّ مرّة عرضتُ فيها هذا المفهوم، كان الردّ بأن هذه البحوث لا تعطي أهمية للإيمان وللدين. لقد كان هذا صحيحاً في الممارسة "العلماوية" (Positiviste, Scientiste) التي كان يتبناها العقل في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فنعطي الأديان والإيمان والقيم والعقائد الدينية جميع حقوقها، ونعترف بوظائفها في المجتمع. فالدين غير الإيديولوجيا، ولذلك وجب أن ندرسها.
عندما أذكر الإنجيل أو القرآن، أشير إلى شيء أظنه معروفاً وبديهياً. غير أن هذا النوع من استعمال اللفظ يغطي مشاكل غاية في الأهمية ويخفيها عنا كي لا ندرسها دراسة تحليلية وعلمية. هذه النقطة أهملناها، ولانزال، لأننا نتّهم العلوم الاجتماعية والإنسانية بأنها علوم معادية للأديان ونافية لها. وهذا غير صحيح.
ما عسانا نغطّي، وماذا نهمّش، وماذا نترك جانباً ومدفونا دون التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر كما في الفكر المسيحي المعاصر؟ ثمة ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. ونحن في مجتمعاتنا نعرف ماذا نعني بما لا يمكن التفكير فيه. لا في مجال السياسة فقط، ولكن في مجال الثقافة (الإيديولوجيا) التي نتثقف ونتخاطب بها في الميدان العام، في المجتمع. أما عندما نتخاطب في ما بيننا، فنستخدم لغة أخرى، وخطابا آخر.
• "كلام الله":
أثارت هذه العبارة-المفهوم في التاريخ الإسلامي والمسيحي منذ زمن طويل نقاشات مهمة. ماذا نفهم بعبارة "كلام الله"؟ في ما يخصّ الفكر الإسلامي، الجميع يعرف مساهمة المعتزلة في إشكالية القرآن: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إنها إشكالية مهمة جداً. وطبعاً نرفض هذه الإشكالية اليوم بسبب "الأرثوذكسية".
لا يمكننا التخلّي عن هذا المستوى في البحث. فهو يتطلّب منّا أن نتسلح بأسلحة غير تلك التي لا يزال الخطاب اللاهوتي الرسمي يستعملها إلى يومنا هذا.
"كلام الله" هذا ظهر في مرحلة من مراحل التاريخ وكخطاب شفاهي. لم يظهر كخطاب مكتوب. سيكتب في ما بعد. والكتابة بحدّ ذاتها تثير مشاكل عديدة. مثلاً الحروف العربية، كالكوفية في القرن الأول للهجرة، كانت من دون تنقيط ومن دون حركات. وهذا ما أثار مشاكل. ولكن أهمية هذه المرحلة التاريخية تكمن في دور "الخطاب الشفاهي" في أداء المعنى وتبليغه للمستمع. مثلاً في الكلام الذي تسمعونه مني، لا أكتفي بالأرقام التي أستخدمها لكي أبلّغ ما أريد، بل أستعين بيدي وبوجهي وبصوتي لإضافة معانٍ تسهيلاً للتبليغ. علماء اللسانية المعاصرون يعطون أهمية كبرى لهذا التعبير الشفاهي ويسمونه "سيميولوجيا الخطاب".
أقول هذا من أجل المعنى لأن كل شيء مبني عليه. على أي معنى نبني العقائد؟ وما الذي سيصبح منها عقائد دوغمائية؟ إذا لم نؤمن بها، كما تفترض الخطابات اللاهوتية، نعاقب هنا، في الدنيا.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي لسانية محضة لا تمس العقائد، بل تسعى إلى توضيح ماهيتها التي تبنى على إرادة إبلاغ المعنى الصحيح والأصيل والمقصود في الخطاب الأول كما ألقي على جماعة ما. هذه مرحلة أساسية من حيث الجوهر، وليس فقط من حيث المنهاج. وهذا شامل لكل الأديان. ليس من نزاع بين المسيحية والإسلام اليوم. كلّنا في الوضع نفسه، الذي هو وضع لغوي وتاريخي. لا يمكننا استرجاعه. ما لا يعاد، وما لا تمكن إعادته للتاريخ، هو ثمين.
3. النصوص
ننتقل إلى المرحلة الثالثة أي إلى المجموع الرسمي المعلن من النصوص. هذه النصوص رسمية لأنها نابعة من إرادة رسمية، إرادة الكنيسة. إنها إرادة رسمية من البشر الذين قرّروا أن هناك أناجيل أصيلة وأخرى مختلقة انتشرت في القرنين الأول والثاني بعد المسيح. الأمر عينه حصل مع الأحاديث عند المسلمين، فمنها الصحيح ومنها المختلق. أُغلق الموضوع بعد أن تقرّر أن الأناجيل الأربعة التي يجب الاعتماد عليها هي الأناجيل الصحيحة، وأن المصحف العثماني هو المصحف الصحيح الذي يجب أن يُعتمد. ومن ثمّ أغلق النقاش.
ما معنى "أُغلق"؟ معناه أنه إذا جاء راوٍ من الرواة ليقول "بلغني عن فلان وفلان أن النبي قد قال كذا وكذا بصدد آية محددة"، فالجواب أن الأمر منتهٍ، مغلق. أكثر من ذلك. في تفسير الطبري للآية 12 من سورة النساء، قراءتان. وقد قرأ الطبري في قراءتيه 28 خبراً. أخبار تروي أشياء مختلفة. لذلك نقرأ اليوم النصوص في مجموعات مغلقة. في هذا ما يثير مشاكل في طرق التفسير، وتحديد محتوى النصوص ومعناها.
4. الخطاب الديني
المجموعات المفسّرة: تفسير الطبري كناية عن مجموعة بل موسوعة من العلوم تصحّ لتكون مرجعاً لكل من يفسر القرآن، فيستمد منها المعلومات التي جمعها الطبري. والشيء عينه في ما يتعلّق بالتوراة والأناجيل. هناك مجموعات تؤلّف، فيُعتمد عليها. إنها مجموعات لاهوتية بالنسبة إلى المسيحيين، ومجموعات شرعية في ما خصّ الشريعة عند المسلمين.
تاريخ التفسير كوّن تصوراتنا، وفهمنا، وكلّ ما نسميه عقائدنا في ما تؤلفه النصوص المنزلة. فالوصول إلى النص المنزل يكون من خلال المجموعات التي تراكمت منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.
ما أقدّمه هنا هو برنامجاً للعلم والبحوث، لأننا لم نقُم ببحوث علمية عن كل مرحلة من هذه المراحل. نكتفي اليوم بالإحالة إلى المستوى الأول: هذا "كلام الله". أما المستوى الثاني، فهو ما سمعناه عن النبي أو عن المسيح. كل هذا نصل إليه من خلال الكتب التي لا نزال ندرّسها حسب القواعد والمناهج المتّبعة والموضوعة منذ زمن. إنها قضايا شائكة ومهمة، ولها تأثير في خطاباتنا إلى اليوم.
بدأت حديثي بأنه، حتى في أواخر القرن العشرين، استعمل كلٌّ من بوش وميتران المعجم الديني لتبرير الحروب، وذلك من أفواه تعتقد بالنظام العلماني وتؤيّده. في المجتمعات التي أحدثت ثورة في فصل الدين عن الدولة، نجد أن الظاهرة الدينية مهملة وغير مدروسة. والدليل على ذلك ان وزيراً في فرنسا هو جاك لانغ (Jack Lang) أسّس، ولأول مرّة، معهداً أوروبيا يُعنى بدراسة الأديان. هذه خطوة جديدة. وعندما أعلن عن ذلك، طُرح عليه السؤال الأول الذي هو: أين هم المعلمون والأساتذة الذين بإمكانهم أن يدرّسوا الأديان حسب الذهنية العلمية، العلمانية، الفلسفية، الأنتروبولوجية التي ذكرتموها في مقدمتكم؟
إذا كان هذا الكلام قد قيل في فرنسا، ولفرنسا المكانة المعروفة في مجال العلماء والجامعات، فماذا نقول عندنا عن جامعاتنا؟ الحمد للّه أن عندنا جامعة البلمند التي أتاحت لنا هذه الفرصة لنطرح هذه الأفكار راجين أن تلقى من يتبنّاها في هذا البلد، الثري بثقافاته وبما يسمّونه الطوائف، وأنا أسميها "الذاكرات الجماعية" الحاملة لثروة ثقافية. يجب أن تحظى هذه الذاكرات بما تستحقّه من اهتمام، وأن نتيح لها فرصة أن تنطق وتعبّر عن نفسها بلهجاتها لا باللغة العالمة، الفصحى. وذلك لأن التعرّف على كل ذاكرة لا يستقيم إلاّ من طريق اللهجة التي يتم التكلم بها في الأسرة، في الشارع، في الخطاب اليومي. هناك كتب كثيرة نقرأها، ولكن علينا أن نقرأ السطر الأول والثاني، وألاّ نكتف بالأول فقط.
عنوان محاضرتي هو "الظاهرة الدينية بعد حادثة 11 أيلول"، وقد اخترت هذا العنوان لنعيد التفكير في الظاهرة الدينية بعد هذا الحدث اعتماداً على ما يمكننا أن نستنتجه من أفكار جديدة وبرامج جديدة للبحث العلمي عن الاديان وتفسيرها من منطلق كونها ظاهرة.
حادثة 11 أيلول كان يمكن أن تكون منطلقاً لتفكير آخر ولسياسة أخرى. ولأنها حصلت في الولايات المتحدة، ومسّت رموز الحضارة الغربية كما نسميها، فلقد أثارت في هذه الحضارة، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، الردود التي نعرفها اليوم، والتي هي ردود القوة والحرب. ولكن لم نسمع إلى الآن ردودًا على صعيد المعاني الرمزية التي تحملها هذه الحادثة.
1. معاني الرمزية
لقد مسّت هذه الحادثة ما يسميه العلماء في أميركا ويصفوه بمفهوم "القيم الحضارية الغربية"، مسّت تلك القيم الغربية التي، باعتقادهم، غير موجودة في حضارات أخرى. ولطالما سمعنا علماء يكررون أن هناك اقتتالاً بين الحضارات، وصدامًا بين الثقافات، بسبب تفاوت بين الثقافات والحضارات تبعًا للقيم التي بنيت عليها.
ولذلك كان من المنتظر أن نسمع، من طرف العلماء الغربيين وأيضًا من طرف العلماء المسلمين، كلاماً على هذه القيم الحضارية. خاصة أن هذه الحادثة، على ما نعرفه وتعرفه وسائل الاعلام، قد قام بها طرف إسلامي، حركة إسلامية.
هناك في أميركا معهدٌ يحمل اسم "معهد القيم الأميركية". وقد صدر عنه بيان وقّعه ثمانون عالماً وباحثاً وكاتباً أميركيًا، يبررون فيه مفهوم الحق الذي يدافع عن العدل، والمبنيّ على فكرة الدفاع عن العدل (La guerre juste). هذا المفهوم يأتينا من القديس أوغسطينوس، وهو مفهوم لاهوتي قديم يترجم تماماً ما يسميه المسلمون "الجهاد".
غير أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء العلماء، الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين يفكرون في إطار حديث، يرجعون إلى معجم ديني-لاهوتي لتبرير الحرب التي نحن فيها. وقد تكرّر هذا أثناء حرب الخليج. فالرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران والأميركي جورج بوش الأب، استعملا المفهوم نفسه (La guerre juste) لتبرير الحرب حينذاك. من جهتنا كذلك، نحن العرب والمسلمين، نبرّر ما نقوم به، ونبرّر حادثة 11 أيلول، بالاعتماد على مفهوم "الجهاد" بالإحالة الى المعجم اللاهوتي إياه.
هذا الواقع يفرض علينا كباحثين، وكباحثين في البلدان العربية الإسلامية تحديدًا، أن نعيد النظر في المعجم الديني برمّته، لنسأل ما هي الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب، وتجعل الغرب من جهته في حروب ضدنا. إلى الآن لم نجد حلاً، ولم نوجِد معجماً آخر نعتمد عليه كي نفكر تفكيراً جديداً في ما نسميه "القيم".
كيف يمكننا أن نقوم بهذا العمل، وننتقل بالتالي من الاستعمال الإيديولوجي لما نسميه "القيم"، الغربية أو الإسلامية، إلى إيجاد معجم آخر، وإصدار دراسات أخرى، للكلام على الحضارات والثقافات؟
أقدم مثلاً يمكّننا من الانتقال من هذه المعاجم القديمة التي نستعملها، إلى معجم آخر، وهو معجم يعتمد على اللسانيات، والتاريخ المقارن للأديان، وعلى ما نسميه "انتروبولوجيا" الأديان.
أ) المقاربة التاريخية
للظاهرة الدينية
كيف ندرس الأديان دراسة مقارنة في فضاء البحر المتوسط. في هذا الفضاء، وفي إطار فكري واحد، ظهرت ديانات استعملت المعجم نفسه و"القيم" نفسها التي نجدها في الديانات الثلاث المنزلة. غير أن ثمة استعمال لمعجم آخر، منذ القرون الوسطى خاصة، مبني على الفكر الفلسفي كما كان يمارس في تلك المرحلة. حينذاك لم يكن الفكر الفلسفي يُعنى بالفلسفة فقط، وإنما بالعلوم جميعها.
والمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من أن نقارن العلاقات الفكرية والثقافية بين الأديان التي تطوّرت معاجمها وتغيرت أثناء التطور التاريخي منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا. هذا ما يجب أن نبدأ منه لتكون لنا أرضية للتحليل التاريخي لكل ما يتعلق بهذه الأديان، ولتكون لنا أيضاً نظرة تحليلية نقدية للمعاجم الدينية من جهة، وللمعاجم العلمية–الفلسفية من جهة أخرى. لذلك اخترت الخوض في مسألتي المعنى والهيمنة.
ب) البحث عن المعنى
وإرادة الهيمنة
هناك توتر، في كل ثقافة وإطار فكري، بين البحث عن معنى - وهو ما تقصده الأديان - وإرادة الهيمنة من خلال استعمال المعاني التي تأتي بها الأديان والفلسفات. والهيمنة معناها: هيمنة سياسية للمجتمعات. هنا يكمن الصراع الذي نعرفه بين الأديان والسياسية. وهذا صراع لم نتمكّن بعد من فهم العلاقات التي تجري بين مكوّناته، ولم ندرك الخلاف الذي يضع الظاهرة الدينية في وجه الظاهرة السياسية.
ثمة ضرورة لشرح جميع المراحل التاريخية، من المرحلة الإغريقية والرومانية القديمة من جهة، إلى المرحلة المعاصرة لأنبياء العهد القديم في ما نسميه "الشرق الأوسط القديم" من جهة أخرى. بقيت هذه الثقافات والمدنيات القديمة في الشرق الأوسط حيّة قروناً وقروناً، ونجد لها تأثيرًا حتى في النصوص المقدّسة، التوراة والأناجيل والقرآن. هنا يأخذ البحث منحىً أفقيًا، تاريخيًا–تحليليًا، في مقابل قراءة عمودية، اعتدنا عليها، لتطوّر الأديان كأن نقول إن النصوص منزلة من الله إلى الأرض. هناك إذًا قراءتان علينا القيام بهما: قراءة أفقية–تاريخية، وأخرى عمودية على حسب الاستعارة المستعملة في القرآن، "التنزيل"، تنزيل العزيز الرحيم.
على قراءتنا للكتب المنزلة جميعها أن تعتمد على التاريخ الديني الذي سبقها. مثلاً، إذا قرأنا سورة "الكهف" في القرآن، نجد فيها قصصاً تحيلنا إلى الثقافات القديمة: قصة تحيلنا إلى من يسميه القرآن "ذو القرنين"، وهو "الإسكندر"، وقصة تحيلنا إلى أهل "الكهف" وهم المسيحيون الذين اضطهدوا في عهد "ديوكلسيان"، وهذه قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، يستعملها القرآن ليحكي عن الذين يستشهدون بحياتهم من أجل إيمانهم بالله. وفي هذا ما يبيّن لنا أن هناك في الشرق الأوسط وعيًا لثقافة لا تزال حيّة يُستشهد بها، ويُعتمد عليها في تقديم الحقائق الدينية من العهد القديم إلى القرآن.
جـ) أوروبا، والمسيحية الرومانية واليهودية والإسلام
لهذه الأديان الثلاثة تاريخها في القرون الوسطى، وهي تحتاج لمدى أوسع لشرح العلاقات بينها. ثمة فكرة مهمة جدًا في القرون الوسطى، امتدّت من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، تقول إن الثقافة الفلسفية في فضاء البحر المتوسط كانت تنطق باللغة العربية، وتزدهر وتنمو في إطار سياسي هو إطار الخلافة. هذه المرحلة التاريخية مهمة جداً، ولكنها لم تحظَ بعد بالدراسة اللازمة لكي نتحرّر من كثير من التأويلات التي كانت الأديان عرضة لها، وننعتق من النصوص القديمة التي فرضها علينا المفكرون، والمفسرون، والفقهاء، وأهل الكلام في هذه الحقبة من التاريخ. ونحن، في الإسلام خاصة، لم ندرس بعد هذه الحقبة دراسة تاريخية، ولذلك نلحّ على ضرورة وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في برنامج للبحوث والتعليم لكي نستخرج من هذه الحقبة ما لم نستخرجه بعد من معلومات محقّقة في الظاهرة الدينية.
د) أوروبا والغرب
أشدّد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. في خطابنا العربي، نركّز على الغرب أكثر مما نركّز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 أيلول، نجد الكلام موجّهًا ضد الغرب، المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلّم على أوروبا بتاتًا.
فأوروبا مفهوم جغرافي سياسي–تاريخي، وهو يختلف عن المفهوم الموازي والذي نسميه الغرب. بمصطلح "الغرب" نشير إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها هي الطرف المهيمن حتى على القارة الأوروبية التي، على غرار كل بلدان العالم وقاراته، بدأت تعاني وتشكو من هذه الهيمنة وتناضل ضدّها. الفارق بين "الغرب" و"أوروبا" كبير، وبالأخصّ اليوم، لأن أوروبا دخات مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الانتقال من "الدولة–الأمة" (Etat–Nation) إلى فضاء سياسي وفضاء للمواطنة أوسع من فضاء "الدولة الامة". علينا أن نهتم بهذه الثورة التاريخية ونفكّر فيها، لما لها من أبعاد فكرية، وقيمية، وسياسية لا نجدها في المفهوم الجغرافي–السياسي الذي نستعمله عادة: الغرب. هناك حوار بدأ يتأسّس بين أوروبا وأميركا. أين نحن، كمسلمين وكعرب، من هذا الحوار الذي يتمحور حول مسألة القيم التي بدأنا الكلام بها.
ما يُحكى عن صراع بين الأديان ليس بيننا وما نسميه الغرب. هناك صراع قيَم، صراع في النظرة الفلسفية لوجود البشر وأوضاعهم، صراع حول المنحى الذي يجب أن يسلكه التغيير في المسار التاريخي لوضعهم وتسييره، صراع بين الفلسفة التي تتبناها أوروبا في إرساء هذا الفضاء التاريخي الجديد، والفلسفة التي تدّعيها الولايات المتحدة وتعتمد عليها لفرضها على العالم أجمع من طريق ما يسمّى بـ"العولمة".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت أمم عُرفت بـ"العالم الثالث"، وقد اجتمعت هذه الأمم، التي استقلّت من الاستعمار، في "باندونغ" في الخمسينات من القرن الماضي. ضمن هذا السياق التاريخي، هناك ظاهرة لم نعطِها حقّها من التحليل والدراسة، وهي ما سميناه بـ"الثورة العربية الاشتراكية" التي خيض على أساسها نضال من أجل الوحدة العربية من العام 1952 وحتى وفاة جمال عبد الناصر. بعدئذ انتقلنا إلى "ثورة" أخرى غلبت عليها التيارات التي نصفها بـ"الأصولية"، والتي تلبّس بمعجم ديني كل النضالات التي نمرّ عليها، والتي هي نضالات سياسية.
ليس لي أن أشدّد كثيرًا على هذه المرحلة التاريخية في مقاربتي للبحوث والتدريس. ففي بالي دائماً، ما أستخرجه من فائدة فكرية وعلمية نبني عليها نظاماً تربوياً يختلف عن الأنظمة التربوية التي فرضتها الأنظمة السياسية في بلداننا منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا. وكلنا يعلم أن هذه الأنظمة التربوية لم تتبنّ هذه المقاربة العلمية لتقدّم نظرة علمية مثبتة ومحقّقة مبنية على النقد العلمي إن في المرحلة الثانوية أو في الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التفكير، إلى هذا النوع من البحوث كي نهيّء، على المستوى الجامعي، المدرّسين الذين بمقدورهم أن يغيّروا فهمنا لدور الدين ولدور السياسة في مجتمعاتنا.
2. إبداع الأفكار والمجتمع
هنا ندخل في ميدان أوسع لأن هذا النوع من مقاربة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يعتمد على ما نسميه "Ideation & Society". فـ "Ideation" تعني بالعربية "إبداع الأفكار"، وتأهيل العقل البشري ودفعه نحو إيجاد أفكار وبناء مفاهيم تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات، وتعيد النظر في هذه الأفكار بشكل متواصل حتى لا توظّف في استعمال إيديولوجي.
علينا التشديد على هذه النقطة أيضًا. غالبًا ما تبدأ خطاباتنا بطرح الأفكار كأفكار، بإرادة التمييز بين هذا المفهوم وذاك، بإنتاج مفاهيم تمكّننا من تحليل الواقع. ولكن سرعان ما ننتقل من هذه العمليات إلى الإيديولوجيا، إلى الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي. للحؤول دون هذا الانزلاق، علينا أن نبقى في العملية الإنتاجية–الإبداعية للأفكار والمفاهيم التي نستعملها كأدوات علمية لتفسير ما يجري في مجتمعاتنا وفهمها.
هناك أربعة مفاهيم:
• تكوين الدولة:
تكوين الدولة أو النظام السياسي الذي يجب أن نراقبه في حركته الديناميكية وفي تكوّنه المستمر من خلال التاريخ. لذلك لا يكفي أن نقول "الدولة"، ولا يكفي أن نقول "النظام السياسي". فهناك أنظمة سياسية لها تاريخ، وقد تطوّرت من النظام القبلي إلى الأنظمة الحديثة التي نجدها في مجتمعاتنا.
• الكتابة:
الكتابة دليل على نقلة مهمة في تاريخ الحضارات والثقافات. عندما نقول "الكتابة"، يجب أن نفترض وجود مقابل لها هو "الشفاهة" (Orality). وكذلك عندما نقول الثقافة العالمة (Learned Culture)، يجب أن نفترض في المقابل وجود "ثقافة شعبية". هذه المقابلات تنتج توترات جدليّة في المجتمعات لأن هناك افتراضاً بأن الدولة تعتمد على الكتابة، والكتابة العالمة تحديدًا، وعلى قوة أخرى نطلق عليها اسم "الأرثوذكسية". ليس لهذا المفهوم (الثقافة الأرثوذكسية) مرادف في العربية. وكلما طرحتُ هذا السؤال (المفهوم) ، تلقيت الجواب نفسه (السؤال): السنّية.
هناك في الإسلام مذاهب على غرار ما في المسيحية من مذاهب (أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية)، ولكل فرع منها أرثوذكسيتها. "الأرثوذكسية" مفهوم اجتماعي–ثقافي، ينتج من طريق الصراعات السياسية والثقافية، والصراعات الرمزية (حل الرموز). هناك في المجتمع نزاع حول "الرأسمال الرمزي": من يهيمن على "الرأسمال الرمزي" ويستعمله ويستغلّه. نستمدّ من الأديان هذا "الرأسمال الرمزي"، ونعتمد عليه لتعيين الحقيقة و"الأصالة الأرثوذكسية" التي يجب أن تفرض على الجميع. هذا المفهوم الأرثوذكسي مرتبط بالمجتمع كقوة فاعلة، وبالثقافة العالمة التي تنتجها النخبة، وبالكتابة والأدب المكتوب. علمًا أن اللغة المكتوبة، أتتنا، نحن العرب، من اللهجات العامية.
• تكوين الدولة
(State formation)
مقابل "الدولة"، هناك ما نسميه "المجتمعات الانقسامية" (Segmentary Societies) التي هي النظام القبلي الذي لا يزال حيًّا عندنا وله تأثيره في المجتمعات، وهو في نزاع مع الدولة المركزية. هذا النظام القبلي يعتمد على الشفاهة والثقافة الشعبية، ويرتبط بالأمية التي لا تزال متفشّية في مجتمعاتنا.
هناك إذًا جدلية تشدّ هذه القوى إلى بعضها. ومقابل الأرثوذكسية، هناك الهيتروذوكسية أو ما نسمّيه الفرق أوالملل أوالنحل أو، كما في لبنان، الطوائف. ثمة أهمية كبرى للجدلية الاجتماعية، المستمرة في كل مجتمع، وفي إنتاج كل مجتمع. غير أن التاريخ الذي نعلّمه لأبنائنا في المدارس الثانوية لا يتبنّى هذا الديالكتيك، هذا العرض التحليلي لجميع القوى المتواجدة والمتساكنة في المجتمع لكي نفهم معاني الصراعات، وعلى ماذا تعتمد، وإلى أين تذهب بنا.
علينا التمييز بين الدين الذي نتعلمه على أيدي الفقهاء والدين المكتوب والثقافة العالمة من ناحية، والدين الشعبي من ناحية أخرى. علينا أخذ كلّ هذا في الاعتبار لندرس التوتّرات والتناقضات والصراعات المستمرة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
إن تأريخًا يقتصر على ذكر الظاهرة السياسية بحوادثها المتعاقبة من جهة، والظاهرة الدينية من ناحية أخرى، قد يصوّر لنا وكأن هناك فرقًا بين الدين المتعالي الذي يعلمنا أشياء متسامية، والسياسة التي تعتني بأشياء بسيطة وسيئة ومهينة. هذه المقاربة التي تدّعي العلمية هي في الحقيقة مزيِّفة للواقع، وتجعلنا بعيدين من التعمّق والتحقيق في الظاهرة الدينية ومدى تأثيرها على الظاهرة السياسية والتصارع بينهما. هذا الصراع موجود في كل المجتمعات، من أقدمها إلى أحدثها، وهو موجود في الولايات المتحدة كما هو موجود في مجتمعاتنا. هذا الطرح للإشكاليات يهدف إلى البحث عن ماهية وظائف الأديان ووظائف السياسة وتعليلها. هذا العرض يسمى عرضًا تاريخيًا-أنثروبولوجيًا.
يعتني العلم الأنتروبولوجي بجميع القوى العاملة في المجتمع، والتي نجدها في كل زمان ومكان من دون استثناء. ولهذا السبب، نسمي هذا العلم "أنتروبولوجيا": "أنتروبوس" هو الإنسان، و"لوغوس" هو العلم. أي العلم الذي يبحث في الإنسان كإنسان، في الوضع البشري. هذا ما قصدته عندما بدأت بالقول إننا لن نتفهّم مقاصد الدين ومحتوياته ووظائفه في مجتمع من المجتمعات إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والنهاجية لنطرح الأسئلة اللازمة. ومثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، و يشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة.
هناك اختلاف بين الذاكرات الاجتماعية. وعلى أساس هذا الاختلاف، تنتج الصراعات الاجتماعية والسياسية والدينية التي غالبًا ما نخلط بينها.
قد يشكّل هذا برنامجًا شاملاً للعلوم التي يجب أن نعتني بها ونعلّمها في قسم لدراسة الأديان في كل جامعة من الجامعات الموجودة في بلداننا. وأنتم تعلمون أن العلم الأنثروبولوجي مجهول، ونادرًا ما يُعلّم.
يؤكّد بعض الأساتذة، لا بل كثيرون منهم، باسم "الأنتروبولوجيا" ما هو في الحقيقة علم إتنوغرافي. هناك فرق كبير بين " الإتنوغرافيا" و"الأنتروبولوجيا". التحليل الأنتروبولوجي للمجتمعات لا يمكن أن يبتعد عن البحث والتحليل التاريخيين، وكذلك بالنسبة إلى التحليل التاريخي لتطور المجتمعات، فهو لن يكون كاملاً ويبرز كل الحقائق والوقائع الموجودة في المجتمع إذا لم يرتبط بالإشكاليات الأنتروبولوجية للظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
أقول هذا لنعي المسافة التي تفصل بين ما نقوم به اليوم في جامعاتنا ومدارسنا الثانوية، والهدف الذي يجب أن نبلغه لنخرج من المآزق المعرفية التي نتخبط فيها، كلّما حاولنا فهم ماذا يحدث في مجتمعاتنا. وإذ لا نجد لهذه المآزق حلولا، فلأنّنا لم نتمكّن من إنشاء منظومات معرفية مختلفة تماما عن المنظومات التي لا تزال تكيّف إدراكنا وتفسيرنا للأوضاع التي نعيشها الآن.
إذًا المطلوب هو دراسة وتدريس ما نعني بـ"مجتمعات الكتاب" (La société du Livre). هذا يعني أن هناك ظاهرة الكتاب. تلاحظون أن عبارة " الظاهرة" تتكرر في خطابي. لماذا أقول ظاهرة الكتابة، الظاهرة السياسية، الظاهرة البيولوجية، الظاهرة الفيزيقية. لماذا الظاهرة؟ لأن هناك أشياء ندركها بأعيننا، بآذاننا، أشياء نراها، نلمسها، نجرّبها. هناك إذًا أشياء موجودة. غير أننا غير قادرين على تفسير وفهم كل ما يتعلق بهذه الظواهر. فعلى الرغم من أنها ظاهرة أمامنا، لا نملك بعد مفاتيح فهمها. نحن جاهلون للظاهرة الدينية. كان علينا أن نبدأ بالجهل. إننا جاهلون، ولكننا نتخاطب وكأننا عالمون علم اليقين في كلّ ما يخص الدين. نحن نجهل الكثير من الأشياء الأساسية التي يعبّر عنها الدين، وما يقوم به في المجتمع والتاريخ. لذلك أستعمل كلمة "الظاهرة"، "ظاهرة الكتاب" وغيرها من الظواهر. من بمقدوره أن يفسر الظاهرة في جميع تشعباتها وأبعادها؟ إلى الآن لم نقدّم طرحًا شاملاً لظاهرة الكتاب مثلاً.
هناك كتاب ألّفه عالم الأديان السويدي وندرغرن (Windergren) بعنوان "محمد رسول الله وظاهرة الكتاب السماوي" (Mohammad the Apostle of God and the Heavenly Book). هذه الفكرة، فكرة الكتاب السماوي، كانت موجودة ومنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد استعملها الناس واستعملتها الأديان المختلفة، وبقيت حيّة قرونًا وقرونًا إلى يومنا هذا. غير أن ما كتب عن هذه الظاهرة قليل جدًا، ولا يمكننا استخدامه استخدامًا محقّقا ومثبتًا علميًا.هذه الفكرة لا تزال في مجال "العلم الميتولوجي".
كيف نقارب الظاهرة القرآنية والظاهرة الإنجيلية أو الظاهرة التوراتية؟ يطبّق هذا البيان على القرآن طبعًا، و لكن أيضًا على جميع الكتب المؤسِّسة للأديان. أبعد من ذلك، فهذا البيان يطبق على جميع الكتب أو النصوص التي يستعملها مجتمع ما كمرجعية ملزمة، كالدستور مثلا. فالدستور مرجعية ملزمة، تلزم جميع المواطنين، وهو مرجعية لفصل الخلافات القائمة بين المواطنين في المجتمع. هذا أيضا طرح أنتروبولوجي لمفهوم ظاهرة الكتابة التي لا تخصّ القرآن فقط، أو الإنجيل فقط. هذا هو الفرق بين المقاربة التاريخية الأنتروبولوجية والإنسانية، والمقاربة اللاهوتية للموضوع نفسه. ماذا يقول اللاهوت؟ يقول إن هذا كتاب منزل، وإن اليهود شعب منتخب. بهذين القول والإيمان يحدث ما يحدث، ويعمل البشر ما يعملونه. في ما يتعلق باللاهوت المسيحي يقول الكاردينال راتسينغر[إنه البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر] في نص نشره بعنوان "Dominus Jesus" (السيد المسيح) وعنوان فرعي "Sur l’unicité et l’universalité salvifique de Jesus-Christ et de l’Eglise" (عن الوحدة والكونية المنقذة ليسوع المسيح والكنيسة)، الكلام الآتي:
"علينا التمييز بشدّة بين "الإيمان" اللاهوتي و"العقيدة" في الديانات الأخرى. فبينما "الإيمان" هو استقبال للنعمة الإلهية وللحقيقة المنزلة، تشكّل "العقيدة" في الديانات الأخرى مجموع التجارب والأفكار الإنسانية، هذه الثروة من الحكمة والتديّن التي بلغها الإنسان في بحثه عن الحقيقة وفي تفكيره لواقع العلاقة مع كل ما هو إلهي ومطلق".
تستحق هذه الجملة التحليل والتأويل لأنها تجمع في جملة واحدة مجمل القضايا اللاهوتية التي لم نعالجها بعد معالجة تنطلق من المناهج التي ذكرت. وإذا التمسنا هذه الجملة وترجمناها من منطلق إسلامي لاهوتي وقعنا في مشاكل ومآزق يستحيل علينا الخروج منها . وهذا ما حصل تاريخيًا. فنحن في مآزق بسبب مفاهيم أتتنا من القرون الوسطى، ولا نزال إلى يومنا هذا نعلّمها، ونكرّرها، ونعتمد عليها للتمييز بين ما نسميه الإيمان (La foi) المبني على نموذج لاهوتي، ومانسميه العقائد. فالعقائد موجودة أيضًا في الأديان الأخرى. أما الإيمان النموذجي فنجده في المسيحية حسب التفسير اللاهوتي. لا يحقّ لنا أن نرفضه أو نقبله. نأتي إلى هذا النوع من الخطاب بعد أن نكون قد عبرنا جميع المراحل التي ذكرتها في ما يتعلّق بالتقديم أو التمهيد لدراسة لبّ المشاكل في النصوص المنزلة نفسها.
هناك ما نسميه" المعطى المنزل". التنزيل أعطي، ونحن تلقيناه. أعطاه الله للبشر، وهو لدينا، في متناولنا. و لكن ماذا بإمكان العقل أن يقول اليوم عن هذا المعطى؟ وهو (أي العقل) يمرّ في أزمة معرفية تمس الفكر الديني كما تمسّ الفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي.
قد يغيّر هذا من طبيعة علاقتنا بالخطاب اللاهوتي الذي تلقيناه. وهذا هو المقصود من كل ما قلته عن ضرورة الطرح الجديد للظاهرة الدينية ودراستها بمنهج علمي. ذلك لأن الدراسة العلمية، كما وصفتها، لا تطلب من المسيحي أن يكون أرثوذكسيا أو كاثوليكياً حتى يشارك فيها، ولا تطلب من المسلم أن يكون سنّياً أو شيعيا كي يساهم فيها. هذا علم، نعمل عليه كما نعمل في العلم البيولوجي أو في المختبر. وهذا المفهوم لا يعارض ولا ينفي الدراسة والبحث اللاهوتيين. في كلّ مرّة عرضتُ فيها هذا المفهوم، كان الردّ بأن هذه البحوث لا تعطي أهمية للإيمان وللدين. لقد كان هذا صحيحاً في الممارسة "العلماوية" (Positiviste, Scientiste) التي كان يتبناها العقل في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فنعطي الأديان والإيمان والقيم والعقائد الدينية جميع حقوقها، ونعترف بوظائفها في المجتمع. فالدين غير الإيديولوجيا، ولذلك وجب أن ندرسها.
عندما أذكر الإنجيل أو القرآن، أشير إلى شيء أظنه معروفاً وبديهياً. غير أن هذا النوع من استعمال اللفظ يغطي مشاكل غاية في الأهمية ويخفيها عنا كي لا ندرسها دراسة تحليلية وعلمية. هذه النقطة أهملناها، ولانزال، لأننا نتّهم العلوم الاجتماعية والإنسانية بأنها علوم معادية للأديان ونافية لها. وهذا غير صحيح.
ما عسانا نغطّي، وماذا نهمّش، وماذا نترك جانباً ومدفونا دون التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر كما في الفكر المسيحي المعاصر؟ ثمة ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. ونحن في مجتمعاتنا نعرف ماذا نعني بما لا يمكن التفكير فيه. لا في مجال السياسة فقط، ولكن في مجال الثقافة (الإيديولوجيا) التي نتثقف ونتخاطب بها في الميدان العام، في المجتمع. أما عندما نتخاطب في ما بيننا، فنستخدم لغة أخرى، وخطابا آخر.
• "كلام الله":
أثارت هذه العبارة-المفهوم في التاريخ الإسلامي والمسيحي منذ زمن طويل نقاشات مهمة. ماذا نفهم بعبارة "كلام الله"؟ في ما يخصّ الفكر الإسلامي، الجميع يعرف مساهمة المعتزلة في إشكالية القرآن: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إنها إشكالية مهمة جداً. وطبعاً نرفض هذه الإشكالية اليوم بسبب "الأرثوذكسية".
لا يمكننا التخلّي عن هذا المستوى في البحث. فهو يتطلّب منّا أن نتسلح بأسلحة غير تلك التي لا يزال الخطاب اللاهوتي الرسمي يستعملها إلى يومنا هذا.
"كلام الله" هذا ظهر في مرحلة من مراحل التاريخ وكخطاب شفاهي. لم يظهر كخطاب مكتوب. سيكتب في ما بعد. والكتابة بحدّ ذاتها تثير مشاكل عديدة. مثلاً الحروف العربية، كالكوفية في القرن الأول للهجرة، كانت من دون تنقيط ومن دون حركات. وهذا ما أثار مشاكل. ولكن أهمية هذه المرحلة التاريخية تكمن في دور "الخطاب الشفاهي" في أداء المعنى وتبليغه للمستمع. مثلاً في الكلام الذي تسمعونه مني، لا أكتفي بالأرقام التي أستخدمها لكي أبلّغ ما أريد، بل أستعين بيدي وبوجهي وبصوتي لإضافة معانٍ تسهيلاً للتبليغ. علماء اللسانية المعاصرون يعطون أهمية كبرى لهذا التعبير الشفاهي ويسمونه "سيميولوجيا الخطاب".
أقول هذا من أجل المعنى لأن كل شيء مبني عليه. على أي معنى نبني العقائد؟ وما الذي سيصبح منها عقائد دوغمائية؟ إذا لم نؤمن بها، كما تفترض الخطابات اللاهوتية، نعاقب هنا، في الدنيا.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي لسانية محضة لا تمس العقائد، بل تسعى إلى توضيح ماهيتها التي تبنى على إرادة إبلاغ المعنى الصحيح والأصيل والمقصود في الخطاب الأول كما ألقي على جماعة ما. هذه مرحلة أساسية من حيث الجوهر، وليس فقط من حيث المنهاج. وهذا شامل لكل الأديان. ليس من نزاع بين المسيحية والإسلام اليوم. كلّنا في الوضع نفسه، الذي هو وضع لغوي وتاريخي. لا يمكننا استرجاعه. ما لا يعاد، وما لا تمكن إعادته للتاريخ، هو ثمين.
3. النصوص
ننتقل إلى المرحلة الثالثة أي إلى المجموع الرسمي المعلن من النصوص. هذه النصوص رسمية لأنها نابعة من إرادة رسمية، إرادة الكنيسة. إنها إرادة رسمية من البشر الذين قرّروا أن هناك أناجيل أصيلة وأخرى مختلقة انتشرت في القرنين الأول والثاني بعد المسيح. الأمر عينه حصل مع الأحاديث عند المسلمين، فمنها الصحيح ومنها المختلق. أُغلق الموضوع بعد أن تقرّر أن الأناجيل الأربعة التي يجب الاعتماد عليها هي الأناجيل الصحيحة، وأن المصحف العثماني هو المصحف الصحيح الذي يجب أن يُعتمد. ومن ثمّ أغلق النقاش.
ما معنى "أُغلق"؟ معناه أنه إذا جاء راوٍ من الرواة ليقول "بلغني عن فلان وفلان أن النبي قد قال كذا وكذا بصدد آية محددة"، فالجواب أن الأمر منتهٍ، مغلق. أكثر من ذلك. في تفسير الطبري للآية 12 من سورة النساء، قراءتان. وقد قرأ الطبري في قراءتيه 28 خبراً. أخبار تروي أشياء مختلفة. لذلك نقرأ اليوم النصوص في مجموعات مغلقة. في هذا ما يثير مشاكل في طرق التفسير، وتحديد محتوى النصوص ومعناها.
4. الخطاب الديني
المجموعات المفسّرة: تفسير الطبري كناية عن مجموعة بل موسوعة من العلوم تصحّ لتكون مرجعاً لكل من يفسر القرآن، فيستمد منها المعلومات التي جمعها الطبري. والشيء عينه في ما يتعلّق بالتوراة والأناجيل. هناك مجموعات تؤلّف، فيُعتمد عليها. إنها مجموعات لاهوتية بالنسبة إلى المسيحيين، ومجموعات شرعية في ما خصّ الشريعة عند المسلمين.
تاريخ التفسير كوّن تصوراتنا، وفهمنا، وكلّ ما نسميه عقائدنا في ما تؤلفه النصوص المنزلة. فالوصول إلى النص المنزل يكون من خلال المجموعات التي تراكمت منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.
ما أقدّمه هنا هو برنامجاً للعلم والبحوث، لأننا لم نقُم ببحوث علمية عن كل مرحلة من هذه المراحل. نكتفي اليوم بالإحالة إلى المستوى الأول: هذا "كلام الله". أما المستوى الثاني، فهو ما سمعناه عن النبي أو عن المسيح. كل هذا نصل إليه من خلال الكتب التي لا نزال ندرّسها حسب القواعد والمناهج المتّبعة والموضوعة منذ زمن. إنها قضايا شائكة ومهمة، ولها تأثير في خطاباتنا إلى اليوم.
بدأت حديثي بأنه، حتى في أواخر القرن العشرين، استعمل كلٌّ من بوش وميتران المعجم الديني لتبرير الحروب، وذلك من أفواه تعتقد بالنظام العلماني وتؤيّده. في المجتمعات التي أحدثت ثورة في فصل الدين عن الدولة، نجد أن الظاهرة الدينية مهملة وغير مدروسة. والدليل على ذلك ان وزيراً في فرنسا هو جاك لانغ (Jack Lang) أسّس، ولأول مرّة، معهداً أوروبيا يُعنى بدراسة الأديان. هذه خطوة جديدة. وعندما أعلن عن ذلك، طُرح عليه السؤال الأول الذي هو: أين هم المعلمون والأساتذة الذين بإمكانهم أن يدرّسوا الأديان حسب الذهنية العلمية، العلمانية، الفلسفية، الأنتروبولوجية التي ذكرتموها في مقدمتكم؟
إذا كان هذا الكلام قد قيل في فرنسا، ولفرنسا المكانة المعروفة في مجال العلماء والجامعات، فماذا نقول عندنا عن جامعاتنا؟ الحمد للّه أن عندنا جامعة البلمند التي أتاحت لنا هذه الفرصة لنطرح هذه الأفكار راجين أن تلقى من يتبنّاها في هذا البلد، الثري بثقافاته وبما يسمّونه الطوائف، وأنا أسميها "الذاكرات الجماعية" الحاملة لثروة ثقافية. يجب أن تحظى هذه الذاكرات بما تستحقّه من اهتمام، وأن نتيح لها فرصة أن تنطق وتعبّر عن نفسها بلهجاتها لا باللغة العالمة، الفصحى. وذلك لأن التعرّف على كل ذاكرة لا يستقيم إلاّ من طريق اللهجة التي يتم التكلم بها في الأسرة، في الشارع، في الخطاب اليومي. هناك كتب كثيرة نقرأها، ولكن علينا أن نقرأ السطر الأول والثاني، وألاّ نكتف بالأول فقط.
في يوم العرفان: فلسطين تبقى هي العنوان
مداخلة سعود المولى في احتفال مؤسسة العرفان بعيدها السنوي
خير الكلام ما قلّ ودلّ.......... وأول الكلام العرفان، والعرفان في عرف بني معروف معرفة، وأول المعرفة بحسب أهل العرفان معرفة الحق، ومعرفة الحق هي طريق كل معرفة بحسب إمامنا عليّ عليه السلام: "اعرف الحق تعرف أهله"، ومعرفة أهل الحق بداية الإنسانية لأنها بداية كل تعارف الذي هو أصل كل اجتماع بشري : "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..
وأهل الحق والعرفان صار لهم اليوم عنوان: مؤسسة تربوية تعليمية ثقافية اجتماعية نهضوية رائدة.......... فتحية الى أصحاب هذا المقام، مؤسسة العرفان، وتحية الى أهلها والقائمين عليها من مشايخ أجلاء، ومن مربين ومربيات، وعاملين وعاملات..... وتحية اليكم جميعاً في يوم العرفان هذا...........
والعرفان أيضاً خصال حميدة ومكارم أخلاق بُعِث بها ولها كل الانبياء (جاء في الحديث النبوي الشريف:انما بُعثتُ لأتمم مكارم الاخلاق)..."فمن منحه الله القبول والترقي والعروج الى حد الانسانية كان من ثمرة أفعاله العقل والعلم والسكون والرزانة والعفاف والنظافة والطاعة والصبر ومكارم الاخلاق "( على ما جاء في المأثور عن السيد التنوخي)..
هكذا عرفت اخواني بني معروف الموحدين وهكذا أعرفهم اليوم حين يعودون الى الاصول والى الجذور، لتأسيس الحاضر والمستقبل على قواعد ثابتة ، فيبدأون من حيث كانوا، في أن الدين النصيحة، وأن الدين المعاملة، وأن الدين الاستقامة ... وهم في ذلك لا يستوحون غير معاني المسلك التوحيدي العرفاني لبني معروف.. ولا يفعلون غير تجسيد الخصال العربية الأصيلة لجبل عربي أشم حمل أهلوه رايات النبل والشهامة والمعرفة والزهد والمودة الصادقة والشجاعة.. وقد رفع تلك الرايات أعلام كبار من الامير السيد عبد الله التنوخي الى الشيخ الفاضل محمد بو هلال ، ومن أسد العروبة سلطان باشا الأطرش الى فارسها وأميرها شكيب أرسلان، ومن بطل معركة دمشق 1945 المقدام الشيخ محمد أبو شقرا، الى معلّم الأجيال وحارس مبادئ النضال كمال جنبلاط .......
وما كان الدروز في تاريخهم الا حماة الثغور والذادة عن الأرض والعرض ، ونحن وهم مدعوون اليوم ، كما في الامس الى الاستقامة على الحق كما أمر رب العباد ، والاستقامة على العدل، ولو على النفس أو ذي قربى ، فالعدل هو أساس كل ملك وحكم، وهو أقرب الى التقوى، وذلكم هو الجهاد الأكبر.......
ونحن وهم مدعوون اليوم الى العمل على لمّ الشمل وتوحيد الصفوف خوفاً على التجربة اللبنانية وعلى العيش المشترك وعلى عروبة لبنان وعلى مستقبل فلسطين والعرب ...
ونحن وهم مدعوون اليوم الى التزام القول الحسن، والحكمة، والموعظة ، دون مزايدات أو تشبيح ، ودون تعبئة أو تحريض، وذلكم هو طريق العرفان....
أيها الاخوة والاخوات ، سادتي المشايخ الاجلاء........
من معاني هذا اليوم الثقافي المجيد التأكيد على معنى الاختلاف وعلى حق الاختلاف وعلى حرية التعبير عن الاختلاف ... فالاختلاف سنّة الهية وحقيقة بشرية طبيعية....
"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً"، "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"........
ومن معانيه ايضاً التأكيد على أن الخلاف والاختلاف لا ينبغي أن يفسد للعيش المشترك قضية ، ولا أن يورث الإحن والبغضاء والتفرق والتنازع ، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، وانما تنافسوا في الخير والعمل الصالح والبر والتقوى، وفي خدمة الحق والعدل.......
هكذا تتأسس الاوطان ، وقد كان بنو معروف من مؤسسي هذا الوطن، وهكذا تحفظ العروبة وقد كان بنو معروف سيف العروبة ورمحها وترسها على مر الأزمان........ وهم اليوم أمام تحدي حفظ هذا الوطن وصيانة سلمه الأهلي وعيشه المشترك ...والاستمساك بعروبة لبنان وبحرية فلسطين وبعزة العرب وتقدمهم.....
ومن خلال الاضاءة على تاريخ القوم وعاداتهم وتقاليدهم ، تضيء مؤسسة العرفان على تجذّر
المعروفيين الموحدّين في إسلامهم وعروبتهم وفي خصوصية مذهبهم، وفرادة مسلكهم ،ما يجعل تلك الخصوصية والفرادة مداميك معمار متوازن لشخصية سوية متوازنة، تقوم على الانفتاح والتسامح،لا الانعزال والانغلاق،وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الالغاء أو الاقصاء او الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدد ، وعلى الاعتراف بهذا التعدد والتنوع دون خجل أو تمويه ، وعلى الاعتراف بأهمية كل مكوّن وبخصوصية كل انتماء بذاته، وبها جميعاً ومعاً ، ما يشكل معنى لبنان وسر اجتماعه الأهلي والسياسي، ومعنى هوية اللبنانيين والعرب.
ان الأمانة للتراث الروحي والثقافي والحضاري للموحدين الدروز في لبنان ودنيا العرب، هي أمانة للبنان أولاً وللعروبة ثانياً وللاسلام ثالثاً، دون تعصب أو عنصرية أو انعزال ودون ادعاء أو تفاخر.. وهي أمانة لوصايا المسلك التوحيدي في صدق اللسان وحفظ الاخوان، وفي عفة اليد واللسان، وفي الزهد والامتناع عن كل حرام، وفي الشجاعة والإقدام....... وعلى هذا الطريق يسير الموحدون الدروز اليوم من أجل اعادة الاعتبار للثوابت والمسلمات التالية:
1= ان لبنان بلد صعب ولكنه ممكن... ووجه الصعوبة يكمن في تجاوز إحن الماضي ومحن الجهل والتعصب، وفي فهم الواقع وطريقة التعامل معه لبناء الممكن والمطلوب، أي العيش الواحد القائم على احترام الخصوصيات الدينية والمذهبية والثقافية، واحترام التوازن، والحرية والمساواة والكرامة للجميع وبين الجميع....
2= ان الممكن يصير حاضراً عبر الحوار الدائم .. والحوار ليس لغة خشبية أو خطابات رنانة بل هو صدق ومصارحة ومكاشفة وصولاً الى المودة والمصالحة، مع الذات قبل الآخر.. فالحوار المطلوب هو حوار الصداقة لا المجاملة، وحوار الصدق لا التقية، وحوار المصالحة لا تسجيل النقاط......
3= ان الحوار الحق يفضي بأهله الى ميثاق وعهد "إن العهد كان مسؤولاً". وعهدنا وميثاقنا ودستورنا اليوم هو اتفاق الطائف...... فالحفاظ على ميثاق ودستور الطائف، والسعي الى تطبيقهما وتطويرهما هو عهدنا في هذا اليوم وفي هذا المقام.
4= إن لبنانيتنا وحرصنا على الوطن النهائي هي جزء من عروبتنا والتزامنا قضايا العرب ومصيرهم........ فلا انعزال ولا تطرف، ولا إفراط ولا تفريط ، بل معادلة صادقة شفافة صاغها الامير شكيب ارسلان في مطلع القرن العشرين ، وحملها المعلّم كمال جنبلاط حتى لحظة استشهاده، وفي القلب منها فلسطين: الاسم الحركي لكل أحلامنا وآمالنا، نحن وأنتم مؤتمنون عليها.... الى يوم الدين...........
5= ختاماً أذكر وأتذكّر وأذكرّكم قول أحمد شوقي في الموحدين الدروز:
"وما كان الدروز قبيلَ شرٍ وإن اُخذوا بما لم يستحقوا
ولكن ذادة وقراة ضيف كينبوع الصفا خشنوا ورقوا
لهم جبل أشم له شعاف موارد في السحاب الجون بلقُ
لكل لبوءة ولكل شبل نضال دون غايته ورشقُ
كأن من السمؤل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ وخُلُقُ
الدكتور سعود المولى
عضو المكتب التنفيذي للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو
عضو الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي
أستاذ في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية
خير الكلام ما قلّ ودلّ.......... وأول الكلام العرفان، والعرفان في عرف بني معروف معرفة، وأول المعرفة بحسب أهل العرفان معرفة الحق، ومعرفة الحق هي طريق كل معرفة بحسب إمامنا عليّ عليه السلام: "اعرف الحق تعرف أهله"، ومعرفة أهل الحق بداية الإنسانية لأنها بداية كل تعارف الذي هو أصل كل اجتماع بشري : "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..
وأهل الحق والعرفان صار لهم اليوم عنوان: مؤسسة تربوية تعليمية ثقافية اجتماعية نهضوية رائدة.......... فتحية الى أصحاب هذا المقام، مؤسسة العرفان، وتحية الى أهلها والقائمين عليها من مشايخ أجلاء، ومن مربين ومربيات، وعاملين وعاملات..... وتحية اليكم جميعاً في يوم العرفان هذا...........
والعرفان أيضاً خصال حميدة ومكارم أخلاق بُعِث بها ولها كل الانبياء (جاء في الحديث النبوي الشريف:انما بُعثتُ لأتمم مكارم الاخلاق)..."فمن منحه الله القبول والترقي والعروج الى حد الانسانية كان من ثمرة أفعاله العقل والعلم والسكون والرزانة والعفاف والنظافة والطاعة والصبر ومكارم الاخلاق "( على ما جاء في المأثور عن السيد التنوخي)..
هكذا عرفت اخواني بني معروف الموحدين وهكذا أعرفهم اليوم حين يعودون الى الاصول والى الجذور، لتأسيس الحاضر والمستقبل على قواعد ثابتة ، فيبدأون من حيث كانوا، في أن الدين النصيحة، وأن الدين المعاملة، وأن الدين الاستقامة ... وهم في ذلك لا يستوحون غير معاني المسلك التوحيدي العرفاني لبني معروف.. ولا يفعلون غير تجسيد الخصال العربية الأصيلة لجبل عربي أشم حمل أهلوه رايات النبل والشهامة والمعرفة والزهد والمودة الصادقة والشجاعة.. وقد رفع تلك الرايات أعلام كبار من الامير السيد عبد الله التنوخي الى الشيخ الفاضل محمد بو هلال ، ومن أسد العروبة سلطان باشا الأطرش الى فارسها وأميرها شكيب أرسلان، ومن بطل معركة دمشق 1945 المقدام الشيخ محمد أبو شقرا، الى معلّم الأجيال وحارس مبادئ النضال كمال جنبلاط .......
وما كان الدروز في تاريخهم الا حماة الثغور والذادة عن الأرض والعرض ، ونحن وهم مدعوون اليوم ، كما في الامس الى الاستقامة على الحق كما أمر رب العباد ، والاستقامة على العدل، ولو على النفس أو ذي قربى ، فالعدل هو أساس كل ملك وحكم، وهو أقرب الى التقوى، وذلكم هو الجهاد الأكبر.......
ونحن وهم مدعوون اليوم الى العمل على لمّ الشمل وتوحيد الصفوف خوفاً على التجربة اللبنانية وعلى العيش المشترك وعلى عروبة لبنان وعلى مستقبل فلسطين والعرب ...
ونحن وهم مدعوون اليوم الى التزام القول الحسن، والحكمة، والموعظة ، دون مزايدات أو تشبيح ، ودون تعبئة أو تحريض، وذلكم هو طريق العرفان....
أيها الاخوة والاخوات ، سادتي المشايخ الاجلاء........
من معاني هذا اليوم الثقافي المجيد التأكيد على معنى الاختلاف وعلى حق الاختلاف وعلى حرية التعبير عن الاختلاف ... فالاختلاف سنّة الهية وحقيقة بشرية طبيعية....
"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً"، "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"........
ومن معانيه ايضاً التأكيد على أن الخلاف والاختلاف لا ينبغي أن يفسد للعيش المشترك قضية ، ولا أن يورث الإحن والبغضاء والتفرق والتنازع ، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، وانما تنافسوا في الخير والعمل الصالح والبر والتقوى، وفي خدمة الحق والعدل.......
هكذا تتأسس الاوطان ، وقد كان بنو معروف من مؤسسي هذا الوطن، وهكذا تحفظ العروبة وقد كان بنو معروف سيف العروبة ورمحها وترسها على مر الأزمان........ وهم اليوم أمام تحدي حفظ هذا الوطن وصيانة سلمه الأهلي وعيشه المشترك ...والاستمساك بعروبة لبنان وبحرية فلسطين وبعزة العرب وتقدمهم.....
ومن خلال الاضاءة على تاريخ القوم وعاداتهم وتقاليدهم ، تضيء مؤسسة العرفان على تجذّر
المعروفيين الموحدّين في إسلامهم وعروبتهم وفي خصوصية مذهبهم، وفرادة مسلكهم ،ما يجعل تلك الخصوصية والفرادة مداميك معمار متوازن لشخصية سوية متوازنة، تقوم على الانفتاح والتسامح،لا الانعزال والانغلاق،وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الالغاء أو الاقصاء او الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدد ، وعلى الاعتراف بهذا التعدد والتنوع دون خجل أو تمويه ، وعلى الاعتراف بأهمية كل مكوّن وبخصوصية كل انتماء بذاته، وبها جميعاً ومعاً ، ما يشكل معنى لبنان وسر اجتماعه الأهلي والسياسي، ومعنى هوية اللبنانيين والعرب.
ان الأمانة للتراث الروحي والثقافي والحضاري للموحدين الدروز في لبنان ودنيا العرب، هي أمانة للبنان أولاً وللعروبة ثانياً وللاسلام ثالثاً، دون تعصب أو عنصرية أو انعزال ودون ادعاء أو تفاخر.. وهي أمانة لوصايا المسلك التوحيدي في صدق اللسان وحفظ الاخوان، وفي عفة اليد واللسان، وفي الزهد والامتناع عن كل حرام، وفي الشجاعة والإقدام....... وعلى هذا الطريق يسير الموحدون الدروز اليوم من أجل اعادة الاعتبار للثوابت والمسلمات التالية:
1= ان لبنان بلد صعب ولكنه ممكن... ووجه الصعوبة يكمن في تجاوز إحن الماضي ومحن الجهل والتعصب، وفي فهم الواقع وطريقة التعامل معه لبناء الممكن والمطلوب، أي العيش الواحد القائم على احترام الخصوصيات الدينية والمذهبية والثقافية، واحترام التوازن، والحرية والمساواة والكرامة للجميع وبين الجميع....
2= ان الممكن يصير حاضراً عبر الحوار الدائم .. والحوار ليس لغة خشبية أو خطابات رنانة بل هو صدق ومصارحة ومكاشفة وصولاً الى المودة والمصالحة، مع الذات قبل الآخر.. فالحوار المطلوب هو حوار الصداقة لا المجاملة، وحوار الصدق لا التقية، وحوار المصالحة لا تسجيل النقاط......
3= ان الحوار الحق يفضي بأهله الى ميثاق وعهد "إن العهد كان مسؤولاً". وعهدنا وميثاقنا ودستورنا اليوم هو اتفاق الطائف...... فالحفاظ على ميثاق ودستور الطائف، والسعي الى تطبيقهما وتطويرهما هو عهدنا في هذا اليوم وفي هذا المقام.
4= إن لبنانيتنا وحرصنا على الوطن النهائي هي جزء من عروبتنا والتزامنا قضايا العرب ومصيرهم........ فلا انعزال ولا تطرف، ولا إفراط ولا تفريط ، بل معادلة صادقة شفافة صاغها الامير شكيب ارسلان في مطلع القرن العشرين ، وحملها المعلّم كمال جنبلاط حتى لحظة استشهاده، وفي القلب منها فلسطين: الاسم الحركي لكل أحلامنا وآمالنا، نحن وأنتم مؤتمنون عليها.... الى يوم الدين...........
5= ختاماً أذكر وأتذكّر وأذكرّكم قول أحمد شوقي في الموحدين الدروز:
"وما كان الدروز قبيلَ شرٍ وإن اُخذوا بما لم يستحقوا
ولكن ذادة وقراة ضيف كينبوع الصفا خشنوا ورقوا
لهم جبل أشم له شعاف موارد في السحاب الجون بلقُ
لكل لبوءة ولكل شبل نضال دون غايته ورشقُ
كأن من السمؤل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ وخُلُقُ
الدكتور سعود المولى
عضو المكتب التنفيذي للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو
عضو الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي
أستاذ في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية
الكنيسة.. والوطن.... محمد سليم العوا
د. محمد سليم العوا
منذ سنين ناقشنا، في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، سبل التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في الوطن الواحد وفي أوطان شتى. وانتهينا يومئذ إلى إصدار وثيقة سميناها (العيش الواحد) أصبحت هي دستور عمل الفريق، ووصفت في تصديرها ـ بحق ـ بأنها «دعوة للناس، وشهادة بينهم، وميثاق للعمل العربي الإسلامي ـ المسيحي».
• وكان مما قررته تلك الوثيقة أن الحوار ينطلق «من احترام حق الآخر في اعتقاده، وتعزيز الأسس الدينية للعيش الواحد في وطن واحد» وهذا الحوار لا يستقيم «بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية. ولا يقتصر ذلك على سلوك أهل كل من الدينين تجاه أهل الدين الآخر، وإنما يعبر عن نفسه كذلك في وقوف الطرفين معًا ضد أي امتهان لمقدسات أيِّ منهما أيًا كان مصدره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، الحوار والعيش الواحد، بيروت 2001].
• وفي سنة 2008 أصدر الفريق العربي نفسه وثيقته الثانية بعنوان «وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان». وقد نصت هذه الوثيقة في فقرتها رقم (7) على أنه: «ينبغي على أهل كل دين ألا يخوضوا في خصوصيات دين آخر. وينطبق هذا على أهل المذاهب المختلفة والفرق المتعددة في الدين الواحد... وإشاعة أمر التعارض أو التناقض، بين عقيدة وغيرها من العقائد، لا يؤدي إلا إلى البغضاء والشحناء وإغراء الناس بعضهم ببعض...».
• ونصت الوثيقة نفسها في فقرتها رقم (9) على أنه: «من حق أهل كل دين أو عقيدة أن يتوقعوا من مخالفيهم تصحيح ما يرتكب في حقهم من خطأ، والاعتذار عما يصدر من هؤلاء المخالفين أو بعضهم من إساءة أو إهانة أو قول أو فعل لا يليق. ولا يجوز لمن وقع منه الخطأ: غفلة أو هفوة أن يستكبر عن تصحيحه أو يبحث عن تأويله وتبريره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان، بيروت 2008].
• وهذه المبادئ التي صاغها الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي للتعبير عما تراه جموع المؤمنين بالدينين حافظًا لوحدتها الوطنية، وعاصمًا لها من الفرقة، وحائلا بينها وبين التعصب الممقوت، لو اتبعها رجال الكنيسة المصرية في تناولهم للمسائل المتعلقة بالإسلام والمسلمين لما وقعت فتن كثيرة اصطلى بنارها المصريون جميعًا أقباطًا ومسلمين. والفتن، وحوادث التعصب وما يصاحبها من تطورات حمقاء من أيِّ من الطرفين، مهما خمد أورُاها وأطفأت جهود (المصالحة) نارَها، واعتذر المتسبب فيها، أو من يتحدث باسم جهة ينتمي إليها، عما كان منه ــ مهما وقع ذلك كله فإن الفتن المتوالية تتراكم آثارها في النفوس، وينشأ على ذكريات كل منها جيل أو أجيال من أبناء الوطن وبناته يفتقدون صفاء النفس نحو المخالف لهم في الدين، وينظرون إليه نظرة العدو المتربص لا نظرة الشريك في الدار، ولا نظرة الأخ في الوطن.
• فإذا تكلم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري (المصري اليوم: 15/9/2010) عن الجزية ضاربًا عُرض الحائط بكل ما انتهت إليه الدراسات الإسلامية في شأنها، وكأن شيئًا منها لم يكن، فإن هذا الحديث لا يؤدي إلى شيء إلا إلى إثارة ضغائن الأقباط على إخوانهم المسلمين، وبعث فتنة لا مسوغ لها، تعمل عملها في هدم بناء الوطن بتحطيم علاقات الأخوة فيه. سيذكر الأقباط كلام الأنبا بيشوي عن الجزية وهم لم يدفعوها ـ ولا هو دفعها ـ قط، وسينسون كل العلاقات الوادة الراحمة بينهم وبين المسلمين المعاصرين لهم وهم لم يقبضوا الجزية قط!! فما الذي يستفيده نيافة الأنبا من هذه المسألة؟ وما الذي يعود على الشعب المصري من ذكرها؟
• وعندما يتحدث عن الاستشهاد، ويؤيده فيما قال رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، البابا شنودة، مفسرًا الاستشهاد بأنه في المفهوم المسيحي الموت في سبيل المبدأ أو العقيدة دون قتال لأن الاستشهاد في القتال موت وقتل وليس استشهادًا بالمعنى المسيحي. (حديثه مع الإعلامي عبد اللطيف المناوي، الحلقة الثانية، 27/9/2010).
أقول عندما يتحدث أنبا موقر والبابا نفسه عن هذا المفهوم فإن من واجبهما أن يراعيا، مع المفهوم المسيحي الذي يقولان به، المعنى العربي اللغوي، والمعنى الإسلامي، للاستشهاد، وهو الموت في سبيل الله؛ الذي قد يكون في قتال وقد لا يكون، كما في الرجل يقول كلمة حق عند سلطان جائر فيقتله، وقد سمي في الحديث النبوي (سيد الشهداء) وقرن بحمزة بن عبد المطلب ، فكيف غاب هذا عن الرجلين، وغيرهما، وهما يتحدثان عن الاستشهاد.
ثم إن هذا الذي يموت في سبيل العقيدة، بغير قتال، يموت بلا شك مظلومًا مضطهدًا، فأين هي مظاهر هذا الاضطهاد الذي سيصل بمن يقع عليهم إلى حد القتل في سبيل مبدئهم؟؟ إن الاعتذار عن التهديد بالاستشهاد بإيراد معناه في المسيحية لا يزيد الطين إلا بلة لأنه يتضمن اتهامًا للمسلمين باضطهاد الأقباط، وهو اتهام باطل قطعًا فلا المسلمون في مصر يضطهدون الأقباط ولا الأقباط يضطهدون المسلمين، لكنه التلاسن السياسي الذي لم يستطع أحد أن يدرك ماذا أراد منه الأنبا بيشوي عندما أورده خارج سياق حديث (المصري اليوم) معه، وعندما نبهته الصحفية التي كانت تحاوره إلى السياق الصحيح للسؤال ذكرنا بأحداث سبتمبر 1981 ولم يصحح جوابه عن سؤالها.
• وأحداث سبتمبر 1981، فيما يخص الكنيسة القبطية، قطع كل قول فيها حكم محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 934 لسنة 36ق التي كانت مقامة من البابا شنودة الثالث ضد رئيس الجمهورية وآخرين، والعودة إلى أوراق هذه الدعوى، وأسباب حكمها، لا تفيد نيافة الأنبا بيشوي ولا تفيد البابا. والحكم منشور في مصادر كثيرة يستطيع الرجوع إليها من شاء، إذ ليس المقام هنا مقام تذكير بأخطاء الماضي، لكنه مقام تصويب لما لا يصح من مقولات الحاضر.
• كما أقحم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس في حديثه مع (المصري اليوم) حكاية (الضيوف) وذكر أحداث 1981، أقحم في بحثه المعنون (الميديا وتأثيرها على الإيمان والعقيدة) فقرة من 4 صفحات كاملة تتحدث عن القرآن الكريم، ومعاني بعض آياته، ومدى تناسق ما تذكره بعضها مع ما تذكره آيات أخرى. والبحث أعده صاحبه ليلقيه في مؤتمر العقيدة الأرثوذكسية 13 الذي عرف إعلاميًا باسم مؤتمر تثبيت العقيدة. واعترض على كلمة (تثبيت) البابا شنودة في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي (26/9/2010).
• ومما اتخذتُه سبيلا في علاقتي بإخواني غير المسلمين جميعًا ألا أدخل معهم في نقاش حول ديني أو دينهم، لأنني أعتقد أن الأديان والمذاهب مُطْلقاتٌ عند أصحابها، لا تحتمل التبديل ولا التغيير، ولا يقبل المؤمنون بها احتمال خطئها، صغيرًا كان الخطأ أم كبيرًا. إن الجائز بين أهل الأديان هو الإجابة عن سؤال أو شرح مسألة لمن لم يعرفها، إذا وُجِّه ذلك السؤال أو طُلِبَ هذا الشرح. وما سوى ذلك لا يجوز. وهذا هو مضمون ما تقرره وثيقتا: العيش الواحد، والاحترام المتبادل اللتين ذكرتهما آنفًا.
لذلك لن أعيد ما قاله الأنبا بيشوي في بحثه المذكور عن القرآن الكريم، فاعتقادي أنه ليس من حقه مناقشة القرآن ولا الجدل في شأن كيفية تفسيره، ولا محاولة التوفيق بين معاني بعض آياته ومعاني العقيدة المسيحية كما يؤمن بها هو ومن يتبعون مذهبه.
• غير أن كلام الأنبا بيشوي عن القرآن الكريم فيه مسائل تحتاج إلى بيان. ولست أوجه هذا البيان له وحده، ولكنني أوجهه إلى كل من قرأ بحثه أو استمع إليه، أو تابع ما نشرته الصحف وأذاعته وسائل الإعلام عنه.
- المسألة الأولى: أن الأنبا بيشوي نقل كلامًا نسبه إلى الفخر الرازي (أبو الفضل محمد فخر الدين بن عمر بن الحسين الرازي المتوفى سنة 606) في كتابه: التفسير الكبير، قال الأنبا بيشوي إن الفخر الرازي يقول عن تفسير قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم} [النساء:157] بأن المصلوب شخص غير عيسى بن مريم عليه السلام: «إنها إهانة لله أن يجعل شخصًا شبهه يصلب بدلا منه، لأن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه. وهكذا فقد أورد لنا أدلة لم نذكرها نحن من قبل... وقال أيضًا ما ذنب الذي صلب في هذه الحالة إن هذا يعتبر ظلم (كذا)....» [ص43 من بحث الأنبا بيشوي والنقاط الثلاث من أصل نصه].
- ولا يقتضي الأمر أكثر من الرجوع إلى التفسير الكبير ليتبين القارئ الكريم أمرين: الأول، أن الألفاظ التي زعم الأنبا بيشوي أنها من كلام الفخر الرازي لا توجد في كلامه قط. الثاني، أن الفخر الرازي أورد الأقوال في شأن قوله تعالى {ولكن شبه لهم} وردَّ عليها، واختار أصحها في نظره، وأنه لما ناقش كيفية إلقاء شبه المسيح عليه السلام على الشخص الذي صلبه اليهود والرومان ذكر أربعة أقوال في شرح تلك الكيفية وانتهى إلى أن «الله أعلم بحقائق الأمور». ولم يرد في كلامه في أي موضع تعبير (إن هذا يعتبر ظلمًا) ولا تعبير (أن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه). [تفسير الفخر الرازي، ج11، ط المطبعة المصرية، القاهرة 1938، ص 99. ورقم الآية من سورة النساء هو 157 وليس 156 كما ذكره الأنبا بيشوي].
وأنا أترك للقارئ أن يحكم على هذا الصنيع ومدى صلته بالعلم، الذي من بركته عندنا الدقة في نسبة كل قول إلى قائله، ومدى صلته بواجب الأحبار والرهبان في حفظ أمانة الكلمة وتأديتها إلى الذين يتحدثون إليهم.
- المسألة الثانية: أن الأنبا بيشوي يحكي قصة حوار بينه وبين الملحق العسكري المصري في منزل سفير مصر في قبرص (لم يذكر اسم السفير ولا اسم الملحق العسكري) وينتهي منها إلى أن الملحق العسكري وافقه على تفسيره لقول الله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة:17].
ودون دخول في تفصيلات الحوار الذي ذكره الأنبا بيشوي، أقول إنه حوار لا معنى له ولا جدوى منه، ودار ـ إن صحت الرواية ـ بينه وهو غير مختص ولا متخصص وبين رجال مثله غير مختصين ولا متخصصين، فكان حاصله صفرًا ، لا يقتضي تعقيبًا ولا يستحق ردًا. لكن المهم في الأمر كله أن محاولة إعادة فهم القرآن الكريم على خلاف ما فهم منه على مدى التاريخ الإسلامي كله محاولةٌ مآلها الإخفاق، ونتيجتها إثارة الفتنة بين الأقباط والمسلمين إذا ردد الأقباط فهم الأنبا بيشوي وفهم الملحق العسكري!! وقد كان حريًا بالأنبا بيشوي ألا يقتحم هذا المجال أصلا فليس هو من رجاله ولا أهله. ومما يحسُنُ بالمرء ألا يهرف بما لا يعرف وبخاصةٍ إذا ترتب على ذلك أن تحدث وقيعة بين أبناء الوطن الواحد يحمل وزرها الذين يجادلون فيما ليس لهم به علم.
- المسألة الثالثة: أن الأنبا بيشوي يتساءل عما إذا كانت الآية الكريمة (وصفها من عندي) «قيلت أثناء بعثة نبي الإسلام، أم أضيفت أثناء تجميع عثمان بن عفان للقرآن الشفوي وجعله تحريري(؟)، لمجرد وضع شيء ضد النصارى» ويتساءل قبل ذلك عما إذا «كانت قد قيلت وقتما قال نبي الإسلام القرآن أم أنها أضيفت فيما بعد، في زمن متأخر».
والتساؤلان غير مشروعين، وفي غير محلهما، ووجها إلى من لا شأن له في الجواب عليهما.
فالنبي لم (يقل) القرآن, إنما تنزل عليه القرآن من لدن عليم حكيم. وأنا لا أريد من نيافة الأنبا، ولا من أي مسيحي، أن يقر لي بنبوة محمد لأنه إن فعل ذلك خرج من عقيدته الحالية، وليس هذا مطلبي. لكنني أتوقع منه أن لا يهين كتابنا الكريم (القرآن) وينسبه إلى مخلوق، ولو كان هو النبي نفسه، لأن في ذلك إهانةً لا تقبل، ومساسًا لا يحتمل بالإسلام نفسه.
والخليفة الثالث، عثمان بن عفان، لم يحوّل القرآن من شفهي إلى تحريري. بل كان القرآن الكريم يكتب فور نزوله على النبي آية آية، وقطعة قطعة، وسورة سورة، وهذا كله مبسوط في كتب علوم القرآن التي لو طالعها أي ملمٍ بالقراءة والكتابة لم يقل مثل الكلام الذي كتبه الأنبا بيشوي في بحثه.
وأخشى ما أخشاه أن يفهم المسلمون الذين يقرأون كلام الأنبا بيشوي أن المقصود هو التسوية بين النص القرآني المتواتر بلا خلاف وبين نصوص دينية أخرى لم تدون إلا بعد أكثر من مئتي سنة من انتهاء عصر الأنبياء المنسوبة إليهم.
ومثل هذه المحاولة تعني التشكيك في تواتر القرآن. والتساؤل عما إذا كانت آية ما أضيفت إلى القرآن الكريم «في زمن متأخر» تكذيب لا يقبله مسلم، بقول الله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9].
• ولذلك فقد أحسن البابا شنودة عندما قال في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي: «آسف إنه يحصل جرح لشعور المسلمين، ونحن مستعدون لأي ترضية» (الحلقة المذاعة في 26/9/2010).
والترضية الواجبة لا تكون إلا بأن يعتذر الأنبا بيشوي نفسه عما قال وفعل وكتب. إن البابا شنودة، وهو رأس الكنيسة لا يجوز أن يتحمل أوزار المنتسبين إليها. ولا يُسْتَغنى بأسفه الشخصي عن اعتذار المخطئ من رجال الكهنوت خطأً يثير الفتنة ويحتمل أن يدمر بسببه الوطن. والبابا شنودة أسِفَ وهو لم يقرأ كلام الأنبا بيشوي، ولا استمع إليه، ولا رأى الأنبا بيشوي نفسه منذ نشر كلامه المسيء إلى الإسلام والمسلمين (حلقة 26/9/2010 مع عبد اللطيف المناوي) فأسفه كان لمجرد مشاعر نقلها إليه، برقةٍ بالغةٍ ولطفٍ ملحوظٍ، الأستاذ عبد اللطيف المناوي، وهو أسَفٌ حسن لكنه لا يغني من المطلوب، الواجب، المستحق للمسلمين المواطنين عند الأنبا بيشوي نفسه، شيئًا. ولا يشك أحد في أن البابا بسلطته الروحية والإدارية على جميع رجال الكنيسة قادر على إلزام الأنبا بيشوي بإعلان اعتذاره بلا مواربة ولا التفاف حول الأمر بكلمات هي معاريض لا تسمن ولا تغني من جوع. وما لم يتم ذلك فإن الترضية التي أبدى البابا استعداده لها لا تكون قد تمت، ويبقى الجرح مفتوحًا حتى تتم فيلتئم، وتعود العلاقة مع الكنيسة سيرتها الأولى، ويتجنب الوطن زلزالا لا يبقي ولا يذر.
• فإذا أبى الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس ذلك، فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نطبق ما يأمرنا به قرآننا فنقول له:
{الحق من ربك فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران: 60-61].
• لقد أحسن البابا شنودة ـ أيضًا ـ عندما قال للأستاذ المناوي: «الآية التي ذكرت كانت آية يعني مش أصول أن ندخل في مفهومها» (حلقة 26/9/2010) «مش عارف إزاي حصل سرد لحاجات زي دي، ربما كان المقصود أن يعرضوا آيات ليصلوا إلى حل للخلاف اللي فيها لكن ما كانش أصول إنها تعرض خالص، كما أنهم ظنوا أن هذا مؤتمر للكهنة فقط فكأنه ناس بيفحصوا بعض أمور جوه البيت مش للخارج. بعض الصحفيين حضروا وأخذوا الحاجات وبدأوا ينشروا» (الحلقة نفسها).
• وليس خفيًا أن الكهنة مهما علا كعبهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى حلول للخلاف بين العقيدتين الإسلامية والمسيحية الذي تعبر عنه بعض آيات القرآن الكريم. فلا هم مؤهلون لهذا، ولا هو من علمهم أو شأنهم، ولن يستمع إلى ما يقولونه أحد من المسلمين. فلماذا يذكر القرآن أصلا في مثل هذا المؤتمر؟؟
والخلاف بين العقيدتين واقع أبدي لا يزول، فالبحث في التوفيق بينهما عبث يجب أن ينزه العقلاء أنفسهم عنه، ويصونوا أوقاتهم عن إضاعتها فيه.
وأن الأمر كان «داخل البيت» لا يسوغُ قبولُه مع ما نشرته الصحف التي ذكرت الموضوع من أن النص «وزع على الصحفيين».
وكم غضبت الكنيسة والأقباط كافة، من كلام كتب أو قيل داخل البيت الإسلامي، ومن كلام يقال داخل المساجد، بل من كلام قيل وكتب لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف (كلام الدكتور محمد عمارة في تقريره العلمي عن كتاب: مستعدون للمواجهة، الذي أحاله المجمع إليه لكتابة تقرير عنه فلما كتبه قامت الدنيا ولم تقعد ـ وكاتب هذا الكتاب ينتحل اسم سمير مرقس، وهو قطعًا لا علاقة له بهذا الاسم، فصاحبه المعروف هو صديقنا المهندس سمير مرقس، وهو رجل وحدة وطنية بامتياز).
لقد كان كلام الدكتور محمد عمارة داخل المجمع، ونشر ملحقًا بمجلة الأزهر، وكان ردًا ولم يكن كلامًا مبتدأً، ومع ذلك كله فقد ثارت الكنيسة على نشره وطلبت سحبه من التداول وفعل الأزهر ذلك، محافظة على مشاعر الأقباط، وحرصًا على وحدة أبناء الوطن. فهل يأمر البابا شنودة الأنبا بيشوي بأن يفعل مثل ما فعلت القيادة الدينية الرسمية للمسلمين؟ أرجو مخلصًا أن يفعل.
• سأل الإعلامي المعروف الأستاذ عبد اللطيف المناوي ضيفه البابا شنودة الثالث عما سبب تغيير الأجواء، التي كانت سائدة بين المسلمين والأقباط، من الحوار والأخوة الوطنية ونحوهما إلى التوتر والاحتقان الحاليين؟ وكان جواب البابا: «المسألة الأولى بدأت من مشكلات كاميليا... هل سيدة معينة يمكن توجد خلافًا على مستوى البلد كله... لماذا هذا الضجيج كله من أجل موضوع يمكن يكون شخصي خاص بها وبزوجها... المسألة تطورت من فرد معين إلى هياج كبير جدًا جدًا، استخدمت فيه شتائم وكلام صعب إلى أبعد الحدود، ونحن لم نتكلم وسكتنا... حدثت مظاهرات تؤذي مشاعر كل مسيحي.. لم تحدث مظاهرات من جانبنا» وعندما حاول الأستاذ المناوي تلطيف الجو بقوله «كان هناك جرح متبادل» رد عليه البابا بحزم: «الجرح مش متبادل.. أرجوك».
• والواقع أن الإجابة عن سؤال: ما الذي حدث فأدى إلى تغيير الأجواء؟ بأن المسألة «بدأت من مشكلات كاميليا» إجابة غير صحيحة جملة وتفصيلا. كاميليا وقصتها كانت آخر ما أثار مشاعر الجماهير المسلمة التي انفعلت لما أشيع من أنها أسلمت وأنها سُلِّمت إلى الكنيسة كسابقاتٍ لها في السنين السبع الأخيرة.
وأول هؤلاء اللاتي سلِّمن إلى الكنيسة كانت السيدة/ وفاء قسطنطين زوجة كاهن كنيسة (أبو المطامير) آنئذٍ. وواقعة السيدة وفاء قسطنطين حدثت في سنة 2004 وهي سلِّمت إلى الكنيسة التي أودعتها دير الأنبا مقار بوادي النطرون (حسبما أعلن في الشهر الحالي، سبتمبر 2010، الأسقف الأنبا باخوميوس أسقف البحيرة ومطروح والمدن السبع الغربية). وهي لا تزال تحيا فيه حبيسة ممنوعة من مغادرته حتى اليوم. وقد ثار شباب ورجال أقباط على بقاء السيدة/وفاء قسطنطين في حماية الدولة من أن تقع في قبضة من يقيد حريتها بغير سند من القانون، وتظاهروا في مقر الكاتدرائية بالعباسية، وألقوا حجارة على رجال الأمن فأصيب منهم (55) من بينهم خمسة ضباط، واعتُديَ بالضرب على الصحفي مصطفى سليمان، من صحيفة الأسبوع وانتُزِعَتَْ منه بطاقته الصحفية وآلة تصوير، واعتديَ بالتهديد على الصحفية نشوى الديب، من صحيفة العربي، ولولا حماية رجل قبطي، ذي مروءة، لها لكان نالها مثل ما نال زميلها. وقد نشرتْ تفاصيل مسألة وفاء قسطنطين منذ إسلامها إلى تسليمها جميع وسائل الإعلام المصرية، وكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية [كتابنا: للدين والوطن ص 207-275].
• وقد تزامن مع تسليم وفاء قسطنطين تسليم السيدة/ ماري عبد الله التي كانت زوجة لكاهن كنيسة بالزاوية الحمراء إلى الكنيسة، بعد أن أسلمت. وفي أعقاب هاتين الحادثتين المخزيتين سلمت إلى الكنيسة (مارس 2005) طبيبتي الامتياز ماريا مكرم جرجس بسخريوس، وتيريزا عياد إبراهيم في محافظة الفيوم وأعلن الأنبا أبرام وكيل مطرانية سمالوط أن الفتاتين «هما الآن تحت سيطرتنا» [المصدر السابق ص 277].
• وتبع هاتين الحادثتين تسليم بنات السيدة ثناء مسعد، التي كانت مسيحية وأسلمت ثم قتلت خطأ في حادث مرور، إلى زوجها المسيحي، بقرار من النيابة العامة ليس له سندٌ من صحيح القانون [التفاصيل في كتابنا سالف الذكر ص 258].
• كان تسليم المسْلِمات إلى الكنيسة، وإصرارها على ذلك، والمظاهرات العنيفة التي قامت في القاهرة والبحيرة والفيوم (وليتأمل القارئ كلام البابا شنودة لعبد اللطيف المناوي الذي يصطنع فيه تفرقة بين المظاهرات، التي يقوم بها المسلمون، والتجمعات الاحتجاجية التي يقوم بها الأقباط. ولمن شاء أن يسأل هل كان الاعتداء على رجال الشرطة، وجرح 55 منهم بينهم 5 ضباط، مجرد تجمع احتجاجي!!). كان ذلك التسليم هو بداية الاحتقان المستمر، حتى اليوم، بين الكنيسة من جانب وأهل الإسلام في مصر من جانب آخر.
• وهذا الاحتقان له سببه المشروع عند المسلمين. فذلك التسليم تم للمرة الأولى في تاريخ الإسلام (1444سنة)، لم يُسْبَقْ إليه شعب ولا دولة ولا حكومة. والقرآن الكريم ينهى عنه نهيًا قاطعًا {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن...} [الممتحنة:10].
• وقد طالب المسلمون، بألسنة مفكريهم وعلمائهم وأقلام كتابهم، بتصحيح هذه الأخطاء فلم يستمع إليهم أحد!! وأحدث هذا الإهمال لما يوجبه الدين تأثيره في جماهير المسلمين، وهو تأثير مستمر حتى اليوم، يزداد الشعور به كلما وقعت حادثة جديدة، أو أشيعت شائعة عن وقوعها، أو اتخذ موقف أو قيل كلام من جانب رجال الكنيسة يحرك حفيظة المسلمين.
فما يقوله البابا شنودة عن أن أصل المسألة هو موضوع كاميليا شحاتة كلام غير صحيح. إن أصل المسألة هو انتهاز الكنيسة فرصة ضعف الدولة بإزائها، وتغولها على النطاق المحفوظ بغير جدال لسلطاتها الرسمية، واتخاذها محابس لمن لا ترضى عنهم من الناس بغير سند من القانون، وبالمخالفة للدستور، مع سكوت الجهات المختصة في الدولة كافة على هذا السلوك العجيب. ويزداد الأمر شدة وصعوبة كلما ادعت الكنيسة على لسان قياداتها أن ما حدث، ويحدث، هو ممارسة لحقوقها وحماية لمن أسلمن ـ بزعم عودتهن عن هذا الإسلام ـ ممن قد يصيبهن بأذى!!
• لقد كان بيان هذا الأمر لازمًا لوضع الأمور في نصابها، ولتذكير الحَبر الجليل البابا شنودة الثالث بدور الكنيسة، تحت قيادته، في إحداث الاحتقانات المتتالية بين المسلمين وغير المسلمين. وقد كان آخر فصول هذا الدور هو تصريحات الأنبا بيشوي، ومن تبعه من الكهنة ذوي الرتب الكهنوتية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة عن مسألة (ضيافة) الأقباط للمسلمين، وعن مسألة (الجزية) ثم تصريحات الأنبا بيشوي ـ التي نفى البابا شنودة علمه بها ـ عن تفسير آيات القرآن الكريم بما يوافق العقيدة المسيحية كما يعتنقها الأنبا بيشوي، وحديثه عما إذا كانت بعض آيات القرآن قد أضيفت في زمن متأخر في عهد الخليفة عثمان بن عفان .
* * * * *
• إن حياة المسلمين والمسيحيين على أرض مصر قدر لا فكاك منه لأحد الفريقين. والعمل من أجل تأكيد معاني العيش الواحد الذي يجمع بينهم في وطنهم الواحد، والتوعية بها، هو المخرج الوحيد من الفتن المتتالية التي نعاني منها منذ نحو أربعة عقود.
إن معنى العيش الواحد في الوطن الواحد أن يكون بين المختلفين، دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية، نوع احتمال لما لابد منه من الاختلاف بين الناس، ومعيار هذا الاحتمال الواجب أن ينزل كل طرف عن بعض حقه، الواجب له، رعاية لمرضاة أخيه في الوطن.
وفرق ما بين ذلك وما بين العيش المشترك الذي يضم المختلفين دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية ويعيشون في مناطق مختلفة من العالم، أن معيار التعامل في العيش المشترك هو الحقوق وحدها، تُطلب وتُؤدى على ما توجبه العقود أو الاتفاقات أو القوانين.
في العيش الواحد ليس بين الناس كرامات، وإنما بينهم أخوة وتعاون، ينزل هذا عن بعض ما يريد ويترك ذاك بعض ما يستحق، لأن الناس في العيش الواحد عائلة واحدة يحمل بعضها بعضًا، ويعين بعضها بعضًا، وينصر بعضها بعضًا. لكن في العيش المشترك يتقاسم الناس خيرات الأرض، وما خلق الله لهم فيها مما يسعهم جميعًا، فإذا زاحم أحدهم الآخر في حقه أو ملكه أو سيادته لم يقبل ذلك منه.
في العيش الواحد علاقات مودة وأخوة مصدرها قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8].
وفي العيش المشترك واجبات تؤدى وحقوق تُستأدى معيارها قول الله تبارك وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة:29]، وقوله تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الجاثية: 12-13].
* * * * *
• والذي ندعو إليه إخواننا المسلمين والأقباط جميعًا هو إدراك هذه الحقيقة الأزلية: أننا للعيش على أرض هذا الوطن الواحد خلقنا.
• وأن أحدًا منا لن يستطيع أن ينفي الآخر مهما كان له من القوة، أو ظن بنفسه من البأس، أو استشعر من مناصريه التصميم على ما يحرضونه عليه، أو يدفعونه إليه، أو يستحسنونه من قوله وفعله.
• والدين الحق حائل بين صاحبه وبين العدوان على غيره.
• والإمساك عن العدوان باللسان واجب كالإمساك عن العدوان بالسنان.
والعود إلى داعي العقل أحمد
والعمل بموجب الرشد أسَدُّ.
• ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بعهده فله الحسنيان، في الأولى والآخرة.
والله من وراء القصد
منذ سنين ناقشنا، في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، سبل التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في الوطن الواحد وفي أوطان شتى. وانتهينا يومئذ إلى إصدار وثيقة سميناها (العيش الواحد) أصبحت هي دستور عمل الفريق، ووصفت في تصديرها ـ بحق ـ بأنها «دعوة للناس، وشهادة بينهم، وميثاق للعمل العربي الإسلامي ـ المسيحي».
• وكان مما قررته تلك الوثيقة أن الحوار ينطلق «من احترام حق الآخر في اعتقاده، وتعزيز الأسس الدينية للعيش الواحد في وطن واحد» وهذا الحوار لا يستقيم «بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية. ولا يقتصر ذلك على سلوك أهل كل من الدينين تجاه أهل الدين الآخر، وإنما يعبر عن نفسه كذلك في وقوف الطرفين معًا ضد أي امتهان لمقدسات أيِّ منهما أيًا كان مصدره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، الحوار والعيش الواحد، بيروت 2001].
• وفي سنة 2008 أصدر الفريق العربي نفسه وثيقته الثانية بعنوان «وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان». وقد نصت هذه الوثيقة في فقرتها رقم (7) على أنه: «ينبغي على أهل كل دين ألا يخوضوا في خصوصيات دين آخر. وينطبق هذا على أهل المذاهب المختلفة والفرق المتعددة في الدين الواحد... وإشاعة أمر التعارض أو التناقض، بين عقيدة وغيرها من العقائد، لا يؤدي إلا إلى البغضاء والشحناء وإغراء الناس بعضهم ببعض...».
• ونصت الوثيقة نفسها في فقرتها رقم (9) على أنه: «من حق أهل كل دين أو عقيدة أن يتوقعوا من مخالفيهم تصحيح ما يرتكب في حقهم من خطأ، والاعتذار عما يصدر من هؤلاء المخالفين أو بعضهم من إساءة أو إهانة أو قول أو فعل لا يليق. ولا يجوز لمن وقع منه الخطأ: غفلة أو هفوة أن يستكبر عن تصحيحه أو يبحث عن تأويله وتبريره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان، بيروت 2008].
• وهذه المبادئ التي صاغها الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي للتعبير عما تراه جموع المؤمنين بالدينين حافظًا لوحدتها الوطنية، وعاصمًا لها من الفرقة، وحائلا بينها وبين التعصب الممقوت، لو اتبعها رجال الكنيسة المصرية في تناولهم للمسائل المتعلقة بالإسلام والمسلمين لما وقعت فتن كثيرة اصطلى بنارها المصريون جميعًا أقباطًا ومسلمين. والفتن، وحوادث التعصب وما يصاحبها من تطورات حمقاء من أيِّ من الطرفين، مهما خمد أورُاها وأطفأت جهود (المصالحة) نارَها، واعتذر المتسبب فيها، أو من يتحدث باسم جهة ينتمي إليها، عما كان منه ــ مهما وقع ذلك كله فإن الفتن المتوالية تتراكم آثارها في النفوس، وينشأ على ذكريات كل منها جيل أو أجيال من أبناء الوطن وبناته يفتقدون صفاء النفس نحو المخالف لهم في الدين، وينظرون إليه نظرة العدو المتربص لا نظرة الشريك في الدار، ولا نظرة الأخ في الوطن.
• فإذا تكلم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري (المصري اليوم: 15/9/2010) عن الجزية ضاربًا عُرض الحائط بكل ما انتهت إليه الدراسات الإسلامية في شأنها، وكأن شيئًا منها لم يكن، فإن هذا الحديث لا يؤدي إلى شيء إلا إلى إثارة ضغائن الأقباط على إخوانهم المسلمين، وبعث فتنة لا مسوغ لها، تعمل عملها في هدم بناء الوطن بتحطيم علاقات الأخوة فيه. سيذكر الأقباط كلام الأنبا بيشوي عن الجزية وهم لم يدفعوها ـ ولا هو دفعها ـ قط، وسينسون كل العلاقات الوادة الراحمة بينهم وبين المسلمين المعاصرين لهم وهم لم يقبضوا الجزية قط!! فما الذي يستفيده نيافة الأنبا من هذه المسألة؟ وما الذي يعود على الشعب المصري من ذكرها؟
• وعندما يتحدث عن الاستشهاد، ويؤيده فيما قال رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، البابا شنودة، مفسرًا الاستشهاد بأنه في المفهوم المسيحي الموت في سبيل المبدأ أو العقيدة دون قتال لأن الاستشهاد في القتال موت وقتل وليس استشهادًا بالمعنى المسيحي. (حديثه مع الإعلامي عبد اللطيف المناوي، الحلقة الثانية، 27/9/2010).
أقول عندما يتحدث أنبا موقر والبابا نفسه عن هذا المفهوم فإن من واجبهما أن يراعيا، مع المفهوم المسيحي الذي يقولان به، المعنى العربي اللغوي، والمعنى الإسلامي، للاستشهاد، وهو الموت في سبيل الله؛ الذي قد يكون في قتال وقد لا يكون، كما في الرجل يقول كلمة حق عند سلطان جائر فيقتله، وقد سمي في الحديث النبوي (سيد الشهداء) وقرن بحمزة بن عبد المطلب ، فكيف غاب هذا عن الرجلين، وغيرهما، وهما يتحدثان عن الاستشهاد.
ثم إن هذا الذي يموت في سبيل العقيدة، بغير قتال، يموت بلا شك مظلومًا مضطهدًا، فأين هي مظاهر هذا الاضطهاد الذي سيصل بمن يقع عليهم إلى حد القتل في سبيل مبدئهم؟؟ إن الاعتذار عن التهديد بالاستشهاد بإيراد معناه في المسيحية لا يزيد الطين إلا بلة لأنه يتضمن اتهامًا للمسلمين باضطهاد الأقباط، وهو اتهام باطل قطعًا فلا المسلمون في مصر يضطهدون الأقباط ولا الأقباط يضطهدون المسلمين، لكنه التلاسن السياسي الذي لم يستطع أحد أن يدرك ماذا أراد منه الأنبا بيشوي عندما أورده خارج سياق حديث (المصري اليوم) معه، وعندما نبهته الصحفية التي كانت تحاوره إلى السياق الصحيح للسؤال ذكرنا بأحداث سبتمبر 1981 ولم يصحح جوابه عن سؤالها.
• وأحداث سبتمبر 1981، فيما يخص الكنيسة القبطية، قطع كل قول فيها حكم محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 934 لسنة 36ق التي كانت مقامة من البابا شنودة الثالث ضد رئيس الجمهورية وآخرين، والعودة إلى أوراق هذه الدعوى، وأسباب حكمها، لا تفيد نيافة الأنبا بيشوي ولا تفيد البابا. والحكم منشور في مصادر كثيرة يستطيع الرجوع إليها من شاء، إذ ليس المقام هنا مقام تذكير بأخطاء الماضي، لكنه مقام تصويب لما لا يصح من مقولات الحاضر.
• كما أقحم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس في حديثه مع (المصري اليوم) حكاية (الضيوف) وذكر أحداث 1981، أقحم في بحثه المعنون (الميديا وتأثيرها على الإيمان والعقيدة) فقرة من 4 صفحات كاملة تتحدث عن القرآن الكريم، ومعاني بعض آياته، ومدى تناسق ما تذكره بعضها مع ما تذكره آيات أخرى. والبحث أعده صاحبه ليلقيه في مؤتمر العقيدة الأرثوذكسية 13 الذي عرف إعلاميًا باسم مؤتمر تثبيت العقيدة. واعترض على كلمة (تثبيت) البابا شنودة في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي (26/9/2010).
• ومما اتخذتُه سبيلا في علاقتي بإخواني غير المسلمين جميعًا ألا أدخل معهم في نقاش حول ديني أو دينهم، لأنني أعتقد أن الأديان والمذاهب مُطْلقاتٌ عند أصحابها، لا تحتمل التبديل ولا التغيير، ولا يقبل المؤمنون بها احتمال خطئها، صغيرًا كان الخطأ أم كبيرًا. إن الجائز بين أهل الأديان هو الإجابة عن سؤال أو شرح مسألة لمن لم يعرفها، إذا وُجِّه ذلك السؤال أو طُلِبَ هذا الشرح. وما سوى ذلك لا يجوز. وهذا هو مضمون ما تقرره وثيقتا: العيش الواحد، والاحترام المتبادل اللتين ذكرتهما آنفًا.
لذلك لن أعيد ما قاله الأنبا بيشوي في بحثه المذكور عن القرآن الكريم، فاعتقادي أنه ليس من حقه مناقشة القرآن ولا الجدل في شأن كيفية تفسيره، ولا محاولة التوفيق بين معاني بعض آياته ومعاني العقيدة المسيحية كما يؤمن بها هو ومن يتبعون مذهبه.
• غير أن كلام الأنبا بيشوي عن القرآن الكريم فيه مسائل تحتاج إلى بيان. ولست أوجه هذا البيان له وحده، ولكنني أوجهه إلى كل من قرأ بحثه أو استمع إليه، أو تابع ما نشرته الصحف وأذاعته وسائل الإعلام عنه.
- المسألة الأولى: أن الأنبا بيشوي نقل كلامًا نسبه إلى الفخر الرازي (أبو الفضل محمد فخر الدين بن عمر بن الحسين الرازي المتوفى سنة 606) في كتابه: التفسير الكبير، قال الأنبا بيشوي إن الفخر الرازي يقول عن تفسير قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم} [النساء:157] بأن المصلوب شخص غير عيسى بن مريم عليه السلام: «إنها إهانة لله أن يجعل شخصًا شبهه يصلب بدلا منه، لأن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه. وهكذا فقد أورد لنا أدلة لم نذكرها نحن من قبل... وقال أيضًا ما ذنب الذي صلب في هذه الحالة إن هذا يعتبر ظلم (كذا)....» [ص43 من بحث الأنبا بيشوي والنقاط الثلاث من أصل نصه].
- ولا يقتضي الأمر أكثر من الرجوع إلى التفسير الكبير ليتبين القارئ الكريم أمرين: الأول، أن الألفاظ التي زعم الأنبا بيشوي أنها من كلام الفخر الرازي لا توجد في كلامه قط. الثاني، أن الفخر الرازي أورد الأقوال في شأن قوله تعالى {ولكن شبه لهم} وردَّ عليها، واختار أصحها في نظره، وأنه لما ناقش كيفية إلقاء شبه المسيح عليه السلام على الشخص الذي صلبه اليهود والرومان ذكر أربعة أقوال في شرح تلك الكيفية وانتهى إلى أن «الله أعلم بحقائق الأمور». ولم يرد في كلامه في أي موضع تعبير (إن هذا يعتبر ظلمًا) ولا تعبير (أن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه). [تفسير الفخر الرازي، ج11، ط المطبعة المصرية، القاهرة 1938، ص 99. ورقم الآية من سورة النساء هو 157 وليس 156 كما ذكره الأنبا بيشوي].
وأنا أترك للقارئ أن يحكم على هذا الصنيع ومدى صلته بالعلم، الذي من بركته عندنا الدقة في نسبة كل قول إلى قائله، ومدى صلته بواجب الأحبار والرهبان في حفظ أمانة الكلمة وتأديتها إلى الذين يتحدثون إليهم.
- المسألة الثانية: أن الأنبا بيشوي يحكي قصة حوار بينه وبين الملحق العسكري المصري في منزل سفير مصر في قبرص (لم يذكر اسم السفير ولا اسم الملحق العسكري) وينتهي منها إلى أن الملحق العسكري وافقه على تفسيره لقول الله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة:17].
ودون دخول في تفصيلات الحوار الذي ذكره الأنبا بيشوي، أقول إنه حوار لا معنى له ولا جدوى منه، ودار ـ إن صحت الرواية ـ بينه وهو غير مختص ولا متخصص وبين رجال مثله غير مختصين ولا متخصصين، فكان حاصله صفرًا ، لا يقتضي تعقيبًا ولا يستحق ردًا. لكن المهم في الأمر كله أن محاولة إعادة فهم القرآن الكريم على خلاف ما فهم منه على مدى التاريخ الإسلامي كله محاولةٌ مآلها الإخفاق، ونتيجتها إثارة الفتنة بين الأقباط والمسلمين إذا ردد الأقباط فهم الأنبا بيشوي وفهم الملحق العسكري!! وقد كان حريًا بالأنبا بيشوي ألا يقتحم هذا المجال أصلا فليس هو من رجاله ولا أهله. ومما يحسُنُ بالمرء ألا يهرف بما لا يعرف وبخاصةٍ إذا ترتب على ذلك أن تحدث وقيعة بين أبناء الوطن الواحد يحمل وزرها الذين يجادلون فيما ليس لهم به علم.
- المسألة الثالثة: أن الأنبا بيشوي يتساءل عما إذا كانت الآية الكريمة (وصفها من عندي) «قيلت أثناء بعثة نبي الإسلام، أم أضيفت أثناء تجميع عثمان بن عفان للقرآن الشفوي وجعله تحريري(؟)، لمجرد وضع شيء ضد النصارى» ويتساءل قبل ذلك عما إذا «كانت قد قيلت وقتما قال نبي الإسلام القرآن أم أنها أضيفت فيما بعد، في زمن متأخر».
والتساؤلان غير مشروعين، وفي غير محلهما، ووجها إلى من لا شأن له في الجواب عليهما.
فالنبي لم (يقل) القرآن, إنما تنزل عليه القرآن من لدن عليم حكيم. وأنا لا أريد من نيافة الأنبا، ولا من أي مسيحي، أن يقر لي بنبوة محمد لأنه إن فعل ذلك خرج من عقيدته الحالية، وليس هذا مطلبي. لكنني أتوقع منه أن لا يهين كتابنا الكريم (القرآن) وينسبه إلى مخلوق، ولو كان هو النبي نفسه، لأن في ذلك إهانةً لا تقبل، ومساسًا لا يحتمل بالإسلام نفسه.
والخليفة الثالث، عثمان بن عفان، لم يحوّل القرآن من شفهي إلى تحريري. بل كان القرآن الكريم يكتب فور نزوله على النبي آية آية، وقطعة قطعة، وسورة سورة، وهذا كله مبسوط في كتب علوم القرآن التي لو طالعها أي ملمٍ بالقراءة والكتابة لم يقل مثل الكلام الذي كتبه الأنبا بيشوي في بحثه.
وأخشى ما أخشاه أن يفهم المسلمون الذين يقرأون كلام الأنبا بيشوي أن المقصود هو التسوية بين النص القرآني المتواتر بلا خلاف وبين نصوص دينية أخرى لم تدون إلا بعد أكثر من مئتي سنة من انتهاء عصر الأنبياء المنسوبة إليهم.
ومثل هذه المحاولة تعني التشكيك في تواتر القرآن. والتساؤل عما إذا كانت آية ما أضيفت إلى القرآن الكريم «في زمن متأخر» تكذيب لا يقبله مسلم، بقول الله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9].
• ولذلك فقد أحسن البابا شنودة عندما قال في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي: «آسف إنه يحصل جرح لشعور المسلمين، ونحن مستعدون لأي ترضية» (الحلقة المذاعة في 26/9/2010).
والترضية الواجبة لا تكون إلا بأن يعتذر الأنبا بيشوي نفسه عما قال وفعل وكتب. إن البابا شنودة، وهو رأس الكنيسة لا يجوز أن يتحمل أوزار المنتسبين إليها. ولا يُسْتَغنى بأسفه الشخصي عن اعتذار المخطئ من رجال الكهنوت خطأً يثير الفتنة ويحتمل أن يدمر بسببه الوطن. والبابا شنودة أسِفَ وهو لم يقرأ كلام الأنبا بيشوي، ولا استمع إليه، ولا رأى الأنبا بيشوي نفسه منذ نشر كلامه المسيء إلى الإسلام والمسلمين (حلقة 26/9/2010 مع عبد اللطيف المناوي) فأسفه كان لمجرد مشاعر نقلها إليه، برقةٍ بالغةٍ ولطفٍ ملحوظٍ، الأستاذ عبد اللطيف المناوي، وهو أسَفٌ حسن لكنه لا يغني من المطلوب، الواجب، المستحق للمسلمين المواطنين عند الأنبا بيشوي نفسه، شيئًا. ولا يشك أحد في أن البابا بسلطته الروحية والإدارية على جميع رجال الكنيسة قادر على إلزام الأنبا بيشوي بإعلان اعتذاره بلا مواربة ولا التفاف حول الأمر بكلمات هي معاريض لا تسمن ولا تغني من جوع. وما لم يتم ذلك فإن الترضية التي أبدى البابا استعداده لها لا تكون قد تمت، ويبقى الجرح مفتوحًا حتى تتم فيلتئم، وتعود العلاقة مع الكنيسة سيرتها الأولى، ويتجنب الوطن زلزالا لا يبقي ولا يذر.
• فإذا أبى الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس ذلك، فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نطبق ما يأمرنا به قرآننا فنقول له:
{الحق من ربك فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران: 60-61].
• لقد أحسن البابا شنودة ـ أيضًا ـ عندما قال للأستاذ المناوي: «الآية التي ذكرت كانت آية يعني مش أصول أن ندخل في مفهومها» (حلقة 26/9/2010) «مش عارف إزاي حصل سرد لحاجات زي دي، ربما كان المقصود أن يعرضوا آيات ليصلوا إلى حل للخلاف اللي فيها لكن ما كانش أصول إنها تعرض خالص، كما أنهم ظنوا أن هذا مؤتمر للكهنة فقط فكأنه ناس بيفحصوا بعض أمور جوه البيت مش للخارج. بعض الصحفيين حضروا وأخذوا الحاجات وبدأوا ينشروا» (الحلقة نفسها).
• وليس خفيًا أن الكهنة مهما علا كعبهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى حلول للخلاف بين العقيدتين الإسلامية والمسيحية الذي تعبر عنه بعض آيات القرآن الكريم. فلا هم مؤهلون لهذا، ولا هو من علمهم أو شأنهم، ولن يستمع إلى ما يقولونه أحد من المسلمين. فلماذا يذكر القرآن أصلا في مثل هذا المؤتمر؟؟
والخلاف بين العقيدتين واقع أبدي لا يزول، فالبحث في التوفيق بينهما عبث يجب أن ينزه العقلاء أنفسهم عنه، ويصونوا أوقاتهم عن إضاعتها فيه.
وأن الأمر كان «داخل البيت» لا يسوغُ قبولُه مع ما نشرته الصحف التي ذكرت الموضوع من أن النص «وزع على الصحفيين».
وكم غضبت الكنيسة والأقباط كافة، من كلام كتب أو قيل داخل البيت الإسلامي، ومن كلام يقال داخل المساجد، بل من كلام قيل وكتب لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف (كلام الدكتور محمد عمارة في تقريره العلمي عن كتاب: مستعدون للمواجهة، الذي أحاله المجمع إليه لكتابة تقرير عنه فلما كتبه قامت الدنيا ولم تقعد ـ وكاتب هذا الكتاب ينتحل اسم سمير مرقس، وهو قطعًا لا علاقة له بهذا الاسم، فصاحبه المعروف هو صديقنا المهندس سمير مرقس، وهو رجل وحدة وطنية بامتياز).
لقد كان كلام الدكتور محمد عمارة داخل المجمع، ونشر ملحقًا بمجلة الأزهر، وكان ردًا ولم يكن كلامًا مبتدأً، ومع ذلك كله فقد ثارت الكنيسة على نشره وطلبت سحبه من التداول وفعل الأزهر ذلك، محافظة على مشاعر الأقباط، وحرصًا على وحدة أبناء الوطن. فهل يأمر البابا شنودة الأنبا بيشوي بأن يفعل مثل ما فعلت القيادة الدينية الرسمية للمسلمين؟ أرجو مخلصًا أن يفعل.
• سأل الإعلامي المعروف الأستاذ عبد اللطيف المناوي ضيفه البابا شنودة الثالث عما سبب تغيير الأجواء، التي كانت سائدة بين المسلمين والأقباط، من الحوار والأخوة الوطنية ونحوهما إلى التوتر والاحتقان الحاليين؟ وكان جواب البابا: «المسألة الأولى بدأت من مشكلات كاميليا... هل سيدة معينة يمكن توجد خلافًا على مستوى البلد كله... لماذا هذا الضجيج كله من أجل موضوع يمكن يكون شخصي خاص بها وبزوجها... المسألة تطورت من فرد معين إلى هياج كبير جدًا جدًا، استخدمت فيه شتائم وكلام صعب إلى أبعد الحدود، ونحن لم نتكلم وسكتنا... حدثت مظاهرات تؤذي مشاعر كل مسيحي.. لم تحدث مظاهرات من جانبنا» وعندما حاول الأستاذ المناوي تلطيف الجو بقوله «كان هناك جرح متبادل» رد عليه البابا بحزم: «الجرح مش متبادل.. أرجوك».
• والواقع أن الإجابة عن سؤال: ما الذي حدث فأدى إلى تغيير الأجواء؟ بأن المسألة «بدأت من مشكلات كاميليا» إجابة غير صحيحة جملة وتفصيلا. كاميليا وقصتها كانت آخر ما أثار مشاعر الجماهير المسلمة التي انفعلت لما أشيع من أنها أسلمت وأنها سُلِّمت إلى الكنيسة كسابقاتٍ لها في السنين السبع الأخيرة.
وأول هؤلاء اللاتي سلِّمن إلى الكنيسة كانت السيدة/ وفاء قسطنطين زوجة كاهن كنيسة (أبو المطامير) آنئذٍ. وواقعة السيدة وفاء قسطنطين حدثت في سنة 2004 وهي سلِّمت إلى الكنيسة التي أودعتها دير الأنبا مقار بوادي النطرون (حسبما أعلن في الشهر الحالي، سبتمبر 2010، الأسقف الأنبا باخوميوس أسقف البحيرة ومطروح والمدن السبع الغربية). وهي لا تزال تحيا فيه حبيسة ممنوعة من مغادرته حتى اليوم. وقد ثار شباب ورجال أقباط على بقاء السيدة/وفاء قسطنطين في حماية الدولة من أن تقع في قبضة من يقيد حريتها بغير سند من القانون، وتظاهروا في مقر الكاتدرائية بالعباسية، وألقوا حجارة على رجال الأمن فأصيب منهم (55) من بينهم خمسة ضباط، واعتُديَ بالضرب على الصحفي مصطفى سليمان، من صحيفة الأسبوع وانتُزِعَتَْ منه بطاقته الصحفية وآلة تصوير، واعتديَ بالتهديد على الصحفية نشوى الديب، من صحيفة العربي، ولولا حماية رجل قبطي، ذي مروءة، لها لكان نالها مثل ما نال زميلها. وقد نشرتْ تفاصيل مسألة وفاء قسطنطين منذ إسلامها إلى تسليمها جميع وسائل الإعلام المصرية، وكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية [كتابنا: للدين والوطن ص 207-275].
• وقد تزامن مع تسليم وفاء قسطنطين تسليم السيدة/ ماري عبد الله التي كانت زوجة لكاهن كنيسة بالزاوية الحمراء إلى الكنيسة، بعد أن أسلمت. وفي أعقاب هاتين الحادثتين المخزيتين سلمت إلى الكنيسة (مارس 2005) طبيبتي الامتياز ماريا مكرم جرجس بسخريوس، وتيريزا عياد إبراهيم في محافظة الفيوم وأعلن الأنبا أبرام وكيل مطرانية سمالوط أن الفتاتين «هما الآن تحت سيطرتنا» [المصدر السابق ص 277].
• وتبع هاتين الحادثتين تسليم بنات السيدة ثناء مسعد، التي كانت مسيحية وأسلمت ثم قتلت خطأ في حادث مرور، إلى زوجها المسيحي، بقرار من النيابة العامة ليس له سندٌ من صحيح القانون [التفاصيل في كتابنا سالف الذكر ص 258].
• كان تسليم المسْلِمات إلى الكنيسة، وإصرارها على ذلك، والمظاهرات العنيفة التي قامت في القاهرة والبحيرة والفيوم (وليتأمل القارئ كلام البابا شنودة لعبد اللطيف المناوي الذي يصطنع فيه تفرقة بين المظاهرات، التي يقوم بها المسلمون، والتجمعات الاحتجاجية التي يقوم بها الأقباط. ولمن شاء أن يسأل هل كان الاعتداء على رجال الشرطة، وجرح 55 منهم بينهم 5 ضباط، مجرد تجمع احتجاجي!!). كان ذلك التسليم هو بداية الاحتقان المستمر، حتى اليوم، بين الكنيسة من جانب وأهل الإسلام في مصر من جانب آخر.
• وهذا الاحتقان له سببه المشروع عند المسلمين. فذلك التسليم تم للمرة الأولى في تاريخ الإسلام (1444سنة)، لم يُسْبَقْ إليه شعب ولا دولة ولا حكومة. والقرآن الكريم ينهى عنه نهيًا قاطعًا {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن...} [الممتحنة:10].
• وقد طالب المسلمون، بألسنة مفكريهم وعلمائهم وأقلام كتابهم، بتصحيح هذه الأخطاء فلم يستمع إليهم أحد!! وأحدث هذا الإهمال لما يوجبه الدين تأثيره في جماهير المسلمين، وهو تأثير مستمر حتى اليوم، يزداد الشعور به كلما وقعت حادثة جديدة، أو أشيعت شائعة عن وقوعها، أو اتخذ موقف أو قيل كلام من جانب رجال الكنيسة يحرك حفيظة المسلمين.
فما يقوله البابا شنودة عن أن أصل المسألة هو موضوع كاميليا شحاتة كلام غير صحيح. إن أصل المسألة هو انتهاز الكنيسة فرصة ضعف الدولة بإزائها، وتغولها على النطاق المحفوظ بغير جدال لسلطاتها الرسمية، واتخاذها محابس لمن لا ترضى عنهم من الناس بغير سند من القانون، وبالمخالفة للدستور، مع سكوت الجهات المختصة في الدولة كافة على هذا السلوك العجيب. ويزداد الأمر شدة وصعوبة كلما ادعت الكنيسة على لسان قياداتها أن ما حدث، ويحدث، هو ممارسة لحقوقها وحماية لمن أسلمن ـ بزعم عودتهن عن هذا الإسلام ـ ممن قد يصيبهن بأذى!!
• لقد كان بيان هذا الأمر لازمًا لوضع الأمور في نصابها، ولتذكير الحَبر الجليل البابا شنودة الثالث بدور الكنيسة، تحت قيادته، في إحداث الاحتقانات المتتالية بين المسلمين وغير المسلمين. وقد كان آخر فصول هذا الدور هو تصريحات الأنبا بيشوي، ومن تبعه من الكهنة ذوي الرتب الكهنوتية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة عن مسألة (ضيافة) الأقباط للمسلمين، وعن مسألة (الجزية) ثم تصريحات الأنبا بيشوي ـ التي نفى البابا شنودة علمه بها ـ عن تفسير آيات القرآن الكريم بما يوافق العقيدة المسيحية كما يعتنقها الأنبا بيشوي، وحديثه عما إذا كانت بعض آيات القرآن قد أضيفت في زمن متأخر في عهد الخليفة عثمان بن عفان .
* * * * *
• إن حياة المسلمين والمسيحيين على أرض مصر قدر لا فكاك منه لأحد الفريقين. والعمل من أجل تأكيد معاني العيش الواحد الذي يجمع بينهم في وطنهم الواحد، والتوعية بها، هو المخرج الوحيد من الفتن المتتالية التي نعاني منها منذ نحو أربعة عقود.
إن معنى العيش الواحد في الوطن الواحد أن يكون بين المختلفين، دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية، نوع احتمال لما لابد منه من الاختلاف بين الناس، ومعيار هذا الاحتمال الواجب أن ينزل كل طرف عن بعض حقه، الواجب له، رعاية لمرضاة أخيه في الوطن.
وفرق ما بين ذلك وما بين العيش المشترك الذي يضم المختلفين دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية ويعيشون في مناطق مختلفة من العالم، أن معيار التعامل في العيش المشترك هو الحقوق وحدها، تُطلب وتُؤدى على ما توجبه العقود أو الاتفاقات أو القوانين.
في العيش الواحد ليس بين الناس كرامات، وإنما بينهم أخوة وتعاون، ينزل هذا عن بعض ما يريد ويترك ذاك بعض ما يستحق، لأن الناس في العيش الواحد عائلة واحدة يحمل بعضها بعضًا، ويعين بعضها بعضًا، وينصر بعضها بعضًا. لكن في العيش المشترك يتقاسم الناس خيرات الأرض، وما خلق الله لهم فيها مما يسعهم جميعًا، فإذا زاحم أحدهم الآخر في حقه أو ملكه أو سيادته لم يقبل ذلك منه.
في العيش الواحد علاقات مودة وأخوة مصدرها قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8].
وفي العيش المشترك واجبات تؤدى وحقوق تُستأدى معيارها قول الله تبارك وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة:29]، وقوله تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الجاثية: 12-13].
* * * * *
• والذي ندعو إليه إخواننا المسلمين والأقباط جميعًا هو إدراك هذه الحقيقة الأزلية: أننا للعيش على أرض هذا الوطن الواحد خلقنا.
• وأن أحدًا منا لن يستطيع أن ينفي الآخر مهما كان له من القوة، أو ظن بنفسه من البأس، أو استشعر من مناصريه التصميم على ما يحرضونه عليه، أو يدفعونه إليه، أو يستحسنونه من قوله وفعله.
• والدين الحق حائل بين صاحبه وبين العدوان على غيره.
• والإمساك عن العدوان باللسان واجب كالإمساك عن العدوان بالسنان.
والعود إلى داعي العقل أحمد
والعمل بموجب الرشد أسَدُّ.
• ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بعهده فله الحسنيان، في الأولى والآخرة.
والله من وراء القصد
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)