‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثقافة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثقافة. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 2 يناير 2013

الدكتور طارق متري : العولمة والصحوة الدينية


تتقارب الدول وتتشارك. ومن خلال هذا تقدم بعضًا من التنازلات طوعًا أو كرهًا, ويبقى مفهوم سيادة الدولة هو السؤال الرئيسي الذي يطرح في عالمنا المعاصر. أكثر من أي وقت مضى, تسمح لنا إمكانات السفر الفعليّة, أي ركوب الطائرة والباخرة والقطار, وإمكانات السفر الرمزيّة من خلال وسائل الاتصال الحديثة, أن نستحضر العالم كله في حياتنا اليومية. كما نلاحظ أن العالم اليوم يعرف توحيدًا في السوق الماليّة, فلم تعد الأسواق الماليّة منفصلة الواحدة عن الأخرى. التجارة الدوليّة تنمو بوتيرة أسرع بكثير من الإنتاج, ونسبة نموّها أعلى من نسبة نموّ الاقتصاد. واللافت على هذا الصعيد أن الاقتصاد الرمزي الذي لاعلاقة له مباشرة بالإنتاج الفعلي, يلعب أحيانًا دورًا أكبر بكثير من دور الاقتصاد الفعلي في تحديد السياسات الاقتصادية والأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس. تنتج العولمة بشكل رئيسي عن تفاعلات عدة متزامنة ومتبادلة التأثير: أوّلها الثورة في المعلومات, وثانيها حيوية الشركات الكبيرة, وثالثها النزعة القوية في الولايات المتحدة لكي تكون القوة العظمى الوحيدة والمهيمنة. الواقع أنه باستطاعة أي دولة عظمى أن تكون مهيمنة في أجزاء ما من العالم, ولكن الولايات المتحدة تحاول وتنجح بقدر كبير حتى الآن أن تكون القوّة العظمى الوحيدة المهيمنة في أكثر بقاع العالم وليس فقط في أجزاء معيّنة منه. هي تهيمن في أماكن لم يكن لها سابقًا دور وتأثير مباشر فيها. في المجال الثقافي نلاحظ عملية توحيد ثقافي للعالم تتم بواسطة أنظمة المعلومات ووسائل الإعلام, وكذلك بواسطة السلع التي تسهم في إحداث أنماط استهلاكية هي جزء من الثقافة السائدة والمتجانسة في عالم اليوم. فعلى سبيل المثال, يقول رئيس شركة (جيليت): (لم تعد غريبة البلدان التي كانت تعتبر غريبة), أي أن الأمريكي الذي يذهب إلى أي بلد في العالم, أو رجل الأعمال الذي يتنقل بين فنادقها, بات يعتبر أنّ هذه الدول ليست دولاً غريبة, لأنه يتناول فيها الطعام الذي يأكله في بلده, ويشاهد التلفزيون الذي يتابعه في بلده ويسمع الموسيقى التي يسمعها في بلده, ويطلع على بريده الشخصي الذي كان يصله في بلده... إلخ. هناك عملية توحيد ثقافيّة للعالم تبدو في بعض الأحيان قسريّة, يختبرها الناس كعملية مفروضة عليهم, وأحيانًا تتم عملية التوحيد هذه بهدوء من دون أن يعي الناس أنهم صاروا متجانسين مع من ينتمون في الأصل إلى ثقافة أخرى. الكثير من الشبّان يسافرون ظنّا منهم أنهم سيتعرفون على بلاد بعيدة حيث يختلف الناس عنهم, ولكنّهم يفاجأون أن شبّان تلك البلاد لا يختلفون عنهم, فهم يلبسون مثلهم, ويتكلمون مثلهم, ويسمعون الموسيقى نفسها المألوفة لديهم. إذن, هناك عملية توحيد ثقافي كبيرة, لكن في الوقت الذي تفرض فيه عمليّة التوحيد الثقافي هذه, تقوى عند المجتمعات وعند الأفراد أيضًا الرغبة في التمايز, لأن الناس مفطورون على أن يكونوا متنوعين. فكلما ازداد ضغط التوحيد والتجانس وازداد فرضهما قوّة ازدادت الرغبة في التمايز, وهذه إحدى مفارقات العولمة الثقافية وبقدر ما يشبه أحدنا الآخر, يريد أن يظهر فرادته فيبحث أحيانًا عن فروقات صغيرة تميزه. تأكيد الهوية ثمة حاجة لتوحيد الهويّة الخاصة, فردية كانت أم اجتماعية, في عالم يبدو لنا أكثر تجانسًا. يتحدث فرويد, العالم النفسيّ الشهير, عما يسمّيه في سياق آخر (نرجسيّة الفروقات الصغيرة), أي أنّ يكون المرء متمسّكا بفرق صغير يميّزه عن سواه. هناك من يثير في هذا السياق, أي في سياق المستوى الثقافي للعولمة, مسألة مهمة هي مسألة حريّة الأفراد وحريّة الجماعات. فالبعض يعتبر أنّ العولمة الثقافية تساعد الأفراد أن يحققوا قدرًا من الحرية في علاقتهم بجماعات الانتماء التقليدية. وكثيرًا ما نسمع في معرض الموقف المحبذ من العولمة أنها تساهم في ممارسة الحريّة عند الأفراد, فيستطيع الجالس في غرفته والقادر على أن يستحضر المعلومات من كلّ العالم بواسطة الإنترنت, أن يصبح أكثر حرية من الجماعة أو الطائفة التي ينتمي إليها. إذن, هو يستعين بالعالم لكي ينتزع حريته من جماعة الانتماء المحلي التي تقيّد حريته. من ناحية أخرى, لاشك أنه يوجد تزامن, قرينة زمنيّة كما يسمّيها الأقدمون, بين ظاهرة تدعى عند الكثيرين ظاهرة عودة الدين أو الصحوة الدينية والعولمة. ذلك أنّ العولمة التي تحدثنا عنها تسارعت في آخر السبعينيات وبداية الثمانينيات, بعد النجاحات الأولى للسياسة الريغانية, التي تواكبت مع حقبة ما بعد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام. فانصرف الأمريكيون, بعد هزيمتهم تلك, إلى إعادة بناء قوتهم على أسس جديدة, وازدهر الاقتصاد الأمريكي, تاليًا, وصارت الشركات الأمريكية أكثر حيويّة فاستطاعت اقتحام الحواجز من كل نوع. كما سجّلت في الحقبة ذاتها قفزة نوعية في مجال أنظمة المعلومات. وبالتزامن مع ذلك كله, شهد العالم ما يسمّى عودة الدين. وإن كنّا نقول إنّ الدين لم يغب حتى يعود, فإن البعض من علماء السياسة والاجتماع يتحدثون عن عودة الأديان. بعبارة أخرى, يتحدث هؤلاء عن حيوية عدد الأديان مستجدة, وكذلك عن حضور للدين في الحياة العامة لم يكن له سابق في عقود ما قبل آخر السبعينيات. لقد ساد الاعتقاد, حتى منتصف السبعينيات, بأن تأثير الأديان هو إلى انحسار في حياة الناس, وبخاصة في الحياة العامة, أي في ميادين السياسة والاقتصاد. كما ساد الاعتقاد بأن المجتمعات تتعلم, بمعنى أنها تحقق قدرًا أكبر من الاستقلال عن المؤسسات والرموز الدينية, وأنّ عمليّة التعلم عمليّة تاريخية لارجوع عنها وأنّ هناك مجتمعات متقدمة, بمعنى أنها حققت قدرًا أكبر من استقلال المجتمع عن القيم والرموز والمؤسسات الدينية, ومجتمعات متأخرة لم تحقق هذا القدر من الاستقلال, وأن هذه المسألة, مسألة التقدم والتأخر مسألة وقت, أي أن المتقدم يدعو المتأخر إلى الاستعجال وأنه لا مفرّ من أن تتعلم كل المجتمعات بفعل التصنيع والتحديث. خصوصية التدين لقد قيل أيضًا إن الدين سوف يُحجر عليه في حياة الأفراد الخاصة, أي أن الناس إذا ما بقيت متدينة, فإنها ستمارس تديّنها في بيوتها, في غرف نومها. هذا ما كان شائعًا في منتصف السبعينيات عند كلّ الناس, حتى عند المتدينين الذين كان لديهم الشعور بأنهم يخوضون معركة للحفاظ على الهوية الدينية وعلى دور الدين في الحياة العامة أمام سيل جارف يقود مجتمعاتهم نحو علمنة تخرج الدين من دائرة الحياة العامة. إلا أن هذا تغيّر في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات, وأدرك الكثيرون أن المسألة ليست محسومة على الشكل الذي تصوّروه سابقًا, واتضح أن الدين يلعب أدوارًا في الحياة العامة أكثر تأثيرًا من السابق. وليس انتصار الثورة الإيرانية المثل الوحيد الذي نستطيع تقديمه للتأكيد على قدرة الدين أن يلعب دورًا كبيرًا في الحياة العامة, بل ثمة أيضًا ظواهر أخرى أقلّ أهميّة ربما, لم تحدث انقلابًا جذريًا كما أحدثت الثورة الإيرانية, ولكنها كانت ظواهر مؤثرة وفاعلة كما في الدول الشيوعية التي حصلت فيها تغييرات كبيرة على مستوى دور الدين. وقد اختلف مدى تأثير الدين في الحياة العامة باختلاف البلدان, ففي بولونيا لعب دورًا أكبر من الدور الذي لعبه في تشيكوسلوفاكيا, وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا بالقياس إلى بلغاريا. كما لعبت عودة الدين دورًا في خلخلة النظام الاجتماعي السياسيّ القديم, وإن لم يصل إلى حجم الدور الكبير الذي لعبته الثورة الإيرانية في إقامة النظام الاجتماعي السياسي الجديد. إلا أنه على الأقل, استطاعت تلك الأديان تقويض النظام القديم وإسقاطه. تنامت, إذن, في أواخر السبعينيات, ومطلع الثمانينيات قوة الأديان في الحياة العامة. إنه لجلي أن ظاهرتي عودة الدين والعولمة قد تزامنتا, ولم يمض على عمرهما غير عقدين. هل هناك تأثير متبادل بين العولمة والصحوة الدينية? هل الصحوة الدينية في وجه من وجوهها هي أحد مظاهر العولمة أو مقاومة العولمة? أم أن التزامن هو مجرد صدفة? أي أن هناك أسبابًا أدت إلى نشوء ظاهرة العولمة, وأسبابًا من نوع آخر أدت إلى الصحوة الدينية, وشاءت الظروف وحدها أن تتزامن الظاهرتان? ثمة تأثير لظاهرة العولمة, كما وصفناها وصفًا أوليًا, على وضع الدين, أو على (الحالة الدينية). هناك مجالات عدة نستطيع أن ندرس فيها هذا التأثير, إلا أن مجالين منهما يستحقان الاهتمام بصورة خاصة. المجال الأول هو الظواهر الدينية الجديدة, التي تنمو نتيجة العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية. فالصحوة الدينية في الولايات المتحدة لم تزدهر إلا بنمو ثورة الاتصالات. وثمة ظواهر دينية لم تنتشر إلا بسبب الاستهلاك الموحد في العالم, لا بل هناك عدد من علماء الاجتماع الذين يقولون إن بعض الحركات الدينية, في الغرب بخاصة, يتعامل معها الناس وفق النمط ذاته, الذي يتعاملون من خلاله مع السلع الاستهلاكية. حتى أن بعض علماء الاجتماع شبّه هذه الأديان الجديدة بمخزن تجاري كبير, يختار المرء منه السلع التي تناسبه, ويبدّلها في كل مرة تستهويه سلعة أخرى. صحيح أن هذه الظاهرة تبرز في الولايات المتحدة, لكنها موجودة في كل مكان, فالناس يغيرون من أديانهم بسرعة لأن سوق الدين يوفر اختيارات كثيرة. غير أن هناك أيضا التعامل مع الأديان, ليس بوصفها نظامًا كليًا متماسكًا, بل بوصفها قطعًا أو أجزاء قابلة للترتيب والتلفيق بحسب رغبة المرء, الذي يختار عناصر مختلفة من أديان عدة ليكوّن دينه الخاص. هذا النمط يقوم به بعض الأفراد في العالم المعاصر, وبعض الجماعات الدينية تتكون وفق منطقه, أي وفق منطق التلفيق والتوليف. المقياس, عندئذ, لا يصبح الأمانة للدين الموحي به والموروث, وهو مقياس أهل الإيمان الذين ينتمون إلى أديان تاريخية. المقياس الذي يغلب هنا هو قدرة دين معين أو أجزاء من دين معيّن على تلبية حاجات الأفراد أو الجماعات الصغيرة. فيكون المقياس, أحيانًا الصحة النفسية أو الجسدية للمتدين. لاشك بأن هناك علاقة وثيقة بين هذه الظاهرة وبين العولمة, وبازدياد العولمة وانتشارها تزداد هذه الظواهر اتساعًا, وهي تخضع من حيث أراد أصحابها أم لم يريدوا إلى منطق السوق الاستهلاكية نفسه الذي يشهده العالم المعاصر. بعيدًا عن الساحات التقليدية المجال الثاني هو انتشار الأديان في كل مكان. ذلك أن الأديان في العقدين الأخيرين بخاصة, انتشرت بسرعة كبيرة خارج معاقلها التاريخية, والأمثلة التفصيلية تشهد لحجم التغيير الذي شهدته الخارطة الدينية في العالم. لقد كانت واضحة فيما مضى الحدود بين المعاقل التاريخية للأديان الكبيرة, فكان يقال: مثلا هذا هو العالم الإسلامي أو المسيحي أو الهندوسي. ففي جنيف مثلاً, مدينة (كالفينوس) أحد زعماء الإصلاح البروتستانتي, صارت أكثرية سكانها كاثوليكية. وقد أنشئ على بعد مائة كيلومتر من جنيف أكبر دير بوذي, والجدير بالذكر أن أكبر دير في سويسرا هو دير بوذي وليس كاثوليكيا. إنه لمن الواضح أن ثمة علاقة بين هذا التسارع في العشرين سنة الأخيرة وبين العولمة. هناك مصطلح لا أحب أن أستخدمه لأنه مستل من التاريخ اليهودي, ولكنه صار يستخدم من قبل الكل, وبخاصة في الأوساط الأوربية, وهو مصطلح الشتات, هذا يعني أن عددًا كبيرًا من المسلمين يحيون خارج الحدود المنظورة للأمة الإسلامية أو لدار الإسلام, وأن ثمة مسيحيين يحيون خارج المعاقل المسيحية, وهندوسيين موجودين خارج الهند, وبوذيين موجودين خارج الأراضي التاريخية للبوذية, هؤلاء جميعًا أصبح عندهم دور كبير في حياة جماعاتهم, ولم يعودوا منقطعين عنها كما في الماضي, أو منقطعين عن إمكانية التأثير فيها. لقد كبر دور الشتات, ونشأ تنظيم للأديان يراعي هذا الوضع. كما راجت أيضًا فكرة الشبكة, بحيث غدت شبكة العلاقات أهم من فكرة المعقل, وأضحى تجمّع المسيحيين أو المسلمين في مكان على أرض واحدة أقل أهمية من السابق. ثمة مستويان للنظر إلى العولمة, المستوى التحليلي الذي يعلق الأحكام القيمية, أي أن نحاول فهم ما يحدث في العالم المعاصر بمعزل عن إذا كنا مسرورين بالعولمة أو مستائين منها, أو إذا كانت تخدم مصالحنا أو تلحق بنا الضرر. لذلك ينبغي أن ندرس هذه الظاهرة لنرى إلى أيّ حد لا يمكن الرجوع عنها. إن التقدم, مثلا, في مجال أنظمة المعلومات لا رجوع عنه. كما أن بعض جوانب من ظاهرة العولمة هو قابل للجدل. ثم في مرحلة ثانية بعد أن نكون قد ميّزنا بين اللارجوع عنه وسواه نفكر بعضنا مع بعض بشكل قيميّ أكثر في مسألة العولمة كمتديّنين. وهنا يستوقفنا بشكل خاص موقف ديني, ليس فقط عند المسلمين كما يعتقد البعض, بل أيضًا عند المسيحيين وعند الآخرين, يعتبر أن العولمة الثقافية تطمس الخصوصيات الثقافية والهويات الدينية. إذن, يحدد هذا التيار الهوية الدينية بصيغة مقاومة للعولمة الثقافية. علينا أن ننتظر مقاومة العولمة الثقافية باسم الانتماء الديني, باسم الرسوخ في الأصالة الدينية, باسم الحفاظ على الهوية الدينية, ونرى حدود نجاح هذه المقاومة وحدود فرصها والمشاكل التي تثيرها, أنا أعتقد أن هذه مسألة تستحق البحث. المسألة الأخيرة التي تستحق البحث - باعتقادي - هي: هل من نقد أخلاقي للعولمة? النقد السياسي للعولمة سهل, إذ نستطيع أن نقدم نقدًا سياسيًا, وأن نقدم نقدًا لثقافة التوحيد القسري باسم الخصوصية, غير أن النقد الأخلاقي الديني المصدر يستحق أن نقف عنده. ثمة نقاش صعب, لا يخلو من الحدة أحيانًا حول هذه النقطة بالذات. فهناك من يقول إن العولمة خير وبركة, وإنها تلغي الحواجز بين البشر وتعزّز فكرة المساواة وحرية الأفراد, وتفتح الأبواب أمام حقوق الإنسان. وهناك من يقول إن العولمة شكل من أشكال الهيمنة, وهي تستغلّ الناس فيزداد الفقراء فقرًا والأثرياء ثراء. كما هناك فئة تقول إن في الرأيين بعض الصحة, ولعلها مصيبة..

عفيف فراج: حين نتكلم عنه يضيء قنديل المعرفة


كلمة الدكتور سعود المولى في ندوة تكريم المرحوم الدكتور عفيف فراج- بعلشميه 25/11/2012 التحية الأولى أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى السيدة عائدة وإلى عائلة عفيف الذين لولاهم لما كان هذا اللقاء حول كتاب جديد هو السادس منذ وفاته التي كانت مؤلمة لنا جميعاً. والتحية الثانية أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى أصدقاء وزملاء ورفاق عفيف الذين يلتقون هنا اليوم حول كتابه كما كانوا يلتقون في السنوات الثماني الماضية منذ وفاته. في الحديث النبوي الشريف انه اذا مات الانسان ينقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية ( ومعناها الوقف) وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له... وقد حقق عفيف هذه الثلاث من خلال السيدة عائدة، وأولادهما، وقد وقفوا أنفسهم ومالهم ووقتهم وعلاقاتهم على نشر وتعميم علمه النافع ما جعلنا جميعاً ندعو له بالحسنى والثواب وندعو لهم بطول البقاء.. واليوم يتجدد هذا العطاء صدقة جارية وعلماً نافعاً ودعاء له وللعائلة، يتجدد بكتاب هو بحد ذاته مَعلم من معالم وعينا وفكرنا ونضالنا ولو أنه جاء بعد 30 سنة على كتابته... وأنا سأحاول في هذه العجالة أن أموضع الكتاب الجديد في سياقه التاريخي الذي حمل تحولات وتطلعات عاشها عفيف وعشناها معه وواكبناها سوية وشكلت زاداً له ولنا في فهمه وفهمنا المتجدد للواقع وفي جهاده وجهادنا الدائم من أجل المستضعفين والفقراء الكادحين، ومن أجل المعرفة المفيدة والعلم النافع، وهذا ما ميزه كمثقف مناضل ملتزم، أي كمجاهد، شاهد وشهيد... عفيف الزميل والصديق والأخ والزوج والأب ورفيق النضال والمعاناة في سبيل الحق والعدل، هو مجاهد حر، بالعلم والعمل، من أجل وطن أفضل، من أجل لقمة عيش حلال، من أجل حرية وكرامة، ومواطنة ومساواة.. وهو شاهد على عصره، وشهيد على ما قاله وكتبه.. وهذا أيضاً من الحديث النبوي الشريف: من مات دون أهله فهو شهيد، من مات دون أرضه فهو شهيد... ومن الحديث النبوي أيضاً: أن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء.. وعفيف الشاهد الشهيد كان أولنا وأسبقنا في كل شيء.. بعد نكسة حزيران 67 وكان يومها في مصر ومنتمياً الى حركة القوميين العرب ذات الهوى الناصري الاشتراكي، كان عفيف من الذين شاركوا في نقد التجربة المريرة وفي بلورة طروحات التحول اليساري لحركة القوميين العرب الى جانب محسن ابراهيم ومحمد كشلي ورفاقهما.. وكان كتاب لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (دار الطليعة، بيروت، 1970) باكورة انتاج هذا التطور اليساري في الحركة القومية العريقة... وأولى ثمار تحول عفيف كانت كتابه الأول ( دراسات يسارية في الفكر اليميني) (دار الطليعة 1970)، وفيه انتقد الفكر اليميني اللبناني بتجلياته المارونية الكتائبية كما القومية السورية، وصولاً الى التحريفية الماركسية للحزب الشيوعي اللبناني الموسكوبي، الى مثالية المعلم كمال جنبلاط، "ذات الفكر العتيق" (على حد وصفه لها)... كان سلاح النقد الثوري الجذري هو زاده الأول في تمّيزه بين اقرانه ، وهو سلاح ماركسي أساسي ولكننا امتطيناه على صهوة ربيع طلاب أوروبا الغربية في أيار 1968، وربيع براغ التي دمرتها الدبابات الروسية في آب 1968، الى ربيع الثورة الفيتنامية (هجوم الربيع 1968) ، فربيع الثورة الثقافية الصينية... وقد أسهم كتابه الأول ذاك في استثارة الحوارات والنقاشات داخل يسار الحزب القومي السوري الخارج من السجون، وأثمر انشقاق عشرات الشباب المتمركس من الحزب العتيق.. كما كان للكتاب دور كبير في النقاش الماركسي بين منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (وريثة حركة القوميين العرب) وجماعة لبنان الاشتراكي (وضاح شرارة، أحمد بيضون، حسن قبيسي، وجيه كوثراني، محمود سويد، فواز طرابلسي).. ولكن الأثر الأكبر كان في الوسط الطلابي حيث أنه ساعدنا على بلورة صيغة (لجان العمل الطلابي) في المدارس والجامعات، كصيغة نضال مشترك تجمع قوى اليسار الجديد غير المتشكل بعد في إطار تنظيمي محدد.. الا ان الأهم في ذلك الكتاب أنه حمل مبكراً مقاربتين لم يسبقه اليهما أحد من ابناء جيله ورفاقه في اليسار.. المقاربة الأولى تتمثل في تشخيصه البنيوي لتمزق المواطن اللبناني والمجتمع اللبناني ما بين ثقافتين وهويتين ، ما بين "جذوره الحضارية والطبقية وحمى احتراق الحضارة الغربية الأخلاقي والمعنوي"، ما بين مجتمعه والمجتمعات العصرية، وما بين الطائفية السياسية والمواطنة المتساوية، وما بين مناهج التعليم المتعددة وضرورات الوحدة الثقافية الوطنية، وما بين كلنا للوطن وكلنا للطائفة والعائلة والطبقة الحاكمة... وقد أشار عفيف بعمق يومها الى ذلك الاغتراب والاقتلاع الذي يعانيه المواطن اللبناني.. ولكن الشيء الجديد يومها، بالنسبة ليساري ماركسي، لم يكن فقط في فهمه لمعنى المواطنة والدولة المدنية، وانما فهمه للتناقض الحضاري بين شرق وغرب، وللمسألة الثقافية تحديداً، ومسألة الهوية بالتالي، وهو الموضوع الذي سيستأثر بتفكيره وأبحائه وعناوين كتبه اللاحقة.. أما المقاربة الثانية المبدعة والمبكرة لعفيف فتمثلت في فهمه الماركسي الجديد للمسألة الدينية في بلادنا. وبرغم أنه لم يكن قد قرأ غرامشي يومها (على ما يبدو) إلا أنه استطاع مبكراً أن يقدم قراءة جديدة نراها تتكرر وتتطور لاحقاً في فهمه للشرق وللاسلام، ثم في فهمه للمسألة اليهودية وللصهيونية وحاضنتهما الحضارية والثقافية، على ما نراه في إثنين من كتبه اللاحقة على الأقل (اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية) و (رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود)..ناهيك عن حضور هذه المقاربة في كتابيه (ثنائية شرق غرب) و(إشكالية النهضة). وقد استخدم عفيف في مقاربته للمسألة الدينية عدة نظرية وثقافية وفكرية كانت جديدة بالنسبة الى أبناء جيله وتياره السياسي والفكري تمثلت بكتابات ماكس فيبر واللاهوتي بولتمان (وهما غير ماركسيين بل ملعونان عند الماركسيين) إضافة الى كتاب كارل ماركس الرائع حول المسألة اليهودية (وهو كتاب يتم تجهيله ونفيه من تراث ماركس)، وكتابات الماركسيين اليهود أمثال أبراهام ليون ومكسيم رودنسون..ناهيك عن استشهاده بكتاب لكاوتسكي (الأمر الخطير يومها لأننا درجنا على تجاهل "المرتد كاوتسكي"، بحسب تصنيف لينين له). وقد عالج عفيف المسألة الدينية من زاوية المادية الجدلية الفلسفية (علاقة الفكر بالكائن، الإنسان بالطبيعة، وأيهما الأسبق)، كما من زاوية المادية التاريخية والسوسيولوجيا الماركسية الجديدة (لويس آلتوسير كمثال، وكان في بداية اكتشاف الماركسيين العرب له) .. فتكشّف عفيف فراج منذ ذلك التاريخ المبكر عن عالِم موسوعي مفكر مثقف مطلع وعن باحث سوسيولوجي واعد.. وفي كتابه الثاني (كمال جنبلاط المثالي الواقعي 1976) تميّز عفيف أيضاً عنا جميعاً وقد سبقنا الى التقاط خصوصية المسألة اللبنانية، والى فهم الأشخاص والأدوار خارج إطار التنصيف الطبقي الماركسوي التبسيطي .. عفيف الذي كان انتقد بشدة كمال جنبلاط ( في الكتاب الأول فصل بعنوان: الأستاذ جنبلاط مثالي يتجاوز الماركسية بفكر عتيق)، أجرى مراجعة نقدية شجاعة (أشبه بنقد ذاتي لفكرنا اليساري الراديكالي "الطفولي" آنذاك) شفافة وأخلاقية في آن، ولكن أيضاً وأساساً علمية وبحثية عميقة... وكنا جميعاً نترنح يومذاك تحت وطأة هول الواقع الذي اكتشفناه بصدمة 13 نيسان 1975 ، وكنا جميعاً من ضحاياه... في مقال له بعنوان "عمومية المثال الثقافي النضهوي، خصوصية الواقع اللبناني الطائفي" (منشور في كتابه إشكالية النهضة 2006) يستعيد عفيف فراج جملة كتبها الياس خوري في روايته (رحلة غاندي الصغير): "الرجال الحقيقيون باتوا أول من مات ، ليبقى الأنذال سرّاق الثورات، وهي ستقتل أول من تقتل، كل الذين يتفلسفون ويتحدثون عن حرب الشعب والجماهير، والحرب ستستمر من دونهم"... وقد استمرت الحرب من دوننا... وهي لم تكن طبعاً حرب تحرير شعبية... بل حرباً أهلية مدمّرة ... في لحظة الحرب الأهلية تلك، فارق عفيف فراج تراث "الجماهيرية" أو "الشعبوية اليسارية"، وانكفأ الى موقعه ووضعه كمثقف شاهد وشهيد.. ولعل في انتمائه الأصلي (الأهلي الدرزي، ولو العلماني الماركسي مدنياً) واضطراره للانقطاع الى الجبل في حياة عائلية واجتماعية وتعليمية وثقافية، بسبب الحرب وابان الحرب، ما يفسر تلك العزلة الثقافية، القدَرية، التي تظهر لنا بوضوح اذا عرفنا أنه لم ينشر أي كتاب بعد العام 1976 وحتى العام 2002 حيث كان كتاباه السابق ذكرهما: (اليهودية بين حضارة الشرق الثقافية وحضارية الغرب السياسية)، و (رؤية آينشاتن لليهودية ودولة اليهود)... وما ينبغي قوله هنا أنه بين 1976 (كتابه عن جنبلاط) و2002 (عودته للكتابة) كانت أطروحته/المرجع التي أنجزها إبان الإجتياح الاسرائيلي 1982 (وهي هذا الكتاب الذي بين أيدينا).. وبالتالي فان كتاب القمع السياسي هو المحطة الثالثة في تطور فكر وأدب عفيف السياسي ولو أنه التاسع إصداراً ونشراً.. واسمحوا لي هنا بالعودة والتوقف عند كمال جنبلاط.. عام 76 اذن عاد عفيف ليطل اطلالة جديدة، أكثر عمقاً وأكثر تسامحاً على شخصية وفكر كمال جنبلاط ، المثالي الواقعي.. يبدأ عفيف كتابه بجملة لجنبلاط تقول "واعلمي أن الانسان لم يخلق لمعنى من المعاني ألا للعلم والعمل به".. وبجملة أخرى : "الكشف عن الحقيقة وتحقيقها هو الهدف الذي يستحق وحده أن نعيش له ونسعى اليه في هذا الوجود".. ولم يكن عفيف ليكتب أو ينطق علماً الا ليعمل به ويطبقه على نفسه وفي حياته أولاً... وفي بحثه عن الحقيقة لا يخجل عفيف من تقديم نص جديد فيه تقويم عميق وسياسي وسوسيولوجي لفكر وممارسة كمال جنبلاط، ينطلق من موقف فلسفي وفكري جديد نجده مبثوثاً بقوة في هذا الكتاب، ومن نقد ذاتي جذري لمسلماتنا "وأساطيرنا" المؤسِّسَة حول المسألة الطائفية والطوائف والواقع اللبناني... في العام 75 كان اليسار الجديد قد توزع اتجاهات عدة ما بين ملتحق بالثورة الفلسطينية أو مشارك معها، وما بين ملتحق بالخط السوفياتي التحريفي الدولي، أو بالتيارات اليسارية الثورية العالمية (ماوية- تروتسكية- فوضوية- مجالسية)... أما نحن فكنا نخوض تجربة مميزة من داخل العلاقة المتوترة بين 3 مكونات رئيسة: موسى الصدر وكمال جنبلاط وحركة فتح... فقد قادتنا ماويتنا الى الارتباط مبكراً بموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين من جهة وتمتين العلاقة مع كمال جنبلاط وخليل الوزير من جهة ثانية... وهكذا بدأنا نقاشات مطولة حول الماركسية والدين، والاشتراكية والانسان، انطلاقاً من كتابات كمال جنبلاط وعلي شريعتي ومالك بن نبي وروجيه غارودي ومن محاوراتنا مع موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين.. وكان عفيف أبرز من اشتغلوا خلال تلك السنوات 1975-1977 على اكتشاف العلاقة ما بين الفلسفة والسياسة، بين المثال والواقع، بين الماركسية والصوفية، وذلك على قاعدة اكتشافه لأولوية ومحورية الانسان، حياته، وحريته، وكرامته، وحقوقه، قبل أي شيء وفوق كل شيء... وقد صاغ عفيف فهمه الفلسفي الجديد بقوله إن الفلسفة هي الإمكان، والسياسة هي وسيلة تحقيقة، والانسان هو الغاية، والحزب هو هيئة معنوية توحد غايتها مع غايات التحقق المعنوي للانسان ... وهنا اكتشف عفيف أهمية كمال جنبلاط والاشتراكية الانسانية، ناقداً بقوة لا انسانية الماركسية وقد تكشفت وانهار اندهاشنا بها منذ اندلاع الحرب الأهلية... أعاد عفيف اكتشاف كمال جنبلاط في السياسة والاقتصاد، في الفلسفة والدين، في التصوف والأخلاق، فأعاد اكتشاف ذاته وهدفه في هذه الحياة... ولعل أهم ما اكتشفه عفيف في ذاته وهو المثالي الأخلاقي الانساني، هو أن وسائل بلوغ الأهداف السياسية يجب أن تكون موصولة بالغايات الأخلاقية، وأن النضال في الدنيا يهدف الى تحقيق غايات الدين ومضمونه الأخلاقي بوسائل لا تجافي تلك الغايات.. فالطريق هو ذاته الهدف.. واذا كان الطريق ملتوياً فإن الهدف نفسه يفسد... وما قيمة أن تربح الدنيا وتخسر روحك، معناك، ذاتك... وفي هذه المقدمات الفلسفية الأخلاقية صاغ عفيف فهمه لجنبلاط السياسي (المثالي الذي يخاطب الواقع الطائفي).. فأمام ما يبدو للناس انه مساومات وصفقات وتنازلات وقفزات جعلت الكثير من المثقفين والمفكرين يقولون بأن جنبلاط براغماتي في ألأصل والمتن فيلسوف وصوفي على الهامش، وبأنه توقف عند المنحى السكوني المحافظ من معادلة هيفل: كل ما هو واقعي، معقول.. اكتشف عفيف الوجه الآخر وهو أن جنبلاط كان يقف على الضفة التقدمية من معادلة هيغل: كل ما هو معقول، يجب أن يصبح واقعاً... وبحسب عفيف فإن جنبلاط كان يجيد التقاط علامات واشارات ومعطيات الواقع، ويحسن التعامل معه، واصطياد الفرص فيه، أو اللحظة المناسبة، لا لغاية ذاتية مادية او كسب مادي شخصي، (ومعلوم كم كان جنبلاط زاهداً عفيف النفس ما أشاد له سماء لا يطالها متطاول ، ويشهد لها، العدو قبل الصديق) ولكن هذا الاستغلال او الانتهاز للفرص والذي كان واقعهن الطائفي يتيحها كان دائماً لدفع قضية التقدم على شتى الأصعدة والمستويات... كان جنبلاط على حد وصف عفيف ينساب بليونة بين تعاريج مجرى الواقع الخدماتي المفسد، والواقع الطائفي المعطل، ليُحول الزيادة الكمية في عدد الانجازات البسيطة الى وعي اجتماعي نوعي جديد.. ومن ثىائية المثال والواقع، عالج عفيف عدة تنائيات تشطر وعينا الوطني وفكرنا السياسي : ثنائية العنف الثوري التغييري والسلم الأهلي المحافظ، ثنائية الطائفية السياسية واللاوعي الطائفي (ويسميها جوزيف مغيزل الحاسة السادسة عند اللبنانيين)، ثنائية التنافي والتدمير المتبادل في صيغة الكيان اللبناني (ويسميها عفيف الصليبية الهلالية)، ثنائية العلمانية والاسلام (وهنا ابتدأ أو عاد اهتمام عفيف بدراسة الاسلام الحضاري والثقافي والسياسي) ثنائية الوطنية اللبنانية والعروبة.. ومن خلال غوصه في عمق فكر وممارسة كمال جنبلاط أطل عفيف على القضايا التي ستشكل مفاتيح وعيه ونقده اللاحق للفكر السائد.. فقد عالج مسألة القومية بحسب الفهم الجنبلاطي الانساني وقارن بين القوميات المختلفة (بما فيها المارونية والسورية والعربية) وبين الصهيونية، متوقفاً عند خلو مساهمة جنبلاط في تعريف القومية من أي كلام عن التكوّن الطبقي والمصلحة الاقتصادية الخاصة بالفئات الحاكمة.. وقارن بينه وبين كلام فرانز فانون عن تخلف بورجوازية العالم الثالث دوراً وفكراً وامكانات، أي تشديد جنبلاط على الجانب المعنوي على حساب الجانب الاقتصادي... وهو في تلك المرحلة المبكرة كان يناقش المفكر الفلسطيني منير شفيق المسيحي الماركسي الماوي (المتحول لاحقاً الى الاسلام) الذي كان يومها يحاول بلورة أطروحة ماركسية قومية عربية جديدة لقيت رواجاً في أوساطنا التقى مع تيار درزي سوري تمثل بالحزب الشيوعي العربي ومؤسسه المرحوم هلال رسلان.. وقد تحدث عفيف في كتابه عن جنبلاط، عن القمع السياسي الناصري كسبب إضافي داخلي لفشل الوحدة العربية وفشل المواجهة مع الصهيونية.. فبذور فهمه لمركزية مسألة القمع في تطور النظام السياسي العربي بدأت مع فهمه المتجدد لكمال جنبلاط. في تلك المرحلة 1975-1977 كنا نخوض جدالات ونقاشات وحوارات واسعة وعميقة حول حركة التحرر الوطني العربية، وحول النموذج الفيتنامي والكمبودي في حرب الشعب القومية بقيادة ماركسية، وحول الوحدة العربية والتجزئة الاستعمارية والتخلف ومركزية القضية الفلسطينية في حركة التحرر الوطني العربية ، وحول الماركسيات السوفياتية والصينية في بناء الاشتراكية... وحول تجارب كوبا وفيتنام وكمبوديا وحركات المقاومة في فلسطين وافريقيا الخ..وانضاف الى نقاشاتنا التاريخية تلك حضور الاسلام الثقافي والاسياسي من خلال علي شريعتي وموسى الصدر وفرانز فانون وأحمد بن بللا... وكانت المناقشات تدور حول اشكاليتين: الاولى هي الهوية الحضارية الخاصة وهل تشكل قاعدة لصياغة وبلورة نظريات ثورية وفكر سياسي خاص مستقل عن الماركسيات التقليدية التي كنا نتبناها؟. وفي هذا الاطار كانت الماوية قد شكلت لفترة ما منقذاً لنا سرعان ما انهار في أعوام 76-77 بعد وفاة ماو ونشوب الصراع على السلطة في الصين ، ثم اندلاع الحروب بين فيتنام وكمبوديا، وبين الصين وفيتنام ... فكان بحثنا عن أدوات وأطر نظرية جديدة على قاعدة التجربة الفلسطينية من جهة، وتجربة الحركة الوطنية الللبنانية بقيادة كمال جنبلاط من جهة ثانية، هو ما ميّز فكرنا وممارستنا، حتى كان استشهاد كمال جنبلاط في آذار 77، ثم انهيار التضامن العربي وبدء الانقسام بعد زيارة السادات للقدس وكمب دايفيد، ثم انطلاق الثورة الاسلامية في ايران... وبين هذه وتلك كانت عملية الاجتياح الكبير لجنوب لبنان في آذار 1978.. والاشكالية الثانية تعلقت بمسألة النهضة ، والوعي الحضاري، وبناء الذات الحضارية، والاستقلال السياسي والاقتصادي، ومواجهة الآخر.. وكنا قد بدأنا نقرأ فرانر فانون وعلي شريعتي وأنور عبد الملك، ونعيد النظر في الاطروحات الماركسية اللينينية، التروتسكية والماوية على حد سواء، باتجاه البحث عن ماركسية عربية جديدة.. وهنا أيضاً كان كمال جنبلاط مفيداً لنا الى جانب أنور عبد الملك في اكتشاف رؤية حضارية بديلة لا تكون مقلدة للغرب ولا تكون خاضعة للشيوعية المادية، وانما تنبني على تراثات حضارات الشرق الغنية، كالصين والهند والاسلام،.. وقد أعاد عفيف فراج موضعة فكر جنبلاط الانساني هذا في إطار الموقف من الماركسية من جهة، ومن العرفان الصوفي من جهة ثانية، وصولاً الى صياغة تجمع بين الحكمة القديمة والعلم الحديت، وتجعل الحدس الصوفي يستكمل نظرية المعرفة الماركسية... في تلك السنوات المفصلية كانت الصين وروسيا وفيتنام وكمبوديا وكوبا ( وكل الدول الاشتراكية) قد تحولت بالنسبة الينا الى دول قمعية سلطوية استبدادية يموت فيها الانسان ويذبل فيها الضمير الحر والوجدان... لا بل أننا كنا نتبنى التسمية الماوية للاتحاد السوفياتي على أنه "امبريالية اشتراكية" وليس فقط مجرد "تحريفية"... وحين انطلقت ثورة ايران الاسلامية (آخر عام 77- مطلع عام 78) كنا نعيش جدالات وحوارات ونقاشات أفضت بالكثيرين منا الى الالتحاق بالاسلام الصاعد يومذاك كتعبير عن حالة حضارية نهضوية مقاومة وممانعة.. ويمكن القول هنا ان كتابات أنور عبد الملك ومنير شفيق ومحمد عمارة وعباس أحمد صالح وعادل حسين وطارق البشري وعادل عبد المهدي وفاضل رسول (وهم من الماركسيين الماويين الذين انتقلوا الى أرض الاسلام)، ثم كتاب ادوارد سعيد (الاستشراق) قد لعبت الدور الأهم في تحديد سياقات وأطر التحولات التي عصفت بجيلنا وجيل عفيف اليساري المناضل.. وفي كتاب (القمع السياسي) يبدو واضحاً كم كان لهذه الكتابات من وزن ومن دور في صياغة توجهات ومحاججات عفيف.. تلازم صعود الثورة الاسلامية الايرانية وعودة الاسلام السياسي الى ساحة الفعل العربي، مع تصاعد حدة الصراع العربي الاسرائيلي، وتصاعد حدة الأحادية الثقافية الامبريالية الغربية في شيطنتها للآخر، المسلم أو الشرقي، مع تصاعد الأزمة العميقة التي ضربت الماركسية وأقعدتها عن أن تكون أداة نظرية لفهم الواقع وممارسة التغيير ، وذلك قبل سقوطها الأخير مع سقوط الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة الاشتراكية... في تلك الفترة كنت من بين الذين أعادوا اكتشاف الأمير شكيب أرسلان، ومن خلاله كل فكر النهضة الاسلامية وخصوصاً محمد عبده وجمال الدين الافغاني ورفاعة رافع الطهطاوي والكواكبي.. وشهدت تلك الفترة كتابات لوجيه كوثراني (الاتجاهات السياسية الاجتماعية في جبل لبنان) وسهيل القش (في البدء كانت الممانعة) ومنير شفيق (الاسلام في معركة الحضارة) وادوارد سعيد ( الاستشراق، وتغطية الاسلام) وحسن الضيقة ( في نقد الماركسية، ونقد سمير أمين) ونظير جاهل (في انتروبولوجيا الاسلام) ورضوان السيد (في الجماعة والسلطة والأمة) والياس خوري وحازم صاغية ووليد نويهض (في نقد التجارب اليسارية، وفي مسألة المثقف والسلطة، ومسألة الدولة والحزب الخ..) .. وقد صدرت مجلة الوحدة (1980-1981) تحمل هذه الكتابات وغيرها، ومنها مقالة لعفيف في العدد الأول من المجلة (15 كانون الثاني 1980) بعنوان (جنبلاط: حين نتكلم عنه يضيء قنديل المعرفة ). فتحت مجلة الوحدة نقاشات وجدالات كان لها أثر كبير في فكر ووعي عفيف فراج كما يظهر من استشهاده بها في كتابيه: القمع السياسي، واشكالية النهضة.. ناهيك عن استشهاده بأنور عبد الملك ومحمد عابد الجابري ومحمد عمارة وهشام جعيط وكمال عبد اللطيف وغالي شكري وعبد الله العروي وادوارد سعيد ومنير شفيق.. لكن المهم في مقاربة عفيف لهذه الإشكاليات هو إطلالاته النقدية التي تربط ماضي هذا الفكر الاسلامي التجديدي بحاضره.. فيقارن ما بين عبده والطهطاوي والعقاد وطه حسين والرافعي والزيات من جهة وما بين ادوارد سعيد ومنير شفيق وأنور عبد الملك وبقية مؤسسي ما سماه عفيف (الاستشراق معكوساً) من جهة أخرى.. ولا ينسى أن يتوقف وقفة خاصة عند أدونيس الذي كتب في مدح الخميني مقالته الشهيرة: "شمس الحقيقة وسيف الغضب" (وهي عبارة يستخدمها الشيعة لوصف الامام المهدي)، وقد استشهد عفيف بما كتب أدونيس في مجلته مواقف ( العدد 34-1979) من أنه " وفي المجتمع العربي القائم كلياً على الدين والذي لم تتطور فيه وسائل وأشكال الانتاج لتشكل وعياً طبقياً، يبقى الدين المرتكز الأساس".... تلك هي الأطر والسياقات التي واكبت اشتغال عفيف على أطروحته للدكتوراه (القمع السياسي) والتي انطلقت من ظاهرة (النظرة الغربية الاستعمارية الانتقاصية للشرق) ، وهي ظاهرة جرى لفت الانتباه اليها مع كتابات المفكرين المشار اليهم سابقاً والذين قدموا قراءة اعتبرها عفيف فراج اسشتراقاً معكوساً حين اعترف أمثال ادوارد سعيد وأنور عبد الملك ومنير شفيف (وحتى أدونيس الذي كتب أن انقسام العالم الى قطبين شرق/غرب هو حقيقة قائمة وأن الغرب تميّز بالتكنولوجيا وليس بالابداع، وأن الشرق ابداعي خيالي، الخ.).. وبحسب عفيف فإن هؤلاء المفكرين الذين اندفعوا يومها في تبني الخيار الحضاري الاسلامي اعترفوا فعلياً بالثنائية العرقية القومية وأقروا بها "فتساوى القامع والمقموع مع تعديل وهو أن المقموع قد عكس هوية من هو الأرفع ومن هو الأدنى فيدعي المسلم تفوقه الروحي على الغرب الطامع بالسلطة والربح المادي ويصبح الاسلام شعاراً للتحرير"... وهنا تبرز استثائية عفيف وسبقه لنا في مضمار استخلاص الدروس والتنائج من ذلك التحول الفكري والنظري الذي دخلنا فيه بعد عام 1980... فهو قد ماهى بيننا وبين فرانز فانون من حيث الكلام عن (ردة فعل) وعن انقسام العالم الى جنسين مختلفين (أبيض مستوطن وأسمر ملون) يقطنان في مدينتين مختلفتين .. الخ؟.. هذا التقسيم الى عالمين، شرق وغرب ، نحن وهم، هو أساس التقسيم اللاحق الذي أجراه بن لادن الى فسطاطين ، وأسماه جورج دبليوبوش محور الشر ومحور الخير، وهو ينطلق من نظرية توينبي في أن التاريخ هو (تحدي وردّ على التحدي)... ولكن عفيف يتميز أيضاً في قراءته لتلك المرحلة ومفكريها عن الموقف الأصولي العلماني الذي عبرّ عنه أفضل تعبير كتاب مهدي عامل (نقد الفكر اليومي) والذي تناول نفس المفكرين والأفكار وانما بنظرة احتقارية تدميرية نزقة، على عكس عفيف فراج الذي تناولهم بنظرة مُحِبّة ونقدية في آن مع الاعتراف لهم بفضل في أمور كثيرة خصوصاً تقديره لدور هذه الكتابات وهؤلاء المفكرين في إغناء عملية الانبعاث الاسلامي الجديد بمعطيات تنويرية هائلة.. وعلى الرغم من كون هذه الحركة الاستشراقية المعكوسة متطرفة في عدائها للغرب "بحيث تقفز فوق حقيقة أن الغرب في موقفه من الاسلام ليس واحداً متجانساً وان الثقافة الغربية ليست كلها متهمة بالمشاركة في العداء للاسلام والشرق"، إلا أن هذه الحركة "تبقى في المحصلة النهائية ردة فعل مناهضة للغزو البورحوازي الغريب لبلاد وعقول المسلمين"... ويحاول عفيف فراج أن يأخذ موقفاً وسطياً ما بين هؤلاء ومنتقديهم من غلاة العلمانيين الذين يتهمهم عفيف بتغربهم عن الثقافة الوطنية وعجزهم عن الانخراط مع الجماهير العريضة واغترابهم الاجتماعي الثقافي وعجز الماركسيين من بينهم عن انجاز أيديولوجية ثورية تتلاءم مع العصر دون القطع مع الماضي، أي دون التضحية بالاستمراية الثقافية التاريخية... وبرغم الاعتراف بصحة وعمق النقاشات التقدمية التي طرحها ماركسيون وعلمانيون تقدميون (صادق جلال العظم مثالاً) إلا أن عفيف لا ينسى أن يختم باستعارة مقولة غالي شكري: "يجب أن نهدم ثم نعيد بناء تراثنا الثقافي من منظور ثوري مقتبسين من تراثنا ومن الغرب ما يتناسب وحاجتنا الموضوعية"... وهذا الاستنتاج الخلاصة هو الذي جمع بيني وبين عفيف في المرحلة الأخيرة من حياته حين كنت أعمل مع سماحة الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين على مقولة استنباط وصياغة حداتثنا الخاصة بنا وعلمانيتنا النابعة من سياقاتنا التاريخية والحضارية الخاصة، وهو ما أسماه عفيف في مقولة أتبناها بالكامل وأدعو الى تعميمها والعمل بموجبها حين يقول: "إننا نحتاج الى فلسفة جديدة للنهضة.. وهذه قضية ملحة دائماً".. نعم فلسفة جديدة لنهضتنا المعوقة والناقصة..تستعيد تراثنا الحضاري ولا تموت غرقاً فيه، وتأخذ من الحضارة الغربية ولا تكون تابعة ذيلية لها..إنها اليوم (وكما كانت بالأمس) أكثر من قضية ملحة.. إنها هي القضية! وبعد فإن عفيف فراج أعطى في أطروحته عن القمع السياسي بين الشرق والغرب، قراءة علمية ناقدة حول المصادر المعرفية لتلك النظرة الغربية الاستعمارية للشرق والتي لخصها في مقولتي: الهمجية الشرقية والاستبداد الشرقي، دون أن يقع في فخ المصادرة والتعميم ... وقد حاول الدفاع عن بعض المواقف الماركسية واللينينية تجاه الشرق وتمييزها عن المنحى الانتقاصي والاحتقاري للغرب البورجوازي، وكان ذلك منه آخر سهام محاولة الجمع بين الاسلام والماركسية، وهي المحاولة التي عشنا تجربتها معاً خلال تلك المرحلة (1977-1980) قبل أن تطغى علينا فكرة المفاصلة الكاملة مع الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي، والتي كانت على ما يبدو من منبع ماوي صيني وليس من منبع إسلامي تقليدي.. ذلك أن الاسلاميين من جيل عبده والافغاني والطهطاوي وأرسلان، ثم من جيل العقاد والرافعي وطه حسين، كانوا قد حاولوا الجمع والتأليف ما بين شرق وغرب على قاعدة الخصوصية الحضارية السمحة المنفتحة التي تأخذ الحكمة والعلم أنى وجدتهما... غير أن الإشكالية في عصرنا الراهن وفي حاضرنا المعيش هي أعمق وأبعد من ذلك... وعفيف حاول مقاربتها من خلال استعادة أسئلة عبد الله العروي دون أصولية العلمانيين اليساريين، وخارج أصولية الاسلاميين الجدد المبهورين بالصعود النضالي للحركة الاسلامية الجديدة بعد 1980.. فقدّم عفيف قراءة مميّزة في الفكر الغربي القديم والحديث من منظار (فكرة وممارسة القمع السياسي) وأعاد سبب تخلفّنا وتراجعنا أو عدم تقدمنا الى قوة الاستبداد والقمع السياسي في حضارتنا وثقافتنا وسياستنا.. فاستعاد بذلك موقف الافغاني التاريخي الذي وجد أن الاستبداد هو علة هذا الشرق، دون أن يغرق في التأبيد الذي اصطنعه الغرب والذي جعل من الاستبداد الشرقي جوهراً أزلياً ثابتاً يسم الشرق ، ودون أن يغرق في الاستشراق المعكوس الذي يجعل الاحتقار والانتقاص الغربي جوهراً أزلياً ثابتاً.. إن محاولة عفيف فراج بناء أسس فلسفة جديدة للنهضة العربية كانت المدماك الأول في ما صار لاحقاً يعرف باسم حوار الحضارات والتعددية الثقافية.. فعلاً كان عفيف هنا أيضاً سباقاً ومبكراً في استشراف ما ستصل اليه تجربتنا الفكرية والسياسية، وما سيتكشف عنه الاسلام السياسي: الثوري في كفاحه ضد الاستعمار، والقمعي حين وصوله الى السلطة.. وهذا من أبلغ دورس تجربتنا الثورية الماضية، ومن أوضح وصايا الربيع العربي الراهن..

العهد الجديد، أو : ربيع الشرق

بقلم جبران خليل جبران

في الشرق اليوم فكرتان متصارعتان : فكرة قديمة وفكرة جديدة . أما الفكرة القديمة فستغلب على أمرها لأنها منهوكة القوى محلولة العزم . وفي الشرق يقظة تراود النوم ، واليقظة قاهرة لأن الشمس قائدها والفجر جيشها . وفي حقول الشرق، ولقد كان الشرق بالأمس جبّانة واسعة الأرجاء، يقف اليوم فتى الربيع منادياً سكان الأجداث ليهبوا ويسيروا مع الأيام . وإذا ما أنشد الربيع أغنيته بُعث مصروع الشتاء وخلع أكفانه ومشى. وفي فضاء الشرق اهتزازات حيّة تنمو وتتمدّد وتتوسّع وتتناول النفوس المتنبهة الحسّاسة فتضمّها إليها ، وتحيط بالقلوب الأبيّة الشاعرة لتكتسبها. وللشرق اليوم سيّدان : يأمر وينهى ويطاع ولكنّه شيخ يحتضر، وسّيد ساكت بسكوت النواميس والأنظمة ،هاديء بهدوء الحق ، ولكنه جبار مفتول الساعدين يعرف عزمه ويثق بكيانه ويؤمن بصلاحيته. في الشرق اليوم رجلان : رجل الأمس ورجل الغد، فأي منهما أنت أيها الشرق؟ ألا فاقترب مني لأتفرّسك وأتبصرك وأتحقق من ملامحك ومظاهرك ما إذا كنت من الآتين إلى النور أو الذاهبين إلى الظلام. تعال واخبرني ما أنت ومن أنت ؟! أسياسي يقول في سرّه ” أريد أن أنتفع من أمتي”؟ أم غيور متحمس يهمس في نفسه : ” أتوق إلى نفع أمتي “؟ إن كنت الأول فأنت نبتة طفيلية وإن كنت الثاني فأنت واحة في صحراء. أتاجر يتخذ عوز الناس وسيلة للربح والانتفاخ فيحتكر الضروريات ليبيع بدينار ما ابتاعه بدرهم ؟ أم رجل جدّ واجتهاد يسهل التبادل بين الحائك والزارع ويجعل نفسه حلقة بين الراغب والمرغوب ، فيفيد المرغوب والراغب ويستفيد بعدل منهما؟ إن كنت الأول فأنت مجرم سكنت القصور أو السجون وإن كنت الثاني فأنت محسن شكرك الناس أو جحدوك. أرئيس دين يحوك من سذاجة القوم برفيرا لجسده، ويصوغ من بساطة قلوبهم تاجاً لرأسه، ويدّعي كره إبليس ويعيش بخيراته ؟ أم تقي ورع يرى في فضيلة الفرد أساساً لرقي الأمة, وفي استقصاء أسرار روحه سلماً إلى الروح الكلي ؟ إن كنت الأول فأنت كافر ملحد صمت النهار أو صليت الليل وإن كنت الثاني فأنت زنبقة في جنة الحق ضاع أريجها بين أنوف البشر أو تصاعد حراً طليقاً إلى الغلاف الأثيري حيث تحفظ أنفاس الأزهار. أصحفي يبيع فكرته ومبدأه في سوق النخاسين وينمو ويترعرع على ما يفرزه الاجتماع من أخبار المصائب والويلات، ونظير الشوحة الجائعة لا تهبط إلا على الجيف المنتنة ؟ أم معلم واقف على منبر من منابر المدنية يستمدّ من ماتي الأيام مواعظ يلقها على الناس بعد أن يتعظ بها هو نفسه ؟ إن كنت الأول فأنت بثور وقروح وإن كنت الثاني فدواء وبلسم. أحاكم يتصاغر أمام من ولاّه ويستصغر من تولّى عليهم ، فلا يحرك يداً إلا ليضعها في جيوبهم، ولا يخطو خطوة إلا لمطمع له فيهم ؟ أم خادم أمين يدير شؤون الشعب ويسهر على مصالحه ويسعى إلى تحقيق أمانيه ؟ إن كنت الاوّل فأنت زوان في بيادر الأمة. وإن كنت الثاني فأنت بركة في أهرائها. أكاتب بحّاثة يشمخ برأسه إلى ما فوق رؤوسنا أمّا ما في داخل رأسه فيدب في هوة الماضي الغابر حيث ألقت الأجيال ما رثّ من أثوابها، ورمت ما لم يعد صالحاً لها ،أم فكرة صافية تتفحص محيطها لتعليم ما ينفعه وما يضرّه فتصرف العمر في بناء النافع وهدم المضر؟ إن كنت الأوّل فأنت سخافة مطرّسة وبلادة مزركشة وإن كنت الثاني فأنت خبز للجائعين وماء للظامئين. أشاعر أنت يضرب الطنبور أمام أبواب الأمراء وينثر الأزهار في الأعراس ويسير وراء الجثث الهامدة وبين فكيّه إسفنجية مثقلة بالماء الفاتر حتى إذا ما بلغ المقبرة ضغط عليها بلسانه وشفتيه، وفي يده قيثارة يستولدها أنغاماً علوية تجذب قلوبنا وتوقفنا متهيبين أمام الحياة وما في الحياة من الجمال والهول؟ إن كنت الاوّل فأنت من المشعوذين الذين لا ينبهون في نفوسنا سوى عكس ما يقصدون ، فإن تباكوا نضحك ، وإن مرحوا نكتئب وإن كنت الثاني فأنت بصيرة مشعشعة وراء بصرنا، وشوق عذب في قلوبنا ، ورؤيا ربأنية في غيبوبيتنا… أقول في الشرق موكبان : موكب من عجائز محدودبي الظهر يسيرون متوكأين على العصي العوجاء ، ويلهثون منهوكين مع انهم ينحدرون من الأعالي الى المنخفضات ، وموكب من فتيان يتراكضون كان في ارجلهم اجنحة ، ويهللون كان في حناجرهم أوتاراً ن وينتهبون العقبات كأن في جبهات الجبال قوة تجذبهم وسحرا ً يختلب ألبابهم . فمن أية فئة انت ايها الشرقي ّ وفي أي موكب تسير ؟ ألا فاسأل نفسك ، استجوبها في سكينة الليل وقد صحت من مخدرات محيطها عما اذا كنت من عبيد الأمس أم منأحرار الغد . أقول لك ان ابناء الأمس يمشون في جنازة العهد الذي اوجدهم واوجدوه . اقول انهم يشدون بحبل اوهت الأيام خيوطه ، فاذا ما انقطع – وعما قريب ينقطع - هبط من تعلق به الى حفرة النسيان . اقول انهم يسكنون منازل متداعية الاركان ن فاذا ما هبت العاصفة – وهي على وشك الهبوب – انهدمت تلك المنازل على رؤسهم وكانت لهم قبورا ً . اقول ان افكارهم واقوالهم ومنازعهم وتصانيفهم ودواوينهم وكل مآتيهم ليست سوى قيود تجرهم بثقلها ولا يستطيعون جرها لضعفهم . اما ابناء الغد فهم الذين نادتهم الحياة فاتبعوها بأقدام ثابتة ورؤوس مرفوعة . هم فجر عهد ٍ جديد ، فلا الدخان يحجب انوارهم ، ولا قلقلة السلاسل تغمر أصواتهم ، ولا نتن المستنقعات يتغلب على طيبهم . هم طائفة قليلة العدد بين طوائفٍ كثُر َ عددها ، ولكن في الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة ، وفي حبة القمح ما ليس في رابية من التبن . هم فئة مجهولة ن لكنهم يعرفون بعضهم بعضا ً ، ومثل قمم عالية يرى واحدهم الآخر ويسمع نداءه ويناجيه ، اما المغاور فعمياء لا ترى ، وطرشاء لا تسمع . هم النواة التي طرحها الله في حلقة ما فشقت قشرتها بعزم لبابها ، وتمايلت نصِــبــَـــة ً غضةً اما وجه الشمس ، وسوف تنمو شجرة عظمى تمتد عروقها الى قلب الأرض وتتصاعد فروعها الى اعماق الفضاء .

جبران خليل جبران حول نهضة الشرق


«إن الشرق بكليته ذلك الشرق الممتد من المحيط إلى المحيط، قد أصبح مستعمرة كبرى للغرب والغربيين. أما الشرقيون، الشرقيون الذين يفاخرون بماضيهم ويتباهون بآثارهم ويتبجحون بأعمال جدودهم، فقد صاروا عبيدا بأفكارهم وميولهم ومنازعهم للفكرة الغربية والميول والمنازع الغربية». «في عقيدتي أنه ليس بالإمكان تضامن الأقطار العربية في زمننا هذا، لأن الفكرة الغربية القائلة بميزة القوة على الحق، والتي تضع المطامع الاستعمارية والاقتصادية فوق كل شيء، لا ولن تسمح بذلك التضامن طالما كان له الجيوش المدربة والبوراج الضخمة لهدم كل ما يقف في سبيل منازعها استعمارية كانت أم اقتصادية. وكلنا يعلم أن كلمة ذلك الروماني «فرق تسد» لم تزل قاعدة مرعية في أوربا. ومن نكد الدنيا، ومن نكد الشرق والغرب معا، أن يكون المدفع أقوى من الفكر، والحيلة السياسية أفعل من الحقيقة». «لو قال لي هذا الوطني السياسي، الذي يلعب دورين بليدين في وقت واحد، لو قال لي ولو بشيء من النزاهة: «الغرب سابق ونحن لاحقون وعلينا أن نسير وراء السابق ونتدرج مع الدارج» إذن لقلت له «حسنًا تفعلون. الحقوا السابق ولكن الحقوه صامتين، وسيروا وراء السائر ولكن لاتدّعوا بأنكم غير سائرين، وتدرجوا مع الدارج ولكن كونوا مخلصين للدارج، ولا تخفوا حاجتكم إليه وراء غربال من الخزعبلات السياسية. وما عسى ينفعكم التضامن في الأمور العرضية وأنتم غير متضامنين في الأمور الجوهرية، وماذا تجدي الألفة في المزاعم وأنتم متباينون في الأعمال؟ ألا تعلمون أن الغربيين يضحكون منكم عندما تحلمون الليل وطوله بالألفة المعنوية والرابطة اللغوية حتى إذا ما جاء الصباح سيرتم أبناءكم وبناتكم إلى معاهدهم ليدرسوا على أساتذتهم ما في كتبهم؟ ألا تعلمون أن الغربيين يسخرون بكم عندما تظهرون رغبتكم في التضامن السياسي والاقتصادي مع أنكم تطلبون منهم الإبرة التي تخيطون بها أثواب أطفالكم والمسمار الذي تدقونه في نعوش أمواتكم؟». «في مذهبي أن السر في هذه المسألة ليس بما ينبغي أن يقتبسه الشرق أو لا يقتبسه من عناصر المدنية الغربية، بل السر كل السر هو ما يستطيع الشرق أن يفعله بتلك العناصر بعد ان يتناولها. قلت منذ ثلاثة أعوام إن الغربيين كانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه ويبتلعونه محولين الصالح منه إلى كيانهم الغربي، أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لا يتحول إلى كيانهم الشرقي بل يحولهم إلى شبه غربيين، وهي حالة أخشاها وأتبرم منها لأنها تبين لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطورا كطفل من دون أضراس».

أسامة العارف في صحبة "الحرامي" الأخير

روجيه العوطة، النهار

قبل شهرين، كرمت الفنانة نضال الأشقر، في إطار ملتقى الشباب، عدداً من المسرحيين الكبار، يعقوب الشدراوي وبول شاوول وأسامة العارف. وقف الأخير مبتسماً وموجهاً تحية إلى رفاق دربه المسرحي وأصدقائه الكثر، متذكراً تشجيعهم له على خوض تجربته الكتابية وتطويرها على خشبة المسرح. كانت هذه التحية بمثابة الكلمة الأخيرة لأسامة العارف، الذي غيّبه الموت في بيروت، المدينة التي كتب وناضل فيها، ثم تركها تفتقده في مسارحها الصامتة. ينتمي أسامة العارف إلى جيل الرواد الذي أعطى المسرح اللبناني وجهة خلاّقة جديدة في ستينات القرن الماضي، بعد محاولات التعريب والترجمة التي قام بها مارون النقاش وأديب إسحق ونجيب الحداد وغيرهم. بدأت مسيرته الفنية في "فرقة محترف بيروت للمسرح"، التي تأسست عام 1968 على أيدي روجيه عساف ونضال الأشقر، مقدماً عمله المسرحي "إضراب الحرامية". اعتمدت المسرحية على الإرتجال والخلق المباشرين، بحيث يتشكل نصها لحظة تقديمها على الخشبة، قبل أن يقوم العارف بكتابتها من جديد كي يصل إلى صيغتها النهائية. وقد اعتمد هذا الأسلوب التفاعلي في أغلب نصوصه المسرحية، إذ حاول أن يختصر المسافة بين النص والممثلين من جهة، وأن يردم الهوة بين الخشبة والجمهور المُشاهد. خلق هذا التفاعل نوعاً مسرحياً جديداً، لا يخاطب النخبة أو المثقفين فحسب، بل يتوجه إلى جميع الناس ويحرضهم على الإهتمام بالمسرح، معالجاً أسئلتهم وطارحاً قضاياهم الواقعية. لم تغب الهموم الإجتماعية عن أعمال أسامة العارف ("إضراب الحرامية"، "بانسيون الست نعيمة"، "يا اسكندرية بحرك عجايب"، "شي بيسوا فرانكو")، بل كانت الأكثر حضوراً فيها. عالج الكاتب الراحل مواضيع الفساد والإستغلال والفقر والحرمان والجوع والثورة في نصوصه المسرحية كما لو أنه يصرخ ضد الواقع اللبناني، وينتقد "لصوصه" الكثيرين. هذا ليس غريباً على مناضل مثله، فهو بالإضافة إلى عمله ككاتب مسرحي، كان محامياً، مارس دفاعه القانوني عن الناس طويلاً، فضلاً عن نضاله الحزبي في صفوف الحركة الطالبية، ومشاركته في التحركات الشعبية احتجاجاً على الأوضاع الإقتصادية والمعيشية التي وصل إليها البلد، ومطالباً بالمساواة والعدالة الإجتماعية. كان المجتمع بالنسبة إليه مختبراً مسرحياً، لا بد من التزام بأسئلته وقضاياه المختلفة، والبحث في أوضاع ناسه وتحريضهم على التمرد والتغيير. لم يهادن العارف السلطة وألاعيبها، بل ظل متمسكاً بمبادئه وأفكاره، متحدياً إياها، وواقفاً في وجهها، كمسرحي ومحامٍ ومناضل شيوعي. فلم يفصل بين شخصياته واهتماماته، بل كان يمارس المسرح كأنه يدافع عن الناس، ثم انتقل إلى المحاماة ملتزماً حماية حقوقهم قانونياً. ربط أسامة العارف بين كل قضاياه ومبادئه وأسئلته بالإلتزام الإجتماعي والتفاعل مع المجتمع، فكتب المسرح لسكان الهامش، ودافع بالقانون عنهم، وناضل من أجلهم. ولأن المسرح كان اهتمامه الأول، ظل العارف مسرحياً في كل أعماله الأخرى، فهو المسرحي المحامي، والمسرحي المناضل، كما حافظ على موضوعه الفني في حياته القانونية، أي موضوع الواقع الإجتماعي اللبناني، والبيروتي على وجه الخصوص. شكل المسرح بالنسبة إليه حياةً ثانية، لا معقولة، غير تلك التي يعيشها واقعياً. حاول من خلالها الكشف عن كل الأوجاع والآلام المستترة التي تصيب المجتمع وتعوق تطوره إلى الأفضل. ففي مسرحيته الأولى، "إضراب الحرامية"، التي قدمها عام 1970، خاطر في الكشف عن "اللص المستتر"، الذي يسرق الناس ويستغلهم ويتسبب لهم بالمآسي بطرق مواربة وغير معلومة. اتهم الدولة باللصوصية، وبحماية "الحرامية" غير المرئيين، مثل الطبيب والصيدلي والتاجر والصناعي، هؤلاء الذين يتفقون على استغلال المواطن بالرشوة والفساد ضمن دورة إقتصادية واحدة. لا يكتفي العارف بهذا الإتهام، بل يبحث في البنية التحتية لظاهرة اللصوصية. فعندما يعلن "الحرامية" إضرابهم على إثر طردهم من الحياة الإقتصادية، تتوقف عجلة الإقتصاد وتُقفل كل المتاجر والمدارس والبنوك والمصانع، فيطالبهم المجتمع بالعودة عن إضرابهم، فيرجعون إلى مواقعهم القديمة ويعلنون انتصارهم، "إذا ما تغيرتوا... وتغيرنا... إذا ما غيرنا علاقتنا، لا بد أن يعود الحرامية". قرأ العارف الواقع بحسب ماركسيته، ونظر إلى المجتمع انطلاقاً من إيديولوجيته النضالية، لذا جاءت أعماله المسرحية، كبيانات احتجاجية ضد الإنقسام الطبقي في لبنان. لكن هذه الأعمال لم تصمد طويلاً، أو بالأحرى لم تترك آثارها على سير المجتمع اللبناني، فبعد سنوات قليلة، اندلعت الحرب اللبنانية، وفُرض على المسرح أن يتحدى حكم الميليشيات قبل أن يصمت ويخضع للتصنيف الإيديولوجي والتقسيم المناطقي. سيطر "اللصوص" على المسرح، وانتقل العارف إلى ممارسة المحاماة، ثم استأنف حياته الفنية عام 2000 بـ"بانسيون الست نعيمة"، وكانت هذه المسرحية عمله الأخير، وتُضاف إلى "شي بيسوا فرانكو" و"يا اسكندرية بحرك عجايب" إلخ. مات أسامة العارف، المسرحي والمحامي والمناضل، تاركاً أعماله ونصوصه تتحدث عنه وتذكّرنا بحضوره على منصة المسرح. بغيابه، يخسر المسرح اللبناني، القديم والمعاصر، كاتباً خلاّقاً، يجمع بين الواقع واللامعقول، والهم الشعبي والنظرة الخلاقة. وبرحيله عنها، تفقد بيروت فناناً قديراً، التزم قضاياه وحريتها وديموقراطيتها، ودافع عن ناسها وحقوقها، واحترف المطالبة بثقافتها ومدينيتها. انتصر الموت، "اللص" الأخير، على المسرح والمدينة، وها هو يصطحب صديقه الكاتب إلى المنصة الأخيرة، حيث سيرمي نظرةً أخيرة على الحياة، ويتمتم بكلمات أغنيته المسرحية القديمة: "خليها ماشية هيك، ما حدا رح يقدر يغيّر فيها، لا أنا ولا أنت".

علي أبو طوق في ذاكرة جيلنا دائماً وابداً

كتب الياس خوري عن علي أبو طوق الرواية التالية:

"بداية النص" حين أمسكت سامية بيدي أمام قبر علي أبو طوق داخل مخيم شاتيلا، قلت لها مريم، فحنت رأسها كأنها مريم.... وغداً عندما سأقف أنا، أو سيقف علي، علي لن يقف لأنه مات، لكن لنفترض أن علياً لم يمت. علي يصلح للوقوف أكثر مني، لأنه مثل القاوقجي، كان مصاباً بخمس طلقات في رجله. وعندما التقيت به للمرة الأولى، كانت قدمه اليسرى داخل الجفصين، وكان يمشي متكئاً على عصا ويعرج. بعد أن شفيت قدمه ولم يعد يعرج ظل يحمل العصا، وحين يتذكر نفسه كان يعرج قليلاً. لكأنه اعتاد على أن يعرج ولم يعد يريد أن يمشي كما كان يمشي قبل أن تصيبه الطلقات في قدمه اليسرى على مدخل حي البرجاوي في بيروت... وحدها سامية، حين روت لي عن موت علي، لم تروِ عن نفسها. في العادة يخبرونك عن موت الآخرين كي يتحدثوا عن أحزانهم أو عن آلامهم. سامية حين تحدثت عن موت علي، روت عن جسده الممزق بالشظايا، وكيف أقفل الطبيب الباب على الغرفة حيث حاول معالجته رغم علمه بأنه ميت. لم تسقط دمعة واحدة من عينيها السوداويين، كان هناك ما يشبه الضباب حول عينيها وهي تمسكني بيدي أمام الجامع المهدوم الذي تحول إلى قبر. كان الطبيب الذي يعالج علياً ميتاً وحاول أن يرد إليه الحياة، قبل أن يخرج من الغرفة ويغرق في دموعه، رجلاً يونانياً يدعى الدكتور "يانو"، عمل مع "الهلال الأحمر الفلسطيني" منذ عشر سنوات، حين كان يتابع دروسه في القاهرة. يوناني هاجر أهله إلى كندا، يدرس في القاهرة. ثم يصبح الطبيب الوحيد في مخيم شاتيلا الذي حوصر ثلاث سنوات متواصلة. تلك حكاية تستحق أن تروى. الدكتور "يانو" ألف كتاباً عن حصار المخيم وعن مقتل علي. وروى لي كيف جاؤوه بعلي ميتاً. أخذته، قال، حملته بين ذراعي وأدخلته غرفة العمليات. لكنني لم أصدق. كانت الارتجافة التي لم تتوقف في جسده توجي بأن هناك شيئاً أكبر من الطب والعلم. رأيت روحه. كانت هذه التي انتفضت في جسمه لمدة نصف ساعة أو أكثر هي الروح التي تنسحب بوحشية فظيعة من الجسد الميت وكأنها لم تكن تريد أن تغادره، كأنها فوجئت بالموت وأرادت أن ترفضه. الجسم كان كالمذبوح، كان مذبوحاً في صدره وميتاً. أخذته منهم وحملته بين ذراعي وكأنني أحمل طفلاً، فجأة زالت القسوة عن وجهه وعاد طرياً ومرتجفاً كطفل وضعته أمه منذ ثوانٍ قليلة. وضعته على الأرض وقلت لهم أن يخرجوا. أخرجتهم وأقفلت الباب بالمفتاح. لم أفعل شيئاً. مزقت القميص ورأيت الجروح والشظايا والدم الذي كان قد توقف عن التدفق وكأن هناك شيئاً منعه، كأن سداً أقيم لمنع الماء. دمه كان كالماء، لكنه جمد. نظرت إلى عينيه نصف المغمضتين وأغلقتهما بأصابعي، كانتا طريتين كوردتين ذابلتين. عرفت الموت من العينين. فجأة تذبل العيون كما تذبل الزهور. العين زهرة الجسد، العين ملجأ الروح. فقدت روحه ملجأها وبدأت تبحث عن مكان تذهب إليه. كان الجسد ينتفض وأنا الطبيب الذي أنقذ حيوات مئات الجرحى وجدت نفسي عاجزاً عن إنقاذ حياته. كان هذا الرجل أقرب إنسان إلي. كنت وحدي في هذا المخيم المحاصر بالدمار والخوف. كنت وحدي، ولولاه لمت خوفاً من الوحدة. الآن أراه أمامي يموت. مات قبلي وأنا لم أفعل شيئاً. فجأة خلعت جلد الطبيب عني. لم أشعر أنني ساحر إلا في هذا الحصار. هنا شعرت أنني نصف إله. أنقذ الناس بالأعجوبة وحدها. هل تعلم ماذا يعني أن تكون طبيباً في مثل هذه الشروط التي كنت فيها؟ لا أحد يعلم، نقص في المضادات الحيوية، نقص في البنج، نقص في الممرضين، نقص في المازوت من أجل تشغيل مولد الكهرباء، كل شيء ناقص، وأنا أصنع العجائب. يوم علي سقطت الأعجوبة، ورأيت الموت وأحسست بالعجز المطلق. رأيت روحه وهي تحاول أن تمنع الموت الذي كان قد احتل العينين. رأيت روحه وجلست أرضاً إلى جانب جسده. أردت أن أدلك الجسد المرتجف أمامي كي أساعد الروح على الذهاب. ولكنني لم أجرؤ، خفت، جلست إلى جانبه وكنت خائفاً. وعندما همد جسده أحسست بما يشبه الإغماء. أحسست بحاجة إلى النوم. كدت أنام. سمعت قرعها على الباب. عندما قالت إنها تقرع منذ نصف ساعة ولكنني لم أسمعها، لم تسألني عنه، لم تسأل. سامية كانت تعرف. اقتربت منه وألقت عليه نظرة وكأنها تغطيه. أخذتني من يدي وقالت لي إنني متعب ويجب أن أذهب وأرتاح. خرجت من الغرفة وتركتها معه. سمعتها تقفل الباب خلفي. لكنني لم أسألها شيئاً. لم أسمع القذائف ولم أحلم بشيء. الطبيب اليوناني يدلني على المستشفى. أرى غرفاً شبه محطمة وستائر مفتوحة وكأنها معلقة في الفراغ. أمشي إلى جانبه وهو يريني غرفة الأدوية. أشم رائحة الدواء وأسأل عن غرفة العمليات، والطبيب يبتسم. سامية لم تتكلم، كانت تنظر إلينا. سمعته وهو يروي لي كيف مات علي ولم تقل شيئاً. كانت تشرب قهوتها وتضع يديها الاثنتين حول الفنجان وكأنها تدفئهما، وتبتسم. رأيت ظل ابتسامة صغيرة على شفتيها. تكررت هذه الابتسامة في ذاكرتي إلى ما لا نهاية. طبعاً رحل الطبيب اليوناني إلى كندا أو إلى بلاد أخرى، لست أدري، وعلي بقي في مكانه، جسده يرتجف، وروحه تمتد فوق المكان، وأصوات قذائف مختنقة تملأ الفضاء... كنت ذاهباً لزيارة قبر علي... كان علي أبو طوق صديقي. سنوات الحرب الأهلية قضيناها معاً، في الخنادق والبرد والموت وتحت مطر القذائف. ثم افترقت خطانا، علي تحول إلى فدائي في كتيبة "الجرمق"، وأنا صرت ما أنا. وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، غاب علي في السفن اليونانية التي نقلت الفدائيين إلى منافيهم الجديدة. عام 1984، بعد انتفاضة 6 شباط، وانسحاب المارينز الأميركيين، عاد علي إلى بيروت، بلحيته القصيرة، وعصاه، ليتحول إلى القائد العسكري لمخيم شاتيلا. عاد ليصير رجل الحصار. ثلاث سنوات من الحصار والدمار، والمخيم يضيق ببيوته المدمرة، حتى تحول إلى كمشة من البيوت التي يسند دمار واحدها دمار الآخر. ومات علي. سمعت الخبر في الراديو. وفي صباح 14 آذار 1987، وهو اليوم الأول الذي فك فيه الحصار عن المخيم، ذهبت إلى هناك. كنت أعلم أن علياً يحب امرأة اسمها سامية (وهذا بالطبع ليس اسمها الحقيقي، ولكني أغير أسماء النساء حين أراهن في الحب، لأنني أعتقد أن الحب يغير كل شيء في المرأة، حتى اسمها). دخلت المخيم وسألت عن مكتب حركة (فتح). كانت طرقات المخيم تضيق وتضيق، ثم تحولت إلى ركام. اختفت الطرق، الركام هو الطريق، والمياه الآسنة تفرش الأرض برائحة ذلك الموت الذي يتسلل إلى المفاصل. كان الأفق ينحدر إلى البيوت المهدمة، ويدخل في شبابيكها. لم يكن هناك أفق. في شاتيلا اختفت السماء داخل الحطام، وتحول الماء إلى برك داخل الثقوب في الحيطان التي سقطت على الأرض. كنت أمشي كمن يمشي، وأتهدأ بالحيطان وأنزلق وأمشي. دخلت زقاقاً، إنه الزقاق الوحيد الذي لا يزال قائماً وسط هذا الدمار، وسألت عنها. قادوني إلى مكتب (فتح). صعدت الدرجات الإسمنتية الثلاث، ودخلت غرفة شبه معتمة، ورأيت شباناً وفتيات باللباس العسكري يجلسون على الأرائك والكراسي وكأنهم يسترخون بعد توتر طويل. ثم جاءت امرأة بصينية القهوة. البخار يتصاعد والرائحة. قهوة طازجة تفتح القلب. أمسكت فنجان القهوة بيدي الاثنتين، كان برد آذار يحول بخار الفنجان إلى دوائر بيض في سماء الغرفة. أمسكت الفنجان وشربت. ودخلت. تقدمت مني، احتضنتني وقبلتني على وجنتي. كان شعرها الأسود طويلاً ومبلولاً ويتهدل فوق كتفيها. كانت تلبس سترةً صوفية بيضاء، ورائحة العطر الصابوني تغلفها. "أنت فيصل"، قالت. لست أدري لماذا نادتني فيصل، فهي تعرف اسمي. أمسكتني من يدي وخرجنا. لم أسأل إلى أين، فأنا كنت مدهوشاً برائحة سامية الخارجة من الحمام، والصابون يعطرها، وأناقة الدمار مثل هالات حولها. أمسكتني من يدي، وأخذتني في رحلة بين الأزقة. سألتني إذا كنت أريد أن أزور قبره. مشينا باتجاه القبر، لم يكن قبراً. وقفنا أمام نافذة الجامع المهدم. "كلهم هنا"، أشارت إلى أرض الجامع، "كلهم، علي وفيصل والجميع". كانت أرض الجامع مغطاة بأزهار وأعشاب برية. وسامية إلى جانبي، وشيء يشبه الحزن. أمسكتني من يدي، التفت صوبها، كنت أريد أن أقول لها إنني أحبها، التفت واحتضنتها، رأسي انزلق على كتفها، وشممت رائحة السترة الصوفية البيضاء، كانت رائحة خروف طالع من الشمس. "هذا هو الجامع"، قالت، لقد حولناه إلى مقبرة. "أين الشواهد"، سألت. "لا شواهد"، قالت. "كلهم هنا، علي وفيصل وأنا وأنت، ألم تأت لزيارتهم؟". وقفت أمام الجامع الذي تحول إلى مقبرة، وأمام المقبرة التي لا تشبه الجامع، وكانت يدها في يدي. أحسست بيدها طرية وتكاد تنزلق. التفت إليها، عيناها كانتا مفتوحتين، ولا دموع. شدتني من يدي كي نتابع جولتنا. لست أدري كيف أصبحنا متواجهين من جديد، ضممتها إلى صدري، وكنت أعلم أنني لا أستطيع أن أبوح لها بحبي. "إن يوسف لما شاهد الشمس قد أخفت أشعتها وحجاب الهيكل انشق لموت المخلص، دنا من بيلاطس، وتضرع إليه قائلا: أعطني هذا الغريب، الذي منذ طفولته تغرب كغريب، أعطني هذا الغريب، الذي أماتوه بغضاً كغريب، أعطني هذا الغريب، الذي أستغربه ضيفاً على الموت، أعطني هذا الغريب، الذي غربه اليهود من العالم حسداً، أعطني هذا الغريب، لكي أواريه في لحد، أعطني هذا الغريب، فإنه غريب، لا مكان له يسند إليه رأسه، أعطني هذا الغريب، الذي رأته أمه ميتاً فصرخت يا ابني وإلهي، أعطني هذا الغريب، بهذه الأقوال، توسل يوسف النقي إلى بيلاطس، وأخذ جسد المخلص، ولفه بأكفان وطيوب، ووضعه في قبر" بعد سقوط المخيم، رحلت سامية إلى صيدا، ولم ألتق بها بعد ذلك. "انتهى النص" إلياس خوري، مملكة الغرباء، رواية، بيروت، لبنان: دار الآداب، الطبعة الأولى 1993، الطبعة الثانية 2007، (الصفحات:14، 16، 22-25، 122-126)

عائدة تبعث عفيف فراج حياً فتترجم «القمع السياسي»

طلال سلمان

تتجاوز عائدة خداج أبي فراج الموت لتتابع رحلتها مع رفيق عمرها الدكتور الباحث المميز عفيف فراج الذي أعطى الجامعة اللبنانية بعض أغلى سنوات حياته حتى دهمه المرض فانقطع عن التدريس لكنه لم ينقطع عن دراسة أحوال الأمة، وعن متابعة التطورات الفكرية والسياسية، فظل يكتب وينتج حتى النفس الأخير. ولقد كتب عفيف فراج في الفكر السياسي، بمنظور تاريخي، وحاكم السياسة والأدب وموقع المرأة، ثم توغل في دراسة اليهودية ورؤية انشتين لها ولدولة اليهود، قبل أن يذهب إلى البحث عن الجذور الشرقية للثقافة اليونانية، وأنتج عشرة كتب وضع فيها عصارة فكره وثقافته. كانت عائدة، شريكة في نتاجه، إذ وفرت له الجو المريح، كما ساعدته في التحضير، ولعله كان يستعين بها كناقدة قبل ان يدفع بأي كتاب جديد إلى دار الطليعة أو دار الآداب لتنشره. فلما أقعد المرض عفيف فراج تبدت عائدة في أروع صورها: حبيبة وزوجة ومرافقة وممرضة ومؤنسة حتى الشراكة في الوجع... وبعد رحيل عفيف دأبت عائدة، وهذه المرة مع نجلهما طارق عفيف أبي فراج على جمع آخر ما كتب، وترجما مؤلفه «القمع السياسي وتجلياته في نماذج مختارة من الرواية العربية الحديثة»، وهو بحث كان قد أنجزه عفيف في العام 1982 «حين كان لبنان يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، النسخة الأشد سواداً «للعسكري الأسود»». تقول عائدة خداج أبو فراج في المقدمة التي كتبتها لهذا الكتاب الذي تكاد تكون شريكة فيه: «كان يحمل أوراقه وكأنها ولدنا الرابع، وينزل بها إلى الطابق السفلي، يراجع ما كتب على وقع أصوات القذائف التي كانت تستهدف بلدة بعقلين الشوفية الجميلة التي كنا نعلّم في ثانويتها. وما ان بدأ الاسرائيليون بالسؤال عنه وملاحقته حتى كان الهروب من بطشهم هو السبيل المتاح، على غرار أبطال الروايات التي اختارها في بحثه. فكانت وجهته ألمانيا حيث قدم رسالته ونال شهادة الدكتوراه». ينقسم الكتاب إلى بابين: في الأول، وعبر سبعة فصول، يحاول الكاتب رصد الجذور التاريخية للنظرة الغربية الاستعمارية الانتقاصية للشرق والعودة بها إلى بدايات الصراع القديم والمستمر منذ اليونان القديمة حتى أوروبا الامبريالية الحديثة. لقد نسب الغرب القمع السياسي إلى الشرق وعبّر عنه بمصطلحات ذات مضامين ثقافية ـ عرقية انتقاصية مثل «الاستبداد الشرقي» و«الهمجية الشرقية» ليؤكد ضمنا ان الحرية هي امتياز يعود حصريا إلى الغرب.. أما الباب الثاني فينقسم إلى قسمين: يعرض القسم الأول لمفهوم الحرية في الإسلام القائمة على التوحيد والمساواة، ولكن سرعان ما تتحول السلطة بعد فترة الخلفاء الراشدين الأوائل إلى سلطة اوليغاركية تسلطية في غياب المؤسسات الديموقراطية.. أما القسم الثاني فيتضمن نماذج مختارة من الرواية العربية الحديثة تروي قصص السجون والسجناء و«العسكري الأسود» الذي يستبيح الحرمات ويضرب ويجلد ويلاحق ويغتصب ويعنف ويأكل اللحم الحي..». في سياق الاستشهاد ترد بعض أقوال أرسطو الدالة على العنصرية ومنها: «ليس في الجماعات غير اليونانية طبقة قادرة بالفطرة على الحكم والقيادة، لأن مجتمعهم يتكوّن فقط من عبيد، ذكورا وإناثا.. وكما يقول الشعراء من المناسب ان يحكم الهلينيون البرابرة، مما يعني أن البرابرة والعبيد هم بالفطرة متطابقون». ... وكان المستعمرون الاسبان والبرتغاليون، بعد الرومان واليونان، أول من جاهر واعترف بمهمتهم التمدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر وتاجروا بالمسيحية التي نشروها بين الهنود الحمر في المناطق التي احتلوها.. وبروح الصليبية المتعصبة قاموا بـ«إطاحة الآلهة الوثنية واستبدالها بالصليب»... وهم ادعوا مهمة «النصرنة»، وميز الفرنسيون أنفسهم بالادعاء أنهم «الأم الحنون» للشعوب المستعمَرَة، وتحدث الألمان عن مهمة شبيهة بالمهمة الفرنسية. ... و«على الرغم من الولاء لليونان واعتبارها «السلف الروحي» للغرب فإن نظرية التقدم اللولبي للتاريخ ليست يونانية المصدر بل هي يهودية. ان فولتير وهو أول من قاس إنجازات أوروبا بمقاييس غير أوروبية استطاع ان يدرك الصلة مع النظرة المركزية ـ الاثنية العبرية للتاريخ التي صورت ان كل الأحداث هي «مقدرة من أجل تعزيز شعب الله المختار»». وينتقل عفيف فراج في الفصل الخامس إلى «الرد على التحدي الغربي ـ الاستعماري: الاستشراق معكوسا»، فيأخذ على ادوار سعيد في نقده للاستشراق كنظام مثقل بالمفاهيم الامبريالية العرقية التي تشد وتؤكد الأوهام المزمنة حول «الاستبداد الشرقي» أنه وقع في الأخطاء نفسها التي كان سعيد قد سبق وأبرزها بوضوح حول منهج المستشرقين دعاة المركزية الأوروبية في مقاربتهم للشرق. ويشير فراج إلى أنه طالما اندمج دعاة الحركة الإسلامية بدعاة القومية العربية.. فقد ضم التيار الأصولي الإسلامي الذي أسسه الأفغاني أشخاصا مثل محمد عبده، رشيد رضا، شكيب ارسلان، محمد طلعت حرب (مؤسس البنك المصري) مصطفى كامل، علال الفاسي، حسن البنا والسيد قطب ومحمد قطب (المنظرين البارزين للاخوان المسلمين).. وبين مآثر هذا التيار الانتفاضات المسلحة ضد كل أنواع الانتهاكات الامبريالية كانتفاضة عبد القادر الجزائري، والوهابية في شبه الجزيرة العربية، والسنوسية في المغرب، والمهدية في السودان، وثورة عمر المختار في ليبيا وصولا إلى الثورة الجزائرية... فأولئك الذين أسسوا «القومية العربية»، على الجذع الإسلامي لم يكونوا أكثر عروبة من كونهم إسلاميين ولا أقل عداء للغرب من الإسلاميين الراديكاليين... يستشهد فراج بلويس عوض الذي يقول: «لو لم يتخذ الأدب والفن والثقافة الرسمية هذا الموقف العدائي الاستبدادي من أدبنا الشعبي الثمين الذي يشمل الملاحم والمواويل والحكايات والأساطير والمعتقدات وسواها لكنا ننعم بأدب وفن رفيعي المستوى» يستذكر هنا ان القيمة الأدبية والعبقرية الخلاقة للعامة قد أنتجت اضافة إلى «ألف ليلة وليلة» سيرة عنترة بن شداد و«تغريبة بني هلال» و«سيف بن ذي يزن» و«الظاهر بيبرس» وغيرها. في الفصل الثاني عشر يعرض عفيف فراج متجليات القمع السياسي في نماذج رئيسية مختارة من الرواية العربية الحديثة... ويقتبس فقرات من روايات ليوسف ادريس ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني وصنع الله ابراهيم وصلاح حافظ، من مصر، وتيسير سبول وفاضل الغزاوي من الأردن، وحنا مينا وحيدر حيدر وهاني الراهب من سوريا، وجبرا ابراهيم جبرا وغالب طعمه فرمان وعبد الرحمن مجيد الربيعي وبرهان الخطيب وعبد الرحمن منيف من العراق، وغسان كنفاني ويحيى يخلف من فلسطين، وحليم بركات من لبنان. أما قيمة القمع السياسي فنادرة أو لا وجود لها تقريباً في الرواية اللبنانية، لكن المجتمع اللبناني يعاني معضلة الهوية الوطنية الثقافية، فالديموقراطية اللبنانية قامت على التوازن الطائفي، ثم ان الانقسام الديني الثقافي والوطني حول الهوية الوطنية قد تعرض لنقد عنيف في عدد من الروايات، ومنها «أنا أحيا» لليلى بعلبكي، و«طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد و«بيروت 1975» لغادة السمان. ويختم عفيف فراج: لم يكن القمع السياسي يوما ميزة حصرية لبلد أو دين أو عرق أو منطقة جغرافية معينة. انه شر مارسته كل الامبراطوريات والوجه السلبي لكل السياسات الامبريالية. وباختصار هو معضلة عالمية وليست شرقية فقط.

سامر سليمان.. وداعاً

حنا جريس

تعرفت على الدكتور سامر فى أواخر عام 2003، كان قد انتهى من رسالته للدكتوراة التى حصل عليها من معهد الدراسات السياسية فى باريس حول استخدام نظام الحكم فى مصر للدولة، والتى نشرها لاحقاً فى كتابه «النظام القوي والدولة الضعيفة»، كان سامر حينها يحاول الاقتراب كباحث فى العلوم السياسية والاجتماعية من ملف الاحتقان الطائفى، ومن ثم كانت المقابلة وبدأت الصداقة. على مدى السنوات التالية، اكتشفت فيه هذا المناضل الإنسانى الرائع الذى كرس علمه وفكره وجهده للدفاع عن حقوق المواطنين، خاصة الفئات المستضعفة والمقهورة، كان أكاديمياً من طراز رفيع يرفض السقوط فى غواية الانحياز أياً كانت مكاسبه، حريصاً على موضوعيته مهما كلفته من أعباء. وهكذا أصبح الأكاديمى والباحث الذى تربى فى بيئة يسارية علمانية نموذجاً للمثقف العضوى كما عبر عنه جرامشى، كان يمزج بين نشاطه السياسى والحقوقى وبحثه العلمى والفكرى ومن ثم كنت تراه مشاركاً ومناضلاً فى كافة الفعاليات السياسية والنشاطات، وكنت تجد فى كتاباته الصورة واضحة والسؤال دقيقاً والإجابة كاشفة. وخلال السنوات القليلة التالية، كنت ترى سامر فى كافة ساحات النضال السياسى والحقوقى، فقد كان أحد أهم مؤسسى مجموعة «مصريون ضد التمييز الدينى» والتى أخذت على عاتقها محاربة التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو العقيدة حيث كان أيضاً أحد أهم مفكريها ومن أبرز ناشطيها، وما زلت أذكر حماسه الملهم وهو يحثنا على التمسك بشعار «الدين لله والوطن للجميع» باعتباره الشعار الجامع لكافة المواطنين، كما أنه الإطار الذى يجعلنا نستطيع الدفاع عن حقوق الفرق الدينية المختلفة حتى لو كانت صغيرة العدد وضعيفة مثل البهائيين. وعندما اندلعت ثورة 25 يناير، كان سامر فى أوج تألقه وحماسه، وما زلت أتذكر كيف جلسنا مع بعض الشباب؛ لنكتب بياناً للرد على خطبة المخلوع التى ألقاها عشية موقعة الجمل، كان يكتب بتركيز وحماس منشوراً ثورياً قوياً، كان يحاول أن يعبر عن روح الثورة فى الميدان بكافة تفاصيلها، كان ما كتبه هو الصيغة الأولى لأول بيانات ائتلاف شباب الثورة. فى الأسابيع التالية لتنحى الرئيس السابق، كان سامر من أوائل النشطاء والمفكرين الذين تنبهوا لأهمية ملء الفراغ الكبير فى الساحة السياسية بقوى سياسية منظمة، ولأنه كان مؤمناً بأن مصر بحاجة إلى يسار ديمقراطى قوى، فقد كان يدفع بكل قوة لبناء كيان حزبى يقوم على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية كركيزتين أساسيتين باعتبارهما من المطالب الأساسية للثورة، طاف سامر على جميع أصحاب المبادرات للقيام بأحزاب، وساعد الجميع وبذل جهداً مع الجميع، كان له هدف واحد أن يجمع بين الخبرات السياسية والتنظيمية التى يملكها الكبار، والروح الثورية والطاقة الهائلة التى لقطاعات الشباب، فهذا هو المستقبل الذى يراه. رحم الله سامر، فعلى أكتاف مثله من مناضلى الظل الذين يقدمون كل ما لديهم من جهد وصحة ووقت، يبنى شبابنا بلداً جديداً تسرى فيه روح الثورة، الحرية والعدالة الاجتماعية وهما ما عاش ومات من أجلهما المفكر اليسارى والثورى والمناضل والإنسان سامر سليمان.

كنيسة لبنان تحتفي بنفسها

غسان حجار

النهار- 2012-11-29 كنيستنا اللبنانية فرحة، تحتفي بنفسها كل يوم. نعقد سينودساً محلياً وآخر للشرق الأوسط، ثم ننتخب بطريركاً فنفرح ونهلل، ثم يزور البطريرك المناطق والقرى والبلدات فنستقبله بالطبل والزمر، بعدها يزورنا البابا فنقيم الإحتفالات ليل نهار. وبعد ان يغادر يمنح البطريرك رتبة الكاردينالية فنطلق العنان لبيانات التهنئة والتبريك، ويذهب البطريرك الى روما فيمضي معه 1500 لبناني ويتجند الإعلام للنقل المباشر وغير المباشر، ثم ننتظر عودته لنبارك ثانية. وهنا مطران يحتفل بنفسه لتعيينه في أحد المجالس البابوية، وثان يكرم في مرور 50 سنة على أسقفيته، وثالث يكرم لا أعلم على أي ارتكابات فعلها. وأيضاً كاهن نال الدكتوراه، وآخر عيّن في موقع إداري، وثالث أمضى 20 عاماً في الكهنوت، ورابع عيد ميلاده. وهنا رهبانية تنتخب هيئتها الإدارية الجديدة وتحتفل نكاية بالقدامى... لا نريد للكنيسة ان تكون عاشورائية، بل ان تعيش زمن القيامة، والفرح، لكن على الكنيسة ان تعيش الفرح مع رعيتها، فلا تكتفي بفرح السلطة الكنسية مع مجموعة من الميسورين وأصحاب المقامات والنفوذ والجاه. أوضاع المسيحيين في مصر ليست في أفضل حال، وفي سوريا أسوأ الأحوال، والأردن يقرب من الإنفجار، والعراق لن نذكر بأي حال. أما في لبنان، فالمدارس تعاني، والمؤمنون يشكون من تقصير بعض مؤسسات الكنيسة، والفقر يزداد ولا من يساعد جدياً، والمرض يتضاعف ولا من يعالج الفقراء، والهجرة على مد عينك والنظر، ولا مسعى حقيقياً لوضع حد لها. أوضاعنا ليست في أفضل حال بل في أزمة حقيقية تستدعي قيام حال طوارئ في الدولة، كما في الكنيسة. لكن الواقع غير ذلك، كأن السلطة الكنسية تعيش في واد والناس في واد آخر. تحاكي الأغنياء، وتتحدث عن الفقراء، لكنها لا تلامس أوجاعهم الحقيقية. تعيش محتفية دائماً بنفسها، كأن هذه السلطة تقف أمام المرآة لتكتشف انها في أفضل حال، خصوصاً اذا ما لبس الآباء المطارنة الأثواب الفخمة المزركشة وحملوا العصي المذهبة. لكن المرآة ليست دائماً حقيقية، اذ هي تنقل صورة خارجية وليس الواقع. على الكنيسة ان تعيش فرح العطاء وفرح القيامة مع ناسها لا من دونهم كي لا تصير الكراسي الأسقفية كمثل حال تركيا مثلاً، أبرشيات من الماضي لا حياة فيها. هوامش • هنيئاً للبطريرك الراعي برتبة الكاردينالية، والكلام السابق ليس انتقاصاً منها ومن صاحبها، اذ لا طمع فيها، ولا أمل، ولا منافسة في أي من المجالات. • ان أعباء ومصاريف 1500 لبناني شاركوا في الإحتفالات في روما، بمعدل 1000 دولار للشخص الواحد، اذا سافر في الدرجة السياحية، وأقام في دير، و3000 دولار اذا سافر في درجة رجال الأعمال وأقام في فندق، تبلغ ما بين مليون ونصف مليون دولار وأربعة ملايين ونصف مليون دولار. • ولائم الغداء والعشاء على هامش الإحتفالات بلغت قيمتها نحو 500 ألف دولار. وبذلك تكون الكلفة نحو 5 ملايين دولار في حدها الأدنى. فهل من حاجة الى تعليق؟

من رسالة إدوارد سعيد إلى المثقفين العرب


ان ما أسعى إليه، هو وجوب بقاء المثقف أمينا لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد، رغم انتسابه الحزبي، وخلفيته القومية، وولاءاته الفطرية... على المثقف المجازفة في سبيل تجاوز اليقينيات السهلة التي توفرها خلفيتنا، ولغتنا، وقوميتنا، كما تعني البحث عن معيار واحد للسلوك البشري ومحاولة الحفاظ عليه، عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل السياسة الخارجية والاجتماعية. ويتحتم علينا بالتالي، إن كنا ندين عملاً عدوانيا يقوم به عدو، دونما مبرر، ان نقدر أيضاً على اتخاذ الموقف عينه عندما تنتهك حكومتنا حرمة فريق أضعف. إن المثقف وُهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، لجمهور ما، وايضاً نيابة عنه. ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء (المثقف) بأنه إنسان، مهمته أن يطرح علنا للمناقشة أسئلة محرجة، ويكون شخصاً ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تُنسى وتُغفل قضاياها بشكل روتيني... ان الانتهاكات المتعمدة أو الناجمة عن إهمال هذه المعايير يجب ان يشهد ضدها وان تحارب بشجاعة. إن أقل ما يجدر المثقف عمله ان يكون همه إرضاء جمهوره: فالعبرة الأساسية برمتها ان يكون محرجاً، ومناقضا، بل حتى مكدراً للصفو العام ... وجوهر الأمر ان المثقف، حسب مفهومي للكلمة، لا هو عنصر تهدئة ولا هو خالق اجماع، وإنما هو إنسان يراهن بكينونته كلها على حس نقدي، على الإحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة لما يريد الأقوياء التقليديون قوله، ولما يفعلونه. ويجب ألا يكون عدم الاستعداد هذا مجرد رفض مستتر هامد، بل ان يكون رغبة تلقائية نشطة في الإفصاح عن ذلك علنا... ولا يعني هذا الأمر دوما ان يكون المثقف ناقداً لسياسة الحكومة، بل ان يرى المهنة الفكرية حفاظاً على حالة اليقظة المتواصلة ومن الرغبة الدائمة في عدم السماح لأنصاف الحقائق والأفكار التقليدية بأن تسيِّر المرء معها. يقول اورويل: «ان اللغة السياسية، مصممة لجعل الأكاذيب تبدو صادقة، والإجرام يبدو جديراً بالاحترام، ولكي تضفي مظهر الحصافة على الهراء البحت. إن مشكلة الولاء محدقة دائما بالمثقف وتتحداه بدون رحمة. وكلنا بلا استثناء منتمون إلى جماعة قومية، أو دينية، أو عرقية ما: فما من أحد، مهما كان مقدار الإصرار على عكس ذلك، يعلو فوق الروابط العضوية التي تشد المرء إلى العائلة والجماعة، وبالتأكيد إلى الجنسية... ان الشعور بأن شعبك مهدد بالانقراض السياسي، بل بالانقراض الفعلي أحياناً، يلزمك بالدفاع عنه، وببذل أقصى طاقتك لحمايته، أو لمقاتلة أعداء الأمة. (كالحالة الفلسطينية مثلاً). الخطر الهام الذي يتهدد المثقف هذه الأيام، لا يكمن في الأكاديميا، أو الضواحي، أو الروح التجارية المروعة للصحافة ودور النشر، وإنما في مسلك سوف أسميه الاحترافية... وهو اعتبار وظيفتك كمثقف تؤديها كسباً للرزق. ان تخدم السلطة وتكسب منها المكافآت، لا يساعد اطلاقاً على ممارسة الروح النقدية والمستقلة نسبياً للتحليل وإصدار الأحكام، التي يتحتم أن تكون، من وجهة نظري، إسهام المثقف. المثقف الحقيقي الحق، ليس موظفاً أو مستخدماً منقطعاً كليا لأهداف سياسة حكومة أو شركة كبرى... في مثل هذه الحالات، فإن الإغراءات التي يواجهها المرء لإخماد حسه الأخلاقي، أو لإجباره على التفكير ملياً من داخل حقل اختصاصه، أو لكبحِ الشك داخله لمصلحة الخضوع للأعراف، هي فعلا كثيرة، ولذلك ينبغي الحذر الدائم. ... إن حرية الرأي والتعبير المتصلبة هي المعقل الرئيس للمثقف العلماني، فالتخلي عن حمايته أو تحمل العبث بأي من أساساته، هو في الواقع خيانة لرسالة المثقف... فحرية التعبير، لا يمكن نشدانها اجحافيا في منطقة ما وإغفالها في أخرى... ومن أكثر المناورات الفكرية خسة، التحدث بعجرفة عن انتهاكات في مجتمع الغير، وتبرير الممارسات ذاتها في مجتمع المرء نفسه (يمكن تعميم ذلك على السلطات والأنظمة)... إذا رغبت في دعم العدالة الإنسانية الأساسية فعليك أن تدعمها للجميع، وليس فقط انتقائيا لمن تصنفهم جماعتك، أو حضارتك، أو أمنك، أهلاً لها. هل من الجائز للمثقف المعاصر، الذي يعيش في زمن مرتبك فعلاً نتيجة اختفاء ما يبدو انها كانت معايير أخلاقية موضوعية وسلطة واعية، ان يكتفي، ببساطة، إما بتقديم الدعم الأعمى لسلوك بلاده (أو نظامه) والتغاضي عن جرائمها وإما القول بدون مبالاة مثلا: «أعتقد أنهم كلهم يفعلون ذلك، وأن هذه هي حال الدنيا». ما يجب ان نكون قادرين على قوله، بدل ذلك، هو ان المثقفين ليسوا محترفين مسختهم خدمتهم المتزلفة لسلطة فائقة العيوب، بل هم، مثقفون في موقع يتيح المجال للاختيار، ويقوم أكثر من غيره على المبادئ، بحيث يمكنهم قول الحق في وجه السلطة.. إذا أردت أن تراعي ولي نعمتك، فلن تستطيع ان تفكر كمثقف، انما فقط كمريد، أو كتابع، لا تغيب عن ذهنك فكرة ان عليك أن تُعجب لا تُغضب... ان التبعية العمياء للسلطة في عالم اليوم، هي أفدح الأخطار التي تهدد كينونة حياة فكرية أخلاقية نشطة. الرسالة مقتطعة من كتاب «صور المثقف» (دار النهار)

الأحد، 26 أغسطس 2012

كمال الصليبي.. عام على وفاته

سليمان بختي- المستقبل- نوافذ- الأحد 26 آب 2012

"كل معرفة تتضمن قدراً من نبذ المتداول" في ذكراه السنوية الأولى، لا يزال المؤرّخ كمال الصليبي حاضراً فيما أرساه من قيم منهجية وعقلانية وموضوعية، في التعاطي والتفاعل والتصويب مع التاريخ. وفي مقاربته التفكيكية للأساطير المؤسسة لتاريخنا. وفي جرأته لإظهار الحقيقة وإشهارها والدفاع عنها، حتى يتبين له معطيات جديدة، فيغير ويتغير من دون أن يخشى لومة لائم. جمع كمال الصليبي بين أكاديمية صارمة وتجربة عملية مفتوحة الأفق على التاريخ والجغرافيا، وأخبار الناس وأحوالهم. جمع في كتاباته المقاييس الأكاديمية الدقيقة والربط المعرفي المفتوح الأفق. يعرف أن في الأبحاث والدراسات للعقل ألف عين وعين، أما في العلاقات الإنسانية فلا شيء سوى دفء القلب وحرارته. أذكره في الجلسات وخصوصاً ما أسميناه ديوانية كل أحد صباحاً في منزله في رأس بيروت، يطل من شرفته على حرم الجامعة الأميركية والبحر المتوسط. ويطيل بنا المكث في ضيافة رجل نشر علينا من أنسه الكثير، ومن حديثه الطيب والحنون والأثير، وتبسط إلينا بعلمه وبأدبه، وقلّب أسماعنا على ما يقول، وقرب إلينا الموارد والمصادر وصوب الخطى، وأوضح لنا أن "كل معرفة صحيحة تتضمن قدراً من نبذ المتداول"، وأن "كل معرفة صحيحة هي أساس الفكر الصحيح ولا يتأتى عنها الفائدة مهما كان موضوعها". وأن كل معرفة جديدة تأتي بالمسرّة والكشف والسؤال والدهشة، وإذا الألفة طالعة من كل شوق ومن كل حنين. فتح كمال الصليبي الباب الذي لا يمكن أن يقفله أحد. باب العقلانية والمنطق. باب النظر إلى العالم كما هو لا كما أريد لنا أن نراه. وفعل كل ذلك بهدوء. كتاباته كانت تثير الإشكالات والسجالات والردود. أما هو فباقٍ على صمته، الهادئ. ومن فرط رقته يكاد أن يهمس. هذا الهدوء الذي يلفك حين تلتقيه فتظن أن ثمة أمراً آخر يشغله أو يقلقه ولا علاقة له بالقضية التي تثيرها معه. أذكر حين حضرت أسئلتي لحوار مطول معه نشرته في كتابي "اشارات النص والابداع" (1995) أنني تقصدت أن أجمع في أسئلتي آراء كل منتقديه. وفاجأني أنه لم يهتز. رقة الحرير وصلابته في آن. أناقة تحوم ولا تستقر. مضني بالكلمات وكأنها حجارة ثمينة ترتجل. مُضني بقدرته على الكلام من دون كلام. متعب بما تريده الحقيقة. يفكر عنك ويصوغ السؤال معك. وإذا أراد أن يهرب فإنما يهرب بإحسان متكئاً على قول للصحافي الراحل ميشال ابو جوده "الذي يعرف لا يحكي، والذي يحكي لا يعرف، والذي لديه لا يفعل، والذي يفعل ليس لديه". كان يغدق علينا القصص والنوادر المدهشة التي لا تنتهي وتتصل بالحياة والتاريخ والسياسة والثقافة والحضارة. وكل قصة تحمل طرافتها ومغزاها الثابت والعميق. جمع في شخصيته صفات يندر اجتماعها. ذكاء فطري حاد، ذاكرة خارقة، وقدرة فائقة على الربط بين النظرية والواقع، جرأة أدبية لافتة، وشجاعة عقلية لا تقبل الاحتفاظ بالذهن بما يثبت له خطأه، وحس أخلاقي رفيع. هو أرستقراطي في الاخلاق، وشيخ عشيرة في العلاقة مع تلاميذه (يرعاهم ويتابع خطاهم في روح ابوية أثيرة) وملكي اكثر من الملك في الكشف عن الحقيقة وإعلانها، وكادح مجاهد في مجال العقل والمثاقفة. أما الصداقة فكان يعتبرها فرصة أو دعوة لتسجيل الانتصارات على الحياة والزمن والمفارقات. لا يعجبه العجب في المنهاج ويسعى للخروج منه وعنه وعليه، خصوصاً بعد أن يتقن قواعد اللعبة. كان يردد أمامنا ما قاله أبوقراط غير مرة "الحياة قصيرة، والتجربة مخاتلة والحكم على الأمور صعب، والمسعى إلى المعرفة متواصل". روى لنا غير مرة أنه في بداية عهده في التعليم الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت، نحو منتصف القرن الماضي، كان يعرف التلميذ من لهجته وطريقة لباسه، إلى أي طائفة انتمى ومن أي منطقة أتى، ثم بعد عقد أو أكثر فقد هذه الميزة وصار الطلاب يشبه بعضهم الآخر. وهذا في عرفه نجاح للفكرة اللبنانية على المستوى الاجتماعي الانصهاري والثقافي والتواصلي. وفي ملاحظته تلك، كما وفي تجربته كلها، كان همه ان ينقل صورة لبنان التاريخية من نطاق الاسطورة إلى نطاق الحقيقة التاريخية المجردة. هو خير أساس لبناء المجتمع. ويؤكد "التاريخ هو التجرد ليس الا". وأحسب انه في معالجته الموضوع التاريخي في لبنان سار على هدى صالح بن يحيى بقوله "أردت أن أجمع شيئاً يستفيد منه الخلف من معرفة أخبار السلف، لأني لا أريد متغالياً أن يصفهم بأردأ مما فيهم، ولا حسوداً فينعتهم بما ليس فيهم". ذات مرة صغت سؤالي له على الشكل التالي: "هل تعتقد أن حرب 1967 كانت بمثابة كعب أخيل في تدهور الأوضاع العربية وتأزمها؟ فأجاب: "لا أحبذ استخدام التشابيه والاستعارات والمجازات في سياق الأحكام لأنها تخرجك قليلاً أو كثيراً من الحقيقة". مد الصليبي شراعه في كل اتجاه، ونهل من كل اهتمام مختلف على عادة الأذكياء. أحب اللغة العربية والرواية والأدب والموسيقى. كانت لديه طريقة خاصة للكتابة بالعربية التي أحبها منذ الصغر، ومنذ أن أحضر له والده الطبيب سليمان الصليبي معلماً خاصاً ليدرس على يديه القرآن، ولحثه على الإتقان وبيان مخارج الألفاظ. كان يكتب ما يريد على صفحة ثم يحذف كل الكلمات التي لا تؤثر على المعنى. بيانه كان المعنى على ما يقول الشيخ عبدالله العلايلي. كان يسعى بأسلوبه ليصل إلى الدقة العلمية وسلامة التعبير وسلاسته. وكان لا يشرع بالكتابة بالعربية قبل أن يقرأ الحديث النبوي الشريف وديوان المتنبي ومروج الذهب للمسعودي. أحب الرواية العربية ونادراً ما تفوته رواية في طبعتها الاولى. ولعلها مصادفة قدرية ان آخر كتاب قرأه ليلة إصابته بالجلطة رواية "طيور الهوليداي آن" للروائي اللبناني ربيع جابر، والذي كتب عنه الصليبي مرة في كتاب "بيروت والزمن" متناولاً ثلاثية "بيروت مدينة العالم" ومرة في بحث قدمه في مؤتمر في اكسفورد عن رواية "يوسف الانجليزي". وكان يتوقف كثيراً في الرواية عند التصور. وكان له مع الموسيقى عملان مسرحيان من تأليفه وتلحينه. وظل يعزف على البيانو الأغاني الميلادية على مألوفه كل سنة، حتى آخر سهرة ميلاد قضاها مع الرفاق والاصدقاء. عاش كمال الصليبي عصره ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، عاش زمانه وتصرف به زمانه، وأدخله إلى تجارب كثيرة واكتشافات كثيرة جعلت منه المؤرخ والمفكر الذي يقرأ اليوم وأمس وغداً ويستقي منه ويستمد لبناء أساسات جديدة. كان من الصعب أن يمر صحافي أجنبي في بيروت ولا يستأنس برأي الصليبي. ومن الصعب أن يمر أحد تلاميذه في بيروت بعد غياب ولا يسأل خاطره. من الصعب أن ينعقد لقاء الأصدقاء القدامى كل سبت صباحاً في "السيتي كافيه" ( قبل اقفالها) ولا يكون بينهم. ولكن الجلسة الأحب إلى قلبه وروحه كانت حين يسند رأسه إلى احد أعمدة الجامع الأموي في دمشق، ويأخذه الوسن الخفيف إلى قنطرة في التاريخ. التاريخ الذي ظل غايته وعنوان حياته. التاريخ الذي زرع في تربته البحث والكشف وزاوية النظر، وأينما زرع أورف زرعه، في تاريخ لبنان وفي تاريخ البلدان العربية، والتي كان يسميها (بلادنا) وفي تاريخ التوراة وجلاء أسراره وغوامضه. وفي كل ذلك يبحث عن الصواب والحقيقة والكمال المأخوذ على عاتقه، وعن الصبر المتكئ على التاريخ والمتن والهامش، حتى تكون له الحلية والمكافأة في السير الكاشف عن الغموض. ومع هذا الكمال شغف هائل بالمعرفة والناس وأحوالهم، وبالأرض وهويتها. والمسؤولية عن هذا العالم الآخذ منا كل مأخذ. ورغم كل شيء كان كمال الصليبي يكتب بأمل، أمل البحث عن الحقيقة وتخليصها من الأوهام والأساطير، والأمل في البناء مع الآخرين ماضياً وحاضراً ومستقبلاُ والذي هو ضاله كل كتابة. كمال الصليبي بعد عام على غيابه، يتأكد الشوق مثلما يتأكد الطريق الذي مهده، والقيمة والمكانة التاريخية التي صنعها لنفسه بين المؤرخين، وفرادته وتميزه في اختيار مواضيعه التي لا يخلص البحث فيها. وفي الأفق لا بد كتابات وأبحاث وأوراق غير منشورة ستؤول إلى النشر، ومكتبة ستفتتح باسمه في جامعة الكسليك وتضم أوراقه وأرشيفه، وساحة سميت باسمه قبالة المدخل الطبي للجامعة الأميركية في بيروت. وثمة محاضرة سنوية في التاريخ باسمه في الجامعة الأميركية. والرجل الكبير، على ما يقول سعيد تقي الدين، لا ينتهي بمأتم بل لعله يحيا بولادات وبدايات جديدة.

الخميس، 23 أغسطس 2012

City, Empire, Church, Nation:How the West created modernity

Pierre Manent Pierre Manent is a French political scientist. His essay was translated by Alexis Cornel.

We have been modern for several centuries now. We are modern, and we want to be modern; it is a desire that guides the entire life of Western societies. That the will to be modern has been in force for centuries, though, suggests that we have not succeeded in being truly modern—that the end of the process that we thought we saw coming at various moments has always proved illusory, and that 1789, 1917, 1968, and 1989 were only disappointing steps along a road leading who knows where. The Israelites were lucky: they wandered for only 40 years in the desert. If the will to be modern has ceaselessly overturned the conditions of our common life and brought one revolution after another—without achieving satisfaction or reaching a point where we might rest and say, “Here at last is the end of our enterprise”—just what does that mean? How have we been able to will something for such a long time and accept being so often disappointed? Could it be that we aren’t sure what we want? Though the various signs of the modern are familiar, whether in architecture, art, science, or political organization, we do not know what these traits have in common and what justifies designating them with the same attribute. We find ourselves under the sway of something that seems evident yet defies explication. Some are inclined to give up asking what we might call the question of the modern. They contend that we have left the modern age and entered the postmodern, renouncing all “grand narratives” of Western progress. I am not so sure, though, that we have renounced the grand modern narratives of science and democracy. We may be experiencing a certain fatigue with the modern after so many modern centuries, but the question of the modern remains, and its urgency does not depend on the disposition of the questioner. So long as self-understanding matters to us, the question must be raised anew. Even if we do not claim to provide a new answer, we should at least have the ambition to bring the question back to life. When unsure about the nature of something, we sometimes ask when and how it began. Such an approach is legitimate when investigating the question of the modern, but it immediately raises difficulties. Beginnings are, by definition, obscure. The first sprouts are difficult to discern. One can easily be mistaken. In what time period should we look for the beginnings of modernity? In the eighteenth century, the age of the American and French Revolutions? In the seventeenth century, when the notion of natural science was elaborated? In the sixteenth century, the era of religious reformation? These diverse origins are not contradictory, since modernity surely includes a religious reformation, science in the modern sense, and political and democratic revolutions. But what is the relationship between the Lutheran faith and the science of Galileo? Is there a primary intellectual and moral disposition that defines modern man? Or must we resign ourselves to the dispersion of the elements of modernity, which we would then see as held together only by the magic of a word? Let us start with the one incontestable point in the perplexities just laid out: that we have wanted, and continue to want, to be modern. It is not necessary to know exactly what we want in order to know that, in so wanting, we form a project. Modernity is, first of all, a collective project—formulated in Europe and first applied there but destined for humanity as a whole. To form a great collective project, ultimately destined for all humanity, demands great faith in one’s own powers. There is something striking in this regard about the beginnings of modern science: Bacon and Descartes, to name just two pioneers, showed extraordinary confidence in the capacity of the new science radically to transform the conditions of human life. What faith—what blind faith—they had, one is tempted to say! For modern science had yet to produce any of its miracles. Descartes, for example, imagined medicine’s prodigiously lengthening human life at a time when it was incapable of curing anything. Inherent in the idea of a project are the beliefs that we are capable of acting and that our action can transform the conditions of our life. Many analysts of modernity have insisted on the second point, the transformative or constructive ambition of the modern project. But we must not pass over the first point too quickly. We are capable of acting—a world is contained in those words! Human beings have always acted in some way, but they have not always known that they were capable of acting. There is something terrible in human action: what makes us human is also what exposes us, takes us out of ourselves, and sometimes causes us to lose ourselves. In the beginning, human beings gathered, fished, hunted, or even made war, which is a kind of hunting; but they acted as little as possible, leaving much to the gods and tying themselves down with prohibitions, rites, and sacred restraints. Historically, properly human action first appears as crime or transgression. This, according to Hegel, is what Greek tragedy brings to light: innocently criminal action. Tragedy recounts the passage from what precedes action to properly human action. So modernity may be described as a project of collective action—and the great domain of action is politics, which is action ordered and implemented. It follows that the modern project must be understood in the first instance as a political project; we must situate it, therefore, in the history of European and Western political development. Modernity is characterized by movement, a movement that never reaches its end or comes to rest. There are great civilizations other than the West, and much has happened in them, but they have not known historical movement. They have chronicles but not a history—at least before the pressure or aggression of the West brought them into history. In the West, by contrast, one finds a singular principle of movement, and this is what characterizes it above all. The movement of the West began with the movement of the Greek city. Some have said that the Greeks ignored history, that they had a cyclical understanding of time, and that time oriented by history began with Christianity, if not with the modern philosophy of history. That contention does not hold up. The Greeks were well acquainted with the irreversible time of political history. Aristotle was just as capable as Tocqueville of observing that, in his age, democracy was the only regime still possible. To be more precise, Western movement began with internal and external movements of the Greek city—that is, with class struggle and foreign war. Cities were the ordering of human life that brought to light the domain of the common, the government of what was common, and the implementation of the common. The Greek city was the first complete implementation of human action, the ordering of the human world that made action possible and meaningful, the place where men for the first time deliberated and formulated projects of action. It was there that men discovered that they could govern themselves and that they learned to do it. The Greek city was the first form of human life to produce political energy—a deployment of human energy of a new intensity and quality. It was finally consumed by its own energy in the catastrophe of the Peloponnesian War. Subsequent Western history was, on the whole, an ever-renewed search for a political form that would recover the energies of the city while escaping the fate of the city—the city that is free but destined to internal and external enmity. The form that followed the city was the empire. Imperial Rome was a kind of continuation of the city, but it deployed such powerful energies that it broke through all limits that had circumscribed cities and took in ever more distant and numerous populations, until it seemed to reach the point of gathering together the entire human race. The Roman Empire renounced the city’s freedom but promised unity and peace. This promise was not kept, of course, or it was kept incompletely. However, as in the case of the city, political and spiritual energies partially survived the failure of the form. Not only did the imperial idea mark the West through the enduring prestige of the Roman Empire; the idea was reborn in a new form, one that was, again, particular to Europe. This was the Catholic or universal Church, which aimed to reunite all mankind in a new communion, closer than that of the most enclosed city and more extensive than that of the vastest empire. Of all the political forms of the West, the Church extended the greatest promises, since it proposed this community, at once city and empire; but it was also the most disappointing, since it failed to bring about the universal association for which it had awakened a desire. Though I have just surveyed the history of premodern Europe with the speed and delicacy of Attila the Hun, I have gathered the elements of the situation that will allow me to elaborate the modern project. Europeans were divided among the city, the empire, and the Church. They lived under these mixed and competing authorities, these three modes of human association. The cities that survived or were reborn were in competition with—indeed, often at war with—the Roman Empire (now known as the Holy Roman Empire, in what is today Germany); and the Church was in competition with the cities and the empire, which, in turn, were in competition with it. The disorder was dreadful, a conflict of authorities and of loyalty. It was this confusion that the modern project wanted to allow us to escape—and in this, it succeeded. The conflicts had to do with institutions but also, more profoundly, with the human type that would inspire European life. Whom to imitate? Did one have to follow the life of humble sacrifice for which Christ provided the model? Or was it better to lead the proud, active life of the warrior-citizen, a life for which Rome had provided the framework and of which Rome was the product par excellence? Should Europeans, surveying the ancient world, admire Cato or Caesar? Europeans no longer knew which city they wanted, or were able, to inhabit; thus they did not know what kind of human being they wanted, or were able, to be. It was in this radical perplexity, and in order to come to terms with it, that the modern project was born. Finding themselves assailed by prestigious and contradictory authorities—words of the Bible, words of Greek philosophers, words of Roman historians and orators—the Europeans did not know which to follow and which to dismiss. Thus, they did not know how to act; they did not know how to respond to the question, What is to be done? Speech and action were disjoined. The modern moment crystallized in the effort to attach speech to action more rigorously. This was the work of the Reformation. The authority of the Word of God had been divided between the Scriptures and Church tradition—but the Scriptures were accessible only through the mediation of the Church and in Latin, the language of the Church. Martin Luther wanted to attach Christian faith immediately to the Word of God as found in the Scriptures by rejecting the mediation of ecclesiastical authority and translating the sacred text into the language spoken and understood by the faithful. Sola scriptura, said the Reformers: Scripture alone. It was Machiavelli, however, who—at exactly the same time as Luther—formulated in the most general terms what lay at the heart of the problem and what would be the principle of the political solution. Both problem and solution appear in Chapter 15 of The Prince: But since my intent is to write something useful to whoever understands it, it has appeared to me more fitting to go directly to the effectual truth of the thing than to the imagination of it. And many have imagined republics and principalities that have never been seen or known to exist in truth; for it is so far from how one lives to how one should live that he who lets go of what is done for what should be done learns his ruin rather than his preservation. The reason that Machiavelli decided to write about the way men actually lived, not the way they behaved in those imaginary “republics and principalities,” was the great distance, which we have just noted, between what men said and what they did. Now, the greatest distance between speech and action is introduced by the Christian Word, which requires men to love what they naturally hate (their enemies) and to hate what they naturally love (themselves). The modern political project, which Machiavelli was the first to formulate, was therefore a response—it began as a response, in any case—to the “Christian situation,” one marked by competition among authorities, disorder of references, anarchy of words, and, above all, the demoralizing contrast between what men said and what they did. What did Machiavelli mean by considering the “effectual truth of the thing”? He intended to prepare the way for a kind of action entirely liberated from speech, religious or otherwise, that praised or blamed—a kind of action that no speech could fetter, whether the external speech of an institution or opinion or the internal speech of conscience. The speech that has the most weight and that tends most to fetter action is: “This is good, that is bad.” Machiavelli did not seek to nullify this distinction; he did not confuse good and bad. Rather, he encouraged men to prepare themselves to do what was bad, to “enter into the bad,” as he wrote, when necessary. Machiavelli strove to break down the barrier formed by the words that tell us what we should do—which, he believed, give us little guidance, since we follow our natures and not our words, but which nevertheless constrain our freedom of action by limiting the field of possible or conceivable action. It is difficult to say concretely what new political order Machiavelli imagined. One can say that by delivering human beings from respect for opinion, he prepared them for all possible actions, including the most audacious, the most ambitious, and even the most terrible. Among the audacious and ambitious actions that have taken place in the theater of Europe, the modern state has conducted the most decisive. As we have seen, Christianity rendered the motives of human action uncertain and the speech that must be authoritative in the city doubtful. The modern state became sovereign by resolving or overcoming that conflict, by taking upon itself the monopoly of authoritative speech—or, more precisely, by producing commandments independent of all opinion (including all religious opinion), commandments that authorized or forbade opinions according to the state’s sovereign decision. At first, it is true, the state, uncertain of its strength, associated itself with religious opinion or speech—with a state religion. As it grew stronger, however, it forbade less and less speech and authorized more and more. Once it reached its full strength, it lifted itself above speech, becoming the “neutral,” “agnostic,” or “secular” state that we know so well. But the modern secular state was only half of the solution to the problem of the gap between speech and action in the Christian world, precisely because a condition of its effectiveness was that it had no speech of its own. Yet there can be no human life without authoritative speech. Where would the modern state find such speech? It found it in society—by becoming “representative” of society. Representation joined society’s speech to the action of a state lacking its own speech. The problem of the Christian age was solved, therefore, by the sovereign state and by representative government—that is, by our political regime considered as a whole. My object here is not to describe the mechanisms or, for that matter, to sketch the history of the representative regime. Still, one point must be emphasized. The decisive factor in the reconciliation between speech and action is the formation of a common speech by the elaboration, perfection, and diffusion of a national language. Luther’s Reformation was a spiritual upheaval, but it was also inseparably a political revolution and a national insurrection. Too often forgotten is that even before the modern state was consolidated and became capable of authorizing or prohibiting effectively, the nation had emerged in Europe as the setting for the appropriation of the Christian Word, which the universal Church had proved incapable of teaching effectively. Each European nation chose the Christian confession under which it wished to live and essentially imposed it, after many attempts, on its “sovereign.” Europe assumed its classic form with the “confessional nation,” soon to be crowned by its absolute sovereign, who would later bring about its “secularization”; and this was the form in which it succeeded in organizing itself in the most stable and durable manner. From then on, it was in the framework of a national civic conversation that Europeans sought to link their speech with their actions and their actions with their speech. The national form preceded and conditioned representative government. So the history of the West unfolded in tension between, on the one hand, the civic operation—which the Greek city brought to light, and which the republican or “Roman” tradition sought to preserve and extend—and, on the other, the Christian Word, which opened up an unmanageable gap between speech and action in political society by proposing a new city where actions and speech might achieve an unprecedented unity, where we might live according to the Word. The practical solution was found in the nation distinguished by its confession, administered by a secular state, and governed by a representative government. The solution has neither the energizing simplicity of the civic form nor the ambitious precision of the ecclesiastical form. And the West will ceaselessly seek a final, complete solution that would bring together the energy of the civic operation and the precision of the religious proposition. The regimes that we call “totalitarian” are those capable of bringing together the most unbridled and terrible action with the most pedantic ideological and linguistic orthodoxy. Do we not see in such regimes the monstrous but altogether recognizable expression of the quest for such a final solution? Today in Europe, civic activity is feeble, the religious Word almost inaudible. Yet as we noted at the outset, the modern project continues. Is it merely running on its own inertia, or is the ceaseless quest that I have just described still going on? To answer that question, it may be useful to offer a description of Europe’s present situation concerning the relationship between speech and action. A frequent criticism of representative democracy or of parliamentary regimes is that they produce lots of talk but are incapable of action. Marx spoke of “parliamentary cretinism,” for example, and Carl Schmitt liked to cite Donoso Cortés’s sarcasms against the bourgeoisie, a clase discutidora—an “argumentative class.” In reality, however, a functioning representative democracy or parliamentary regime constitutes an admirable articulation of actions in relation to speech. During an electoral campaign, everyone proposes all sorts of imaginable actions, both possible and impossible. As soon as the election is over, those who have won the majority undertake to act according to their speech, while the minority, abstaining from action, must satisfy itself with talk in order to prepare for the next election. This transference back and forth of power, or the effective possibility of such transference, is essential to the mechanism. In Europe, this arrangement has weakened considerably and is now almost unrecognizable. We congratulate ourselves for the attenuation of party conflict while oddly treating transfers of power as matters of momentous importance. The political landscape has been leveled. The webs of feelings, opinions, and language that once made up political convictions have unraveled. It is no longer possible to gain political ground by taking a position. This is why all political actors tend to use all political languages indiscriminately. Political speech has become increasingly removed from any essential relation to a possible action. The notion of a political program, reduced to that of “promises,” has been discredited. The explicit or implicit conviction that one has no choice has become widespread: what will be done will be determined by circumstances beyond our control. Political speech no longer aims to prepare a possible action but tries simply to cover conscientiously the range of political speech. Everyone, or almost everyone, admits that the final meeting between action and speech will be no more than a meeting of independent causal chains. The divorce between action and speech helps explain the new role of political correctness. Because speech is no longer tied to a possible and plausible action against which we might measure it, many take speech as seriously as if it were itself an action and consider speech they do not like equivalent to the worst possible action. Offending forms of speech are tracked down and labeled, in the language of pathologists, “phobias.” The progress of freedom in the West once consisted of measuring speech by the standard of visible actions; political correctness consists of measuring speech by the standard of invisible intentions. The features of our political situation that I have highlighted are found in all Western countries but in an especially pronounced form in contemporary Europe. In Europe, what we say as citizens no longer has any importance, since political actions will be decided at some indeterminate place, a place we cannot situate in relation to the standpoint from which we speak. Everyone knows that the most solemn speech that a people can formulate, a vote by referendum, is a matter of indifference for the European political class, which charges itself with the responsibility of leading the necessary process of the “construction” of a united Europe. The supposed necessity of this process discredits and invalidates all political speech in advance. If this process continues—the financial crisis of the euro has put extraordinary pressure on it—we will soon leave behind the regime of representative government and return to one of speechless commandment. The commandment will no longer be that of the state, which at least occupied a place of a certain elevation, but that of regulations. We do not know the source of regulations—only that we must obey them. With the end or the weakening of the representative regime, which once joined actions and speech in the national framework, the modern political order is approaching the end of its journey. We are witnessing a deeper divorce between the movement of civilization and our political arrangements. The increasingly complex and constraining character of ordinary life and the tighter network of regulations that we obey with ever-greater docility must not blind us to the increasing uncertainty—the increasing disorder—in the shape of our common life. We are going forward on thinning ice. In fact, we may be returning to a situation of political indetermination comparable, in a sense, with what preceded the construction of modern politics. Yet there is a major difference. During the premodern era, competing political forms—the city, the empire, and the Church—checked one another, so it was necessary to create the unprecedented form of the nation. Today, the situation is reversed. What we find is not an excess, but a dearth, of political forms. At least in Europe, the nation is discredited and delegitimized, but no other form is emerging. What is more, the reigning opinion, practically the sole available opinion, has been hammering into us for 20 years the idea that the future belongs to a delocalized and globalized process of civilization and that we do not need a political form. Thus, the need for a political joining of speech to action has been lost to view. Technical norms and legal regulations are supposed to suffice for the organization of common life. Europe produced modernity—and for a long time, Europe was the master and possessor of modernity, putting it to the almost exclusive service of its own power. But this transformative project was inherently destined for humanity as a whole. Today, Bacon and Descartes rule in Shanghai and Bangalore at least as much as in London and Paris. Europe finds itself militarily, politically, and spiritually disarmed in a world that it has armed with the means of modern civilization. Soon it will be wholly incapable of defending itself. It has already been incapable of speaking up for itself for a long time, since it confuses itself with a humanity on the path to pacification and unification. By renouncing the political form that was its own and by which it had attempted, with some success, to resolve the European problem, Europe has deprived itself of the means of association in which its life had found the richest meaning, diffracted in a multiplicity of national languages that rivaled one another in strength and in grace. What will come next?