الأربعاء، 2 يناير 2013

العهد الجديد، أو : ربيع الشرق

بقلم جبران خليل جبران

في الشرق اليوم فكرتان متصارعتان : فكرة قديمة وفكرة جديدة . أما الفكرة القديمة فستغلب على أمرها لأنها منهوكة القوى محلولة العزم . وفي الشرق يقظة تراود النوم ، واليقظة قاهرة لأن الشمس قائدها والفجر جيشها . وفي حقول الشرق، ولقد كان الشرق بالأمس جبّانة واسعة الأرجاء، يقف اليوم فتى الربيع منادياً سكان الأجداث ليهبوا ويسيروا مع الأيام . وإذا ما أنشد الربيع أغنيته بُعث مصروع الشتاء وخلع أكفانه ومشى. وفي فضاء الشرق اهتزازات حيّة تنمو وتتمدّد وتتوسّع وتتناول النفوس المتنبهة الحسّاسة فتضمّها إليها ، وتحيط بالقلوب الأبيّة الشاعرة لتكتسبها. وللشرق اليوم سيّدان : يأمر وينهى ويطاع ولكنّه شيخ يحتضر، وسّيد ساكت بسكوت النواميس والأنظمة ،هاديء بهدوء الحق ، ولكنه جبار مفتول الساعدين يعرف عزمه ويثق بكيانه ويؤمن بصلاحيته. في الشرق اليوم رجلان : رجل الأمس ورجل الغد، فأي منهما أنت أيها الشرق؟ ألا فاقترب مني لأتفرّسك وأتبصرك وأتحقق من ملامحك ومظاهرك ما إذا كنت من الآتين إلى النور أو الذاهبين إلى الظلام. تعال واخبرني ما أنت ومن أنت ؟! أسياسي يقول في سرّه ” أريد أن أنتفع من أمتي”؟ أم غيور متحمس يهمس في نفسه : ” أتوق إلى نفع أمتي “؟ إن كنت الأول فأنت نبتة طفيلية وإن كنت الثاني فأنت واحة في صحراء. أتاجر يتخذ عوز الناس وسيلة للربح والانتفاخ فيحتكر الضروريات ليبيع بدينار ما ابتاعه بدرهم ؟ أم رجل جدّ واجتهاد يسهل التبادل بين الحائك والزارع ويجعل نفسه حلقة بين الراغب والمرغوب ، فيفيد المرغوب والراغب ويستفيد بعدل منهما؟ إن كنت الأول فأنت مجرم سكنت القصور أو السجون وإن كنت الثاني فأنت محسن شكرك الناس أو جحدوك. أرئيس دين يحوك من سذاجة القوم برفيرا لجسده، ويصوغ من بساطة قلوبهم تاجاً لرأسه، ويدّعي كره إبليس ويعيش بخيراته ؟ أم تقي ورع يرى في فضيلة الفرد أساساً لرقي الأمة, وفي استقصاء أسرار روحه سلماً إلى الروح الكلي ؟ إن كنت الأول فأنت كافر ملحد صمت النهار أو صليت الليل وإن كنت الثاني فأنت زنبقة في جنة الحق ضاع أريجها بين أنوف البشر أو تصاعد حراً طليقاً إلى الغلاف الأثيري حيث تحفظ أنفاس الأزهار. أصحفي يبيع فكرته ومبدأه في سوق النخاسين وينمو ويترعرع على ما يفرزه الاجتماع من أخبار المصائب والويلات، ونظير الشوحة الجائعة لا تهبط إلا على الجيف المنتنة ؟ أم معلم واقف على منبر من منابر المدنية يستمدّ من ماتي الأيام مواعظ يلقها على الناس بعد أن يتعظ بها هو نفسه ؟ إن كنت الأول فأنت بثور وقروح وإن كنت الثاني فدواء وبلسم. أحاكم يتصاغر أمام من ولاّه ويستصغر من تولّى عليهم ، فلا يحرك يداً إلا ليضعها في جيوبهم، ولا يخطو خطوة إلا لمطمع له فيهم ؟ أم خادم أمين يدير شؤون الشعب ويسهر على مصالحه ويسعى إلى تحقيق أمانيه ؟ إن كنت الاوّل فأنت زوان في بيادر الأمة. وإن كنت الثاني فأنت بركة في أهرائها. أكاتب بحّاثة يشمخ برأسه إلى ما فوق رؤوسنا أمّا ما في داخل رأسه فيدب في هوة الماضي الغابر حيث ألقت الأجيال ما رثّ من أثوابها، ورمت ما لم يعد صالحاً لها ،أم فكرة صافية تتفحص محيطها لتعليم ما ينفعه وما يضرّه فتصرف العمر في بناء النافع وهدم المضر؟ إن كنت الأوّل فأنت سخافة مطرّسة وبلادة مزركشة وإن كنت الثاني فأنت خبز للجائعين وماء للظامئين. أشاعر أنت يضرب الطنبور أمام أبواب الأمراء وينثر الأزهار في الأعراس ويسير وراء الجثث الهامدة وبين فكيّه إسفنجية مثقلة بالماء الفاتر حتى إذا ما بلغ المقبرة ضغط عليها بلسانه وشفتيه، وفي يده قيثارة يستولدها أنغاماً علوية تجذب قلوبنا وتوقفنا متهيبين أمام الحياة وما في الحياة من الجمال والهول؟ إن كنت الاوّل فأنت من المشعوذين الذين لا ينبهون في نفوسنا سوى عكس ما يقصدون ، فإن تباكوا نضحك ، وإن مرحوا نكتئب وإن كنت الثاني فأنت بصيرة مشعشعة وراء بصرنا، وشوق عذب في قلوبنا ، ورؤيا ربأنية في غيبوبيتنا… أقول في الشرق موكبان : موكب من عجائز محدودبي الظهر يسيرون متوكأين على العصي العوجاء ، ويلهثون منهوكين مع انهم ينحدرون من الأعالي الى المنخفضات ، وموكب من فتيان يتراكضون كان في ارجلهم اجنحة ، ويهللون كان في حناجرهم أوتاراً ن وينتهبون العقبات كأن في جبهات الجبال قوة تجذبهم وسحرا ً يختلب ألبابهم . فمن أية فئة انت ايها الشرقي ّ وفي أي موكب تسير ؟ ألا فاسأل نفسك ، استجوبها في سكينة الليل وقد صحت من مخدرات محيطها عما اذا كنت من عبيد الأمس أم منأحرار الغد . أقول لك ان ابناء الأمس يمشون في جنازة العهد الذي اوجدهم واوجدوه . اقول انهم يشدون بحبل اوهت الأيام خيوطه ، فاذا ما انقطع – وعما قريب ينقطع - هبط من تعلق به الى حفرة النسيان . اقول انهم يسكنون منازل متداعية الاركان ن فاذا ما هبت العاصفة – وهي على وشك الهبوب – انهدمت تلك المنازل على رؤسهم وكانت لهم قبورا ً . اقول ان افكارهم واقوالهم ومنازعهم وتصانيفهم ودواوينهم وكل مآتيهم ليست سوى قيود تجرهم بثقلها ولا يستطيعون جرها لضعفهم . اما ابناء الغد فهم الذين نادتهم الحياة فاتبعوها بأقدام ثابتة ورؤوس مرفوعة . هم فجر عهد ٍ جديد ، فلا الدخان يحجب انوارهم ، ولا قلقلة السلاسل تغمر أصواتهم ، ولا نتن المستنقعات يتغلب على طيبهم . هم طائفة قليلة العدد بين طوائفٍ كثُر َ عددها ، ولكن في الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة ، وفي حبة القمح ما ليس في رابية من التبن . هم فئة مجهولة ن لكنهم يعرفون بعضهم بعضا ً ، ومثل قمم عالية يرى واحدهم الآخر ويسمع نداءه ويناجيه ، اما المغاور فعمياء لا ترى ، وطرشاء لا تسمع . هم النواة التي طرحها الله في حلقة ما فشقت قشرتها بعزم لبابها ، وتمايلت نصِــبــَـــة ً غضةً اما وجه الشمس ، وسوف تنمو شجرة عظمى تمتد عروقها الى قلب الأرض وتتصاعد فروعها الى اعماق الفضاء .