الأربعاء، 2 يناير 2013
الربيع العربي: منظومة ريفية مفقودة ومنظومة مدينية نابذة
غسان سلامة
في ما يلي نص المحاضرة التي القاها الوزير السابق غسان سلامة في حفل تسليم جائزة رفيق الحريري التذكارية لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية "الموئل" في مكتبة نيويورك العامة (28 أيلول 2012). ارسلها بالانكليزية وترجمتها الزميلة نسرين ناضر.
بعد بضعة أسابيع، وتحديداً في 17 كانون الأول المقبل، سنتذكّر شخصية أكثر بساطة بكثير، بائع خضار في بلدة سيدي بوزيد التونسية الصغيرة، أحرق نفسه مدفوعاً بيأسه، فأطلق حقبة من الانتفاضات غير المسبوقة في العالم العربي، والتي لم تنتهِ فصولاً بعد، وغالباً ما تُسمّى "الربيع العربي". بالنظر إلى الوراء، شعر البعض بأن بوادر هذه الانتفاضات تعود إلى عام 2005 عندما نزل مئات آلاف اللبنانيين إلى الشوارع للتظاهر ضد وضع باتوا يشمئزّون منه، بعدما شكّل اغتيال الحريري التجسيد بعينه لبلد أسيئت معاملته وتعرّض للخيانة واحتُجِز أسيراً وكاد يُغتال.
تتداخل السياسة والمخطّطات والاستراتيجيات مع تلك الأحداث التي تتلاحق منذ كانون الأول 2010، إلا أنه من التبسيط بمكان اختصار تلك الانتفاضات بأنها صراع على السلطة بين لاعبين محلّيين وخارجيين. لا شك في أن هناك تنافساً على السلطة والنفوذ يضع الحكومات والمذاهب والأيديولوجيات في مواجهة بعضها البعض، لكن ما نشهده يذهب أبعد بكثير من هذه النظرة الميكانيكية. صحيح أن كل حالة تختلف عن الأخرى، إلا أن هناك بعض السمات العامّة التي يمكن أن نستشفّها في مختلف أنحاء المنطقة.
فمن الواضح تماماً أن هناك ثورة ضد السلطوية. ظلّت الأنظمة العربية بمنأى عن موجة الدمقرطة الثالثة التي اجتاحت أوروبا الجنوبية وصولاً إلى أميركا الجنوبية، ومن هناك إلى أوروبا الوسطى والشرقية. فبدلاً من الالتحاق بذلك التحوّل الكوني، استطاعت السلطوية العربية أن تعيد اختراع نفسها وتتصدّى لموجة أتاحت لأوّل مرّة في التاريخ البشري، لأكثر من نصف الكائنات البشرية العيش في ظل نظام ديموقراطي. تبنّت غالبية واضحة من البلدان، لأول مرّة في تاريخها، سياسة تمثيلية، إنما ليس في منطقتنا من العالم، مما دفع ببعض الخبراء القليلي الصبر إلى التذمّر واستنباط النظريات حول ما سمّوه "الاستثناء العربي"، وهو في نظرهم نوع من المناعة الجينية التي تحول دون اعتماد السياسة الإشراكية.
ما يمرّ به العالم العربي الآن هو إلى حدّ كبير تتمّة متأخّرة لهذه الموجة، حيث تطالب الشعوب في تونس وسوريا، ومصر والبحرين، بمزيد من المشاركة السياسية، وتحصل أحياناً على ما تريد أو تقطف على الأقل الثمار الأولى لعملية الإصلاح وتُثبِت خطأ الكثير من النظريات القائمة. لكن هذا ليس سوى جزء من الحكاية. فالانتفاضات الحالية تعبّر أيضاً عن تمرّد شرائح واسعة من المجتمع ضد المستفيدين المحليين من العولمة.
في القاهرة وتونس، وفي دمشق كما في صنعاء، ضاق الناس ذرعاً بالإجراءات الاقتصادية التي أتاحت لنخبة محدودة مرتبطة بالحكومات الإفادة حصراً من منافع النمو الاقتصادي، مثل عمليات الخصخصة الوهميّة التي سيطر أزلام النظام من خلالها على مقدّرات البلاد والأملاك العامة من طريق المحسوبيات والخداع. لقد هتف المتظاهرون في الشوارع: "نعاني من يد النظام الثقيلة، والآن علينا أيضاً تحمّل يده القذرة". لهذا السبب ليست الانتفاضات الراهنة سياسية وحسب، بل إنها أيضاً أخلاقية بمعنى أن المشاركين فيها يطالبون بمزيد من الشفافية والمنافسة المفتوحة والمساواة في الوصول إلى الموارد. ونشهد أيضاً - وهذا يتعلّق في شكل خاص بعملكم أيها الزملاء في برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية "الموئل" - ثورة للأطراف على المراكز المدينية.
الأنظمة التي قامت مباشرةً بعد الاستقلال انطلقت إلى حدّ كبير من قاعدة ريفية، فصمدت بفضل الدعم من الفلاّحين وأبناء البلدات. لكن في الآونة الأخيرة، تخلّت معظم الحكومات العربية عن منظومة الدعم التقليدية التي كانت تتمتّع بها في المناطق الريفية وتحالفت مع الطبقات المدينية. كان المسؤولون التونسيون مسكونين بهاجس السياحة والصناعة على الخط الساحلي ولم يكترثوا للمناطق الداخلية؛ وأهمل المسؤولون السوريون طبقة الفلاّحين التي أصابها البؤس جرّاء الجفاف الذي ضرب البلاد لسنوات متوالية؛ ولم تُعِرْ حكومات أخرى اهتماماً لعجز القوّات المسلّحة والبيروقراطية عن استخدام أعداد متزايدة من الشباب من الأرياف. وتوافدت إلى الضواحي أعدادٌ هائلة من الأشخاص الذين نزحوا من الأرياف إلى أطراف المدن ليعيشوا في مدن صفيح غير شرعية ويستميتوا في البحث عن وظائف. أصبح حجم مدن مثل الإسكندرية وحلب وبغداد مضاعفاً أربع إلى خمس مرّات مقارنةً بما كان عليه قبل 30 أو 35 عاماً.
ينتمي معظم المشاركين في الأحداث الدرامية المتلاحقة، في جهتَي الانقسام السياسي، إلى هذه الطبقات الاجتماعية، ويشعرون جميعهم بالحنين إلى منظومة ريفية لم يعد لها وجود، وتُحبِطهم منظومةٌ مدينية غير مرحِّبة تُدهِشهم وتنبذهم في الوقت نفسه.
هنا تتدخّل ديناميّةٌ رابعة تقوم على سياسة الهويّة. كان للعشائرية الحيّز الأكبر في بداية الدراما الليبية وفي النهاية التي آلت إليها. والانقسامات المذهبية عامل أساسي في المسألة السورية أو البحرينية. للانتماء الإتني تأثير حادّ في كردستان كما في بلاد المغرب الأمازيغية. ولا شك في أن الدين يؤدّي في كل مكان بعضاً من، أو كلّ الوظائف الاجتماعية التي رآه فيها علماء الأنتروبولوجيا.
الدين عقيدة تتحرّك حول حقائق مطلقة ومتسامية لا تقبل الجدل. الدين لغة توحِّد وتُقسِّم، تثير الحماسة وتقود إلى التسامي، تشفي وتزوّد بالطاقة. الدين مؤسّسة تساعد وتنظّم، تؤطِّر المسائل وتحافظ على روابط اللحمة. وأخيراً وليس آخراً، الدين سوق حيث تتنافس قوى متخاصمة للحصول على حصّة في سوق الأرواح. في كل هذه الوظائف، يتقدّم الدين على كل الجبهات. إنه حاضر في الميدان الخاص كما الميدان العام، وفي العقول كما القلوب، وفي الكليشيهات السهلة كما العظات المتقنة، في أيدي الزعماء الدينيين كما أيدي المقاولين السياسيين، في التأمّلات الهادئة للصوفيين كما شعارات الجهاديين. غالباً ما يوصَف هذا الإلغاء الواسع للعلمانية في اللعبة السياسية بأنه "انتقام الله"، لكنني أرى بصورة خاصّة في هذه الظاهرة شكلاً من أشكال الانكفاء المحبَط على الذات، أي شكلا من القومية يسعى إلى إيجاد مكان له في الرمال المتحرِّكة للعولمة من دون أن تجتاحه بالكامل. وقد تقدّم الإسلاميون في شكل خاص إلى الواجهة كمشاركين في تلك الانتفاضات، وهنا وهناك، كمستفيدين من السياسة الانتخابية الجديدة. في معظم الأحيان، يواجه هؤلاء القادة الإسلاميون الجدد تحدّيات محض علمانية مثل الحفاظ على النظام العام، واستحداث وظائف، واحترام المعاهدات الدولية. ومع مرور الوقت، يكتشفون كم كان الأمر سهلاً عندما كانوا نخبة مضادّة، وكم هو متطلّب عندما أصبحوا نخبة حاكمة.
العنصر الخامس في الانتفاضات الحالية هو نقاشٌ مفتوح حول ما يجب أن تكون عليه حكومة شرعيّة. إذا سمحتم لي بإعادة كتابة ثلاثيّة فيبر، فسأقول إن الشرعية استندت إلى مبدأ الأصول: أنا أحكمكم لأنني أسّست هذه البلاد وتحمل اسمي أو لأنني قدتُ النضال من أجل الاستقلال أو لأنني خضت حرباً ضد إسرائيل. لقد أظهرت الأجيال الجديدة أنها لا تتأثّر كثيراً بهذه المزاعم والإنجازات. وفي حين أنها لا تُشكّك بمصدر الشرعية هذا، تضيف: ليس كافياً. ومن هنا إصرارها على شرعيّة لا تستند إلى الماضي وحسب إنما أيضاً إلى مكوّنات وظروف راهنة. عملياً، يعني هذا أنه يجب أن تنبع الشرعية من التمثيل وتستند إليه: يمكنك أن تحكمنا لأننا اخترناك حاكماً علينا. ويجب أن تنبثق الشرعية أيضاً من الإنجازات الحقيقية: يمكنك أن تحكمنا لأنك أثبتّ براعتك في إدارة المنافع العامّة.
في رأيي، لن تكون الشرعيّة المستندة إلى مزاعم الأمس كافية بالنسبة إلى الأجيال الجديدة من العرب لاعتبار الحكم مقبولاً. سوف يصرّون على أن تتمتّع الحكومات بتمثيل حقيقي وأن تقوم بإنجازات حقيقية. هذه هي، في رأيي المتواضع، الديناميات الأساسية للأحداث الدرامية التي تحصل هنا وهناك. لست ساذجاً للاعتقاد بأن هذا كلّه تحرّكه نيّات صافية وبريئة. لا شك في أن قوى خارجية وأخرى بعيدة وجهات إقليمية طامحة أدّت كلّها دوراً ما في هذه الدراما التي تتوالى فصولاً، كما تشهد الآتية إلينا من مجلس الأمن الدولي على بعد بضعة شوارع. لكن ومع إدراكي بأن كلامي هذا قد يعرّضني للانتقاد من الأميركيين ومن أعدائهم على السواء، أقول بوضوح إن دور أميركا في إطلاق هذه الأحداث وإدارتها أصغر بكثير مما يحلو لبعض الأميركيين الاعتقاد وأيضاً أقلّ مما يردّده معظم أعدائهم. إنها عملية محلّية المنشأ إلى حد كبير، تضخّمت وتفاقمت بفعل التشنّجات والخصومات الإقليمية، مع تأدية القوى غير الإقليمية، وبينها القوى العظمى، دوراً متواضعاً إلى حد بعيد مقارنةً بالماضي.
بالطبع، لا أحد بريء، ومن الطبيعي وسط هذه الدراما الشديدة المفتوحة على كلّ الاحتمالات، أن تتهافت معظم القوى في المنطقة والعالم للدفاع عن مصالحها وحلفائها المحلّيين بواسطة الأموال والأسلحة والدعم الديبلوماسي. تلك المنطقة من العالم ليست هامشيّة على الإطلاق، والمادّتان الأشهر اللتان تصدّرهما شديدتا الاشتعال: النفط والأنبياء. ولذلك تنجذب القوى الخارجية إليها لأسباب تتعلّق بالدفاع عن النفس والمخطّطات الإمبريالية، ولا يمكنها تالياً أن تبقى لامبالية إزاء ما يحدث. في بعض الأماكن مثل ليبيا، أثّرت تلك القوى في النتيجة عبر التعجيل في بلوغها؛ وفي أماكن أخرى مثل اليمن أو سوريا، كان تدخّلها محدوداً، عن خيار منها أو بحكم الضرورة إنما حكماً ليس بدافع اللامبالاة.
لكنني أعتقد أن دورة عدم الاستقرار التي يبدو أنها ستستمرّ لسنوات عدّة، والتي لم تبلغ بعد نطاقها الجغرافي الكامل وربما لم تصل بعد إلى الذروة، ستتوقّف أكثر على طبيعة الانتقال، والشكل السلمي أو العسكري للانتفاضة، ونوعية الأشخاص الذين سيقودون عمليّات الانتقال السياسي، والدور الذي ستؤدّيه القوّات المسلّحة، والمنافسة المفتوحة بين الصعوبات الاقتصادية والاستقرار السياسي، أكثر منها على التدخّل من خارج المنطقة. ما علاقة فيلم رهيب أنتجه شخص غامض في كاليفورنيا وأثار ردود فعل دموية، بهذا كلّه؟
خلافاً لكثر، لا أرى رابطاً قوياً ما عدا الميل الذي لا يمكن ردعه لدى عدد كبير من اللاعبين والذي يدفعهم إلى أن يحاولوا أن يستخدموا بطريقة انتهازية كل ما هو متاح لهم لتحويل الانتباه عن المسائل الحقيقية التي يواجهونها.
بيد أن الشعور بالإساءة إزاء المسّ بما يعتبره المرء من المقدّسات، أمر طبيعي ومشروع، وعلى الأسرة الدولية أن تتوصّل إلى نوع من التوفيق بين احترام المقدّسات واحترام حرّية التعبير. إننا نواجه فعلاً ما يمكن تسميته صدام المعايير: البعض يصبّون اهتمامهم كاملاً على الفرد، والبعض الآخر مسكون بهاجس المجتمع؛ البعض يدعمون الحرّية دعماً مطلقاً فيما يدافع البعض الآخر عن الأشكال الدنيا من الاحترام المتبادل. ليس لصدام المعايير منتدى حيث يمكن مناقشته بصورة علنية، ولا أعلم في الوقت الراهن بوجود أي منظمة مجهّزة ومنكبّة على النظر مباشرةً في صدام المعايير، بدلاً من صدام الحضارات، ولا أرى أيّ محاولة جدّية لإيجاد حل لهذا المصدر الأساسي للتشنّج في الشؤون العالمية. لذلك نحتاج في هذا الإطار إلى منتدى دولي مناسب، وإلى التحلّي بالعزم لمعالجة المسألة، والسعي بصدق لوضع مدوّنة سلوكية نتقيّد بها جميعنا.
لكن من أجل تحقيق ذلك، نحتاج إلى رؤيويين، كما في إعادة إعمار البلدان والمدن. لست واثقاً من أنهم موجودون بأعداد كبيرة في الوقت الراهن. لكنني أدعوكم، إلى التفكير في أفضل الطرق لإعادتهم إلى حياتنا العامة.