الأربعاء، 2 يناير 2013

هل يمكن حماية الثورات؟


منى فياض - لبنان بداية أود التعليق على تعبير "نحن كمثقفين". من نحن هذه؟ في ظل التغيرات الجذرية الحاصلة هل يشكل المثقفون جسماً واحداً متجانساً ينفعل ويتخذ مبادرات او مواقف متماثلة تجاه حدث او قضية او ما شابه؟ للمثقفين اتجاهات ومواقف وآراء متباينة ومتناقضة ومتعارضة، فهم ليسوا كتلة متراصة على غرار الاحزاب الدينية الفاشية السائدة. لكن يظل للتساؤل مبرره، إذ إن سؤالاً فرض نفسه تجاه الاحداث الاخيرة في مصر: ما هو موقف الجسم القضائي من قرارات الرئيس المصري؟ هنا قد لا ننتظر اجابة واحدة من هذا الجسم بل متعددة وقراءتنا لها هي التي تسمح ببلورة موقف او بتوضيح الصورة. من هذا المنظار يحق طرح السؤال نفسه عن المثقفين. الطبيعي في الحالتين، وفي غيرهما، بروز التعدد في الاتجاهات أو حتى تناقضها. غالباً ما كان المثقفون - ويكونون- مع السلطة. من هنا صفة "مثقفي السلطان". المثقفون الذين كانوا مع الضعفاء في التاريخ قلة. برهنت الثورات العربية أن المثقف العربي بشكل عام، ما عدا قلة قليلة، لم يكن في الطليعة؛ ونجوم الثقافة وابطالها لم يتوقعوها. على الأقل في ما يخص المثقف - النجم التقليدي. بيّن الحراك الحاصل منذ بدايات العام 2011 ان الفئات الشابة المتعلمة والمعولمة من الطبقة الوسطى هي الوسيط المحرك الذي ساعد على تفجير الثورات وليس المثقف التقليدي، الذي ربما أخّر أو حتى أعاق تطوير آليات مساعدة على التغيير. الكثير منهم كان قد التحق بالأنظمة البائدة واستفاد من فنادقها وجوائزها ودافع عنها. بلغ تزيين الاستبداد والدفاع عنه حد اختراع صفات للتخفيف من بؤس العيش تحت سلطانه الغاشم، من مثل القبول بالمستبد لعلمانيته هرباً من الاصوليات (المضحك المبكي أن من يدافع عن علمانية مثل هذه الأنظمة هو نفسه من يدافع عن حركات أصولية في سياق آخر مقاوم!). أو اللجوء الى الشعار المخاتل مثل الممانعة وما شابه. المرحلة الراهنة لم تعد مرحلة "المثقف النجم" التي يمثلها بامتياز أدونيس وكلنا يعلم مواقفه ومهادنته الطويلة للنظام "العلماني"، "العلوي" للمناسبة، واستسهال انتقاد الله والدين لسهولة النجاة من القصاص (الدنيوي مثلا!) والامتناع عن توجيه أي نقد علني للنظام المستبد. إذاً هذه المرحلة ليست مرحلة "المثقفين النجوم" الذين فقدوا دورهم وبريقهم مع ذهاب الأنظمة الحاكمة. لا دور للمثقفين الآن إلا بمقدار انتمائهم الى التحرك الثوري الجاري في العالم العربي والمساعدة على التخلص من آثار المرحلة الماضية والنضال المتواصل ضد المستبدين الجدد المختبئين تحت عمامة الدين، وتحمل تبعات ذلك. الانحياز الى الشعوب التي برهنت عن طفرة من الوعي غير المسبوق، يفرض نفسه هنا، بعدما اعتبرت طويلاً ميؤوساً منها وبعدما برزت تنظيرات سادت لبرهة من الزمن عن "العقل العربي" الجامد بتكوينه. والانحياز الى الجيل الشاب الذي استوعب معنى الحق في المطلق، الحق في الحرية والحق في الكرامة بمعناها الانساني الشامل، أي الحق في التمتع بالحقوق الانسانية الأساسية بحسب ما تنص عليها شرعة حقوق الانسان. والحق في الحرية بمعناها الرمزي والفعلي. الأرجح أن يبلور هذا الجيل الأمور بطريقة خلاقة تتخطى القيم التقليدية المعيقة في الثقافة العربية. الجديد المهم على الصعيد الثقافي أن حركات الاحتجاج الشعبية اثبتت الشرعية الاخلاقية والاستراتيجية للنضال غير العنفي. الجماهير استفادت من تجارب الشعوب. ففي وقت نجد الكثير من "مثقفينا" يدافعون عن النظام الوحشي الدموي في سوريا ومن خلفه حليفته إيران لمصالح غالباً ما تكون مادية ضيقة، نجد أن الشعوب العربية استفادت من تجربتها مع حكامها الذين امتهنوا كرامتها ووجودها من خلال قوانين "طوارئ" دامت لعقود وعقود! لذا نجد أن الشعب المصري العظيم الذي على أكتافه سوف يتحدد مصير الثورة المصرية ومستقبل الثورات العربية، لم تنطل عليه حيل الرئيس "الإخواني" في أنه يطلب السلطات شبه الإلهية لفترة آنية. سلطت قرارات الرئيس مرسي المفاجئة وإعلاناته الدستورية الضوء على مدى هيمنة جماعة "الإخوان" على آلية صنع القرار السياسي في البلاد، وتسبب إصرار الجماعة على إجراء الاستفتاء على مسوّدة دستور غير توافقية، موجة رفض عارمة خوفاً من أجندة الجماعة الضمنية وانعدام الثقة في مدى قبولها بدولة مدنية ديموقراطية تستوعب تنوع المجتمع المصري بكل مكوناته، ما يهدد بتغيير هوية مصر التعددية فتصبح دولة دينية تخفي تحكم "ولاية المرشد" على شكل "ولاية الفقيه" في النموذج الشيعي الإيراني. يبدو إن هذا أكثر ما يخيف المصريين، أن يغمضوا أعينهم ويفتحوها ليجدوا أنفسهم تحت نظام إسلامي متطرف من النوع الذي شكله آية الله الخميني في إيران منذ 33 سنة. والذي لم ينتخبه الشعب الإيراني رئيسا أو مرشدا أعلى. كان قد وعد الناس أنه سيترك السلطة للشعب بعد نجاح الثورة وسيذهب إلى قم لمتابعة مهنته في التدريس هناك. لكن ما حدث أنه بقي في السلطة ومنح نفسه صفة "الولي الفقيه". الثورة الإيرانية لم تنفذ وعودها. وعلى غرار ما يفعل "الاخوان" في مصر، تم إعداد الدستور في إيران بسرعة ولم يجد الناس المتحمسون فرصة كافية لقراءته بعناية، والذين قرأوه وأرادوا أن يعبّروا عن آرائهم المختلفة كانوا يعتبرون معادين للثورة. الدستور الإيراني بعد الثورة كتبه أنصار الخميني، وكان الخيار الوحيد المتاح للناس أن يصوتوا بـ"نعم" أو "لا" على الدستور. لم يكن هناك مجال لاقتراح أي تغييرات. وبعدما نجح الدستور في الاستفتاء بنسبة 99 في المئة أمر الخميني باعتقالات وإعدامات على نطاق واسع بهدف تصفية وتشتيت المعارضين للثورة الذين تجرأوا على النزول إلى الشارع للاحتجاج على زيادته لسلطاته. كانت الثورة في إيران إنجازا حققته جماعات مختلفة اتحدت على هدف واحد، كما حدث في مصر، وهو إطاحة الاستبداد. لكن سرعان ما اختُطفت الثورة واستغل الخميني محبة الناس له للتخلص من معارضيه وتأسيس أول حكومة إسلامية متطرفة في المنطقة. وهذا ما يحاول تكراره الرئيس مرسي. ثم ما قيمة دستور لا يؤمن استقرارا للبلاد؟ وما قيمة دستور يقسم المصريين؟ والأخطر ماذا سينتج من الاستفتاء من عدم استقرار وعنف؟ لكن المصريين تعلموا الدرس وهم واعون تماماً أن ثورتهم لم تنته بمجرد إجراء انتخابات رئاسية ديموقراطية. وهم يرفضون الادعاء بأن الصلاحيات المطلقة التي يطلبها "آنية" فقط، لأنهم صاروا يعرفون تماماً أنه لا يوجد ديكتاتور موقت. كل الحكام المستبدين زعموا أنهم مضطرون الى إجراءات استثنائية بشكل موقت ثم استبدوا بالسلطة الى الأبد. من إيجابيات الانقضاض السريع والشراهة الاخوانية للهيمنة على مصر، أن هذه الممارسات تقدم نموذجاً لما يمكن أن تسفر عنه ممارسات القوى الإسلاموية في دول الربيع العربي في مرحلة التحول الديموقراطي وبناء مؤسسات الدولة، التي تعني لهم عملية بناء دولة تسلطية باسم الدين الاسلامي، تؤمن بالانتخابات وتحترم نتائج الصندوق من دون أن تحترم بقدر مماثل حقوق الأقليات، والفصل بين السلطات. إنها ممارسة شكلية للديموقراطية جوهرها فرض الإذعان والقبول بدستور هو محل خلاف لكنه يؤسس لدولة إسلامية على غرار دولة "ولاية الفقيه"، من خلال استخدام براغماتي لأدوات ديموقراطية، ولغة مزدوجة، ووعود فارغة وفهم مغلوط لمفهوم الأغلبية نفسه بحيث يساء تفسيره. من حق الأغلبية إدارة الحكومة إذا فازت، لكن لا يحق لها أن تفرض أحكامها على الجميع. هناك فارق شاسع بين الحكم والحكومة. تستطيع الأغلبية إدارة الشؤون العامة المتغيرة وفق أنظمة ثابتة. وهنا الفارق بين الجماعات الفاشية والديموقراطية. الأغلبية في نظام ديموقراطي تدير شؤون الدولة في إطار نظام يقوم على توازن السلطات، ووفق الدستور الذي يفترض أنه توافقي ويمنح الجميع الحقوق نفسها ويحمي الأقليات وكل القوى التي يتشكل منها المجتمع. أمام ممارسات "الاخوان" يصبح من الطبيعي ان ينقسم المجتمع المصري حول نزعة الانفراد والهيمنة للإسلامويين، وان تتضخم مخاوف القوى المدنية والمسيحيين من احتمال أن تكون الانتخابات التي أتت بالرئيس مرسي هي الأخيرة. لكن مناخ الربيع العربي وانطلاق سيرورة التغيير العميقة يمنعان تكرار تلك النماذج. إن الطبقة الوسطى العريضة والقوى الشبابية النشطة التي راكمت خبرات نضالية خلال معاركها خلال العامين المنصرمين، يضاف إليها إعلام قوي مستقل عن الدولة، ونظام قانوني وقضائي مستقر ونخبة قضائية ذات تكوين مهني عريق، قادرة على النضال الطويل من أجل حماية الثورة. غلطة "الإخوان" تأتي من عدم إدراكهم أن مصر قد تغيرت وانتقلت خطوات بعد الثورة في اتجاه الحرية والكرامة الإنسانية على مستوى الإحساس الداخلي عند كل فرد. انها معركة مستقبل مصر بين "الإخوان" وبقية الوطن. ومن ينتصر في هذه المعركة سيرسم ملامح مصر المستقبل. وهذا ما سوف يؤثر في مختلف أنحاء العالم العربي. على كل حال يبدو أن لممارسات "الاخوان" في مصر إيجابية الدفع نحو استيلاد الكتلة المدنية الليبيرالية في وجه ممارسات الاستبداد العائدة باسم الدين. وإظهار أن قوة هذه الكتلة لا تأتي من تنظيمها، بل من قوة تمثيلها الفعلي لأكثر من نصف الشعب الذي ما عاد يرضى لا بالديكتاتورية العسكرية ولا بالديكتاتورية الدينية. هذا النصف يتضمن أيضاً المتدينين الاسلاميين المنفتحين والمعتدلين الذين يريدون إسلاما ليبيراليا يعتمد الفكر المتسامح والمنفتح. وكلما تبلور وعي هذه الفئات بنفسها ككتلة تاريخية ذات وزن وحاولت تنظيم نفسها وبلورة برامجها السياسية الموحدة ورؤيتها المشتركة، نجحت في تغيير التاريخ والتعجيل في بلوغ أهداف الثورات التي اندفعت مثل طوفان في العالم العربي، والتي ستنتصر على المديين المتوسط والطويل مهما تكن الأكلاف. النموذج البطولي السوري النادر ماثل أمام أعيننا.