ما لا يعرفه غير الشيعة من اللبنانيين (لا بل ولعل غالبية الشيعة الحزبيين لا تعرفه أيضاً) هو أن معظم مراجع الشيعة من كبار المجتهدين في قم والنجف ترفض نظرية ولاية الفقيه العامة وتعتبرها نظرية فقهية، لا اعتقادية، أي إنها من الأحكام التدبيرية التنظيمية التفصيلية التي اختلف ويختلف حولها المسلمون الشيعة منذ زمن غيبة إمامهم الثاني عشر محمد بن الحسن (المهدي).. وغالبية مراجع الشيعة اليوم لا تعتقد بما يسمى ولاية الفقيه العامة كولاية أمر على المسلمين نيابة عن الإمام المعصوم ، فهم لا يقرون بالتالي لأي قائد أو مرشد كان بالولاية السياسية على أي أحد، ما لم يكن من خلال التفويض والتوكيل الشرعيين، أي من خلال الانتخابات الديموقراطية... هذا ما قرره علماء وفقهاء الشيعة على مر العصور والأزمنة وورد في أوضح تعبير حديث في كتاب المرجع المجتهد الشيخ حسين النائيني "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" الصادر عام 1909. وهو الخط الذي واصله كبار مراجعنا في لبنان والعراق، والذي يقوم على مسلّمة منطقية تقول بأن الإسلام دين يفهمه الناس جميعاً بحسب سعتهم، وأن ما يدعو إليه الإسلام كدين هو ما تدعو إليه كافة النظم والقوانين والتشريعات الإنسانية؛ ذلك أن الأسس القانونية لكل النظم البشرية واحدة متشابهة لوحدة الطبيعة الإنسانية وتشابه العلاقات الاجتماعية. والدين بحسب فهم علمائنا الكبار (موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله ومحمد جواد مغنية على سبيل المثال لا الحصر) يُعنى بالإنسان أولاً لا بالنظم والحكومات، ويحتفي بالضمير أكثر من اهتمامه بالقواعد القانونية التي هي من مسؤولية البشر ومن صناعتهم.
وقد رأى علمائنا الكبار رحمهم الله بأن الإسلام دين الفرد والمجتمع، لا دين النظام والحكومة، والاسلام دين الأمة لا دين الدولة كما يرد في بعض الشعارات، وبالتالي فإن ولاء الشيعة السياسي هو أولاً وأخيراً لأوطانهم وبلدانهم ودولهم وليس لأي سلطة خارج هذا الاطار الشرعي الوطني..
وفيما يخص وضعنا اللبناني فإن تحويل مسألة ولاية الفقيه إلى قضية اعتقادية (أي الزعم أنها من صلب ما يؤمن به المسلم الشيعي ويُسلِّم بأنه من أصول الدين وأركانه) كما حاول البعض أن يزعم ويقرر جهلاً أو استحماراً للناس، يضرب دستور الوطن وثوابت عيشه المشترك والمواطنة والديموقراطية والحرية، إذ إنه يرفع سيف الإرهاب والتكفير بوجه كل من رفض ويرفض ولاية الفقيه، وهم في الحقيقة والواقع الأغلبية العظمى من المراجع والعلماء عند الشيعة في إيران ولبنان والعراق وبقية البلدان، وعلى مر العصور.
وقد ساد في زمننا الحاضر (لدى السنة والشيعة على السواء) منطق (أو لا منطق) أخرق أرعن لا يقيم وزناً للأوطان والبلدان ولا للدول والكيانات السياسية ولا للحرية والديموقراطية ولا حتى للعقل الديني ولتراث الأئمة والصحابة والسلف الصالح من علماء المسلمين، فيلجأ إلى التعبئة المذهبية والشحن الغوغائي وتعميم معتقدات وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان هي أقرب إلى التشبيح والبلطجة الفكرية والدينية... ومن هنا واجب وضرورة أن نوضح للملأ بأنه صحيح أن أئمة أهل البيت عليهم السلام كانوا أولى الناس بالخلافة، إلا أن ذلك لا يدفع المسلم الشيعي إلى القول ببطلان أو كفر كل من خالفهم في عقيدة أو فقه أو موقف سياسي ناهيك عن القدح والذم والشتم التي هي من المحرمات على المسلم أصلاً. وعلينا في هذا المجال أن نقتدي بكلام وسلوك أئمتنا ، لا بالعنعنات والروايات التعبوية التحريضية، وأن نحض على دراسة التاريخ دراسة علمية موضوعية لأخذ العبر والاستفادة من التجارب ولرفض عملية استخدام الذاكرة الانتقائية لتبرير التحريض على الحرب الأهلية أو الفتنة.. فلسنا أكثر إسلاماً من محمد وصحابته وأهل بيته، ولا أشد تشيعاً من علي وأبنائه وأحفاده من الأئمة الميامين...
أما التقية التي دعا إليها أئمة أهل البيت فهي من التقوى في الشأن العام بهدف اتقاء الأذى الفردي والجماعي وحفظ وحدة المجتمعات الاسلامية.. وهي بلغة العصر تعني اندماج الشيعة في أوطانهم ومجتمعاتهم اندماجاً كاملاً، وعدم تمييز أنفسهم بأي خصوصية تفرقهم عن بقية المواطنين، وإنما المشاركة الكاملة المتساوية مع إخوانهم في الوطن.
وهذه المعايشة في الوطن تستلزم حتماً أن نرفض القول ببطلان عقائد الآخرين من إخواننا المواطنين الذين هم "إما أخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخلق" (بحسب قول علي)، فالدين حق لكل إنسان الاعتقاد به كيفما يشاء، على القاعدة الملزمة الواردة في آية ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ "، وآية ﴿فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ "، وآية ﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وعلى مبدأ الرسول الكريم الذي جاء في آية ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾. وبالتالي فنحن نؤمن بأن الله يحكم بيننا يوم القيامة. وندعو المسلمين والمسيحيين كافة إلى عدم الانشغال بمناقشة القضايا التاريخية، أو اللاهوتية، ونطالبهم بالتفاعل مع قضاياهم المعاصرة والعمل من أجل مستقبل أوطانهم وتحرر بلادهم وعزة شعوبهم ورفاههم...