البروفسور انطوان مسّره
ماذا تعني الدولة في إدراك اللبنانيين من منظار علم النفس؟ يسمح الغوص في الجذور الذهنية للفكر والسلوك في لبنان بالتشخيص والتحليل والمعالجة، بالمعنى الطبي، وعلى الأقل بالحد من استغلال البنيات الذهنية في التنافس والتعبئة النزاعية.
تدور ابحاث ومناقشات ومطالبات دائمة من مختلف اللبنانيين الذين يُجمعون قولاً، وبالرغم من اختلافاتهم، على الحاجة الى بناء الدولة القوية. وتُجمِع السجالات بخاصة منذ 1975 على الاعتبار أن لبنان مجتمع لادولة او الدولة الضعيفة دون تعريف مفاهيم القوة والضعف لدى الدولة.
-1- الدولة السلطوية في اللاوعي اللبناني
الصورة في اللاوعي اللبناني عن الدولة هي الصورة السائدة في المنطقة حيث يطغى منطق القوة: منطق القوة الاسرائيلي الذي هو في اساس البناء الصهيوني تحت ستار رفع الظلم عن يهودية مضطهدة، ومنطق القوة في مجتمعات عربية لا تندرج في قمة سلم الديموقراطية حسب المعايير الدولية او هي في حالة تحول ديموقراطي.
الدولة في طبيعتها الصرف هي قوة قمع حيث ان صفتها الاساسية احتكار القوة المنظمة. ما يجعل الدولة ديموقراطية خضوع قوتها الى القانون حيث القوة في خدمة العدل والمصلحة العامة. أما الدولة القوية بذاتها in se والتي ينتظرها الناس كشقة مفروشة مع مفاتيحها فهي دولة قمعية سلطوية او دولة استعمارية من صُنع الآخرين.
النمط السلطوي للدولة هو الراسخ في علم النفس التاريخي لدى اللبنانيين حيث كانت الدولة تاريخياً جسماً غريباً مُحتلاً او مُستعمراً او مُنتدباً. الدولة في الادراك النفسي التاريخي لدى اللبنانيين ما زالت بابا عالياً خارجياً Sublime Porte. واستمرت الصورة الذهنية هذه بعد استقلال 1943 بخاصة بسبب الاستمرار في تعليم تاريخ لبنان بمنمطات استعمارية بالرغم من زوال الفترات الاستعمارية والانتدابية السابقة.
الدولة في علم النفس اللبناني جسم خارجي غريب! تُعبّر عن ذلك حالات عديدة يومية في اقوال الناس. يُخبر الدكتور نواف كباره انه كان قادماً مناً طرابلس ووجد سائقاً يقود سيارته في اتجاه معاكس. قال له محذراً: انت مخالف! اجابه السائق: ليش في دولة! هذا القول للسائق هو مُعبّر عن علم نفس الدولة لدى اللبنانيين. ما علاقة الدولة بهذا اللبناني (ولا اقول مواطن) الذي يُخاطر بحياته في اتجاه معاكس على اوتوستراد والذي يعتبر ان كل الامور جائزة طالما ان الدولة بالنسبة اليه هي قمع؟
وتستمع احياناً الى موظف متقاعد في ادارة عامة عمل كمدير عام طوال اكثر من ثلاثين سنة ينتقد "الدولة" وكأنه هو غريب عن المؤسسات الرسمية وعن المؤسسة الرسمية بالذات التي كان مديراً عاماً لها ويتقاضى منها مالاً عاماً.
او تستمع الى لبناني في قرية ينتقد الفساد في "الدولة" لان موظف بلديته يُمارس الغش في عيار المياه، ما يعني ان الدولة في تصوره ليست مجموعة مؤسسات، بل سلطة احادية قمعية عليا تُمارس الحكم على كل المستويات فلا مجلس نواب لمراقبة الحكم، ولا قضاء، ولا مجلس شورى، ولا تفتيش اداريا، ولا محافظين...
-2- الضبابية في المضمون
تكتنف الضبابية لبنانياً مفهوم الدولة. يظهر ذلك من خلال استعمال الناس لكلمة "دولة" في كل الشؤون دون استثناء. في حال خالف عامل في البلدية انظمة البلدية يُقال: "ما في دولة". وفي حال تعثرت معاملة في وزارة الاشغال ولم تأخذ طريقها الصحيح يقال: "وين الدولة؟" واذا كان مستوى التعليم في مدارس رسمية سيئاً يقال: "ما في دولة"...
يدرس اللبنانيون في كليات حقوق (او بالأحرى كليات قانون) مبدأ فصل السلطات. لكنه لم يتأصل في الادراك اللبناني ان الدولة الديموقراطية متمايزة الوظائف والسلطات، لذلك يستعمل اللبنانيون، بخاصة في برامج متلفزة، لكل شاردة وواردة كلمة "دولة" التي يتذمرون من غيابها. يقضي المنطق حصر استعمال عبارة دولة في الشؤون المسماة ملكية droits régaliens اي في اربع حالات:
1. عند اللجوء الى القوة المنظمة من قبل الجيش، الامن، القضاء.
2. عند فرض الضرائب: للدولة وحدها الصلاحية في فرض الضرائب وجبايتها.
3. في العلاقات الدبلوماسية بين الدول.
4. في بناء السياسات العامة.
في كل الحالات الاخرى يقتضي ذكر المسؤول وتحديده: مجلس النواب، الحكومة، وزارة الاشغال العامة او غيرها، الامن الداخلي، موظف البلدية... لكن غالباً لا يريد اللبناني الدخول في نزاع مع اعضاء مجلس بلديته الذين يعرفهم، ولا مع النائب الفلاني، ولا مع الوزير الفلاني الذي يعرفه... فيلقي التهم بالجملة ضد "الدولة" كجسم خارجي واحادي السلطة! ويتم تنظيم برامج حول الشفافية والمساءلة والمحاسبة... دون التطرق الى الجذور النفسية لدى اللبنانيين لمفهوم "الدولة" المتمايزة الوظائف وبالتالي المتمايزة في المسؤوليات.
-3- الهروب من الالتزام في الدولة الديموقراطية
كيف التوفيق بين الادراك النفسي اللبناني للدولة السلطوية الاحادية القوية بذاتها in se التي ينتظرها اللبنانيون دفاعاً عن سيادتهم ونوعية حياتهم اليومية ومستقبلهم، وبين تمسك اللبنانيين الغريزي بالحريات؟ بدلاً من التطرق الى اشكالية الدولة الديموقراطية، التي هي قوية ليس بذاتها بل بشرعيتها légitimité، اي بدعم المواطنين لها ومساندتهم، يلجأ باحثون ومُفكّرون واعلاميون في لبنان الى مختلف اشكال الهروب من خلال ابحاث تجريدية او قانونية شكلية.
تتطلب الدولة الديموقراطية ثقة بالقدرة المواطنية citizen power ومُشاركة ومُحاسبة ودعماً من لبنانيين مُواطنين. الدولة الديموقراطية هي عربة بدولابين: الاول دولاب السلطة المركزية، والثاني دولاب المجتمع. لا تسير العربة الديموقراطية الا بهذين الدولابين.
أضيفت على بُحوث ومُناقشات حول الدولة في لبنان صفتا الدولة القادرة والعادلة. لكن كيف تكون الدولة قادرة وعادلة في آن واحد؟ تُدخِل هاتان الصفتان شيئاً من اوتوبيا المدينة الفاضلة والمستبد العادل despote éclairé. تُظهر التجربة اللبنانية بالذات، بخاصة في العهود التي يعتبرها اللبنانيون في غالبيتهم مراحل تأسيسية، بخاصة عهد الرئيس فؤاد شهاب، ان الدولة التي تسعى الى القوة العادلة تواجه، بالرغم من كل ارادتها، عوائق عديدة من "اكلة جبنة" ومن "ذهنيات سائدة". هذا ما يقوله فؤاد شهاب في بيانه الشهير في 14 / 8/ 1970. وفي خضم الحروب المتعددة الجنسية في لبنان توجه الرئيس الياس سركيس الى اللبنانيين بالقول: "انا منكم انا لكم انا معكم." ولم يتلق جواباً!
يُعاني اللبناني في علم النفس العيادي من انفصام في الشخصية، اذ يُطالب من جهة بدولة قوية هي بطبيعتها سلطوية وهو ايضاً متمسك من جهة اخرى غريزياً بالحريات لدرجة الفوضى. يعبّر بيار صادق عن هذا الانفصام في كاريكاتور ورد فيه: "مش معقول هـ البلد... لا بيطيق احتلال... ولا يحافظ على استقلال!" (النهار"، 12/8/2006)
الدولة الديموقراطية متمايزة الوظائف. في حال رفضت وزارة الاشغال معاملة احد المواطنين، بإمكان الاخير ان يُقدّم دعوى امام مجلس الشورى الذي هو ايضاً جزء من الدولة. وبإمكان المواطن رفع شكوى على المدرسة الرسمية امام التفتيش التربوي الذي هو ايضاً جزء من الدولة. في ذهن اللبناني صورة الدولة كما هي في المنطقة وفي ذاكرته الاستعمارية والانتدابية والاحتلالية السابقة، اي دولة سلطوية تفرض ما تريده بالقوة. الدولة الديموقراطية قوية بشرعيتها اي بقبول الناس بها، وهذا عنصر "ضعف" بالنسبة للسلطويين! كلما زاد دعم الناس للدولة كلما ازدادت قوتها.
كيف تكون الدولة قوية بشرعيتها؟ انا ايضاً الدولة، كما ان المدير العام والموظف في اية ادارة رسمية هم الدولة، ليس على طريقة لويس الرابع عشر، بل لاني مواطن واقترع واحمل جزءاً من سلطة الدولة. لم يحصل بعد الاستقلال سنة 1943 عمل تربوي ثقافي يساهم في ادخال دولة الاستقلال في عقول الناس فيدركون ان الدولة هي دولتهم.
ونتبين الضبابية في مفهوم الدولة كلما يُطرح موضوع المجتمع المدني، فيسارع احدهم بالقول، مدعياً الفهم والبصيرة: "المجتمع المدني ليس بديلاً من الدولة!" من يتكلم عن بديل؟ لا احد بديل من احد في المجال الديموقراطي حيث تتعدد الوظائف وتتمايز وتنتظم. لا العين بديل من المعدة ولا الاذن بديل من اليد! ما هذا الادراك لاحادية الدولة وللمجتمع المدني ايضاً؟!
كتب الشاعر محمد العبدالله اواخر 1989 كتاباً قد يكون الجواب في هذا المجال بعنوان: "حبيبتي الدولة". نحن من يجعل الدولة الديموقراطية قوية بدعمنا لها. يحتاج ذلك لعمل كبير على مستوى الدولة طبعاً وعلى مستوى المجتمع. تعاني الدولة في لبنان من مشكلة نابعة من ذاتها وجوارها وايضاً من مشكلة نفسية مع الناس.
ان الجدل اللبناني حول السيادة خلال اتفاق القاهرة سنة 1969 هو الاكثر تعبيراً عن ادراك مختلف الفئات للدولة. جرى الجدل في السيادة وكأنها مجرد ديكور اضافي للدولة، لا عنصر ملازم للدولة التي تمتلك القوة المنظمة. والخطاب السياسي في مسألة الجيش هو مؤشر آخر لمفهوم الدولة في البنيات الذهنية. انحصرت الدراسة غالباً على نواحي دستورية شكلية بينما البحث متعدد الاختصاص والبعد.
-4- لمن نوجه الاتهام بالضعف؟
هل يجوز، انطلاقاً من تحليل واقعي للتجربة اللبنانية، تضخيم مسؤولية الدولة اللبنانية في وضع اقليمي ودولي مُتفجر؟ ان قيام اسرائيل سنة 1948 زلزل المنطقة ولا يزال. اقولها لنرحم انفسنا قليلاً. صمد لبنان لغاية 1975 وبعدها. هذه حقيقة علينا الا نتجاهلها.
ان المظهر السلطوي لطبيعة الدولة في المنطقة لا يشكل نموذجاً يُقتدى به في المجتمع. البديل الايجابي من الميليشيات والدويلات هو الدولة القوية العادلة التي لا تكون قوية اذا لم تستمد قوتها من الشعب وهي لا تكون عادلة اذا لم تتمكن من الوصول الى عقول الناس وقلوبهم.
في لبنان استراتيجيتان متنازعتان: استراتيجية قوى طوائف ومنتحلي صفة تمثيلها، مع ما تحتويه من هواجس الامن الذاتي والامن بالتراضي وتكوين دويلات احتياطية في حال نشوب نزاع، واستراتيجية الدولة.
لا يوجد في لبنان اقليات مقهورة من السلطة المركزية، بل بالاحرى اقليات قاهرة وحتى عاهرة في تعاملها مع الدولة ومع بعضها البعض. الدولة هي ضمان لوجود الطوائف. يظهر من السلوك السياسي ان الدولة بالنسبة الى ممثلي قوى تقليدية هي دولة اقحوانية تنتشل كل فئة ورقة منها دون الاهتمام بالزهرة ككل.
تحصل الانتفاضات او الثورات او "المؤامرات"... في بعض الدول العربية اليوم في دول قوية وقوية جداً بذاتها (ولذاتها). يستتبع ذلك انهيار بنيان ضخم قائم على الخوف والتخويف. انه اثبات ان الدولة الديمقراطية قوية بشرعيتها اي قبول الناس بها. ولا نستثني الكيان الصهيوني الذي يعتمد على القوة والقوة فقط وهو تالياً مهدد بالانهيار اذا استمر في تجاهل مدى شرعيته داخل اسرائيل وبالنسبة الى الشعب الفلسطيني. ودولة الاتحاد السوفياتي ايضاً كانت قوية وقوية جداً ونووية طوال سبعين سنة وانهارت بسبب قوتها بذاتها (ولذاتها) دون شرعية شعبية.
كل تهمة يوجهها لبنانيون الى الدولة اللبنانية حول ضعفها هو مشوب بالريبة. الدولة اللبنانية ضعيفة بسبب بنيات ذهنية مرضية وغالباً بسبب تقاعس زعامات سياسية وطائفية في الانخراط في الدولة الديموقراطية القوية بشرعيتها الاجتماعية.
ما العمل في سبيل معالجة (بالمعنى الطبي) الحالة النفسية المرضية في الذهنية اللبنانية للعلاقة مع الدولة؟ انه موضوع يتعلق، من جهة السلطة المركزية، بالاعلام الاداري العام، ومن جهة المجتمع بمسارات في الثقافة المدنية والذاكرة الجماعية. وردت الأسس الكبرى في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958 – 1964)، وفي برامج وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية بقيادة الوزير فؤاد السعد (2000-2004)، وفي برامج التأهيل المُتعثرة في المعهد الوطني للادارة (2004-2008)، وفي خطة النهوض التربوي في المركز التربوي للبحوث والانماء بقيادة البروفسور منير ابو عسلي (1997-2004)، شرط متابعتها في روحيتها.
يقول احد المُناضلين التونسيين: "في الماضي كنت اتصرف مع البوليس بصفته جهازاً حامياً لسلطة طبقة حاكمة، اما اليوم فالبوليس هو بوليسنا نحن وهو يحتاج الى دعمنا لاعادة بنائه".
ربما كثير من الدول القوية بذاتها في المنطقة مهددة بالانهيار. اما الدولة اللبنانية الضعيفة والمُستضعفة فهي ربما الاقوى في صمودها واستمراريتها. وستكون اكثر قوة عندما تدعمها القوى السياسية الكبرى والمواطنون... فلا ينتظرون!