أحمد بيضون - لبنان
لا بدّ من حدّ للتسليم الواقعي بما تصير إليه حركة تاريخية تبدأ متّخذة لنفسها صورةً بعينها ومتطلعة إلى أفق معلن ثم تجد نفسها، بعد حين، وقد اتّخذت صورةً مغايرة وأصبح إفضاؤها إلى الأفق الذي أرادت فتحه، في البدء، أمراً معلّق الاحتمال أو غير مرجّح الحصول في مدى منظور.
نفكّر في الثورة السورية: في ما آلت إليه موازينها العامّة وفي إلزامها المتدرّج لمثقفيها بالتقبّل المتتابع لأطوار وأحوالٍ آلت إليها وكان بعضهم قد عبّر عن أشدّ الخوف من التوجّه نحوها قبل أن تحصل فعلاً.
ثمّة حدّ للمنطق الذي يتذرّع بكون النظام الأسدي، بإيغاله في القمع الهمجي وبما تمكّن من استنهاضه من دعم حاسم في النطاقين الإقليمي والدولي، هو الذي فرض هذا أو ذاك من التحوّلات التي شهدتها الثورة وراحت تزيدها غربة عن صورتها الأولى: عن الإلهام الأصلي الذي استنهض، طوال شهور، إعجاب العالم وإن يكن لم يستنهض نخوة قوى كبرى كان معوّلاً على حزمها لترجيح كفّة الثورة. فلم يقيّض لهذه حسم المواجهة لمصلحتها في مهلة مشابهة لما احتاجت إليه، في العامين الأخيرين، أقطار عربية أخرى وبأكلاف قابلة للمقارنة بتلك التي تكبّدتها شعوب تلك الأقطار. النظام فرض "هذا": هذا مؤكّد ولكن المعضلة الجديرة، هي أيضاً، بالنظر وبالعمل هي أن "هذا" قد حصل وأن نتائج بعينها ذات وقع غير هيّن على مستقبل سوريا تترتّب على حصوله.
ما نشير إليه من أطوار وأحوال له أسماء معلومة يسهل استذكارها، فلا نبقى في عالم المجرّدات. كانت الثورة في شهورها الأولى سلمية: اتّخذت التظاهر أسلوباً رئيساً لحركتها وتركّزت بؤرها الكبرى في مدن متوسّطة الأهمية إجمالاً، معوّلها الأوّل على الأرياف المحيطة بها وعلى فائض الزراعة في هذه الأخيرة. وهي – أي المدن – تستقبل، إلى ذلك، فيضاً من أهل الريف من غير تهيئة أو توفّر لما يسهّل لها استيعابه. عالجت السلطة الأسدية حركة التظاهر هذه بالبطش الشديد وتمكنت من الحيلولة طويلاً دون غلبة يعتدّ بها للحركة على ساحات العاصمتين، دمشق وحلب، وتركّزها فيهما، على غرار ما تمكنت من تحقيقه، ردحاً من الزمن، في حمص وفي حماه، مثلاً...
ولقد بدا، مع تعاقب المجازر، أن المنفذ المتاح من هذا النفق الدموي يتمثّل في تشقق آلة القمع على نحو يضعف ذراع النظام الضاربة مقلّصاً قدرته على البطش، من جهة، ويوفّر حماية للحركة، من جهة أخرى، وحاجزاً في وجه قمع بدا أنه لا يلوي في تصاعده على شيء. وقد حصل هذا التشقق وتوسّع. إلا أنه لم يبلغ حدّاً تشلّ معه آلة النظام القامعة وذلك لأسباب تتّصل بالتكوين التاريخي لهذه الآلة وبما أورثه هذا التكوين من تماسك طائفي لمعظم قياداتها ولأهمّ قطعاتها المقاتلة. وهذا في ظلّ الصفة الطائفية المعلومة للنظام والخشية الطائفية التي راح النظام يسعى إلى تعزيزها، في صفوف الأقليات عموماً، من مغبة سقوطه.
هكذا راحت سوية القمع ترتفع إلى ذرى دموية مهولة وراح المكوّن العسكري في الثورة يزداد، مع ارتفاعها، أهمية، ويتوسع مستدرجاً، فضلاً عن النظاميين "المنشقّين"، عناصر من خارج القوّات النظامية، بل أيضاً من خارج سوريا كلها. وكان أن قوّات الثورة هذه قد أفلحت، مع تمادي المثابرة العنيدة، على الرغم من سوء تجهيزها المؤكّد والتبعثر الظاهر لقياداتها وتوجهاتها، في السيطرة على مناطق ومرافق كثيرة وفي التظهير المتزايد لعلامات التضعضع والتراجع في جهة النظام.
على أن هذا التطوّر، في جانب الثورة، نحو مواجهة العنف بالعنف كان ينتهي، في الواقع، لا إلى حماية الحركة الشعبية بتنوّع قواها واتساع قواعدها الاجتماعية، بل إلى الدفع بها نحو الهوامش والحلول المتدرّج محلّها. كان ينتهي إلى ما سمّي "عسكرة الثورة" بما يعنيه ذلك من تغليب لأفق العسكر وأسلوبهم في الصراع السياسي ولمسلكيتهم الاجتماعية ولما يحتاجون إليه من أنواع الدعم التي يتعذّر المضيّ في المواجهة المسلّحة إن هي لم تكن متاحةً ولو على شحّ وندرة.
اليوم أصبح وقع العسكرة هذا على الثورة أمراً مقضياً. وكان بين أبرز وجوهه نقل هذه الأخيرة من السباحة في مياه إسلام شعبي، غائم الملامح الاجتماعية وضعيف الإلزام في السياسة، إلى إسلام آخر، ضيّق في حركيّته ومتزمّت في شعائريته ولو على نحوين مختلفين كثيراً أحدهما عن الآخر: فواحد تفرضه، على الخصوص، انتقائية تعتمدها مصادر الدعم، الخليجية أساساً، فيعزّز في السياسة تنظيم "الإخوان المسلمين" الذي انتقل من حال الذواء المتأتي عن عقود القمع إلى حال التصدّر والحظوة الواسعة في صفوف العسكر المنشقّ وفي صفوف التمثيل السياسي للثورة سواءً بسواء. وواحد آخر يعتمد السلفية الجهادية هوية وأسلوباً ويستدرج إلى الساحة السورية من أشرنا إليهم من "مجاهدين" مختلفي المنابت على النحو الذي بات مألوفاً منذ بزوغ نجم "القاعدة" في أفغانستان. هذا كله يسّرته سيادة العنف على الساحة كلها ولكن يسّره أيضاً تهالك المعارضة السياسية المتمادي وضعف أطرها وعجزها عن الارتقاء بالعلاقات بين أطرافها وبمسلكية هذه الأطراف، في مهلٍ مقبولة، إلى السوية المصيرية للمواجهة الدائرة على أرض سوريا والسوية الرفيعة لاستعداد السوريين للبذل.
يصحب هذه النقلة صراحة متفاقمة في رسمٍ ذي صفة طائفية لخطوط المواجهة السياسية الجارية في ميادين الداخل. والطائفية – وقد أشرنا إلى هذا أيضاً – أمر تسهل نسبته إلى النظام: تاريخاً وانتساباً. ولكن الطائفية شيء يتغير وينقله العنف خصوصاً من حال إلى حال. ولا يمكن القول إنه لا يزال حيث وصلت الثورة السورية اليوم في حاله التي كان عليها عند انبثاق الثورة.
ثمّة شرعية لاتّهام النظام بفرض هذه التحوّلات بسائر وجوهها على من يواجهونه. ثمة شرعية للقول إن هذا الذي حصل ويحصل لم يكن منه بدّ بسبب ما أظهره النظام من همجية وبسبب استبسال حلفائه الخارجيين في إسناده. وهذا استبسال لم يتهيّأ ما يوازنه للثائرين وللثورة. ثمة وجه للبحث عن أصل الطائفية المتفاقمة في تكوين النظام ولتحميل قدر جسيم جدّاً من المسؤولية عن تفاقمها لسلوك النظام. بل يمكن أيضاً نسبة حال الخواء والتهاوي التي ظهرت فيها تشكيلات المعارضة السياسية إلى عشرات من السنين جهد النظام خلالها في إخلاء البلاد من السياسة. يصحّ القول أيضاً، من غير شك، أن أسوأ ما يمكن حصوله لسوريا هو بقاء النظام الأسدي محكّماً برقاب شعبها وأن ما سيقدم عليه هذا النظام، إذا استوثق من بقائه وإطلاق يده، نوع من الاستئصال المختلف الوجوه يضيق عن قباحته الخيال.
ولكن العزاء الذي ينطوي عليه هذا التوجيه نحو النظام للاتهام، بمختلف شُعَبه، عزاءٌ محدود وإن تولّت تسديده بوصلة سليمة. فالحال أن هذه التحولات الفادحة حصلت وتحصل فعلاً وأنها تحمل على استذكار شعارات الحرّية والكرامة والوحدة الشعبية التي شارك السوريون في رفعها شعوباً عربية أخرى وتحمل على السؤال عن المصير المرجّح لهذه الشعارات في الآفاق التي باتت الثورة الجارية مشرفة عليها. ولا ريب أن الجواب (أو الأجوبة) عن هذا السؤال يفترض أن تترتّب عليه (أو عليها) وجهة (أو وجهات) تقترح، في الأفق الذي فتحته الثورة نفسها، على العمل السياسي.
كان وعدُ الربيع العربي كله، والثورة السورية ساحة عزيزة من ساحاته وذروة من ذراه، "فَتْحَ المستقبل". فما العمل، اليوم وغداً، لمنع إغلاق المستقبل من جديد؟