الخميس، 3 فبراير 2011

اليوم مصر، وغداً.... لناظره قريب

سعود المولى
في التلمود خرافة دينية تصف لنا واقع حال بلادنا العربية. تقول الرواية إن سيدنا سليمان (النبي/الملك) حين شرع ببناء المعبد/الهيكل في أورشليم (مدينة السلام/القدس) لم يجد أفضل من تشغيل الجن لإنجاز العمل الذي إستمر لمئات من السنين..وقد فاجأه الموت وهو يقف متكئاً على عصاه يراقب عمل الجن المرعوبين منه..إلى حد أنهم لم ينتبهوا لموته، فيما كانت دودة الأرض تأكل عصاه الهرمة..وهم إستمروا في العمل برغم أن أحدهم إنتبه وحاول تنبيههم بالغناء المتواصل أثناء العمل (ولعشرات السنين): أخضر يابس هات...سيدنا سليمان مات... ولكن دون جدوى..حتى وقع الملك بعد سقوط عصاه !
هكذا حال أنظمتنا العربية من المحيط إلى الخليج، وبعضها معمّر مثل عصا سليمان..ومعظمها لا ينتبه إلى الدود ينخرعصا المُلك.. وكلها يظن أنه بمنأى عن غضب الناس وعن وعيها وإنتظامها في حركات إجتماعية تغييرية..
والسياق التاريخي العام (الإجتماعي والسياسي) لنشوء الحركات الإجتماعية عادة هو سياق "الأزمة" (أو "الأزمات")، التي تفرز عناصر المناخ العام الحاضن لتلك الحركات، والتي تطلق ديناميات تُحرَِر الناس من وهم الخوف وهمّه، ومن سحر عصا السلطة.. فتدفع الأفراد إلى العمل معاً من أجل أهداف مشتركة ، وبشعارات موحّدة ، وبمطالب واحدة، (جماعية الجهد والتنظيم وجماعية الهدف والمصالح والمطالب)..وتبلور لهم نظام القيَم (أو المشروع/القضية) التي تربط بينهم بعروة وثقى تدفعهم إلى الإنتماء والإلتزام، وإلى التعبئة (وليس الحشد)، وإلى إستمرارية الحركة (وليس موسمية التحرك).

1- أزمة فقدان العدالة والتوازن والكرامة في العلاقات الدولية: وهي تفاقمت منذ أحداث 11 أيلول والتطورات اللاحقة التي ساهمت في دفع العداوة الكامنة بين العالم العربي والغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، إلى حدها الأقصى. وقد إستفادت الإتجاهات الأصولية المتطرفة من هذه الأزمة لإكتساب شرعية شعبية في مجتمعاتنا. إن إنحياز الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، لإسرائيل، وإعتماده سياسة "الكيل بمكيالين"، هما جوهر الأزمة القائمة بين العالمين العربي والغربي، والتي أدت فيما أدت إليه إلى إعاقة التطور في بلادنا..
2-الأزمة الناجمة عن العجز عن بلورة مشروع حضاري يؤمّن مصالحة المجتمعات العربية مع الذات ومع العصر. فالعالم العربي يُعاني من مخاض حضاري عميق. فهو عالم يبحث عن ذاته، وعن صيغة لوجوده، وعن موقع له في عالم اليوم يستطيع من خلاله أن يكون عنصراً إيجابياً في صنع الحضارة الإنسانية، إنطلاقاً من أصالة هويته وفرادة تراثه. وقد كشفت لنا السنوات والتجارب الماضية عن أن الهول الذي يواجهنا عرباً ومسلمين،كما مسلمين ومسيحيين، كبير جداً، ويتناول سلامتنا الجسدية المادية، ومضموننا الثقافي والقيَمي، ومصالحنا الإقتصادية، في أخص ما لها من خصائص وفي أشمل ما لها من أطر. كما يتناول دورنا في العالم، إذ يراد لنا أن نكون مجموعة من البشر تزّود العالم المتقدم إمكانات السوق وتستهلك ما ينتجه على كل الصعد، وتبقى كماً مهملا لا دور لها ولا ريادة في صنع هذه المرحلة من التاريخ.
3- أزمة التنمية في العالم العربي: وصف تقرير منظمة العمل العربية الذي صدر في نهاية العام 2008 الوضع الحالي للبطالة في المنطقة بأنه الأسوأ بين جميع مناطق العالم من دون منازع، وأنه في طريقه لتجاوز كل الخطوط الحمراء. ويشير التقرير أن المنطقة العربية قد إحتفظت بأعلى معدلات نسب البطالة بين الشباب على مستوى العالم بنسبة فاقت الـ25%...وقد إعتمد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية للعام 2009 هذه الوقائع، وأشار إلى أن 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر مؤكداً أن البطالة تعدّ من المصادر الرئيسية لإنعدام الأمن الاقتصادي في معظم البلدان العربية. وجاء في التقرير الصادر في بيروت يوم الثلاثاء 21/7/2009 أن معدلات الفقر العام تتراوح بين "28.6% و 30% في لبنان وسوريا في حدها الأدنى ونحو 59.9% في حدها الأعلى في اليمن ونحو 41 % في مصر.
وأسباب هذه الأزمة تعود في الأساس إلى تعذر إقامة أنظمة حكم ديموقراطية قائمة على حكم القانون والمشاركة الشعبية وقادرة على رسم السياسات الإنمائية وتوفير رقابة حقيقية على تنفيذها على أسس المساءلة والشفافية. ومن الأسباب الأساسية الأخرى لهذه الأزمة: وجود قيود كثيرة على مشاركة النساء في الحياة العامة، وغياب التنوع في البنية الإقتصادية بسبب الإتكال على عائدات النفط الخام والغاز، وتضخّم الإستدانة الخارجية، وتفشي ظاهرة الإهدار، والإندفاع المحموم في شراء السلاح، فضلاً عن إنتشار الفساد بجميع أنواعه من رشاوى وسرقات وعمولات مشبوهة وهو السبب الأكثر وحشية وهمجية في مجتمعاتنا.
4-أزمة الديموقراطية في العالم العربي حيث أن الأنسان لا يستطيع ممارسة حقه في توليد السلطة ومحاسبتها. لم تنتج الدولة الحديثة في العالم العربي نموذجاً للديموقراطية الخاص بها فلجأت إلى أشكال من الديكتاتورية الظاهرية والمقنعة. ففي العالم العربي نوعان من الأنظمة: أنظمة تقليدية لا تقر للشعب بحقه في ممارسة سيادته عبر إختيار ممثليه وتكوين مؤسساته الدستورية؛ وأنظمة إستبدادية تصادر مجتمعاتها، فتختزلها بحزب وتختزل الحزب بشخص. وما يجمع بين النظامين التقليدي والإستبدادي، رفضهما لمبدأ تداول السلطة وحكم القانون وحق المشاركة وإحترام حقوق الإنسان.
ولا يجد الإنسان من سبيل للخروج من هذا الوضع سوى العودة إلى الماضي هرباً من الحاضر وخوفاً من المستقبل. ولهذه العودة إلى الماضي أشكالها المختلفة: فإما تكون عودة إلى نوع خرافي من الدين بعد أن تكون السياسة قد إختزلته، وإما تكون عودة إلى التكوينات الطائفية والإثنية التي كانت سائدة قبل قيام الدولة الوطنية.
5-أزمة الحرية في العالم العربي حيث تحوّل هذا العالم إلى "سجن كبير" تعيش وتموت بين جدرانه العالية أجيال وأجيال لم يعط لها حق المشاركة في تقرير مصيرها وتحقيق ذاتها؛ أجيال تنظر إلى العالم فتراه في حركة دائمة يتقدم حيناً ويتراجع أحياناً، بينما الزمن، زمنها، هو زمن معلق يحرسه الخوف، الخوف من كل شيء، من الوشاية والتجسس والتنصت والأجهزة. حتى أن هذا الخوف لم يعد بحاجة إلى خارج يستند إليه، فصار خوفاً يولد نفسه بنفسه، يجعل الإنسان رقيباً على ذاته، يتولى هو بنفسه مهمة قمع كل ما من شأنه أن يعرضه إلى خطر الملاحقة. وهذه الحراسة الذاتية هي التي دفعته إلى التخلي عن حقه في حياة طبيعية وعطلت حسه النقدي.

ربيع الشعوب العربية: دلالات ودروس
1- حدث واحد وحيد حكم إنتفاضة الشعب التونسي وقاد حركته: الشهادة النبيلة لمحمد البوعزيزي.. شهادة "إنتحارية" على طريقة الكهنة البوذيين..حتى أن الشيخ يوسف القرضاوي لم يجد سوى أن يدعو الناس للصلاة كي تشفع لبوعزيزي عند الله.. شهادة بوعزيزي (وهو شهيد أكثر من أي إنتحاري يفجر نفسه في الناس بفتاوى متدينين جهلة) أطلقت إنتفاضة الكف العاري في وجه السيف، والدم البريء في وجه الدبابة.. كان لا بد من فعل "إستشهادي" فردي، يستعيد سيرة الحسين الحقيقية ونموذجه الفعلي: الجهاد المدني في وجه الظلم والطغيان...وقوة الإنسان الأعزل في وجه آلة القمع والبطش.. وهذه بالمناسبة سيرة الثورة الإسلامية الإيرانية نفسها وقد أسقطت أعتى الإمبراطوريات وأشدها فراسة ووحشية بالمظاهرات المليونية السلمية "الإستشهادية"..
2- حدثان إثنان حكما مسيرة إنتفاضة الشعب المصري وأشعلا نيرانها: الإنتخابات المهزلة التي أجراها النظام (والتي تشبه إنتخابات الرئيس شمعون العام 1957)، وقد رفضتها كل القوى المحلية والدولية، بما فيها أميركا نفسها. ثم الهبة الوطنية-المدنية التي أعقبت تفجير كنيسة القديسَين في الإسكندرية. لقد لعب النظام مغامرته الأخيرة حين لم "ينتبه" إلى حساسية المسألة الطائفية في البلاد وحين ضرب عرض الحائط بذكاء ووعي ووطنية وكرامة المصريين، ناهيك عن تجاهله (الأعمى البصر والبصيرة) لعقود وعقود من القهر والبؤس والظلم والحرمان والفساد، قل مثيلها في العالم.
3- أجمع المعلقون والمراقبون على أن الأحزاب لم تكن موجودة.. وقد سبقت الناس القوى الطليعية المنظمة وفرضت شعاراتها وأجندتها على الحدث..يكفي أن نستعرض خطاب وممارسة القوى السياسية الرئيسة في البلدين لنكتشف كم كانت جامدة خشبية تقليدية تلهث خلف السلطة بأي شكل كان..في تونس كادت الأحزاب المعارضة تعطي لبن علي فرصة بعد خطابه المفكك المرتبك الذي حاول فيه تقليد الرئيس الفرنسي دوغول..ولكن الناس لم تصدق تمثيله الفاشل ونزلت إلى الشارع ولم ولا تغادره..وفي مصر حاولت الأحزاب والمعارضة في البداية قطف الثمرة سريعاً "طالما أن أميركا والجيش معنا الآن"..ولكن الناس لم ولا تغادر ميدان التحرير..وفي كلتا الحالتين ما تزال الأمور غير مستقرة ولا نهائية..ذلك أن الحركات الإجتماعية الكبرى في التاريخ سرعان ما تواجه معضلة التنظيم والقيادة والبرنامج الواضح والخطط المستقبلية ...
4- في تونس لم تستطع السلفية الجهادية أن تثبت أقدامها (على عكس الجزائر والمغرب وليبيا) بفضل وعي ووطنية حزب النهضة الإسلامي الذي أعلن رئيسه الشيخ راشد الغنوشي مبكراً (في العام 1992): "لقد تجنبنا الرد على عنف الدولة بعنف مضاد.. وباءت بالفشل كل محاولات النظام لتوريط الحركة في هذا السبيل. ولذلك إذا كان من إستقرار في تونس اليوم فإنما هو عائد إلى منهج المصابرة الذي توخته الحركة ودفع السيئة بالتي هي أحسن ورفض الإستدراج إلى العنف. هذا هو خيارنا الذي إجتمعت ولا تزال حوله غالبية أبناء الحركة. فمن لم يطق صبراً عليه فليبحث له عن سقف آخر بديل عن النهضة يقف تحته".
وفي مصر حدث التحول الكبير حين قامت الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد بمراجعات شجاعة حقيقية وشفافة (بدءاً من عام 1998) أنهت حقبة التوتر والعنف ورسخت السلم الأهلي وأنجزت إستقراراً كبيراً في المجتمع المصري؛ ما أضاف إلى موقف التيارين الإسلاميين الآخرين (الإخوان وشباب الوسط) وإلى المعارضة عموماً ، قوة مدنية سلمية ديموقراطية شابة مجربة سمحت بمواجهة عسف السلطة وفسادها على قواعد جديدة تحمي المواطنة والتعددية والوحدة الوطنية..
والتجربتان التونسية والمصرية (وهما تشبهان هنا التركية والإيرانية) تميزتا في الأصل بوجود نظام علماني حداثوي وطني، ودولة مركزية قوية ذات شرعية ثابتة وسيادة غير منتقصة (وكلها صمام أمان التنّوع الأقلوي) ، تردفها ليبرالية بورجوازية مستقرة في مجتمع مديني غالب، ما يعني ضعف أو غياب العصبيات النابذة والمفككة للدولة...كما يعني تغوّل الدولة على حساب المجتمع وخياراته..
5- تجاوزت الأحداث قوى الحركة الإسلامية العربية... سقطت التجربة الإسلامية في السودان وإيران في أتون التسلط الثوري والإستبداد الديني بعد الإنقلاب على أهلها (من حسن الترابي إلى خاتمي-رفسنجاني-موسوي).. وفي العراق تحوّل الإسلام السياسي (الشيعي) إلى نظام حكم فاسد ديكتاتوري، يُعيد إنتاج الصنم البائد..(ولكن المرة الثانية تكون عادة على شكل مسخرة – والكلام لماركس).. وفي تونس والمغرب والسودان والأردن (وغيرها) لم يخرج التيار الإسلامي الديموقراطي عن إطار التنظير النخبوي والجامد للمواطنة والحقوق المدنية والتعددية ، مع غلبة اللفظية الإسلاموية القومية الشعبوية والشعاراتية في خطابه..فلم يرتبط بديناميات الحراك السياسي الإجتماعي الفعلي للناس وهمومها.. إذ كان همّه تقاسم السلطة.. فغاب الإسلاميون (كما اليساريون والقوميون بالمناسبة) عن ساحة الفعل الإجتماعي السياسي.
وفي غزة جمدت التجربة الإسلامية عند حدود المراوحة ما بين إمارة طالبانية مستعصية على التطبيق وما بين "سلطة فئوية" تستفيد من الإحتلال لإدامة سلطتها ولو بتمديد الهدنة ومنع الصواريخ...
نعم تحتاج الحركة الإسلامية العربية اليوم إلى مراجعة شفافة لهذه الأمثلة ولغيرها (وأولها لبنان)...
6= في تونس ومصر والجزائر صعد إلى واجهة النضال الجديد شباب بعمر الورد وطراوته خبروا وسائل العصر وإستخدموها على أفضل ما يكون: من الهاتف الخلوي إلى الإنترنت، ومن الفايس بوك إلى التويتر واليوتيوب..وصف موقع أون إسلام المظاهرات كالتالي: "حشود بعشرات الآلاف، لم يرفع واحد منها لافتة تميز هذا عن ذاك، ولم يردد شعاراً يكشف هويته أو التيار الذي يتبعه، فقط كانت اللافتات والشعارات تنطق بنفس المطالب التي يرددها المصريون في منازلهم.. وهذا ما جذب إليها بعفوية الآلاف من شرفات المنازل ومن المتاجر والسيارات .. حشود من كافة شرائح المجتمع المصري: أطفال وشيوخ وشباب، مسلمون ومسيحيون، نساء ورجال، ليبراليون وإسلاميون ويساريون ومستقلون، من مهن مختلفة وعاطلون، أغنياء وفقراء، منهم المعتادون على المظاهرات ومنهم أيضاً من كان يتظاهر لأول مرة، أو كان مقاطعاً للمظاهرات ثم إندفع إليها بقوة التأثير والتفاعل... الكل كان يوحدهم ويذيب أي فروق بينهم شعار واحد طغى على باقي الشعارات: "الحرية..التغيير..العدالة الاجتماعية"..
7= أحمد عبد الحامد، أحد المشاركين في الاحتجاجات، كتب ملاحظاته بشكل عفوي على صفحته بالفايس بوك، ومما قاله فيها: "أنا شفت مفاجآت كتيرة وعظيمة.. منها إن معظم المشاركين كانوا شباب وفرافير، بتوع الفيسبوك ، شكلهم يدل على راحة مادية نسبياً، وناس كتير منهم ، شفت زملاء في الكلية ماشفتهمش من عشر سنين، فى المظاهرة دي".
السمة الشبابية للإحتجاجات لم تكن في العمر فقط، بل في الروح الجريئة أيضاً التي شملت كبار السن. ويقول عبد الحامد في هذا: "من المفاجآت إنه على الرغم من أن معظم الناس شباب.. بس كان فيه كبار وستات فى الخمسينات، ماشيين على مهلهم كده، ومش قليلين، وكان فيه ناس ماشيين بولادهم". شاب آخر نشر على صفحته على "فايس بوك" ضمن ما نشره عما أعجبه في الإحتجاجات التي شارك فيها لمحات عن ذوبان الفروق الدينية بين المحتجين: "في بنت معانا مكنتش أعرفها.. كانت بتحلف بالمصحف وبالنبي، عرفت بعدين إنها مسيحية.. الغريب إنه مبانش عليها، ليه؟ عشان كلنا بنحب بلدنا، وبنهتف عشان تبقى أحسن، فما بانتش الفروق الطفيفة دي".
ولكن الأهم هو أن هؤلاء الشباب اللاحزبي قاموا ببناء تحالفات عريضة ضد فساد وجشع الليبرالية الرأسمالية المتوحشة،تحالفات شملت كل الناس وكل الجماعات وبشكل عابر للطبقات وللإيديولوجيات: من مساجد وجمعيات أهلية تقليدية إلى أحزاب ومجتمع مدني حديث، ومن تجمعات يسارية إلى ليبرالية ديموقراطية وطنية...ومن حركات إنسانية وسلمية وبيئية ونسوية، إلى راديكالية دينية منحازة للعدل..(أنظر نموذج حركة كفاية ثم حركة شباب 6 أبريل..ومؤخراً نموذج شباب وشابات موقع "أون إسلام" وموقع "مصريون معاً" لحماية العيش المشترك)..الأمر الذي سمح تالياً بتنويع إستراتيجيات وتكتيكات النضال بشكل إستبق سياسات السلطة وأربكها..كما أن ذلك ضََمن بالأساس غلبة الطابع المعنوي الأخلاقي على الطابع المصلحي المادي للحركة الإجتماعية الواسعة.

وبعد..فقد كنا فتية صغارا يوم هتفنا "اليوم الجزائر..اليوم فيتنام.. وغداً فلسطين"..ثم حملنا السلاح شباباً وهتفنا بصدق وحرارة "اليوم إيران وغداً فلسطين".. ترى هل نحلم بأن: اليوم مصر وغداً...غداً.. إن غداً لناظره قريب!..

تجربة اليسار المتحول للإسلام في العدد الثاني من سلسلة مراصد

الإسكندرية في 23 يناير–
كشف العدد الثاني من سلسلة "مراصد" الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية عن التجربة الفريدة لتحول اليسار إلى الإسلام السياسي، في دراسة بعنوان "اليسار المتحول للإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة فتح"، لنيكولا دوت بويار، الباحث السياسي والحاصل على الدكتوراة في العلوم السياسية في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس (EHESS, Paris)، والجامعة اللبنانية في بيروت.
وتنقسم الدراسة إلى عدة محاور رئيسية، منها نقاط التقارب الانتقائية بين الإسلام والعالمثالثية، ونشأة الحركة الماوية الفلسطينية – اللبنانية في فتح، وقصة الكتيبة الطلابية لحركة فتح، وما الذي يمكن استخلاصه منها، بالإضافة إلى حوار مع منير شفيق وسعود المولى؛ شخصين من الكتيبة الطلابية.
وتبين الدراسة في البداية أن مركزية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتأثير الطارد للمسألة الفلسطينية، واستمرارية المسألة الوطنية ومنطق العالمثالثية في منطقة الشرق الأوسط، سمحت دائمًا بحدوث حالات فريدة ومتداخلة من الانتقال السياسي التي تتقاطع فيها الحدود بين القومية العلمانية والإسلام السياسي. وبذلك، فقد حدثت التقاءات وجدانية، عبر ما يسمى بنقاط تقارب انتقائية، بين الحركة الوطنية الفلسطينية وبعض حركات اليسار اللبنانية وبين الثورة الإيرانية، نتيجة التموقع الاستراتيجي وخطوط التباين السياسي والإيديولوجي.
ويتطرق الباحث إلى أهمية الحركة الماوية الفلسطينية – اللبنانية في فتح، وكيف أن تلك الكتيبة الطلابية، بالرغم من أنها كانت هامشية في حركة فتح، إلا أنها أخرجت بعض الشخصيات المحورية في الإسلام السياسي ذي النزعة الوطنية. وقد ولدت الكتيبة الطلابية لحركة فتح عام 1974 عبر اتجاهين اثنين: الأول كان بواسطة شباب الطلبة اللبنانيين الذين خرجوا من منظمة العمل الشيوعي في لبنان، والذين أسسوا عام 1972 مجموعة ماوية صغيرة أو ما سمي "نواة الشعب الثوري"، والثاني عبر القادة اليساريين الفلسطينيين الذين عارضوا الخط السياسي الجديد الذي انتهجته حركة فتح الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات.
ويرى بويار أن الكتيبة الطلابية هي ثمرة التقاء فلسطيني لبناني، لاتجاه يساري مستوحى من تجارب الانغماس الشعبي لدى اليسار البروليتاري ولدى الثورة الثقافية الصينية، وبين كوادر فلسطينية راغبين في إعادة توجيه مسار حركة فتح باتجاه اليسار الوطني، لتتحد الكتيبة الطلابية مع حركات أخرى مثل المقاومة الشعبية التابعة لخليل عكاوي بشكل خاص، وهو اللبناني ذو الأصل الفلسطيني والزعيم الكاريزمي لحي باب التبانة الشعبي في طرابلس، وكانت حركته هي الأخرى تستلهم في جزء منها تجارب العالمثالثية ذات الاتجاهات الماوية والفيتنامية والأمريكولاتينية.
ويوضح البحث أنه في أعقاب الثورة الإيرانية، قاد الإسلام السياسي دفة القيادة بالنتيجة؛ فمن ثالوث اليسار والعالمثالثية والإسلام الذي كان يحمله هذا اليسار الماوي، لم يتبقى في النهاية سوى عنصريه الأخيرين. ذلك أن الثورة الإيرانية بوصفها ثورة الجماهير الشعبية الوحيدة في المنطقة تاريخيًّا، نجحت بقوة في الاستحواذ على المفردات الكلاسيكية: مناهضة الإمبريالية، والانقسام شمال - جنوب، ومركزية نموذج الإنسان المضطهد، مرورًا بأسلمة تطبيقاتها.
ويشير الباحث إلى أنه يمكن استخلاص عدد كبير من النقاط من تجربة الكتائب الطلابية و"ماويي فتح"، أولها أولوية السياسي على الأيديولوجي، أو بشكل أكثر دقة، أولوية المنطق القومي العالمثالثي على الأيديولوجيات التي يتم إنشاؤها. فلم يتم تبني الماركسية والماوية عبر الافتتان النظري بها ولكن لأجل البعد العملي فيها. فإن أولوية السياسي هذه تدفع عبر الزمن إلى التفكير في الوظيفة التعبوية المتفردة التي تقوم بها الأديان في تاريخ نزاعات التحرر الوطني، والإسلام ليس إلا مثالاً ضمن أمثلة أخرى. الإسلام ليس إذن ديانة سياسية بالماهية: إنه كذلك في إطار ظروف سياسية محددة حيث يقوم بدور المورد السياسي التعبوي، الرئيسي، أو الثانوي، بحسب الأيديولوجية المهيمنة في المرحلة المعنية.
ويتضح أن تجربة الكتائب الطلابية و"ماويي فتح"، قد أظهرت بقوة الأهمية المعطاة لمفهوم الشعب و"الجماهير" الذي جاء في خطاب "ماويي فتح". هذا النداء الروحاني تمامًا والموجه للشعب تتقاسمه الماوية مع الإسلام الثوري. ويتطرق البحث إلى فكرة التعالي وارتباطها بعقيدة الخلاص، فإن انتقال ماويين وشيوعيين وقوميين عرب من اليسار إلى الإسلام السياسي يسمح بالتساؤل حول هذه العلاقة المتفردة التي يتضمنها كل حدث ثوري مع فكرة التعالي. والتعالي ليس بالضرورة ذلك الأفق البعيد المتعلق بالغيب، حيث يصف الفاعلون في كل ثورة الانتفاضة الثورية بمصطلح رسالي لأنها تعبر عن حدث، ولأنها فريدة، من جهتها، تعتبر الثورة الإيرانية مختلفة لأنها تؤكد تعاليها أيديولوجيًّا طالما أنها تعرف نفسها رسميًّا بمصطلحات سياسية ودينية.
وتتابع الدراسة تشظي مسارات اليسار المتحول للإسلام، بعد التحول الديني وانتهاء الثورة الإيرانية وتراجعها تحت أنقاض الحرب مع العراق والسياسات القمعية ومصادرة السياسي والحدث الثوري معًا، وهكذا بقي الإسلام ليمثل الأمل الوحيد لدى "ماويي فتح". وأتى الإسلام في المرتبة الأولى حتى حين لم يعد يعتبر بالضرورة إسلامًا ثوريًا. قليلون هم من عادوا عن تحولهم الديني، أما الآخرون فقد ابتعدوا شيئًا فشيئًا عن العمل السياسي، أما الاتصال الفلسطيني اللبناني الذي شكل عمود "اليوتوبيات العملية" الثورية بين سنوات 1969 و1984 اختفي واعقبه تشتت للفاعلين السياسيين، وهكذا تنتهي شيئا فشيئا مرحلة كاملة، ويضمحل خط الجماهير والإسلام الشعبي الثوري شيئًا فشيئًا.
وتبين الدراسة أن التشظي يتم وفق ثلاثة نماذج: النموذج الأول هو نموذج الاستقلالية والابتعاد، والفاعل هنا يشعر أن المجال السياسي لا يترك له هامشًا للحركة، أما النموذج الثاني هو نموذج الالتزام السياسي المستمر، وهنا ثمة شكل متكامل من البراغماتية. والنموذج الثالث وهو الأكثر ندرة ودراماتيكية أيضًا، وهو نموذج الاختفاء نهائيًا أو نموذج الشهيد. ويعتبر خليل عكاوي هو المثال الصارخ على هذا النموذج، ويمثل الشهيد بكلمة واحدة النهاية المنطقية للاستحالة، للحلم المجهض.
ويتطرق الباحث إلى النقاش الدائر حول وجود لاهوت إسلامي للتحرير، مشيرًا إلى أنها مسألة مازالت لم تحسم بعد، فهي لم تكن موجودة ولم توجد أبدًا بوصفها كذلك، ولكن المحاولات المتكررة لرسم معالمها تدفع إلى التساؤل حول القوة التي تتمتع بها هذه الفكرة، فقد وقعت تجربة ماويي فتح في سياق ظرفي حيث بدت أكبر من سياقها وغير مكتملة في الوقت نفسه. دينامكية اليسار والعالمثالثية قد بدأت بالتراجع، ثم الدينامكية الإسلامية التي كانت في مرحلة الزخم. حدث المنعرج هنا واضحًا، فالإسلام بدا حينذاك بوصفه أيديولوجية فعالة في مرحلة خابت فيها الآمال، وماويو فتح في هذا الإطار التاريخي لم يكن أمامهم ووفق منطق خط الجماهير سوى التحول. تجربة الماويين في طرابلس وفي جنوب لبنان تتعلق ربما بيوتوبيا عملية لم تتحقق نظريًّا وتمت أسلمتها سريعًا، لتعلن عن تركيب حقيقي بين الماوية العالمثالثية والإسلام الثوري.
ويشير بويار إلى نوع جديد من أنواع الخطاب، وهو خطاب الممانعة، والذي يمثل عودة الإيديولوجية الضمنية، فإن البعد "القومي" والمقاوم في خطاب الفاعلين، والانقسام العمودي بين "المهيمنين المستعمرين" و"المهيمن عليهم المستعمرون"، وثنائية "المركز المحيط" و"شمال/جنوب" هي التي ستظل، تحدد خطوط الاستمرارية والتلاقي بين الإسلام السياسي والقومية العربية واليسار الراديكالي، وترسم الأيديولوجية الضمنية الحقيقية الجارية في قطاعات واسعة من المسرح السياسي في الشرق الأوسط.
ويضيف الباحث: "كانت تجربة الكتيبة الطلابية ترسم ضمنيًّا تجربة لشيوعية مسلمة كامنة: لكن في النهاية الإسلام السياسي هو الذي سيحدد الدينامكية الكلية. لكن الإسلام السياسي نفسه اليوم سيلتقي على الأرضية الأيديولوجية الضمنية الأساسية: سيبني شرعيته ليس على الإسلام فقط ولكن أيضًا على خطاب يرتكز على المصطلح المزدوج للمقاومة والممانعة، هذه المفاهيم الأولى نفسها التي تم تقاسمها تاريخيًّا بشكل مشترك من الإسلاميين إلى القوميين العرب مرورًا باليسار الماركسي. إذا كان الحدث الثوري الرسالي قد اختفى، فقد بقي خطاب الممانعة الذي يخترق الأيديولوجيات الأخرى من الطرف إلى الطرف: بشكل عام، وبدلاً من الحديث عن لاهوت للتحرير، فسيكون من الدقة الحديث عن "لاهوت للممانعة"."
ويفرد بويار الصفحات الأخيرة لدراسته لشخصين من الكتيبة الطلابية، أنجز كل منهما انتقالاً متقدمًا إلى الإسلام السياسي في نهاية السبعينيات. الاستماع ويتحاور بويار مع كل منهما لالتقاط أفضل للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى الإسلام السياسي انطلاقًا من الماركسية الثورية العالمثالثية. والشخص الأول هو منير شفيق؛ مسيحي وفلسطيني تحول إلى الإسلام، كان عضوًا في مكتب التخطيط في منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة فتح، وهو أحد الفاعلين في تيار اليسار فيها في السبعينيات. كما أنه كان القائد الرئيسي للكتيبة الطلابية في حركة فتح وقريب من أبو جهاد الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية. أصبح في سنوات الثمانينيات أحد ملهمي كتائب الجهاد الإسلامي في فلسطين وهي حركة مسلمة اندمجت في بداياتها في حركة فتح، وهو يظل يمثل المرجعية بالنسبة للحركة الإسلامية والقومية.
أما الشخص الثاني فهو سعود المولى؛ لبناني يعمل اليوم أستاذًا في الجامعة اللبنانية وعضوًا في المؤتمر العربي للحوار الإسلامي المسيحي والمؤتمر الشيعي الأعلى. كان مقربًا من الإمام شمس الدين ومعروفًا بابتعاده الكبير عن حزب الله الذي كان عضوًا فيه حتى عام 1988، حيث تقلد وظيفة رئيس تحرير مجلة الوحدة الإسلامية، وهو مناضل سابق في الكتيبة الطلابية في فتح حيث انضم إليها بعد فترة من دخوله حزب العمل الشيوعي في لبنان عام 1969 ثم نواة الشعب الثوري.