عن فائض التدّين عند المثقفين
بقلم سعود المولى
في إحدى مداخلاته النابهة تحدث الدكتور هشام جعفر (وهو مدير موقع اسلام اون لاين الالكتروني في مصر، وعضو في الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي) فلفت النظر الى مسألة "فائض التديّن" في المجتمع المصري (ولعله العربي أيضاً)..كما أن زميله القبطي الدكتور سامح فوزي (النابه ايضاً) لفت النظر الى ظاهرة "تديين المجال العام"..(أو تطييف المجال العام إن أردتم) ..والمقصود بذلك أنه لم يعد هناك مساحات مدنية للتفاعل الانساني بين الناس كمواطنين وكأفراد وكمنتجين وكمبدعين لحياتهم....الفاعلون الأساسيون في المجتمعات العربية (ومصر هي حالة بارزة) هم اليوم القادة الدينيون..ويحدث في المجتمعات العربية عموماً اصطفاف ديني (أو طائفي أو مذهبي، ناهيك عن القبلي العشائري) والكل صار يُعرّف نفسه في الإطار الديني..الهوية الوطنية أو المدنية لم تعد هي بطاقة التعريف والتحديد للمواطن والفرد وإنما حلت محلها هوية الجماعة الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو غيرها..وتصاعد السجال الديني حتى داخل كل طرف، والأجندات الدينية صارت هي المطروحة على الساحة العامة وفي المحافل والمجالس وفي الصحافة والإعلام، ما أدى الى مصادرة الأجندات الوطنية.. وكل هذا يؤدي الى تشتيت جهد النخب والقوى الوطنية في بناء الدولة والمجتمع..
غير أن ما يثير القلق أكثر من اي شيء آخر هو اختفاء فكرة القانون... ويتوارى موضوع الدولة نفسها ومدى جديتها وقدرتها..لم يعد هناك تمييز عضوي ووظيفي بين المجال السياسي والديني والدعوي بحيث يمكن الحكم عليها وفق قواعد تحكمها.. كما انه تم استدعاء اسوأ الخطابات الدينية ما زاد الوضع تأزيماً وتأزماً.... ورغم سيل الكلام عن الحوار والعيش المشترك والوحدة الوطنية، فاننا بالمقابل لا نرى أي جهد في اتجاه بناء توافقات استراتيجية بين القوى المحلية لإنجاز مرحلة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية..
بالأمس كنا في مصر ولفت انتباهنا حدة خطابات التشكيك والتخوين حتى بين أطراف الفريق العربي للحوار من مسلمين وأقباط..وهم المفترض أن يكونوا طليعة التهدئة والحوار العقلاني وضبط النزاعات وإطفاء الحرائق..
وعلى مقلب آخر وجدنا المكتبات المصرية تعج بالكتب السخيفة التافهة والحقيرة التي تحرّض على الحقد والكراهية وتبرر سفك دماء كل مسلم مخالف لعقيدة أو مزاج صاحب الكتاب..والأشد غرابة وجود كتب صادرة عن دور نشر محترمة (دار الشروق ودار الحرية مثلاً) وعن كتاب محترمين من اليساريين والتقدميين، أبسط ما يقال فيها أنها تنم عن جهل وعن ضيق افق وعن عقل مذهبي تكفيري أصحابه من أهل الفتن ليس إلا...فهذا الشيخ عبد المنعم النمر (عضو مجمع البحوث الاسلامية وأكاديمية البحث العلمي والمجلس الأعلى للثقافة الخ..) يكتب عن "الشيعة والمهدي والدروز" خالطاً شعبان برمضان،ومقترفاً أبشع صوَر الجهل والتجهيل، والتزوير والتشويه والتحقير والدعوة الى الفتنة وسفك الدماء.. وهذا المثقف الجهبذ والكاتب الفهامة جمال بدوي يكتب عن الدولة الفاطمية "دولة التفاريح والتباريح" ناسفاً كل ما هو جميل ومجيد في تاريخ مصر المعز والأزهر وبيت الحكمة..جاعلاً من المرحلة الفاطمية مرحلة فرض المذهب الشيعي والدرزي على الناس باسنة الرماح؟؟؟ خلاصة المقال أن فائض التدين الذي تحدث عنه هشام جعفر، وتديين المجال العام الذي تحدث عنه سامح فوزي، يبرزان أكثر ما يكون في هذه الأمثلة التي ذكرناها عن كتابات مصرية، حيث أن عدداً من مثقفي التسامح والوعي والعقلانية والانفتاح صاروا يسابقون عصابات التكفير في إبراز فائض تدينهم" المزعوم ، وفي محاولة تديين مجال الثقافة الوطنية والبحث العلمي ...
وتلك لعمري هي المصيبة الكبرى التي اصابت مصر منذ عقدين من الزمان..
الجمعة، 9 أبريل 2010
سينودس فاتيكاني أم وقفة مسيحيين عرب ؟
سينودس فاتيكاني أم وقفة مسيحيين عرب ؟
بقلم سعود المولى
خلال زيارته "الأرض المقدسة" (المقصود فلسطين المحتلة) في الفترة من 8 الى 15 أيار 2009، استمع البابا بينيديكتوس السادس عشر إلى شكاوى مسيحيي فلسطين (وعلى رأسهم مطارنة وكهنة) الذين استعرضوا أمامه هموم الشعب الفلسطيني ومعاناته: من جدار الفصل العنصري الذي صادر الأرض وحوّل المدن والقرى سجوناً وكانتونات، الى المستوطنات التي تسيطر على كل الموارد وتقتل البشر وتدمّر الحجر، الى المذلّة والهوان عند الحواجز العسكرية، الى قضية اللاجئين في بلدان الشتات...
ولم يكتفِ المسيحيون الفلسطينيون بهذه الوقفة الأولى مع البابا، فتنادى عدد من الأساقفة والآباء من مختلف الكنائس (كاثوليكية وأرثوذكسية وبروتستانتية) ليطرحوا أمام الرأي العام العالمي، وكنائس الغرب خصوصاً، وثيقة عُرفت باسم وثيقة "وقفة حق"... قدمت الوثيقة قراءة نقدية شجاعة في المواقف الفلسطينية المتنوعة والمختلفة حيال أسلوب مقاومة الاحتلال: أكان موقف السلطة الوطنية التفاوضي أم موقف "حماس" المسلّح. كما أخذت مسافة واعية مُحبة وناقدة للموقفين معاً، إذ هما تسلّما زمام قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ووصلا معاً (وأوصلا الشعب) إلى الحائط المسدود. إلا ان الوثيقة حملت المجتمع الدولي مسؤولية الانقسام الفلسطيني وتداعياته حين لم يقبل هذا المجتمع بالتعامل مع نتائج انتخابات 2006 برغم تغنّيه بالديموقراطية وتداول السلطة.
كانت الوثيقة بحق "كلمة إيمان مسيحي" حملت الهمّ الفلسطيني إلى مستوى اللاهوت حين قدّمت فهماً فلسطينياً ومسيحياً لمسألة "الوعد بالأرض"، فقالت إنه لم يكن عنواناً لبرنامج سياسي، بل مشروع لخلاص كوني شامل حمل رسالته كل الأنبياء وتجسد في الديانات التوحيدية الثلاثة. وفلسطين هي اليوم مكانٌ وزمانٌ لظلم مزدوج اذ ان التكفير عن الظلم الذي لحق باليهود لا يكون بظلم أشنع على حساب فلسطين. والوثيقة في جانبها المسكوني نداء للوقوف مع المظلوم ولقول كلمة حق ولاتخاذ موقف حق، من الاحتلال وتبعاته. ولذلك فهي تتوجه أيضاً إلى المجتمع الدولي للكف عن سياسة الكيل بمكيالين، وتدعوه إلى تطبيق نظام عقوبات على الكيان المحتل لفلسطين، ليس للإنتقام بل من أجل عمل جدي في سبيل السلام العادل والنهائي الذي ينهي كل أشكال الاحتلال ويضمن السلام والأمن للجميع.
ملاحظاتنا على الوثيقة:
-1 يجب ألا يغيب عن بالنا أنها وثيقة صادرة عن مجموعة من مسيحيي فلسطين، دعمها مجلس الكنائس العالمي: فهي إذن ليست وثيقة سياسية حزبية أو إسلامية جهادية. وهي من ناحية أخرى تأتي ضمن سياق المواقف المسيحية المسكونية (أي العالمية الموحدة) فهي بالتالي خلاصة الحد الأدنى لنقاط الاتفاق بين مختلف الكنائس المسيحية في العالم بما فيها موقف الفاتيكان.
-2 الا انها في الآن نفسه تنطلق من الانتماء الفلسطيني لأصحابها إذ هي تحمل الهمّ الوطني الفلسطيني والايمان الديني المسيحي معاً. ومن هنا تركيز الوثيقة على التوجه إلى الكنائس في العالم وإلى القادة السياسيين والمجتمع الدولي، ولكن أيضاً إلى "المجتمعين والشعبين" في فلسطين (المقصود الفلسطيني والإسرائيلي).
-3 سقفها السياسي هو إذن سقف الموقف العربي الرسمي المتجسّد في قرارات قمة بيروت أي مبادرة السلام العربية: الدعوة للسلام والعدالة بين شعبين ودولتين (فلسطين وإسرائيل).
-4 سبب وجود الوثيقة أو المسوغ الأساس هو الأزمة الفلسطينية العميقة: لا حل سيأتي من "فتح" أو "حماس"، والصمت الدولي بإزاء خطر الضياع الكامل لأي أمل بسلام ما.
-5 لا تقدم الوثيقة حلولاً إلا انها تتبنى ضمناً دعوة إلى إعادة توجيه فوائد ونتائج العمل المسلح وخصوصاً العمليات الاستشهادية وقصف الهاون، وإلى تبني المقاومة المدنية السلمية دون التخلي عن حق الدفاع (ولو المسلح) إنما الدفاع وليس أية سياسة أصولية تفاقم أزمة الشعب الفلسطيني.
-6 تدعو الوثيقة إلى استنهاض داخلي وإلى حشد دولي لعزل العدو. وتتبنى الدعوة الى فرض حصار على الكيان الصهيوني شبيه بالحصار الذي فرض على الأقلية العنصرية البيضاء في جنوب أفريقيا.
-7 غموض موضوع الحلول السياسية حول القدس، المستوطنات، حق العودة، لعله يعود إلى عدم الدخول في السياسة التفصيلية وترك ذلك للسياسيين. أو لعله يعود إلى عدم وجود موقف كنسي موحد حول ذلك أو حتى عدم وجود موقف فلسطيني أو عربي موحد.
من "وقفة حق"
إلى "شركة وشهادة"
صدرت وثيقة "وقفة حق" في أيام عيد الميلاد 2009 ولقيت فوراً تأييداً كنسياً عالمياً رفع لواءه مجلس الكنائس العالمي (مركزه جنيف) وعدد من الكنائس البروتستانتية في أميركا وأوروبا.
سبق ذلك إعلان البابا بينيديكتوس السادس عشر خلال اجتماعه مع بطاركة الشرق الأوسط ورؤساء الأساقفة (19 ايلول 2009) الدعوة الى عقد "جمعية خاصة لسينودس الأساقفة حول الشرق الاوسط". وهو شكّل لهذه الغاية مجلساً من سبعة بطاركة يمثلون ست كنائس شرقية (الموارنة، السريان، الكلدان، الملكيين، الأرمن، الأقباط) وبطريركية القدس للاتين، يعاونهم عدد من كبار العاملين في الفاتيكان. قام هذا المجلس بإعداد وثيقة أولى تعرف باسم "الخطوط العريضة" (صدرت في 8 كانون الاول 2009) أرفقت كل فصل منها بعدد من الأسئلة "بهدف إثارة النقاشات في كنائس الشرق الأوسط"، على أن تصل الأجوبة كلها قبل عيد الفصح (4 نيسان 2010) ليتم بعدها إعداد "ورقة العمل" التي سيسلمها البابا "لممثلين مؤهلين" من أساقفة الشرق الأوسط الكاثوليك، خلال زيارته الى قبرص في حزيران 2010.
وقد اجتمع الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي (محمد السماك، رياض جرجور، عباس الحلبي، حارث شهاب، كميل منسى، سعود المولى، هاني فحص، جورج مسوح) بممثل عن اللجنة الخاصة بالسينودس (سيادة المطران سليم غزال) وطرح أمامه ملاحظاته الكثيرة على الوثيقة وأبرز نقاطها باختصار شديد:
-1 عنوان السينودس هو حول الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط وليس عن مسيحيي الشرق أو المسيحيين العرب. فيما المطلوب هو التركيز على المشاكل التي يواجهها المسيحيون في الشرق العربي تحديداً. والمطلوب إبراز دورهم، وتاريخهم، والحديث عن مستقبلهم المشترك مع إخوانهم المسلمين العرب.
-2 لقد استمر التحضير لسينودس لبنان أكثر من أربع سنوات (من 12 حزيران 1991 الى آخر كانون الأول1995) برغم إلحاح وضغط المسألة اللبنانية أيام ما كان يسمى الإحباط المسيحي، في حين فاجأنا أن التحضير لهذا السينودس الخاص بالشرق الأوسط أعطي اقل من سنة (من تاريخ الدعوة في 19 أيلول2009 الى تاريخ الإنعقاد في 10 تشرين الأول 2010). فما هو المبرر لهذا الاستعجال؟
-3 كان من المطلوب الكلام تفصيلاً عن معاناة الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين. وإبراز الالتزام بقضية الشعب الفلسطيني ومعاناته. والانطلاق على الأقل من وثيقة "وقفة حق" المسيحية.
-4 في موضوع هجرة المسيحيين لا بد من الحديث عن أسباب الهجرة المسيحية وأهمها الحروب والنزاعات والأوضاع الاقتصادية الاجتماعية. وأخطرها ما يجري في فلسطين.
-5 هل الهدف من السينودس إصدار وثيقة تدين المسؤولين عن معاناة مسيحيي الشرق أم البحث عن حل لمشكلة مسيحيي الشرق؟ وهل الحل خارج الشرق أم ينبع من أهله؟
-6 مسيحيو الشرق جزء من ثقافة المنطقة وهويتها وهم يفهمون هذه الأمور فلماذا لم يُستشاروا في الأمر عند صوغ الوثيقة والإعداد لها؟
-7 هناك خطورة في طرح خيار الهجرة وكأنه الخيار الوحيد أمام المسيحيين في حين أن المطلوب استبداله بخيار البقاء والتجذر وطرح المسائل التي تساعد عليه ومسؤولية المسلمين فيه ودورهم. المطلوب إثارة مواضيع الحرية والديموقراطية والقهر والتمييز والمواطنة وهذه هي القضايا التي توحّد المسلمين والمسيحيين للعمل معاً في بلادهم.
-8 ضرورة التأكيد والتشديد على التمييز بين المسيحية والغرب. فلا يجوز أن يستمر الخلط بين المسيحية (الكاثوليكية تحديداً) والدول الغربية.
إضافة الى هذه الملاحظات القيَّمة التي شاركتُ في إعدادها أتمنى على الهيئة المسؤولة عن أعمال السينودس النظر في الملاحظات التالية النابعة من حرص إسلامي على الحوار:
-1 إن هذا المجمع هو مجمع خاص بالفاتيكان وليس بنا (مسلمين ومسيحيين غير كاثوليك) فلا نستطيع تغيير عنوانه أو أهدافه. وانما فلنحاول الاستفادة ما أمكن من إلتزام الفاتيكان بهذا الموضوع للتقدم معاً على طريق الخير لشعوبنا، مستذكرين مشاركتنا كمسلمين في السينودس الخاص بلبنان.
-2 أعتقد أن الملاحظة الأهم تتعلق بصيغة "الشرق الأوسط". فالخطوط العريضة واضحة حين تتحدث عن هذا الشرق الأوسط باعتباره يشمل المسيحيين "في وسط مجتمعاتهم الاسلامية: العربية - التركية - الاسرائيلية - الايرانية" (هكذا بالنص)، فنحن هنا نتحدث عن شرق أوسط ليس للعرب فيه (وتحديداً للمسيحيين العرب) أي وزن أو دور. وهو شرق أوسط لا يتسع فقط لإسرائيل (حيث يوجد مسيحيون بالطبع) ما يفرض بالتالي التعامل مع اليهود (إذ هم جزء من الشرق الأوسط - إسرائيل- وليس فقط باعتبارهم الديني)، وإنما يقيم تساوياً بين مختلف أضلاع هذا المربع السياسي الإقليمي: تركيا - إيران-إسرائيل - العرب... وبالتالي فإن المسألة تتعلق بالهدف من السينودس: هل هو الشرق الأوسط (وهي تسمية مطاطة قد تشمل أيضاً أفغانستان وباكستان وليس فقط تركيا وايران) أم العالم العربي؟ وهل المقصود بالشرق الأوسط صيغة ملتبسة لضمان الكلام مع الإسرائيليين؟ وهل مطلوب من المسيحيين العرب أن يكونوا عرّابي الحوار والتسوية مع إسرائيل؟ هل هكذا يفهم البابا الدور الجديد للمسيحيين في الشرق؟ ثم ألا يوجد خصوصية للمسيحيين العرب في هذا المجال؟ هل يتساوون في قضاياهم وهمومهم ووزنهم ودورهم مع مسيحيي تركيا وإيران؟ وأين ضاع مسيحيو فلسطين (الأرض المقدسة)؟
-3 ومن هنا ربما أيضاً ما سمعناه عن أن البابا سيقوم بتسليم الكنائس وثيقة "أداة العمل" في قبرص وليس في أي مكان آخر (لبنان أو سوريا مثلاً). فقبرص أيضاً هي جزء من هذا الشرق الأوسط. ومركز مجلس كنائس الشرق الأوسط كان طوال 30 سنة في قبرص (والقس الدكتور رياض جرجور كان هناك أميناً عاماً للمجلس). حين تأسس مجلس كنائس الشرق الأوسط (1974) كان الهاجس الأساسي وراء تأسيسه له علاقة بالمشكلة القبرصية وبالقضية الأرمنية (وهما تتصلان بتركيا). ناهيك عن انخراط البروتستانت في دور متعاظم في المنطقة من خلال القضية الفلسطينية، وبروز الدور القبطي من خلال الصراع بين البابا شنودة والرئيس السادات وانطلاقة الشرارة الطائفية في مصر أولاً (أحداث 1971) ثم في لبنان (منذ 1973). وصعود الوزن الارثوذكسي نسبة الى صعود دور وقوة الاتحاد السوفياتي في المنطقة بعد تبنيه لمنظمة التحرير الفلسطينية رسمياً(1974). وكان الارثوذكس دخلوا مجلس الكنائس العالمي العام 1961 ولم يدخله الكاثوليك. ولا ننسى أن الكنيسة الكاثوليكية لم تنضم الى مجلس كنائس الشرق الأوسط إلا في العام 1990 أي عشية سقوط الاتحاد السوفياتي ودخول العالم مرحلة جديدة. أما اليوم فهل هناك ما يستدعي التوجه الى "كنائس الشرق الأوسط الكاثوليكية" وليس الى كنائس العالم العربي؟
-4 حين نقرأ وثيقة الخطوط العريضة لهذا السينودس نرى الفرق الكبير بينها وبين وثيقة الخطوط العريضة للسينودس من أجل لبنان. ولكن ما لفت انتباهي في الوثيقة في القسم الخاص بوضع المسيحيين في الشرق الأوسط (نظرة تاريخية، الفقرات 8 الى 11، ص6-7) القول بأن الكنائس الكاثوليكية في الشرق (وهي سبع) ذات أصول ثقافية وبالتالي أيضاً طقسية، مختلفة، وينبع غناها من تنوعها. "لكن التمسك الزائد بالطقس وبالثقافة الخاصة يمكن أن تكون سبباً لفقرها جميعاً" (ص7). ولا يوجد بعد ذلك ما يشير الى ضرورة نقاش هذا الكلام الخطير أو الى معناه وهدفه ويمكننا الاستنتاج أن هناك دعوة الى جعل الكنائس الشرقية لاتينية رومانية في طقسها وثقافتها فهل هذا ما يقصده النص؟
-5 ورد أيضاً في الوثيقة دعوة واضحة الى تجديد التبشير!! هذا ما فهمته على الأقل من النص الذي يتحدث عن "الرسالة الخاصة بكنائسنا" والمتمثلة "بحمل الانجيل الى العالم أجمع"، وأن هذا الدافع الرسالي الرسولي كان "ملهماً للعديد من كنائسنا عبر التاريخ: في بلاد النوبة والحبشة وفي شبه الجزيرة العربية وبلاد فارس والهند، وحتى الصين". ومن قول النص بأن "هذا الدافع الانجيلي قد تباطأ اليوم غالباً وخبت شعلة الروح" (الصفحة 8، الفقرة 13)؟ ألا يعرف كاتبو الوثيقة من المطارنة والآباء الأجلاء خطورة هذا الكلام في هذه المرحلة؟ وهل الشهادة للمسيح في عالم اليوم تعني التبشير كما كان في القرون الغابرة أم هي تعني بالضبط الحوار والعيش المشترك والاحترام المتبادل والتعاون على الخير والبر والعدل والسلام، ورد الإثم والظلم والعدوان؟
-6 افهم أن يكون هناك همّ مسيحي كاثوليكي بالعلاقة مع اليهود. فالفاتيكان بدأ منذ فترة مسيرة الاعتذار والتوبة. وأفهم أن تتضمن الوثيقة (كما وثيقة وقفة حق بالمناسبة) دعوة للمصالحة مع اليهود وللسلام في المنطقة. ولكن ألفت الانتباه الى أن المسلمين والعرب سينظرون الى الوثيقة بمنظار الواقع السياسي وليس بمنظار لاهوتي أو فلسفي. فالمطلوب الانتباه كثيراً الى الصياغات والى الإشكالية الرئيسية التي يريد السينودس التعبير عنها. إذا لم يكن هناك تضامن صريح وواضح مع آلام وعذابات الشعب الفلسطيني وإذا لم يكن هناك كلام صريح وواضح حول مستقبل القدس من زاوية إسلامية مسيحية وزاوية وطنية فلسطينية (إسترشاداً على الأقل بوثيقة وقفة حق)، وإذا لم يكن هناك حوار صريح وشفاف مع العالم العربي والإسلامي حول العمل معاً من أجل التنمية والعدالة والسلام، فإن كل كلام آخر سيصب في طاحونة المواقف الإسرائيلية خصوصاً في هذه الفترة العصيبة التي تجتازها القضية الفلسطينية.
-7 يجب الانتباه إلى كيفية مقاربة موضوع هجرة المسيحيين من المنطقة أو قضية التعديات الواقعة على المسيحيين في بعض البلدان العربية. المسألة ليست مسألة "إضطهاد ديني" وإنما هي مسألة جرائم سياسية إرهابية تقع على المسلمين أيضاً وربما بقسوة أكبر، كما هو الحال في العراق على سبيل المثال. إن تصاعد الإرهاب "الإسلامي" التكفيري ضد الآخر ليس إضطهاداً دينياً تعيشه المجتمعات المسلمة أو تقوم به الدولة أو المجتمع بحق أقلية دينية. إنما هو من نوع الأزمات التي تطول مجمل المجتمع وتصيب كل أبنائه وتهدد نسيجه ووحدته في غياب الحلول العادلة والشاملة وفي غياب الدولة الحاضنة والضامنة للحرية والديموقراطية والعدالة والمواطنة.
أما في فلسطين فإن هناك سياسات تمييز عنصري وديني وسياسات احتلال واستيطان تمارسها الدولة الصهيونية.
-8 لا أدري لماذا قفزت الوثيقة (والأعمال التحضيرية لهذا السينودس) عن منجزات ومكتسبات تحققت خلال الخمسين سنة الماضية من الحوار والعيش معاً في هذا الشرق العربي؟ أقصد بالتحديد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) وبيانه التاريخي (نوسترا آيتاتي)، والسينودس الخاص بلبنان (حزيران1991- كانون الأول1995) والإرشاد الرسولي الصادر عن البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته التاريخية للبنان لتسليم الإرشاد (10 ايار 1997)، ومؤتمرات بطاركة الشرق الكاثوليك (انعقد المؤتمر التاسع عشر في تشرين الاول 2009) وبياناتها ومقرراتها؟ ولنأخذ بعض الأمثلة من هذه الوثائق:
"إن حواراً حقيقياً بين مؤمني الأديان التوحيدية الكبرى، يرتكز على الاحترام المتبادل والعمل معاً على حفظ العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية والسلام والحرية وتنميتها لجميع الناس" (المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في العلاقات مع الأديان غير المسيحية، الفقرة3).
"إن الكنيسة الكاثوليكية منفتحة على الحوار والتعاون مع المسلمين في لبنان، وتريد أن تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ منها. وفي الواقع إن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة. وكل ثقافة خاصة لا تزال تحمل طابع ما رفدتها به على الصعيد الديني وغير الديني الحضارات المختلفة التي تعاقبت على أرضهم" (سينودس الأساقفة الخاص بلبنان، وثيقة العمل، الفقرة 99).
"ومسيحيو لبنان وكامل العالم العربي فخورون بتراثهم، يساهمون مساهمة نشطة في التطور الثقافي... بودي أن أشدد بالنسبة الى مسيحيي لبنان، على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها، وأدعوهم الى اعتبار انضوائهم في الثقافة العربية التي أسهموا فيها إسهاماً كبيراً، موقعاً مميزاً لكي يُقيموا هم وسائر مسيحيي البلدان حواراً صادقاً وعميقاً مع المسلمين. إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه، وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيام عز وأيام بؤس، مدعوون الى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف الى تطوير شعوبهم تطويراً انسانياً وأخلاقياً، وعلاوة على ذلك قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى" (الإرشاد الرسولي، الفقرة 93 وعنوانها "التضامن مع العالم العربي").
-9 إن التحدي الرئيسي الذي يواجه أهل هذه البلاد يتعلق بدور المسيحيين العرب ومساهمتهم الفريدة في مجتمعاتهم وبالمسؤولية المشتركة بين المسلمين والمسيحيين في مواجهة هجرة المسيحيين من الشرق، ناهيك عن المسؤولية المشتركة في تجديد الحياة السياسية والثقافة السياسية وفي بناء أفق عربي إسلامي مسيحي علماني للعيش معاً وللتطور الديموقراطي لمجتمعاتنا العربية المأزومة.
-10 وفي هذا المجال لا أدري ما الحكمة من تجاهل مواقف رجال مثل السيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في لبنان والشيخ محمد الغزالي في مصر والشيخ حسن الترابي في السودان والشيخ راشد الغنوشي في تونس والسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد علي السيستاني في العراق؟
ألا يمكن أن نتقدم إلى السينودس على أساس ما قاله الشيخ شمس الدين في وصاياه؟ "أنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات وفي تسيير حركة التاريخ"...
باعتقادي أن هذه الكلمة الطيّبة الصادقة هي التي كان ينبغي أن تجسّد معنى عنوان السينودس "شركة وشهادة". شراكة كاملة مع المسلمين، وشهادة للحق والعدل قبل أي شيء آخر!
النهار- الأحد 04 نيسان 2010 - السنة 77 - العدد 2400
بقلم سعود المولى
خلال زيارته "الأرض المقدسة" (المقصود فلسطين المحتلة) في الفترة من 8 الى 15 أيار 2009، استمع البابا بينيديكتوس السادس عشر إلى شكاوى مسيحيي فلسطين (وعلى رأسهم مطارنة وكهنة) الذين استعرضوا أمامه هموم الشعب الفلسطيني ومعاناته: من جدار الفصل العنصري الذي صادر الأرض وحوّل المدن والقرى سجوناً وكانتونات، الى المستوطنات التي تسيطر على كل الموارد وتقتل البشر وتدمّر الحجر، الى المذلّة والهوان عند الحواجز العسكرية، الى قضية اللاجئين في بلدان الشتات...
ولم يكتفِ المسيحيون الفلسطينيون بهذه الوقفة الأولى مع البابا، فتنادى عدد من الأساقفة والآباء من مختلف الكنائس (كاثوليكية وأرثوذكسية وبروتستانتية) ليطرحوا أمام الرأي العام العالمي، وكنائس الغرب خصوصاً، وثيقة عُرفت باسم وثيقة "وقفة حق"... قدمت الوثيقة قراءة نقدية شجاعة في المواقف الفلسطينية المتنوعة والمختلفة حيال أسلوب مقاومة الاحتلال: أكان موقف السلطة الوطنية التفاوضي أم موقف "حماس" المسلّح. كما أخذت مسافة واعية مُحبة وناقدة للموقفين معاً، إذ هما تسلّما زمام قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ووصلا معاً (وأوصلا الشعب) إلى الحائط المسدود. إلا ان الوثيقة حملت المجتمع الدولي مسؤولية الانقسام الفلسطيني وتداعياته حين لم يقبل هذا المجتمع بالتعامل مع نتائج انتخابات 2006 برغم تغنّيه بالديموقراطية وتداول السلطة.
كانت الوثيقة بحق "كلمة إيمان مسيحي" حملت الهمّ الفلسطيني إلى مستوى اللاهوت حين قدّمت فهماً فلسطينياً ومسيحياً لمسألة "الوعد بالأرض"، فقالت إنه لم يكن عنواناً لبرنامج سياسي، بل مشروع لخلاص كوني شامل حمل رسالته كل الأنبياء وتجسد في الديانات التوحيدية الثلاثة. وفلسطين هي اليوم مكانٌ وزمانٌ لظلم مزدوج اذ ان التكفير عن الظلم الذي لحق باليهود لا يكون بظلم أشنع على حساب فلسطين. والوثيقة في جانبها المسكوني نداء للوقوف مع المظلوم ولقول كلمة حق ولاتخاذ موقف حق، من الاحتلال وتبعاته. ولذلك فهي تتوجه أيضاً إلى المجتمع الدولي للكف عن سياسة الكيل بمكيالين، وتدعوه إلى تطبيق نظام عقوبات على الكيان المحتل لفلسطين، ليس للإنتقام بل من أجل عمل جدي في سبيل السلام العادل والنهائي الذي ينهي كل أشكال الاحتلال ويضمن السلام والأمن للجميع.
ملاحظاتنا على الوثيقة:
-1 يجب ألا يغيب عن بالنا أنها وثيقة صادرة عن مجموعة من مسيحيي فلسطين، دعمها مجلس الكنائس العالمي: فهي إذن ليست وثيقة سياسية حزبية أو إسلامية جهادية. وهي من ناحية أخرى تأتي ضمن سياق المواقف المسيحية المسكونية (أي العالمية الموحدة) فهي بالتالي خلاصة الحد الأدنى لنقاط الاتفاق بين مختلف الكنائس المسيحية في العالم بما فيها موقف الفاتيكان.
-2 الا انها في الآن نفسه تنطلق من الانتماء الفلسطيني لأصحابها إذ هي تحمل الهمّ الوطني الفلسطيني والايمان الديني المسيحي معاً. ومن هنا تركيز الوثيقة على التوجه إلى الكنائس في العالم وإلى القادة السياسيين والمجتمع الدولي، ولكن أيضاً إلى "المجتمعين والشعبين" في فلسطين (المقصود الفلسطيني والإسرائيلي).
-3 سقفها السياسي هو إذن سقف الموقف العربي الرسمي المتجسّد في قرارات قمة بيروت أي مبادرة السلام العربية: الدعوة للسلام والعدالة بين شعبين ودولتين (فلسطين وإسرائيل).
-4 سبب وجود الوثيقة أو المسوغ الأساس هو الأزمة الفلسطينية العميقة: لا حل سيأتي من "فتح" أو "حماس"، والصمت الدولي بإزاء خطر الضياع الكامل لأي أمل بسلام ما.
-5 لا تقدم الوثيقة حلولاً إلا انها تتبنى ضمناً دعوة إلى إعادة توجيه فوائد ونتائج العمل المسلح وخصوصاً العمليات الاستشهادية وقصف الهاون، وإلى تبني المقاومة المدنية السلمية دون التخلي عن حق الدفاع (ولو المسلح) إنما الدفاع وليس أية سياسة أصولية تفاقم أزمة الشعب الفلسطيني.
-6 تدعو الوثيقة إلى استنهاض داخلي وإلى حشد دولي لعزل العدو. وتتبنى الدعوة الى فرض حصار على الكيان الصهيوني شبيه بالحصار الذي فرض على الأقلية العنصرية البيضاء في جنوب أفريقيا.
-7 غموض موضوع الحلول السياسية حول القدس، المستوطنات، حق العودة، لعله يعود إلى عدم الدخول في السياسة التفصيلية وترك ذلك للسياسيين. أو لعله يعود إلى عدم وجود موقف كنسي موحد حول ذلك أو حتى عدم وجود موقف فلسطيني أو عربي موحد.
من "وقفة حق"
إلى "شركة وشهادة"
صدرت وثيقة "وقفة حق" في أيام عيد الميلاد 2009 ولقيت فوراً تأييداً كنسياً عالمياً رفع لواءه مجلس الكنائس العالمي (مركزه جنيف) وعدد من الكنائس البروتستانتية في أميركا وأوروبا.
سبق ذلك إعلان البابا بينيديكتوس السادس عشر خلال اجتماعه مع بطاركة الشرق الأوسط ورؤساء الأساقفة (19 ايلول 2009) الدعوة الى عقد "جمعية خاصة لسينودس الأساقفة حول الشرق الاوسط". وهو شكّل لهذه الغاية مجلساً من سبعة بطاركة يمثلون ست كنائس شرقية (الموارنة، السريان، الكلدان، الملكيين، الأرمن، الأقباط) وبطريركية القدس للاتين، يعاونهم عدد من كبار العاملين في الفاتيكان. قام هذا المجلس بإعداد وثيقة أولى تعرف باسم "الخطوط العريضة" (صدرت في 8 كانون الاول 2009) أرفقت كل فصل منها بعدد من الأسئلة "بهدف إثارة النقاشات في كنائس الشرق الأوسط"، على أن تصل الأجوبة كلها قبل عيد الفصح (4 نيسان 2010) ليتم بعدها إعداد "ورقة العمل" التي سيسلمها البابا "لممثلين مؤهلين" من أساقفة الشرق الأوسط الكاثوليك، خلال زيارته الى قبرص في حزيران 2010.
وقد اجتمع الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي (محمد السماك، رياض جرجور، عباس الحلبي، حارث شهاب، كميل منسى، سعود المولى، هاني فحص، جورج مسوح) بممثل عن اللجنة الخاصة بالسينودس (سيادة المطران سليم غزال) وطرح أمامه ملاحظاته الكثيرة على الوثيقة وأبرز نقاطها باختصار شديد:
-1 عنوان السينودس هو حول الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط وليس عن مسيحيي الشرق أو المسيحيين العرب. فيما المطلوب هو التركيز على المشاكل التي يواجهها المسيحيون في الشرق العربي تحديداً. والمطلوب إبراز دورهم، وتاريخهم، والحديث عن مستقبلهم المشترك مع إخوانهم المسلمين العرب.
-2 لقد استمر التحضير لسينودس لبنان أكثر من أربع سنوات (من 12 حزيران 1991 الى آخر كانون الأول1995) برغم إلحاح وضغط المسألة اللبنانية أيام ما كان يسمى الإحباط المسيحي، في حين فاجأنا أن التحضير لهذا السينودس الخاص بالشرق الأوسط أعطي اقل من سنة (من تاريخ الدعوة في 19 أيلول2009 الى تاريخ الإنعقاد في 10 تشرين الأول 2010). فما هو المبرر لهذا الاستعجال؟
-3 كان من المطلوب الكلام تفصيلاً عن معاناة الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين. وإبراز الالتزام بقضية الشعب الفلسطيني ومعاناته. والانطلاق على الأقل من وثيقة "وقفة حق" المسيحية.
-4 في موضوع هجرة المسيحيين لا بد من الحديث عن أسباب الهجرة المسيحية وأهمها الحروب والنزاعات والأوضاع الاقتصادية الاجتماعية. وأخطرها ما يجري في فلسطين.
-5 هل الهدف من السينودس إصدار وثيقة تدين المسؤولين عن معاناة مسيحيي الشرق أم البحث عن حل لمشكلة مسيحيي الشرق؟ وهل الحل خارج الشرق أم ينبع من أهله؟
-6 مسيحيو الشرق جزء من ثقافة المنطقة وهويتها وهم يفهمون هذه الأمور فلماذا لم يُستشاروا في الأمر عند صوغ الوثيقة والإعداد لها؟
-7 هناك خطورة في طرح خيار الهجرة وكأنه الخيار الوحيد أمام المسيحيين في حين أن المطلوب استبداله بخيار البقاء والتجذر وطرح المسائل التي تساعد عليه ومسؤولية المسلمين فيه ودورهم. المطلوب إثارة مواضيع الحرية والديموقراطية والقهر والتمييز والمواطنة وهذه هي القضايا التي توحّد المسلمين والمسيحيين للعمل معاً في بلادهم.
-8 ضرورة التأكيد والتشديد على التمييز بين المسيحية والغرب. فلا يجوز أن يستمر الخلط بين المسيحية (الكاثوليكية تحديداً) والدول الغربية.
إضافة الى هذه الملاحظات القيَّمة التي شاركتُ في إعدادها أتمنى على الهيئة المسؤولة عن أعمال السينودس النظر في الملاحظات التالية النابعة من حرص إسلامي على الحوار:
-1 إن هذا المجمع هو مجمع خاص بالفاتيكان وليس بنا (مسلمين ومسيحيين غير كاثوليك) فلا نستطيع تغيير عنوانه أو أهدافه. وانما فلنحاول الاستفادة ما أمكن من إلتزام الفاتيكان بهذا الموضوع للتقدم معاً على طريق الخير لشعوبنا، مستذكرين مشاركتنا كمسلمين في السينودس الخاص بلبنان.
-2 أعتقد أن الملاحظة الأهم تتعلق بصيغة "الشرق الأوسط". فالخطوط العريضة واضحة حين تتحدث عن هذا الشرق الأوسط باعتباره يشمل المسيحيين "في وسط مجتمعاتهم الاسلامية: العربية - التركية - الاسرائيلية - الايرانية" (هكذا بالنص)، فنحن هنا نتحدث عن شرق أوسط ليس للعرب فيه (وتحديداً للمسيحيين العرب) أي وزن أو دور. وهو شرق أوسط لا يتسع فقط لإسرائيل (حيث يوجد مسيحيون بالطبع) ما يفرض بالتالي التعامل مع اليهود (إذ هم جزء من الشرق الأوسط - إسرائيل- وليس فقط باعتبارهم الديني)، وإنما يقيم تساوياً بين مختلف أضلاع هذا المربع السياسي الإقليمي: تركيا - إيران-إسرائيل - العرب... وبالتالي فإن المسألة تتعلق بالهدف من السينودس: هل هو الشرق الأوسط (وهي تسمية مطاطة قد تشمل أيضاً أفغانستان وباكستان وليس فقط تركيا وايران) أم العالم العربي؟ وهل المقصود بالشرق الأوسط صيغة ملتبسة لضمان الكلام مع الإسرائيليين؟ وهل مطلوب من المسيحيين العرب أن يكونوا عرّابي الحوار والتسوية مع إسرائيل؟ هل هكذا يفهم البابا الدور الجديد للمسيحيين في الشرق؟ ثم ألا يوجد خصوصية للمسيحيين العرب في هذا المجال؟ هل يتساوون في قضاياهم وهمومهم ووزنهم ودورهم مع مسيحيي تركيا وإيران؟ وأين ضاع مسيحيو فلسطين (الأرض المقدسة)؟
-3 ومن هنا ربما أيضاً ما سمعناه عن أن البابا سيقوم بتسليم الكنائس وثيقة "أداة العمل" في قبرص وليس في أي مكان آخر (لبنان أو سوريا مثلاً). فقبرص أيضاً هي جزء من هذا الشرق الأوسط. ومركز مجلس كنائس الشرق الأوسط كان طوال 30 سنة في قبرص (والقس الدكتور رياض جرجور كان هناك أميناً عاماً للمجلس). حين تأسس مجلس كنائس الشرق الأوسط (1974) كان الهاجس الأساسي وراء تأسيسه له علاقة بالمشكلة القبرصية وبالقضية الأرمنية (وهما تتصلان بتركيا). ناهيك عن انخراط البروتستانت في دور متعاظم في المنطقة من خلال القضية الفلسطينية، وبروز الدور القبطي من خلال الصراع بين البابا شنودة والرئيس السادات وانطلاقة الشرارة الطائفية في مصر أولاً (أحداث 1971) ثم في لبنان (منذ 1973). وصعود الوزن الارثوذكسي نسبة الى صعود دور وقوة الاتحاد السوفياتي في المنطقة بعد تبنيه لمنظمة التحرير الفلسطينية رسمياً(1974). وكان الارثوذكس دخلوا مجلس الكنائس العالمي العام 1961 ولم يدخله الكاثوليك. ولا ننسى أن الكنيسة الكاثوليكية لم تنضم الى مجلس كنائس الشرق الأوسط إلا في العام 1990 أي عشية سقوط الاتحاد السوفياتي ودخول العالم مرحلة جديدة. أما اليوم فهل هناك ما يستدعي التوجه الى "كنائس الشرق الأوسط الكاثوليكية" وليس الى كنائس العالم العربي؟
-4 حين نقرأ وثيقة الخطوط العريضة لهذا السينودس نرى الفرق الكبير بينها وبين وثيقة الخطوط العريضة للسينودس من أجل لبنان. ولكن ما لفت انتباهي في الوثيقة في القسم الخاص بوضع المسيحيين في الشرق الأوسط (نظرة تاريخية، الفقرات 8 الى 11، ص6-7) القول بأن الكنائس الكاثوليكية في الشرق (وهي سبع) ذات أصول ثقافية وبالتالي أيضاً طقسية، مختلفة، وينبع غناها من تنوعها. "لكن التمسك الزائد بالطقس وبالثقافة الخاصة يمكن أن تكون سبباً لفقرها جميعاً" (ص7). ولا يوجد بعد ذلك ما يشير الى ضرورة نقاش هذا الكلام الخطير أو الى معناه وهدفه ويمكننا الاستنتاج أن هناك دعوة الى جعل الكنائس الشرقية لاتينية رومانية في طقسها وثقافتها فهل هذا ما يقصده النص؟
-5 ورد أيضاً في الوثيقة دعوة واضحة الى تجديد التبشير!! هذا ما فهمته على الأقل من النص الذي يتحدث عن "الرسالة الخاصة بكنائسنا" والمتمثلة "بحمل الانجيل الى العالم أجمع"، وأن هذا الدافع الرسالي الرسولي كان "ملهماً للعديد من كنائسنا عبر التاريخ: في بلاد النوبة والحبشة وفي شبه الجزيرة العربية وبلاد فارس والهند، وحتى الصين". ومن قول النص بأن "هذا الدافع الانجيلي قد تباطأ اليوم غالباً وخبت شعلة الروح" (الصفحة 8، الفقرة 13)؟ ألا يعرف كاتبو الوثيقة من المطارنة والآباء الأجلاء خطورة هذا الكلام في هذه المرحلة؟ وهل الشهادة للمسيح في عالم اليوم تعني التبشير كما كان في القرون الغابرة أم هي تعني بالضبط الحوار والعيش المشترك والاحترام المتبادل والتعاون على الخير والبر والعدل والسلام، ورد الإثم والظلم والعدوان؟
-6 افهم أن يكون هناك همّ مسيحي كاثوليكي بالعلاقة مع اليهود. فالفاتيكان بدأ منذ فترة مسيرة الاعتذار والتوبة. وأفهم أن تتضمن الوثيقة (كما وثيقة وقفة حق بالمناسبة) دعوة للمصالحة مع اليهود وللسلام في المنطقة. ولكن ألفت الانتباه الى أن المسلمين والعرب سينظرون الى الوثيقة بمنظار الواقع السياسي وليس بمنظار لاهوتي أو فلسفي. فالمطلوب الانتباه كثيراً الى الصياغات والى الإشكالية الرئيسية التي يريد السينودس التعبير عنها. إذا لم يكن هناك تضامن صريح وواضح مع آلام وعذابات الشعب الفلسطيني وإذا لم يكن هناك كلام صريح وواضح حول مستقبل القدس من زاوية إسلامية مسيحية وزاوية وطنية فلسطينية (إسترشاداً على الأقل بوثيقة وقفة حق)، وإذا لم يكن هناك حوار صريح وشفاف مع العالم العربي والإسلامي حول العمل معاً من أجل التنمية والعدالة والسلام، فإن كل كلام آخر سيصب في طاحونة المواقف الإسرائيلية خصوصاً في هذه الفترة العصيبة التي تجتازها القضية الفلسطينية.
-7 يجب الانتباه إلى كيفية مقاربة موضوع هجرة المسيحيين من المنطقة أو قضية التعديات الواقعة على المسيحيين في بعض البلدان العربية. المسألة ليست مسألة "إضطهاد ديني" وإنما هي مسألة جرائم سياسية إرهابية تقع على المسلمين أيضاً وربما بقسوة أكبر، كما هو الحال في العراق على سبيل المثال. إن تصاعد الإرهاب "الإسلامي" التكفيري ضد الآخر ليس إضطهاداً دينياً تعيشه المجتمعات المسلمة أو تقوم به الدولة أو المجتمع بحق أقلية دينية. إنما هو من نوع الأزمات التي تطول مجمل المجتمع وتصيب كل أبنائه وتهدد نسيجه ووحدته في غياب الحلول العادلة والشاملة وفي غياب الدولة الحاضنة والضامنة للحرية والديموقراطية والعدالة والمواطنة.
أما في فلسطين فإن هناك سياسات تمييز عنصري وديني وسياسات احتلال واستيطان تمارسها الدولة الصهيونية.
-8 لا أدري لماذا قفزت الوثيقة (والأعمال التحضيرية لهذا السينودس) عن منجزات ومكتسبات تحققت خلال الخمسين سنة الماضية من الحوار والعيش معاً في هذا الشرق العربي؟ أقصد بالتحديد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) وبيانه التاريخي (نوسترا آيتاتي)، والسينودس الخاص بلبنان (حزيران1991- كانون الأول1995) والإرشاد الرسولي الصادر عن البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته التاريخية للبنان لتسليم الإرشاد (10 ايار 1997)، ومؤتمرات بطاركة الشرق الكاثوليك (انعقد المؤتمر التاسع عشر في تشرين الاول 2009) وبياناتها ومقرراتها؟ ولنأخذ بعض الأمثلة من هذه الوثائق:
"إن حواراً حقيقياً بين مؤمني الأديان التوحيدية الكبرى، يرتكز على الاحترام المتبادل والعمل معاً على حفظ العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية والسلام والحرية وتنميتها لجميع الناس" (المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في العلاقات مع الأديان غير المسيحية، الفقرة3).
"إن الكنيسة الكاثوليكية منفتحة على الحوار والتعاون مع المسلمين في لبنان، وتريد أن تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ منها. وفي الواقع إن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة. وكل ثقافة خاصة لا تزال تحمل طابع ما رفدتها به على الصعيد الديني وغير الديني الحضارات المختلفة التي تعاقبت على أرضهم" (سينودس الأساقفة الخاص بلبنان، وثيقة العمل، الفقرة 99).
"ومسيحيو لبنان وكامل العالم العربي فخورون بتراثهم، يساهمون مساهمة نشطة في التطور الثقافي... بودي أن أشدد بالنسبة الى مسيحيي لبنان، على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها، وأدعوهم الى اعتبار انضوائهم في الثقافة العربية التي أسهموا فيها إسهاماً كبيراً، موقعاً مميزاً لكي يُقيموا هم وسائر مسيحيي البلدان حواراً صادقاً وعميقاً مع المسلمين. إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه، وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيام عز وأيام بؤس، مدعوون الى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف الى تطوير شعوبهم تطويراً انسانياً وأخلاقياً، وعلاوة على ذلك قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى" (الإرشاد الرسولي، الفقرة 93 وعنوانها "التضامن مع العالم العربي").
-9 إن التحدي الرئيسي الذي يواجه أهل هذه البلاد يتعلق بدور المسيحيين العرب ومساهمتهم الفريدة في مجتمعاتهم وبالمسؤولية المشتركة بين المسلمين والمسيحيين في مواجهة هجرة المسيحيين من الشرق، ناهيك عن المسؤولية المشتركة في تجديد الحياة السياسية والثقافة السياسية وفي بناء أفق عربي إسلامي مسيحي علماني للعيش معاً وللتطور الديموقراطي لمجتمعاتنا العربية المأزومة.
-10 وفي هذا المجال لا أدري ما الحكمة من تجاهل مواقف رجال مثل السيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في لبنان والشيخ محمد الغزالي في مصر والشيخ حسن الترابي في السودان والشيخ راشد الغنوشي في تونس والسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد علي السيستاني في العراق؟
ألا يمكن أن نتقدم إلى السينودس على أساس ما قاله الشيخ شمس الدين في وصاياه؟ "أنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات وفي تسيير حركة التاريخ"...
باعتقادي أن هذه الكلمة الطيّبة الصادقة هي التي كان ينبغي أن تجسّد معنى عنوان السينودس "شركة وشهادة". شراكة كاملة مع المسلمين، وشهادة للحق والعدل قبل أي شيء آخر!
النهار- الأحد 04 نيسان 2010 - السنة 77 - العدد 2400
الجيش الأميركي في أساس الأزمة الأميركية - الإسرائيلية الراهنة
الجيش الأميركي في أساس
الأزمة الأميركية - الإسرائيلية الراهنة
بقلم منير شفيق
كثير من الخبراء في الشؤون الأميركية الداخلية يستثنون الجيش (يضمّ القوات المسلحة والأجهزة الأمنية) من لعب أي دور في صوغ السياسات الأميركية، فهو في نظرهم لا يتدخل في السياسة ولا علاقة له بمراكز القرار أو اللوبيات المؤثرّة فيها. هؤلاء ليسوا على خطأ حين يتعلق الأمر بكثير من السياسات الأميركية التفصيلية عموماً، ولا سيما في الحالات العادية حيث لا يكون فيها الجيش منخرطاً في حروب، أو في الحالات التي ليس له علاقات عسكرية مباشرة بها (قواعد عسكرية أو ما شابه ذلك). وهذا ينطبق، عموماً، على الديموقراطيات الغربية كافة، ولكن الأمر ليس كذلك في كل الأوضاع والأوقات.
الجيوش في الديموقراطيات الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لها دور رئيس في تحديد الإستراتيجية العسكرية المتبعة وفي تحديد أولوياتها، بل إن هذه الإستراتيجية غالبا ما تفرض نفسها على صانع القرار السياسي كأولوية مطلقة على ما عداها من أولويات في المجالات الأخرى سواء في السياسة أو الاقتصاد وغيرها. فدور الجيوش في الغرب يظل أهم بكثير مما يلقى عليه الضوء في اتجاهات السياسة التي يفترض فيها أن تخدم الإستراتيجية أو تترجمها، فلولا الجيوش التي تخوض الحروب أو تهدّد بخوضها، ومن ثم تحدّد مناطق النفوذ وموقع كل دولة كبرى في ميزان القوى العالمي، ومن ثم أدوارها السياسية والاقتصادية والثقافية، لما كانت هنالك هيمنة غربية على العالم منذ مئات السنين حتى اليوم.
صحيح أن دور الجيش في ضبط النظام الديموقراطي نفسه وفي حماية الرأسمالية نفسها، لا يظهر على حقيقته ضمن اللعبة الديموقراطية، ولكن ذلك لا يعني إسقاطه من الحساب أو عدم أخذه في الاعتبار، عندما يبدأ بالتململ أو الاعتراض على سياسات معينة، بل يجب أن يُحسب له ألف حساب عندما يبدأ بإرسال الإشارات التي يجب أن يفهمها الرئيس ومن حوله، بل كل من يهمّه أمر إدارة أوضاع البلد المعني.
عندما جاء الرئيس الأميركي باراك أوباما كان وضع الجيش الأميركي مأزوماً في العراق وأفغانستان وباكستان، وكانت سمعة أميركا قد تدهورت إلى حد كبير، وأخذ يضعف دورها على المستوى الدولي بصورة متزايدة. وقد فقدت القدرة على بناء نظام القطب الواحد عالمياً، ووجدت نفسها غير قادرة على قيادة نظام عالمي متعدّد القطب.
هذا إلى جانب الفشل في "إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير"، ونشوء نوع من الفراغ فيه بسبب انحسار النفوذ الأميركي وتزعزع مكانة الدول العربية التي راهنت على السياسات الأميركية، وعملية التسوية. وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى الحليف الأول في المنطقة؛ إذ خسر الجيش الإسرائيلي حربَيْ 2006 في لبنان و2008-2009 في قطاع غزة، فيما كبر الدور الإيراني والسوري ودور المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية والأفغانية. وهذا كله شكل، ومازال يشكل قلقاً أميركياً، ويحفر في أخاديد تدهور الوضع الأميركي العام. ثم انفجرت الفقاعة المالية التي تداعت إلى أزمة اقتصادية شاملة في ما بعد، مما أخذ يزيد من تدهور قوّة الدولار، وتعاظم الأدوار الاقتصادية الإنتاجية للصين والهند والبرازيل، وعدد من الدول الأخرى من الدرجتين الثانية والثالثة.
هذه الأزمة الأميركية التي لم يسبق لها مثيل منذ نيل الولايات المتحدة الأميركية استقلالها وتحقيق وحدتها، ولا سيما أزمة الوضع العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان وباكستان، فرضت دوراً متزايدا للجيش والـ"سي.آي.إي" والـ"أف.بي.آي"، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة في السياسات الأميركية في المنطقة التي يسّمونها "الشرق الأوسط الكبير"، وهي الممتدّة من فلسطين إلى باكستان.
لوحظ هذا الدور منذ اليوم الأول لوصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة الأميركية. وذلك من خلال جملة من زيارات لجنرالات من الجيش الأميركي وفي مقدّمهم رئيس هيئة الأركان مايكل مولن لمعظم دول المنطقة. وقد صدرت تصريحات عدّة تعتبر بأن تحقيق التسوية للصراع في فلسطين (النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي) يشكل مصلحة أميركية، خصوصاً للجيش الأميركي في العراق وأفغانستان وباكستان. وكتب توماس فريدمان يحذر اللوبي الأميركي الموالي لإسرائيل وحكومة نتنياهو بأن إفشال جورج ميتشل يتعارض مع رغبة الجيش و"السي.آي.إي" وذلك لأهمية إنجاز تسوية ما من شأنها أن تسهل مهمة الجيش الأميركي في جبهات العراق وأفغانستان وباكستان، ولكن كما يبدو لم تصل الرسالة، ولم تجد آذانا صاغية من جهة نتنياهو و"اللوبيات اليهودية" القريبة منه.
لا شك في أن توماس فريدمان ومعه عدد غير قليل من مؤيدّي إسرائيل و"اللوبي الصهيوني" الأميركي، يشعرون بقلق شديد عندما يذهب نتنياهو واللوبي المؤيد لإسرائيل إلى حدّ تحدّي إرادة الجيش الأميركي في ما يعتبره مصلحة أميركية عليا، وهذا القلق مشروع تماماً. وقد زاد الأمر تعقيدا بعدما أُفشلت مهمة ميتشل الأولى، وأُجبِر أوباما على التراجع والخضوع لمشروع نتنياهو الخاص بوقف جزئي للاستيطان في الضفة الغربية واستثناء القدس تماماً، في مقابل إطلاق المفاوضات؛ الأمر الذي أطاح هيبة أوباما وأضعف سياساته الخاصة بتحسين صورة أميركا الخارجية، لا سيما في نظر العالم الإسلامي.
ربما اعتبر اللوبي الأميركي الموالي لإسرائيل وحكومة نتنياهو أن إفشال مهمة ميتشل ستمرّ مرّ الكرام، ولن تكون لها آثار سلبية عليهما. وهو ما شجع حكومة نتنياهو على الإعلان عن قرار بناء 1600 وحدة سكنية استيطانية جديدة في القدس أثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، وقد جاء إلى القدس ليدعم مهمة جورج ميتشل في مرحلتها الثانية في إطلاق مفاوضات غير مباشرة لمدة أربعة أشهر.
جاء ردّ فعل جو بايدن شديداً أقوى مما كان يمكن أن يتوقعه نتنياهو. مما اضطرّه للاعتذار عن التوقيت وليس القرار، ولكن ذلك لم يُنهِ الأزمة. وقد تدخلت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لتصعِّد في الاحتجاج والنقد. مما يكشف أن ردود بايدن وكلينتون والناطق الرسمي عبّرت عن احتقان وغضب حقيقيين، بعد أن فاض الكيل بسبب عدم تعاون نتنياهو وامتناعه عن المساعدة في إنجاز طلب أميركي يمسّ مصلحة أميركية عليا لا يمكن التهاون بشأنها.
على أن التقرير الذي أبرزه مارك بيري في 17 آذار 2010 تحت عنوان "تقرير بترايوس وإحراج بايدن لا يغطيّان كل القصة"، يُظهر ما يكمن وراء موقف بايدن وكلينتون وإدارة أوباما. كما أن صدوره في هذا التاريخ بعد ثلاثة أشهر من تقرير بترايوس وكشْف ما تضمنه يحمل دلالة مشحونة برسالة لكل من نتنياهو و"اللوبي اليهودي" الأميركي. وخلاصتها أن اللعب الآن ليس مع أوباما ويخرج عن حدود اللعبة السياسية الأميركية الداخلية. يتعلق الأمر الآن بمواجهة مع الجيش وهي تمسّ الدم الأميركي والمصلحة العليا الأميركية.
ما كشفته مقالة مارك بيري من تقرير فريق ضباط القيادة المركزية (آسيا الوسطى) المسؤولين عن النظر في المصالح الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط التي يقودها الجنرال ديفيد بترايوس، قُدِّم في 16 كانون الأول 2010 إلى هيئة الأركان برئاسة الأدميرال مايكل مولن في البنتاغون. وقد عبّر التقرير عن شدة قلقه بسبب عدم التقدّم في الصراع العربي الإسرائيلي، وجاء التقرير صادماً لمولن. فقد أكد كاتبو التقرير على ازدياد الاقتناع لدى الزعماء العرب بأن الولايات المتحدة لا تستطيع الوقوف في وجه إسرائيل، وأن القادة العرب في "المنطقة الوسطى" التي يُشرف عليها بترايوس فقدوا، في الغالب، الثقة بالوعود الأميركية. وأن التجاوزات الإسرائيلية في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني راحت تشكل خطراً على الموقف الأميركي في المنطقة.
إن التقرير المقدَّم لمولن لا سابق له من قِبَل قائد المنطقة الوسطى من حيث التعبير عن رأيه في مسألة سياسية. فقد أكد الفريق الذي قابل معظم الزعماء العرب في كانون الاول 2009 بأنه حيثما ذهب كانت الرسالة واضحة: "ليست أميركا ضعيفة فحسب، وإنما أيضاً سمعتها العسكرية آخذة في التآكل في المنطقة".
هذا وقد سُرِّبت أنباء، نُفيت لاحقاً، ولكنها تدخل ضمن إطار التقرير ومن ذلك أن بترايوس طالب بضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مجال المنطقة الوسطى وليس للقيادة الأميركية في أوروبا. وذلك ليقتنع القادة العرب بأن القيادة العسكرية الأميركية منخرطة في أشدّ الصراعات المعقدّة في المنطقة. لقد نزل التقرير على إدارة أوباما نزول الصاعقة، وكان ردّها مضاعفة جهودها، مرّة أخرى، والضغط على إسرائيل حول موضوع المستوطنات وإرسال ميتشل إلى عدد من الدول العربية ثم إرسال رئيس هيئة الأركان مولن لمقابلة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غابي أشكينازي.
وبعد الإهانة التي تلقاها بايدن بعث إلى نتنياهو يقول "ما تفعله يُهدّد أمن قواتنا التي تقاتل في العراق وأفغانستان وباكستان، كما أنها تُعرضنا للخطر وتعرّض السلام في المنطقة للخطر". عاد بترايوس وصرّح علناً بما ورد في التقرير المذكور، ثم كرّره وزير الدفاع روبرت غيتس. وكان ذلك في 23-25 آذار الماضي أثناء زيارة نتنياهو لواشنطن. وقيل إنه رجع بعد لقاء مطوّل مع أوباما ولقاءات مجهدة بين وفديْهما إلى إسرائيل، وهو يحمل، أي نتنياهو مجموعة من الطلبات التي لم يستطع أن يبّت فيها، وطلب أن يردّ عليها بعد عودته.
خلاصة
صحيح أن هذه ليست أول أزمة تحدث بين حكومة إسرائيلية وإدارة أميركية، بل ربما ما حدث من أزمات سابقا كان أشدّ. ولكن هذه الأزمة تحدث في ظل تراجع وضع كل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في ميزان القوى الدولي، وفي ظروف تمسّ أمن القوات الأميركية المقاتلة، وشبه المهزومة، في العراق وأفغانستان وباكستان. مما يعني أن التناقض هذه المرّة يحمل خصوصية تختلف عن كل ما سبقها. فالجيش الأميركي هو الذي يصرخ وهو الذي يطلب، وليس من اليسير على الرئيس، كما كان يحدث في المرّات السابقة، أن يتجاوزه ويطالبه بتجاوز الإشكال.
من هنا سيكون لهذه الأزمة بُعدان أساسيّان:
الأول: إذا لم يستجب نتنياهو و"اللوبي الصهيوني" لما يطلبه الجيش الأميركي وهو ينزف الدماء، فالتناقض سيتعمّق بين الجيش وفئات واسعة من "الواسبس" (البيض البروتستانت الأنكلوسكسون الأميركيون) ضدّ "النفوذ الصهيوني" في الولايات المتحدة وليس ضد إسرائيل فقط. إنه امتحان شديد لحنكة القيادة "الصهيونية" في الولايات المتحدة، حتى لو كانت بوسائل الضغوط المختلفة قادرة على ليّ ذراع الإدارة وتجاهل ما يريده الجيش. ذلك لأنها إن فعلت كما فعلت أول مرة مع مشروع ميتشل عام 2009، فسوف تبدأ بتخريب بيتها في الولايات المتحدة نفسها.
أما إذا تراجعت فهذا يعني أن آفاق الوصول إلى تسوية تصبح أقوى من أيّة فترة سابقة لا سيما مع وجود قيادة عباس-فياض في السلطة الفلسطينية في رام الله ووجود القيادة المصرية الحالية. ولكن إذا تمّ ذلك وسيكون، لا محالة، مرفوضاً من الشعب الفلسطيني ومن العرب والمسلمين عامّة، فمعنى ذلك الدخول في صراع في المنطقة أشدّ من ذي قبل. إن سقف التسوية الذي يعمل ميتشل تحته، على نحو ما عبَّر عنه بيان الرباعية من موسكو يقتطع في طريقه جزءاً كبيراً من الحقوق الفلسطينية في القدس ولا سيما شرقيها في المدينة القديمة بما في ذلك من المسجد الأقصى نفسه. هذا إلى جانب ما تُرِك للمفاوضات من تبادل أراضٍ في الضفة الغربية قد
يصل إلى ابتلاع معظم ما ضمّه الجدار والمستوطنات وحتى الأغوار.
الثاني: ثمة أثر عميق تحقق منذ الآن على هامش الأزمة الحالية، وما عكسته من انطباعات على الرأي العام الأميركي والغربي. فنتائج هذه الأزمة على الرأي العام الأميركي والغربي عموماً ستكون شديدة السلبية على الموقف من إسرائيل، مما سيضيف عاملاً جديداً إلى ما تركته حرب العدوان على غزة من آثار سلبية في نظر ذلك الرأي العام إليه. إن خسارة إسرائيل لتعاطف الرأي العام الأميركي والغربي عموماً معه ستكون لها أبعاد إستراتيجية على مجرى الصراع. علماً أن تعاطف الرأي العام الأميركي والأوروبي مع المشروع الصهيوني منذ 1948 كان له أثر كبير في ما حققه من إنجازات ظالمة وغير شرعية على الأرض. وبهذا يكون السحر قد أخذ ينقلب على الساحر في مجال من المجالات المهمّة جداً في الصراع على أرض فلسطين.
النهار-- الثلاثاء 06 نيسان 2010
الأزمة الأميركية - الإسرائيلية الراهنة
بقلم منير شفيق
كثير من الخبراء في الشؤون الأميركية الداخلية يستثنون الجيش (يضمّ القوات المسلحة والأجهزة الأمنية) من لعب أي دور في صوغ السياسات الأميركية، فهو في نظرهم لا يتدخل في السياسة ولا علاقة له بمراكز القرار أو اللوبيات المؤثرّة فيها. هؤلاء ليسوا على خطأ حين يتعلق الأمر بكثير من السياسات الأميركية التفصيلية عموماً، ولا سيما في الحالات العادية حيث لا يكون فيها الجيش منخرطاً في حروب، أو في الحالات التي ليس له علاقات عسكرية مباشرة بها (قواعد عسكرية أو ما شابه ذلك). وهذا ينطبق، عموماً، على الديموقراطيات الغربية كافة، ولكن الأمر ليس كذلك في كل الأوضاع والأوقات.
الجيوش في الديموقراطيات الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لها دور رئيس في تحديد الإستراتيجية العسكرية المتبعة وفي تحديد أولوياتها، بل إن هذه الإستراتيجية غالبا ما تفرض نفسها على صانع القرار السياسي كأولوية مطلقة على ما عداها من أولويات في المجالات الأخرى سواء في السياسة أو الاقتصاد وغيرها. فدور الجيوش في الغرب يظل أهم بكثير مما يلقى عليه الضوء في اتجاهات السياسة التي يفترض فيها أن تخدم الإستراتيجية أو تترجمها، فلولا الجيوش التي تخوض الحروب أو تهدّد بخوضها، ومن ثم تحدّد مناطق النفوذ وموقع كل دولة كبرى في ميزان القوى العالمي، ومن ثم أدوارها السياسية والاقتصادية والثقافية، لما كانت هنالك هيمنة غربية على العالم منذ مئات السنين حتى اليوم.
صحيح أن دور الجيش في ضبط النظام الديموقراطي نفسه وفي حماية الرأسمالية نفسها، لا يظهر على حقيقته ضمن اللعبة الديموقراطية، ولكن ذلك لا يعني إسقاطه من الحساب أو عدم أخذه في الاعتبار، عندما يبدأ بالتململ أو الاعتراض على سياسات معينة، بل يجب أن يُحسب له ألف حساب عندما يبدأ بإرسال الإشارات التي يجب أن يفهمها الرئيس ومن حوله، بل كل من يهمّه أمر إدارة أوضاع البلد المعني.
عندما جاء الرئيس الأميركي باراك أوباما كان وضع الجيش الأميركي مأزوماً في العراق وأفغانستان وباكستان، وكانت سمعة أميركا قد تدهورت إلى حد كبير، وأخذ يضعف دورها على المستوى الدولي بصورة متزايدة. وقد فقدت القدرة على بناء نظام القطب الواحد عالمياً، ووجدت نفسها غير قادرة على قيادة نظام عالمي متعدّد القطب.
هذا إلى جانب الفشل في "إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير"، ونشوء نوع من الفراغ فيه بسبب انحسار النفوذ الأميركي وتزعزع مكانة الدول العربية التي راهنت على السياسات الأميركية، وعملية التسوية. وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى الحليف الأول في المنطقة؛ إذ خسر الجيش الإسرائيلي حربَيْ 2006 في لبنان و2008-2009 في قطاع غزة، فيما كبر الدور الإيراني والسوري ودور المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية والأفغانية. وهذا كله شكل، ومازال يشكل قلقاً أميركياً، ويحفر في أخاديد تدهور الوضع الأميركي العام. ثم انفجرت الفقاعة المالية التي تداعت إلى أزمة اقتصادية شاملة في ما بعد، مما أخذ يزيد من تدهور قوّة الدولار، وتعاظم الأدوار الاقتصادية الإنتاجية للصين والهند والبرازيل، وعدد من الدول الأخرى من الدرجتين الثانية والثالثة.
هذه الأزمة الأميركية التي لم يسبق لها مثيل منذ نيل الولايات المتحدة الأميركية استقلالها وتحقيق وحدتها، ولا سيما أزمة الوضع العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان وباكستان، فرضت دوراً متزايدا للجيش والـ"سي.آي.إي" والـ"أف.بي.آي"، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة في السياسات الأميركية في المنطقة التي يسّمونها "الشرق الأوسط الكبير"، وهي الممتدّة من فلسطين إلى باكستان.
لوحظ هذا الدور منذ اليوم الأول لوصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة الأميركية. وذلك من خلال جملة من زيارات لجنرالات من الجيش الأميركي وفي مقدّمهم رئيس هيئة الأركان مايكل مولن لمعظم دول المنطقة. وقد صدرت تصريحات عدّة تعتبر بأن تحقيق التسوية للصراع في فلسطين (النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي) يشكل مصلحة أميركية، خصوصاً للجيش الأميركي في العراق وأفغانستان وباكستان. وكتب توماس فريدمان يحذر اللوبي الأميركي الموالي لإسرائيل وحكومة نتنياهو بأن إفشال جورج ميتشل يتعارض مع رغبة الجيش و"السي.آي.إي" وذلك لأهمية إنجاز تسوية ما من شأنها أن تسهل مهمة الجيش الأميركي في جبهات العراق وأفغانستان وباكستان، ولكن كما يبدو لم تصل الرسالة، ولم تجد آذانا صاغية من جهة نتنياهو و"اللوبيات اليهودية" القريبة منه.
لا شك في أن توماس فريدمان ومعه عدد غير قليل من مؤيدّي إسرائيل و"اللوبي الصهيوني" الأميركي، يشعرون بقلق شديد عندما يذهب نتنياهو واللوبي المؤيد لإسرائيل إلى حدّ تحدّي إرادة الجيش الأميركي في ما يعتبره مصلحة أميركية عليا، وهذا القلق مشروع تماماً. وقد زاد الأمر تعقيدا بعدما أُفشلت مهمة ميتشل الأولى، وأُجبِر أوباما على التراجع والخضوع لمشروع نتنياهو الخاص بوقف جزئي للاستيطان في الضفة الغربية واستثناء القدس تماماً، في مقابل إطلاق المفاوضات؛ الأمر الذي أطاح هيبة أوباما وأضعف سياساته الخاصة بتحسين صورة أميركا الخارجية، لا سيما في نظر العالم الإسلامي.
ربما اعتبر اللوبي الأميركي الموالي لإسرائيل وحكومة نتنياهو أن إفشال مهمة ميتشل ستمرّ مرّ الكرام، ولن تكون لها آثار سلبية عليهما. وهو ما شجع حكومة نتنياهو على الإعلان عن قرار بناء 1600 وحدة سكنية استيطانية جديدة في القدس أثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، وقد جاء إلى القدس ليدعم مهمة جورج ميتشل في مرحلتها الثانية في إطلاق مفاوضات غير مباشرة لمدة أربعة أشهر.
جاء ردّ فعل جو بايدن شديداً أقوى مما كان يمكن أن يتوقعه نتنياهو. مما اضطرّه للاعتذار عن التوقيت وليس القرار، ولكن ذلك لم يُنهِ الأزمة. وقد تدخلت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لتصعِّد في الاحتجاج والنقد. مما يكشف أن ردود بايدن وكلينتون والناطق الرسمي عبّرت عن احتقان وغضب حقيقيين، بعد أن فاض الكيل بسبب عدم تعاون نتنياهو وامتناعه عن المساعدة في إنجاز طلب أميركي يمسّ مصلحة أميركية عليا لا يمكن التهاون بشأنها.
على أن التقرير الذي أبرزه مارك بيري في 17 آذار 2010 تحت عنوان "تقرير بترايوس وإحراج بايدن لا يغطيّان كل القصة"، يُظهر ما يكمن وراء موقف بايدن وكلينتون وإدارة أوباما. كما أن صدوره في هذا التاريخ بعد ثلاثة أشهر من تقرير بترايوس وكشْف ما تضمنه يحمل دلالة مشحونة برسالة لكل من نتنياهو و"اللوبي اليهودي" الأميركي. وخلاصتها أن اللعب الآن ليس مع أوباما ويخرج عن حدود اللعبة السياسية الأميركية الداخلية. يتعلق الأمر الآن بمواجهة مع الجيش وهي تمسّ الدم الأميركي والمصلحة العليا الأميركية.
ما كشفته مقالة مارك بيري من تقرير فريق ضباط القيادة المركزية (آسيا الوسطى) المسؤولين عن النظر في المصالح الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط التي يقودها الجنرال ديفيد بترايوس، قُدِّم في 16 كانون الأول 2010 إلى هيئة الأركان برئاسة الأدميرال مايكل مولن في البنتاغون. وقد عبّر التقرير عن شدة قلقه بسبب عدم التقدّم في الصراع العربي الإسرائيلي، وجاء التقرير صادماً لمولن. فقد أكد كاتبو التقرير على ازدياد الاقتناع لدى الزعماء العرب بأن الولايات المتحدة لا تستطيع الوقوف في وجه إسرائيل، وأن القادة العرب في "المنطقة الوسطى" التي يُشرف عليها بترايوس فقدوا، في الغالب، الثقة بالوعود الأميركية. وأن التجاوزات الإسرائيلية في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني راحت تشكل خطراً على الموقف الأميركي في المنطقة.
إن التقرير المقدَّم لمولن لا سابق له من قِبَل قائد المنطقة الوسطى من حيث التعبير عن رأيه في مسألة سياسية. فقد أكد الفريق الذي قابل معظم الزعماء العرب في كانون الاول 2009 بأنه حيثما ذهب كانت الرسالة واضحة: "ليست أميركا ضعيفة فحسب، وإنما أيضاً سمعتها العسكرية آخذة في التآكل في المنطقة".
هذا وقد سُرِّبت أنباء، نُفيت لاحقاً، ولكنها تدخل ضمن إطار التقرير ومن ذلك أن بترايوس طالب بضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مجال المنطقة الوسطى وليس للقيادة الأميركية في أوروبا. وذلك ليقتنع القادة العرب بأن القيادة العسكرية الأميركية منخرطة في أشدّ الصراعات المعقدّة في المنطقة. لقد نزل التقرير على إدارة أوباما نزول الصاعقة، وكان ردّها مضاعفة جهودها، مرّة أخرى، والضغط على إسرائيل حول موضوع المستوطنات وإرسال ميتشل إلى عدد من الدول العربية ثم إرسال رئيس هيئة الأركان مولن لمقابلة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غابي أشكينازي.
وبعد الإهانة التي تلقاها بايدن بعث إلى نتنياهو يقول "ما تفعله يُهدّد أمن قواتنا التي تقاتل في العراق وأفغانستان وباكستان، كما أنها تُعرضنا للخطر وتعرّض السلام في المنطقة للخطر". عاد بترايوس وصرّح علناً بما ورد في التقرير المذكور، ثم كرّره وزير الدفاع روبرت غيتس. وكان ذلك في 23-25 آذار الماضي أثناء زيارة نتنياهو لواشنطن. وقيل إنه رجع بعد لقاء مطوّل مع أوباما ولقاءات مجهدة بين وفديْهما إلى إسرائيل، وهو يحمل، أي نتنياهو مجموعة من الطلبات التي لم يستطع أن يبّت فيها، وطلب أن يردّ عليها بعد عودته.
خلاصة
صحيح أن هذه ليست أول أزمة تحدث بين حكومة إسرائيلية وإدارة أميركية، بل ربما ما حدث من أزمات سابقا كان أشدّ. ولكن هذه الأزمة تحدث في ظل تراجع وضع كل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في ميزان القوى الدولي، وفي ظروف تمسّ أمن القوات الأميركية المقاتلة، وشبه المهزومة، في العراق وأفغانستان وباكستان. مما يعني أن التناقض هذه المرّة يحمل خصوصية تختلف عن كل ما سبقها. فالجيش الأميركي هو الذي يصرخ وهو الذي يطلب، وليس من اليسير على الرئيس، كما كان يحدث في المرّات السابقة، أن يتجاوزه ويطالبه بتجاوز الإشكال.
من هنا سيكون لهذه الأزمة بُعدان أساسيّان:
الأول: إذا لم يستجب نتنياهو و"اللوبي الصهيوني" لما يطلبه الجيش الأميركي وهو ينزف الدماء، فالتناقض سيتعمّق بين الجيش وفئات واسعة من "الواسبس" (البيض البروتستانت الأنكلوسكسون الأميركيون) ضدّ "النفوذ الصهيوني" في الولايات المتحدة وليس ضد إسرائيل فقط. إنه امتحان شديد لحنكة القيادة "الصهيونية" في الولايات المتحدة، حتى لو كانت بوسائل الضغوط المختلفة قادرة على ليّ ذراع الإدارة وتجاهل ما يريده الجيش. ذلك لأنها إن فعلت كما فعلت أول مرة مع مشروع ميتشل عام 2009، فسوف تبدأ بتخريب بيتها في الولايات المتحدة نفسها.
أما إذا تراجعت فهذا يعني أن آفاق الوصول إلى تسوية تصبح أقوى من أيّة فترة سابقة لا سيما مع وجود قيادة عباس-فياض في السلطة الفلسطينية في رام الله ووجود القيادة المصرية الحالية. ولكن إذا تمّ ذلك وسيكون، لا محالة، مرفوضاً من الشعب الفلسطيني ومن العرب والمسلمين عامّة، فمعنى ذلك الدخول في صراع في المنطقة أشدّ من ذي قبل. إن سقف التسوية الذي يعمل ميتشل تحته، على نحو ما عبَّر عنه بيان الرباعية من موسكو يقتطع في طريقه جزءاً كبيراً من الحقوق الفلسطينية في القدس ولا سيما شرقيها في المدينة القديمة بما في ذلك من المسجد الأقصى نفسه. هذا إلى جانب ما تُرِك للمفاوضات من تبادل أراضٍ في الضفة الغربية قد
يصل إلى ابتلاع معظم ما ضمّه الجدار والمستوطنات وحتى الأغوار.
الثاني: ثمة أثر عميق تحقق منذ الآن على هامش الأزمة الحالية، وما عكسته من انطباعات على الرأي العام الأميركي والغربي. فنتائج هذه الأزمة على الرأي العام الأميركي والغربي عموماً ستكون شديدة السلبية على الموقف من إسرائيل، مما سيضيف عاملاً جديداً إلى ما تركته حرب العدوان على غزة من آثار سلبية في نظر ذلك الرأي العام إليه. إن خسارة إسرائيل لتعاطف الرأي العام الأميركي والغربي عموماً معه ستكون لها أبعاد إستراتيجية على مجرى الصراع. علماً أن تعاطف الرأي العام الأميركي والأوروبي مع المشروع الصهيوني منذ 1948 كان له أثر كبير في ما حققه من إنجازات ظالمة وغير شرعية على الأرض. وبهذا يكون السحر قد أخذ ينقلب على الساحر في مجال من المجالات المهمّة جداً في الصراع على أرض فلسطين.
النهار-- الثلاثاء 06 نيسان 2010
مبدأ التسامح الديني ومناهضة العنف في الاتفاقيات الدولية
مبدأ التسامح الديني ومناهضة العنف في الاتفاقيات الدولية
محمد المجذوب
يعتبر التسامح من أعظم القيم والمبادئ التي يجب أن تقوم عليها المجتمعات البشرية في العصر الحديث، بعدما زالت الفواصل بين الشعوب، وتلاشت الأبعاد بين الأقطار، وتشابكت المصالح بين الدول، وامتزجت الحضارات والثقافات حتى غدت ملكاً للعالم بأسره ينهل من ينابيعها كل إنسان مريد.
ناضل الإنسان الأوروبي قرونا لتحرير نفسه وفكره من سيطرة الكنيسة وسطوة رجال الدين فنجح، منذ قرنين تقريباً، وبصورة متدرجة، ومع تبلور فكرة الدولة والمجتمع المدني، في فصل الدولة عن الكنيسة، والحصول على المشاركة في اتخاذ القرارات في الدولة، والأخذ بمفهوم التسامح الذي يدل على قدر من المغايرة المسموح بها، وعلى قدرة المجتمع على استيعاب المعارضة واحترام الاختلاف في الرأي والعقيدة. وبذلك خرج مفهوم التسامح، بمعناه الشامل، من نطاق السلوك الفردي أو الذاتي أو الاختياري الى نطاق السلوك الجماعي والدولي والإلزامي، وأصبح أساساً لكل تنظيم سياسي، في الغرب أولا، ثم في العالم.
وقد تجلى هذا التطور في الإقرار بانتفاء العصمة، واحترام حق الغير في الاختلاف، والاعتراف له بكامل الحقوق والواجبات والحريات التي يتمتع بها (أو يجب أن يتمتع بها) كل مواطن.
وجاءت النظريات الليبرالية والديموقراطية تدعم هذا الاتجاه وتدعو الى مشروعية الحكم وسيادة الإرادة العامة المنبثقة من الاقتراع العام. وأكد العديد من المفكرين الذين نادوا بالحرية الدينية أن التسامح لا يصبح فضيلة إلا اذا اقترن باحترام عقائد الآخرين.
وبدأت آنذاك ساحة التعصب، وهو نقيض التسامح، تتقلص، وبدأ الإنسان يشعر ويقتنع بمحاسن التسامح بين البشر. وهكذا نرى أن التسامح بدأ دينياً، وحظي بتأييد فلسفي، ثم اكتسب، بفعل تنامي ظاهرة التعصب، موقعاً قانونياً، وأصبح، في الأنظمة السياسية الديموقراطية، الدعامة الأساسية لتقدم مسيرة حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وليس للتسامح موقف سلبي يتمثل في تجاهل الغير واللامبالاة بما يحدث ويجري في المجتمع من مآس وظلم وقهر وتحيّز بسبب التعصب. إن الأخذ بمبدأ التسامح يقتضي رفض عدم التسامح والدفاع عن المبادئ والقيم والتشريعات التي تنادي بالتسامح.
والتسامح الديني ليس الجانب الأوحد أو الأهم من جوانب التسامح، فهناك أيضا جوانب أخرى عديدة تتمثل في التسامح السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وغياب هذه الأنواع من التسامح، وأحيانا غياب أحدها أو تغييبه، قد يكون سببا في اندلاع الاضطرابات أو المعارك والاتجاه نحو التعصب أو العنف الديني
كان الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke (1632ـ1704) في (رسائله عن التسامح) التي نشرها في العام 1689، أول الفلاسفة المتنورين الذين اعتبروا أن التسامح هو الحل العقلاني الوحيد لوضع حد للصراعات والحروب الدينية التي استفحلت آنذاك في أوروبا، وان الحرية هي هدف المجتمع السياسي المتسامح.
وجاء بعده الأديب الفرنسي فولتير Voltaire (1694ـ1778) فقال في (قاموسه الفلسفي)
الصادر في العام 1764: «كلنا ضعفاء وميالون الى الخطأ، فدعونا نتسامح بعضنا مع بعض... ذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعية والمبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة».
وجرت محاولات لإيجاد الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها التسامح، فتم الإجماع على اعتبار التسامح واجبا أخلاقيا وعنصراً مكونا لحرية الإنسان الذي لا يمكن إكراهه على أن يكون حراً، ولكن يمكن إكراهه على أن يدع الآخرين أحراراً.
ومع النظريات والتطورات الديموقراطية التي طرأت على المجتمع الدولي تحوّل التسامح من مجرد فضيلة فردية الى قيمة قانونية، وأصبح أهم ركيزة في كل تنظيم سياسي واجتماعي يحرص على توفير الحقوق والحريات لأفراده والدفاع عنها.
وهذه المكانة الرفيعة التي تبوأها التسامح، منذ القرن التاسع عشر على الصعيد الدولي، دفعت الدول الى عقد معاهدات لرعاية حقوق الإنسان والقضاء على كل أنواع التمييز بين البشر. وكانت الإرهاصات الأولى مع المعاهدات التي نصت على حظر تجارة الرقيق والقضاء على العبودية. ففي عهد عصبة الأمم تمّ، في العام 1926، إبرام اتفاقية خاصة بتحريم الرق الذي يعد حالة اجتماعية يكون فيها المرء ملكاً لشخص آخر، أو لطرف آخر، وسلعة تقتنى كالأثاث، وتباع.
وفي القرن العشرين صدرت تشريعات وطنية حرّمت العبودية. وأبرمت اتفاقيات دولية بعدها نصت على تحريمها، حتى أصبح حظر ممارسة العبودية من القواعد الآمرة في القانون الدولي العام، ومن ضمن الجرائم الدولية ضد الإنسانية التي تخضع للعقوبات أمام المحاكم الجنائية الدولية. وقد شكل ذلك حدثاً مهماً في تاريخ محاربة التعصب. وفي الذكرى الستين لتبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (في العام 2008) أطلقت منظمة اليونسكو حملة ضد الرقّ باعتباره آفة قضي عليها رسمياً مع حظر تجارة العبيد.
وميثاق الأمم المتحدة هو المرجع الأهم في الدفاع عن حقوق الإنسان وترسيخ أركان التسامح. ففي ديباجته أكدت الشعوب إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الكائن البشري وقيمته، وبحق المساواة بين الناس، وأعلنت عزمها على أن تسلك طريق التسامح وتعيش معا في سلام وحسن جوار. وفي الفقرة الثالثة من المادة الأولى ورد أن من مقاصد الأمم المتحدة «تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا وتشجيعها، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين». ونصت الفقرة الثالثة من المادة 55 على إشاعة الاحترام العالمي والفعال لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين».
وفي العام 1948، صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعتبر حدثاً تاريخياً وإنجازاً حضارياً متميزاً للمجتمع الإنساني، وخلاصة رفيعة لأنبل ما دعت إليه الكتب المقدسة والفلسفات والنظريات الإنسانية التي نشرت في القرون الماضية وعبّرت عن توق الإنسان الى الحرية والمساواة والتسامح.
وفرادة «الإعلان العالمي» تكمن في ميزات متعددة، أهمها:
1ـ الطابع الإنساني الشامل والشمولي الذي أكسب «الإعلان» بعداً إجماعياً كونياً لم تحظ أية وثيقة أخرى بمثله، وجعل منه وثيقة عالمية تعبّر عن تطلعات إنسانية تسمو على التمايزات والفروق بين البشر.
2ـ انطلاق مفهوم حقوق الإنسان في «الإعلان» من مسلّمة تعتبر هذه الحقوق نابعة من الكرامة الأصيلة والملازمة للإنسان. ومن هذه الكرامة تنبثق الحقوق الأساسية التي يملكها الإنسان، مثل الحق في الحياة والحرية والمساواة والأمن.
3ـ اعتبار «الإعلان» المرجعية العالمية لحقوق الإنسان، فصدوره بغالبية ساحقة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، والإشادة به في كل مناسبة في المحافل الدولية، وإعلان الالتزام به في كثير من الدساتير الوطنية، يضفي عليه صفة الإلزام.
4ـ الإقرار بمبدأ عالمية حقوق الإنسان. وهذا يعني أن الوصول الى هذه الحقوق كان ثمرة كفاح البشرية عبر التاريخ ضد كل أشكال الظلم والقهر والتمييز والتعصب، وحصيلة تلاقح الحضارات والثقافات وتفاعلها خلال قرون طويلة. وعالمية الحقوق تعني أيضا أنه لا يجوز استثناء أحد في أي نظام أو منطقة في العالم من التمتع الحر بتلك الحقوق.
5ـ الإقرار العالمي بأن «الإعلان» دشّن، في إطار الأمم المتحدة، قيام نظام مؤسسي لحماية حقوق الإنسان. وقد غدا «الإعلان» من أهم أعمدة ذلك النظام الذي يضم أركان ما يسمى بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ومنها العهدان الدوليان المتعلقان بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والصادران في العام 1966. ومنها البروتوكولان الاختياريان للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ومنها عشرات الاتفاقيات المتعلقة بمختلف حقوق الإنسان، مثل منع جريمة الإبادة الجماعية، ومكافحة جميع أشكال التمييز العنصري، وإلغاء الرق وتجارة الرقيق، وتحريم السخرة... ومنها عشرات الاتفاقيات المتعلقة بالآليات والمؤسسات الخاصة بمراقبة انتهاك حقوق الإنسان، وربط حماية هذه الحقوق بهدف حفظ السلام والأمن في العالم، وإنشاء محاكم جنائية دولية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية.
وكان (الإعلان العالمي) المحطة التاريخية الأولى في مسيرة تطور حقوق الإنسان. والمادة 18 منه حسمت بعض الإشكالات عندما أقرت بحق كل شخص «في حرية التفكير والضمير والدين»، واعتبرت أن هذا الحق يشمل «حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده، أو مع جماعة، وأمام الملأ، أو على حدة».
وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يقر، في المادة 18، حق الإنسان في أن يدين بدين ما، وأن يعتنق أي دين أو معتقد يختاره.
وفي العام 1981، صدر الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، وسار في الاتجاه ذاته وكرّس حرية الدين، وعرّف مصطلح التعصب والتمييز، ومضمون عبارة الحرية الدينية.
وفي 14/6/1993، عقد في فيينا المؤتمر العالمي حول حقوق الإنسان، فطالب، في برنامج العمل الصادر عنه، جميع الحكومات باتخاذ جميع التدابير المناسبة لمواجهة أشكال التعصب والعنصرية وعدم التسامح.
ولم يقتصر أمر الاهتمام بمبدأ التسامح الديني على الأمم المتحدة وأجهزتها ومؤتمراتها، بل شمل كذلك المنظمات الإقليمية التي أتيح لها إصدار العديد من البيانات والقرارات لحماية الحرية الدينية.
ففي تموز 1992، أصدر مؤتمر لمنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي اليوم) قراراً نبّه فيه الى خطورة استعمال الدين لغايات تقوم على التمييز العرقي، ودعا الى تعميق التشاور لتعزيز قيم التسامح والاعتدال والتضامن في العلاقات الأفريقية. وفي اجتماعه في تونس، في حزيران 1994، أقر مدوّنة قواعد السلوك ودعا الى ضرورة التصدي للتطرف والإرهاب.
وكان مؤتمر القمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر، في كانون الأول 1991، قراراً أكد فيه «عدم السماح لأية حركة تستغل ديننا الحنيف للقيام بأي نشاط مناوئ لأي بلد عضو، ودعا الى التنسيق بين الدول الأعضاء لتطويق ظاهرة الإرهاب الفكري والمغالاة».
وفي حركة عدم الانحياز تعرّض رؤساء الدول والحكومات، في اجتماع جاكرتا في ايلول 1992، لمسألة الحرية الدينية، واعتبروا أن الإرهاب يشكل تهديداً خطيرا يحول دون التمتع بحقوق الإنسان، ومنها الحرية الدينية.
وهناك، على المستوى الأوروبي، وثائق عديدة في هذا الصدد، منها توصية صادرة عن المجلس الأوروبي، في شباط 1993، تدعو الديانات الى تأكيد القيم الأخلاقية المتصلة بالتسامح وحرية المعتقد.
وبعد صدور «الإعلان العالمي» توالى صدور الاتفاقية الدولية الداعمة والحامية لحقوق الإنسان ومبدأ التسامح، وازدادت الجهود الدولية الرامية الى إرساء مبادئ التسامح ومقاومة التعصب، ومنها:
ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (21/2/1965 (
ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على جريمة الفصل العنصري وقمعها (30/11/1973(
ـ الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد (25/11/1981(
ـ اتخاذ لجنة حقوق الإنسان (التي حل محلها في العام 2006 مجلس حقوق الإنسان، المرتبط مباشرة بالجمعية العامة للأمم المتحدة) قراراً في العام 1986 قضى بتعيين مقرر لتقصي مظاهر التعصب ومتابعة الإجراءات الحكومية الهادفة الى القضاء على هذه الآفة.
ـ إعلان حقوق الأشخاص المنتمين الى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية (18/12/1992(
وفي 20/12/1993، صدر قرار الجمعية العامة باعتبار سنة 1995 السنة الدولية للتسامح، «اقتناعا منها بأن التسامح ـ الاعتراف بالآخرين وتقديرهم، والقدرة على العيش مع الآخرين والاستماع الى الآخرين ـ هو الأساس السليم لأي مجتمع مدني...». ونص القرار على أن تكون منظمة اليونسكو الرائدة في تنسيق أنشطة السنة الدولية للتسامح، وأهدافها:
1ـ السعي للحصول على الدعم النشط لكل فرد يؤيد التسامح كأسلوب للسلوك الشخصي.
2ـ زيادة الوعي بالمشاكل المتصلة بالتعصب والعنف في العالم.
وفي الخلاصة نبدي بعض الملاحظات والانطباعات:
أولا ـ رغم الجهود التي بذلت، منذ عدة عقود، في القانون الدولي لإرساء مبادئ التسامح بين الدول وداخل كل دولة، فإن التعصب الديني أو العرقي أو الفكري قد عاد، في الآونة الأخيرة، الى الظهور والانتشار في مختلف أنحاء العالم. ومن مظاهره اللجوء الى السلاح والقيام بالأعمال الإرهابية، واشتداد العداوات والأحقاد، واندلاع المنازعات بدعوى الدفاع عن المعتقدات. وكل ذلك يؤكد لنا أن التسامح يحتاج الى دعم وحماية على الصعيدين الوطني والدولي.
ثانيا ـ على المؤمنين بمبدأ التسامح الديني أن يتنبهوا الى أمر مهم يتلخص في أن الدين أو المذهب الديني يمكن أن يوظف لغايات سياسية، أو لغايات لا علاقة لها بالدين، مثل الصراع على الحكم بين فئات تنتمي الى دين واحد أو أديان مختلفة، أو التذرع بحجة تقرير المصير، أو الرغبة في التخلص من حاكم معين، أو التمهيد للسيطرة على بلد معين. ولهذا ينبغي لنا التمييز بين التسامح والمصالح لئلا ينقلب الدين الى مجرد ذريعة.
ثالثا ـ إن حماية مبدأ التسامح الديني أو الحرية الدينية تحتاج الى وقاية تتعهد دول العالم بتوفيرها، وتتمثل أولا في إعادة الاعتبار للدين ورفعه الى مستوى الثوابت العصية على المتغيرات، وثانيا في توجيه عناية فائقة الى طرق التربية (في المنزل والمدرسة والبرامج التربوية) التي تشكل أفضل وسيلة لإعداد أجيال تنبذ التعصب والتطرف والتمييز، وتناضل من أجل سيادة مبدأ التسامح، وثالثا في وضع برامج ودراسات، يمكن أن تنجزها منظمة اليونسكو وتعممها، تهدف الى إثبات العلاقة الجدلية بين التسامح الديني وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار داخل كل دولة وبين الدول كافة.
رابعا ـ إن اللاتسامح أنواع، أهمها وأخطرها اللاتسامح السياسي الذي تنتجه الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة والشمولية. وخطره يكمن في عملية التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو اللون. وهو يؤدي الى ممارسة أقسى درجات التعصب
محمد المجذوب
يعتبر التسامح من أعظم القيم والمبادئ التي يجب أن تقوم عليها المجتمعات البشرية في العصر الحديث، بعدما زالت الفواصل بين الشعوب، وتلاشت الأبعاد بين الأقطار، وتشابكت المصالح بين الدول، وامتزجت الحضارات والثقافات حتى غدت ملكاً للعالم بأسره ينهل من ينابيعها كل إنسان مريد.
ناضل الإنسان الأوروبي قرونا لتحرير نفسه وفكره من سيطرة الكنيسة وسطوة رجال الدين فنجح، منذ قرنين تقريباً، وبصورة متدرجة، ومع تبلور فكرة الدولة والمجتمع المدني، في فصل الدولة عن الكنيسة، والحصول على المشاركة في اتخاذ القرارات في الدولة، والأخذ بمفهوم التسامح الذي يدل على قدر من المغايرة المسموح بها، وعلى قدرة المجتمع على استيعاب المعارضة واحترام الاختلاف في الرأي والعقيدة. وبذلك خرج مفهوم التسامح، بمعناه الشامل، من نطاق السلوك الفردي أو الذاتي أو الاختياري الى نطاق السلوك الجماعي والدولي والإلزامي، وأصبح أساساً لكل تنظيم سياسي، في الغرب أولا، ثم في العالم.
وقد تجلى هذا التطور في الإقرار بانتفاء العصمة، واحترام حق الغير في الاختلاف، والاعتراف له بكامل الحقوق والواجبات والحريات التي يتمتع بها (أو يجب أن يتمتع بها) كل مواطن.
وجاءت النظريات الليبرالية والديموقراطية تدعم هذا الاتجاه وتدعو الى مشروعية الحكم وسيادة الإرادة العامة المنبثقة من الاقتراع العام. وأكد العديد من المفكرين الذين نادوا بالحرية الدينية أن التسامح لا يصبح فضيلة إلا اذا اقترن باحترام عقائد الآخرين.
وبدأت آنذاك ساحة التعصب، وهو نقيض التسامح، تتقلص، وبدأ الإنسان يشعر ويقتنع بمحاسن التسامح بين البشر. وهكذا نرى أن التسامح بدأ دينياً، وحظي بتأييد فلسفي، ثم اكتسب، بفعل تنامي ظاهرة التعصب، موقعاً قانونياً، وأصبح، في الأنظمة السياسية الديموقراطية، الدعامة الأساسية لتقدم مسيرة حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وليس للتسامح موقف سلبي يتمثل في تجاهل الغير واللامبالاة بما يحدث ويجري في المجتمع من مآس وظلم وقهر وتحيّز بسبب التعصب. إن الأخذ بمبدأ التسامح يقتضي رفض عدم التسامح والدفاع عن المبادئ والقيم والتشريعات التي تنادي بالتسامح.
والتسامح الديني ليس الجانب الأوحد أو الأهم من جوانب التسامح، فهناك أيضا جوانب أخرى عديدة تتمثل في التسامح السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وغياب هذه الأنواع من التسامح، وأحيانا غياب أحدها أو تغييبه، قد يكون سببا في اندلاع الاضطرابات أو المعارك والاتجاه نحو التعصب أو العنف الديني
كان الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke (1632ـ1704) في (رسائله عن التسامح) التي نشرها في العام 1689، أول الفلاسفة المتنورين الذين اعتبروا أن التسامح هو الحل العقلاني الوحيد لوضع حد للصراعات والحروب الدينية التي استفحلت آنذاك في أوروبا، وان الحرية هي هدف المجتمع السياسي المتسامح.
وجاء بعده الأديب الفرنسي فولتير Voltaire (1694ـ1778) فقال في (قاموسه الفلسفي)
الصادر في العام 1764: «كلنا ضعفاء وميالون الى الخطأ، فدعونا نتسامح بعضنا مع بعض... ذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعية والمبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة».
وجرت محاولات لإيجاد الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها التسامح، فتم الإجماع على اعتبار التسامح واجبا أخلاقيا وعنصراً مكونا لحرية الإنسان الذي لا يمكن إكراهه على أن يكون حراً، ولكن يمكن إكراهه على أن يدع الآخرين أحراراً.
ومع النظريات والتطورات الديموقراطية التي طرأت على المجتمع الدولي تحوّل التسامح من مجرد فضيلة فردية الى قيمة قانونية، وأصبح أهم ركيزة في كل تنظيم سياسي واجتماعي يحرص على توفير الحقوق والحريات لأفراده والدفاع عنها.
وهذه المكانة الرفيعة التي تبوأها التسامح، منذ القرن التاسع عشر على الصعيد الدولي، دفعت الدول الى عقد معاهدات لرعاية حقوق الإنسان والقضاء على كل أنواع التمييز بين البشر. وكانت الإرهاصات الأولى مع المعاهدات التي نصت على حظر تجارة الرقيق والقضاء على العبودية. ففي عهد عصبة الأمم تمّ، في العام 1926، إبرام اتفاقية خاصة بتحريم الرق الذي يعد حالة اجتماعية يكون فيها المرء ملكاً لشخص آخر، أو لطرف آخر، وسلعة تقتنى كالأثاث، وتباع.
وفي القرن العشرين صدرت تشريعات وطنية حرّمت العبودية. وأبرمت اتفاقيات دولية بعدها نصت على تحريمها، حتى أصبح حظر ممارسة العبودية من القواعد الآمرة في القانون الدولي العام، ومن ضمن الجرائم الدولية ضد الإنسانية التي تخضع للعقوبات أمام المحاكم الجنائية الدولية. وقد شكل ذلك حدثاً مهماً في تاريخ محاربة التعصب. وفي الذكرى الستين لتبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (في العام 2008) أطلقت منظمة اليونسكو حملة ضد الرقّ باعتباره آفة قضي عليها رسمياً مع حظر تجارة العبيد.
وميثاق الأمم المتحدة هو المرجع الأهم في الدفاع عن حقوق الإنسان وترسيخ أركان التسامح. ففي ديباجته أكدت الشعوب إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الكائن البشري وقيمته، وبحق المساواة بين الناس، وأعلنت عزمها على أن تسلك طريق التسامح وتعيش معا في سلام وحسن جوار. وفي الفقرة الثالثة من المادة الأولى ورد أن من مقاصد الأمم المتحدة «تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا وتشجيعها، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين». ونصت الفقرة الثالثة من المادة 55 على إشاعة الاحترام العالمي والفعال لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين».
وفي العام 1948، صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعتبر حدثاً تاريخياً وإنجازاً حضارياً متميزاً للمجتمع الإنساني، وخلاصة رفيعة لأنبل ما دعت إليه الكتب المقدسة والفلسفات والنظريات الإنسانية التي نشرت في القرون الماضية وعبّرت عن توق الإنسان الى الحرية والمساواة والتسامح.
وفرادة «الإعلان العالمي» تكمن في ميزات متعددة، أهمها:
1ـ الطابع الإنساني الشامل والشمولي الذي أكسب «الإعلان» بعداً إجماعياً كونياً لم تحظ أية وثيقة أخرى بمثله، وجعل منه وثيقة عالمية تعبّر عن تطلعات إنسانية تسمو على التمايزات والفروق بين البشر.
2ـ انطلاق مفهوم حقوق الإنسان في «الإعلان» من مسلّمة تعتبر هذه الحقوق نابعة من الكرامة الأصيلة والملازمة للإنسان. ومن هذه الكرامة تنبثق الحقوق الأساسية التي يملكها الإنسان، مثل الحق في الحياة والحرية والمساواة والأمن.
3ـ اعتبار «الإعلان» المرجعية العالمية لحقوق الإنسان، فصدوره بغالبية ساحقة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، والإشادة به في كل مناسبة في المحافل الدولية، وإعلان الالتزام به في كثير من الدساتير الوطنية، يضفي عليه صفة الإلزام.
4ـ الإقرار بمبدأ عالمية حقوق الإنسان. وهذا يعني أن الوصول الى هذه الحقوق كان ثمرة كفاح البشرية عبر التاريخ ضد كل أشكال الظلم والقهر والتمييز والتعصب، وحصيلة تلاقح الحضارات والثقافات وتفاعلها خلال قرون طويلة. وعالمية الحقوق تعني أيضا أنه لا يجوز استثناء أحد في أي نظام أو منطقة في العالم من التمتع الحر بتلك الحقوق.
5ـ الإقرار العالمي بأن «الإعلان» دشّن، في إطار الأمم المتحدة، قيام نظام مؤسسي لحماية حقوق الإنسان. وقد غدا «الإعلان» من أهم أعمدة ذلك النظام الذي يضم أركان ما يسمى بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ومنها العهدان الدوليان المتعلقان بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والصادران في العام 1966. ومنها البروتوكولان الاختياريان للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ومنها عشرات الاتفاقيات المتعلقة بمختلف حقوق الإنسان، مثل منع جريمة الإبادة الجماعية، ومكافحة جميع أشكال التمييز العنصري، وإلغاء الرق وتجارة الرقيق، وتحريم السخرة... ومنها عشرات الاتفاقيات المتعلقة بالآليات والمؤسسات الخاصة بمراقبة انتهاك حقوق الإنسان، وربط حماية هذه الحقوق بهدف حفظ السلام والأمن في العالم، وإنشاء محاكم جنائية دولية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية.
وكان (الإعلان العالمي) المحطة التاريخية الأولى في مسيرة تطور حقوق الإنسان. والمادة 18 منه حسمت بعض الإشكالات عندما أقرت بحق كل شخص «في حرية التفكير والضمير والدين»، واعتبرت أن هذا الحق يشمل «حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده، أو مع جماعة، وأمام الملأ، أو على حدة».
وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يقر، في المادة 18، حق الإنسان في أن يدين بدين ما، وأن يعتنق أي دين أو معتقد يختاره.
وفي العام 1981، صدر الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، وسار في الاتجاه ذاته وكرّس حرية الدين، وعرّف مصطلح التعصب والتمييز، ومضمون عبارة الحرية الدينية.
وفي 14/6/1993، عقد في فيينا المؤتمر العالمي حول حقوق الإنسان، فطالب، في برنامج العمل الصادر عنه، جميع الحكومات باتخاذ جميع التدابير المناسبة لمواجهة أشكال التعصب والعنصرية وعدم التسامح.
ولم يقتصر أمر الاهتمام بمبدأ التسامح الديني على الأمم المتحدة وأجهزتها ومؤتمراتها، بل شمل كذلك المنظمات الإقليمية التي أتيح لها إصدار العديد من البيانات والقرارات لحماية الحرية الدينية.
ففي تموز 1992، أصدر مؤتمر لمنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي اليوم) قراراً نبّه فيه الى خطورة استعمال الدين لغايات تقوم على التمييز العرقي، ودعا الى تعميق التشاور لتعزيز قيم التسامح والاعتدال والتضامن في العلاقات الأفريقية. وفي اجتماعه في تونس، في حزيران 1994، أقر مدوّنة قواعد السلوك ودعا الى ضرورة التصدي للتطرف والإرهاب.
وكان مؤتمر القمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر، في كانون الأول 1991، قراراً أكد فيه «عدم السماح لأية حركة تستغل ديننا الحنيف للقيام بأي نشاط مناوئ لأي بلد عضو، ودعا الى التنسيق بين الدول الأعضاء لتطويق ظاهرة الإرهاب الفكري والمغالاة».
وفي حركة عدم الانحياز تعرّض رؤساء الدول والحكومات، في اجتماع جاكرتا في ايلول 1992، لمسألة الحرية الدينية، واعتبروا أن الإرهاب يشكل تهديداً خطيرا يحول دون التمتع بحقوق الإنسان، ومنها الحرية الدينية.
وهناك، على المستوى الأوروبي، وثائق عديدة في هذا الصدد، منها توصية صادرة عن المجلس الأوروبي، في شباط 1993، تدعو الديانات الى تأكيد القيم الأخلاقية المتصلة بالتسامح وحرية المعتقد.
وبعد صدور «الإعلان العالمي» توالى صدور الاتفاقية الدولية الداعمة والحامية لحقوق الإنسان ومبدأ التسامح، وازدادت الجهود الدولية الرامية الى إرساء مبادئ التسامح ومقاومة التعصب، ومنها:
ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (21/2/1965 (
ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على جريمة الفصل العنصري وقمعها (30/11/1973(
ـ الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد (25/11/1981(
ـ اتخاذ لجنة حقوق الإنسان (التي حل محلها في العام 2006 مجلس حقوق الإنسان، المرتبط مباشرة بالجمعية العامة للأمم المتحدة) قراراً في العام 1986 قضى بتعيين مقرر لتقصي مظاهر التعصب ومتابعة الإجراءات الحكومية الهادفة الى القضاء على هذه الآفة.
ـ إعلان حقوق الأشخاص المنتمين الى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية (18/12/1992(
وفي 20/12/1993، صدر قرار الجمعية العامة باعتبار سنة 1995 السنة الدولية للتسامح، «اقتناعا منها بأن التسامح ـ الاعتراف بالآخرين وتقديرهم، والقدرة على العيش مع الآخرين والاستماع الى الآخرين ـ هو الأساس السليم لأي مجتمع مدني...». ونص القرار على أن تكون منظمة اليونسكو الرائدة في تنسيق أنشطة السنة الدولية للتسامح، وأهدافها:
1ـ السعي للحصول على الدعم النشط لكل فرد يؤيد التسامح كأسلوب للسلوك الشخصي.
2ـ زيادة الوعي بالمشاكل المتصلة بالتعصب والعنف في العالم.
وفي الخلاصة نبدي بعض الملاحظات والانطباعات:
أولا ـ رغم الجهود التي بذلت، منذ عدة عقود، في القانون الدولي لإرساء مبادئ التسامح بين الدول وداخل كل دولة، فإن التعصب الديني أو العرقي أو الفكري قد عاد، في الآونة الأخيرة، الى الظهور والانتشار في مختلف أنحاء العالم. ومن مظاهره اللجوء الى السلاح والقيام بالأعمال الإرهابية، واشتداد العداوات والأحقاد، واندلاع المنازعات بدعوى الدفاع عن المعتقدات. وكل ذلك يؤكد لنا أن التسامح يحتاج الى دعم وحماية على الصعيدين الوطني والدولي.
ثانيا ـ على المؤمنين بمبدأ التسامح الديني أن يتنبهوا الى أمر مهم يتلخص في أن الدين أو المذهب الديني يمكن أن يوظف لغايات سياسية، أو لغايات لا علاقة لها بالدين، مثل الصراع على الحكم بين فئات تنتمي الى دين واحد أو أديان مختلفة، أو التذرع بحجة تقرير المصير، أو الرغبة في التخلص من حاكم معين، أو التمهيد للسيطرة على بلد معين. ولهذا ينبغي لنا التمييز بين التسامح والمصالح لئلا ينقلب الدين الى مجرد ذريعة.
ثالثا ـ إن حماية مبدأ التسامح الديني أو الحرية الدينية تحتاج الى وقاية تتعهد دول العالم بتوفيرها، وتتمثل أولا في إعادة الاعتبار للدين ورفعه الى مستوى الثوابت العصية على المتغيرات، وثانيا في توجيه عناية فائقة الى طرق التربية (في المنزل والمدرسة والبرامج التربوية) التي تشكل أفضل وسيلة لإعداد أجيال تنبذ التعصب والتطرف والتمييز، وتناضل من أجل سيادة مبدأ التسامح، وثالثا في وضع برامج ودراسات، يمكن أن تنجزها منظمة اليونسكو وتعممها، تهدف الى إثبات العلاقة الجدلية بين التسامح الديني وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار داخل كل دولة وبين الدول كافة.
رابعا ـ إن اللاتسامح أنواع، أهمها وأخطرها اللاتسامح السياسي الذي تنتجه الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة والشمولية. وخطره يكمن في عملية التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو اللون. وهو يؤدي الى ممارسة أقسى درجات التعصب
تحية الى الرفاق في المغرب
السيناريو الذي ارادوه
د مصطفى المسعودي
ا
كان دائما واضحا كالشمس ..حادا في الحق كالسكين ..عاشقا لبلاده حتى أخر الحدود ..حالما بمستقبل زاهر لكل أبناء المغاربة .
..كان المعتصم ولازال نموذجا جديدا لجيل من المناضلين المغاربة الذين يصعب ترويضهم ..وبعد تربّص طويل اعتقد خصومه أنه ظفروا به أخيرا لمّا عادوا إلى أرشيف إدريس البصري البائد وصاغوا رواية هزلية رديئة الإخراج ثم خرجوا على العالم وهم يصرخون في فرح هيستيري :
"هاهو المعتصم الإرهابي ..ها قد ظفرنا به متلبسا ..
أنظروا إلى من كان يدعي الإسلامية والديمقراطية ومن أسس "القطب الديمقراطي .."
إنه ومن معه ليسوا سوى مجموعة من الإرهابيين المجرمين الذين كانوا يخططون ل"قربلة "المغرب وإغراقه في الدماء"
مكر كبير وإصرار رهيب على قتل الرجل وسحقه تحت أقدام الظلم بدون رحمة أو شفقة وكأن هذا المعتصم ومعه إخوته صنف آخر من البشر لا يستحقون سوى إلقاءهم من فوق جبل شاهق ..كان السيناريو يقتضي أن تمر الأمور بسلاسة كبيرة ودون كثير من الضجيج تماما كما حدث "للسلفيين"..سيَصرخ البعض سيحتج البعض ثم ينفضُّ السوق ويذهب كل إلى حال سبيله بعد أن يكون المشهد قد انفتح على مغرب جديد ..مغرب النماء والتشييد والأوراش التي تعمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها.. وديمقراطية "العهد الجديد" التي يحق التباهي بها في كل العالم العربي.. والمشهد السياسي الجميل الذي يؤدي فيه الكل دوره بمهارة وكثير من التعقل والوطنية ..فقط بعض المتنطعين المشكوك في إخلاصهم وحتى في مذهبهم صاروا إلى الجحيم وتمّ التخلص منهم وليَكن ..فالمغرب أكبر والمستقبل أجمل ..
ومن أجل هذا الهدف الغير النبيل استعملت كل الأمْشاط الحديدية وكل المُدى الصّدئة ومَعاول السّحق في محاكمة أسطورية تذكر بأكثر الفترات فضاعة في تاريخ خرْق حق الإنسان ..فكأن الزمن المغربي تقهقر عقودا نحو الوراء حتى تمرّ المؤامرة ضد المعتصم وإخوته وفق السيناريو الذي وُضع سلفا ..خروقات يندى لها الجبين ..قاعة محاكمة مجهزة بكل الكاميرات الخفية والظاهرة ..أبْواق إعلامية تم استئجارها ل"تغطية الجريمة".. تهديدات وزارية ضد كل من سوّلت له نفسه التشكيك في الرواية الرسمية المقدسة ..إنه الجنون ..في أي زمان مغربي نحن ..؟ وهل يُعقل أن كل دماء المناضلين المغاربة التي سالت منذ الاستقلال فداء للحلم الديمقراطي تنتهي إلى هذا المستوى من العبث والدمار ..؟ هل كان سادة النضال المغربي على مر الأجيال يلعبون ؟ هل كل صرخات العذاب في سجون أوفقير والدليمي والبصري ..ترجمت إلى هذا المسخ الجديد من السحق ..شئ لايصدق..تموت الشعوب لتحيا ..ولكن بدا كما لو أن شعبنا مات ليوغل في الموت ..
كانت المؤامرة كبيرة ،وبدا المعتصم ومعه إخوته هذه المرة كما لو أنهم صار رمادا تحت آلة القمع الأسطورية ..لكن الذين مكروا ضد ه لم يقدّروا جيدا المَدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا المناضل في المواجهة ..كانوا يظنون أنه سينكسر ويستسلم لقدره في صمت حتى يتفتت لحمه في السجن أو قد يتداركه ذات يوم عفو نتيجة حسن السلوك ..لكن الرجل كان حازما حين واجه القاضي الذي أدانه بقول ينبُض بالبلاغة والعنفوان فقال :" تملكون أن تصدروا فينا أحكام الإعدام ..ولكن نحن من سيختار الطريقة التي سنموت بها .."كلام لم نتعود على سماعه من رؤساء الأحزاب انه بالفعل كلام مدجّج بالرصاص..
إلى أين سيصير هذا الملف ..؟
أنا أعرف جيدا هؤلاء الرجال : المعتصم والركالة والمرواني والعبادلة والسريتي ، وقد جمعتني بهم دروب النضال الطويلة ..لن ينكسروا..وهما أمران لاثالث لهما : إما أن تعود الدولة المغربية إلى رشدها بأن تحق الحق وترفع آلة القمع الرهيبة عن خيرة أبناء هذا الوطن وإما سيَنضاف هؤلاء الشرفاء إلى صفوف الشهداء المغاربة الذين سقطوا في معركة الكرامة لتصير دماؤهم زيتا جديدا في مشكاة النهوض الحضاري القادم بإذن الله وقدره إلى هذا الوطن وقد قالها المعتصم وكان جادا في كلامه :" نموت ..ليحيا الوطن" .
د مصطفى المسعودي
ا
كان دائما واضحا كالشمس ..حادا في الحق كالسكين ..عاشقا لبلاده حتى أخر الحدود ..حالما بمستقبل زاهر لكل أبناء المغاربة .
..كان المعتصم ولازال نموذجا جديدا لجيل من المناضلين المغاربة الذين يصعب ترويضهم ..وبعد تربّص طويل اعتقد خصومه أنه ظفروا به أخيرا لمّا عادوا إلى أرشيف إدريس البصري البائد وصاغوا رواية هزلية رديئة الإخراج ثم خرجوا على العالم وهم يصرخون في فرح هيستيري :
"هاهو المعتصم الإرهابي ..ها قد ظفرنا به متلبسا ..
أنظروا إلى من كان يدعي الإسلامية والديمقراطية ومن أسس "القطب الديمقراطي .."
إنه ومن معه ليسوا سوى مجموعة من الإرهابيين المجرمين الذين كانوا يخططون ل"قربلة "المغرب وإغراقه في الدماء"
مكر كبير وإصرار رهيب على قتل الرجل وسحقه تحت أقدام الظلم بدون رحمة أو شفقة وكأن هذا المعتصم ومعه إخوته صنف آخر من البشر لا يستحقون سوى إلقاءهم من فوق جبل شاهق ..كان السيناريو يقتضي أن تمر الأمور بسلاسة كبيرة ودون كثير من الضجيج تماما كما حدث "للسلفيين"..سيَصرخ البعض سيحتج البعض ثم ينفضُّ السوق ويذهب كل إلى حال سبيله بعد أن يكون المشهد قد انفتح على مغرب جديد ..مغرب النماء والتشييد والأوراش التي تعمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها.. وديمقراطية "العهد الجديد" التي يحق التباهي بها في كل العالم العربي.. والمشهد السياسي الجميل الذي يؤدي فيه الكل دوره بمهارة وكثير من التعقل والوطنية ..فقط بعض المتنطعين المشكوك في إخلاصهم وحتى في مذهبهم صاروا إلى الجحيم وتمّ التخلص منهم وليَكن ..فالمغرب أكبر والمستقبل أجمل ..
ومن أجل هذا الهدف الغير النبيل استعملت كل الأمْشاط الحديدية وكل المُدى الصّدئة ومَعاول السّحق في محاكمة أسطورية تذكر بأكثر الفترات فضاعة في تاريخ خرْق حق الإنسان ..فكأن الزمن المغربي تقهقر عقودا نحو الوراء حتى تمرّ المؤامرة ضد المعتصم وإخوته وفق السيناريو الذي وُضع سلفا ..خروقات يندى لها الجبين ..قاعة محاكمة مجهزة بكل الكاميرات الخفية والظاهرة ..أبْواق إعلامية تم استئجارها ل"تغطية الجريمة".. تهديدات وزارية ضد كل من سوّلت له نفسه التشكيك في الرواية الرسمية المقدسة ..إنه الجنون ..في أي زمان مغربي نحن ..؟ وهل يُعقل أن كل دماء المناضلين المغاربة التي سالت منذ الاستقلال فداء للحلم الديمقراطي تنتهي إلى هذا المستوى من العبث والدمار ..؟ هل كان سادة النضال المغربي على مر الأجيال يلعبون ؟ هل كل صرخات العذاب في سجون أوفقير والدليمي والبصري ..ترجمت إلى هذا المسخ الجديد من السحق ..شئ لايصدق..تموت الشعوب لتحيا ..ولكن بدا كما لو أن شعبنا مات ليوغل في الموت ..
كانت المؤامرة كبيرة ،وبدا المعتصم ومعه إخوته هذه المرة كما لو أنهم صار رمادا تحت آلة القمع الأسطورية ..لكن الذين مكروا ضد ه لم يقدّروا جيدا المَدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا المناضل في المواجهة ..كانوا يظنون أنه سينكسر ويستسلم لقدره في صمت حتى يتفتت لحمه في السجن أو قد يتداركه ذات يوم عفو نتيجة حسن السلوك ..لكن الرجل كان حازما حين واجه القاضي الذي أدانه بقول ينبُض بالبلاغة والعنفوان فقال :" تملكون أن تصدروا فينا أحكام الإعدام ..ولكن نحن من سيختار الطريقة التي سنموت بها .."كلام لم نتعود على سماعه من رؤساء الأحزاب انه بالفعل كلام مدجّج بالرصاص..
إلى أين سيصير هذا الملف ..؟
أنا أعرف جيدا هؤلاء الرجال : المعتصم والركالة والمرواني والعبادلة والسريتي ، وقد جمعتني بهم دروب النضال الطويلة ..لن ينكسروا..وهما أمران لاثالث لهما : إما أن تعود الدولة المغربية إلى رشدها بأن تحق الحق وترفع آلة القمع الرهيبة عن خيرة أبناء هذا الوطن وإما سيَنضاف هؤلاء الشرفاء إلى صفوف الشهداء المغاربة الذين سقطوا في معركة الكرامة لتصير دماؤهم زيتا جديدا في مشكاة النهوض الحضاري القادم بإذن الله وقدره إلى هذا الوطن وقد قالها المعتصم وكان جادا في كلامه :" نموت ..ليحيا الوطن" .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)