الجمعة، 9 أبريل 2010

الجيش الأميركي في أساس الأزمة الأميركية - الإسرائيلية الراهنة

الجيش الأميركي في أساس
الأزمة الأميركية - الإسرائيلية الراهنة

بقلم منير شفيق
كثير من الخبراء في الشؤون الأميركية الداخلية يستثنون الجيش (يضمّ القوات المسلحة والأجهزة الأمنية) من لعب أي دور في صوغ السياسات الأميركية، فهو في نظرهم لا يتدخل في السياسة ولا علاقة له بمراكز القرار أو اللوبيات المؤثرّة فيها. هؤلاء ليسوا على خطأ حين يتعلق الأمر بكثير من السياسات الأميركية التفصيلية عموماً، ولا سيما في الحالات العادية حيث لا يكون فيها الجيش منخرطاً في حروب، أو في الحالات التي ليس له علاقات عسكرية مباشرة بها (قواعد عسكرية أو ما شابه ذلك). وهذا ينطبق، عموماً، على الديموقراطيات الغربية كافة، ولكن الأمر ليس كذلك في كل الأوضاع والأوقات.
الجيوش في الديموقراطيات الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لها دور رئيس في تحديد الإستراتيجية العسكرية المتبعة وفي تحديد أولوياتها، بل إن هذه الإستراتيجية غالبا ما تفرض نفسها على صانع القرار السياسي كأولوية مطلقة على ما عداها من أولويات في المجالات الأخرى سواء في السياسة أو الاقتصاد وغيرها. فدور الجيوش في الغرب يظل أهم بكثير مما يلقى عليه الضوء في اتجاهات السياسة التي يفترض فيها أن تخدم الإستراتيجية أو تترجمها، فلولا الجيوش التي تخوض الحروب أو تهدّد بخوضها، ومن ثم تحدّد مناطق النفوذ وموقع كل دولة كبرى في ميزان القوى العالمي، ومن ثم أدوارها السياسية والاقتصادية والثقافية، لما كانت هنالك هيمنة غربية على العالم منذ مئات السنين حتى اليوم.
صحيح أن دور الجيش في ضبط النظام الديموقراطي نفسه وفي حماية الرأسمالية نفسها، لا يظهر على حقيقته ضمن اللعبة الديموقراطية، ولكن ذلك لا يعني إسقاطه من الحساب أو عدم أخذه في الاعتبار، عندما يبدأ بالتململ أو الاعتراض على سياسات معينة، بل يجب أن يُحسب له ألف حساب عندما يبدأ بإرسال الإشارات التي يجب أن يفهمها الرئيس ومن حوله، بل كل من يهمّه أمر إدارة أوضاع البلد المعني.
عندما جاء الرئيس الأميركي باراك أوباما كان وضع الجيش الأميركي مأزوماً في العراق وأفغانستان وباكستان، وكانت سمعة أميركا قد تدهورت إلى حد كبير، وأخذ يضعف دورها على المستوى الدولي بصورة متزايدة. وقد فقدت القدرة على بناء نظام القطب الواحد عالمياً، ووجدت نفسها غير قادرة على قيادة نظام عالمي متعدّد القطب.
هذا إلى جانب الفشل في "إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير"، ونشوء نوع من الفراغ فيه بسبب انحسار النفوذ الأميركي وتزعزع مكانة الدول العربية التي راهنت على السياسات الأميركية، وعملية التسوية. وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى الحليف الأول في المنطقة؛ إذ خسر الجيش الإسرائيلي حربَيْ 2006 في لبنان و2008-2009 في قطاع غزة، فيما كبر الدور الإيراني والسوري ودور المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية والأفغانية. وهذا كله شكل، ومازال يشكل قلقاً أميركياً، ويحفر في أخاديد تدهور الوضع الأميركي العام. ثم انفجرت الفقاعة المالية التي تداعت إلى أزمة اقتصادية شاملة في ما بعد، مما أخذ يزيد من تدهور قوّة الدولار، وتعاظم الأدوار الاقتصادية الإنتاجية للصين والهند والبرازيل، وعدد من الدول الأخرى من الدرجتين الثانية والثالثة.
هذه الأزمة الأميركية التي لم يسبق لها مثيل منذ نيل الولايات المتحدة الأميركية استقلالها وتحقيق وحدتها، ولا سيما أزمة الوضع العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان وباكستان، فرضت دوراً متزايدا للجيش والـ"سي.آي.إي" والـ"أف.بي.آي"، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة في السياسات الأميركية في المنطقة التي يسّمونها "الشرق الأوسط الكبير"، وهي الممتدّة من فلسطين إلى باكستان.
لوحظ هذا الدور منذ اليوم الأول لوصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة الأميركية. وذلك من خلال جملة من زيارات لجنرالات من الجيش الأميركي وفي مقدّمهم رئيس هيئة الأركان مايكل مولن لمعظم دول المنطقة. وقد صدرت تصريحات عدّة تعتبر بأن تحقيق التسوية للصراع في فلسطين (النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي) يشكل مصلحة أميركية، خصوصاً للجيش الأميركي في العراق وأفغانستان وباكستان. وكتب توماس فريدمان يحذر اللوبي الأميركي الموالي لإسرائيل وحكومة نتنياهو بأن إفشال جورج ميتشل يتعارض مع رغبة الجيش و"السي.آي.إي" وذلك لأهمية إنجاز تسوية ما من شأنها أن تسهل مهمة الجيش الأميركي في جبهات العراق وأفغانستان وباكستان، ولكن كما يبدو لم تصل الرسالة، ولم تجد آذانا صاغية من جهة نتنياهو و"اللوبيات اليهودية" القريبة منه.
لا شك في أن توماس فريدمان ومعه عدد غير قليل من مؤيدّي إسرائيل و"اللوبي الصهيوني" الأميركي، يشعرون بقلق شديد عندما يذهب نتنياهو واللوبي المؤيد لإسرائيل إلى حدّ تحدّي إرادة الجيش الأميركي في ما يعتبره مصلحة أميركية عليا، وهذا القلق مشروع تماماً. وقد زاد الأمر تعقيدا بعدما أُفشلت مهمة ميتشل الأولى، وأُجبِر أوباما على التراجع والخضوع لمشروع نتنياهو الخاص بوقف جزئي للاستيطان في الضفة الغربية واستثناء القدس تماماً، في مقابل إطلاق المفاوضات؛ الأمر الذي أطاح هيبة أوباما وأضعف سياساته الخاصة بتحسين صورة أميركا الخارجية، لا سيما في نظر العالم الإسلامي.
ربما اعتبر اللوبي الأميركي الموالي لإسرائيل وحكومة نتنياهو أن إفشال مهمة ميتشل ستمرّ مرّ الكرام، ولن تكون لها آثار سلبية عليهما. وهو ما شجع حكومة نتنياهو على الإعلان عن قرار بناء 1600 وحدة سكنية استيطانية جديدة في القدس أثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، وقد جاء إلى القدس ليدعم مهمة جورج ميتشل في مرحلتها الثانية في إطلاق مفاوضات غير مباشرة لمدة أربعة أشهر.
جاء ردّ فعل جو بايدن شديداً أقوى مما كان يمكن أن يتوقعه نتنياهو. مما اضطرّه للاعتذار عن التوقيت وليس القرار، ولكن ذلك لم يُنهِ الأزمة. وقد تدخلت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لتصعِّد في الاحتجاج والنقد. مما يكشف أن ردود بايدن وكلينتون والناطق الرسمي عبّرت عن احتقان وغضب حقيقيين، بعد أن فاض الكيل بسبب عدم تعاون نتنياهو وامتناعه عن المساعدة في إنجاز طلب أميركي يمسّ مصلحة أميركية عليا لا يمكن التهاون بشأنها.
على أن التقرير الذي أبرزه مارك بيري في 17 آذار 2010 تحت عنوان "تقرير بترايوس وإحراج بايدن لا يغطيّان كل القصة"، يُظهر ما يكمن وراء موقف بايدن وكلينتون وإدارة أوباما. كما أن صدوره في هذا التاريخ بعد ثلاثة أشهر من تقرير بترايوس وكشْف ما تضمنه يحمل دلالة مشحونة برسالة لكل من نتنياهو و"اللوبي اليهودي" الأميركي. وخلاصتها أن اللعب الآن ليس مع أوباما ويخرج عن حدود اللعبة السياسية الأميركية الداخلية. يتعلق الأمر الآن بمواجهة مع الجيش وهي تمسّ الدم الأميركي والمصلحة العليا الأميركية.
ما كشفته مقالة مارك بيري من تقرير فريق ضباط القيادة المركزية (آسيا الوسطى) المسؤولين عن النظر في المصالح الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط التي يقودها الجنرال ديفيد بترايوس، قُدِّم في 16 كانون الأول 2010 إلى هيئة الأركان برئاسة الأدميرال مايكل مولن في البنتاغون. وقد عبّر التقرير عن شدة قلقه بسبب عدم التقدّم في الصراع العربي الإسرائيلي، وجاء التقرير صادماً لمولن. فقد أكد كاتبو التقرير على ازدياد الاقتناع لدى الزعماء العرب بأن الولايات المتحدة لا تستطيع الوقوف في وجه إسرائيل، وأن القادة العرب في "المنطقة الوسطى" التي يُشرف عليها بترايوس فقدوا، في الغالب، الثقة بالوعود الأميركية. وأن التجاوزات الإسرائيلية في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني راحت تشكل خطراً على الموقف الأميركي في المنطقة.
إن التقرير المقدَّم لمولن لا سابق له من قِبَل قائد المنطقة الوسطى من حيث التعبير عن رأيه في مسألة سياسية. فقد أكد الفريق الذي قابل معظم الزعماء العرب في كانون الاول 2009 بأنه حيثما ذهب كانت الرسالة واضحة: "ليست أميركا ضعيفة فحسب، وإنما أيضاً سمعتها العسكرية آخذة في التآكل في المنطقة".
هذا وقد سُرِّبت أنباء، نُفيت لاحقاً، ولكنها تدخل ضمن إطار التقرير ومن ذلك أن بترايوس طالب بضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مجال المنطقة الوسطى وليس للقيادة الأميركية في أوروبا. وذلك ليقتنع القادة العرب بأن القيادة العسكرية الأميركية منخرطة في أشدّ الصراعات المعقدّة في المنطقة. لقد نزل التقرير على إدارة أوباما نزول الصاعقة، وكان ردّها مضاعفة جهودها، مرّة أخرى، والضغط على إسرائيل حول موضوع المستوطنات وإرسال ميتشل إلى عدد من الدول العربية ثم إرسال رئيس هيئة الأركان مولن لمقابلة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غابي أشكينازي.
وبعد الإهانة التي تلقاها بايدن بعث إلى نتنياهو يقول "ما تفعله يُهدّد أمن قواتنا التي تقاتل في العراق وأفغانستان وباكستان، كما أنها تُعرضنا للخطر وتعرّض السلام في المنطقة للخطر". عاد بترايوس وصرّح علناً بما ورد في التقرير المذكور، ثم كرّره وزير الدفاع روبرت غيتس. وكان ذلك في 23-25 آذار الماضي أثناء زيارة نتنياهو لواشنطن. وقيل إنه رجع بعد لقاء مطوّل مع أوباما ولقاءات مجهدة بين وفديْهما إلى إسرائيل، وهو يحمل، أي نتنياهو مجموعة من الطلبات التي لم يستطع أن يبّت فيها، وطلب أن يردّ عليها بعد عودته.
خلاصة
صحيح أن هذه ليست أول أزمة تحدث بين حكومة إسرائيلية وإدارة أميركية، بل ربما ما حدث من أزمات سابقا كان أشدّ. ولكن هذه الأزمة تحدث في ظل تراجع وضع كل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في ميزان القوى الدولي، وفي ظروف تمسّ أمن القوات الأميركية المقاتلة، وشبه المهزومة، في العراق وأفغانستان وباكستان. مما يعني أن التناقض هذه المرّة يحمل خصوصية تختلف عن كل ما سبقها. فالجيش الأميركي هو الذي يصرخ وهو الذي يطلب، وليس من اليسير على الرئيس، كما كان يحدث في المرّات السابقة، أن يتجاوزه ويطالبه بتجاوز الإشكال.
من هنا سيكون لهذه الأزمة بُعدان أساسيّان:
الأول: إذا لم يستجب نتنياهو و"اللوبي الصهيوني" لما يطلبه الجيش الأميركي وهو ينزف الدماء، فالتناقض سيتعمّق بين الجيش وفئات واسعة من "الواسبس" (البيض البروتستانت الأنكلوسكسون الأميركيون) ضدّ "النفوذ الصهيوني" في الولايات المتحدة وليس ضد إسرائيل فقط. إنه امتحان شديد لحنكة القيادة "الصهيونية" في الولايات المتحدة، حتى لو كانت بوسائل الضغوط المختلفة قادرة على ليّ ذراع الإدارة وتجاهل ما يريده الجيش. ذلك لأنها إن فعلت كما فعلت أول مرة مع مشروع ميتشل عام 2009، فسوف تبدأ بتخريب بيتها في الولايات المتحدة نفسها.
أما إذا تراجعت فهذا يعني أن آفاق الوصول إلى تسوية تصبح أقوى من أيّة فترة سابقة لا سيما مع وجود قيادة عباس-فياض في السلطة الفلسطينية في رام الله ووجود القيادة المصرية الحالية. ولكن إذا تمّ ذلك وسيكون، لا محالة، مرفوضاً من الشعب الفلسطيني ومن العرب والمسلمين عامّة، فمعنى ذلك الدخول في صراع في المنطقة أشدّ من ذي قبل. إن سقف التسوية الذي يعمل ميتشل تحته، على نحو ما عبَّر عنه بيان الرباعية من موسكو يقتطع في طريقه جزءاً كبيراً من الحقوق الفلسطينية في القدس ولا سيما شرقيها في المدينة القديمة بما في ذلك من المسجد الأقصى نفسه. هذا إلى جانب ما تُرِك للمفاوضات من تبادل أراضٍ في الضفة الغربية قد
يصل إلى ابتلاع معظم ما ضمّه الجدار والمستوطنات وحتى الأغوار.
الثاني: ثمة أثر عميق تحقق منذ الآن على هامش الأزمة الحالية، وما عكسته من انطباعات على الرأي العام الأميركي والغربي. فنتائج هذه الأزمة على الرأي العام الأميركي والغربي عموماً ستكون شديدة السلبية على الموقف من إسرائيل، مما سيضيف عاملاً جديداً إلى ما تركته حرب العدوان على غزة من آثار سلبية في نظر ذلك الرأي العام إليه. إن خسارة إسرائيل لتعاطف الرأي العام الأميركي والغربي عموماً معه ستكون لها أبعاد إستراتيجية على مجرى الصراع. علماً أن تعاطف الرأي العام الأميركي والأوروبي مع المشروع الصهيوني منذ 1948 كان له أثر كبير في ما حققه من إنجازات ظالمة وغير شرعية على الأرض. وبهذا يكون السحر قد أخذ ينقلب على الساحر في مجال من المجالات المهمّة جداً في الصراع على أرض فلسطين.
النهار-- الثلاثاء 06 نيسان 2010