الاثنين، 23 يناير 2012

أدونيس وتوكل كرمان

حيـدر سعيـد
في كل سنة، وقبيل إعلان جوائز نوبل، تنشغل الصحافةُ الثقافية العربية ومثقفوها بصناعة ترقب مثير، . . ترقب لاحتمال (مزمن) بفوز الشاعر السوري أدونيس بجائزة نوبل للآداب. في كل سنة، تجدِّد هذه الصحافةُ الحديثَ عن موقع أدونيس من خريطة المرشّحين للفوز بالجائزة، وموقعه في القائمة القصيرة والقائمة الطويلة، وتنقل تصريحات، من هنا وهناك، تدعم هذا الترقب.
أصبح الأمرُ أشبهَ باستمناء جماعي، تمارسه ثقافة عاجزة، شيخة. فجائزة نوبل، التي يمتد عمرُها إلى أكثر من مئة سنة، لم يفز بها سوى أديب واحد من الأدباء الذين يكتبون بالعربية، على ما هو معروف، على الرغم من التأريخ العريق لهذه اللغة وآدابها.
وحين يخرج أدونيس، عقب إعلان الجائزة، من القوائم جميعاً، تتذكر هذه الثقافةُ/ الضحية سياطَ جلاديها، وتتنبه على أن هذه الجائزة مسيّسة، وأن كثيرا من العظماء لم يحصلوا عليها. وبتنا نتذكر، في كل تشرين من كل سنة، أن بورخس لم يحصل على الجائزة. لقد أصبح تشرين موسماً للتضامن مع بورخس.
هذه السنة، أصبح الاستمناءُ أكثرَ شدّة، والترقبُ بدا أنه سينفجر على حقيقة. الكل تهيّأ لأن يتهجى اسم (أدونيس) تعلنه الميديا العالمية فائزاً بنوبل. والكل، أيضاً، تعامل مع الأمر بمنطق الضحية وسياساتها: أن هذه السنة ملائمة، تماماً، لأن تُمنَح نوبل لأدونيس، مع الربيع العربي ونقطته العظمى، الثورة السورية، ولا سيما بعد الرسالة التي وجّهها لبشار الأسد، يطالبه فيها بالمبادرة لإنقاذ سوريا وقيادة مشروع يضمن تداولَ السلطة.
وعلى الرغم من ضحالة الرسالة، التي ظلت تنتظر المبادرة من نظام استبدادي، ذلك "أن أمل أدونيس في الرئيس وفي النظام أمل دائم"، كما يعبِّر عباس بيضون في تعقيبه على الرسالة، افترضت الضحيةُ أن سياسة الجلّاد (اقرأ: الغرب) ستضطره إلى منح الجائزة إلى شاعر سوري، جزءاً من العداء للنظام السوري، وعرفاناً وتكريماً للربيع العربي.
هذا المنطق ينطوي على افتراض ضمني بأن أدونيس سيُمنَح الجائزة لدوافع سياسية، وليست فنية.
ولكن، ما أقسى أن يُكرَّم الربيعُ العربي من خلال أدونيس. ما أقسى أن يُعدّ رمزاً أو أحد رموز هذا الربيع، وهو الذي لم يتخذ موقفا واحداً من نظام البعث في سوريا طيلة ما يقرب نصف القرن من حكمه. أي تسخيف للربيع العربي هذا؟ وأية إهانة؟
وحتى مع الثورة السورية، كان أدونيس متردداً، لم يرسل رسالته إلا من باب إسقاط العتب. كان يحاجج بأن الثورة ستقود الإسلاميين إلى الحكم، وأن المشكلة ـ في الأساس ـ هي الحاجة إلى علمانية حقيقية، وقد افترض ـ عبر طبقات عدة من المجاز ـ أن حزب البعث السوري ذو بنية لادينية. قد تكون هذه الحجّة صحيحة، ولكنها لا تستند إلى فهم للمنطق الداخلي للاستبداد، وأن العلمانية ليست حصانة ـ بذاتها ـ من الاستبداد، والاستبداد الذي شهده التأريخ ـ منذ القرن الثامن عشر ـ كان علمانياً في الغالب. ومن جهة ثانية، يُبطن الخوفُ من الإسلاميين، هنا، تبريراً للاستبداد، فضلاً عن القراءة الخاطئة (وأدونيس يعوزه كثير من السوسيولوجيا) للعوامل التي مكّنت الإسلاميين في المنطقة. إنهم ناتج من نتائج الاستبداد. إنهم تعبير عن قهر وتشويه مستمرين لروح الإنسان وتدمير للقيم المدنية. وإن بقاء الاستبداد لا يعني سوى تغوّل وتوحش أكثر للإسلاميين. بقاءُ الاستبداد سيزيد من مخالبهم، وليس أمامك من حل سوى أن تفتح الحراك السياسي، . . أن تزيل الاستبداد، لتعيد للروح المقهورة نقاءَها.
في الوقت نفسه، وبعيداً عن أية ضجة إعلامية، بعيداً عن أي خبر، حتى وإن كان مقتضباً، بعيداً عن أن نعرف أي شيء عن القوائم القصيرة والطويلة، فازت عربية أخرى بالجائزة، يمنية، مولودة سنة 1979، حين كان أدونيس يقف على عتبة الشيخوخة، مثقفاً، نجماً. توكل كرمان، فازت بنوبل للسلام، لنشاطها المدني في مواجهة الاستبداد، وهو ما عُدّ (ويمكن أن يكون بالفعل) تكريماً للربيع العربي.
توكل كرمان تتحدر وتنتمي إلى حزب إسلامي. وفوزها بنوبل يوثِّق إلى أي حدّ يمكن أن يكون الإسلاميون جزءاً من مشروع التحديث، العلماني في النهاية. لقد كان خطابُها في حفل تسلّم الجائزة علمانياً بامتياز، تحدثت فيه ـ بوضوح ـ عن فكرتي (المساواة) و(الاعتراف بالآخر)، وهما نتاج محض للحداثة الغربية، إذ لم يُنتِج التراثُ الإسلامي سوى مجتمعات تراتبية وامتهاناً للآخر.
وأن نحتفي بتوكل كرمان، الإسلامية الفائزة بنوبل، يعني أننا نطمح إلى أن نكسر الغرور العلمانوي، الذي يرى أن مشروع التحديث يبدأ به، وينتهي به، وأننا نقترب من الإيمان بأن ثمة شركاء في هذا المشروع.
المسافة بين أدونيس وتوكل كرمان أكثر من مهمة، وأكثر من حرجة، مسافة تحكي رحلةَ تحول وتغير في فكرة (المثقف).
في سنة 1974، أصدر أدونيس كتابه (الثابت والمتحوّل). وهو، بلا شك، واحد من أهم ما قدّمته الثقافةُ العربية الحديثة. في هذا الكتاب، حاول أدونيس أن يشرح أن الثقافة العربية، بشكلها الموروث السائد، ذات مبنى ديني، بتعبيره، بمعنى أنها "ثقافة اتباعية"، أي ثقافة تتبع (الثابت)، وهو ما يعرفه بأنه "الفكر الذي ينهض على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو". ومن ثم، يبني (الثابت) أحقيته على ماض يفسره تفسيراً خاصاً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص. ويرى أن الثقافة الاتباعية ترفض الإبداع وتدينه، فالإبداع ينتجه (المتحول)، أي الفكر الذي إما أنه لا يرى في النص أية مرجعية، ويعتمد على العقل، لا النقل، أو أنه ينهض على تأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدده. ومن ثم، يرفض (المتحولُ) أحقيةَ (الثابت). ويرى أدونيس أن الثقافة الاتباعية تحول دون أي تقدم حقيقي. ولذلك، لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي، وتتغير كيفيةُ النظر والفهم التي وجّهت هذا الفكر ولا تزال توجهه، وأن أصل الثقافة العربية لا يحمل في ذاته حيويةَ التجاوز المستمر، إلا إذا تخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي. وعلى الرغم من أن أدونيس يقول ـ دفاعاً عن أكاديمية كتابه ـ إن مصطلحي (الثابت) و(المتحول) مصطلحان إجرائيان وصفيان، وليسا تقييمين، فإنه يقول، أيضاً: "إن هذه الدراسة هي مشروع لوصف الثقافة العربية كما هي، في ثابتها ومتحولها، بغية فهمها كما هي، من أجل تغييرها كما يجب أن تكون".
كتب أدونيس هذه الأفكار أواسطَ السبعينيات، عشية بداية عصر الأسلمة في المنطقة، أسلمة المجتمع والسياسة والمجال العام، بمعنى أن هذا الكتاب ـ على أهميته وخطورته ـ لم يستطع أن يُثني الناس عن (الثابت)، ويقودهم إلى (المتحول)، بل على العكس، تماماً وتماماً وتماماً، أصبحت مجتمعاتنا أكثرَ تمسكا بـ (الثابت) وعزوفاً عن (المتحول).
إذن، إلى مَن اتجه الكتاب؟ وما قيمته؟ هل هو مجرد هذيان أو تجريدات سريالية؟
هذا سؤال من هواجسي، ولا يخص أدونيس. هل المثقف كائن غريب، ينتج طلاسم لا يقرأها أحد؟ هل هو صاحب مشروع تنوير؟ تنوير ماذا؟ ولمن؟ هل هو يخاطب أقرانَه من مجتمع المثقفين فقط؟ هل يريد أن يبشّر بمشروع التنوير بين فئة تنتمي إليه، تعرف وتحمل، هي أيضاً، هذا المشروع؟ ما معنى أن يخاطب فئة بشيء هو لها أشبه بتحصيل الحاصل؟
المسافةُ بين أدونيس وتوكل كرمان هي المسافة بين رؤيتين لمشروع التحديث: أن تؤمن بأنه مشروع فوقي، ينبغي له أن يبدأ من البنى الفكرية، التي نظن أنها عميقة، أو أن تؤمن بأن التحديث مشروع يُدار من التفاصيل، من العناصر السفلية، . . من الثقافة، بوصفها طريقةَ حياة، لا بنى فوقية مجرّدة.
قبل نحو سنتين، كتبتُ عن طه حسين، وأدونيس، ومحمد عابد الجابري، بوصفهم أهم ثلاثة مثقفين في الثقافة العربية الحديثة. قلتُ حينها إن هؤلاء الثلاثة كانوا جروحاً نرجسية للذات العربية، كسروا إيمانها بنفسها وشعورَها بطهرها، ففي الوقت الذي تشكّل فيه هوس جماعي بأن أزمة العالم العربي، ثقافة ومجتمعاً وسياسة، تكمن في الخارج دائماً، حاول هؤلاء أن ينقلوا تصور الأزمة إلى الداخل، إلى الذات العربية، التي ليست ـ منذ الآن ـ بريئة من أزمتها.
ولا أزال، إلى هذه اللحظة، أؤمن بالأهمية الاستثنائية لهؤلاء الثلاثة. غير أن هؤلاء، الذين أرادوا أن يمرّنوا هذه المجتمعات على الشك بتراثها ونقده، وعلى إعادة صياغة علاقتها بالحداثة الغربية، لم يخلّفوا ـ في النهاية ـ سوى تقديس أكثر لهذا التراث، وعداء أكثر للحداثة.
هذه النقديةُ، إذن، ليست كلَّ شيء، بل هي جزء محدود من مشروع أوسع. النقدية هي في مكان آخر أيضاً.
وهذا المقال ليس عن أدونيس، ولا عن توكل كرمان. إنه مناسبة متجددة لأن أشرح ما حاولت أن أشرحه مراراً، ولكن بأمثلة عينية، متجسدة. هذا المقال يراقب كيف تتحرك فكرةُ (المثقف) وماهيته في الثقافة العربية، . . من المثقف المغترب، المتعالي عن الشأن العام، الذي يأبى لكلمته أن تنغمس و(تتلوث) بالسياسة، إلى المثقف الذي ينخرط في التفاصيل التي تحرّك المجتمعات، . . من المثقف الذي تقف فاعليتُه على الكلمة، إلى المثقف الذي يذهب بكلمته إلى ما هو أبعد، وأبعد.

إشكالية الدين والدولة: من مصر إلى تونس

سعود المولى
يوم الأربعاء 11/1، أصدر الأزهر بياناً تاريخياً عرضه على نحو 60 من الرموز والقيادات والشخصيات العامة التي وافقت عليه وشاركت في إعلانه وذلك "من أجل استعادة روح الثورة"... ومع أن الكثيرين شككوا وطرحوا الأسئلة حول مبدأ الزج بالأزهر في الموضوع السياسي ، إلا أن دعوة البيان إلى "التعاون بين شباب الثورة وبين ممثلي الشعب المنتخبين، لبناء مصر المستقبل"، قد أعطت البيان قيمة أدبية ومعنوية فائقة الأهمية. وقد ساهم البيان في ترطيب الجو العام المتشنج بين العلمانيين والدينيين رغم أنه لم يوقف حالة الاستقطاب العام بين التيارين في المجتمع المصري على ما رأى الكاتب والصحفي القدير فهمي هويدي في مقاله الأسبوعي في جريدة الشروق القاهرية.. وهو ذهب إلى حد انتقاد المثقفين الذين يدعون إلى عدم تدخل الدين في السياسة، لكنهم يسكتون على الوجه الآخر الأكثر أهمية، والذي يتمثل في تدخل السياسة في الدين، بما يؤدى إلى توظيفه لخدمة الأهواء السياسية. وحجة فهمي هويدي أن الفصل بين الدين والسياسة هو فصل نظري حتى في التطبيقات الغربية والعلمانية التي ينطبق عليها معنى التوظيف السياسي للدين، وهو أوضح ما يكون في الولايات المتحدة وإسرائيل على سبيل المثال.
بيان الأزهر ونتائج الانتخابات البرلمانية التي جاءت بنسبة عالية جداً لصالح الإخوان المسلمين (47%) ثم السلفيين (23%) أعادا طرح مسألة الدستور واللجنة المكلفة بصياغته لجهة إطار عملها وحدود صلاحياتها.. ومن يتابع السجالات المصرية الحادة والاتهامات والتشكيك المتبادل يقتنع بأن الوفاق الوطني المنشود لم يتحقق بعد سنة على نجاح الثورة.. ويبدو أن القوى السياسية المصرية ما تزال عاجزة عن صياغة مشتركات وتفاهمات وتوافقات استراتيجية تسمح لها بالتقدم صوب المستقبل وذلك على عكس التجربة التونسية التي خطت ومنذ اليوم الأول خطوة تاريخية هائلة من حيث مراعاة تحــقيق التوافق بين القوى السياسية الرئيسية التي جاءت بها صناديق الاقتراع... وهنا لا بد من أن نسجل للشيخ راشد الغنوشي ولحركة النهضة نجاحهم ومنذ سنوات المنفى والتشرد والمعتقلات والنضال الثوري، في إدارة الحوار الوطني المثمر والشفاف مع كل الفئات الوطنية من علمانية وماركسية وقومية وفي بلورة الحد الأدنى المشترك المتوافق عليه حول العلاقة بين الدين والدولة..
لقد ابرزت التجربة التونسية وجود ثلاثة تحديات تواجه العرب في تطلعهم إلى انجاز تغيير ديموقراطي حقيقي وتأسيس علاقة سليمة بين الدين والدولة: 1- استبداد السلطة ومن مظاهره إخضاع الدين للإرادة السياسية للنظام القائم وتوظيفه (مثال الأنظمة العربية). 2- الاستبداد باسم الدين الناجم عن قراءة أحادية مغالبة للإسلام، والذي يؤدي إلى التدخل بالقوة في حياة المواطنين الخاصة، وإلى النيل من حقوقهم وحرياتهم الأساسية ومن المبادئ الديموقراطي، وهذا ما يخشاه العلمانيون من صعود الاسلاميين. 3- الاستبداد باسم الحداثة الذي يعمل على إلغاء الدين من الحياة العامة بوسائل قهرية من داخل أجهزة الدولة وخارجها ويدفع نحو التصادم بين الدولة والدين وهو تصور لا يؤدى إلى إدامة الاستبداد القائم ودعم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وتعطيل المشروع الديموقراطي.
وقد أنتجت التجربة التونسية هذه توافقاً على بناء الدولة المدنية التي سبق أن اقترحها محمد مهدي شمس الدين في لبنان وحسن الترابي في السودان ومحمد الغزالي في مصر وطبقتها تجربة العدالة والتنمية في تركيا والمغرب ومحنة التيار الإصلاحي في ايران.. وهي تقوم على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب الذي يتولى في إطار هذه المبادئ إنتخاب مؤسسات الحكم بشكل دوري ومحاسبتها وحيث يخضع فيها الحاكم والمحكوم للقوانين والقواعد التي تسنها المؤسسات الدستورية المنتخبة مع ضمان حق كل طرف في استلهام مقترحاته وبرامجه في كل المجالات من مرجعيته الفكرية الخاصة.