فيما يلي قسم من محاضرة للإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين حول مفهوم الكرامة البشرية في القرآن، وهو نص غير منشور، ونحن نعمل على طبع تفسير القرآن حسب ترتيب النزول للإمام الراحل في وقت قريب إن شاء الله، رأينا أنه من المفيد نشر هذا المفهوم، وقد انفرد الإمام شمس الدين من بين المفسرين في اعتبار الآية التي تدل على ثبوت الكرامة البشرية لكل البشر أصلاً تشريعياً ثابتاً في أحكام الشريعة الإسلامية. ونرى فائدة كبيرة من تعميم هذا النص لعلاقته في رأينا بالمتغيرات الحاصلة في العالم العربي وحركة الشعوب مطالبة باسترجاع كرامتها وحقوقها الأساسية.
مفهوم الكرامة البشرية في القرآن ومن ثم في الإسلام.
هذا المفهوم حصل حوله جدل كثير في مدى تاريخ الإنسانية وكان دائماً موضع بحث وجدل بين الفلاسفة وبين السياسيين وبين رجال الدين والمؤسسات الدينية. هل للإنسان كرامة متميزة أو ليست له كرامة؟ هذه الكرامة هل هي ثابتة لجميع البشر أم لصنف خاص من البشر! أو لطبقة خاصة من الناس! هذه الكرامة هل هي ثابتة للرجال دون النساء أم هي ثابتة للرجال والنساء؟ هل هي ثابتة للعبيد والأحرار أو لخصوص الأحرار؟ هذا السؤال يتردد في أبحاث الفلاسفة، منذ أقدم نصوص الفكر الفلسفي هذا السؤال مطروح، في الأبحاث الدينية القديمة أيضاً مطروح في أبحاث رجال القانون في أقدم الشرائع، منذ شريعة حمورابي وقبل حمورابي في التشريع المصري القديم أيضاً مطروح.
ما هو المقصود بالكرامة البشرية، هي أن الإنسان له موقع في الكون يجعله موضع احترام وموضع صيانة، له احترام وله حقوق، ليس مهاناً وليس مهدور الحقوق. الحقوق تتناول الأمور الأساسية في البشر، حق الحياة وحق العيش وحق الأمان حق الحرية، الحقوق الأساسية التي تتقدم بها حياة البشر مع الاحترام، هذه هي الكرامة.
هذا المبدأ، مبدأ الكرامة الانسانية، ورد في سورة مكية في آية مكية. السورة هي سورة الإسراء، توجد فيها آية هي آية فريدة من نوعها وبنصها في القرآن الكريم التي نرى أنها وضعت أساساً لأول مرة في تاريخ البشر المعروف عن كرامة الانسان وهي قوله تعالى:" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقنَا تَفضِيلاً "(الاسراء،70)... هذه الآية هي لبيان المركز الحقوقي للإنسان، ومن ثم فإن هذا الأصل التشريعي يقاس عليه كل وضع متفرع، فكل وضع يتنافى مع مبدأ الكرامة الإنسانية يعتبر غير مشروع، وهذا أصل في باب الاستنباط قد يؤدي إلى نتائج مثيرة جداً في الفقه بالنسبة إلى المسلمين وبالنسبة إلى غير المسلمين أيضاً....وقد درج المفسرون على اعتبار أن هذه الآية هي من آيات التشريف وآيات المدح وأنها ليست من آيات الأحكام. نحن نعتبر أن هذه الآية هي آية تشريعية وهي من آيات الأحكام التي تضمنت حكماً شرعياً، وأنها من الآيات التي تتضمن أدلة الشريعة العليا.
ما يترتب على كون هذه الآية من آيات الأحكام أن كل أمر من الأمور يتنافى مع كون الإنسان مكرماً، سواء كان هذا الإنسان فرداً أو جماعة أو شعباً من الشعوب أو أمة من الأمم، كل ما يتنافى مع كونه مكرماً هو يكون غير مشروع في الشريعة، يكون محرماً، سواء كان من التصرفات أو من المواقف أو من الأحكام. وهذا ينطبق على المؤمن والكافر، وعلى العدو والصديق، وعلى القريب والبعيد، حتى غير المسلمين ينطبق عليهم هذا الحكم المبدئي الكبير إنهم مكرمون. وأن كل ما يتنافى مع كرامتهم، كل إهانة وكل افتئات هو محرم في الشريعة الإسلامية. وهذا يتناسب مع الكلية الكبيرة المذكورة في آيات الحرب وفي آيات القضاء من قبيل النهي عن العدوان، العدوان في الإسلام هو محرم إلا عندما يكون رداً للعدوان. وآيات القتال التي ورد فيها ...ولا تعتدوا... (البقرة، 190) (المائدة، 87)، تتناسب مع مبدأ الكرامة البشرية، ومن ذلك أننا استنتجنا في أبحاثنا في فقه الجهاد عدم مشروعية ما يسمى الجهاد الإبتدائي وهو إبتداء غير المسلمين بالحرب لمجرد أنهم غير مسلمين. ولا يجوز للمسلمين أن يشنوا حرباً إبتدائية، وهذا ينسجم مع مبدأ الكرامة البشرية، تحريم العدوان.
الكرامة البشرية هي كما قلنا حكم شرعي وضعي. ونحن في هذا الإستنتاج وفي هذا الاستنباط ننفرد في هذا الفهم عن غيرنا من الفقهاء ونرى أنه باب جديد من أبواب الاستنباط في الفقه الإسلامي.
التكريم البشري الثابت في هذه الآية هو أساس من أسس استنباط الأحكام الشرعية في باب الاجتماع السياسي والحرب والسلم والعلاقات الدولية في كل هذه المجالات الفقهية وكذلك في العلاقات الخاصة.
الأمر الشائع في الأذهان أن الكرامة هي فقط للمسلمين وأن غير المسلمين لا كرامة لهم ولا حرمة لهم، هذا أمر في نظرنا مخالف لهذا المبدأ التشريعي.
الكرامة البشرية ثابتة للإنسان مهما كان، مؤمناً أو كافراً، قريباً أو بعيداً ما دام يكرم نفسه. هذه الكرامة ثابتة للإنسان الذي يحترم كرامته. أما إذا أهان الإنسان كرامته حينئذ بطبيعة الحال هو يفقد هذه الكرامة. الإنسان يكون مكرماً وتكون لكرامته آثار تشريعية ما لم يهتك حرمة نفسه وما لم يرفع الستر المعطى له من الله سبحانه وتعالى. فلو فرضنا أن هذا الإنسان ظلم غيره لا تعود له كرامة، لو سرق أو كذب أو اعتدى يكون بطبيعة الحال قد عرض نفسه للعقاب لأن هذه الكرامة تثبت لأهلها ولا تثبت لغير أهلها.
الحرمات الأساسية للبشر هي: الدم والعرض والمال والسمعة، وهي مصونة لكل الناس، دم الإنسان البريء هو مصون، كونه غير مسلم لا يهدر دمه، عرضه مصون، ماله مصون. حينما نلاحظ من شواهد هذا الحكم الشرعي أنه ثابت في أصل الشرع لكل البشر حتى في حالة هزيمة غير المسلمين إذا اعتدوا نجد أن هناك حدود لرد العدوان وهو فقط إتقاء الخطر، كل شيء يزيد عن إتقاء الخطر وعن دفع الخطر يكون محرماً، كذلك حرمة العرض وحرمة الحريم، بحيث لا تجعل من عرض الأعداء من حريم الأعداء أمراًَ مستباحاً بأي وجه من الوجوه.
حرمة المال، كل إنسان يعيش في ظل القانون وفي ظل النظام ماله محرم، وما يشيع بين الناس أن غير المسلم هو مهدور المال هو أمر لا أساس له في الشرع على الإطلاق. وحرمة السمعة، إهانة غير المسلم، إهانته بأي معنى من معاني الإهانة يدخل في هذا الباب أيضاً.
الخطأ الذي يرتكبه الحاكم أو الدولة، الدولة إذا ارتكبت أي عمل من الأعمال يتنافى مع كرامة البشر فهذا العمل غير مشروع. الآن يُتداول أنه يطلب من الدول ومن السلطات العامة أن تحترم حقوق الإنسان والحريات العامة، ويُظن أن هذا المبدأ في القانون الدستوري أو في القانون الدولي هو من المبادئ المستحدثة من حين بدء الثورة الفرنسية أو الثورة البريطانية وأن هذا الأمر، هذا المفهوم كان غير معروف، كلا، هذا الأمر وُضعت أسسه في الشريعة الإسلامية. كل عمل من الأعمال يتنافى مع الكرامة البشرية تقوم به الدولة هو عمل غير مشروع وغير دستوري وتجب مقاومته. كل عمل من الأعمال تقوم به أي سلطة من السلطات تجاه أي مواطن أو أي جماعة يتنافى مع الكرامة البشرية هو غير مشروع. كل عمل من الأعمال يقوم به أي شخص تجاه أي شخص آخر ويتنافى مع الكرامة البشرية هو غير مشروع.
في هذه الحالة نحن نذكر بعض الخطوط التشريعية لهذا المبدأ التشريعي، في هذه الحالة إذا تعرض الإنسان لما ينتهك كرامته، الفرد أو الجماعة أو المجتمع، ولم تتوفر ضمانات الحماية وضمانات رد العدوان، يصبح من المشروع له أن يدافع عن كرامته، عن حقه في الكرامة وعن حقه في الاحترام وعن حقه في صون حقوقه، عندئذ يكون من حقه الدفاع عن نفسه. نتحدث هنا ليس عن الإنتهاك السياسي من قبيل أن يكون احتلال إسرائيلي وتتركب مقاومة جهادية ضد الإحتلال. هذا أمر يتعلق بالكرامة السياسية والسيادة الوطنية. نقول أنه حتى في المجالات الحقوقية داخل المجتمع حين يتعرض الإنسان أو الجماعة لأي انتهاك من انتهاكات الكرامة يكون له حق الدفاع عن نفسه. والآن المبدأ التشريعي لمشروعية المقاومة بكل ما تعنيه هو يرجع إلى هذا، إلى مبدأ الكرامة البشرية.
الثلاثاء، 7 يونيو 2011
اليسار اللبناني يسقط في سوريا
خليل عيسى
حينما يفتقد اليسار كلّ مقوّمات صموده المادية، بسبب أخطائه من جهة، وبسبب الضغوط الموضوعية المحيطة به من جهة أخرى، لا يبقى لديه عادةً، إلا الخطاب السياسي الأخلاقي كموقف مبدئي يحارب على أساسه. فأن تكون يسارياً في النهاية، هو أن تكون مع الحق ضد الظلم، مع الضحية ضد الجلّاد، مع المستغَلّ ضد المستغِلّ. هذا هو الموقف الأخلاقي الذي يُبقينا يساريّين، بعدما توفّي اليسار اللبناني، أو قارب على ذلك، كحركة سياسيّة منظّمة.
اليوم، وفي خضمّ حركة الاحتجاجات الثورية الواسعة، المطالبة بالحرية في كلّ أنحاء سوريا، التي ووجهت بقمع مرعب انتهى حتى الآن إلى أكثر من 1100 قتيل وعشرة آلاف معتقل، جلّهم من الكادحين والفلّاحين والعمّال السوريّين، يأتي البيان الأخير للمكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني الصادر بتاريخ 20 نيسان 2011، ليمنّن الشعب السوري بأنّ من حقّه أن «يتحرّك بكلّ الوسائل السلمية والديموقراطية من أجل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومواجهة الفساد»، لكنّه، في المقابل، يتجاهل أيّة تسمية للشهداء والقتلى في سوريا، و«يأمل أن تسارع (الحكومة السورية) الى تنفيذ سائر الإصلاحات التي تقدّم بها الرئيس بشار الأسد».
نتبيّن موقف الحزب الموارب أكثر، عندما نرى كلاماً طويلاً عن «مواجهة سوريا للفتنة الداخلية التي تسعى اليها الإمبريالية الأميركية وإسرائيل بالتعاون مع بعض القوى العميلة والمغرقة في رجعيتها داخل سوريا وخارجها»... لكنّنا لا نفهم شيئاً. أيّ «فتنة» يقصدها الحزب الشيوعي اللبناني؟ ولماذا لا يحلو ذكر «الفتنة» إلا عندما يُفترض أن يكون الكلام ضد القمع والقتل والترهيب؟ هل المعارضون الوطنيون في سوريا أمثال ميشيل كيلو وعارف دليلة وياسين الحاج صالح ـــــ وهم كلّهم «رفاق» بالمناسبة ـــــ أصبحوا فجأةً عملاء لـ«الدوائر» الإمبريالية؟ أم أنّ نظرية «الفتنة»، السخيفة، بما هي تفريع من نظرية «المؤامرة» أصبحت بديلاً لكلّ المواقف التي يجب أن يأخذها حزب يفترض أنّه «حزب الشعب» بامتياز؟
إنّ موقف الحزب الشيوعي مما يحصل في سوريا ساقط على المستويين الأخلاقي والسياسي، بمعنى أن تكون هنا السياسة فعلاً لمصلحة الطبقات المقهورة، مما يجعل منه حزباً ذا قيادة يمينية بحق. فهو يرفض عملياً التغيير الذي يطلبه العمال والكادحون في سوريا، ويتبنى سرديات السلطة عن «المؤامرة الخارجية». ولا ينقص الرفاق في المكتب السياسي إلا المشاركة في البروباغندا الدعائية ضد المحتجين على أنّهم «مندسّون» و«عصابات مسلحة»، وخصوصاً أنّ أمينه العام خالد حدادة أكّد مرّةً أخرى، مركزية «المؤامرة على سوريا»، في مقال له بجريدة «السفير» (28 أيار 2011). فهو إذ يرفض الحلّ الأمني في سوريا، يرفض أيضاً «محاولة الاستقواء بالخارج».
ونسأل هنا الرفيق خالد حدادة، مَن مِن المحتجين اليوم في سوريا يطلب الاستقواء بالخارج؟ أم أنّ تلك الذرائع الكلامية موجودة دائماً ـــــ لأنّ تاريخ التدخّل الإمبريالي في المنطقة معروف ومدمّر ـــــ لتجعلنا ننتج موقفاً سياسياً لا أخلاقياً، يتجاهل تماماً ما يحصل على الأرض في سوريا؟ لماذا تُحشر الإمبريالية حشراً حيث لا تكون موجودة، حتى إنّنا بتنا نرى الإمبريالية في غير الجهة التي هي فيها؟ أيّ حوار يدعو الحزب الشيوعي إليه، بينما يقول مثلاً عزمي بشارة في إحدى إطلالاته الإعلاميّة الأخيرة إنّه «من الواضح أنّ هنالك حديثاً. للأسف «فقط» حديث متعلّق بالإصلاح، لكن هناك تحريض قتل وإطلاق نار على المطالبين بالإصلاح»؟
أما وأنّ القيادة الشيوعية يمينية لهذه الدرجة، فهذا لا يلخّص كلّ الإشكالية. فكثير من اليساريّين اللبنانيّين مقتنعون، لا كلّهم بالطبع، من خارج الحزب ومن داخله، بأنّ ما يحصل في سوريا هو من فعل «السلفيين» أو المؤامرة «الأنغلو ـــــ أميركوصهيونية ـــــ السعوديّة ـــــ القطرية». يختلط هنا رهاب «المؤامرة» الدائم بعلمانية طائفية، بحسب تعبير الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، فيردّد الكثير من اليساريين استنكار شعراء من أمثال أدونيس وسعدي يوسف «خروج ثورة من الجامع»، أو أنّ ما يحصل ليس إلا آية من «صنع الغرب». تطمس هنا العلمانية الطائفية، بوعي أو لا وعي، شعوراً أقلّوياً ترعبه صيحات «الله أكبر»، وتحيي نخبوية مريضة، لا ترى عند الجماهير السورية «وعياً ثورياً» كافياً، يفاخر الرفاق الشيوعيون بأنّهم يملكونه كمن يدّعي امتلاكه مفتاح الجنّة، وربما يعكس ذلك أيضاً احتقاراً طبقياً من قيادة بورجوازية صغيرة تجاه عمّال وفلاحين يُقتلون. فالمطلوب دائماً، هو أن تكون الثورة على مقاس يسار بائس، لم يعد يحدّد نفسه إلا بخطاب «العلمانية» (وبالمناسبة نسأل هنا ماذا عاد وحلّ بأهزوجة «إسقاط النظام الطائفي»؟). فاذا كان مفهوماً أنّ لموقع حزب الله الإقليمي شيئاً أساسياً ليخسره أو يربحه عندما يأخذ موقفاً ممّا يحصل في سوريا، ألا وهو صواريخه والمقاومة العسكرية ضد إسرائيل، فنحن لا نفهم ما هي الخسارة السياسية التي يتجنّبها تخاذل الحزب الشيوعي، الذي أصبح في السنوات الأخيرة بمثابة «خيال صحرا» في المشهد السياسي اللبناني. أو ربما هناك مصلحة أخرى تدفع قيادة «الشيوعي» الى تصرّف كهذا، ونحن لا نعرفها...
لقد وصلنا اليوم إزاء يسارٍ لبناني «طائفي علماني»، مستقيل من واجباته، يتأرجح بين رؤية قومويّة لبنانية وموقف قوموي عربي، بالمعنى الخشبي للكلمة، كسول فكرياً، جبان سياسياً، فولكلوري ولفظوي، ذي خطاب ماركسيته مبتذلة وانتهازي النزعة، لا يعتمد على قواه الذاتية، حيث يتبنى سردية مظلومية تبدأ من «الغرب الإمبريالي» الى ندب «ظلم» الأحزاب الطائفية اللبنانية الأخرى له. حين لا يشكك يسارٌ في الأجوبة الجاهزة، يصبح يساراً «دينياً»، بمعنى من المعاني. فاليسار اللبناني أمميّ مع كلّ شعوب الأرض المظلومة، إلا عندما يتعلّق الأمر... بالشعوب العربية، ربما لأنّ هؤلاء لا يزالون في العمق «مسلمين»، أي ليسوا «علمانيين» كفاية!
هناك مشكلة أعمق تواجه اليساريين والشيوعيين على المستوى النظري. إنّها «الحرية» التي نادت بها الجماهير العربية المسحوقة من المحيط الى الخليج، وكانت بحدّ ذاتها تعبيراً عن كرامة مفقودة في أنظمة تسلّط كولونيالية «محلية». التفكير في هذه المسألة، أهمّ بكثير اليوم من تردادنا اللامتناهي لتحليلات مضى عليها الزمن للشهيد مهدي عامل، أو تقارير اقتصادوية تخطاها الزمن في عالم الماركسية. فموضوعة «الديموقراطية» يعدّها الشيوعيون التقليديون خياراً «بورجوازياً»، متجاهلين أنّ حقّ التصويت وحقّ التعبير عن الرأي وإنشاء الأحزاب لم تكن يوماً منّة «ليبرالية»، بل جاءت دوماً نتيجة نضالات قامت بها الطبقة العاملة والفلاحون. ولهذا، فإنّ احتقار الحرية السياسية بوصفها «حرية بورجوازية» هو في أساس المواقف اللامبالية بمطالب الجماهير التي تريد الكرامة قبل أيّ شيء آخر.
هناك ثلاثة أمور تزيّن يمينية «اليسار» اللبناني اليوم: العلمانية الطائفية التي تحوّلت الى سياسة هوية، داء النخبوية التي تحتقر الطبقات المناضلة وغياب التجديد الفكري، بسبب ترداد الصلوات اليسارية الصماء التي تدّعي الإجابة عن كلّ همّ وشكوى. نحن بحاجة الى يسار جديد، ومن هنا الدعوة إلى الرفاق في الحزب الشيوعي إلى وعي الدور التاريخي الذي يجب أن يضطلعوا به، والكفّ عن كون العلاقة طفولية و«عاطفية» بحتة مع حزبهم العريق... فقط لأنّه «الحزب الشيوعي». نقول ذلك على أمل أن يرجع اليسار يسارياً والحزب الشيوعي شيوعياً. فالأمور تشير الى أيّام صعبة ستمرّ على البلاد وسنحتاج حينها بالفعل الى هذا اليسار الجديد.
حينما يفتقد اليسار كلّ مقوّمات صموده المادية، بسبب أخطائه من جهة، وبسبب الضغوط الموضوعية المحيطة به من جهة أخرى، لا يبقى لديه عادةً، إلا الخطاب السياسي الأخلاقي كموقف مبدئي يحارب على أساسه. فأن تكون يسارياً في النهاية، هو أن تكون مع الحق ضد الظلم، مع الضحية ضد الجلّاد، مع المستغَلّ ضد المستغِلّ. هذا هو الموقف الأخلاقي الذي يُبقينا يساريّين، بعدما توفّي اليسار اللبناني، أو قارب على ذلك، كحركة سياسيّة منظّمة.
اليوم، وفي خضمّ حركة الاحتجاجات الثورية الواسعة، المطالبة بالحرية في كلّ أنحاء سوريا، التي ووجهت بقمع مرعب انتهى حتى الآن إلى أكثر من 1100 قتيل وعشرة آلاف معتقل، جلّهم من الكادحين والفلّاحين والعمّال السوريّين، يأتي البيان الأخير للمكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني الصادر بتاريخ 20 نيسان 2011، ليمنّن الشعب السوري بأنّ من حقّه أن «يتحرّك بكلّ الوسائل السلمية والديموقراطية من أجل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومواجهة الفساد»، لكنّه، في المقابل، يتجاهل أيّة تسمية للشهداء والقتلى في سوريا، و«يأمل أن تسارع (الحكومة السورية) الى تنفيذ سائر الإصلاحات التي تقدّم بها الرئيس بشار الأسد».
نتبيّن موقف الحزب الموارب أكثر، عندما نرى كلاماً طويلاً عن «مواجهة سوريا للفتنة الداخلية التي تسعى اليها الإمبريالية الأميركية وإسرائيل بالتعاون مع بعض القوى العميلة والمغرقة في رجعيتها داخل سوريا وخارجها»... لكنّنا لا نفهم شيئاً. أيّ «فتنة» يقصدها الحزب الشيوعي اللبناني؟ ولماذا لا يحلو ذكر «الفتنة» إلا عندما يُفترض أن يكون الكلام ضد القمع والقتل والترهيب؟ هل المعارضون الوطنيون في سوريا أمثال ميشيل كيلو وعارف دليلة وياسين الحاج صالح ـــــ وهم كلّهم «رفاق» بالمناسبة ـــــ أصبحوا فجأةً عملاء لـ«الدوائر» الإمبريالية؟ أم أنّ نظرية «الفتنة»، السخيفة، بما هي تفريع من نظرية «المؤامرة» أصبحت بديلاً لكلّ المواقف التي يجب أن يأخذها حزب يفترض أنّه «حزب الشعب» بامتياز؟
إنّ موقف الحزب الشيوعي مما يحصل في سوريا ساقط على المستويين الأخلاقي والسياسي، بمعنى أن تكون هنا السياسة فعلاً لمصلحة الطبقات المقهورة، مما يجعل منه حزباً ذا قيادة يمينية بحق. فهو يرفض عملياً التغيير الذي يطلبه العمال والكادحون في سوريا، ويتبنى سرديات السلطة عن «المؤامرة الخارجية». ولا ينقص الرفاق في المكتب السياسي إلا المشاركة في البروباغندا الدعائية ضد المحتجين على أنّهم «مندسّون» و«عصابات مسلحة»، وخصوصاً أنّ أمينه العام خالد حدادة أكّد مرّةً أخرى، مركزية «المؤامرة على سوريا»، في مقال له بجريدة «السفير» (28 أيار 2011). فهو إذ يرفض الحلّ الأمني في سوريا، يرفض أيضاً «محاولة الاستقواء بالخارج».
ونسأل هنا الرفيق خالد حدادة، مَن مِن المحتجين اليوم في سوريا يطلب الاستقواء بالخارج؟ أم أنّ تلك الذرائع الكلامية موجودة دائماً ـــــ لأنّ تاريخ التدخّل الإمبريالي في المنطقة معروف ومدمّر ـــــ لتجعلنا ننتج موقفاً سياسياً لا أخلاقياً، يتجاهل تماماً ما يحصل على الأرض في سوريا؟ لماذا تُحشر الإمبريالية حشراً حيث لا تكون موجودة، حتى إنّنا بتنا نرى الإمبريالية في غير الجهة التي هي فيها؟ أيّ حوار يدعو الحزب الشيوعي إليه، بينما يقول مثلاً عزمي بشارة في إحدى إطلالاته الإعلاميّة الأخيرة إنّه «من الواضح أنّ هنالك حديثاً. للأسف «فقط» حديث متعلّق بالإصلاح، لكن هناك تحريض قتل وإطلاق نار على المطالبين بالإصلاح»؟
أما وأنّ القيادة الشيوعية يمينية لهذه الدرجة، فهذا لا يلخّص كلّ الإشكالية. فكثير من اليساريّين اللبنانيّين مقتنعون، لا كلّهم بالطبع، من خارج الحزب ومن داخله، بأنّ ما يحصل في سوريا هو من فعل «السلفيين» أو المؤامرة «الأنغلو ـــــ أميركوصهيونية ـــــ السعوديّة ـــــ القطرية». يختلط هنا رهاب «المؤامرة» الدائم بعلمانية طائفية، بحسب تعبير الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، فيردّد الكثير من اليساريين استنكار شعراء من أمثال أدونيس وسعدي يوسف «خروج ثورة من الجامع»، أو أنّ ما يحصل ليس إلا آية من «صنع الغرب». تطمس هنا العلمانية الطائفية، بوعي أو لا وعي، شعوراً أقلّوياً ترعبه صيحات «الله أكبر»، وتحيي نخبوية مريضة، لا ترى عند الجماهير السورية «وعياً ثورياً» كافياً، يفاخر الرفاق الشيوعيون بأنّهم يملكونه كمن يدّعي امتلاكه مفتاح الجنّة، وربما يعكس ذلك أيضاً احتقاراً طبقياً من قيادة بورجوازية صغيرة تجاه عمّال وفلاحين يُقتلون. فالمطلوب دائماً، هو أن تكون الثورة على مقاس يسار بائس، لم يعد يحدّد نفسه إلا بخطاب «العلمانية» (وبالمناسبة نسأل هنا ماذا عاد وحلّ بأهزوجة «إسقاط النظام الطائفي»؟). فاذا كان مفهوماً أنّ لموقع حزب الله الإقليمي شيئاً أساسياً ليخسره أو يربحه عندما يأخذ موقفاً ممّا يحصل في سوريا، ألا وهو صواريخه والمقاومة العسكرية ضد إسرائيل، فنحن لا نفهم ما هي الخسارة السياسية التي يتجنّبها تخاذل الحزب الشيوعي، الذي أصبح في السنوات الأخيرة بمثابة «خيال صحرا» في المشهد السياسي اللبناني. أو ربما هناك مصلحة أخرى تدفع قيادة «الشيوعي» الى تصرّف كهذا، ونحن لا نعرفها...
لقد وصلنا اليوم إزاء يسارٍ لبناني «طائفي علماني»، مستقيل من واجباته، يتأرجح بين رؤية قومويّة لبنانية وموقف قوموي عربي، بالمعنى الخشبي للكلمة، كسول فكرياً، جبان سياسياً، فولكلوري ولفظوي، ذي خطاب ماركسيته مبتذلة وانتهازي النزعة، لا يعتمد على قواه الذاتية، حيث يتبنى سردية مظلومية تبدأ من «الغرب الإمبريالي» الى ندب «ظلم» الأحزاب الطائفية اللبنانية الأخرى له. حين لا يشكك يسارٌ في الأجوبة الجاهزة، يصبح يساراً «دينياً»، بمعنى من المعاني. فاليسار اللبناني أمميّ مع كلّ شعوب الأرض المظلومة، إلا عندما يتعلّق الأمر... بالشعوب العربية، ربما لأنّ هؤلاء لا يزالون في العمق «مسلمين»، أي ليسوا «علمانيين» كفاية!
هناك مشكلة أعمق تواجه اليساريين والشيوعيين على المستوى النظري. إنّها «الحرية» التي نادت بها الجماهير العربية المسحوقة من المحيط الى الخليج، وكانت بحدّ ذاتها تعبيراً عن كرامة مفقودة في أنظمة تسلّط كولونيالية «محلية». التفكير في هذه المسألة، أهمّ بكثير اليوم من تردادنا اللامتناهي لتحليلات مضى عليها الزمن للشهيد مهدي عامل، أو تقارير اقتصادوية تخطاها الزمن في عالم الماركسية. فموضوعة «الديموقراطية» يعدّها الشيوعيون التقليديون خياراً «بورجوازياً»، متجاهلين أنّ حقّ التصويت وحقّ التعبير عن الرأي وإنشاء الأحزاب لم تكن يوماً منّة «ليبرالية»، بل جاءت دوماً نتيجة نضالات قامت بها الطبقة العاملة والفلاحون. ولهذا، فإنّ احتقار الحرية السياسية بوصفها «حرية بورجوازية» هو في أساس المواقف اللامبالية بمطالب الجماهير التي تريد الكرامة قبل أيّ شيء آخر.
هناك ثلاثة أمور تزيّن يمينية «اليسار» اللبناني اليوم: العلمانية الطائفية التي تحوّلت الى سياسة هوية، داء النخبوية التي تحتقر الطبقات المناضلة وغياب التجديد الفكري، بسبب ترداد الصلوات اليسارية الصماء التي تدّعي الإجابة عن كلّ همّ وشكوى. نحن بحاجة الى يسار جديد، ومن هنا الدعوة إلى الرفاق في الحزب الشيوعي إلى وعي الدور التاريخي الذي يجب أن يضطلعوا به، والكفّ عن كون العلاقة طفولية و«عاطفية» بحتة مع حزبهم العريق... فقط لأنّه «الحزب الشيوعي». نقول ذلك على أمل أن يرجع اليسار يسارياً والحزب الشيوعي شيوعياً. فالأمور تشير الى أيّام صعبة ستمرّ على البلاد وسنحتاج حينها بالفعل الى هذا اليسار الجديد.
شعوب متآمرة!
نهلة الشهال
منطق الانظمة (كل الانظمة) أعوج: السلطة في سوريا تحصي المتظاهرين وتعتبر ان شرعيتها لم تُمس طالما لم ينزل الى الشارع نصف عدد السكان زائداً واحداً! تصبح هذه السلطات فجأة مستندة الى «تصويت» الاغلبية، ولكنه تصويت من نوع غريب، غير مسبوق. أن يكون هناك آلاف يتظاهرون في المدن الكبرى وفي الارياف، منذ شهرين حتى الآن، ويقتل منهم كل يوم العشرات ويعاودون الكرة، فهذا سخيف بنظر العباقرة الذين يديرون آلة النظام الاعلامية. لأن المتظاهرين يبقون قلة. وهذه فكرة حاول الرئيس المخلوع مبارك تقديمها قائلا «يعني إيه مليونين بالنسبة لثمانين مليون»، وكذلك أرسل مؤيديه للتظاهر المضاد. أي إن النظام في سوريا لم يأت بجديد على هذا الصعيد، وحججه تشبه تلك البالية التي سبق استخدامها بلا طائل من قبل سواه. ولكنهم يتفوقون على سواهم في خاصيات، منها تبرير مقتل طفل عُذب حتى الموت. هذا القتل، ثم تبريره، هو وجه مخصوص ينبئ عن غياب الحدود، تلك التي يتوقف دونها الآخرون لأنهم يحسبون لاعتبارات متنوعة، قبلية أو دعاوية أو حتى قضائية. هذه خاصية ينبغي الالتفات لها، لما تريد قوله أو تظن أنه مفعولها، وأيضاً لما تثيره كرد فعل، وهو مرتبط بنقطة أخيرة هي محدوديتها في ظروف معينة بل وحتى توليدها لنتائج عكسية.
ماذا تبقى، وقد ظهر بوضوح أن الحركة الاحتجاجية ليست بصدد الخمود، وأن فكرة الشعوب المتآمرة لا تنفع. يراهن النظام السوري على ثلاثة عناصر لينقذ نفسه. أولها، مع ذلك، القمع الشديد والذي ما زال يؤمَل منه الإخافة والردع والدفع الى الإحجام، وأيضاً إرهاق الحركة الاحتجاجية وحملها على اليأس. وهذا منحى كلاسيكي لدى الانظمة كلها، بما فيها تلك التي لا تقتل الناس في الشوارع. ولكن خطأ هذا الحساب في سوريا اليوم أنه لم يلاحظ التغيير اللاحق بمشاعر الناس، التي تخطت فعلاً حاجز الخوف، وباتت في موقع آخر. ثم هي وصلت الى ما يقال له بالدارجة «يا قاتل يا مقتول»، وهي حالة يصبح فيها التراجع أكثر كلفة من الاستمرار. ومن نافل القول أن الناس لا يثقون بوعود النظام، ولا بالعفو المعلن، وهم موقنون أن قمعاً أشد، ولكن بالمفرَّق، سيلحق بهم إن توقفوا عن انتفاضتهم. وهذه معادلة متطرفة، أوصل إليها مسلك السلطة السورية: مسلكها التاريخي المعهود، ومسلكها الراهن بالغ البشاعة. والمعادلة نفسها كلاسيكية أيضاً، فالمجتمعات التي تعاني من أنظمة شديدة القمع، غالباً ما تنفجر دفعة واحدة ويكون انفجارها من النوع الذي يلامس نقطة اللارجوع. وبالطبع، وحتى نبقى برغماتيين، فيمكن للقمع أن ينال من الانتفاضة، ولكن، غدُ ذلك النجاح ليس كأمسه، وقد تطلب الامر من حافظ الاسد جهوداً جبارة وتنازلات كبيرة ليعيد الهدوء الى سوريا بعد مجزرة حماه: في اتجاه القوى المتنفذة، وبالأخص طبقة رجال الاعمال والتجار المدينيين، ما سمي الانفتاح الاقتصادي، وفي اتجاه الاميركيين الذين كانوا ما زالوا يحتاجون النظام السوري كضابط لإيقاعات لبنان والحركة الفلسطينية، وآخر الملفات كانت مشاركة دمشق في الحرب الاولى على العراق، في موقع حفر الباطن الشهير. ذلك كله مع العلم أن النظام نجح وقتها في تصوير الامر على أنه مؤامرة من الاخوان المسلمين، ومع العلم أيضاً أن مجمل المعطيات الاقليمية والدولية كانت مختلفة تماماً عما هي عليه اليوم: لا انتفاضات في المحيط بل هزائم موجعة، الحرب الايرانية العراقية على أشدها، وهي محور التوتر العام، إلى آخر ما يجعل تكرار حماه مستحيلاً ويضع للقمع الجاري ـ من دون التقليل من شأنه ـ حدوداً لا يبدو أن أهل النظام يدركونها، بل لعلهم لا يتمكنون من فهم لماذا لا ينفع اليوم الاسلوب الذي اعتادوا عليه. لا ينبغي لأي تحليل أن يتجاهل العجز عن الادراك والبلادة والغباء في ما تقترفه الانظمة، والدلائل أكثر من أن تحصى.
العنصر الثاني هو مراهنة النظام على هدوء دمشق، قلب السلطة وواجهتها، وهو هدوء مدفوع بأسباب متعددة، حيث تتمركز في المدينة الاجهزة الامنية، وحيث استفادت هي أكثر من سواها بكثير من الخطط الاقتصادية الانفتاحية، وحيث تقاليد صراع المدن الكبرى في سوريا تجعلها في موقع المحافظة. وهذه مراهنة نصف ناجحة، فـ«خيانة» متمولي دمشق (حتى لا نستخدم تعبير بازارها كما يفعل الاجانب)، ستكون ذات مفاعيل محدودة هذه المرة مقارنة بأحداث 79ـ82، بسبب توسع رقعة الانتفاضة، وبسبب ايضاً نتائج الانفتاح التي غيرت طبقة التجار والبيوتات التقليدية، وجعلتها هجينة، وبالتالي متشظية.
العنصر الثالث، هو الاخافة من الفوضى. وهذا ما تبقى للنظام. لا الممانعة ولا مقارعة إسرائيل، بل مشهد بلد ينزلق الى الاحتراب والدماء والثارات والتخلع بشكل يصعب لمّه بعد ذلك، ويبدو المشهد العراقي بالمقارنة لطيفاً، إذ كان نظام صدام حسين حين دبت الفوضى قد أنهك وقضى بعد ثلاثة حروب وحصار مديد، وغزو واحتلال. والتهديد بالفوضى في سوريا مراهنة ناجحة. وسيقاتل أهل النظام دفاعاً عن استمرار وجودهم على رأس السلطة حتى آخر سوري، ولنا في أمثلة القذافي وعلي عبد الله صالح شواهد. وسيخسر في نهاية المطاف ويزول... ولكنه لا يعرف! ولا شك ان هذا السيناريو مرعب للسوريين، كما للمجتمعات المحيطة.
وأما المبادرات من قبيل العفو العام وتشكيل لجنة من شخصيات ثانوية في النظام نفسه تحار حتى الآن في كيفية مباشرة الحوار الوطني (!)، وعما إذا كان وطنياً أم مناطقياً، وأما استدعاء بعض القوى بالمفرق، وتهديدها وإغراؤها معاً تحت ستار تشريفها بتخصيصها باستماع دقيق، كما جرى مع رؤساء العشائر ثم رؤساء الاحزاب الكردية هنا، فمحاولة بدائية ومفوَّتة لاستعادة زمام الموقف، وهي لا تفعل في نهاية المطاف غير تزوير المشكل القائم وتحريف معطياته.
يا للبؤس!
منطق الانظمة (كل الانظمة) أعوج: السلطة في سوريا تحصي المتظاهرين وتعتبر ان شرعيتها لم تُمس طالما لم ينزل الى الشارع نصف عدد السكان زائداً واحداً! تصبح هذه السلطات فجأة مستندة الى «تصويت» الاغلبية، ولكنه تصويت من نوع غريب، غير مسبوق. أن يكون هناك آلاف يتظاهرون في المدن الكبرى وفي الارياف، منذ شهرين حتى الآن، ويقتل منهم كل يوم العشرات ويعاودون الكرة، فهذا سخيف بنظر العباقرة الذين يديرون آلة النظام الاعلامية. لأن المتظاهرين يبقون قلة. وهذه فكرة حاول الرئيس المخلوع مبارك تقديمها قائلا «يعني إيه مليونين بالنسبة لثمانين مليون»، وكذلك أرسل مؤيديه للتظاهر المضاد. أي إن النظام في سوريا لم يأت بجديد على هذا الصعيد، وحججه تشبه تلك البالية التي سبق استخدامها بلا طائل من قبل سواه. ولكنهم يتفوقون على سواهم في خاصيات، منها تبرير مقتل طفل عُذب حتى الموت. هذا القتل، ثم تبريره، هو وجه مخصوص ينبئ عن غياب الحدود، تلك التي يتوقف دونها الآخرون لأنهم يحسبون لاعتبارات متنوعة، قبلية أو دعاوية أو حتى قضائية. هذه خاصية ينبغي الالتفات لها، لما تريد قوله أو تظن أنه مفعولها، وأيضاً لما تثيره كرد فعل، وهو مرتبط بنقطة أخيرة هي محدوديتها في ظروف معينة بل وحتى توليدها لنتائج عكسية.
ماذا تبقى، وقد ظهر بوضوح أن الحركة الاحتجاجية ليست بصدد الخمود، وأن فكرة الشعوب المتآمرة لا تنفع. يراهن النظام السوري على ثلاثة عناصر لينقذ نفسه. أولها، مع ذلك، القمع الشديد والذي ما زال يؤمَل منه الإخافة والردع والدفع الى الإحجام، وأيضاً إرهاق الحركة الاحتجاجية وحملها على اليأس. وهذا منحى كلاسيكي لدى الانظمة كلها، بما فيها تلك التي لا تقتل الناس في الشوارع. ولكن خطأ هذا الحساب في سوريا اليوم أنه لم يلاحظ التغيير اللاحق بمشاعر الناس، التي تخطت فعلاً حاجز الخوف، وباتت في موقع آخر. ثم هي وصلت الى ما يقال له بالدارجة «يا قاتل يا مقتول»، وهي حالة يصبح فيها التراجع أكثر كلفة من الاستمرار. ومن نافل القول أن الناس لا يثقون بوعود النظام، ولا بالعفو المعلن، وهم موقنون أن قمعاً أشد، ولكن بالمفرَّق، سيلحق بهم إن توقفوا عن انتفاضتهم. وهذه معادلة متطرفة، أوصل إليها مسلك السلطة السورية: مسلكها التاريخي المعهود، ومسلكها الراهن بالغ البشاعة. والمعادلة نفسها كلاسيكية أيضاً، فالمجتمعات التي تعاني من أنظمة شديدة القمع، غالباً ما تنفجر دفعة واحدة ويكون انفجارها من النوع الذي يلامس نقطة اللارجوع. وبالطبع، وحتى نبقى برغماتيين، فيمكن للقمع أن ينال من الانتفاضة، ولكن، غدُ ذلك النجاح ليس كأمسه، وقد تطلب الامر من حافظ الاسد جهوداً جبارة وتنازلات كبيرة ليعيد الهدوء الى سوريا بعد مجزرة حماه: في اتجاه القوى المتنفذة، وبالأخص طبقة رجال الاعمال والتجار المدينيين، ما سمي الانفتاح الاقتصادي، وفي اتجاه الاميركيين الذين كانوا ما زالوا يحتاجون النظام السوري كضابط لإيقاعات لبنان والحركة الفلسطينية، وآخر الملفات كانت مشاركة دمشق في الحرب الاولى على العراق، في موقع حفر الباطن الشهير. ذلك كله مع العلم أن النظام نجح وقتها في تصوير الامر على أنه مؤامرة من الاخوان المسلمين، ومع العلم أيضاً أن مجمل المعطيات الاقليمية والدولية كانت مختلفة تماماً عما هي عليه اليوم: لا انتفاضات في المحيط بل هزائم موجعة، الحرب الايرانية العراقية على أشدها، وهي محور التوتر العام، إلى آخر ما يجعل تكرار حماه مستحيلاً ويضع للقمع الجاري ـ من دون التقليل من شأنه ـ حدوداً لا يبدو أن أهل النظام يدركونها، بل لعلهم لا يتمكنون من فهم لماذا لا ينفع اليوم الاسلوب الذي اعتادوا عليه. لا ينبغي لأي تحليل أن يتجاهل العجز عن الادراك والبلادة والغباء في ما تقترفه الانظمة، والدلائل أكثر من أن تحصى.
العنصر الثاني هو مراهنة النظام على هدوء دمشق، قلب السلطة وواجهتها، وهو هدوء مدفوع بأسباب متعددة، حيث تتمركز في المدينة الاجهزة الامنية، وحيث استفادت هي أكثر من سواها بكثير من الخطط الاقتصادية الانفتاحية، وحيث تقاليد صراع المدن الكبرى في سوريا تجعلها في موقع المحافظة. وهذه مراهنة نصف ناجحة، فـ«خيانة» متمولي دمشق (حتى لا نستخدم تعبير بازارها كما يفعل الاجانب)، ستكون ذات مفاعيل محدودة هذه المرة مقارنة بأحداث 79ـ82، بسبب توسع رقعة الانتفاضة، وبسبب ايضاً نتائج الانفتاح التي غيرت طبقة التجار والبيوتات التقليدية، وجعلتها هجينة، وبالتالي متشظية.
العنصر الثالث، هو الاخافة من الفوضى. وهذا ما تبقى للنظام. لا الممانعة ولا مقارعة إسرائيل، بل مشهد بلد ينزلق الى الاحتراب والدماء والثارات والتخلع بشكل يصعب لمّه بعد ذلك، ويبدو المشهد العراقي بالمقارنة لطيفاً، إذ كان نظام صدام حسين حين دبت الفوضى قد أنهك وقضى بعد ثلاثة حروب وحصار مديد، وغزو واحتلال. والتهديد بالفوضى في سوريا مراهنة ناجحة. وسيقاتل أهل النظام دفاعاً عن استمرار وجودهم على رأس السلطة حتى آخر سوري، ولنا في أمثلة القذافي وعلي عبد الله صالح شواهد. وسيخسر في نهاية المطاف ويزول... ولكنه لا يعرف! ولا شك ان هذا السيناريو مرعب للسوريين، كما للمجتمعات المحيطة.
وأما المبادرات من قبيل العفو العام وتشكيل لجنة من شخصيات ثانوية في النظام نفسه تحار حتى الآن في كيفية مباشرة الحوار الوطني (!)، وعما إذا كان وطنياً أم مناطقياً، وأما استدعاء بعض القوى بالمفرق، وتهديدها وإغراؤها معاً تحت ستار تشريفها بتخصيصها باستماع دقيق، كما جرى مع رؤساء العشائر ثم رؤساء الاحزاب الكردية هنا، فمحاولة بدائية ومفوَّتة لاستعادة زمام الموقف، وهي لا تفعل في نهاية المطاف غير تزوير المشكل القائم وتحريف معطياته.
يا للبؤس!
مع الإنتفاضة حتى العظم
سمر يزبك
رسالة وردتني من صديق “مثقف” كاتب يقول فيها: “والله يا سمر لو نزلت الشارع وشفت الناس اللي بتطلع مظاهرات كنت غيرت رأيك بما يحدث في سوريا وقلت هدون زعران “
وانا أقول له دون ذكر اسمه، حتى لا يلوثه التاريخ، إلا إذا أراد أن يعلن ذلك صراحة، بأني نزلت التظاهرات في بداية حركة الإحتجاج، ورأيت بأم عيني الناس الشرفاء العزل المسالمين الذين ينزلون الشوارع، ورأيت بأم عيني تمرغ غالبية النخبة المثقفة في سوريا في الوحل، وكيف خانت دورها التاريخي في الحياة، ولم تستطع أن ترقى إلى مستوى الانسانية الفريدة، التي وجدتها لدى المتظاهرين على اختلاف أطيافهم، سواء من الإسلاميين أو العلمانيين.
في دوما وأثناء حصارها في بداية حركة الاحتجاجات، كنت أدخل إليها من البسايتن مع سائق شاب، تركت السيارة وتوغلت في الأزقة، وكانت مجموعات من رجال دوما كل منهم يقف في زقاق، وأمام كل زقاق كان هناك جيش صغير من الأمن والعسكر والشبيحة. كان الرجال ينتظرون الوقت للانضمام الى التظاهرات، واحد منهم رآني عن بعد، فأشار بيده إلي لأعود. عدت، وأنا أخرج من الزقاق، وجدته أمامي، وقال لي بالحرف: “يا اختي، خليك هون وسأرسل اليك ولداً يدلك، اذا مسكوكي والله ما رح يتركوكي”
الرجل لم ينظر في عيني مباشرة، وضع يده على صدره وانحنى برأسه، ولم يسألني، من أنا، وكنت سافرة وأرتدي الجينز، بعد قليل وصل ولد، ودلني على الطرقات، وقال لي ” إذا لزمك شي أبي قللي اخدك لعند النسوان” قلت له بغصة: بدي سلامتك. الولد قال لي: “إذا جوعانة أمي عاملة غدا” ذهبت الى بيت الولد، وجلست مع أمه وشقيقاته، كن محجبات، عقولهن كانت منفتحة، تناقشنا طويلاً بالمطالب، وضحكنا رغم حصار دوما والخوف خارج جدران المنزل، وصرنا أصدقاء. ثم اجتاز الولد الأزقة الخطرة، وآتى بالسائق ، ليأكل، وبعد ذلك عاد بنا من نفس الأزقة.
هؤلاء هم الزعران؟ الولد الذي كان سعيدا بوجود ضيفة في بيته الفقير، كان نحيلا، ثيابه مهلهلة، ووجهه شاحب، وعظامه ناتئة، لحظتها وانا انظر اليه قلت لنفسي: “أنا مع هؤلاء الناس حتى العضم” عظامهم الناتئة من الجوع والحاجة. هؤلاء الفقراء الذين يخرجون من أكثر احياء دمشق فقراً، هل هم الزعران أيها المثقفون السوريون؟ هل سيخرج إلى الشارع إلا الفقراء ؟ هل تريدون أن يلبس المتظاهر بدلة ” بيير كاردان” وحذاء لامع؟ هل تريدون أن يقف ويتحدث بهدوء وسلاسة بعبارات منمقة، بعد أن يقتل كل يوم، وبعد أن تحبل الجنازات بالجنازات؟
هل فكر واحد منكم، لو أن الطفل حمزة الخطيب هو ابنه؟
يحق لأي كان ان يؤمن بالله ودياناته الثلاث. يحق لأي كان أن يكون ملحداً. ويحق لنا قبول الاختلاف مع أي كان. لايحق لأحد سلب حياة إنسان، أوتجويعه وإهانته وإذلاله.
ما لايحق لنا ان نقوله الآن، ان الناس التي خرجت تطلب الحرية والكرامة والخبز هم زعران!اصمتوا على الأقل، ولا تشاركوا في الجريمة الكبرى، التي تقتل الشعب السوري. التاريخ لن يسامحكم. أنا من هؤلاء الزعران وأنحني لهم، ولدمائهم، ومعهم حتى تحقيق مطالبهم، وأتشرف بهم واحداً واحداً، وواحدة واحدة.
رسالة وردتني من صديق “مثقف” كاتب يقول فيها: “والله يا سمر لو نزلت الشارع وشفت الناس اللي بتطلع مظاهرات كنت غيرت رأيك بما يحدث في سوريا وقلت هدون زعران “
وانا أقول له دون ذكر اسمه، حتى لا يلوثه التاريخ، إلا إذا أراد أن يعلن ذلك صراحة، بأني نزلت التظاهرات في بداية حركة الإحتجاج، ورأيت بأم عيني الناس الشرفاء العزل المسالمين الذين ينزلون الشوارع، ورأيت بأم عيني تمرغ غالبية النخبة المثقفة في سوريا في الوحل، وكيف خانت دورها التاريخي في الحياة، ولم تستطع أن ترقى إلى مستوى الانسانية الفريدة، التي وجدتها لدى المتظاهرين على اختلاف أطيافهم، سواء من الإسلاميين أو العلمانيين.
في دوما وأثناء حصارها في بداية حركة الاحتجاجات، كنت أدخل إليها من البسايتن مع سائق شاب، تركت السيارة وتوغلت في الأزقة، وكانت مجموعات من رجال دوما كل منهم يقف في زقاق، وأمام كل زقاق كان هناك جيش صغير من الأمن والعسكر والشبيحة. كان الرجال ينتظرون الوقت للانضمام الى التظاهرات، واحد منهم رآني عن بعد، فأشار بيده إلي لأعود. عدت، وأنا أخرج من الزقاق، وجدته أمامي، وقال لي بالحرف: “يا اختي، خليك هون وسأرسل اليك ولداً يدلك، اذا مسكوكي والله ما رح يتركوكي”
الرجل لم ينظر في عيني مباشرة، وضع يده على صدره وانحنى برأسه، ولم يسألني، من أنا، وكنت سافرة وأرتدي الجينز، بعد قليل وصل ولد، ودلني على الطرقات، وقال لي ” إذا لزمك شي أبي قللي اخدك لعند النسوان” قلت له بغصة: بدي سلامتك. الولد قال لي: “إذا جوعانة أمي عاملة غدا” ذهبت الى بيت الولد، وجلست مع أمه وشقيقاته، كن محجبات، عقولهن كانت منفتحة، تناقشنا طويلاً بالمطالب، وضحكنا رغم حصار دوما والخوف خارج جدران المنزل، وصرنا أصدقاء. ثم اجتاز الولد الأزقة الخطرة، وآتى بالسائق ، ليأكل، وبعد ذلك عاد بنا من نفس الأزقة.
هؤلاء هم الزعران؟ الولد الذي كان سعيدا بوجود ضيفة في بيته الفقير، كان نحيلا، ثيابه مهلهلة، ووجهه شاحب، وعظامه ناتئة، لحظتها وانا انظر اليه قلت لنفسي: “أنا مع هؤلاء الناس حتى العضم” عظامهم الناتئة من الجوع والحاجة. هؤلاء الفقراء الذين يخرجون من أكثر احياء دمشق فقراً، هل هم الزعران أيها المثقفون السوريون؟ هل سيخرج إلى الشارع إلا الفقراء ؟ هل تريدون أن يلبس المتظاهر بدلة ” بيير كاردان” وحذاء لامع؟ هل تريدون أن يقف ويتحدث بهدوء وسلاسة بعبارات منمقة، بعد أن يقتل كل يوم، وبعد أن تحبل الجنازات بالجنازات؟
هل فكر واحد منكم، لو أن الطفل حمزة الخطيب هو ابنه؟
يحق لأي كان ان يؤمن بالله ودياناته الثلاث. يحق لأي كان أن يكون ملحداً. ويحق لنا قبول الاختلاف مع أي كان. لايحق لأحد سلب حياة إنسان، أوتجويعه وإهانته وإذلاله.
ما لايحق لنا ان نقوله الآن، ان الناس التي خرجت تطلب الحرية والكرامة والخبز هم زعران!اصمتوا على الأقل، ولا تشاركوا في الجريمة الكبرى، التي تقتل الشعب السوري. التاريخ لن يسامحكم. أنا من هؤلاء الزعران وأنحني لهم، ولدمائهم، ومعهم حتى تحقيق مطالبهم، وأتشرف بهم واحداً واحداً، وواحدة واحدة.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)