الثلاثاء، 7 يونيو 2011

شعوب متآمرة!

نهلة الشهال
منطق الانظمة (كل الانظمة) أعوج: السلطة في سوريا تحصي المتظاهرين وتعتبر ان شرعيتها لم تُمس طالما لم ينزل الى الشارع نصف عدد السكان زائداً واحداً! تصبح هذه السلطات فجأة مستندة الى «تصويت» الاغلبية، ولكنه تصويت من نوع غريب، غير مسبوق. أن يكون هناك آلاف يتظاهرون في المدن الكبرى وفي الارياف، منذ شهرين حتى الآن، ويقتل منهم كل يوم العشرات ويعاودون الكرة، فهذا سخيف بنظر العباقرة الذين يديرون آلة النظام الاعلامية. لأن المتظاهرين يبقون قلة. وهذه فكرة حاول الرئيس المخلوع مبارك تقديمها قائلا «يعني إيه مليونين بالنسبة لثمانين مليون»، وكذلك أرسل مؤيديه للتظاهر المضاد. أي إن النظام في سوريا لم يأت بجديد على هذا الصعيد، وحججه تشبه تلك البالية التي سبق استخدامها بلا طائل من قبل سواه. ولكنهم يتفوقون على سواهم في خاصيات، منها تبرير مقتل طفل عُذب حتى الموت. هذا القتل، ثم تبريره، هو وجه مخصوص ينبئ عن غياب الحدود، تلك التي يتوقف دونها الآخرون لأنهم يحسبون لاعتبارات متنوعة، قبلية أو دعاوية أو حتى قضائية. هذه خاصية ينبغي الالتفات لها، لما تريد قوله أو تظن أنه مفعولها، وأيضاً لما تثيره كرد فعل، وهو مرتبط بنقطة أخيرة هي محدوديتها في ظروف معينة بل وحتى توليدها لنتائج عكسية.
ماذا تبقى، وقد ظهر بوضوح أن الحركة الاحتجاجية ليست بصدد الخمود، وأن فكرة الشعوب المتآمرة لا تنفع. يراهن النظام السوري على ثلاثة عناصر لينقذ نفسه. أولها، مع ذلك، القمع الشديد والذي ما زال يؤمَل منه الإخافة والردع والدفع الى الإحجام، وأيضاً إرهاق الحركة الاحتجاجية وحملها على اليأس. وهذا منحى كلاسيكي لدى الانظمة كلها، بما فيها تلك التي لا تقتل الناس في الشوارع. ولكن خطأ هذا الحساب في سوريا اليوم أنه لم يلاحظ التغيير اللاحق بمشاعر الناس، التي تخطت فعلاً حاجز الخوف، وباتت في موقع آخر. ثم هي وصلت الى ما يقال له بالدارجة «يا قاتل يا مقتول»، وهي حالة يصبح فيها التراجع أكثر كلفة من الاستمرار. ومن نافل القول أن الناس لا يثقون بوعود النظام، ولا بالعفو المعلن، وهم موقنون أن قمعاً أشد، ولكن بالمفرَّق، سيلحق بهم إن توقفوا عن انتفاضتهم. وهذه معادلة متطرفة، أوصل إليها مسلك السلطة السورية: مسلكها التاريخي المعهود، ومسلكها الراهن بالغ البشاعة. والمعادلة نفسها كلاسيكية أيضاً، فالمجتمعات التي تعاني من أنظمة شديدة القمع، غالباً ما تنفجر دفعة واحدة ويكون انفجارها من النوع الذي يلامس نقطة اللارجوع. وبالطبع، وحتى نبقى برغماتيين، فيمكن للقمع أن ينال من الانتفاضة، ولكن، غدُ ذلك النجاح ليس كأمسه، وقد تطلب الامر من حافظ الاسد جهوداً جبارة وتنازلات كبيرة ليعيد الهدوء الى سوريا بعد مجزرة حماه: في اتجاه القوى المتنفذة، وبالأخص طبقة رجال الاعمال والتجار المدينيين، ما سمي الانفتاح الاقتصادي، وفي اتجاه الاميركيين الذين كانوا ما زالوا يحتاجون النظام السوري كضابط لإيقاعات لبنان والحركة الفلسطينية، وآخر الملفات كانت مشاركة دمشق في الحرب الاولى على العراق، في موقع حفر الباطن الشهير. ذلك كله مع العلم أن النظام نجح وقتها في تصوير الامر على أنه مؤامرة من الاخوان المسلمين، ومع العلم أيضاً أن مجمل المعطيات الاقليمية والدولية كانت مختلفة تماماً عما هي عليه اليوم: لا انتفاضات في المحيط بل هزائم موجعة، الحرب الايرانية العراقية على أشدها، وهي محور التوتر العام، إلى آخر ما يجعل تكرار حماه مستحيلاً ويضع للقمع الجاري ـ من دون التقليل من شأنه ـ حدوداً لا يبدو أن أهل النظام يدركونها، بل لعلهم لا يتمكنون من فهم لماذا لا ينفع اليوم الاسلوب الذي اعتادوا عليه. لا ينبغي لأي تحليل أن يتجاهل العجز عن الادراك والبلادة والغباء في ما تقترفه الانظمة، والدلائل أكثر من أن تحصى.
العنصر الثاني هو مراهنة النظام على هدوء دمشق، قلب السلطة وواجهتها، وهو هدوء مدفوع بأسباب متعددة، حيث تتمركز في المدينة الاجهزة الامنية، وحيث استفادت هي أكثر من سواها بكثير من الخطط الاقتصادية الانفتاحية، وحيث تقاليد صراع المدن الكبرى في سوريا تجعلها في موقع المحافظة. وهذه مراهنة نصف ناجحة، فـ«خيانة» متمولي دمشق (حتى لا نستخدم تعبير بازارها كما يفعل الاجانب)، ستكون ذات مفاعيل محدودة هذه المرة مقارنة بأحداث 79ـ82، بسبب توسع رقعة الانتفاضة، وبسبب ايضاً نتائج الانفتاح التي غيرت طبقة التجار والبيوتات التقليدية، وجعلتها هجينة، وبالتالي متشظية.
العنصر الثالث، هو الاخافة من الفوضى. وهذا ما تبقى للنظام. لا الممانعة ولا مقارعة إسرائيل، بل مشهد بلد ينزلق الى الاحتراب والدماء والثارات والتخلع بشكل يصعب لمّه بعد ذلك، ويبدو المشهد العراقي بالمقارنة لطيفاً، إذ كان نظام صدام حسين حين دبت الفوضى قد أنهك وقضى بعد ثلاثة حروب وحصار مديد، وغزو واحتلال. والتهديد بالفوضى في سوريا مراهنة ناجحة. وسيقاتل أهل النظام دفاعاً عن استمرار وجودهم على رأس السلطة حتى آخر سوري، ولنا في أمثلة القذافي وعلي عبد الله صالح شواهد. وسيخسر في نهاية المطاف ويزول... ولكنه لا يعرف! ولا شك ان هذا السيناريو مرعب للسوريين، كما للمجتمعات المحيطة.
وأما المبادرات من قبيل العفو العام وتشكيل لجنة من شخصيات ثانوية في النظام نفسه تحار حتى الآن في كيفية مباشرة الحوار الوطني (!)، وعما إذا كان وطنياً أم مناطقياً، وأما استدعاء بعض القوى بالمفرق، وتهديدها وإغراؤها معاً تحت ستار تشريفها بتخصيصها باستماع دقيق، كما جرى مع رؤساء العشائر ثم رؤساء الاحزاب الكردية هنا، فمحاولة بدائية ومفوَّتة لاستعادة زمام الموقف، وهي لا تفعل في نهاية المطاف غير تزوير المشكل القائم وتحريف معطياته.
يا للبؤس!