(مئوية مجلة "العرفان"(5 شباط 1909 - 5 شباط 2009
المجلة ومؤسسها في الدائرتين الصغرى والكبرى بقلم الدكتور طريف الخالدي
-1-
لو أننا تدبرنا لحظة من الوقت أمر دائرتين متحدتي المركز تقريباً إحداهما أصغر في العيان من الاخرى؛ ولو أننا تصورنا ان خطوط كفافهما الخارجية او محيطيهما متشابهان أقرب الشبه؛ ولو أننا تدبرنا كرة أخرى في الدائرة الصغرى باعتبارها عالماً مصغراً [انساناً] في داخل الدائرة الكبرى، العالم الاكبر [الكون]؛ ولو أننا تذكرنا أن الدائرة الصغرى لا تعكس الدائرة الكبرى فحسب، بل تعمل بنشاط في تكييف مناخها الفكري كذلك، لو أننا وضعنا كل هذه الاخيلة أمام ناظرنا فسنتوصل الى صورة متعددة الابعاد للعلاقة بين جبل عامل ومجلة العرفان. ففي جبل عامل كانت أي مجلة تسمى ببساطة "العرفان"(1). كان الامر كما لو ان اسم العلم قد امسى مرادفاً لاسم الجنس، وكان الحال كذلك على الاخص في الفترة بين 1909 و1939. فالعرفان لم تكن محض مرآة صادقة لمكانها وزمانها. إنها كانت ايضاً ادارة ووسيطاً مباشرين للتحوّل الفكري. وقد كان للدائرتين المتحدتي المركز، معاً، من الأثر المشترك ما تجاوز بعيداً حدود جبل عامل الجغرافية.
لذا، فبتحليل العرفان وموقعها في الحياة الفكرية في المشرق العربي خلال هذه الفترة، سيكون الامر في النهاية سيّان سواء بدأ التحليل التاريخي من الدائرة الخارجية وانتقل الى الدائرة الداخلية او العكس بالعكس. وعلى هذا فسأبدأ بتحليل موجز لطبيعة الشبه بين العرفان ومجتمعها الأم ولدرجته. ثم أمضي لفحص بعض الموضوعات (الثيمات) الرئيسية التي كوّنتها العرفان والمجتمع الذي أفرزها، او تلك التي انعكس فيها. وأنتهي الى تقويم موقت لأهمية العرفان في مجتمعها المباشر. وقد يبدو كما لو ان التحليل ينتقل من الحيّز الداخلي الى الخارجي ولكن هذا هو مجرد وسيلة شكلية لتسهيل الامر او وسيلة في الاسلوب لا مقولة فلسفية رصينة بشأن العلاقة بين الافكار والمجتمع في التاريخ. وسيجري التأكيد، في كل نقطة من نقاط هذا التحليل، على الطبيعة الفذة لهذه العلاقة، وعلى تلك الموضوعات والاحداث التي أضافت اليها العرفان شيئاً من ميزاتها الخاصة او ألقت عليها شيئاً من ضيائها الخاص بعينه.
ولو وقفنا على تخوم الدائرة الداخلية، أي تخوم العرفان، لبدت المجلة مفتقرة الى أي خط مذهبي واضح او الى أي التزام حزبي كان. ولعل هذا الافتقار لمذهبية التحرير هو ابرز مزايا المجلة لأن المحرر لا يمارس في حقيقة الامر رقابة ايديولوجية على المساهمين في التحرير. والرقابة الوحيدة التي مارسها كانت ذات طبيعة لغوية، رقابة تطبق بأناقة وذلك بايلاج علامة تعجب بين حين وحين توضع بين قوسين جنب سقطة ما. ولا يعني هذا ان المحرر يفتقر الى المبادئ. بل انه كان يعتنق مبادئ قوية وكان هو نفسه ينتصر سياسياً [لبعض الاراء] بين حين وحين. بيد ان مبادئه تتسم بانفتاحها وبثباتها. وأعني بالانفتاح القيمة المثلى التي يوليها المحرر لحرية الكتابة، التي ولدتها بلا ريب الفورة النشطة للأزمة العثمانية لعام 1908. وأعني بالثبات أن تمسّك المحرر بالحرية وبقلة أخرى من المبادئ الاخلاقية الحيوية كالتعليم والوطنية لم يطرأ عليه أي تغيير تقريباً، من بداية المرحلة قيد الدرس (1909) الى نهايتها (1939)، وحتى أبعد من ذلك(2). إن هذا التمسك الجامد بالحرية قد مكّن المجلة أن تعمل كمنبر لآراء من مختلف الالوان. وما تفتقر اليه المجلة من إثارة فكرية إنما تعوضه بتحسسها للقضايا الخاصة بالمراحل التاريخية المتلاحقة.
-2-
انتقل بعد ذلك الى تخوم الدائرة الخارجية، دائرة جبل عامل، حيث أزمع أن أتناول بالبحث موضوعات وحقائق معينة كما أتنازل صورها كما ظهرت في المجلة. وهذه الموضوعات لا تبرز فقط لمحض أهميتها الاحصائية الكمية، بل تبرز لأن عدداً منها قد تم توضيبه من ناحية كيفية بطريقة المجلة الفذة، او غير العادية على الاقل، لذا فإن المؤرخ وهو يقترب من مجلة كالعرفان يجد انه يتناول بالبحث، من حيث النتيجة، كلاً من مؤسسة تاريخية فضلاً عن مصدر تاريخي في آن واحد. إن العرفان غالباً ما توصف بأنها مدرسة، مدرسة صاغت عقول المثقفين لجماعة معينة من الناس في مرحلة معينة من الزمن. لكن "العرفان" ايضاً مصدر أدبي رئيسي لتاريخ جبل عامل خلال فترة زمنية أطول بكثير. لذا فالمجلة هي تاريخ ومؤرخ معاً، إذ تستخرج المادة التاريخية القديمة والقيّمة ثم تصنع تلك المادة بطريقة أسهمت في التحول التاريخي.
وهذه الوظيفة المزدوجة من الاستخراج والتصنيع تقود المرء اول ما تقوده الى فحص الصورة الذاتية التاريخية الموجودة في العرفان، أي الى فحص وضع التأريخ historiography (كما وُضع) في المجلة. والمقالات الافتتاحية تكشف عن رجل يتمتع بحس عميق ودائم بصلة التاريخ الوثيقة. على أن الهم من ذلك إنما يتمثل بأن المجلة شجعت بصورة فاعلة ظهور وضع تاريخ شيعي خلق، بكليته، صورة ذاتية تاريخية فريدة لجماعة من الناس.
-3-
ما هي السمات الرئيسية لهذه الصورة الذاتية، ولماذا خلقت وكيف؟
إنها، باختصار، صورة جماعة اسلامية شيعية التي هي عربية منذ الازل والتي يقال ان مذهبها الشيعي مستمد من كون افرادها هم أتباع الصحابي الشهير أبو ذر الغفاري. وجوهر هذه الرسالة (الشيعية) انها عربية منذ البدء ومسلمة منذ البدء(3). إنها كذلك صورة ذاتية اسلامية شيعية، وهي صورة تعكس حساً أكيداً بالتضامن الديني - الجغرافي. أنا لا أتكلم هنا عن شعور اقلية إزاء اكثرية، لأن الاقليات والاكثريات في تاريخ الشرق الاوسط ككل موجودة غالباً في عين الناظر. ولعل الكتّاب الشيعة في جبل عامل كانوا قد شعروا بأنهم اقلية في "لبنان الكبير" Greater Lebanon. لكنهم عوّضوا عن ذلك بالادعاء بأن الشيعة داخل لبنان هم أكبر طائفة منفردة(4). ولعلهم في الوطن العربي ككل كانوا قد شعروا بأنهم اقلية إزاء السنة. لكنهم عوضوا بالانتساب الى عالم الاسلام الاكبر حيث لا يعودون اقلية من الاقليات، كما عوضوا بالاحساس بأنهم قد حافظوا على عقيدة اسلامية صافية وأصيلة. والمجلة منذ أوائل أيامها قد فتحت صدرها، كتموجات في بركة، لإيران وجاوة والصين واليابان، وهي في زمنها قد قدمت ما يحتمل أن يكون أوسع تغطية اخبارية صحفية عن ايران والشرق الاقصى مما هو موجود في أي مجلة عربية.
بيد ان هذه التغطية للمشرق لم تكن ثابتة، بل متغيرة. ففي الفترة بين 1909 ونحو 1924 فحصت العرفان المشرق بدقة. غير ان التغطية من أواخر العشرينات حتى 1939 تنكمش متقلصة من الشرق الاقصى الى الشرق الاوسط، وهو انكماش يتزامن، كما سأناقش ذلك فيما بعد، او ينشأ عن هجمة استعمارية فرنسية قوية وتبعث على التفرقة وذلك في جبل عامل خاصة وفي الشرق الاوسط العربي عامة. وهذا الانكماش في التغطية الجغرافية عنى تعزيزاً للجسور العربية والاسلامية. وهذا لا يعني ان الصلات العربية الاسلامية للعرفان كانت خافية في البداية. فالدفعة الاولى بالذات من القوميين الذين القي القبض عليهم في 1915 كانت تتألف في أكثرها من مجموعة من العامليين ولدينا سرد قيّم من شاهد عيان شيعي عن الحياة اليومية في الديوان العرفي في عاليه كان كاتبه قد استطاع أن يهرّب قلماً ومفكرة الى السجن(5). ولكنه يعني انه يظهر في الصحيفة، منذ أوائل العشرينات على الاقل، تركيز كثير على الشؤون السياسية لسوريا وفلسطين والعراق ومصر على حساب جميع المناطق الاخرى. وكانت المجلة، ضمن هذه المنطقة العربية، مناصرة للهاشميين في سياستها العربية العامة ومناصرة للحاج أمين الحسيني في فلسطين. كانت العاطفة الشيعية التاريخية في المقدمة في كلا هاتين القضيتين، لكن هذه العاطفة عززت حسن التضامن السياسي - الجغرافي والاقتصادي القائم اصلاً مع شمال فلسطين، وخاصة مع المدينتين التوأم حيفا وصفد. وما ان تعاظم نطاق تغطية المجلة لاخبار سوريا وفلسطين في أواخر العشرينات وفي الثلاثينات حتى اتضحت المقولة الخاصة بمسألة الشرق وهو بإزاء الغرب في ذهن المحرر وكذلك في ذهن عدد من كتاب المقالات في مجلته. واصبحت مقولة الشرق/ الغرب، والتي ابتدأت كأزمة اخلاقية عميقة عجّل بحدوثها الغرب في الشرق، اصبحت في مرحلة لاحقة عبارة عن ظاهرة تاريخية تؤثر بالحضارات أكثر مما تؤثر في البلدان وجرى تقبلها كجزء من نمط تاريخي اكبر للمد والجزر في الحضارة ذاتها(6).
على ان العرفان إنما اسهمت اسهاماً مهماً ومثيراً للتطلع وذلك في تغطيتها لشؤون الاسلام والمذهب الشيعي في الوطن العربي. لقد ألحت آنفاً ان المجلة فتحت صدرها بدءاً بالامتداد الى الشرق وأنها انكمشت انتهاء الى شؤون العرب والاسلام. بيد ان الاسلام بكل اشكاله قد ظل بالنسبة للعرفان مجالاً دولياً حيوياً من مجالات الاهتمام زج المجلة بمجادلات مع اليسوعيين وكذلك مع السنّة وأفضى الى طرحها ما قد يطلق عليه المرء نظرية في الوحدة الطائفية الاسلامية. فالمجلة في العشرينات قامت، وقد خاب فألها بالعلمانية الساذجة المنتشرة في ايران وافغانستان وتركيا، قامت بتركيز اهتمامها على وحدة طائفية عربية واسلامية باعتبارها الهدف الديني العاجل. ويمكن القول، في واقع الامر، ان العرفان قد أخذت المبادأة لتنظيم الحوار الديني ضمن العالم الاسلامي وأثنت في الوقت عينه على الملك حسين عاهل الحجاز عن مقولته الشهيرة وهي: "نحن عرب قبل أن نكون مسلمين"(7).
ولو ابتغى المرء تفسيراً فكرياً لهذا الموقف المناهض للطائفية لأمكنه القول ان المذهب الشيعي بالنسبة للعرفان قد أمسى، ولاسيما بعد الانتداب الفرنسي، موقفاً ذهنياً أكثر مما هو التزام طائفي. إنه موقف تغذيه نهضة في كتابة التاريخ شجعتها المجلة باطراد. إن المقالات عن جبل عامل، الطويلة منها والقصيرة، العتيقة والعصرية، الجيدة والرديئة والوسط، موجودة في كل مجلد، وربما في كل عدد من صحيفة كانت على العموم شهرية. هذه المقالات هي في بعض الاحيان قاموسية الى حد كبير وتتناول تفصيلات اصول المعاني لاسماء القرى(8). وهي في أحيان أخرى تتناول المسألة الأوسع الخاصة بالحضور الشيعي في التاريخ العربي والكفاح الملحمي بين علي ومعاوية وعقبهما. كما كشفت المجلة كذلك عن اوراق مهمة تسرد الوقائع اليومية مثل السجل الشعبي الممتع للراكوني (او الركيني) الذي عاش في أواخر القرن الثامن عشر في صور، وهو مصدر اجتماعي - اقتصادي فذ عن هذه المرحلة الزمنية ويذكّر بمعاصره سجل الحكايات الدمشقية للبديري الحلاق(9).
إن تدقيق المجلة المفصل في تاريخ سراة القوم وعوامهم في جبل عامل إنما يرفده في صفحاتها اهتمام شديد بتاريخ العراق وايران. ولست في وضع يمكنني من تقدير قيمة المعلومات التاريخية عن هذين البلدين، وأغلبها يتعلق بالقرن العشرين. لكن المكانة التي احتفظ بها جبل عامل تقليدياً في النجف وايران جعلت العرفان، بمعنى من المعاني، صحيفة للتاريخ الاسلامي المقارن. إن مشكلة الطائفية الاسلامية، تحت ظلال التاريخ، قد أضحت مشكلة جهل لا مشكلة اضداد لا يمكن التوفيق بينهم(10).
إن المجلة، وقد قدم بها العهد، قد اكتسبت قوة دفع تبشيرية كان من أبرز سماتها اتخاذ موقف وسياسة من التفاهم الفاعل القائم على الحلول الوسط. أما المماحكات الجدلية ضد شخصيات سنية مثل رشيد رضا ومحمد كرد علي واسعاف النشاشيبي فقد نظر اليها كرد لاهانات يولدها الجهل. وقد دعت تلك المجادلات الى الوحدة الاسلامية باعتبارها مثلاً أعلى دينياً وسياسياً كذلك، باسم فهم تاريخي أعمق للنصوص الاسلامية(11). وهو موقف غير بعيد كثيراً عن موقف مؤرخين أوائل للاسلام كان الكثير منهم مشايعين لعلي في عاطفتهم، تلك العاطفة التي استخدمت التاريخ كحقل أولي للجدل. ويمكن، في الواقع، تعريف المذهب الشيعي بأنه لجوء الى التاريخ، والعرفان تحوي الكثير من ذلك.
إني امر سراعاً على صور وموضوعات أخرى تظهر في المجلة، فأختار التأكيد على تلك الجوانب فقط التي تبدو لي نموذجية بالنسبة للعرفان. وأنا أحصرها في فقرة واحدة على أنها مسألة المرأة، ومسألة الاشتراكية، ومسألة العلم ومسألة المهاجرين الى افريقيا والاميركيتين بالدرجة الاولى.
المسألة الاولى تتركز على قضية الحجاب والسفور. وباختصار، بدأت المجلة بتبني موقف مؤيد للحجاب بصورة واضحة، وانتهت الى قبولها بالسفور على مضض وبالتسامح مع رأي سائد مفاده ان القضية الحقيقية هي تعليم المرأة لا مظهرها الخارجي. أما في مسألة الاشتراكية فقد فسحت المجلة المجال لآراء من مختلف الالوان لكنها نظرت الى المسألة اساساً بصدد ديني لا صدد اقتصادي - اجتماعي. والمقصود بهذا ان العدد القليل نسبياً من الكتاب عن الاشتراكية نزعوا الى أن يروا في الاشتراكية نظاماً من القيم الاخلاقية الموجودة في الاسلام اصلاً. وأما اهتمام العرفان بالعلم فهو ناشئ عن اهتمام المحرر الدائم بالتعليم وبتحسين احوال الريف. والكثير من المادة العلمية يحتوي على ارشاد زراعي او طبي موجه الى القرويين صراحة، مع وجود باب دائم آخر في المجلة بعنوان "التقدم العلمي" يشتمل بالدرجة الاولى على المخترعات الحديثة. ويتصاعد اعجاب المحلة بالتقنية الغربية نسبة عكسية مع ارتيابها بالاخلاق الغربية. وكان الافتتان باليابان بالنسبة لعدد من الكتاب رمزاً للكيفية التي يستطيع بها المرء أن يستخلص التقنية من الغرب دون أن يثقل كاهله بنظامه الخلقي(12).
وقبل الانتقال الى الجزء التالي من هذه الدراسة، والذي يتناول بالبحث المجتمع الذي انبثقت عنه المجلة، لا بد من توجيه النظر الى الحركة القوية الادبية والدينية التي ازدهرت في جبل عامل من أواسط والى أواخر الثلاثينات وتبلورت حول ما كان يعرف بـ"عصبية الأدب العاملي" وهي عصبة أدبية لم تتلق بعد ما تستحقه من تقدير في تاريخ الادب العربي الحديث وفي تاريخ النهضة على العموم. وقد تأسست هذه العصبة أولاً في النجف، في أواخر العشرينات او أوائل الثلاثينات من قبل جماعة يمكن تسميتها بـ"شيوخ العلم من الشباب الغاضب"، وذلك كتمرد ضد فئة (مؤسسة) العلماء(13).
سأؤجل الآن بحث تلك المؤسسة وأحاول عرض الآراء الدينية والسياسية لهذه العصبة.
كان الشيخ علي الزين هو الروح المحركة وراء العصبة، وهو من جبشيت، عالم شاب درس في النجف، ومن الموهوبين المعروفين. وقد نشر في أيار 1937 بيان العصبة في العرفان حدد فيه المبادىء الاساسية لجماعته. ويبدو ان الشيخ وهو يسم مناخ زمانه بأنه "اقطاعي" و"رجعي" و"غير ديموقراطي" (وهذا استعمال مبكر للكلمة العربية "رجعي" واحياء لكلمة "ديموقراطي") يبدو وكأنه يعلن الحرب على عدة جبهات في الوقت عينه(14). وقد طرحت نظرية في الشعر والنقد الادبي لأن الادب، بنظر عصبته، قد غدا الاداة الاساسية للكفاح السياسي ضد "العلماء"، واصحاب الاراضي الحاكمين والانتداب(15). ويحدد الشعر الذي توافق عليه العصبة بأنه بسيط في اسلوبه وصادق مع واقع الحياة اليومية. لذا فقد شن عبد اللطيف شرارة، عضو العصبة، هجوما لاذعا على ادباء جبل عامل، وسفههم لوصفهم اوروبا كما ترى "من مقاهي النبطية" وقال ان "قوة العاطفة" هي جوهرية للكمال الادبي(16). وجرت محاسبة الشعراء لانهم لا يولون عناية كافية لوحدة القصيدة، ولأنهم ينظمون قصائدهم بيتاً بيتاً على وجه الاستقلال. كما جرى انتقاد الشعراء ايضا لتناولهم مواضيع نظرية يحسن بحثها بمقالات، او لتناولهم مواضيع بالية محاكاة لاسلوب ابي تمام او السيد الحميري(17).
وقد صب الشعر الذي أطلقه الشيخ علي وعصبته في قالب فلسفي معين يمكن وصفه بأنه متحرر ومشكك. وقد اخفى هذا كفاحا سياسيا اعمق ضد التسلط الاجنبي والطائفية والتعمية الدينية، وهذه الاخيرة تستحق الملاحظة على الخصوص وذلك لأغراضنا في هذا البحث. وقد جرى الهجوم على "العلماء" وهو جزء من هجمة عامة على جميع رجال الدين، باسم المبادىء العليا لذلك الدين ذاته(18). وقد خلع الكثير من الشيوخ اعضاء العصبة أرديتهم التقليدية [كالجبة والعمامة] الواحد تلو الآخر مدعين بقاءهم من المسلمين الاتقياء، فأحدثوا ضجة في اوساط "العلماء". وجرى تسخيف مبدأ الاجتهاد ذاته الذي هو فخر الشرع الشيعي وفقهه لأنه امسى شعارا فارغا، ومشوشا وباليا. إن الاسلام الاصيل يجب ان يكون مفتوحا باستمرار للمعرفة وللطوائف الاسلامية الاخرى(19).
وقد قيل ان العصبة تلقت بعض تصوراتها عن النقد الادبي من النوادي الادبية العربية في [المهجر] في اميركا الشمالية والجنوبية. على ان البيئة الخانقة للنجف يجب ان تعتبر سبباً بالاهمية نفسها(20). فضلا عن ذلك فإن احوال جبل عامل قد اوحت بأسلوب واداء شعريين قائمين بذاتهما. واضفى ادخال الفاظ عامية معينة متداولة في جبل عامل في الشعر الكثير من البساطة والجمال والقدرة على الترداد. وقد أثار التهجم المضحك من قبل احد الشعراء على الكهنوتية غضب احد العلماء مما حدا به الى اصدار فتوى تحلل قتله عن الكفر(21). إن العصبة قد نقلت الراديكالية الى طبقة العلماء.
-4-
انتقل الآن الى القسم الاخير من هذه الدراسة التي تروم أساساً الى الاجابة عن السؤال او الاسئلة المطروحة سابقاً: كيف ولماذا ظهرت هذه الصورة بعينها في العرفان؟ وعلى وجه التحديد ايّ نمط من المجتمع اخرجت العرفان؟ ولا توجد بالطبع طريقة يمكن المرء بواسطتها ان يمسح الاقليم بأسره. إن البحوث الثانوية الشاملة لهذا العصر التاريخي (1909 – 1939) نادرة وذات نوعية مجهولة. والمشكلة الاخيرة هي أعقد الجميع، إلا وهي انسجام العلاقة، او تصادفيتها، او حتى عرضيتها بين هذا العالم القلق من الافكار المبينة آنفاً وبين المجتمع القلق لجبل عامل. لذا فاني اطرح انطباعاتي عن هذا التاريخ بكثير من التردد(22). على انه يمكن تقديم بضع ملاحظات تاريخية عامة، ويعود الفضل في ذلك الى مجلة العرفان من جهة والى المقابلات مع شهود العيان من جهة اخرى.
إن مجلة العرفان نفسها تقول للقارىء ان هناك مفتاحين مهمين للفهم التاريخي للبنية الاقتصادية – الاجتماعية لجبل عامل. المفتاح الاول هو التقسيم الرباعي للطبقات الى "زعماء" و"علماء" و"وجهاء" و"عامة" من الفلاحين (سأبحث الاخيرين معا). والمفتاح الثاني هو نظام ضريبة الارض والتغييرات التي طرأت على الاقتصاد الريفي بمختلف القوانين الخاصة بضريبة الارض و[باجراءات] تسوية الاراضي(23). والمرء قد يغريه احياناً ان يعتبر المفتاح الثاني هو العامل الحاسم لولا ان "العلماء" و"الوجهاء" هم ايضا من الطبقات القلقة ومناوئون للتغيير.
ومهما كان الحل لهذا اللغز الخاص بمفاتيح الفهم فسأحاول اولا تعريف هذه الطبقات. فالزعيم لهذه المرحلة (وربما ينبغي الرجوع الى ثمانينات القرن التاسع عشر) كان ينظر اليه باعتباره الملاّك الزراعي الذي يحتفظ بوعي منه ببعض صفات شيخ العشيرة. واولى هذه الصفات التي حددها جميع الذين حادثتهم هي وجود بيت يوفر المأكل والمسكن مجانا لكل من هب ودب، حتى ولو لم يكن الزعيم موجودا فيه لاستقبال ضيوفه. والزعيم يرجع نسبه بفخر الى عشيرة عربية صحراوية. وكان له حتى اواسط او اواخر القرن التاسع عشر سلطة الحياة والموت على سكان اقطاعه. وهو في العادة ملتزم الضريبة الوحيد في مناطق شاسعة، تعاونه شبكة من الوكلاء الاقطاعيين منتشرة في ارجاء الجبل. والزعيم يظهر وشيجة خاصة مع العامة من اتباعه. وفي مستهل القرن الحالي كانت العائلتان او العشيرتان اللتان تتوفر فيهما صفات الزعامة هما آل الاسعد وآل الفضل(24).
اما طبقة "العلماء" في هذه الفترة نفسها فهي اكثر تعقيدا لأنها احسن توثيقا بكثير. واسر العلماء تنتمي الى جميع الفئات في المجتمع فيما يختص بالمكانة الاجتماعية وروابط الزواج. ومما يعزز من هذه المكانة، وهي في اوجها، ان العلماء كانوا يمارسون قدرا كبيرا من السلطة القضائية الذاتية ضمن الامبراطورية العثمانية. وقد حكموا في عدد كبير جدا من القضايا المدنية لأن اغلبية المدعين الشيعة يفضلون الفصل في قضاياهم وفق المذهب الجعفري دون المذهب الحنفي التابع للدولة. ويقف في قمة الترتيب الهرمي للمراتب العلمية المجتهدون، ويندر ان يكون عددهم اكثر من اثنين او ثلاثة. يليهم العلماء والشيوخ من مختلف درجات العلم والمكانة الاجتماعية. والمنظومة مفتوحة لأن بامكان اي واحد من اي طبقة اجتماعية الانضمام الى طبقة العلماء والصعود الى القمة اذا كان ينعم بالاقتدار الفقهي. وينزع العلماء الى خلق سلالات (مثل أسر الامين، شرف الدين، شمس الدين وهكذا) لكن الدخلاء يجري التغاضي عنهم دائماً وكانت كليات النجف اعرض معاهد الشيعة العلمية صيتاً ولذا كان ينظر الى العالم النجفي، على الاقل حتى 1935 باحترام خاص. ولم يكن من غير المألوف بالنسبة للفلاحين الأميين ان يبيعوا اراضيهم وماشيتهم لكي يرسلوا ابناءهم الى النجف(25).
وكان علماء هذه الفترة المعنيين مباشرة بالقانون، يعتمدون لغرض تنفيذ احكامهم على السلطة التنفيذية لزعيم منطقتهم. لذا تنبثق مخالفات سياسية مفككة بين عالم او اكثر وبين زعيم معين، ولكن، وبقدر ما استطعت تبنيه، لم يستقطب في هذه الفترة اي عالم مجموعة من علماء آخرين لغرض عمل سياسي منظم على الاطلاق. ومن بين مئات المقالات المكتوبة في العرفان بقلم علماء من مواضيع شتى لا يوجد سوى مثل واحد لعالم طرح النظرية السياسية الشيعية عن "ولاية الفقيه" التي تقول بأن "العلماء" هم افضل من يقود المسلمين في غياب المهدي(26). اما بصدد النشاط السياسي فثمة تناقض ملموس بين علماء الشيعة العامليين والايرانيين. ففي اواخر العشرينات وفي الثلاثينات اتخذ علماء الجبل مواقف على طرفي الخط السياسي، لكن هذا الخط كان قد رسمه سلفاً آخرون. كان العلماء عبارة عن جماعة مفككة اكثر مما هم طبقة اقتصادية – اجتماعية محددة بوضوح.
كان العلماء يسيطرون كذلك على التعليم والوعظ بالاضافة الى الشرع. وهذه السيطرة موثقة كل التوثيق اعتباراً من القرن الرابع عشر. وقد افلح علماء جبل عامل في القرن السادس عشر، ثم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في تأسيس مركز مهم للفقه الشيعي (ومركز حيوي بقدر تعلق الامر بايران). ولم استخرج عينات من جملة الفكر الشيعي بالتوسع الذي كان يجدر بي، لكن انطباعي العام، من وجهة النظر المستندة الى مناهج التدريس، هو ان الاهتمام كان منصبا على العلوم الدنيوية بدرجة اكبر مما هو في مناهج التدريس السنية لتلك الفترة نفسها. ان اغلب المدارس اسسها العلماء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم تدم بعد وفاة مؤسسها الاصلي. لكنهم عوضوا عن الافتقار في الاستمرارية الزمانية والمكانية بتوزيع جغرافي في ارجاء الجبل. وعلى اي حال كان العالم في كل الاوقات اهم من مكان التعليم(27).
اما بشأن مصدر دخل العلماء فان قلة منهم فقط كانت تملك الاراضي في حين يعيش اغلبهم على الصدقات والمعونة الخيرية. وعلماء القرى الصغيرة يعيشون كليا على كرم القرويين الذين يزودونهم بالسكن والحاجيات الضرورية الاساسية ويقدمون لهم العطايا في مختلف المناسبات الاجتماعية والدينية. وكان الخمس، وهو ضريبة دينية قديمة، مساهمة طوعية كليا في هذه الفترة، ويدفع من ابناء الجماعة الاتقياء والاثرياء الى كبار العلماء من السادة من سلالة اهل البيت. ولم يكن الخميسي يدفع بانتظام كما كان مقداره خاضعا للمساومة. وفي اوقات الاستقطاب السياسي الشديد يجتذب زعيم جماعة من العلماء الى جانبه وذلك بدفعه رواتب سنوية منتظمة لهم. وكان جل علماء النجف والذين كانوا في مركز سيطرة حتى مستهل القرن الحالي، يميلون الى الوقوف سياسياً بجانب المجتهد الاكبر في النجف لأن اغلبهم كان يعيش ابان التلمذة على مكرمته(28). وعلى العموم فان طبقة العلماء كانت اقل الطبقات تأثيرا بالتغير الاقتصادي. لقد كان العلماء، ومن جميع النواحي العملية، يعيشون على الصدقة.
والمجموعة الثالثة هي مجموعة "الوجهاء" التي ظهرت اول ما ظهرت على الصعيد السياسي في جبل عامل في اواخر القرن التاسع عشر حينما انطلقت ثلاث او اربع اسر في صيدا وصور والنبطية وبنت جبيل فرفعت نفسها الى طبقة الزعماء وذلك باكتسابها لملكية الارض او لصيرورة افرادها من الملتزمين. ان صعود هذه المجموعة الصغيرة من تجار المدن الى طبقة الزعماء وثيق الصلة بتاريخ ضرائب الارض وتسوية الاراضي العثمانية، كما طبقت في جبل عامل. ثمة معلومات عن هذا الموضوع وعن هذه الفترة في العرفان وان كانت المعلومات الاكثر تفصيلاً لا يزال بالوسع الحصول عليها من مصادر شفوية(29). وهكذا فان ظهور مجموعة الزعماء المحدثين هذه كانت امارة من امارات التغييرات الاقتصادية المهمة والباقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(•) أقدم شكري بادئ ذي بدء لزميلي الدكتور مروان بحيري الذي كان أول من اقترح عليّ هذا الموضوع. اسجل كذلك خالص امتناني الى الذين زودوني بالمعلومات وهم صاحبا المعالي كاظم الخليل وعادل عسيران والسادة محمد قرة علي وموسى الزين شرارة. وآمل أن تكون الصورة التي رسمتها لجبل عامل قريبة من تلك التي في أذهانهم مع العلم أن جميع من ذكرت في حل من المسؤولية تجاه الآراء الواردة في هذا البحث. والدراسة مهداة لسماحة الإمام السيد موسى الصدر الذي أدين اليه باهتمامي بجبل عامل.
(2) أنظر: افتتاحيات "العرفان"، الاعداد 1، ص1-2 و8؛ 10، ص215؛ 14، ص1 وما بعدها؛ 17، ص281، و25، ص1 وما بعدها.
(3) أنظر خاصة مقالات الشيخ سليمان الزاهر ومحمد جابر آل صفا المتعددة في: "العرفان"، العدين 8، و27، ص460 وما بعدها على التوالي. أنظر ايضاً الجدال حول المثالية الشيعية في: "العرفان" العدد 24، ص813-841.
(4) أنظر خاصة: "العرفان"، العدد 17، ص504 والاحصاءات السكانية المهمة في: "العرفان"، العددين 26، ص595 و649، و27، ص3.
(5) ورد هذا في عرض محمد جابر المهم لكتاب أمين سعيد: الثورة العربية الكبرى في: "العرفان"، العدد 25، ص743 وما بعدها. وحول نشاط عبد الكريم الخليل في صيدا عام 1915 كما ذكرها المحرر، أنظر: "العرفان"، العدد 28، ص468.
(6) أنظر على سبيل المثال: العرفان، الاعداد 1، ص29؛ 15، ص606؛ 21، ص394؛ 25، ص769، و27، ص266-267. وقد ظهرت التحذيرات الاولى من الخطر الصهيوني في فلسطين عام 1910 في مقال عُرّب عن مجلة فرنسية في: العرفان، العدد 2، ص554.
(7) يقال ان كلمة "طائفية" بما تعنيه اليوم كانت "جديدة" عام 1931، أنظر: العرفان، العدد 2، ص17. وحول تعليق الملك حسين، أنظر: العرفان، العدد 2، ص631. وقد اعتبر الجدل مع اليسوعيين دفاعاً ثقافياً عن الاسلام ضد الهجمة اليسوعية التي ابتغت اعطاء التاريخ العربي الاسلامي، في بواكيره، صبغة شقاقية، أنظر: العرفان، العدد 28، ص78.
(8) مثلاً، سلسلة مقالات للشيخ سليمان الزاهر عن اسماء القرى في جبل عامل التي ظهرت، على نحو متقطع، اعتباراً من عام 1909 فصاعداً.
(9) يبدأ سجل الركيني في: العرفان، العدد 27، ص3.
(10) أنظر مثلاً؛ العرفان، الاعداد 7، ص317؛ 27، ص354، و28، ص52، 579 و769.
(11) أنظر: العرفان، الاعداد، ص350، 11، ص292؛ 12، ص4؛ 15، ص813، 17، ص401؛ 23، ص144-148؛ 26، ص619، و28، ص579.
(12) حول المرأة، أنظر: "العرفان"، الاعداد 1، ص82؛ 6، ص505؛ 11، ص262؛ 13، ص603؛ 14، ص4؛ 15، ص841، و19، ص322. حول الاشتراكية والبلشفية، ما لهما وما عليهما، أنظر: "العرفان"، الاعداد 6، ص95؛ 11، ص458؛ 15، ص622؛ 25، ص594، و28 ص12 وما بعدها. حول العلم والتكنولوجيا، أنظر: "العرفان"، العددين 1، ص46-57 و520، و17، ص307. حول اليابان، أنظر: "العرفان"، الاعداد، 1، ص291؛ 7، ص113، و17، ص121.
(13) حول منشأ العصبة، أنظر: العرفان، العدد 27، ص243. وقد أفادني السيد موسى الزين شرارة في مقابلة شخصية بتاريخ 23/5/1979 بمنشئها النجفي. حول الفجوة بين الاجيال، أنظر: العرفان، العدد 27، ص124.
(14) حول البيان، أنظر: العرفان، العدد 27، ص243.
(15) أنظر مثلاً: العرفان، العدد 27، ص20 و25 وقد ا كد السيد موسى الزين شرارة هذا الامر في المقابلة معه بتاريخ 23/5/79.
(16) حول هجوم شرارة، أنظر: العرفان، العدد 27، ص328.
(17) حول هذه المواضيع وما اليها، أنظر: العرفان، العدد 27، ص328 و397.
(18) أنظر مثلاً: العرفان، العدد 26، ص435-438. وقد اكد السيد موسى الزين شرارة هذا الامر.
(19) من المشايخ الذين تخلوا عن الزين الديني، الحوماني، حسين مروة، محمد شرارة، هاشم الأمين= صدر الدين شرف الدين وجعفر همدر (المقابلة مع السيد محمد قرة علي بتاريخ 24/5/1979 والسيد موسى الزين شرارة). الهجوم على الاجتهاد في: العرفان، العدد 28، ص72 وما بعدها. وعقيدة الاسلام "المفتوح" في: العرفان، العدد 28، ص165 وما بعدها.
(20) التأثير الادبي العربي - الاميركي، اشار اليّ به الدكتور وضاح شرارة (24/5/1979). وقد اكتسب المهاجرون أهمية اقتصادية وأدبية متزايدة في الثلاثينات، أنظر: العرفان، الاعداد 25، ص637؛ 28، ص1 وما بعدها، و29، ص599.
(21) ثمة الكثير من الشعر المناهض لرجال الدين في الاعداد 26؛ 27، و28 من العرفان. وقد قرأ لي السيد موسى الزين شرارة عدداً كبيراً من أبيات ذلك الشعر كما اطلعني على قصة العالم الغاضب.
(22) اخبرني الدكتور وضاح شرارة ان هناك 4 او 5 رسائل جامعية حول التاريخ الحديث لجبل عامل قدمت الى الجامعة اللبنانية في السنوات الاخيرة. ويشير الدكتور شرارة في: "النهار"، 25/5/1979، ص7، الى مقال لأحمد بيضون عن أحداث بنت جبيل عام 1936 نشر في "دراسات عربية" عام 1968.
(23) حول هذا التقسيم الاجتماعي، انظر: العرفان، العددين 25، ص637، و27، ص243. حول النظام الضريبي في جبل عامل في أواخر القرن التاسع عشر، أنظر: العرفان، العدد 27، ص385. هذا التقسيم الرباعي أكده كل من صاحبي المعالي عادل عسيران في مقابلة بتاريخ 22/5/1979 وكاظم الخليل في مقابلتين بتاريخ 24/5 و26/5/1979 والسادة محمد قرة علي وموسى الزين شرارة.
(24) المعلومات تفضل بها السادة محمد قره علي وموسى الزين شرارة.
(25) المعلومات حول العلماء تفضل بها صاحبا المعالي كاظم الخليل وعادل عسيران والسيد محمد قرة علي. حول كليات النجف الاشرف، أنظر: M.F. Jamali, "The Theological Colleges of Najaf", in: R. al-Droubie. ed, Arabic and Islamic Garland: The Tibawi Fesischrifi (London: The Islamic Cultural Centre, 1397/ 1397/1977), pp. 135-140.
(26) أنظر: العرفان، العدد 21، ص552.
(27) ثمة سلسلة مهمة من المقالات حول علماء ومدارس جبل عامل بقلم محمد جابر في: العرفان، الاعداد 27، ص460 وما بعدها؛ 27، ص630 وما بعدها، و28، ص22 وما بعدها و226 وما بعدها.
(28) المعلومات حول احوال العلماء المعيشية تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل والسيد محمد قرة علي.
(29) حول النظام الضريبي في الفترة العثمانية الاخيرة وآثاره الاجتماعية، أنظر: العرفان، العدد 27، ص385-390. والكثير من المعلومات المفصلة حول نظام الضريبة والوجهاء تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل.
حلقة أخيرة غداً
طريف الخالدي
( استاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت )
الأحد 08 شباط 2009 - السنة 76 - العدد 23606
الاثنين 09 شباط 2009 - السنة 76 - العدد 23607
(2009-1909) مجلة "العرفان" ومؤسّسها في الدائرتين الصغرى والكبرى [2]
الحلقة الثانية الاخيرة من دراسة الدكتور طريف الخالدي حول مجلة "العرفان":
وقد بقيت طبقة الوجهاء ككل تحتل الصدارة السياسية وتمتاز عن بقية السكان باعتبار افرادها من الوجهاء وذلك عقب قانون الاراضي العثماني لسنة 1858. ولم يوضع هذا القانون موضع التنفيذ مباشرة بل جرى سريانه تدريجيا في مختلف مناطق الامبراطورية بمختلف الاوقات. وبدأ تأثيره بالظهور في جبل عامل في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ان تسوية الاراضي، على بدائيتها وعدم دقتها، قد نظمت ضرائب الارض وجعلت من جبل عامل، الى جانب ذلك، وحدة اقتصادية اكثر رشادا فغدت الزراعة اجزى دخلاً من ذي قبل. واخيرا، خلق قانون الضريبة وتسوية الاراضي جيشا صغيرا من الموظفين الماليين والقضائيين كان اغلبهم على درجة كبيرة من ضعف المرتب بحيث انهم سرعان ما توصلوا الى تفاهم مع وجهاء المدن فأخذ النظام الضريبي يعمل لمنفعة الطرفين معا. وامسى الوجهاء انفسهم من موظفي الدولة في كثير من الحالات. وفي هذه الطبقة من الوجهاء وجدت في صور تسعينات القرن الماضي جمعية واحدة على الاقل في الجمعيات الادبية والسياسية الجنينية التي هويت الاشتغال بأمور من المعروف جيداً انها محرمة من قبل الدولة العثمانية(30).
ان مناقشتي تقتصر حتى الآن على القول ان الوجهاء هم في الاصل مجموعة من تجار الحبوب في جبل عامل في الفترة من اواسط الى اواخر القرن التاسع عشر، استغل عدد صغير منها القوانين العثمانية الجديدة لشق طريقهم الى طبقة الزعماء المجزية والاعرض صيتاً، وذلك عن طريق صيرورتهم ملاكين للارض وملتزمين للضرائب وموظفين في الدولة. وابرز ثلاث عوائل امكنها تحقيق شق طريقها هي آل عسيران وآل الخليل وآل الزين. فبمستهل القرن دخل كل هؤلاء الثلاثة، بطريقة او بأخرى، في طبقة الزعماء. وفي هذه الاثناء لم يبق من طبقة الزعماء العشائرية القديمة سوى عشيرة الاسعد. وبذا اقتسمت هذه الاسر الاربع فيما بينها عمليا التزام الضرائب والكثير من السلطة السياسية في جبل عامل. اما القوى المحركة لعلاقاتها المتشابكة فهي موضوع معقد. والمنازعات بينها غالبا ما كانت منازعات بشأن الحاجة التي تمليها الحدود الاقليمية: حدود التزامهم للضرائب وقد زودهم استخدامهم الموفق لنظام الضريبة كما زودهم سلطانهم على موظفي الدولة الماليين بثقة بالنفس وبشعور بالاستقلال تمخض عنهما اعتناق نوع أو آخر من انواع القومية. واختار الزعماء على العموم من بين القوميتين المتوفرتين وهما الاسلامية والعربية/ السورية، فاختاروا الثانية. وان احد الاسباب التي مكنت الشيخ احمد عارف الزين من اصدار العرفان لذلك الامد الطويل هو تمتعه بالدعم السياسي الثابت لأسرة الزين، والتي لم تفرض عليه، مع ذلك مذهبا صارما بعينه.
وحين اندلعت الحرب العالمية الاولى كان قد مر على قوانين الارض العثمانية الجديدة في جبل عامل نحو ثلاثين او اربعين سنة. ومع تقدم الحرب كان من الواضح ان جبل عامل اخذ بالرخاء. وقد عاد تولي العسكريين للادارة على الملتزمين والفلاحين بأرباح طائلة. وبنيت شبكة من مستودعات الجيش التي كانت تصرّف، في كل يوم، كميات هائلة من الحبوب.
واخذ الجيش العثماني والدولة يطلبان الآن ضرائب الارض عيناً بدلا من طلبها نقدا من الملتزمين كما في الفترة السابقة. فكان المخمنون المكلفون بهذا الواجب يصلون بسرعة الى اتفاق مع الملتزمين يتم بموجبه تخمين حاصل الارض في جبل عامل بأقل من حقيقته وتكون النتيجة زيادة نصيب الفلاحين والملتزمين والمخمنين جميعاً من حصتهم المقررة من وارد الضريبة على حساب الدولة العسكرية والادارة(31). ومن هنا فان قلاقل جبل عامل في اوائل العشرينات وفي الثلاثينات مثل كلاسيكي للانتفاضات التي تحدث لأن الامور كانت تتحسن ثم تتوقف بغتة.
كان الانتداب الفرنسي في جبل عامل مثيرا للحنق بشكل خاص لأنه انهى فجأة ازمان الحرب "السعيدة" واعاد نظام الضريبة العثماني لما قبل الحرب، وهي حالة استمرت نحو 12 سنة الى ان اجرى الفرنسيون اولاً تسوية الاراضي في اوائل الثلاثينات ثم الغوا بعدئذ جميع ضرائب الارض. وقد أحكم الانتداب الفرنسي في العشرينات قبضته الاقتصادية على لبنان الكبير واقتطع لحسابه مبالغ طائلة من الذهب من سوريا، او قيل انه فعل ذلك، لربط العملية السورية بالفرنك الفرنسي المتأرجح.
وتفاقم على صفحات العرفان جدل اقتصادي عنيف مثير للاهتمام. وتغدو مناهضة الطائفية مسألة من المسائل حينما ادرك كثيرون ان وحدة العمل الاقتصادي ضد الانتداب هي هدف جدير بالاعتبار(32). واصبحت بيروت عاصمة مزدهرة على عجل، فتبدو وكأنها بابل العصرية لمحرر العرفان المنذهل. والجبل تفرض عليه الضرائب الباهظة ويجري تجاهله باطراد من قبل الفرنسيين. وتعكس افتتاحيات العرفان في العشرينات بين حين وحين خيبة الأمل العميقة في الانتداب، فيبرز منها الرأي القائل بأن الانتداب ليس افضل من الحقبة العثمانية بل ربما كان اسوأ منها بكثير.
انطلق العنف في جبل عامل على مرحلتين رئيسيتين. المرحلة الاولى هي تمرد ادهم خنجر وصادق حمزة، والثانية هي حادث سنة 1936 في بنت جبيل. في الحالة الاولى كان التمرد عبارة عن تمرد فلاحي عفوي تصادف مع فجاءة التغييرات الضريبية. وفي الثانية كان الامر هو ان ادارة انحصار التبغ التابعة للدولة فرضت اجراءات اقتصادية قاسية انتقاما من الزعماء الراديكاليين والوجهاء الجدد الذين يقودون مزارعي التبغ المتذمرين. وبذا تكون طبقة الفلاحين متورطة مباشرة في الازمتين السياسيتين الكبريين لجبل عامل خلال الانتداب الفرنسي.(33)
-5-
لم تستطع العرفان تسجيل هذين الحدثين بالدرجة نفسها من الحرية التي سجلت بها الحقبة العثمانية الطويلة. فالمجلة، شأنها شأن طبقة العلماء التي ينتسب اليها المحرّر، حملت عن الامور نظرة اخلاقية متشددة، وكانت بمعزل عن السياسة اليومية، وان لم تكن منفصلة عن الموضوعات السياسية النظرية. وكان الانفصال السياسي انعكاساً لسياسة الحذر التي تنهمك بها طبقة العلماء. فعلماء جبل عامل ينحدرون من "لا وعي جماعي" علمهم الوقوف على مسافة امينة من الامبراطوريات كما علمهم معاملتها بحذر. والشيخ احمد عارف الزين قد اوجد مجلة حصيفة سياسية في روحيتها والتي تتيح لنا ان نلاحظ كيف رأى العلماء بخاصة دنيا جبل عامل. والمدارس المؤسسة في اواخر القرن التاسع عشر علمت العامليين تفهما ادق من الناحيتين التاريخية واللغوية للنصوص الاسلامية الشيعية. وغرست هذه المدارس في طبقة الوجهاء خاصة تفهما اكثر تهذيبا للتحول السياسي والاقتصادي. وكان العلماء، حتى قبل ان يصطرع الزعماء القدامى والجدد مع العثمانيين والفرنسيين، كانوا مندفعين وحدهم ضد الهيمنة الفكرية للنجف. مع هذا، ومع ان العلماء كانوا هم اوائل حَمَلة التغيير العقائدي في هذه الفترة فانهم كانوا آخر المجموعات الاربع في انضمامها للكفاح السياسي، عقب اضطرابات 1936.
ان العرفان، مجلة "العلماء" تعطينا نظرة شاملة وهادئة عن هذه التحولات التاريخية. ان نهضة جبل عامل كما تعكسها المجلة موضوع جدير بالتقويم الشامل. وينبغي القيام بذلك عاجلاً، حين يكون لا يزال بوسع الباحث مقابلة الاحياء من ذلك الجيل الفائت.
الهوامش
(30) حول هذه الجمعيات الادبية والسياسية "الجنين"، أنظر: العرفان، العدد 24، ص704 وما بعدها. والفترة موضوع البحث هي تسعينات القرن الماضي.
(31) الكثير من المعلومات حول اقتصاد جبل عامل خلال الحرب الكبرى تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل.
(32) أنظر مثلاً: العرفان، الاعداد 9، مواضع متفرقة؛ 14، ص361، و25، ص776. حول خروج الذهب من سوريا، أنظر: العرفان، العدد 16، ص1 وما بعدها.
(33) المعلومات حول هاتين الانتفاضتين تفضل بها صاحبا المعالي عادل عسيران وكاظم الخليل والسيد موسى الزين شرارة.
طريف الخالدي
(استاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت)
.........................................................................................................................................................................................
الخميس، 5 مارس 2009
عن السلفية والجهاد و"القاعدة
عن السلفية والجهاد و"القاعدة"(1)
مقالة من 3 حلقات نشرت ابان أحداث نهر البارد في ايار 2007سعود المولى
خلال الأيام الماضية، ومنذ قيام عصابة "فتح الإسلام" الإرهابية بالاعتداء الغادر والجبان على الجيش والسلم الأهلي في لبنان، قامت وسائل الإعلام المرتبطة بالمشروع السياسي للمعارضة بحملة تضليل وتعمية إيديولوجية فاقعة تبارى فيها عدد من الموظفين في أحزاب المعارضة تحت عنوان أنهم من "المتخصصين" في الحركات الإسلامية والأصولية والسلفية والجهادية (.. الى آخر ما هنالك من تسميات) وكل ذلك لإظهار أن ما يسمى "فتح الإسلام" هي تنظيم أصولي إسلامي جهادي مرتبط بـ"القاعدة" وبالسلفية الجهادية وينتسب الى الوهابية والسعودية.. واستخدم هؤلاء الجهابذة كل ما في جعبتهم من أكاذيب وأضاليل لحجب الحقيقة وتعمية الرأي العام وإثارة البلبلة والحيرة والضياع.. الأمر الذي يُسهّل تمرير مخطط إحداث الخروق الأمنية الخطيرة لضرب الاستقرار قبيل موسم الصيف وللتهديد بتفجير لبنان في حال إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن.
1 ـ السلفية: نسبة الى السلف، هي دعوة الى الاقتداء بالسلف الصالح أي أهل القرون الأولى من عمر الأمة الإسلامية ترجمة للحديث المشهور عن الرسول (ص): "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته".
وبهذا المعنى العام، أي معنى الاقتداء بصحابة الرسول وأهل بيته، وبالمسلمين الأوائل، فإن جميع المسلمين هم سلفيون طالما ساروا على سنّة الرسول واهتدوا بهديه.. أما بالمعنى السياسي الحديث فقد اختصت تسمية السلفية بفئات محددة دعت الى العودة الى النصوص الشرعية وسيرة السلف الصالح في كل أمور حياتنا. وبداية استخدام المصطلح لعلها كانت عرضاً خلال المجادلات الكلامية التي دارت بين الحنابلة والمالكية من جهة والمعتزلة من جهة أخرى، في مسألة خلق القرآن والقول بنفي الصفات عن الذات الإلهية ومسألة القضاء والقدر في أفعال الإنسان.. وذلك في القرن الثالث للهجرة. والحال أن الإمام أحمد ابن حنبل هو أول من استخدام كلمة سلف حين دافع عن موقفه بعدم خلق القرآن قائلاً: "رُويَ عن غير واحد من سلفنا أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.. وهو الذي أذهب إليه". واستخدمها شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية في القرن السابع ـ الثامن للهجرة حين وضع "علماء المسلمين من السلف" في مقابل الفلاسفة وعلماء الكلام... ثم استعادها الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر ميلادي) حين وصف مذهبه بأنه "مذهب السلف الصالح" في مواجهة مذهب الأحناف والطرق الصوفية المعتمد في الدولة العثمانية.
فالخلاصة أن ما يسمى بالسلفية هو اتجاه "أهل الحديث" في مقابل "أهل العقل والرأي" في مسألة فهم النص القرآني والحديث بعد وفاة الرسول (ص) حيث يرى السلفيون أن صحابة الرسول (السلف الصالح) هم أولى الناس بتأويل النص وتفسيره وأن علينا الرجوع إليهم في ذلك.
ويُقابل هذا الاتجاه عند الشيعة الإمامية: "الإخباريون" الذين قالوا بأخذ الحديث عن أئمة أهل البيت وبأن الحديث المأخوذ عن الأئمة يكفي لمواجهة كل أمور الدنيا والدين. وقد واجهوا الاتجاه المعروف "بالأصولي" (نسبة الى علم وأصول الفقه) ورفضوا الاجتهاد كما رفضوا المرجعية والتقليد وقالوا لا نأخذ إلا بالأخبار الواردة عن الأئمة في تأويل النصوص وشرح الأمور.
وإذا كان ابن حنبل وابن تيمية هما أبرز أعلام المذهب السلفي، فإن الطحاوي (القرن الرابع الهجري) والبيهقي (القرن الخامس) وابن القيم الجوزية (القرن الثامن)، وصولاً الى الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر للهجرة، قد أرسوا دعائم هذا المذهب وقواعده.. والتي يمكن إيجازها في العناوين الآتية:
أ ـ التنزيه في التوحيد ونفي التشبيه.
ب ـ رد الخلق والأفعال الى تقدير الله وعلمه ومشيئته وقدره.
ج ـ تقديم الشرع على العقل، والتسليم بنصوص القرآن والسنة وتفسيرها بلا تأويل ولا هوى.. وذم الكلام والفلسفة.
د ـ إثبات أمور كالإسراء والمعراج بالشخص، واللوح والقلم والعرش والكرسي وعذاب القبر والصراط والميزان وأشراط الساعة.. إلخ.
هـ ـ إثبات الإيمان والإسلام لأهل القبلة فلا يُكفّر أحد منهم بذنب ما لم يستحله.
و ـ البراءة من أهل البدع والأهواء مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية والشيعة وغيرهم ممن "خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة".
ز ـ رفض الخروج على السلطة أو السلطان "لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعة، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجلّ فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، ونتبع السنة والجماعة، ونتجنّب الشذوذ والخلاف والفرقة".
ح ـ حب السلف من الصحابة والإيمان بعدالة الجميع، وعدم التبرؤ من أحد منهم، والخلافة للخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، على الترتيب.
2 ـ السلفية المعاصرة
في مطلع القرن الثامن عشر ميلادي ابتدأ الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1703 ـ 1791) دعوة إصلاحية إحيائية سلفية انطلقت من نجد في شبه الجزيرة العربية وامتدت الى بقاع أخرى مثل الهند (ولي الدين الدهلوي) واليمن (محمد بن علي الشوكاني) والعراق (شهاب الدين محمود الألوسي) وافريقيا (عثمان دان فودي).. وكانت الوهابية تدعو الى التمسك بظاهر النص، كوسيلة للحفاظ على الهوية الإسلامية، وعلى محاربة الطرق الصوفية من أجل الرجوع الى نقاوة التوحيد. وبرزت الوهابية بقوة بسبب تحالفها مع آل سعود ومحاربتها للدولة العثمانية..
أما في المشرق العربي فقد قاد الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا حركة سلفية إصلاحية نهضوية تدعو الى "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه الى ينابيعه الأولى" (محمد عبده 1849 ـ 1905). وقالت بأن "معرفة الإسلام الصحيح تستمد من القرآن والحديث وفهم الصحابة والسلف الصالح" (محمد رشيد رضا 1865 ـ 1935). وبتأثير من السيد جمال الدين الأفغاني (1838 ـ 1897) اقترنت السلفية النهضوية الإصلاحية بعملية البحث عن أسباب تأخر المسلمين (شكيب أرسلان 1869 ـ 1946) وبمواجهة التحدي الغربي عبر إصلاح الواقع الإسلامي المتخلّف.
وكانت سلفية الأفغاني ثورية وفلسفية في آن، تدعو الى الإصلاح وإلى نزعة عقلانية طوّرها لاحقاً تلميذه محمد عبده. أما رشيد رضا فقد انحاز في آخر حياته الى السلفية الوهابية. وعلى مقلب آخر، وبسبب الهجمة الاستعمارية الكبيرة في القرن التاسع عشر والهادفة الى احتلال بلاد المسلمين وضرب الدولة العثمانية، تطوّرت حركات سلفية من طبيعة مختلفة عن الحركة الوهابية. وكان محور عمل هذه الحركات مقاومة الاستعمار والدفاع عن الوطن وإحياء مفاهيم الجهاد والخلافة.. كما نرى ذلك في الحركات المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا وحركات الشيخ أبو شعيب الدوكالي ومحمد بن العربي العلوي في المغرب.. وقد اختلفت جميع هذه الحركات عن الوهابية في أنها لم تعادِ الحركات الصوفية بل جاءت من قلبها، وفي أنها سعت بوضوح الى السلطة وتعاطت الشأن السياسي، في حين أن الوهابية أعطت آل سعود امتياز واحتكار السياسة والسلطة. وبين اتجاه السلفية النهضوية الإصلاحية واتجاه السلفية المقاومة الوطنية، يمكن إدراج المفكرين الوسطيين الذين حملوا معالم الاتجاهين، خصوصاً لجهة إحياء الدعوة الوطنية والإصلاحية وقضايا النهضة ومقاومة الاستعمار.. ومن هؤلاء نذكر شكيب أرسلان، وعلال الفاسي (1910 ـ 1974) وعبدالرحمن الكواكبي (1848 ـ 1902) وعبدالحميد ابن باديس (1889 ـ 1940) ومحمد إقبال الباكستاني وغيرهم.. يقول علال الفاسي في ذلك: "إن امتزاج الدعوة السلفية بالدعوة الوطنية كان ذا فائدة مزدوجة في المغرب الأقصى على السلفية وعلى الوطنية معاً، ومن الحق أن نؤكد أن المنهج الذي اتبع في المغرب أدى الى نجاح السلفية بدرجة لم تحصل عليها حتى في بلاد محمد عبده وجمال الدين"..
سلفية الحركة الإسلامية الحديثة
مع الإمام الشهيد حسن البنا (1906 ـ 1948) تأسست جماعة الاخوان المسلمين كحركة إحياء إسلامية ذات فعالية حركية تغييرية عبر طرق الدعوة والإصلاح.. يقول الشهيد البنا: "وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك أن الاخوان المسلمين دعوة سلفية لأنهم يدعون الى العودة بالإسلام الى معينه الصافي: كتاب الله وسنة رسوله" و"اننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنّة في شمالنا، وعمل السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قدوتنا".. ولم تكن حركة الاخوان المسلمين متشدّدة في الأمور العقائدية إذ أنها ركّزت على المسألة السياسية بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال وتقسيم العالم الإسلامي، فدعت الى إقامة الدولة الإسلامية، أو تطبيق الشريعة، وان الإسلام دين ودولة، وإقامة تنظيم حركي يجسّد هذه الأهداف. ومن هنا كون سلفيتها سياسية حركية وإصلاحية تغييرية، وتدرجية تربوية، ودعوية ومؤسسية تطوعية.. إلخ..
وإلى هذا الاتجاه المعتدل الوسطي ينتمي راشد الغنوشي وحركة النهضة في تونس، وحسن الترابي في السودان، والجماعة الإسلامية في باكستان (وفي لبنان) وكافة فروع الاخوان المسلمين في سوريا والعراق والأردن، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وفي تركيا. ويقدم راشد الغنوشي تفسيراً لمعنى السلفية الحركية الإصلاحية بقوله: "إنها تعني رفض التقليد المذهبي الفقهي والعقائدي، والعودة في كل ذلك الى الأصل: الكتاب والسنّة وتجربة الخلفاء والأصحاب والتابعين، ومحاربة الوسائط بين الخالق والمخلوق، وأولوية النص على العقل..". و"السلفية تعني أولاً التحري في معرفة حكم الله في الكتاب والسنّة قدر المستطاع، وثانياً عدم التعصّب للمذهب.. ويلحق بالمعنى السلفي إبعاد الخلاف وتوحيد الصفوف"...
هذه السلفيات المعاصرة: سلفية محمد بن عبدالوهاب (الوهابيون) وسلفية أهل الحديث عموماً (المحدّث ناصر الدين الألباني في دمشق، والعلاّمة المجاهد الكبير زهير الشاويش في بيروت)، وسلفية الحركات الوطنية (شكيب أرسلان وعلال الفاسي ومحمد إقبال) وسلفية الاخوان المسلمين، تنتمي كلها الى إطار الإصلاح والتغيير بالتي هي أحسن والسير على هدي الكتاب والسنّة والتعامل بالموعظة والدعوة وبالتربية والقدوة.
مقالة من 3 حلقات نشرت ابان أحداث نهر البارد في ايار 2007سعود المولى
خلال الأيام الماضية، ومنذ قيام عصابة "فتح الإسلام" الإرهابية بالاعتداء الغادر والجبان على الجيش والسلم الأهلي في لبنان، قامت وسائل الإعلام المرتبطة بالمشروع السياسي للمعارضة بحملة تضليل وتعمية إيديولوجية فاقعة تبارى فيها عدد من الموظفين في أحزاب المعارضة تحت عنوان أنهم من "المتخصصين" في الحركات الإسلامية والأصولية والسلفية والجهادية (.. الى آخر ما هنالك من تسميات) وكل ذلك لإظهار أن ما يسمى "فتح الإسلام" هي تنظيم أصولي إسلامي جهادي مرتبط بـ"القاعدة" وبالسلفية الجهادية وينتسب الى الوهابية والسعودية.. واستخدم هؤلاء الجهابذة كل ما في جعبتهم من أكاذيب وأضاليل لحجب الحقيقة وتعمية الرأي العام وإثارة البلبلة والحيرة والضياع.. الأمر الذي يُسهّل تمرير مخطط إحداث الخروق الأمنية الخطيرة لضرب الاستقرار قبيل موسم الصيف وللتهديد بتفجير لبنان في حال إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن.
1 ـ السلفية: نسبة الى السلف، هي دعوة الى الاقتداء بالسلف الصالح أي أهل القرون الأولى من عمر الأمة الإسلامية ترجمة للحديث المشهور عن الرسول (ص): "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته".
وبهذا المعنى العام، أي معنى الاقتداء بصحابة الرسول وأهل بيته، وبالمسلمين الأوائل، فإن جميع المسلمين هم سلفيون طالما ساروا على سنّة الرسول واهتدوا بهديه.. أما بالمعنى السياسي الحديث فقد اختصت تسمية السلفية بفئات محددة دعت الى العودة الى النصوص الشرعية وسيرة السلف الصالح في كل أمور حياتنا. وبداية استخدام المصطلح لعلها كانت عرضاً خلال المجادلات الكلامية التي دارت بين الحنابلة والمالكية من جهة والمعتزلة من جهة أخرى، في مسألة خلق القرآن والقول بنفي الصفات عن الذات الإلهية ومسألة القضاء والقدر في أفعال الإنسان.. وذلك في القرن الثالث للهجرة. والحال أن الإمام أحمد ابن حنبل هو أول من استخدام كلمة سلف حين دافع عن موقفه بعدم خلق القرآن قائلاً: "رُويَ عن غير واحد من سلفنا أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.. وهو الذي أذهب إليه". واستخدمها شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية في القرن السابع ـ الثامن للهجرة حين وضع "علماء المسلمين من السلف" في مقابل الفلاسفة وعلماء الكلام... ثم استعادها الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر ميلادي) حين وصف مذهبه بأنه "مذهب السلف الصالح" في مواجهة مذهب الأحناف والطرق الصوفية المعتمد في الدولة العثمانية.
فالخلاصة أن ما يسمى بالسلفية هو اتجاه "أهل الحديث" في مقابل "أهل العقل والرأي" في مسألة فهم النص القرآني والحديث بعد وفاة الرسول (ص) حيث يرى السلفيون أن صحابة الرسول (السلف الصالح) هم أولى الناس بتأويل النص وتفسيره وأن علينا الرجوع إليهم في ذلك.
ويُقابل هذا الاتجاه عند الشيعة الإمامية: "الإخباريون" الذين قالوا بأخذ الحديث عن أئمة أهل البيت وبأن الحديث المأخوذ عن الأئمة يكفي لمواجهة كل أمور الدنيا والدين. وقد واجهوا الاتجاه المعروف "بالأصولي" (نسبة الى علم وأصول الفقه) ورفضوا الاجتهاد كما رفضوا المرجعية والتقليد وقالوا لا نأخذ إلا بالأخبار الواردة عن الأئمة في تأويل النصوص وشرح الأمور.
وإذا كان ابن حنبل وابن تيمية هما أبرز أعلام المذهب السلفي، فإن الطحاوي (القرن الرابع الهجري) والبيهقي (القرن الخامس) وابن القيم الجوزية (القرن الثامن)، وصولاً الى الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر للهجرة، قد أرسوا دعائم هذا المذهب وقواعده.. والتي يمكن إيجازها في العناوين الآتية:
أ ـ التنزيه في التوحيد ونفي التشبيه.
ب ـ رد الخلق والأفعال الى تقدير الله وعلمه ومشيئته وقدره.
ج ـ تقديم الشرع على العقل، والتسليم بنصوص القرآن والسنة وتفسيرها بلا تأويل ولا هوى.. وذم الكلام والفلسفة.
د ـ إثبات أمور كالإسراء والمعراج بالشخص، واللوح والقلم والعرش والكرسي وعذاب القبر والصراط والميزان وأشراط الساعة.. إلخ.
هـ ـ إثبات الإيمان والإسلام لأهل القبلة فلا يُكفّر أحد منهم بذنب ما لم يستحله.
و ـ البراءة من أهل البدع والأهواء مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية والشيعة وغيرهم ممن "خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة".
ز ـ رفض الخروج على السلطة أو السلطان "لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعة، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجلّ فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، ونتبع السنة والجماعة، ونتجنّب الشذوذ والخلاف والفرقة".
ح ـ حب السلف من الصحابة والإيمان بعدالة الجميع، وعدم التبرؤ من أحد منهم، والخلافة للخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، على الترتيب.
2 ـ السلفية المعاصرة
في مطلع القرن الثامن عشر ميلادي ابتدأ الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1703 ـ 1791) دعوة إصلاحية إحيائية سلفية انطلقت من نجد في شبه الجزيرة العربية وامتدت الى بقاع أخرى مثل الهند (ولي الدين الدهلوي) واليمن (محمد بن علي الشوكاني) والعراق (شهاب الدين محمود الألوسي) وافريقيا (عثمان دان فودي).. وكانت الوهابية تدعو الى التمسك بظاهر النص، كوسيلة للحفاظ على الهوية الإسلامية، وعلى محاربة الطرق الصوفية من أجل الرجوع الى نقاوة التوحيد. وبرزت الوهابية بقوة بسبب تحالفها مع آل سعود ومحاربتها للدولة العثمانية..
أما في المشرق العربي فقد قاد الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا حركة سلفية إصلاحية نهضوية تدعو الى "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه الى ينابيعه الأولى" (محمد عبده 1849 ـ 1905). وقالت بأن "معرفة الإسلام الصحيح تستمد من القرآن والحديث وفهم الصحابة والسلف الصالح" (محمد رشيد رضا 1865 ـ 1935). وبتأثير من السيد جمال الدين الأفغاني (1838 ـ 1897) اقترنت السلفية النهضوية الإصلاحية بعملية البحث عن أسباب تأخر المسلمين (شكيب أرسلان 1869 ـ 1946) وبمواجهة التحدي الغربي عبر إصلاح الواقع الإسلامي المتخلّف.
وكانت سلفية الأفغاني ثورية وفلسفية في آن، تدعو الى الإصلاح وإلى نزعة عقلانية طوّرها لاحقاً تلميذه محمد عبده. أما رشيد رضا فقد انحاز في آخر حياته الى السلفية الوهابية. وعلى مقلب آخر، وبسبب الهجمة الاستعمارية الكبيرة في القرن التاسع عشر والهادفة الى احتلال بلاد المسلمين وضرب الدولة العثمانية، تطوّرت حركات سلفية من طبيعة مختلفة عن الحركة الوهابية. وكان محور عمل هذه الحركات مقاومة الاستعمار والدفاع عن الوطن وإحياء مفاهيم الجهاد والخلافة.. كما نرى ذلك في الحركات المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا وحركات الشيخ أبو شعيب الدوكالي ومحمد بن العربي العلوي في المغرب.. وقد اختلفت جميع هذه الحركات عن الوهابية في أنها لم تعادِ الحركات الصوفية بل جاءت من قلبها، وفي أنها سعت بوضوح الى السلطة وتعاطت الشأن السياسي، في حين أن الوهابية أعطت آل سعود امتياز واحتكار السياسة والسلطة. وبين اتجاه السلفية النهضوية الإصلاحية واتجاه السلفية المقاومة الوطنية، يمكن إدراج المفكرين الوسطيين الذين حملوا معالم الاتجاهين، خصوصاً لجهة إحياء الدعوة الوطنية والإصلاحية وقضايا النهضة ومقاومة الاستعمار.. ومن هؤلاء نذكر شكيب أرسلان، وعلال الفاسي (1910 ـ 1974) وعبدالرحمن الكواكبي (1848 ـ 1902) وعبدالحميد ابن باديس (1889 ـ 1940) ومحمد إقبال الباكستاني وغيرهم.. يقول علال الفاسي في ذلك: "إن امتزاج الدعوة السلفية بالدعوة الوطنية كان ذا فائدة مزدوجة في المغرب الأقصى على السلفية وعلى الوطنية معاً، ومن الحق أن نؤكد أن المنهج الذي اتبع في المغرب أدى الى نجاح السلفية بدرجة لم تحصل عليها حتى في بلاد محمد عبده وجمال الدين"..
سلفية الحركة الإسلامية الحديثة
مع الإمام الشهيد حسن البنا (1906 ـ 1948) تأسست جماعة الاخوان المسلمين كحركة إحياء إسلامية ذات فعالية حركية تغييرية عبر طرق الدعوة والإصلاح.. يقول الشهيد البنا: "وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك أن الاخوان المسلمين دعوة سلفية لأنهم يدعون الى العودة بالإسلام الى معينه الصافي: كتاب الله وسنة رسوله" و"اننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنّة في شمالنا، وعمل السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قدوتنا".. ولم تكن حركة الاخوان المسلمين متشدّدة في الأمور العقائدية إذ أنها ركّزت على المسألة السياسية بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال وتقسيم العالم الإسلامي، فدعت الى إقامة الدولة الإسلامية، أو تطبيق الشريعة، وان الإسلام دين ودولة، وإقامة تنظيم حركي يجسّد هذه الأهداف. ومن هنا كون سلفيتها سياسية حركية وإصلاحية تغييرية، وتدرجية تربوية، ودعوية ومؤسسية تطوعية.. إلخ..
وإلى هذا الاتجاه المعتدل الوسطي ينتمي راشد الغنوشي وحركة النهضة في تونس، وحسن الترابي في السودان، والجماعة الإسلامية في باكستان (وفي لبنان) وكافة فروع الاخوان المسلمين في سوريا والعراق والأردن، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وفي تركيا. ويقدم راشد الغنوشي تفسيراً لمعنى السلفية الحركية الإصلاحية بقوله: "إنها تعني رفض التقليد المذهبي الفقهي والعقائدي، والعودة في كل ذلك الى الأصل: الكتاب والسنّة وتجربة الخلفاء والأصحاب والتابعين، ومحاربة الوسائط بين الخالق والمخلوق، وأولوية النص على العقل..". و"السلفية تعني أولاً التحري في معرفة حكم الله في الكتاب والسنّة قدر المستطاع، وثانياً عدم التعصّب للمذهب.. ويلحق بالمعنى السلفي إبعاد الخلاف وتوحيد الصفوف"...
هذه السلفيات المعاصرة: سلفية محمد بن عبدالوهاب (الوهابيون) وسلفية أهل الحديث عموماً (المحدّث ناصر الدين الألباني في دمشق، والعلاّمة المجاهد الكبير زهير الشاويش في بيروت)، وسلفية الحركات الوطنية (شكيب أرسلان وعلال الفاسي ومحمد إقبال) وسلفية الاخوان المسلمين، تنتمي كلها الى إطار الإصلاح والتغيير بالتي هي أحسن والسير على هدي الكتاب والسنّة والتعامل بالموعظة والدعوة وبالتربية والقدوة.
عن السينودوس والارشاد الرسولي مرة جديدة.. لعل الذكرى تنفع...
الدكتور سعود المولى
مداخلة في الندوة التي أقامتها جامعة اللويزة ،30 كانون الثاني 2004،نحت عنوان الشأن الوطني في الارشاد الرسولي
الارشاد الرسولي هو الوثيقة البابوية التي صدرت بنتيجة اختتام سينودوس الاساقفة الكاثوليك الخاص من أجل لبنان. وقد أذاع البابا يوحنا بولس الثاني هذا الارشاد إبان زيارته التاريخية الى لبنان (10- 11 أيار 1997). وهذه الوثيقة هي خلاصة أمينة ودقيقة وترجمة ختامية لمسيرة السينودوس التي ابتدأت مع نداء البابا المتلفز يوم 12 حزيران 1991، ولم تتوقف الى اليوم، وكانت أبرز محطاتها السينودوس نفسه في حاضرة الفاتيكان(تشرين الثاني-كانون الاول 1995) والنداء الأخير الذي صدر عنه(في منتصف كانون الاول 1995) وأثار عاصفة من ردود الفعل المتجنية.. ومعنى السينودوس او مجمع الاساقفة هو "السير معا". وقد شكّل أساقفة الكنيسة المارونية والرؤساء العامون والرئيسات العامات بإشراف البطريرك صفير، "اللجنة البطريركية الخاصة بتطبيق الارشاد"، وذلك لتطبيق نداء جمعية السينودوس (المعروف باسم النداء الاخير). ثم فور تسليم قداسة البابا الارشاد الرسولي (وعنوانه: رجاء جديد للبنان) كلفت اللجنة تطبيق الارشاد. وهذه اللجنة تضم المطارنة رولان ابو جودة (رئيساً)، يوسف بشارة، بشارة الراعي، غي بولس نجيم، بولس مطر، ومنجد الهاشم، والأباتي أثناسيوس جلخ. والأخت جوديت هارون. وقد وزّعت اللجنة تطبيق الارشاد على خمس مراحل سنوية تتناول كل منها قسما من الارشاد المذكور وهي على التوالي: التجدد على صعيد الاشخاص (1999)، التجدد على صعيد الهيكليات (2000)، الشأن الاجتماعي (2002)، الشأن الوطني (2003). وكان لكل واحدة من هذه المراحل برامجها الخاصة ونشاطاتها وهي اختتمت بالحلقة الدراسية التي عقدتها اللجنة في جامعة سيدة اللويزة (يوم الجمعة 30 كانون الثاني 2004) وحضرها رئيس الجمهورية والبطريرك صفير. وبعد ذلك انعقدت المجامع الكنسية العامة (المارونية والكاثوليكية)، لمتابعة السير في تطبيق الارشاد..
ان الجهود المبذولة على مستوى الكنيسة المارونية وسائر الكنائس الكاثوليكية في لبنان لتطبيق الارشاد الرسولي، هي دليل حي على ان مسيرة السينودوس لم تتوقف عند اختتام أعماله او مع صدور الارشاد.. وهي لم تثمر فقط مجمعا كنسياً مارونيا تاريخيا، ومجامع كنسية كاثوليكية اخرى تاريخية هي ايضا، انما هي أثمرت. أساسا عملا طيبا مباركا كان له أبلغ الأثر في المراجعة النقدية والوعي النقدي وفي روح التجدد والمصالحة التي ظهرت في الوسط المسيحي عموما.
=1 اللبنانيون والإرشاد الرسولي
كنت قد صرّحت إثر عودتي من الفاتيكان (حيث شاركت في أعمال السينودوس ت2- ك1 1995، كممثل شخصي للامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكممثل رسمي للطائفة (الاسلامية الشيعية) الى اننا في لبنان نحتاج الى اكثر من سينودوس.. فنحن نحتاج الى مراجعة ونقد ذاتي إسلامي، ووطني علماني، ويساري، وذلك للتكامل والتفاعل مع السينودوس الكاثوليكي ومع الارشاد الرسولي ومجامع الكنيسة المارونية،وغيرها، وللمشاركة في السير معا وفي العمل معا من أجل التوبة والغفران والمصالحة الحقيقية ومن أجل تجدد حقيقي للروح يسمح لنا بالمشاركة الفعلية (او الشراكة) في إعادة إعمار الدنيا وبناء الوطن. ذلك ان انتهاء الحرب المسلحة والفتنة الدامية التي عصفت بلبنان، لم يضع حدا للأسف، لروح الاقتتال والنزاع. فهو لم يطو صفحة الماضي، ولم يحقق مصالحة وطنية شاملة، ولم يبلسم الجراح، ولم يكفل بالتالي العدالة والمساواة والمشاركة والتوازن والوفاق والتوافق: وهي كلها مقومات التجربة والصيغة اللبنانية. وما زال البعض يتعامل بمنطق الغالب والمغلوب، ولا يخجل حتى من التصريح علنا بأن الحكم ليس مشاركة وإنما غلبة، وأن السياسة ليست مصالحة وانما موازين قوى، وأن السلطة ليست وفاقا وإنما استقواء.. وما زال البعض يُمعن في سياسة الكيل بمكيالين، والصيف والشتاء تحت سقف واحد، وفي تجاهل مشاعر فئة كبيرة من اللبنانيين... وما زال البعض يقول ان اللبنانيين يتقاتلون ويتذابحون لولا القبضة الامنية المدعومة اقليميا، وان البلد كان ممسوكاً وليس متماسكا. وما زال البعض يتنصل من أية مسؤولية عما آلت اليه الاوضاع، ومن مسؤوليته في الحرب، ومن أية مراجعة نقدية او مساءلة او محاسبة، ومن أية وقفة ضمير ورجوع الى الذات، ومن أية مسيرة توبة وغفران، او مصالحة وسلام، ويُمعن بدل ذلك في الكيد والنكاية، وفي الظلم والاستقواء، وفي خلخلة التوازن والوفاق، بما ينسف معنى المشاركة والشراكة..
لقد تحدث الارشاد الرسولي عن واجبات المسؤولين وعن واجبات اللبنانيين تجاه وطنهم وتجاه بعضهم البعض. وبدل نشر الخطابات والتصريحات والمقالات التي تهتف للارشاد الرسولي وتدعو الى تطبيقه، كان الأجدر بنا ان نمعن قراءته وأن نستخرج عباراته وأن نحقق غاياته.. ذلك أن "الغاية الاساسية التي يرمي اليها الارشاد الرسولي هي إعادة بناء لبنان ماديا وروحيا"... و"هذا شأن جوهري لا يمكن تحقيقه الا بمشاركة نشطة من الجميع,."المشاركة النشطة تبدأ بالحوار، لغة ومضمونا، محبة وغفرانا، احتراما واعترافا بالآخر المختلف والشريك، تضامنا ومبادرات عملية، وليس في لقلقة اللسان او اللغة الخشبية.. وإن غاية الحوار هي "العيش معا، وبناء المجتمع باحترام حساسيات الاشخاص والفروقات الجماعية، وبالتغلب على الحذر المتبادل والتنابذ".. بهذا، وبهذا فقط، نحقق معنى الشراكة والمشاركة.
=2 المسلمون والإرشاد الرسولي
لم يطلب أحد من المسلمين تبني الارشاد الرسولي او الموافقة على أعمال السينودوس وتوصياته. ولكن الدعوة الى مسيرة توبة ونقد ذاتي ومصالحة ومراجعة وتجدد روحي وفكري وثقافي، دفعت القائمين على السينودوس الى اشراك المسلمين بالكامل في مسيرة التحضير والاعداد، كما في الاعمال والنقاشات وحتى اليوم الاخير من الانعقاد. ولقد شاركنا بالفعل (أنا وزميلاي محمد السماك وعباس الحلبي) في هذه المسيرة الثقافية الفكرية الروحية الوطنية التجديدية مما كان له أبلغ الاثر فينا ومن حولنا.
صحيح ان السينودوس( والارشاد الرسولي) هو تجدد خاص بالكنيسة الكاثوليكية في لبنان الا انه كان ايضا منذ البداية دعوة وطنية لإعادة بناء لبنان على الصعيدين المادي والروحي. والسينودوس، كما الارشاد، طرحا بقوة ووضوح، وبجرأة وشفافية، قضية النقد الذاتي واستخلاص دروس الحرب، ومسألة معالجة مخلفات وآثار الحرب، عبر شجاعة التوبة ودعوة التجدد الروحي.. وكان الامام شمس الدين هو الوحيد (وأكرر الوحيد) في الصف الاسلامي الذي التقط معنى هذه الدعوة فتجاوب معها وسار معها كل الطريق ورغم كل الصعاب والعراقيل. وللتذكير فان الامام قد سارع إثر إعلان البابا دعوته لعقد السينودوس (12/6/1992) الى الاعلان عن تشكيل "هيئة اسلامية " تتولى شؤون الحوار مع الهيئات المسيحية في الداخل والخارج.. وهو اختار للهيئة مسلمين من كل الطوائف (رغم امتعاض او عدم ترحيب مرجعياتهم الروحية او السياسية).. وقد تحركت الهيئة الاسلامية للحوار وبتكليف وتغطية دينية وشخصية من الامام الراحل، لتلاقي الاعمال التحضيرية للسينودوس. وللتذكير ايضا فإن هذه الهيئة كانت هي النواة التأسيسية لما عُرف باسم "الامانة العامة الدائمة للقمة الروحية الاسلامية" التي كان حلم الامام ان تكون هيئة تحضيرية لمجمع (او سينودوس) اسلامي.. الا انها اجتمعت مرتين أو ثلاث مرات فقط وقمت بإعداد مشروع نظام داخلي وبرنامج عمل لها قبل ان يتوفاها الله.. وقد أعاد الامام الراحل تسليط الضوء على مشروع الامانة العامة الدائمة تلك، كمؤسسة اسلامية حوارية فكرية تنسيقية تراكم معرفة وتقترح مبادرات لتصحيح وتطوير الوضع الاسلامي والوطني بعامة، وذلك في وصاياه الاخيرة حيث خصص لها فصلا مستقلا. وبرغم ذلك ظلت الامانة العامة وجاهة شخصية للبعض لا أساس واقعي لها ولا وجود فعلي ولا حتى شكلي...
وكانت الهيئة الاسلامية للحوار هي أيضا نواة مشاركتنا كمسلمين في اعمال السينودوس، ونواة كل المبادرات الحوارية اللاحقة التي أطلقها ورعاها الامام شمس الدين (مثل اللجنة الوطنية الاسلامية-المسيحية للحوار، والفريق العربي للحوار، وكان لي شرف المشاركة في تأسيسهما باشراف الامام الراحل) والتي لم تكن لتبصر النور او لتستمر في العمل لولا ولولا احتضان ودعم وتوجيه الامام الراحل.. وهو خصص لها ايضا حيزا مهما في وصاياه الاخيرة.. ولم يكتف الامام بذلك بل انه واجه بحزم وتصدى للحملات التي انطلقت من جهات إسلامية ومسيحية عدة ضد السينودوس وضد "تدخل الفاتيكان في الشؤون اللبنانية" ،وصولا الى اتهامه بشن حرب صليبية جديدة وتشبيه السينودوس بلقاء كنيسة كليرمون الذي أطلق الحملة الصليبية الاولى.. وللضغط على الامام شمس الدين للتراجع عن موقفه، صدرت بيانات (كالعادة) من تجمعات وأسماء وهمية، كما من شخصيات ومؤسسات دينية وسياسية وحزبية، تصل في الحد الأدنى الى الدعوة الى عدم مشاركة المسلمين في أعمال السينودوس لأنه عمل كنسي خاص. كما شنّ البعض (ومنهم مراجع دين واجتهاد، ودعاة حوار وتجديد، ومنهم أحزاب رئيسة في المشهد اللبناني) حملة شخصية ضد الامام شمس الدين وضد المسلمين الذين انتدبهم للمشاركة في السينودوس والذين حصل لهم على موافقة المرجعيات الاساسية (المفتي قباني، والرؤساء الحريري وبري والسيد وليد جنبلاط.. ولولا الامام شمس الدين لما كان هناك أصلا مشاركة إسلامية في السينودوس.. فهو لم يضع فقط كل ثقله الروحي والمعنوي وانما ايضا وضع كل ما يملك من شجاعة ومن وضوح رؤية ومن صلابة موقف ومن تمسك بالثوابت الوطنية ومن حب للبنان واللبنانيين، فصاغ اطروحاته الحوارية الوطنية وبلور مقاصده الوطنية الوفاقية وأطلق دعواته الى المصالحة وإلى التوازن والعدالة وإلى العفو والتوبة، والى التجديد الروحي والفكري والثقافي والسياسي، فكان ذلك كله مداميك السير معا على طريق البناء والانماء للبنان المستقبل الذي رآه الامام شمس الدين في "استعادة الحلم الذي قُتل من قُتل من شبابنا سعيا وراءه. علينا استعادة هذا الحلم بتحصين سلمنا الاهلي بحوار دائم مفتوح ومتجدد وبارادة وطنية جامعة.. ان لبنان ليس مكانا جميلا فحسب: انه كرامة وحرية، بيت ورغيف حلال، مدرسة ومستشفى، قدرة على المشاركة في الرأي والقرار، قدرة على التعبير وعلى النقد... ان لبنان معنى ودور، وحوار حياة، أنتج صيغة فريدة للعيش المشترك ونمطا مميزا علينا حفظهما وتطويرهما" (من خطبة العاشر من محرم 1414 -1993)..
لقد أراد الامام اطلاق حركة نقد ذاتي وتجديد داخلي في الوسط الاسلامي كنا وما نزال أحوج ما نكون اليها.. ولكن الطبقة السياسية وقد أعمت بصرها وبصيرتها أوهام الغلبة وتقاسم الثروة والنفوذ واحتمالات الموقع والدور (الشخصي والعام)، رفضت الدعوة الى النقد الذاتي والى التجدد الروحي والفكري، وهي لم تقفل الباب فقط في وجه دعوة الامام شمس الدين، وانما سدت كل الابواب والشبابيك في وجه "الارشادات الاسلامية" السابقة والراهنة، خوف التغيير.
ففي مسيرة الامامين الصدر وشمس الدين، والشيخين حسن خالد وصبحي الصالح، في مواجهتهم للفتنة وللحروب الاهلية وفي تأكيدهم على الوفاق والمصالحة وعلى التوازن والاعتدال، ما يكفي من الارشادات الرسولية ومن الدروس المحمدية والعلوية..
وفي هذا الاطار شكّلت وصايا الامام شمس الدين التي نشرت بعد وفاته، إرشاداً إسلاميا بالغ الخطورة، قدم مساهمة فعلية في تجسيد الشراكة الاسلامية المسيحية وفي تحقيق معنى المشاركة الوطنية الحقيقية. كما جاءت زيارة الرئيس الايراني محمد خاتمي الى لبنان (12- 14 أيار 2003) والخطب والكلمات التي وجهها الى اللبنانيين، وإلى العالم من خلال لبنان، لتكون إرشادا جديدا (خصوصاً في مدينة كميل شمعون الرياضية) لم يلق للأسف ما يستحقه من اهتمام ومن تطبيق في الاوساط الاسلامية اللبنانية. كما ان تجربة إصلاحية تجديدية تاريخية كتلك التي عاشتها جمهورية إيران الاسلامية في عهدي رفسنجاني وخاتمي لم تلق أية دراسة او اهتمام من طرف الحركات والقوى الاسلامية، حول معناها او حول عناوينها وموضوعاتها.
ان كل ما سبق ضاعف ويضاعف من مسؤوليتنا في الدعوة الى مشاركة حقيقية تكون على مستوى الارشاد الرسولي ووصايا الامام شمس الدين وارشادات الرئيس خاتمي.
3 =الارشاد الرسولي والمشاركة اليوم
لقد رأى الامام شمس الدين في السينودوس، وفي الارشاد الصادر عنه، حالة نادرة من الشفافية والانفتاح، ومستوى عاليا من الشعور بالمسؤولية والوطنية المجردة. وهو أوضح وشرح لمن كان يعتبر السينودوس والارشاد حالة مسيحية او كاثوليكية (اي طائفية) ان معيار الحوار والوطنية والانفتاح في اي عمل او اطار او مشروع ليس في الاسم الذي يحمله، او في الشعار الذي يرفعه، او الادعاء الوطني الكلامي، وليس في مجرد تكوينه المختلط او سعيه للتنسيق مع الآخرين، وانما يتمثل أساسا في اطروحته "الوطنية الوفاقية الحوارية المنفتحة"، وفي حرصه على إشراك الآخرين في الرأي والمشورة وفي العمل والممارسة.. وقد علّق الامام شمس الدين على الارشاد الرسولي حين صدوره بالقول انه يلتقي معه في كل ما يخص البعد الوطني والبعد الروحي والثقافي والفكري، طالما ان الابعاد الاخرى الدينية والكنسية هي من خصوصيات اصحابها. يومها دعا الامام الى ضرورة ان يتعلم اللبنانيون معنى احترام الخصوصيات الثقافية الدينية للجماعات المكونة للبنان، وأن يحرصوا على توفير شروط حرية ممارسة تلك الخصوصيات ليس بالخطب الفارغة أو اللغة الخشبية (والتي كان يسميها: لقلقة اللسان) وليس بتربيح الجميل او المنة، وانما في الوعي والسلوك العمليين وفي الحب العميق والاحترام الصادق وفي ذلك قاعدة لبناء الصيغة السياسية اللبنانية الفريدة القائمة على احترام التعددية الثقافية وعلى الديموقراطية التوافقية وعلى الانفتاح والتجدد وملاقاة طموحات الشباب وآمال التغيير ضمن إطار الحرية والديموقراطية والازدهار لشعوب المنطقة العربية. وقد أشار الارشاد الرسولي (كما السينودوس) الى هذه المعاني (الواردة في وصايا الامام وفي إرشاد خاتمي)،بتأكيده على "بناء نظام سياسي واجتماعي عادل ومنصف يحترم الاشخاص وجميع الاتجاهات التي يتألف منها البلد". وكان الامام شمس الدين قد دعا وفي مناسبات عدة الى احترام خصوصية لبنان وخصوصية الجماعات المكونة له، وإلى الكف عن إطلاق الدعوات التي تخيف او تنفر: "لا نريد أبدا ولا نرضى أبدا ان يكون هناك اي خطاب سياسي او تعبوي يجعل المسيحيين يندمون او يترددون في خيارهمم الذي اختاروه في هذه الصيغة الجديدة (الطائف)"..وفي مواجهة الفساد والإفساد وهما السمة المميزة للطبقة السياسية الجديدة، دعا الارشاد الرسولي "العاملين في الشأن العام الى احترام بعض الموجبات الاخلاقية وأن يُخضعوا مصالحهم الخاصة او الفئوية لصالح امتهم.. وأن يتجاوزوا السلوك الاناني"، وأكد على "انه يجب على كل شخصية عاملة في الشأن العام، سياسية كانت ام دينية، وعلى كل فريق، ان يحسب حسابا لحاجات الافرقاء الآخرين ولتطلعاتهم الشرعية"..
ويبدو ان المسؤولين عندنا، وهم ممن يطبل ويزمر للارشاد الرسولي، لا يقرأون الا الأدعية الواردة في الارشاد او مقاطع من الانجيل او التوراة.. فهم لا يعترفون بوجود خلل في البلاد، او اختلال في الحياة العامة.. ولا يقرون بأنهم ضربوا ويضربون عرض الحائط بكل موجبات التوازن واحترام الآخر والمصالحة لا بل وبكل متطلبات ميثاق العيش المشترك.. ورغم ذلك فهم لا يستمعون الا الى ما لا يقصدهم في الارشاد الرسولي.. فكيف اذا قرأوا ايضا: "لا يمكن ان تُمتهن بلا عقاب حقوق وواجبات الاشخاص والجماعات الثقافية والدينية والشعوب.. وتجاهل ذلك يقود حتما الى فقدان الشعب بكامله الثقة بالمؤسسات الوطنية بشكل حتمي."
اننا جميعا مسؤولون حقا عن الجميع، هذا ما قاله الارشاد وهو جاء على لسان الامام شمس الدين حين قال :"اننا مسؤولون عن بعث لبنان من تحت الرماد، وإحياء دوره وتجديد معناه، وتطوير صيغته وبناء مؤسساته. وهذا لا يكون الا بالحوار، عبر انفتاح القلوب على بعضها البعض وانفتاح البصائر على المستقبل فلا نبقى مشدودين الى الماضي ولا نقفز الى المجهول"(خطبة العاشر من محرم 1993).. ويوم دعا الامام الى "التزام كل فريق الفريق الآخر، على قاعدة الحقوق المتساوية للجميع والواجبات المتساوية للجميع والكرامة للجميع"... ويوم قال "ان لا لبنان من دون مسيحيين كما لا لبنان من دون مسلمين"(يوم انتخابه لرئاسة المجلس 18/3/1994( ، وهي الجملة التي نقلها الارشاد الرسولي على لسان المسلمين، ونقل معها قول الامام: "لا معنى للبنان دون مسيحيين.. معنى لبنان لا يكتمل الا بالمسلمين والمسيحيين معا."
وإن دعوة الارشاد الرسولي الاساسية هي دعوة المصالحة والسلام والتي تقوم على التوازن والعدالة والكرامة.. وهذا "يتطلب ألا يعتقد احد ان موقعه الخاص يحتمل ان يسوغ له البحث عن امتيازات له او لطائفته، بإبعاد الآخرين... ان التزام السلام من قبل الجميع يقود الى مصالحة نهائية بين جميع اللبنانيين وبين مختلف فئات البلد. ان المصالحة هي السبيل الى سلام وطيد يقوم بين اللبنانيين"(الارشاد)..
وكان الامام قد أعلن وبوضوح "اننا جميعا، مسلمين ومسيحيين في شراكة حقيقية، للحياة وللمصير، اما ان ننسجها معا خيطا خيطا او لا تقوم لنا قيامة.. اما ان ننهض جميعا ومعا او نسقط واحدا واحدا... ان اي طائفة لا يمكن ان تنجز مشروعا خاصا بها.. وإن حاولت ذلك فستخلق حالة دمار شامل ولن ينجح هذا المشروع... ان المسلمين على وعي كامل ان لا كرامة لوطن يشعر بعض ابنائه بانتقاص كرامتهم، ولا أمن لوطن يشعر بعض أبنائه باختلال أمنهم، ولا قيامة لوطن يشعر بعض ابنائه بانتقاص حقوقهم... ان الشكوى يجب ان تُسمع وان الخلل ان وُجد يجب ان يصحح لتستقيم الاوضاع ويتحقق معنى لبنان... ومن هنا دعونا وندعو الى المصالحة الوطنية الشاملة، ورحبنا وما زلنا بالسينودوس" (كلمته أمام مؤتمر الحوار الدائم،مدرسة الحكمة 22/5/1994).
وكان الامام، رحمه الله، عميقا وحازما في تشخيصه الحاسم للمشكلة اليوم: "ان نجاح الصيغة الجديدة للبنان بعد الطائف هو مسؤولية المسلمين وليس مسؤولية المسيحيين من هنا قلنا ونكرر وسنظل نكرر ان طريقة المسلمين في المشاركة في عملية الحكم والادارة وفي الخطاب السياسي وفي الخطاب التعبوي يجب ان تأخذ في الاعتبار هذا الامتحان"...
نعم وانه لامتحان كبير وخطير.. ومن هنا دعوة الامام "السياسيين والقياديين في لبنان، الى ان يباشروا الامور برفق وألا يدفعوا الامور نحو أزمة في ما يتعلق بالاختيارات الكبرى في شأن الدولة والمجتمع، وان تكون روح الحوار والانفتاح والاخلاص لهذا البلد ولشعبه الذي يستحق كل التكريم، ان تكون هذه الروح هي الحاكمة".
"لن يكون لبنان مسيحيا ذا وجه عربي او اسلامي، ولن يكون اسلاميا ذا وجه مسيحي او اوروبي... لبنان هو لبنان. هويته تتكون من تنوعه. ومن هنا أقول: اذا كان الخطاب السياسي الاسلامي يعاني من خلل ما، فعلى القيمين على هذا الخطاب في الحكم والمجتمع ان يعيدوا النظر في عناصره لكي نخرج نهائيا من عقلية الفتنة وندخل بصورة نهائية في آفاق الوحدة والتعاون لتثبيت وترسيخ صيغة العيش المشترك التي ينفرد بها لبنان في العالم"..(قرية بنهران الشيعية ، الكورة، الاحد 22/9/1991(..
ولم يكتف الامام شمس الدين بهذا القدر من الوضوح والشفافية ومن العدل والانصاف ومن الكرامة والانسانية، بل هو أكد مرارا وتكرارا على أهمية الصيغة اللبنانية وضرورة حفظها وتطويرها.. وتذكرون كيف انه امتلك شجاعة التراجع عما كان يدعو اليه (مشروع الديموقراطية العددية) وشجاعة الإعلان عن هذا التراجع، والقول بأنه "تبصّر" ودرس الحالة اللبنانية، فدعا في آخر أيامه الى "خصوصية لبنانية"،جعلته يقول بأنه لو حصلت وحدة عربية شاملة فسيكون هناك دولتان عربيتان مستقلتان: دولة الوحدة، ودولة لبنان. وقوله ان لبنان ليس فقط حاجة وطنية لبنانية، بل هو ضرورة عربية وإسلامية. وقد صاغ في وصاياه الاخيرة رؤيته للمشاركة والشراكة في أروع صياغة انسانية حضارية تجاوزت كل المألوف الاسلامي والمشهور العربي وحتى اللبناني فقال":أدعو المسلمين اللبنانيين والعرب الى الحرص الكامل التام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان، وعلى تكاملهم وعلى شعورهم بالانتماء الكامل، والرضى الكامل، وعلى عدم اي شعور بالاحباط، او بالحرمان، او بالنقص، او بالانتقاص، او بالخوف على المستقبل وما الى ذلك". ولم ينس الامام التذكير بأن "هذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة، وعلى الحس الانساني فقط، وإنما هي قائمة على حقائق موضوعية اساسية لا بد من مراعاتها"... فالهدف ليس حفظ المسيحيين كوجود مادي، وإنما الوجود والحضور معا، "والفاعلية والدور في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم"، أي ليس فقط في لبنان، وليس فقط كوجود وإنما كفاعلية وكدور وكشراكة وكصنّاع قرار وقادة لحركة التاريخ العربي والاسلامي.
الدكتور سعود المولى
مداخلة في الندوة التي أقامتها جامعة اللويزة ،30 كانون الثاني 2004،نحت عنوان الشأن الوطني في الارشاد الرسولي
الارشاد الرسولي هو الوثيقة البابوية التي صدرت بنتيجة اختتام سينودوس الاساقفة الكاثوليك الخاص من أجل لبنان. وقد أذاع البابا يوحنا بولس الثاني هذا الارشاد إبان زيارته التاريخية الى لبنان (10- 11 أيار 1997). وهذه الوثيقة هي خلاصة أمينة ودقيقة وترجمة ختامية لمسيرة السينودوس التي ابتدأت مع نداء البابا المتلفز يوم 12 حزيران 1991، ولم تتوقف الى اليوم، وكانت أبرز محطاتها السينودوس نفسه في حاضرة الفاتيكان(تشرين الثاني-كانون الاول 1995) والنداء الأخير الذي صدر عنه(في منتصف كانون الاول 1995) وأثار عاصفة من ردود الفعل المتجنية.. ومعنى السينودوس او مجمع الاساقفة هو "السير معا". وقد شكّل أساقفة الكنيسة المارونية والرؤساء العامون والرئيسات العامات بإشراف البطريرك صفير، "اللجنة البطريركية الخاصة بتطبيق الارشاد"، وذلك لتطبيق نداء جمعية السينودوس (المعروف باسم النداء الاخير). ثم فور تسليم قداسة البابا الارشاد الرسولي (وعنوانه: رجاء جديد للبنان) كلفت اللجنة تطبيق الارشاد. وهذه اللجنة تضم المطارنة رولان ابو جودة (رئيساً)، يوسف بشارة، بشارة الراعي، غي بولس نجيم، بولس مطر، ومنجد الهاشم، والأباتي أثناسيوس جلخ. والأخت جوديت هارون. وقد وزّعت اللجنة تطبيق الارشاد على خمس مراحل سنوية تتناول كل منها قسما من الارشاد المذكور وهي على التوالي: التجدد على صعيد الاشخاص (1999)، التجدد على صعيد الهيكليات (2000)، الشأن الاجتماعي (2002)، الشأن الوطني (2003). وكان لكل واحدة من هذه المراحل برامجها الخاصة ونشاطاتها وهي اختتمت بالحلقة الدراسية التي عقدتها اللجنة في جامعة سيدة اللويزة (يوم الجمعة 30 كانون الثاني 2004) وحضرها رئيس الجمهورية والبطريرك صفير. وبعد ذلك انعقدت المجامع الكنسية العامة (المارونية والكاثوليكية)، لمتابعة السير في تطبيق الارشاد..
ان الجهود المبذولة على مستوى الكنيسة المارونية وسائر الكنائس الكاثوليكية في لبنان لتطبيق الارشاد الرسولي، هي دليل حي على ان مسيرة السينودوس لم تتوقف عند اختتام أعماله او مع صدور الارشاد.. وهي لم تثمر فقط مجمعا كنسياً مارونيا تاريخيا، ومجامع كنسية كاثوليكية اخرى تاريخية هي ايضا، انما هي أثمرت. أساسا عملا طيبا مباركا كان له أبلغ الأثر في المراجعة النقدية والوعي النقدي وفي روح التجدد والمصالحة التي ظهرت في الوسط المسيحي عموما.
=1 اللبنانيون والإرشاد الرسولي
كنت قد صرّحت إثر عودتي من الفاتيكان (حيث شاركت في أعمال السينودوس ت2- ك1 1995، كممثل شخصي للامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكممثل رسمي للطائفة (الاسلامية الشيعية) الى اننا في لبنان نحتاج الى اكثر من سينودوس.. فنحن نحتاج الى مراجعة ونقد ذاتي إسلامي، ووطني علماني، ويساري، وذلك للتكامل والتفاعل مع السينودوس الكاثوليكي ومع الارشاد الرسولي ومجامع الكنيسة المارونية،وغيرها، وللمشاركة في السير معا وفي العمل معا من أجل التوبة والغفران والمصالحة الحقيقية ومن أجل تجدد حقيقي للروح يسمح لنا بالمشاركة الفعلية (او الشراكة) في إعادة إعمار الدنيا وبناء الوطن. ذلك ان انتهاء الحرب المسلحة والفتنة الدامية التي عصفت بلبنان، لم يضع حدا للأسف، لروح الاقتتال والنزاع. فهو لم يطو صفحة الماضي، ولم يحقق مصالحة وطنية شاملة، ولم يبلسم الجراح، ولم يكفل بالتالي العدالة والمساواة والمشاركة والتوازن والوفاق والتوافق: وهي كلها مقومات التجربة والصيغة اللبنانية. وما زال البعض يتعامل بمنطق الغالب والمغلوب، ولا يخجل حتى من التصريح علنا بأن الحكم ليس مشاركة وإنما غلبة، وأن السياسة ليست مصالحة وانما موازين قوى، وأن السلطة ليست وفاقا وإنما استقواء.. وما زال البعض يُمعن في سياسة الكيل بمكيالين، والصيف والشتاء تحت سقف واحد، وفي تجاهل مشاعر فئة كبيرة من اللبنانيين... وما زال البعض يقول ان اللبنانيين يتقاتلون ويتذابحون لولا القبضة الامنية المدعومة اقليميا، وان البلد كان ممسوكاً وليس متماسكا. وما زال البعض يتنصل من أية مسؤولية عما آلت اليه الاوضاع، ومن مسؤوليته في الحرب، ومن أية مراجعة نقدية او مساءلة او محاسبة، ومن أية وقفة ضمير ورجوع الى الذات، ومن أية مسيرة توبة وغفران، او مصالحة وسلام، ويُمعن بدل ذلك في الكيد والنكاية، وفي الظلم والاستقواء، وفي خلخلة التوازن والوفاق، بما ينسف معنى المشاركة والشراكة..
لقد تحدث الارشاد الرسولي عن واجبات المسؤولين وعن واجبات اللبنانيين تجاه وطنهم وتجاه بعضهم البعض. وبدل نشر الخطابات والتصريحات والمقالات التي تهتف للارشاد الرسولي وتدعو الى تطبيقه، كان الأجدر بنا ان نمعن قراءته وأن نستخرج عباراته وأن نحقق غاياته.. ذلك أن "الغاية الاساسية التي يرمي اليها الارشاد الرسولي هي إعادة بناء لبنان ماديا وروحيا"... و"هذا شأن جوهري لا يمكن تحقيقه الا بمشاركة نشطة من الجميع,."المشاركة النشطة تبدأ بالحوار، لغة ومضمونا، محبة وغفرانا، احتراما واعترافا بالآخر المختلف والشريك، تضامنا ومبادرات عملية، وليس في لقلقة اللسان او اللغة الخشبية.. وإن غاية الحوار هي "العيش معا، وبناء المجتمع باحترام حساسيات الاشخاص والفروقات الجماعية، وبالتغلب على الحذر المتبادل والتنابذ".. بهذا، وبهذا فقط، نحقق معنى الشراكة والمشاركة.
=2 المسلمون والإرشاد الرسولي
لم يطلب أحد من المسلمين تبني الارشاد الرسولي او الموافقة على أعمال السينودوس وتوصياته. ولكن الدعوة الى مسيرة توبة ونقد ذاتي ومصالحة ومراجعة وتجدد روحي وفكري وثقافي، دفعت القائمين على السينودوس الى اشراك المسلمين بالكامل في مسيرة التحضير والاعداد، كما في الاعمال والنقاشات وحتى اليوم الاخير من الانعقاد. ولقد شاركنا بالفعل (أنا وزميلاي محمد السماك وعباس الحلبي) في هذه المسيرة الثقافية الفكرية الروحية الوطنية التجديدية مما كان له أبلغ الاثر فينا ومن حولنا.
صحيح ان السينودوس( والارشاد الرسولي) هو تجدد خاص بالكنيسة الكاثوليكية في لبنان الا انه كان ايضا منذ البداية دعوة وطنية لإعادة بناء لبنان على الصعيدين المادي والروحي. والسينودوس، كما الارشاد، طرحا بقوة ووضوح، وبجرأة وشفافية، قضية النقد الذاتي واستخلاص دروس الحرب، ومسألة معالجة مخلفات وآثار الحرب، عبر شجاعة التوبة ودعوة التجدد الروحي.. وكان الامام شمس الدين هو الوحيد (وأكرر الوحيد) في الصف الاسلامي الذي التقط معنى هذه الدعوة فتجاوب معها وسار معها كل الطريق ورغم كل الصعاب والعراقيل. وللتذكير فان الامام قد سارع إثر إعلان البابا دعوته لعقد السينودوس (12/6/1992) الى الاعلان عن تشكيل "هيئة اسلامية " تتولى شؤون الحوار مع الهيئات المسيحية في الداخل والخارج.. وهو اختار للهيئة مسلمين من كل الطوائف (رغم امتعاض او عدم ترحيب مرجعياتهم الروحية او السياسية).. وقد تحركت الهيئة الاسلامية للحوار وبتكليف وتغطية دينية وشخصية من الامام الراحل، لتلاقي الاعمال التحضيرية للسينودوس. وللتذكير ايضا فإن هذه الهيئة كانت هي النواة التأسيسية لما عُرف باسم "الامانة العامة الدائمة للقمة الروحية الاسلامية" التي كان حلم الامام ان تكون هيئة تحضيرية لمجمع (او سينودوس) اسلامي.. الا انها اجتمعت مرتين أو ثلاث مرات فقط وقمت بإعداد مشروع نظام داخلي وبرنامج عمل لها قبل ان يتوفاها الله.. وقد أعاد الامام الراحل تسليط الضوء على مشروع الامانة العامة الدائمة تلك، كمؤسسة اسلامية حوارية فكرية تنسيقية تراكم معرفة وتقترح مبادرات لتصحيح وتطوير الوضع الاسلامي والوطني بعامة، وذلك في وصاياه الاخيرة حيث خصص لها فصلا مستقلا. وبرغم ذلك ظلت الامانة العامة وجاهة شخصية للبعض لا أساس واقعي لها ولا وجود فعلي ولا حتى شكلي...
وكانت الهيئة الاسلامية للحوار هي أيضا نواة مشاركتنا كمسلمين في اعمال السينودوس، ونواة كل المبادرات الحوارية اللاحقة التي أطلقها ورعاها الامام شمس الدين (مثل اللجنة الوطنية الاسلامية-المسيحية للحوار، والفريق العربي للحوار، وكان لي شرف المشاركة في تأسيسهما باشراف الامام الراحل) والتي لم تكن لتبصر النور او لتستمر في العمل لولا ولولا احتضان ودعم وتوجيه الامام الراحل.. وهو خصص لها ايضا حيزا مهما في وصاياه الاخيرة.. ولم يكتف الامام بذلك بل انه واجه بحزم وتصدى للحملات التي انطلقت من جهات إسلامية ومسيحية عدة ضد السينودوس وضد "تدخل الفاتيكان في الشؤون اللبنانية" ،وصولا الى اتهامه بشن حرب صليبية جديدة وتشبيه السينودوس بلقاء كنيسة كليرمون الذي أطلق الحملة الصليبية الاولى.. وللضغط على الامام شمس الدين للتراجع عن موقفه، صدرت بيانات (كالعادة) من تجمعات وأسماء وهمية، كما من شخصيات ومؤسسات دينية وسياسية وحزبية، تصل في الحد الأدنى الى الدعوة الى عدم مشاركة المسلمين في أعمال السينودوس لأنه عمل كنسي خاص. كما شنّ البعض (ومنهم مراجع دين واجتهاد، ودعاة حوار وتجديد، ومنهم أحزاب رئيسة في المشهد اللبناني) حملة شخصية ضد الامام شمس الدين وضد المسلمين الذين انتدبهم للمشاركة في السينودوس والذين حصل لهم على موافقة المرجعيات الاساسية (المفتي قباني، والرؤساء الحريري وبري والسيد وليد جنبلاط.. ولولا الامام شمس الدين لما كان هناك أصلا مشاركة إسلامية في السينودوس.. فهو لم يضع فقط كل ثقله الروحي والمعنوي وانما ايضا وضع كل ما يملك من شجاعة ومن وضوح رؤية ومن صلابة موقف ومن تمسك بالثوابت الوطنية ومن حب للبنان واللبنانيين، فصاغ اطروحاته الحوارية الوطنية وبلور مقاصده الوطنية الوفاقية وأطلق دعواته الى المصالحة وإلى التوازن والعدالة وإلى العفو والتوبة، والى التجديد الروحي والفكري والثقافي والسياسي، فكان ذلك كله مداميك السير معا على طريق البناء والانماء للبنان المستقبل الذي رآه الامام شمس الدين في "استعادة الحلم الذي قُتل من قُتل من شبابنا سعيا وراءه. علينا استعادة هذا الحلم بتحصين سلمنا الاهلي بحوار دائم مفتوح ومتجدد وبارادة وطنية جامعة.. ان لبنان ليس مكانا جميلا فحسب: انه كرامة وحرية، بيت ورغيف حلال، مدرسة ومستشفى، قدرة على المشاركة في الرأي والقرار، قدرة على التعبير وعلى النقد... ان لبنان معنى ودور، وحوار حياة، أنتج صيغة فريدة للعيش المشترك ونمطا مميزا علينا حفظهما وتطويرهما" (من خطبة العاشر من محرم 1414 -1993)..
لقد أراد الامام اطلاق حركة نقد ذاتي وتجديد داخلي في الوسط الاسلامي كنا وما نزال أحوج ما نكون اليها.. ولكن الطبقة السياسية وقد أعمت بصرها وبصيرتها أوهام الغلبة وتقاسم الثروة والنفوذ واحتمالات الموقع والدور (الشخصي والعام)، رفضت الدعوة الى النقد الذاتي والى التجدد الروحي والفكري، وهي لم تقفل الباب فقط في وجه دعوة الامام شمس الدين، وانما سدت كل الابواب والشبابيك في وجه "الارشادات الاسلامية" السابقة والراهنة، خوف التغيير.
ففي مسيرة الامامين الصدر وشمس الدين، والشيخين حسن خالد وصبحي الصالح، في مواجهتهم للفتنة وللحروب الاهلية وفي تأكيدهم على الوفاق والمصالحة وعلى التوازن والاعتدال، ما يكفي من الارشادات الرسولية ومن الدروس المحمدية والعلوية..
وفي هذا الاطار شكّلت وصايا الامام شمس الدين التي نشرت بعد وفاته، إرشاداً إسلاميا بالغ الخطورة، قدم مساهمة فعلية في تجسيد الشراكة الاسلامية المسيحية وفي تحقيق معنى المشاركة الوطنية الحقيقية. كما جاءت زيارة الرئيس الايراني محمد خاتمي الى لبنان (12- 14 أيار 2003) والخطب والكلمات التي وجهها الى اللبنانيين، وإلى العالم من خلال لبنان، لتكون إرشادا جديدا (خصوصاً في مدينة كميل شمعون الرياضية) لم يلق للأسف ما يستحقه من اهتمام ومن تطبيق في الاوساط الاسلامية اللبنانية. كما ان تجربة إصلاحية تجديدية تاريخية كتلك التي عاشتها جمهورية إيران الاسلامية في عهدي رفسنجاني وخاتمي لم تلق أية دراسة او اهتمام من طرف الحركات والقوى الاسلامية، حول معناها او حول عناوينها وموضوعاتها.
ان كل ما سبق ضاعف ويضاعف من مسؤوليتنا في الدعوة الى مشاركة حقيقية تكون على مستوى الارشاد الرسولي ووصايا الامام شمس الدين وارشادات الرئيس خاتمي.
3 =الارشاد الرسولي والمشاركة اليوم
لقد رأى الامام شمس الدين في السينودوس، وفي الارشاد الصادر عنه، حالة نادرة من الشفافية والانفتاح، ومستوى عاليا من الشعور بالمسؤولية والوطنية المجردة. وهو أوضح وشرح لمن كان يعتبر السينودوس والارشاد حالة مسيحية او كاثوليكية (اي طائفية) ان معيار الحوار والوطنية والانفتاح في اي عمل او اطار او مشروع ليس في الاسم الذي يحمله، او في الشعار الذي يرفعه، او الادعاء الوطني الكلامي، وليس في مجرد تكوينه المختلط او سعيه للتنسيق مع الآخرين، وانما يتمثل أساسا في اطروحته "الوطنية الوفاقية الحوارية المنفتحة"، وفي حرصه على إشراك الآخرين في الرأي والمشورة وفي العمل والممارسة.. وقد علّق الامام شمس الدين على الارشاد الرسولي حين صدوره بالقول انه يلتقي معه في كل ما يخص البعد الوطني والبعد الروحي والثقافي والفكري، طالما ان الابعاد الاخرى الدينية والكنسية هي من خصوصيات اصحابها. يومها دعا الامام الى ضرورة ان يتعلم اللبنانيون معنى احترام الخصوصيات الثقافية الدينية للجماعات المكونة للبنان، وأن يحرصوا على توفير شروط حرية ممارسة تلك الخصوصيات ليس بالخطب الفارغة أو اللغة الخشبية (والتي كان يسميها: لقلقة اللسان) وليس بتربيح الجميل او المنة، وانما في الوعي والسلوك العمليين وفي الحب العميق والاحترام الصادق وفي ذلك قاعدة لبناء الصيغة السياسية اللبنانية الفريدة القائمة على احترام التعددية الثقافية وعلى الديموقراطية التوافقية وعلى الانفتاح والتجدد وملاقاة طموحات الشباب وآمال التغيير ضمن إطار الحرية والديموقراطية والازدهار لشعوب المنطقة العربية. وقد أشار الارشاد الرسولي (كما السينودوس) الى هذه المعاني (الواردة في وصايا الامام وفي إرشاد خاتمي)،بتأكيده على "بناء نظام سياسي واجتماعي عادل ومنصف يحترم الاشخاص وجميع الاتجاهات التي يتألف منها البلد". وكان الامام شمس الدين قد دعا وفي مناسبات عدة الى احترام خصوصية لبنان وخصوصية الجماعات المكونة له، وإلى الكف عن إطلاق الدعوات التي تخيف او تنفر: "لا نريد أبدا ولا نرضى أبدا ان يكون هناك اي خطاب سياسي او تعبوي يجعل المسيحيين يندمون او يترددون في خيارهمم الذي اختاروه في هذه الصيغة الجديدة (الطائف)"..وفي مواجهة الفساد والإفساد وهما السمة المميزة للطبقة السياسية الجديدة، دعا الارشاد الرسولي "العاملين في الشأن العام الى احترام بعض الموجبات الاخلاقية وأن يُخضعوا مصالحهم الخاصة او الفئوية لصالح امتهم.. وأن يتجاوزوا السلوك الاناني"، وأكد على "انه يجب على كل شخصية عاملة في الشأن العام، سياسية كانت ام دينية، وعلى كل فريق، ان يحسب حسابا لحاجات الافرقاء الآخرين ولتطلعاتهم الشرعية"..
ويبدو ان المسؤولين عندنا، وهم ممن يطبل ويزمر للارشاد الرسولي، لا يقرأون الا الأدعية الواردة في الارشاد او مقاطع من الانجيل او التوراة.. فهم لا يعترفون بوجود خلل في البلاد، او اختلال في الحياة العامة.. ولا يقرون بأنهم ضربوا ويضربون عرض الحائط بكل موجبات التوازن واحترام الآخر والمصالحة لا بل وبكل متطلبات ميثاق العيش المشترك.. ورغم ذلك فهم لا يستمعون الا الى ما لا يقصدهم في الارشاد الرسولي.. فكيف اذا قرأوا ايضا: "لا يمكن ان تُمتهن بلا عقاب حقوق وواجبات الاشخاص والجماعات الثقافية والدينية والشعوب.. وتجاهل ذلك يقود حتما الى فقدان الشعب بكامله الثقة بالمؤسسات الوطنية بشكل حتمي."
اننا جميعا مسؤولون حقا عن الجميع، هذا ما قاله الارشاد وهو جاء على لسان الامام شمس الدين حين قال :"اننا مسؤولون عن بعث لبنان من تحت الرماد، وإحياء دوره وتجديد معناه، وتطوير صيغته وبناء مؤسساته. وهذا لا يكون الا بالحوار، عبر انفتاح القلوب على بعضها البعض وانفتاح البصائر على المستقبل فلا نبقى مشدودين الى الماضي ولا نقفز الى المجهول"(خطبة العاشر من محرم 1993).. ويوم دعا الامام الى "التزام كل فريق الفريق الآخر، على قاعدة الحقوق المتساوية للجميع والواجبات المتساوية للجميع والكرامة للجميع"... ويوم قال "ان لا لبنان من دون مسيحيين كما لا لبنان من دون مسلمين"(يوم انتخابه لرئاسة المجلس 18/3/1994( ، وهي الجملة التي نقلها الارشاد الرسولي على لسان المسلمين، ونقل معها قول الامام: "لا معنى للبنان دون مسيحيين.. معنى لبنان لا يكتمل الا بالمسلمين والمسيحيين معا."
وإن دعوة الارشاد الرسولي الاساسية هي دعوة المصالحة والسلام والتي تقوم على التوازن والعدالة والكرامة.. وهذا "يتطلب ألا يعتقد احد ان موقعه الخاص يحتمل ان يسوغ له البحث عن امتيازات له او لطائفته، بإبعاد الآخرين... ان التزام السلام من قبل الجميع يقود الى مصالحة نهائية بين جميع اللبنانيين وبين مختلف فئات البلد. ان المصالحة هي السبيل الى سلام وطيد يقوم بين اللبنانيين"(الارشاد)..
وكان الامام قد أعلن وبوضوح "اننا جميعا، مسلمين ومسيحيين في شراكة حقيقية، للحياة وللمصير، اما ان ننسجها معا خيطا خيطا او لا تقوم لنا قيامة.. اما ان ننهض جميعا ومعا او نسقط واحدا واحدا... ان اي طائفة لا يمكن ان تنجز مشروعا خاصا بها.. وإن حاولت ذلك فستخلق حالة دمار شامل ولن ينجح هذا المشروع... ان المسلمين على وعي كامل ان لا كرامة لوطن يشعر بعض ابنائه بانتقاص كرامتهم، ولا أمن لوطن يشعر بعض أبنائه باختلال أمنهم، ولا قيامة لوطن يشعر بعض ابنائه بانتقاص حقوقهم... ان الشكوى يجب ان تُسمع وان الخلل ان وُجد يجب ان يصحح لتستقيم الاوضاع ويتحقق معنى لبنان... ومن هنا دعونا وندعو الى المصالحة الوطنية الشاملة، ورحبنا وما زلنا بالسينودوس" (كلمته أمام مؤتمر الحوار الدائم،مدرسة الحكمة 22/5/1994).
وكان الامام، رحمه الله، عميقا وحازما في تشخيصه الحاسم للمشكلة اليوم: "ان نجاح الصيغة الجديدة للبنان بعد الطائف هو مسؤولية المسلمين وليس مسؤولية المسيحيين من هنا قلنا ونكرر وسنظل نكرر ان طريقة المسلمين في المشاركة في عملية الحكم والادارة وفي الخطاب السياسي وفي الخطاب التعبوي يجب ان تأخذ في الاعتبار هذا الامتحان"...
نعم وانه لامتحان كبير وخطير.. ومن هنا دعوة الامام "السياسيين والقياديين في لبنان، الى ان يباشروا الامور برفق وألا يدفعوا الامور نحو أزمة في ما يتعلق بالاختيارات الكبرى في شأن الدولة والمجتمع، وان تكون روح الحوار والانفتاح والاخلاص لهذا البلد ولشعبه الذي يستحق كل التكريم، ان تكون هذه الروح هي الحاكمة".
"لن يكون لبنان مسيحيا ذا وجه عربي او اسلامي، ولن يكون اسلاميا ذا وجه مسيحي او اوروبي... لبنان هو لبنان. هويته تتكون من تنوعه. ومن هنا أقول: اذا كان الخطاب السياسي الاسلامي يعاني من خلل ما، فعلى القيمين على هذا الخطاب في الحكم والمجتمع ان يعيدوا النظر في عناصره لكي نخرج نهائيا من عقلية الفتنة وندخل بصورة نهائية في آفاق الوحدة والتعاون لتثبيت وترسيخ صيغة العيش المشترك التي ينفرد بها لبنان في العالم"..(قرية بنهران الشيعية ، الكورة، الاحد 22/9/1991(..
ولم يكتف الامام شمس الدين بهذا القدر من الوضوح والشفافية ومن العدل والانصاف ومن الكرامة والانسانية، بل هو أكد مرارا وتكرارا على أهمية الصيغة اللبنانية وضرورة حفظها وتطويرها.. وتذكرون كيف انه امتلك شجاعة التراجع عما كان يدعو اليه (مشروع الديموقراطية العددية) وشجاعة الإعلان عن هذا التراجع، والقول بأنه "تبصّر" ودرس الحالة اللبنانية، فدعا في آخر أيامه الى "خصوصية لبنانية"،جعلته يقول بأنه لو حصلت وحدة عربية شاملة فسيكون هناك دولتان عربيتان مستقلتان: دولة الوحدة، ودولة لبنان. وقوله ان لبنان ليس فقط حاجة وطنية لبنانية، بل هو ضرورة عربية وإسلامية. وقد صاغ في وصاياه الاخيرة رؤيته للمشاركة والشراكة في أروع صياغة انسانية حضارية تجاوزت كل المألوف الاسلامي والمشهور العربي وحتى اللبناني فقال":أدعو المسلمين اللبنانيين والعرب الى الحرص الكامل التام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان، وعلى تكاملهم وعلى شعورهم بالانتماء الكامل، والرضى الكامل، وعلى عدم اي شعور بالاحباط، او بالحرمان، او بالنقص، او بالانتقاص، او بالخوف على المستقبل وما الى ذلك". ولم ينس الامام التذكير بأن "هذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة، وعلى الحس الانساني فقط، وإنما هي قائمة على حقائق موضوعية اساسية لا بد من مراعاتها"... فالهدف ليس حفظ المسيحيين كوجود مادي، وإنما الوجود والحضور معا، "والفاعلية والدور في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم"، أي ليس فقط في لبنان، وليس فقط كوجود وإنما كفاعلية وكدور وكشراكة وكصنّاع قرار وقادة لحركة التاريخ العربي والاسلامي.
الأمير شكيب أرسلان: رائد النهضة الاسلامية التنويرية التجديدية
الأمير شكيب أرسلان: رائد النهضة الاسلامية التنويرية التجديدية
- ورقة قدمت الى مؤتمر عقده معهد الدراسات الاسلامية في جامعة المقاصد،تموز 2002 سعود المولى
في العام 1918 اُسدل الستار على” الامبراطورية العثمانية “ التي انهارت تحت وطأة ضربات الامبرياليات الغربية إثر الحرب العالمية الاولى (1914- 1918) .. وفي الفترة ما بين الحربين الكونيتين (1918-1939) عرفت البلاد العربية عشرات الثورات وحركات التمرد والممانعة الشعبية التي قُمعت بالحديد والنار وأُسست لتجذر حالة العداء للغرب في الاوساط الشعبية ولدى النخب المسلمة.. والى جانب حركات المقاومة المسلحة ، والتمرد السياسي الجماهيري ، شهدت البلاد العربية أيضا" حركة فكرية – سياسية ناهضة حملت راية الصراع ضد "التغريب“ و”التبشير“ وضد الاستعمار السياسي والامبريالية الثقافية على حد سواء...وقد مهّدت هذه الحركة بشعاراتها ونضالاتها لظهور حركة الاحياء والنهوض الاسلامي العام .. وكانت مصر هي الارض الخصبة لتلك الحركة ، وكان الامير شكيب أرسلان أحد كبار فرسانها لا بل فارسها المبرز.
1- مصر بين تيارين :
ظهرت بدايات الصراع بين التيارين الكبيرين في الفكر العربي المعاصر، خلال المرحلة العثمانية وبالاخص خلال فترة عمل المجدد الشيخ محمد عبده (مفتي الديار المصرية لاحقاً)،بعد عودته من المنفى وتعاونه مع اللورد كرومر(1). ذلك ان ” محمد عبده قد استعاد وطوّر فكر الافغاني بعد نزع طابعه الثوري عنه . وقد استمر عمل عبده التجديدي حتى وفاته عام 1905 حيث كان قد أصبح داعية ( أو رسولا") للتطور البطيء والمتدرج للاسلام ولتوافقه مع العالم المعاصر “. ويمكن القول بايجاز ان عمل محمد عبده قد مهّد ” وهيّأ الاذهان وان بصورة لا واعية ، لتقبُّل فهم جديد للدولة والدين يختلف عن فهم القرن السابق “ (2) .
ولعل هذا ما يفسّر كيف ان كل اطراف الصراع اللاحق ( العلماني –الديني ) ادّعوا الانتساب الى مدرسة محمد عبده. فمن جهة ظهرت المدرسة السلفية التقليدية على يد رشيد رضا والمنار وعلى قاعدة تعاليم ” الاستاذ الامام “ . ومن جهة مقابلة تطورت مدرسة الحداثة والعصرنة مدعية الاستناد الى تنوّر محمد عبده لتبرير طروحاتها وخصوصا" من طرف طه حسين وعلي عبد الرازق باشا واحمد لطفي السيّد. وبين الاثنين وقف الأمير شكيب ارسلان مكملاً ومجدداً ومطوّراً رسالة الأفغاني-عبده-رشيد رضا،في ظروف دولية وعربية جديدة مختلفة،الأمر الذي يجعله بحق رائداً من رواد الفكر الاسلامي التنويري التجديدي،وأستاذاً لجيل كامل من كبار العظماء في هذا السبيل..
وما كان جديدا" وحاسما" في ملامح تلك المرحلة هو كونها تختلف اختلافا" كبيرا" عن مرحلة الأفغاني-عبده . ذلك ان تغيرات عنيفة كانت قد حدثت منذ مطلع القرن العشرين . ففي زمن الافغاني وعبده استقر نوع من التعايش أو التساكن بين نمطين ، ومجتمعين ، وسلطتين : نمط الخلافة والاسلام والتقليد من جهة، ونمط اوروبا والغرب والعصرنة من جهة ثانية . أما بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال وتجزئة البلاد العربية ، فلم يعد الغرب يقبل بالتساكن او التعاون ( الذي طرحه عبده) وانما بالاستسلام الكامل والتخلي عن الهوية والتاريخ والثقافة ..وكان ذلك يحمل سمة الامبريالية اعلى مراحل الاستعمار على حد وصف لينين..ومن غير الأمير شكيب يستطيع التقاط تلك السمات الجديدة وهو الذي عاش في الغرب وخبر سياساته وأفكاره وكان له التجارب الكثيرة مع البلشفية والفاشية والديمقراطية الغربية بكل الوانها وتفاصيلها،كما كان له التجربة والتاريخ مع الاسلامية العثمانية والتركية الطورانية والقومية العربية...
وهو أيضا أول من أدرك سبب تطور الوطنية المصرية على قاعدة الاسلام ، بخلاف القومية العربية التي تطورت في بلاد الشام على قاعدة رد الفعل ضد الاستبداد الحميدي(1876-1908)، ثم بعد 1908 ضد الدكتاتورية والتتريك الذي مارسته جماعة تركيا الفتاة.
لقد تمظهرت الوطنية المصرية الاسلامية في المشاركة الشعبية ابان الحرب الليبية
(1911) ثم حرب البلقان (1912) وهي مشاركة كان للأمير شكيب الدور الرائد فيها إن على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة العملية حيث قاد كوكبة من المتطوعين من دروز الجبل للجهاد في ليبيا آنذاك،كما قاد الحملة الشعبية العربية لمساعدة منكوبي البلقان من المسلمين. كما شهدت المرحلة ما بين 1911 و 1922 تطور التيار الشعبي المصري المؤيد لتركيا ،حتى الكمالية، في حربها التحريرية الاستقلالية . ذلك ان مصر التي كانت أصبحت محمية بريطانية منذ 18 ديسمبر 1914 ، ظلت تخفق بالأمل لحصول انتصار عثماني ضد الغربيين . وكانت هزيمة 1918 بالنسبة لمسلمي مصر هزيمة لهم وللاسلام ونقطة البداية للحملة التغريبية لسنوات 1922-1929.
ولقد تابع المصريون بقلق وخوف التطورات الداخلية في تركيا بدءاً من الدستور الجديد لعام 1922 الذي يفصل الدولة عن الخلافة ، ومرورا" باعلان الغاء الخلافة (3 آذار 1924) وانتهاءً بالغاء اعتبار الاسلام دين الدولة في تركيا ( 10 نيسان 1928).
وكانت الصدمة كبيرة على المصريين وهم يرون أعمال اتاتورك في فرض القبعة وتغيير الابجدية الى اللاتينية وفي الغاء العربية والآذان .. وهكذا نشأت القاعدة الشعبية للمجابهة المقبلة بين الاسلام والتغريب الاستعماري.
” لقد أدت جملة من التطورات والاحداث بدءا" من عام 1922 الى ان تتقدم مصر لتتبوأ موقعها في قيادة الدفاع عن المسلمين الخاضعين للامبريالية الغربية. وهي لم تتردد في استلام هذا الدور الذي يعود اليها بالفعل خصوصا" بعد قطيعة تركيا مع الاسلام (3). وهكذا التف المصريون حول ثورة الريف في المغرب بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي (1920-1926) والثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش (1925) حيث تظاهروا وقاموا بجمع التبرعات واستقبلوا قادة الثورتين في القاهرة والاسكندرية . وفي مصر انطلقت أولى حملات الدعم لفلسطين وهي تطورت واتسعت بعد حادثة حائط البراق( 1929) والتف المصريون حول قيادة المفتي محمد أمين الحسيني والشيخ عز الدين القسام في فلسطين وحول المطالب السورية واللبنانية والمراكشية التحررية الاستقلالية .
وعكست الصحف المصرية هذا الجو الاسلامي الذي بدأ يغلي منذ عام 1922 ووصل ذروته مع الظهير البربري الذي حاولت فرنسا فرضه في المغرب(1930) . وتؤرخ جريدة المنار، ومن ثم جريدتي الفتح والشورى ( بين 1924 و1930) لتلك المرحلة، وهي صحف تحولت الى ان تكون أداة التعبئة والتحريض في المعركة ضد الغرب وفي شحذ سلاح الوحدة والتضامن بين المسلمين .. ” وكانت تلك الصحف تُقرأ في كل البلاد الاسلامية من أقصى الشرق الى اقصى الغرب ، من الهند الى المغرب .. ومن قراءة هذه الصحف استمدت الوطنية المصرية حيوية وعنفا"(4).
وفي هذا الجو ، ووسط هذا التيار الذي حمل لواء الدفاع عن الاسلام وبلاد المسلمين، والدعوة الى التضامن الإسلامي ، يندرج موقع ودور شكيب ارسلان ، وهو الذي منحه شعبيته الكاسحة في مصر وبلاد العالم الاسلامي ( من طنجة الى جاكرتا وسومطرة).
ويستطيع الدارس لفكر الامير أرسلان ان يلحظ كيف انه تطوّر خلال تلك المرحلة بالضبط، فهو حمل بصماتها وملامح ظروفها ومعاركها . ان فكره هو فكر نابع من المعايشة العملية ، انبنى عبرها يوما" بيوم ، في جو الاعاصير والغليان ، وفي أوضاع الثورة والعصيانات والمواجهات السياسية والعسكرية والايديولوجية . من هنا عدم تشكل فكر ارسلان في كلِّ متناسق متماسك ، أو في نظرية متكاملة أو في برنامج سياسي وايديولوجي (على ما قد يطالب به البعض) . لقد عبّر هذا الفكر عن نفسه في مقالات وسجالات كتبت في أتون المعارك وهي تحمل حماستها واندفاعاتها وتهدف الى تنوير المسلمين وحثهم على الصمود والنضال . انها صرخة انذار مبكر أطلقها مسلم كان يشعر بأن الارض تسحب من تحت رجليه فيفقد الأرض ومعها التاريخ والثقافة والسياسة أمام زحف الطاغوت الاستعماري. . انها دفاع يائس عن العالم الاسلامي ضد مستعمريه في ظروف اختلال كبير لميزان القوى .لقد عرف ارسلان خلال تلك المرحلة كيف يستثير حمية المسلمين وكيف يعرض قضاياهم ومطالبهم وكيف يحدد نقاط ضعفهم وقوتهم وكيف ينشر الافكار والموضوعات التي تستحق التأمل والتطوير وكيف يدعو الى أعمال وينظم معارك ويخوض مواجهات محددة ملموسة ، وكيف ينتقد ويدحض الافكار الخاطئة والممارسات السلبية .. انه مناضل ملتزم بكل معنى الكلمة وفارس نبيل في زمن الهزيمة والتفكك والتطورات المتسارعة (5).
2- حاضر العالم الاسلامي:
ولعل أهم عمل خلّد ذكر الامير ارسلان وأعطاه شهرته الواسعة في العالم الاسلامي هو كتاب حاضر العالم الاسلامي الذي صار ينسب اليه رغم أنه في الأصل ترجمة لكتاب أمريكي أضاف إليه الأمير تعليقات فاقت حجم الكتاب.
يروي عجاج نويهض مترجم كتاب لوثروب ستودارد ، كيف رد عليه الامير ارسلان برسالة مطوّلة حين عرض عليه كتابة مقدمة للكتاب المترجم فيقول ان رسالته له أعطته حجة للكتابة بعد عشرين سنة امضاها ولم ينشر اي كتاب .. وهو في رده يقول لنويهض بان لديه الكثير الكثير ليقوله وليس فقط المقدمة التي يطلبها منه (6).
اما المقالات التي كان كتبها للمنار حول الحرب العالمية الاولى وسياسات تلك المرحلة في سوريا والمشرق العربي فهي لم تكن اكثر من مذكرات نشرها تحت الحاح رشيد رضا نفسه عند لقائهما في مؤتمر جنيف (7). ولم تكن تلك المقالات لتشفي غليل الامير وهو كان لديه الكثير ليقوله بعد سنوات من القمع والكبت ...وهو لم يكن ينتظر اكثر من الفرصة السانحة التي قدمها له عجاج نويهض عند ترجمة كتاب حاضر العالم الاسلامي .. ولعل الامير ” كان يحمل في داخله كل ما يريد قوله او كتابته دون ان يجد المكان او الزمان المناسبين لذلك .. وكان طلبي مناسبة لكي ينفجر في سيل من التعليقات والنصوص “ )8).
تُشكل تعليقات ارسلان على كتاب ستودارد كتابا" كبيرا" مستقلا" ، حيث نجد ان الهمّ او الهاجس الوحيد للامير هو الدفاع عن الاسلام ورد الهجمات والتهم .
وظهرت الترجمة العربية وتعليقات الامير عليها للمرة الاولى عام 1925 ، والطبعة الثانية ظهرت عام 1932. وقد قيل عن هذا الكتاب انه يشكل موسوعة اسلامية صغيرة تطوف بنا ارجاء العالم الاسلامي وتصل الى ابعد الحدود وتجمع بين طياتها معلومات اولية ومكثفة حول كل تلك الاصقاع وحول تاريخ الاسلام والمسلمين . ويقول ارسلان نفسه عن هذا العمل ان مادته هي ثمرة 47 سنة عمل وتوثيق وقراءة وانتقادات وتحاليل(9).وقد كان هذا الكتاب بداية الخطوط العريضة لكتابه التاريخي الذي بين أيدينا:"لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"..ولا يمكن ان نفهم روح كتاب "لماذا تاخر المسلمون" إن لم نقرأ روح افكار أرسلان لتلك المرحلة...
3- الاستشراق والمستشرقون :
فاذا كان هدف تعليقات أرسلان الدفاع عن الاسلام ورد ادعاءات منتقديه فانه يتوجه اولا" الى العرب الذين تركوا الاسلام ولحقوا الافكار والسلوكيات ” العصرية “ و”الحديثة. وهو لذلك يخصص حيزا" هاما" من كتاباته وجهوده للرد على المستشرقين ودحض مقولاتهم ..
” ان تلك المرحلة (1924-1928) قد شهدت أيضا" حملة كبيرة ضد المستشرقين الاوروبيين خصوصا" في الصحافة التي كانت سريعة الشك والاستفزاز .. وهكذا فان اسماء مرغليوث وبرونو وسنوك هورغرونجه كانت تذكر على الدوام باعتبارها اسماء اعداء خطيرين (10).
وقد اهتم أرسلان على الخصوص بدراسة مواقف المستشرقين من السيرة النبوية ، ومن الفتوحات العربية ، كما من السياسة الاجتماعية للاسلام ( التسامح والاخوة ونبذ العنصرية او التمييز) . وايضا" من السجال حول العلمنة بين اوروبا والاسلام .
ولم يكن ارسلان ليعتبر المستشرقين حسني النية رغم اعترافه بفضل الكثيرين منهم لجهة علمهم وحبهم للحقيقة ودفاعهم عن الاسلام .. وهو اعتبر نابليون ” أول المستشرقين “ ، وانه الاكبر ، والبطل ، لانه أراد التحول الى الاسلام وحمل جيشه على ذلك ايضا" (11). أما سبب موقف نابليون فيعود الى ملاحظته عظمة وسرعة الفتوحات العربية الاسلامية وبساطة حياة واخلاق الرسول وصحابته(12). وكان رينيه غروسيه قد ذكر نفس الافكار في كتابه ” مدنية الشرق “ فاستحق ثناء ارسلان .. وفي هذا القسم المخصص للحديث عن الفتوحات الروحية والسياسية الاجتماعية للاسلام ، لا يتوانى ارسلان عن كيل المديح والثناء للمستشرقين الكثر الذين يذكرهم بمحبة ليثبت ان الغرب نفسه قد أقرّ بعظمة الاسلام الروحية والاخلاقية وبأن سر فتوحاته وانتشاره السريع والسلمي يعود الى تلك العظمة بالذات (13).. ولكن نفس هؤلاء المستشرقين الذين يمدحهم أرسلان ( غود فروي دومومبين - دو ساسي - كاترمير- دو برسفال – رينود –دوسلاين- دوزي – نولدكه – فالهاوزن- دوغوي- غولدزيهر- سنوك هورغرونجه ) يصنّفون ما بين ”منحازين“ و”منصفين“ في مقاربتهم لحياة ونبوة محمد وللخلاف اللاهوتي بين المسلمين والمسيحيين حول الصلب والتثليث وحول طبيعة السيد المسيح
(14) .
وحين يلخص أرسلان عدة مؤلفات ومقالات وكتب ومحاضرات حول النبي محمد فذلك لإظهار تحيّز العديد من المقولات التي تبتعد عن الموضوعية العلمية والتاريخية ..
ولكن المديح الأبرز هو ذلك الذي يخص به مونيه Monet وإتيان دينيه Dinet ( الذي أشهر إسلامه لاحقا") . وكان دينيه قد انتقد معاصريه الذين يحاولون دراسة سيرة الرسول إنطلاقا" من أفكارهم المسبقة وأُطرهم الفكرية الأوروبية . وفي هذا النقد الذي يترجمه ارسلان ويعلق عليه تتردد اسماء دوزي ولامنس ونولدكه وسبرنغر وغريم ودوغوي ومرغليوث. ويحاول ارسلان في تعليقاته ان يبرز اكثر ما يمكن من الآراء والافكار المؤيدة لملاحظة عظمة الاسلام ورسوله . ولكن تعليقه الاهم والأكبر يدور حول كتاب إميل دورمنغهام ”حياة محمد“ (15) حيث نكشف هنا معلومات ومعارف وعلوم الامير في الفقه والحديث والتاريخ حين يقارن ، ويستشهد ، ويعلّق، ويدقق ، كل النقاط الغامضة او الخلافية المتعلقة بحياة ونبوة محمد . انه مختصر مفيد لكل الطلبة والمبتدئين والاجانب او للباحثين الجدد في هذا الحقل .
وحسب ارسلان فان المعيار الحقيقي للتمييز بين مستشرق جيد ومستشرق سيء هو المعيار السياسي . ولذا فانه يذكر على الدوام الموقف السياسي لهذا المستشرق أو ذاك ، حيال العرب والاسلام ، أو حيال قضايا محددة . ومن هنا سبب تخصيصه أشد الهجمات ضراوة للمستشرقيْن مرغليوث وسنوك هورغرونجه : الأول بسبب آرائه التي نقلها عنه طه حسين حول الشعر الجاهلي (16) والثاني بسبب كتاباته عن أندونيسيا (17).
4- البعثات التبشيرية:
وهكذا فان الحرب ضد المستشرقين الأوروبيين يتم خوضها حتى النهاية والنقطة المركزية فيها تتمحور حول سيرة الرسول وهي نقطة تسمح لارسلان بعرض وكشف تحيّز بعض المستشرقين ، وابتعادهم عن الدقة والموضوعية. وهو يعتبر هذا الامر بمثابة تصدّ حقيقي لحملة صليبية جديدة . ولذا فانه يربط بين هذا الأمر ( التصدي للمستشرقين ) وبين المعلومات التي تصله والتي ينشرها في صحف مصر ( الفتح والشورى والمنار وغيرها ) حول نشاط البعثات التبشيرية في افريقيا . وهو يخصص الصفحات الطوال للحديث عن الطرق الصوفية في افريقيا ولدراسة تاريخها واوضاعها (القادرية – الشاذلية – التيجانية- والسنوسية ) خصوصا" من زاوية دفاعها عن الاسلام ووقوفها في وجه التبشير الفرنسي والانكليزي والهولندي وحتى الاميركي . وهنا يتميّز شكيب ارسلان عن موقف الفكر السلفي الذي تحمله الفتح والمنار والذي كان يخوض حربا" ضارية ضد الطرق الصوفية باعتبارها بدعا" ومتهما" اياها بالخيانة والعمالة وبتضليل واضعاف المسلمين . اما شكيب فهو يتعاطف مع هذه الطرق ويبرز الجانب الايجابي في نشاطها في افريقيا لحفظ الاسلام ولوقف تمدد البعثات التبشيرية خصوصا" في الحبشة والسودان ومدغشقر وافريقيا السوداء (18). وفي إطار حملته على التبشير يركّز ارسلان على "تعصّب الاوروبيين وتسامح المسلمين “، مبرزا" تصورات الاوروبيين عن الاسلام والرسول، وحروبهم الصليبية ، ومشاريعهم لتقسيم الامبراطورية العثمانية منذ القرن السادس عشر ( يعددها ويذكر انها مئة مشروع ) (19) وكل ذلك لكي يعود فيرى في الحملات التبشيرية استمرارا" للحروب الصليبية وللتعصب الاوروبي .
والحقيقة ان مقالات ونشاطات ارسلان ضد التبشير كانت في أساس تطورالحركة الاسلامية الشعبية في مصر والبلاد العربية ، وخصوصا" بعد انعقاد ”المؤتمر العالمي للارساليات التبشيرية غير الكاثوليكية “ (انعقد في القدس بين شباط وآذار 1928) (20) .وقد كان تشكيل جمعيات الشبان المسلمين والشابات المسلمات في مصر وفلسطين رداً عملياً على جمعيات الشبان المسيحيين والشابات المسيحيات وعلى جمعيات التبشير..ولا ينبغي ان نضع ذلك في خانة التعصب والتبشير أو الدعوة الاسلامية وانما في خانة رد الفعل على نشاط تبشيري كان غطاء للنشاط السياسي والاقتصادي والثقافي للاستعمار الجديد في تلك الايام،وخصوصاص في افريقيا وبعض بلدان آسيا.
ففي وجه التبشير المسيحي، وصف شكيب أرسلان أتباع الطرق الصوفية بانهم” مبشرو الاسلام“ ودافعَ عن نشاطهم ودعمهم لانه رأى ان ذلك وحده منعَ تدمير الاسلام في افريقيا (21).ونحن نلحظ أثرَ هذا الموقف الارسلاني المخالف للموقف السلفي التقليدي(موقف رشيد رضا تحديداً والوهابية خصوصاً) من الطرق الصوفية ، لدى حسن البنّا الشاب ، في تحديده الاول لحركة الاخوان المسلمين حيث وصفها ، من ضمن أمور أخرى، بأنها طريقة صوفية.
5- عظمة الاسلام وأسباب تخلّف المسلمين:
ولكن الاسلام لم يُدمًر . ذلك انه يحمل في ذاته أسباب تقدمه ( والتقدم والتطور عموما"). واذا كان المسلمون يرزحون في التبعية والتخلف فذلك لانهم تركوا الاسلام ونسوا تعاليمه . ان مثال الحضارة العربية الاسلامية يكفي للتدليل على عظمة الاسلام وعلى المساهمة العربية الاسلامية في الحضارة العالمية وفي تطور العلوم والطب وغيرها.. وأرسلان يدعّم تأكيده بالاستشهادات المطولة المترجمة عن المجلات الطبية والعلمية الاوروبية . وهو يسهب في مديح وفي وصف الخدمات الجُلّى التي قدمها الفلاسفة والعلماء العرب والمسلمون للبشرية (22).
وحين يحدثنا الامير عن ”الخلافة والملك“ فإنه يستذكر تجربة الخلفاء الراشدين، واضعا" الاسس لخلافة حقيقية،شوروية ديمقراطية غير استبدادية ولا الحاقية.. وهو يصف كل الحكومات الاسلامية المتعاقبة على مر التاريخ بالملك ، والمملكة ،او بالامبراطورية (23).. وقد لاحظت استعادة وتطويرا" لهذا الفصل ولموضوعاته الرئيسية ، في العمل الخطير للشيخ ابو الاعلى المودودي والذي تحجمْ الجماعات الاسلامية ودور النشر عن اعادة طبعه وعنوانه : الخلافة والملك (24)..
وفي تأكيده على عظمة الاسلام ، يستعرض أرسلان ايضا" تاريخ النهضة الاسلامية واعلامها(منذ القرن الثامن عشر) وحركاتها ( الثورات في روسيا، السنوسية، المهدية، الوهابية ،الطرق الصوفية في افريقيا) ليصل الى عرض فكرة الجامعة الاسلامية والصراع الذي شهده القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بين الاسلام والاستعمار الغربي ..
وفي هذا السياق يُبرز الامير حالة العالم الاسلامي الحاضرة من احتلال وتجزئة واستغلال ، ويدعو الى عمل انقاذي والى نهضة حضارية شاملة ليس فقط للبلاد العربية وانما ايضا" للمسلمين وللاسلام على العموم وفي كل مكان (25).. وهو لا يدعو الى الدفاع فقط عن التراث الثقافي والادبي والسياسي وانما يشمل بدعوته كل ما له علاقة بالاخلاق وبنظام الحياة وبالاذواق وحتى بما يسميه البعض شكليات . فهو يدافع مثلا" عن الثوب الشرقي ضد الغربي(26) وهو يتصدى لمن يدعو لتقليد اتاتورك في فرض القبعة الغربية كلباس للرأس بدل الكوفية او العمامة(27). لا بل انه يكتب في العام 1926 مقالة عن اللباس الصحي وعن الغطاء الصحي للرأس ، اعتراضا" على قرار الجمعية الطبية المصرية إعتبار الطربوش غير صحيا" واعتبار القبعة أفضل لحماية الرأس من حرارة الشمس . وفي مقالته المذكورة لا يتوقف ارسلان فقط عند الاعتبارات الصحية وانما يركّز نقده على مسألة ”التقليد الاعمى للغرب“ والذي يقوم به الشرقيون دون اعتبار لعوامل الثقافة واللغة والدين والاخلاق واختلاف الازمنة والامكنة..
وهو يرى ان الكثير من عاداتنا وتقاليدنا هي أفضل للصحة من تلك التي عند الاوروبيين ومع ذلك فانهم لا يقلّدوننا . ويدعو ارسلان الى ان يبقى الشرقي شرقيا" والى ان يحافظ على عاداته وتقاليده وعلى كل ما يبعده عن الذوبان في شخصية غيره اللهم الا اذا ثبت بان ذلك مخالفة لمصلحة معلومة او لمعرفة موثوقة .. وهو يرى في التزيي بازياء الغرب أكان في الملبس او غطاء الرأس تقليدا" غبيا" يصدر عن نفوس مريضة ترى العصرنة تقليدا" أعمى في حين انها امتلاك للعلوم وللتقنيات العصرية ومعرفة بحقائق الوجود والكون الجديدة وبكل ما يتجدد في حقول المعرفة والمكتسبات العلمية (28).
دعوة أرسلان هي اذن الى التمسك بالهوية ، بالذات الثقافية التاريخية ، والى عدم التقليد الاعمى للغير ، والى التبصر والتعقل في اختيار النافع والجيد مع الاحتفاظ بشخصيتنا وبخصائص هويتنا.. انها دعوة للحاق بالغرب في مجال البحث العلمي الدقيق الذي يجعلهم لا يقبلون أي نظام وأي قانون الا بعد اختبارات طويلة وأبحاث عديدة تهدف الى استجلاب ما هو صالح ونافع.. وهو يقول بان هؤلاء الغربيين قد احتفظوا بكل عاداتهم وتقاليدهم وظلّوا غربيين . وان علينا ان نبقى شرقيين مع تطوير علومنا ونقاط قوتنا وابحاثنا ودراساتنا وتجاربنا وان نقوّم الماضي من التجارب ومن التاريخ ومن الثغرات ومن الضعف (29) .ويستند الأمير شكيب الى الديمقراطية الغربية للحديث عن الديمقراطية العربية وعن الشورى الاسلامية وللدعوة الى الخذ بهذه السباب للتقدم والنهضة.. وفي هذا نفس كلام الامام المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين حين كان يردد أن علينا استماع القول واختيار أحسنه..وأحسن القول الغربي اليوم هو الديمقراطية المرتكزة الى اصالة الشعب وهويته وتراثه وحراكه الاجتماعي التاريخي..وأن العلوم مشاع للبشرية إذ الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها..والمسلم مأمور بطلب العلم ولو في الصين..ومأمور بالعلم والمعرفة إذ هما خير عبادة..
وينصح الأمير شكيب المسلمين باستعادة وباستيعاب العلوم الاوروبية مع البقاء هم ذاتهم اذ انه يعتبر انه ليس هناك من علم غربي وعلم شرقي فالعلم انساني وعالمي(30) واوروبا الحالية تدين في علومها وتقدمها للحضارة الاسلامية . واذا كان الغرب اليوم قد سبق الشرق في العلوم المادية فانه يظل متخلفا" عنه وتابعا" له في حقل العلوم الانسانية والروحية والفنية ، وخصوصا" الفلسفة والمنطق ، ذلك ان الشرق هو مهد الحكمة والحضارة(31) . واذا قام المسلمون باستعادة بعض ما لهم عند الغرب فان ذلك ليس نهبا" او سطوا" بقدر ما هو تعارفا" وتعاونا" اذ ان العلم مشاع للانسانية جمعاء (23).
ولعل أخطر وأهم ما كتبه ارسلان في هذا المجال هو كتابه الذائع الصيت : ” لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم ؟ “ وهو كان الى فترة طويلة دليل عمل الناشطين والدعاة والحركيين الاسلاميين لا بل انجيلهم الثوري ..وقد اتيح لي شخصياً معرفة مقدار تأثير هذا الكتاب على شخصيات تاريخية وحركات نضالية نهضوية في المغرب كما في اندونيسيا ، وفي مصر كما في البوسنة والهرسك وكوسوفو.. ان سؤال ارسلان عن اسباب التقدّم والتخلّف هو سؤال النهضة الاسلامية الذي بدأ مع الأفغاني – عبده ولم يتوقف الى اليوم :
كيف انطفأت تلك الحضارة العظيمة وتلك الامة الذكية الحية المتوهجة ؟ ما هو الداء الذي أصاب الامة وأوقعها في الفوضى والجهل والضعف ؟.
ان ارسلان هنا يؤسس لفكر الحركات الاسلامية التنويرية التجديدية النهضوية التي ترفض الظلام والظلامية والتعصب والغوغائية.. فهي حين تجد في ابتعاد المسلمين عن تعاليم دينهم سبب انحطاطهم وانهيار مجدهم التليد لا تدعو الى الانغلاق على الماضي والتاريخ واجتراره وانما الى التقدم صوب المستقبل برؤية واثقة قوية عادلة متوازنة اساسها الاخلاق الانسانية. وارسلان يتحدث عن الجانب الاخلاقي ونظام القيم الاسلامي الذي مكّن العرب من فتح العالم في فترة قصيرة من الزمن (33) وهذا النظام القيمي وتلك المبادئ الاخلاقية هي من صنع الاسلام ، المحفوظ في القرآن الذي لا يتغيّر ولم تتغيّر نصوصه فكيف اذن انحدر العرب والمسلمون الى الهاوية العميقة التي هم فيها اليوم ؟ الجواب على ذلك ان المسلمين هم الذين تغيّروا . وا ن أوضاعهم لن تتحسن ما لم يقوموا بتغيير جديد وشامل في انفسهم أولا" مصداقا" لقوله تعالى : لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم
(34). وهذا التغيير هو أولا" وقبل أيّ شيء آخر أخلاقي يطال القيم والمبادئ والسلوكيات ليجيب على الاسباب الاخلاقية للانحطاط والتخلّف . فلقد فقد المسلمون من ضمن ما فقدوا الحماسة والشجاعة والتعاون والتكافل والتضحية (35) وحلّ بهم الخوف والجزع فهادنوا الاستعمار الفرنسي والبريطاني في المغرب وسوريا وفلسطين(36).
وأصبح الجبن والتخاذل شعارهم بعد ان كانوا يُعرفون بالإقدام والجرأة . واذا اضفنا الى ذلك: الجهل او بالاحرى ” المعرفة الناقصة “ التي هي أخطر من الجهل ، لعرفنا اي وضع صار اليه المسلمون في العالم اليوم وما سبب ما آلوا اليه (37). وهكذا حلّ اليأس والتشاؤم ، واصبح العلماء يداهنون الحكام ويتقربون منهم ، وصار الناس يرون قوة الغرب لا تقهر والمقاومة فعل انتحار فاستسلموا للتخلّف والهوان(38).. وحسب ارسلان فان الاسلام ضاع ما بين جاحد وجامد.. الجاحدون يريدون نفي وتدمير الشخصية والهوية والتاريخ وكل ما قامت عليه الامة. في حين لا يريد الجامدون تغيير افكارهم ولا يتركون غيرهم يتغيّر (39). لقد ضربت كل هذه الامراض الامة في ظروف مصيرية حاسمة . ذلك ان عمل المسلمين ” الجغرافيين “ ) كما يسميهم أرسلان ويقصد بهم المسلمين بالهوية ومكان الاقامة) قد جاء ليضاعف الازمة اذ هم يتقربون من الفرنج ويخضعون لهم وينشرون سياستهم العلمانية الالحادية مدعين انها وحدها طريق الحصول على القوة والتقدم . ان هذا التغريب وتلك الدعوة الى التحرر من سطوة الدين والتقاليد تخالف حتى ما ذهب اليه الغربيون من عدم السير في طريق محفوف بالشكوك والمخاطر وغير معروف العواقب ، وفي التمسك والدفاع عن ثقافتهم وتقاليدهم وتاريخهم . ولو كان ” المسلمون الجغرافيون “ صادقين وأمناء ومحترمين لكانوا قلّدوا اليابان التي عرفت كيف تستحوذ على كل مكتسبات ومنجزات الحضارة والعصرنة الغربية دون ان تفقد مع ذلك هويتها وشخصيتها ودون ان توصف بالرجعية..
كما ان هناك مثال الشبيبة اليهودية ورئيسها وايزمن الذي يناضل لاعادة إحياء اللغة العبرية حتى تكون الرابطة التي توّحد اليهود وقاعدة عملهم لانشاء دولة لهم في فلسطين . وهكذا ومع ان اليهود يطالبون بانتمائهم وانتسابهم الى قبائل والى لغة لا يُعرف مبدأ تاريخها لتوغلها في الزمن لتكون قاعدة لوحدتهم في النضال فانه لا يُقال عنهم انهم رجعيون او متأخرون (40).
لقد أصبح المسلمون جبناء ، يخافون وييأسون ، وفقدوا الثقة بانفسهم وبدينهم ، وبالغوا في تضخيم الشعور بالعجز امام الغرب والاتكال على القدر والمعجزات .. ان هذا هو سبب الخمول والتأخر ولذا فان النهضة لا بد أن تبدأ باعادة الاعتبار الى قيمة اخلاقية اسمها التضحية .. انها الجسر الذي يقود المسلمين الى التقدّم .. وهي هنا العمل والجهاد بمعناه الاوسع والاكثر واقعية اي بذل الدماء والاموال والاملاك لبناء قواعد صلبة لنهضة حقيقية (41).
بهذه المعاني الثورية خاطب أرسلان جيله والاجيال الشابة مؤسسا" لفكرة مركزية في العمل الاسلامي النهضوي التنويري الذي استعاده الشهيد كمال جنبلاط كما استعاده أئمة الفكر الاسلامي المعاصر وعلى رأسهم موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين..انها فكرة التواصل والتفاعل بين الحضارات والثقافات لخير البشرية وللسلام بين الناس.
6- علمنـــة أم إلحـــاد:
في تلك الايام العجاف التي اشتد فيها ساعد الغزو الامبريالي وطاغوته،انقسم المثقفون في مصر ،حتى وصلت السجالات والصراعات الى ميدان اللغة العربية ، وتاريخ مصر، والهوية الفرعونية ، والثقافة الاسلامية ، والفصحى والعامية . (42) . وقد رأى الامير أرسلان في الحملة التغريبية والغربية على مصر صورة جديدة من صور الغزو الصليبي تستهدف الهوية الاسلامية والعربية .فكان كما وصفته جريدة الفتح ” على رأس المجاهدين المسلمين المدافعين عن الاسلام والثقافة العربية “ (43) وهو وضع قلمه وحماسه وسمعته في خدمة انتصار الاسلام في هذه المعركة التي وجهها ضد الغرب الذي اعتبره رأس الشر ، في حين ان الشرقيين ليسوا سوى مقلّدين مبهورين باسطورة العصرنة والحداثة والعلمانية التي هي اكذوبة تضحك بها اوروبا علينا حيث ان مثقفينا الشرقيين المبهورين بهذه الاسطورة يصدقون كل ما يأتي من هناك . وحسب الامير فان اوروبا التي تتحدث عن الحريات الدينية لا تطبق ما تدعي تعليمه للآخرين . ذلك ان اوروبا يحكمها العقل والعقل لا يسمح بالحرية المطلقة فهو في اللغة العربية يعني الربط ( عَقَلَ) الذي هوضد الاطلاق والتحرير . ويذكر ارسلان لتدعيم رأيه مثال سويسرا المحافظة جدا" في مجال حرية الاديان والدعاية الدينية (44) .
وما هو مهم عند ارسلان هو تبيان وكشف الصلة الوثيقة ما بين الايديولوجية والسلطة ، وما بين الدين والدولة . وهو لا يكتفي بعرض وجهة نظر الاسلام في هذا الخصوص وانما يجهد لتقديم اثباتات وشهادات من الغرب ومن السياسات الاوروبية لاقناع اولئك الذين لا يقبلون الا الدليل الذي يحمل العلامة الاجنبية ” صنع في اوروبا “. ان الفصل بين الدين والدولة في الغرب هو اكذوبة ووهم وهو لا يعدم الامثلة الكثيرة على ذلك (45) .
فهو يكتب عام 1929 وبمناسبة الاتفاق المعقود بين البابا والحكومة الايطالية والذي يعطي الفاتيكان الكثير من الجاه ومن الحقوق ، ويعلّق على ملاحظة وردت في جريدة الوقت ( لو تان) الفرنسية قالت بان محتوى الاتفاق المذكور يعني ان الحكومة الايطالية الفاشية تقبل بالكاثوليكية كديانة للدولة ، فيكتب الى الملحدين باسم العصرنة ، والى العصريين الذين لا يهدفون سوى الى تعميم الالحاد كيف ان الحكومة الموصوفة بالعداء للدين تقرر العودة الى الدين والمحافظة على كنيسة عمرها حوالي الالفي عام وكيف ان ذلك لا يؤثر في شيء على تقدميتها وعلى ماديتها العلمية . وهو طبعا" يعقد مقارنة بين ما حصل في ايطاليا وبين ما يطالب به بعض الشرقيين من فصل بين الدين والدولة (46). وهذا يعني بالنسبة اليه خطل الادعاء بان الدين لا يمكن ان يتعايش مع التقدم ، وبان الايمان الديني خاص بالشعوب المتخلفة والامم الضعيفة ويكفي في ذلك مثال قرار الحكومة البلجيكية مساعدة البعثات التبشيرية المسيحية في الكونغو . فبما ان بلجيكا هي دولة – امة متمدنة ومتطورة فان ذلك يعني ان التطور والمدنية يتعايشان مع الدين .. وان الحكومة تتواصل مع الكنيسة اي ان بلجيكا هي مسيحية وحكومتها لا تخجل من اعلان ذلك ومن تطبيقه (47).
اما حكومة انقرة التي تريد تقليد اوروبا وعلمنة البلاد فان أرسلان يقول لها كيف ان اوروبا هي علمانية طالما ان الحكومة الفاشية الايطالية تصدر طابعا" بريديا" يحمل صورة الصليب والانجيل وعليهما كلمة ” ايمان “ .. وهذه الحكومة المؤسسة على مبادىء الكاثوليكية هي علمانية في نظر انقرة (48). واذا كان العصريون المقلّدون للغرب يعتقدون بان الحرية محترمة ومطبّقة في اوروبا فانهم واهمون او مضلَّلون . فالحرية مقيّدة تماما" في اوروبا وذلك بداعي الحفاظ على الوحدة الوطنية في البلاد وحماية امن الدولة . ولكن ايضا" وأساسا" بهدف تغطية عملية النهب المستمرة للمستعمرات. ففي فرنسا يُقدم الى محاكم خاصة كل من يهاجم سياسة الدولة في المستعمرات (49). وفي سويسرا المعتبرة ليبرالية فان القوانين تعطي لكل ولاية ( كانتون) حق اتخاذ كل ما تراه مناسبا" وضروريا" من تدابير لحماية الامن العام والاخلاق والوحدة الوطنية . وهكذا فان اسطورة الحرية في اوروبا هي ثمرة العمل الذكي للمبشرين ( على حد وصف ارسلان) (50) .
ان الاوروبيين فخورون جدا" بدينهم ولا يقبلون المساس به او تركه دون اغاثة . ولهذا فان الحكومة الهولندية تشجع وتدعم البعثات التبشيرية في اندونيسيا ، كما ان الباريسيين يدفعون المساعدات لدعم بعثاتهم التبشيرية في الشرق .. واهالي جنيف يُصلّون في الكنائس لمنع وقوع حرب عالمية جديدة (51). ويواصل الامير في مقالاته في الفتح حملته نحو المتعلمنين حاملي الافكار العصرية ليقول لهم بان اوروبا هي رغم كل شيء مسيحية وبان مدنيتها وعقليتها مستمدتان من الاناجيل والتوراة ، وبان قوانينها هي رومانية (52).
وبمناسبة نشر برنامج الحكومة الالمانية الجديدة والداعي الى استعادة الوحدة الاخلاقية والروحية، يتساءل الامير بسخرية ان كان المتعلمنون المتعصرنون سيقولون بان حكومة المانيا رجعية وبان الامة الالمانية متخلفة وغير عصرية ؟(53). وبالنسبة لأرسلان فان كل سياسة اوروبا مبنية على المسيحية التي تشكل الاساس الثقافي والايديولوجي وضمير الشعوب ، وذاكرتها ، وتراثها ، والقوانين التي تسوس حياتها اليومية . اما الفصل بين الدين والدولة في اوروبا فانه لم يمسّ الطابع المسيحي لتلك الامم ، باستثناء البلاشفة (54) . ان الدولة والدين هما توأم حقيقي رغم كل ما يُقال ويُكتب حول الفصل بينهما عند الامم المتمدنة لكي يظن الشرقيون والمسلمون بان ذلك قاعدة لا تناقش وبان اوروبا مثال المدنية لا تقيم وزنا" او اعتبارا" للدين وبان ذلك هو سر تقدمها وسعادتها .. ولكن رغم ذلك كله فان اوروبا الرسمية ، الحكومية ، والشعبية لم تترك الدين ابدا" ، لا بالامس ولا اليوم (55) .
اذن ، فان الحكومات الشرقية (يقصد تركيا) التي تدعي قطع روابطها بالاسلام تقليدا" واحتذاء″ بمثال اوروبا التي قطعت روابطها بالمسيحية ، حفنة من الكذّابين الذين يضلّلون ويشوّشون افكار السذج من مواطنيهم ويخفون الحقيقة .. ومن يردد ويعمم اكاذيب وترهات تلك الحكومات ، في مصر والبلاد العربية ، هم ايضا" كذّابون ..(56) وهؤلاء ليسوا سوى من يُسمّون انفسهم بالمدافعين عن ” الفكر العربي المعاصر “ . وشكيب ارسلان يصفهم بالكذّابين وهو يتهكم عليهم حين يقول بانه أقسم يمينا" بأن لا يجادلهم إلاّ انطلاقا" من المصادر الاوروبية ، ومن ما تأخذ به اوروبا او تتركه .. فهو لا يقول لهم قال الله او قال رسوله لانهم لا يؤمنون بالله أو برسوله .. وهو لا يقول لهم ايضا" قال جمال الدين الافغاني او قال محمد عبده لانهم لا يأخذون بأقوال هذين الاستاذين المعلمين بل ويحتقرونهما ويحتقرون كل ما هو شرقي .. وهو لا يقول لهم قال ارسطو او افلاطون او ابن سينا او الفارابي لان هؤلاء قدماء والمتعصرنون يحتقرون كل ما هو قديم.. اذن سيقول لهم ارسلان قال المسيو فلان او المستر علاّن .. لان هؤلاء هم اساتذتهم واساتذة الامم التي يدعوننا للحاق بها ..(57) وفي النهاية فان هؤلاء المتعصرنين المتفرنجين ليسوا سوى مجرد مقلّدين ينشرون دعاية لعقيدة وجدت اكتمالها في الكمالية التركية .. فهناك الافعى ، وقائد الاوركسترا ، ولا ينبغي نسيان ذلك .. ومن هنا تخصيص أرسلان بالحملة الاشد عنفا" والاكثر سخرية وتهكما"، للأتاتوركية الكمالية في أنقرة..
7- تركيــا الكماليـــة:
حتى إلغاء الخلافة تعاطف العرب ( وكل المسلمين) مع الاتراك في نضالهم
التحريري ، وقاموا بجمع التبرعات والمساعدات لدعم قضيتهم ونضالهم وخصوصا" في مصر وسوريا (58). ولكن شيئا" فشيئا" ومع انكشاف سياسة الكماليين العلمانية والتغريبية ، بدأ المسلمون يُعيدون النظر بموقفهم ويغضبون ويعارضون حكام تركيا الجدد . الا ان الامير شكيب كان الاول في وقوفه لوحده محذرا" العرب والمسلمين من حقيقة مصطفى كمال والكمالية وذلك منذ عام 1922 . ان عثمانيته العنيفة في مرحلة ما قبل الحرب قد أخلت المكان لعداء عنيف هو الآخر، للكماليين والاتحاديين ، ولتمسك أعنف ايضا" ، لا بل شبه مثالي بالخلافة ”رمز وحدة وقوة الاسلام “ . تحولت الخلافة عنده الى افضل رابطة ممكنة لتوحيد المسلمين .. وهو يستعيد تاريخ دولة الخلافة العثمانية التي جمعت 400 مليون مسلم في حين جاء اتاتورك لتقطيع هذه الرابطة بين تركيا والعالم الاسلامي مدعيا" انه لا يريد سوى الرابطة التركية القومية ومعتبرا" المسلمين اجانب وغرباء ..
ويرى ارسلان في ذلك افتراء على الحقيقة وعلى المصلحة وهو يستشهد بأنور باشا الذي قال في مرة من المرات بان الاتراك الذبن يعيشون في روسيا يتعاطفون مع تركيا ليس لاننا اتراك بل لاننا مسلمون . اما اليقريت الذين يعيشون في سيبيريا والذين هم اتراك مثلنا فانهم بسبب كونهم وثنيون لا يتعاطفون معنا ، ولا يعرفوننا وكذلك الامر بالنسبة الينا. (59)
ان تعلّقه بالخلافة وبدولتها ، لا ولم يفارقه أبدا" ، إذ نحن نجده حتى في كتاباته المتأخرة . ففي عام 1935 وفي كتابه عن احمد شوقي يعبّر عن خوفه على تركيا ويبرز تعلُّق الشعب التركي الى يومه بالعثمانيين(60) . وكان قد كتب عام 1931 بان سقوط الدولة العثمانية التي كانت هي دولة الخلافة ، جاء باناس يريدون تدمير الاسلام واقتلاعه من البلاد الاسلامية وانه في مواجهة هذا الخطر تقف كل الدول الاسلامية عاجزة او تواجه صعوبات تشلُّها عن امكانية التدخّل .(61)
وفي كل كتاباته لا ينفك أرسلان عن استذكار مجد المسلمين في الاندلس وسقوط الخلافة في قرطبة وما تلاه من إذلال للعرب والمسلمين . اما وضع المسلمين اليوم فهو أخطر مما كان عليه ايام سقوط غرناطة . . وذلك ان صفوفهم قد تفرقت وتبعثرت ، ومجدهم قد أفل ، بسبب سقوط الخلافة التي يقول عنها البعض اليوم بانها لم تخدم العرب وانما كانت وبالا" عليهم .. والحقيقة حسب ارسلان هي ان سبب تعاسة وشقاء المسلمين هو تفرقهم وتناقضاتهم ، وخصوصا" العرب منهم ، الذين قال عنهم النعمان ابن المنذر انهم ملوك كلهم .. ا ن امّة يريد كل فرد من افرادها ان يكون ملكا" ينتهي بها الامر لان تخضع للاجنبي وتفقد ملوكها..(62)
ان عداء أرسلان لتركيا الكمالية بعد إلغاء الخلافة لا حدود له . فهو يبدأ بالهجوم ضد مصطفى كمال مذكرا" المسلمين بان هذا الاخير قد قاد حرب التحرير تحت شعار الاسلام ، وانه كان قد أرسل تلغرافا" الى السيد احمد الشريف السنوسي في ليبيا يقول له فيه ان المعركة بدأت ، أنجدنا بصحيح البخاري (63).
وفي مقالة اخرى يقول ارسلان بان مصطفى كمال كان في بداية أمره يشهد صلاة الجمعة والمناسبات الدينية ، ويتحدث عن الاسلام وعن اخوانه المسلمين وعن معركته القادمة لاستعادة القدس ويردد انشاء الله .. ولكنه ما ان وقّّع اتفاقية لوزان حتى غيّر وجهه ، ونسي أقواله لا بل تنكّر لها وعمل بالضد منها (64). ولذا فان ارسلان يعتبر اتفاق لوزان بداية القطيعة بين الاسلام وحكام تركيا . وهو يسميهم ”المسلمين الجغرافيين “ ويتهمهم بالتآمر مع الاجانب في لوزان لالغاء الشريعة الاسلامية من بلادهم على أمل الحصول على امتيازات من الاوروبيين والاندماج معهم ولذلك لبسوا القبعة كعلامة على اندماجهم بالامم الاوروبية(65). وأرسلان الذي يعتبر نفسه مستهدفا" بالموقف اللاديني للكماليين ، لا يترك مناسبة الا ويتصدى فيها لهم . فهو حين يذكر القداديس التي اقيمت لراحة نفس الجنرال فوش ، والاقوال التي قيلت حول مزاياه الكاثوليكية والايمانية ، يختم مستهزئا" بالقول بان النكت حول ان اوروبا قد اصبحت بلا دين وان حكامها تركوا المسيحية وان علينا للحاق بهم في دروب التقدم ، ان نقطع صلتنا بالاسلام ، ان كل هذه المعلومات لم تصل بنجاح الا الى انقره ..(66).
وحين حوّل حكام انقره الزواج من ديني الى مدني ، فان أرسلان يسخر منهم ويتحدث عن الزواج ، وتعدد الزوجات ، والطلاق في الاسلام ليقول بان الاسلام ليس فيه زواج ديني حتى تلغيه انقره ..ان الزواج في الاسلام هو عقد بين اثنين يقره شاهدان عدلان (شاهداك زوّجاك)(67).
وحين يتحدث عن ثورة الافغان التي قامت احتجاجا" على اعمال حكومتهم المنافية لٍتعاليم الاسلام وتقاليده ، فانه يقارن الوضع الافغاني بما يجري في تركيا ويقرر بان الحكام الافغان قد تأثروا بالاتراك وبان الملك امان الله خان يقلّد مصطفى كمال (68). وفي مقال آخر يعتذر أرسلان عن غضبه العنيف ضد تركيا بعد ان كان شديد الارتباط بها الا انه يقول ان هذا الموقف لا يقتصر عليه بل هو يشمل الكثيرين ممن كانوا اصدقاء تركيا العثمانية ثم اصبحوا اشد أعداء الكمالية ويذكر منهم الشيخ شاكر ، والشيخ الجاويش ، ومصطفى صادق الرافعي (69).
ونحن نلحظ في كل مقالاته استخدامه كلمة انقره حين يتكلم عن الكماليين مع احتفاظه بالتقدير والاحترام لاستانبول والشعب التركي . وهو يصل الى حد القول بانه لا يقبل اي تجريح يطال الترك وانما يقبل كل نقد يصيب الكماليين مميزا" بين حكام انقره وبين المسلمين الاتراك الامناء لتاريخهم ولذكرى استانبول ولتضحياتهم في سبيل الاسلام (70). وهو يقرر بعد مشاهداته وملاحظاته حول السياسة الكمالية المعادية للاسلام بان خطر الفرنج على العرب هو أقل من خطر الكماليين (71).
ولذلك نجد ان مقالاته في الفتح شديدة العنف ضد حكام انقرة وضد المتفرنجين والعصريين الذين قد يجدونه متعصبا" وهو يسخر منهم قائلا" بانه لا يهمه ما يقولونه عنه طالما انه على الحق (72) وطالما ان ” ملاحدة انقره “ وأتباعهم في مصر واتباع اتباعهم في سوريا وفلسطين والعراق لا يجدون ما يقولونه ازاء واقعة كون الانكليز والالمان شديدو المحافظة في ما يخص تقاليدهم ومباديهم .. مكررا" سؤاله ان كان يجوز القول بان هؤلاء الانكليز والالمان وغيرهم هم جامدون متخلفون عفنون رجعيون . في حين ان التقدم الذي ينشده العصريون هو اكثر مما ما عليه الانكليز والالمان (73). لقد خدع الكماليون كل الناس لانهم اتبعوا سياسة متدرجة للتغيير البطيء ذلك ان شعبهم شديد التعلق بالاسلام فلم يستطيعوا ان يقطعوا صلتهم بهذا الدين بضربة واحدة مفاجئة (74).
لم يترك الامير اية مناسبة ممكنة الا وحذّر المسلمين وفتح أعينهم على مستقبل الاسلام في تركيا (75) وهو اشتكى مرات عديدة من تقاعس وسلبية المسلمين تجاه السياسة الكمالية (76) معتبرا" ان خطورة حملاته تتناسب مع درجة الخطورة التي يمثلها المشروع الكمالي الذي استفاد من اتكال المسلمين واعتيادهم تسليم امورهم وانقيادهم لتركيا.. وقد أثمرت حملات الامير تحوّلا" كبيرا" في مصر ادى الى وقوف رشيد رضا ، امين الرافعي ، عبد العزيز جاويش ، محمد الخضر حسين ، احمد تيٍمور ، عبد الحميد سعيد ، مصطفى صادق الرافعي ، ومجلة الفتح وجريدة الشورى وغيرها من القوى والشخصيات السياسية والدينية الى جانب موقف التصدي للكمالية .
الا ان الفتح أشارت وعن حق الى ان أول من استشعر خطر الكمالية وحذّر المسلمين منه هو الامير شكيب ارسلان نفسه (77).
8- نتائــج المواجهـــة:
اولى نتائج هذه المعركة الحضارية- السياسية تمثّلت في انتعاش التيار الاسلامي الحركي المقاوم في مصر وامتداد تأثيره الى شبه القارة الهندية والى اندونيسيا وماليزيا وبلدان المغرب في شمال افريقيا . ورافق ذلك ولادة عشرات الجمعيات والهيئات الدينية في مصر وهي معظمها أبصرت النور ما بين عامي 1927 و1929 ، وكان ابرزها : جمعية الشبان المسلمين ، جمعية مكارم الاخلاق الاسلامية ، جمعية الهداية الاسلامية ، جمعية السلفية ، جمعية أهل السنّة ، جمعية نشر الفضائل الاسلامية ، وأخيرا" جمعية الاخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنّـــا الذي عُرِف باعجابه الشديد وتأثره الكبير بالامير أرسلان ، كما تشهد بذلك كتاباته المبكرة في الفتح ، وكما يذكر هو نفسه في مذكراته حين يتحدث عن مرحلة 25- 28 والصراع الحضاري السياسي وبحثه عن اشكال جديدة للمواجهة بعد انتشار الجمعيات الدينية بتأثير من ارسلان والفتح والشورى (78) وفي نفس الوقت تطورت المعركة ضد البعثات التبشيرية وضد الحركة الصهيونية وكان تتويج ذلك في المؤتمر الاسلامي الاول الذي انعقد في القدس عام 1931 بتأثير كبير من الامير ارسلان ومدرسته.
وخلاصة القول في هذه العجالة أن الدور الكبير للأمير شكيب ارسلان في إرساء أسس النهضة الحضارية الشرقية (العربية الاسلامية) ارتكز الى خبرته العميقة في السياسات الشرقية ايام الدولة العثمانية،والى تجربته الواسعة في جبل لبنان وفي مصر ثم في أوروبا (حيث عاش لسنوات طوال في المنفى الاوروبي)..ولكن اولاً وأساساً الى روحه الطاهرة النبيلة: روح فارس من فرسان هذا الشرق وحكيم من حكمائه، جمع بين النظرية والممارسة في أروع وثاق يمثله كتاب :"لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"..
الهوامـــــش:
1- انظر دراستنا حول "التفكير الاصلاحي والتفكير الثوري : بين الافغاني ومحمد عبده" . ورقة بحثية الى ندوة المعهد الاسلامي – لندن – آب 1984. وأيضا" غازي التوبة ” الفكر الاسلامي المعاصر : دراسة وتقويم “ - بيروت 1977.
2- مارسيل كولومب : تطوّر مصر - بالفرنسية – باريس 1950- ص 121-122
3- م . ن .
4- م . ن .
5- لدراسة وافية مفصّلة حول الامير شكيب ارسلان ، انظر اطروحتنا للدكتوراه في جامعة السوربون – باريس – 1983. وهي بعنوان : الاسلام والعروبة في فكر وممارسة الأمير شكيب ارسلان (1869-1946) (بالفرنسية).
6- عجاج نويهض في مقدمة كتاب حاضر العالم الاسلامي ( طبعة بيروت 1974) . م1- ج1- ص 34- 35.
7- المنار – المجلد 23- ل\الجزء 2- ص 121-134، وج3 ص 202-212، وج4 ص 290-299، وج5 ص 373-382، وج6 ص 459-466.
8- نويهض – م. س. وفي لقاء شخصي معه جرى صيف 1980في رأس المتن.
9- أرسلان في مقدمة حاضر العالم الاسلامي م1-ج1- ص 4 و11.
10- كولومب : م. س ص144.
11- أرسلان : حاضر .. ص 24- 25.
12- م . ن ص 25.
13- م . ن ص 26- 30.
14- م . ن ص 31- 42.
15- م . ن ص 42- 105.
16- ارسلان في مقدمته لكتاب محمد احمد الغمراوي : النقد التحليلي لكتاب في الادب الجاهلي – القاهرة 1929 . والمقدمة تقع في الصفحات 3 الى 59.
17- جريدة الفتح العدد 237 ( 5/2/1931) والعدد 241 ( 19/3/1931).
18- ارسلان : حاضر العالم الاسلامي – م 1 – ج2 – الصفحات 140- 165 حول السنوسية ، والصفحات 166- 174 حول الامير عبد القادر الجزائري ، و175-187 حول البربر ، و188- 193 حول الشيخ شامل ، و 395- 396 حول القادرية والشاذلية والتيجانية، و 398- 407 حول السنوسية ، و304- 359 و360-401 و314- 321 حول الاسلام الاسود.
19- حاضر العالم الاسلامي : م1- ج1 ص 238- 239 و م2- ج3 ص 208- 348.
20- الفتح العدد 82 و86 ( شباط وآذار 1928) .
21- حاضر .. م2 - ج3 ص 1- 54.
22- حاضر م1 – ج1 ص 107- 155.
23- م . ن ص 240- 258.
24- ابو الاعلى المودودي : الخلافة والملك – تعريب احمد ادريس – دار القلم –
الكويت 1978.
25- حاضر .. م 1 –ج1- ص 334- 363 والفتح الاعداد 261-267-286 و342.
26- جريدة الشورى (2/7/1930).
27- الفتح العدد 295 (2/6/1932).
28- الشورى (26/8/1926).
29- الشورى (4/2/1926).
30- الفتح العدد 219- (10/10/1930).
31- أرسلان في مقدمة كتاب الغمراوي – م. س. ص 5.
32- الكتاب الذهبي لمجلة المقتطف في الذكرى الخمسين لصدورها - مصر 1926- ص125.
33- أرسلان : لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم – الطبعة الاولى القاهرة 1930- انظر طبعة بيروت 1975- ص 41.
34- م. ن ص 42.
35- م. ن ص 43- 44.
36- م. ن ص 45- 67.
37- م. ن ص 75- 76.
38- م. ن ص 77- 87.
39- م. ن ص 88 و ص 101- 117.
40- م. ن ص 95- 99.
41- م. ن ص 133- 138 و 153- 163.
42- كولومب : م. س. ص 122- 126.
43- الفتح- العدد 198 (8/5/1930).
44- الفتح- العدد 259 (6/7/1931).
45- ارسلان- حاضر .. م1- ج1- ص 238- 239 وم2-ج3- ص 343-364 وم2- ج4- ص 157-160 وايضا" مقالته حول الاسلام والحضارة الحديثة في مجلة الزهراء – الشهر الاول من عام 1344 ﻫ ( تموز 1925) ص 42- 45.
46- الفتح- العدد 138 (7/3/1929).
47- الفتح- العدد83 (9/2/1929).
48- الفتح- العدد320 (25/7/1351ﻫ).
49- الفتح- العدد204 (19/6/1930).
50- الفتح- العدد259 (17/6/1931).
51- الفتح- العدد274 (30/10/1931).
52- الفتح- العدد290 (25/3/1932).
53- الفتح- العدد333 (24/2/1933).
54- الفتح- العدد335 (10/3/1933).
55- الفتح- العدد383 .
56- الفتح- العدد 83 .
57- الفتح- العدد295 .
58- أرسلان : رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة- دمشق 1937- ص327- 328.
59- أرسلان : شوقي وصداقة أربعين سنة – القاهرة 1936- ص214.
60- م ن ص 121- 124.
61- الفتح- عدد225 (21/11/1930).
62- الشورى (31/8/1930).
63- الفتح- عدد195 (17/4/1930).
64- ارسلان - شوقي . م. س. ص 215.
65- الفتح- عدد163 (5/9/1929).
66- الشورى (8/5/1929).
67- الشورى (25/11/1926).
68- الفتح- عدد132 (24/1/1929).
69- أرسلان : رضا.. م. س. ص437.
70- الفتح- عدد292 (22/4/1932).
71- أرسلان : رضا. م. س. ص436.
72- الفتح- عدد53 (14/7/1927).
73- الفتح- عدد54 (21/7/1927).
74- الفتح- عدد58 (18/8/1927).
75- الفتح- عدد116(4/10/1928).
76- الفتح- عدد78 (5/1/1928).
77- الفتح- عدد194(10/4/1930).
78- كولومب م. س. ص125.
- ورقة قدمت الى مؤتمر عقده معهد الدراسات الاسلامية في جامعة المقاصد،تموز 2002 سعود المولى
في العام 1918 اُسدل الستار على” الامبراطورية العثمانية “ التي انهارت تحت وطأة ضربات الامبرياليات الغربية إثر الحرب العالمية الاولى (1914- 1918) .. وفي الفترة ما بين الحربين الكونيتين (1918-1939) عرفت البلاد العربية عشرات الثورات وحركات التمرد والممانعة الشعبية التي قُمعت بالحديد والنار وأُسست لتجذر حالة العداء للغرب في الاوساط الشعبية ولدى النخب المسلمة.. والى جانب حركات المقاومة المسلحة ، والتمرد السياسي الجماهيري ، شهدت البلاد العربية أيضا" حركة فكرية – سياسية ناهضة حملت راية الصراع ضد "التغريب“ و”التبشير“ وضد الاستعمار السياسي والامبريالية الثقافية على حد سواء...وقد مهّدت هذه الحركة بشعاراتها ونضالاتها لظهور حركة الاحياء والنهوض الاسلامي العام .. وكانت مصر هي الارض الخصبة لتلك الحركة ، وكان الامير شكيب أرسلان أحد كبار فرسانها لا بل فارسها المبرز.
1- مصر بين تيارين :
ظهرت بدايات الصراع بين التيارين الكبيرين في الفكر العربي المعاصر، خلال المرحلة العثمانية وبالاخص خلال فترة عمل المجدد الشيخ محمد عبده (مفتي الديار المصرية لاحقاً)،بعد عودته من المنفى وتعاونه مع اللورد كرومر(1). ذلك ان ” محمد عبده قد استعاد وطوّر فكر الافغاني بعد نزع طابعه الثوري عنه . وقد استمر عمل عبده التجديدي حتى وفاته عام 1905 حيث كان قد أصبح داعية ( أو رسولا") للتطور البطيء والمتدرج للاسلام ولتوافقه مع العالم المعاصر “. ويمكن القول بايجاز ان عمل محمد عبده قد مهّد ” وهيّأ الاذهان وان بصورة لا واعية ، لتقبُّل فهم جديد للدولة والدين يختلف عن فهم القرن السابق “ (2) .
ولعل هذا ما يفسّر كيف ان كل اطراف الصراع اللاحق ( العلماني –الديني ) ادّعوا الانتساب الى مدرسة محمد عبده. فمن جهة ظهرت المدرسة السلفية التقليدية على يد رشيد رضا والمنار وعلى قاعدة تعاليم ” الاستاذ الامام “ . ومن جهة مقابلة تطورت مدرسة الحداثة والعصرنة مدعية الاستناد الى تنوّر محمد عبده لتبرير طروحاتها وخصوصا" من طرف طه حسين وعلي عبد الرازق باشا واحمد لطفي السيّد. وبين الاثنين وقف الأمير شكيب ارسلان مكملاً ومجدداً ومطوّراً رسالة الأفغاني-عبده-رشيد رضا،في ظروف دولية وعربية جديدة مختلفة،الأمر الذي يجعله بحق رائداً من رواد الفكر الاسلامي التنويري التجديدي،وأستاذاً لجيل كامل من كبار العظماء في هذا السبيل..
وما كان جديدا" وحاسما" في ملامح تلك المرحلة هو كونها تختلف اختلافا" كبيرا" عن مرحلة الأفغاني-عبده . ذلك ان تغيرات عنيفة كانت قد حدثت منذ مطلع القرن العشرين . ففي زمن الافغاني وعبده استقر نوع من التعايش أو التساكن بين نمطين ، ومجتمعين ، وسلطتين : نمط الخلافة والاسلام والتقليد من جهة، ونمط اوروبا والغرب والعصرنة من جهة ثانية . أما بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال وتجزئة البلاد العربية ، فلم يعد الغرب يقبل بالتساكن او التعاون ( الذي طرحه عبده) وانما بالاستسلام الكامل والتخلي عن الهوية والتاريخ والثقافة ..وكان ذلك يحمل سمة الامبريالية اعلى مراحل الاستعمار على حد وصف لينين..ومن غير الأمير شكيب يستطيع التقاط تلك السمات الجديدة وهو الذي عاش في الغرب وخبر سياساته وأفكاره وكان له التجارب الكثيرة مع البلشفية والفاشية والديمقراطية الغربية بكل الوانها وتفاصيلها،كما كان له التجربة والتاريخ مع الاسلامية العثمانية والتركية الطورانية والقومية العربية...
وهو أيضا أول من أدرك سبب تطور الوطنية المصرية على قاعدة الاسلام ، بخلاف القومية العربية التي تطورت في بلاد الشام على قاعدة رد الفعل ضد الاستبداد الحميدي(1876-1908)، ثم بعد 1908 ضد الدكتاتورية والتتريك الذي مارسته جماعة تركيا الفتاة.
لقد تمظهرت الوطنية المصرية الاسلامية في المشاركة الشعبية ابان الحرب الليبية
(1911) ثم حرب البلقان (1912) وهي مشاركة كان للأمير شكيب الدور الرائد فيها إن على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة العملية حيث قاد كوكبة من المتطوعين من دروز الجبل للجهاد في ليبيا آنذاك،كما قاد الحملة الشعبية العربية لمساعدة منكوبي البلقان من المسلمين. كما شهدت المرحلة ما بين 1911 و 1922 تطور التيار الشعبي المصري المؤيد لتركيا ،حتى الكمالية، في حربها التحريرية الاستقلالية . ذلك ان مصر التي كانت أصبحت محمية بريطانية منذ 18 ديسمبر 1914 ، ظلت تخفق بالأمل لحصول انتصار عثماني ضد الغربيين . وكانت هزيمة 1918 بالنسبة لمسلمي مصر هزيمة لهم وللاسلام ونقطة البداية للحملة التغريبية لسنوات 1922-1929.
ولقد تابع المصريون بقلق وخوف التطورات الداخلية في تركيا بدءاً من الدستور الجديد لعام 1922 الذي يفصل الدولة عن الخلافة ، ومرورا" باعلان الغاء الخلافة (3 آذار 1924) وانتهاءً بالغاء اعتبار الاسلام دين الدولة في تركيا ( 10 نيسان 1928).
وكانت الصدمة كبيرة على المصريين وهم يرون أعمال اتاتورك في فرض القبعة وتغيير الابجدية الى اللاتينية وفي الغاء العربية والآذان .. وهكذا نشأت القاعدة الشعبية للمجابهة المقبلة بين الاسلام والتغريب الاستعماري.
” لقد أدت جملة من التطورات والاحداث بدءا" من عام 1922 الى ان تتقدم مصر لتتبوأ موقعها في قيادة الدفاع عن المسلمين الخاضعين للامبريالية الغربية. وهي لم تتردد في استلام هذا الدور الذي يعود اليها بالفعل خصوصا" بعد قطيعة تركيا مع الاسلام (3). وهكذا التف المصريون حول ثورة الريف في المغرب بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي (1920-1926) والثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش (1925) حيث تظاهروا وقاموا بجمع التبرعات واستقبلوا قادة الثورتين في القاهرة والاسكندرية . وفي مصر انطلقت أولى حملات الدعم لفلسطين وهي تطورت واتسعت بعد حادثة حائط البراق( 1929) والتف المصريون حول قيادة المفتي محمد أمين الحسيني والشيخ عز الدين القسام في فلسطين وحول المطالب السورية واللبنانية والمراكشية التحررية الاستقلالية .
وعكست الصحف المصرية هذا الجو الاسلامي الذي بدأ يغلي منذ عام 1922 ووصل ذروته مع الظهير البربري الذي حاولت فرنسا فرضه في المغرب(1930) . وتؤرخ جريدة المنار، ومن ثم جريدتي الفتح والشورى ( بين 1924 و1930) لتلك المرحلة، وهي صحف تحولت الى ان تكون أداة التعبئة والتحريض في المعركة ضد الغرب وفي شحذ سلاح الوحدة والتضامن بين المسلمين .. ” وكانت تلك الصحف تُقرأ في كل البلاد الاسلامية من أقصى الشرق الى اقصى الغرب ، من الهند الى المغرب .. ومن قراءة هذه الصحف استمدت الوطنية المصرية حيوية وعنفا"(4).
وفي هذا الجو ، ووسط هذا التيار الذي حمل لواء الدفاع عن الاسلام وبلاد المسلمين، والدعوة الى التضامن الإسلامي ، يندرج موقع ودور شكيب ارسلان ، وهو الذي منحه شعبيته الكاسحة في مصر وبلاد العالم الاسلامي ( من طنجة الى جاكرتا وسومطرة).
ويستطيع الدارس لفكر الامير أرسلان ان يلحظ كيف انه تطوّر خلال تلك المرحلة بالضبط، فهو حمل بصماتها وملامح ظروفها ومعاركها . ان فكره هو فكر نابع من المعايشة العملية ، انبنى عبرها يوما" بيوم ، في جو الاعاصير والغليان ، وفي أوضاع الثورة والعصيانات والمواجهات السياسية والعسكرية والايديولوجية . من هنا عدم تشكل فكر ارسلان في كلِّ متناسق متماسك ، أو في نظرية متكاملة أو في برنامج سياسي وايديولوجي (على ما قد يطالب به البعض) . لقد عبّر هذا الفكر عن نفسه في مقالات وسجالات كتبت في أتون المعارك وهي تحمل حماستها واندفاعاتها وتهدف الى تنوير المسلمين وحثهم على الصمود والنضال . انها صرخة انذار مبكر أطلقها مسلم كان يشعر بأن الارض تسحب من تحت رجليه فيفقد الأرض ومعها التاريخ والثقافة والسياسة أمام زحف الطاغوت الاستعماري. . انها دفاع يائس عن العالم الاسلامي ضد مستعمريه في ظروف اختلال كبير لميزان القوى .لقد عرف ارسلان خلال تلك المرحلة كيف يستثير حمية المسلمين وكيف يعرض قضاياهم ومطالبهم وكيف يحدد نقاط ضعفهم وقوتهم وكيف ينشر الافكار والموضوعات التي تستحق التأمل والتطوير وكيف يدعو الى أعمال وينظم معارك ويخوض مواجهات محددة ملموسة ، وكيف ينتقد ويدحض الافكار الخاطئة والممارسات السلبية .. انه مناضل ملتزم بكل معنى الكلمة وفارس نبيل في زمن الهزيمة والتفكك والتطورات المتسارعة (5).
2- حاضر العالم الاسلامي:
ولعل أهم عمل خلّد ذكر الامير ارسلان وأعطاه شهرته الواسعة في العالم الاسلامي هو كتاب حاضر العالم الاسلامي الذي صار ينسب اليه رغم أنه في الأصل ترجمة لكتاب أمريكي أضاف إليه الأمير تعليقات فاقت حجم الكتاب.
يروي عجاج نويهض مترجم كتاب لوثروب ستودارد ، كيف رد عليه الامير ارسلان برسالة مطوّلة حين عرض عليه كتابة مقدمة للكتاب المترجم فيقول ان رسالته له أعطته حجة للكتابة بعد عشرين سنة امضاها ولم ينشر اي كتاب .. وهو في رده يقول لنويهض بان لديه الكثير الكثير ليقوله وليس فقط المقدمة التي يطلبها منه (6).
اما المقالات التي كان كتبها للمنار حول الحرب العالمية الاولى وسياسات تلك المرحلة في سوريا والمشرق العربي فهي لم تكن اكثر من مذكرات نشرها تحت الحاح رشيد رضا نفسه عند لقائهما في مؤتمر جنيف (7). ولم تكن تلك المقالات لتشفي غليل الامير وهو كان لديه الكثير ليقوله بعد سنوات من القمع والكبت ...وهو لم يكن ينتظر اكثر من الفرصة السانحة التي قدمها له عجاج نويهض عند ترجمة كتاب حاضر العالم الاسلامي .. ولعل الامير ” كان يحمل في داخله كل ما يريد قوله او كتابته دون ان يجد المكان او الزمان المناسبين لذلك .. وكان طلبي مناسبة لكي ينفجر في سيل من التعليقات والنصوص “ )8).
تُشكل تعليقات ارسلان على كتاب ستودارد كتابا" كبيرا" مستقلا" ، حيث نجد ان الهمّ او الهاجس الوحيد للامير هو الدفاع عن الاسلام ورد الهجمات والتهم .
وظهرت الترجمة العربية وتعليقات الامير عليها للمرة الاولى عام 1925 ، والطبعة الثانية ظهرت عام 1932. وقد قيل عن هذا الكتاب انه يشكل موسوعة اسلامية صغيرة تطوف بنا ارجاء العالم الاسلامي وتصل الى ابعد الحدود وتجمع بين طياتها معلومات اولية ومكثفة حول كل تلك الاصقاع وحول تاريخ الاسلام والمسلمين . ويقول ارسلان نفسه عن هذا العمل ان مادته هي ثمرة 47 سنة عمل وتوثيق وقراءة وانتقادات وتحاليل(9).وقد كان هذا الكتاب بداية الخطوط العريضة لكتابه التاريخي الذي بين أيدينا:"لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"..ولا يمكن ان نفهم روح كتاب "لماذا تاخر المسلمون" إن لم نقرأ روح افكار أرسلان لتلك المرحلة...
3- الاستشراق والمستشرقون :
فاذا كان هدف تعليقات أرسلان الدفاع عن الاسلام ورد ادعاءات منتقديه فانه يتوجه اولا" الى العرب الذين تركوا الاسلام ولحقوا الافكار والسلوكيات ” العصرية “ و”الحديثة. وهو لذلك يخصص حيزا" هاما" من كتاباته وجهوده للرد على المستشرقين ودحض مقولاتهم ..
” ان تلك المرحلة (1924-1928) قد شهدت أيضا" حملة كبيرة ضد المستشرقين الاوروبيين خصوصا" في الصحافة التي كانت سريعة الشك والاستفزاز .. وهكذا فان اسماء مرغليوث وبرونو وسنوك هورغرونجه كانت تذكر على الدوام باعتبارها اسماء اعداء خطيرين (10).
وقد اهتم أرسلان على الخصوص بدراسة مواقف المستشرقين من السيرة النبوية ، ومن الفتوحات العربية ، كما من السياسة الاجتماعية للاسلام ( التسامح والاخوة ونبذ العنصرية او التمييز) . وايضا" من السجال حول العلمنة بين اوروبا والاسلام .
ولم يكن ارسلان ليعتبر المستشرقين حسني النية رغم اعترافه بفضل الكثيرين منهم لجهة علمهم وحبهم للحقيقة ودفاعهم عن الاسلام .. وهو اعتبر نابليون ” أول المستشرقين “ ، وانه الاكبر ، والبطل ، لانه أراد التحول الى الاسلام وحمل جيشه على ذلك ايضا" (11). أما سبب موقف نابليون فيعود الى ملاحظته عظمة وسرعة الفتوحات العربية الاسلامية وبساطة حياة واخلاق الرسول وصحابته(12). وكان رينيه غروسيه قد ذكر نفس الافكار في كتابه ” مدنية الشرق “ فاستحق ثناء ارسلان .. وفي هذا القسم المخصص للحديث عن الفتوحات الروحية والسياسية الاجتماعية للاسلام ، لا يتوانى ارسلان عن كيل المديح والثناء للمستشرقين الكثر الذين يذكرهم بمحبة ليثبت ان الغرب نفسه قد أقرّ بعظمة الاسلام الروحية والاخلاقية وبأن سر فتوحاته وانتشاره السريع والسلمي يعود الى تلك العظمة بالذات (13).. ولكن نفس هؤلاء المستشرقين الذين يمدحهم أرسلان ( غود فروي دومومبين - دو ساسي - كاترمير- دو برسفال – رينود –دوسلاين- دوزي – نولدكه – فالهاوزن- دوغوي- غولدزيهر- سنوك هورغرونجه ) يصنّفون ما بين ”منحازين“ و”منصفين“ في مقاربتهم لحياة ونبوة محمد وللخلاف اللاهوتي بين المسلمين والمسيحيين حول الصلب والتثليث وحول طبيعة السيد المسيح
(14) .
وحين يلخص أرسلان عدة مؤلفات ومقالات وكتب ومحاضرات حول النبي محمد فذلك لإظهار تحيّز العديد من المقولات التي تبتعد عن الموضوعية العلمية والتاريخية ..
ولكن المديح الأبرز هو ذلك الذي يخص به مونيه Monet وإتيان دينيه Dinet ( الذي أشهر إسلامه لاحقا") . وكان دينيه قد انتقد معاصريه الذين يحاولون دراسة سيرة الرسول إنطلاقا" من أفكارهم المسبقة وأُطرهم الفكرية الأوروبية . وفي هذا النقد الذي يترجمه ارسلان ويعلق عليه تتردد اسماء دوزي ولامنس ونولدكه وسبرنغر وغريم ودوغوي ومرغليوث. ويحاول ارسلان في تعليقاته ان يبرز اكثر ما يمكن من الآراء والافكار المؤيدة لملاحظة عظمة الاسلام ورسوله . ولكن تعليقه الاهم والأكبر يدور حول كتاب إميل دورمنغهام ”حياة محمد“ (15) حيث نكشف هنا معلومات ومعارف وعلوم الامير في الفقه والحديث والتاريخ حين يقارن ، ويستشهد ، ويعلّق، ويدقق ، كل النقاط الغامضة او الخلافية المتعلقة بحياة ونبوة محمد . انه مختصر مفيد لكل الطلبة والمبتدئين والاجانب او للباحثين الجدد في هذا الحقل .
وحسب ارسلان فان المعيار الحقيقي للتمييز بين مستشرق جيد ومستشرق سيء هو المعيار السياسي . ولذا فانه يذكر على الدوام الموقف السياسي لهذا المستشرق أو ذاك ، حيال العرب والاسلام ، أو حيال قضايا محددة . ومن هنا سبب تخصيصه أشد الهجمات ضراوة للمستشرقيْن مرغليوث وسنوك هورغرونجه : الأول بسبب آرائه التي نقلها عنه طه حسين حول الشعر الجاهلي (16) والثاني بسبب كتاباته عن أندونيسيا (17).
4- البعثات التبشيرية:
وهكذا فان الحرب ضد المستشرقين الأوروبيين يتم خوضها حتى النهاية والنقطة المركزية فيها تتمحور حول سيرة الرسول وهي نقطة تسمح لارسلان بعرض وكشف تحيّز بعض المستشرقين ، وابتعادهم عن الدقة والموضوعية. وهو يعتبر هذا الامر بمثابة تصدّ حقيقي لحملة صليبية جديدة . ولذا فانه يربط بين هذا الأمر ( التصدي للمستشرقين ) وبين المعلومات التي تصله والتي ينشرها في صحف مصر ( الفتح والشورى والمنار وغيرها ) حول نشاط البعثات التبشيرية في افريقيا . وهو يخصص الصفحات الطوال للحديث عن الطرق الصوفية في افريقيا ولدراسة تاريخها واوضاعها (القادرية – الشاذلية – التيجانية- والسنوسية ) خصوصا" من زاوية دفاعها عن الاسلام ووقوفها في وجه التبشير الفرنسي والانكليزي والهولندي وحتى الاميركي . وهنا يتميّز شكيب ارسلان عن موقف الفكر السلفي الذي تحمله الفتح والمنار والذي كان يخوض حربا" ضارية ضد الطرق الصوفية باعتبارها بدعا" ومتهما" اياها بالخيانة والعمالة وبتضليل واضعاف المسلمين . اما شكيب فهو يتعاطف مع هذه الطرق ويبرز الجانب الايجابي في نشاطها في افريقيا لحفظ الاسلام ولوقف تمدد البعثات التبشيرية خصوصا" في الحبشة والسودان ومدغشقر وافريقيا السوداء (18). وفي إطار حملته على التبشير يركّز ارسلان على "تعصّب الاوروبيين وتسامح المسلمين “، مبرزا" تصورات الاوروبيين عن الاسلام والرسول، وحروبهم الصليبية ، ومشاريعهم لتقسيم الامبراطورية العثمانية منذ القرن السادس عشر ( يعددها ويذكر انها مئة مشروع ) (19) وكل ذلك لكي يعود فيرى في الحملات التبشيرية استمرارا" للحروب الصليبية وللتعصب الاوروبي .
والحقيقة ان مقالات ونشاطات ارسلان ضد التبشير كانت في أساس تطورالحركة الاسلامية الشعبية في مصر والبلاد العربية ، وخصوصا" بعد انعقاد ”المؤتمر العالمي للارساليات التبشيرية غير الكاثوليكية “ (انعقد في القدس بين شباط وآذار 1928) (20) .وقد كان تشكيل جمعيات الشبان المسلمين والشابات المسلمات في مصر وفلسطين رداً عملياً على جمعيات الشبان المسيحيين والشابات المسيحيات وعلى جمعيات التبشير..ولا ينبغي ان نضع ذلك في خانة التعصب والتبشير أو الدعوة الاسلامية وانما في خانة رد الفعل على نشاط تبشيري كان غطاء للنشاط السياسي والاقتصادي والثقافي للاستعمار الجديد في تلك الايام،وخصوصاص في افريقيا وبعض بلدان آسيا.
ففي وجه التبشير المسيحي، وصف شكيب أرسلان أتباع الطرق الصوفية بانهم” مبشرو الاسلام“ ودافعَ عن نشاطهم ودعمهم لانه رأى ان ذلك وحده منعَ تدمير الاسلام في افريقيا (21).ونحن نلحظ أثرَ هذا الموقف الارسلاني المخالف للموقف السلفي التقليدي(موقف رشيد رضا تحديداً والوهابية خصوصاً) من الطرق الصوفية ، لدى حسن البنّا الشاب ، في تحديده الاول لحركة الاخوان المسلمين حيث وصفها ، من ضمن أمور أخرى، بأنها طريقة صوفية.
5- عظمة الاسلام وأسباب تخلّف المسلمين:
ولكن الاسلام لم يُدمًر . ذلك انه يحمل في ذاته أسباب تقدمه ( والتقدم والتطور عموما"). واذا كان المسلمون يرزحون في التبعية والتخلف فذلك لانهم تركوا الاسلام ونسوا تعاليمه . ان مثال الحضارة العربية الاسلامية يكفي للتدليل على عظمة الاسلام وعلى المساهمة العربية الاسلامية في الحضارة العالمية وفي تطور العلوم والطب وغيرها.. وأرسلان يدعّم تأكيده بالاستشهادات المطولة المترجمة عن المجلات الطبية والعلمية الاوروبية . وهو يسهب في مديح وفي وصف الخدمات الجُلّى التي قدمها الفلاسفة والعلماء العرب والمسلمون للبشرية (22).
وحين يحدثنا الامير عن ”الخلافة والملك“ فإنه يستذكر تجربة الخلفاء الراشدين، واضعا" الاسس لخلافة حقيقية،شوروية ديمقراطية غير استبدادية ولا الحاقية.. وهو يصف كل الحكومات الاسلامية المتعاقبة على مر التاريخ بالملك ، والمملكة ،او بالامبراطورية (23).. وقد لاحظت استعادة وتطويرا" لهذا الفصل ولموضوعاته الرئيسية ، في العمل الخطير للشيخ ابو الاعلى المودودي والذي تحجمْ الجماعات الاسلامية ودور النشر عن اعادة طبعه وعنوانه : الخلافة والملك (24)..
وفي تأكيده على عظمة الاسلام ، يستعرض أرسلان ايضا" تاريخ النهضة الاسلامية واعلامها(منذ القرن الثامن عشر) وحركاتها ( الثورات في روسيا، السنوسية، المهدية، الوهابية ،الطرق الصوفية في افريقيا) ليصل الى عرض فكرة الجامعة الاسلامية والصراع الذي شهده القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بين الاسلام والاستعمار الغربي ..
وفي هذا السياق يُبرز الامير حالة العالم الاسلامي الحاضرة من احتلال وتجزئة واستغلال ، ويدعو الى عمل انقاذي والى نهضة حضارية شاملة ليس فقط للبلاد العربية وانما ايضا" للمسلمين وللاسلام على العموم وفي كل مكان (25).. وهو لا يدعو الى الدفاع فقط عن التراث الثقافي والادبي والسياسي وانما يشمل بدعوته كل ما له علاقة بالاخلاق وبنظام الحياة وبالاذواق وحتى بما يسميه البعض شكليات . فهو يدافع مثلا" عن الثوب الشرقي ضد الغربي(26) وهو يتصدى لمن يدعو لتقليد اتاتورك في فرض القبعة الغربية كلباس للرأس بدل الكوفية او العمامة(27). لا بل انه يكتب في العام 1926 مقالة عن اللباس الصحي وعن الغطاء الصحي للرأس ، اعتراضا" على قرار الجمعية الطبية المصرية إعتبار الطربوش غير صحيا" واعتبار القبعة أفضل لحماية الرأس من حرارة الشمس . وفي مقالته المذكورة لا يتوقف ارسلان فقط عند الاعتبارات الصحية وانما يركّز نقده على مسألة ”التقليد الاعمى للغرب“ والذي يقوم به الشرقيون دون اعتبار لعوامل الثقافة واللغة والدين والاخلاق واختلاف الازمنة والامكنة..
وهو يرى ان الكثير من عاداتنا وتقاليدنا هي أفضل للصحة من تلك التي عند الاوروبيين ومع ذلك فانهم لا يقلّدوننا . ويدعو ارسلان الى ان يبقى الشرقي شرقيا" والى ان يحافظ على عاداته وتقاليده وعلى كل ما يبعده عن الذوبان في شخصية غيره اللهم الا اذا ثبت بان ذلك مخالفة لمصلحة معلومة او لمعرفة موثوقة .. وهو يرى في التزيي بازياء الغرب أكان في الملبس او غطاء الرأس تقليدا" غبيا" يصدر عن نفوس مريضة ترى العصرنة تقليدا" أعمى في حين انها امتلاك للعلوم وللتقنيات العصرية ومعرفة بحقائق الوجود والكون الجديدة وبكل ما يتجدد في حقول المعرفة والمكتسبات العلمية (28).
دعوة أرسلان هي اذن الى التمسك بالهوية ، بالذات الثقافية التاريخية ، والى عدم التقليد الاعمى للغير ، والى التبصر والتعقل في اختيار النافع والجيد مع الاحتفاظ بشخصيتنا وبخصائص هويتنا.. انها دعوة للحاق بالغرب في مجال البحث العلمي الدقيق الذي يجعلهم لا يقبلون أي نظام وأي قانون الا بعد اختبارات طويلة وأبحاث عديدة تهدف الى استجلاب ما هو صالح ونافع.. وهو يقول بان هؤلاء الغربيين قد احتفظوا بكل عاداتهم وتقاليدهم وظلّوا غربيين . وان علينا ان نبقى شرقيين مع تطوير علومنا ونقاط قوتنا وابحاثنا ودراساتنا وتجاربنا وان نقوّم الماضي من التجارب ومن التاريخ ومن الثغرات ومن الضعف (29) .ويستند الأمير شكيب الى الديمقراطية الغربية للحديث عن الديمقراطية العربية وعن الشورى الاسلامية وللدعوة الى الخذ بهذه السباب للتقدم والنهضة.. وفي هذا نفس كلام الامام المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين حين كان يردد أن علينا استماع القول واختيار أحسنه..وأحسن القول الغربي اليوم هو الديمقراطية المرتكزة الى اصالة الشعب وهويته وتراثه وحراكه الاجتماعي التاريخي..وأن العلوم مشاع للبشرية إذ الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها..والمسلم مأمور بطلب العلم ولو في الصين..ومأمور بالعلم والمعرفة إذ هما خير عبادة..
وينصح الأمير شكيب المسلمين باستعادة وباستيعاب العلوم الاوروبية مع البقاء هم ذاتهم اذ انه يعتبر انه ليس هناك من علم غربي وعلم شرقي فالعلم انساني وعالمي(30) واوروبا الحالية تدين في علومها وتقدمها للحضارة الاسلامية . واذا كان الغرب اليوم قد سبق الشرق في العلوم المادية فانه يظل متخلفا" عنه وتابعا" له في حقل العلوم الانسانية والروحية والفنية ، وخصوصا" الفلسفة والمنطق ، ذلك ان الشرق هو مهد الحكمة والحضارة(31) . واذا قام المسلمون باستعادة بعض ما لهم عند الغرب فان ذلك ليس نهبا" او سطوا" بقدر ما هو تعارفا" وتعاونا" اذ ان العلم مشاع للانسانية جمعاء (23).
ولعل أخطر وأهم ما كتبه ارسلان في هذا المجال هو كتابه الذائع الصيت : ” لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم ؟ “ وهو كان الى فترة طويلة دليل عمل الناشطين والدعاة والحركيين الاسلاميين لا بل انجيلهم الثوري ..وقد اتيح لي شخصياً معرفة مقدار تأثير هذا الكتاب على شخصيات تاريخية وحركات نضالية نهضوية في المغرب كما في اندونيسيا ، وفي مصر كما في البوسنة والهرسك وكوسوفو.. ان سؤال ارسلان عن اسباب التقدّم والتخلّف هو سؤال النهضة الاسلامية الذي بدأ مع الأفغاني – عبده ولم يتوقف الى اليوم :
كيف انطفأت تلك الحضارة العظيمة وتلك الامة الذكية الحية المتوهجة ؟ ما هو الداء الذي أصاب الامة وأوقعها في الفوضى والجهل والضعف ؟.
ان ارسلان هنا يؤسس لفكر الحركات الاسلامية التنويرية التجديدية النهضوية التي ترفض الظلام والظلامية والتعصب والغوغائية.. فهي حين تجد في ابتعاد المسلمين عن تعاليم دينهم سبب انحطاطهم وانهيار مجدهم التليد لا تدعو الى الانغلاق على الماضي والتاريخ واجتراره وانما الى التقدم صوب المستقبل برؤية واثقة قوية عادلة متوازنة اساسها الاخلاق الانسانية. وارسلان يتحدث عن الجانب الاخلاقي ونظام القيم الاسلامي الذي مكّن العرب من فتح العالم في فترة قصيرة من الزمن (33) وهذا النظام القيمي وتلك المبادئ الاخلاقية هي من صنع الاسلام ، المحفوظ في القرآن الذي لا يتغيّر ولم تتغيّر نصوصه فكيف اذن انحدر العرب والمسلمون الى الهاوية العميقة التي هم فيها اليوم ؟ الجواب على ذلك ان المسلمين هم الذين تغيّروا . وا ن أوضاعهم لن تتحسن ما لم يقوموا بتغيير جديد وشامل في انفسهم أولا" مصداقا" لقوله تعالى : لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم
(34). وهذا التغيير هو أولا" وقبل أيّ شيء آخر أخلاقي يطال القيم والمبادئ والسلوكيات ليجيب على الاسباب الاخلاقية للانحطاط والتخلّف . فلقد فقد المسلمون من ضمن ما فقدوا الحماسة والشجاعة والتعاون والتكافل والتضحية (35) وحلّ بهم الخوف والجزع فهادنوا الاستعمار الفرنسي والبريطاني في المغرب وسوريا وفلسطين(36).
وأصبح الجبن والتخاذل شعارهم بعد ان كانوا يُعرفون بالإقدام والجرأة . واذا اضفنا الى ذلك: الجهل او بالاحرى ” المعرفة الناقصة “ التي هي أخطر من الجهل ، لعرفنا اي وضع صار اليه المسلمون في العالم اليوم وما سبب ما آلوا اليه (37). وهكذا حلّ اليأس والتشاؤم ، واصبح العلماء يداهنون الحكام ويتقربون منهم ، وصار الناس يرون قوة الغرب لا تقهر والمقاومة فعل انتحار فاستسلموا للتخلّف والهوان(38).. وحسب ارسلان فان الاسلام ضاع ما بين جاحد وجامد.. الجاحدون يريدون نفي وتدمير الشخصية والهوية والتاريخ وكل ما قامت عليه الامة. في حين لا يريد الجامدون تغيير افكارهم ولا يتركون غيرهم يتغيّر (39). لقد ضربت كل هذه الامراض الامة في ظروف مصيرية حاسمة . ذلك ان عمل المسلمين ” الجغرافيين “ ) كما يسميهم أرسلان ويقصد بهم المسلمين بالهوية ومكان الاقامة) قد جاء ليضاعف الازمة اذ هم يتقربون من الفرنج ويخضعون لهم وينشرون سياستهم العلمانية الالحادية مدعين انها وحدها طريق الحصول على القوة والتقدم . ان هذا التغريب وتلك الدعوة الى التحرر من سطوة الدين والتقاليد تخالف حتى ما ذهب اليه الغربيون من عدم السير في طريق محفوف بالشكوك والمخاطر وغير معروف العواقب ، وفي التمسك والدفاع عن ثقافتهم وتقاليدهم وتاريخهم . ولو كان ” المسلمون الجغرافيون “ صادقين وأمناء ومحترمين لكانوا قلّدوا اليابان التي عرفت كيف تستحوذ على كل مكتسبات ومنجزات الحضارة والعصرنة الغربية دون ان تفقد مع ذلك هويتها وشخصيتها ودون ان توصف بالرجعية..
كما ان هناك مثال الشبيبة اليهودية ورئيسها وايزمن الذي يناضل لاعادة إحياء اللغة العبرية حتى تكون الرابطة التي توّحد اليهود وقاعدة عملهم لانشاء دولة لهم في فلسطين . وهكذا ومع ان اليهود يطالبون بانتمائهم وانتسابهم الى قبائل والى لغة لا يُعرف مبدأ تاريخها لتوغلها في الزمن لتكون قاعدة لوحدتهم في النضال فانه لا يُقال عنهم انهم رجعيون او متأخرون (40).
لقد أصبح المسلمون جبناء ، يخافون وييأسون ، وفقدوا الثقة بانفسهم وبدينهم ، وبالغوا في تضخيم الشعور بالعجز امام الغرب والاتكال على القدر والمعجزات .. ان هذا هو سبب الخمول والتأخر ولذا فان النهضة لا بد أن تبدأ باعادة الاعتبار الى قيمة اخلاقية اسمها التضحية .. انها الجسر الذي يقود المسلمين الى التقدّم .. وهي هنا العمل والجهاد بمعناه الاوسع والاكثر واقعية اي بذل الدماء والاموال والاملاك لبناء قواعد صلبة لنهضة حقيقية (41).
بهذه المعاني الثورية خاطب أرسلان جيله والاجيال الشابة مؤسسا" لفكرة مركزية في العمل الاسلامي النهضوي التنويري الذي استعاده الشهيد كمال جنبلاط كما استعاده أئمة الفكر الاسلامي المعاصر وعلى رأسهم موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين..انها فكرة التواصل والتفاعل بين الحضارات والثقافات لخير البشرية وللسلام بين الناس.
6- علمنـــة أم إلحـــاد:
في تلك الايام العجاف التي اشتد فيها ساعد الغزو الامبريالي وطاغوته،انقسم المثقفون في مصر ،حتى وصلت السجالات والصراعات الى ميدان اللغة العربية ، وتاريخ مصر، والهوية الفرعونية ، والثقافة الاسلامية ، والفصحى والعامية . (42) . وقد رأى الامير أرسلان في الحملة التغريبية والغربية على مصر صورة جديدة من صور الغزو الصليبي تستهدف الهوية الاسلامية والعربية .فكان كما وصفته جريدة الفتح ” على رأس المجاهدين المسلمين المدافعين عن الاسلام والثقافة العربية “ (43) وهو وضع قلمه وحماسه وسمعته في خدمة انتصار الاسلام في هذه المعركة التي وجهها ضد الغرب الذي اعتبره رأس الشر ، في حين ان الشرقيين ليسوا سوى مقلّدين مبهورين باسطورة العصرنة والحداثة والعلمانية التي هي اكذوبة تضحك بها اوروبا علينا حيث ان مثقفينا الشرقيين المبهورين بهذه الاسطورة يصدقون كل ما يأتي من هناك . وحسب الامير فان اوروبا التي تتحدث عن الحريات الدينية لا تطبق ما تدعي تعليمه للآخرين . ذلك ان اوروبا يحكمها العقل والعقل لا يسمح بالحرية المطلقة فهو في اللغة العربية يعني الربط ( عَقَلَ) الذي هوضد الاطلاق والتحرير . ويذكر ارسلان لتدعيم رأيه مثال سويسرا المحافظة جدا" في مجال حرية الاديان والدعاية الدينية (44) .
وما هو مهم عند ارسلان هو تبيان وكشف الصلة الوثيقة ما بين الايديولوجية والسلطة ، وما بين الدين والدولة . وهو لا يكتفي بعرض وجهة نظر الاسلام في هذا الخصوص وانما يجهد لتقديم اثباتات وشهادات من الغرب ومن السياسات الاوروبية لاقناع اولئك الذين لا يقبلون الا الدليل الذي يحمل العلامة الاجنبية ” صنع في اوروبا “. ان الفصل بين الدين والدولة في الغرب هو اكذوبة ووهم وهو لا يعدم الامثلة الكثيرة على ذلك (45) .
فهو يكتب عام 1929 وبمناسبة الاتفاق المعقود بين البابا والحكومة الايطالية والذي يعطي الفاتيكان الكثير من الجاه ومن الحقوق ، ويعلّق على ملاحظة وردت في جريدة الوقت ( لو تان) الفرنسية قالت بان محتوى الاتفاق المذكور يعني ان الحكومة الايطالية الفاشية تقبل بالكاثوليكية كديانة للدولة ، فيكتب الى الملحدين باسم العصرنة ، والى العصريين الذين لا يهدفون سوى الى تعميم الالحاد كيف ان الحكومة الموصوفة بالعداء للدين تقرر العودة الى الدين والمحافظة على كنيسة عمرها حوالي الالفي عام وكيف ان ذلك لا يؤثر في شيء على تقدميتها وعلى ماديتها العلمية . وهو طبعا" يعقد مقارنة بين ما حصل في ايطاليا وبين ما يطالب به بعض الشرقيين من فصل بين الدين والدولة (46). وهذا يعني بالنسبة اليه خطل الادعاء بان الدين لا يمكن ان يتعايش مع التقدم ، وبان الايمان الديني خاص بالشعوب المتخلفة والامم الضعيفة ويكفي في ذلك مثال قرار الحكومة البلجيكية مساعدة البعثات التبشيرية المسيحية في الكونغو . فبما ان بلجيكا هي دولة – امة متمدنة ومتطورة فان ذلك يعني ان التطور والمدنية يتعايشان مع الدين .. وان الحكومة تتواصل مع الكنيسة اي ان بلجيكا هي مسيحية وحكومتها لا تخجل من اعلان ذلك ومن تطبيقه (47).
اما حكومة انقرة التي تريد تقليد اوروبا وعلمنة البلاد فان أرسلان يقول لها كيف ان اوروبا هي علمانية طالما ان الحكومة الفاشية الايطالية تصدر طابعا" بريديا" يحمل صورة الصليب والانجيل وعليهما كلمة ” ايمان “ .. وهذه الحكومة المؤسسة على مبادىء الكاثوليكية هي علمانية في نظر انقرة (48). واذا كان العصريون المقلّدون للغرب يعتقدون بان الحرية محترمة ومطبّقة في اوروبا فانهم واهمون او مضلَّلون . فالحرية مقيّدة تماما" في اوروبا وذلك بداعي الحفاظ على الوحدة الوطنية في البلاد وحماية امن الدولة . ولكن ايضا" وأساسا" بهدف تغطية عملية النهب المستمرة للمستعمرات. ففي فرنسا يُقدم الى محاكم خاصة كل من يهاجم سياسة الدولة في المستعمرات (49). وفي سويسرا المعتبرة ليبرالية فان القوانين تعطي لكل ولاية ( كانتون) حق اتخاذ كل ما تراه مناسبا" وضروريا" من تدابير لحماية الامن العام والاخلاق والوحدة الوطنية . وهكذا فان اسطورة الحرية في اوروبا هي ثمرة العمل الذكي للمبشرين ( على حد وصف ارسلان) (50) .
ان الاوروبيين فخورون جدا" بدينهم ولا يقبلون المساس به او تركه دون اغاثة . ولهذا فان الحكومة الهولندية تشجع وتدعم البعثات التبشيرية في اندونيسيا ، كما ان الباريسيين يدفعون المساعدات لدعم بعثاتهم التبشيرية في الشرق .. واهالي جنيف يُصلّون في الكنائس لمنع وقوع حرب عالمية جديدة (51). ويواصل الامير في مقالاته في الفتح حملته نحو المتعلمنين حاملي الافكار العصرية ليقول لهم بان اوروبا هي رغم كل شيء مسيحية وبان مدنيتها وعقليتها مستمدتان من الاناجيل والتوراة ، وبان قوانينها هي رومانية (52).
وبمناسبة نشر برنامج الحكومة الالمانية الجديدة والداعي الى استعادة الوحدة الاخلاقية والروحية، يتساءل الامير بسخرية ان كان المتعلمنون المتعصرنون سيقولون بان حكومة المانيا رجعية وبان الامة الالمانية متخلفة وغير عصرية ؟(53). وبالنسبة لأرسلان فان كل سياسة اوروبا مبنية على المسيحية التي تشكل الاساس الثقافي والايديولوجي وضمير الشعوب ، وذاكرتها ، وتراثها ، والقوانين التي تسوس حياتها اليومية . اما الفصل بين الدين والدولة في اوروبا فانه لم يمسّ الطابع المسيحي لتلك الامم ، باستثناء البلاشفة (54) . ان الدولة والدين هما توأم حقيقي رغم كل ما يُقال ويُكتب حول الفصل بينهما عند الامم المتمدنة لكي يظن الشرقيون والمسلمون بان ذلك قاعدة لا تناقش وبان اوروبا مثال المدنية لا تقيم وزنا" او اعتبارا" للدين وبان ذلك هو سر تقدمها وسعادتها .. ولكن رغم ذلك كله فان اوروبا الرسمية ، الحكومية ، والشعبية لم تترك الدين ابدا" ، لا بالامس ولا اليوم (55) .
اذن ، فان الحكومات الشرقية (يقصد تركيا) التي تدعي قطع روابطها بالاسلام تقليدا" واحتذاء″ بمثال اوروبا التي قطعت روابطها بالمسيحية ، حفنة من الكذّابين الذين يضلّلون ويشوّشون افكار السذج من مواطنيهم ويخفون الحقيقة .. ومن يردد ويعمم اكاذيب وترهات تلك الحكومات ، في مصر والبلاد العربية ، هم ايضا" كذّابون ..(56) وهؤلاء ليسوا سوى من يُسمّون انفسهم بالمدافعين عن ” الفكر العربي المعاصر “ . وشكيب ارسلان يصفهم بالكذّابين وهو يتهكم عليهم حين يقول بانه أقسم يمينا" بأن لا يجادلهم إلاّ انطلاقا" من المصادر الاوروبية ، ومن ما تأخذ به اوروبا او تتركه .. فهو لا يقول لهم قال الله او قال رسوله لانهم لا يؤمنون بالله أو برسوله .. وهو لا يقول لهم ايضا" قال جمال الدين الافغاني او قال محمد عبده لانهم لا يأخذون بأقوال هذين الاستاذين المعلمين بل ويحتقرونهما ويحتقرون كل ما هو شرقي .. وهو لا يقول لهم قال ارسطو او افلاطون او ابن سينا او الفارابي لان هؤلاء قدماء والمتعصرنون يحتقرون كل ما هو قديم.. اذن سيقول لهم ارسلان قال المسيو فلان او المستر علاّن .. لان هؤلاء هم اساتذتهم واساتذة الامم التي يدعوننا للحاق بها ..(57) وفي النهاية فان هؤلاء المتعصرنين المتفرنجين ليسوا سوى مجرد مقلّدين ينشرون دعاية لعقيدة وجدت اكتمالها في الكمالية التركية .. فهناك الافعى ، وقائد الاوركسترا ، ولا ينبغي نسيان ذلك .. ومن هنا تخصيص أرسلان بالحملة الاشد عنفا" والاكثر سخرية وتهكما"، للأتاتوركية الكمالية في أنقرة..
7- تركيــا الكماليـــة:
حتى إلغاء الخلافة تعاطف العرب ( وكل المسلمين) مع الاتراك في نضالهم
التحريري ، وقاموا بجمع التبرعات والمساعدات لدعم قضيتهم ونضالهم وخصوصا" في مصر وسوريا (58). ولكن شيئا" فشيئا" ومع انكشاف سياسة الكماليين العلمانية والتغريبية ، بدأ المسلمون يُعيدون النظر بموقفهم ويغضبون ويعارضون حكام تركيا الجدد . الا ان الامير شكيب كان الاول في وقوفه لوحده محذرا" العرب والمسلمين من حقيقة مصطفى كمال والكمالية وذلك منذ عام 1922 . ان عثمانيته العنيفة في مرحلة ما قبل الحرب قد أخلت المكان لعداء عنيف هو الآخر، للكماليين والاتحاديين ، ولتمسك أعنف ايضا" ، لا بل شبه مثالي بالخلافة ”رمز وحدة وقوة الاسلام “ . تحولت الخلافة عنده الى افضل رابطة ممكنة لتوحيد المسلمين .. وهو يستعيد تاريخ دولة الخلافة العثمانية التي جمعت 400 مليون مسلم في حين جاء اتاتورك لتقطيع هذه الرابطة بين تركيا والعالم الاسلامي مدعيا" انه لا يريد سوى الرابطة التركية القومية ومعتبرا" المسلمين اجانب وغرباء ..
ويرى ارسلان في ذلك افتراء على الحقيقة وعلى المصلحة وهو يستشهد بأنور باشا الذي قال في مرة من المرات بان الاتراك الذبن يعيشون في روسيا يتعاطفون مع تركيا ليس لاننا اتراك بل لاننا مسلمون . اما اليقريت الذين يعيشون في سيبيريا والذين هم اتراك مثلنا فانهم بسبب كونهم وثنيون لا يتعاطفون معنا ، ولا يعرفوننا وكذلك الامر بالنسبة الينا. (59)
ان تعلّقه بالخلافة وبدولتها ، لا ولم يفارقه أبدا" ، إذ نحن نجده حتى في كتاباته المتأخرة . ففي عام 1935 وفي كتابه عن احمد شوقي يعبّر عن خوفه على تركيا ويبرز تعلُّق الشعب التركي الى يومه بالعثمانيين(60) . وكان قد كتب عام 1931 بان سقوط الدولة العثمانية التي كانت هي دولة الخلافة ، جاء باناس يريدون تدمير الاسلام واقتلاعه من البلاد الاسلامية وانه في مواجهة هذا الخطر تقف كل الدول الاسلامية عاجزة او تواجه صعوبات تشلُّها عن امكانية التدخّل .(61)
وفي كل كتاباته لا ينفك أرسلان عن استذكار مجد المسلمين في الاندلس وسقوط الخلافة في قرطبة وما تلاه من إذلال للعرب والمسلمين . اما وضع المسلمين اليوم فهو أخطر مما كان عليه ايام سقوط غرناطة . . وذلك ان صفوفهم قد تفرقت وتبعثرت ، ومجدهم قد أفل ، بسبب سقوط الخلافة التي يقول عنها البعض اليوم بانها لم تخدم العرب وانما كانت وبالا" عليهم .. والحقيقة حسب ارسلان هي ان سبب تعاسة وشقاء المسلمين هو تفرقهم وتناقضاتهم ، وخصوصا" العرب منهم ، الذين قال عنهم النعمان ابن المنذر انهم ملوك كلهم .. ا ن امّة يريد كل فرد من افرادها ان يكون ملكا" ينتهي بها الامر لان تخضع للاجنبي وتفقد ملوكها..(62)
ان عداء أرسلان لتركيا الكمالية بعد إلغاء الخلافة لا حدود له . فهو يبدأ بالهجوم ضد مصطفى كمال مذكرا" المسلمين بان هذا الاخير قد قاد حرب التحرير تحت شعار الاسلام ، وانه كان قد أرسل تلغرافا" الى السيد احمد الشريف السنوسي في ليبيا يقول له فيه ان المعركة بدأت ، أنجدنا بصحيح البخاري (63).
وفي مقالة اخرى يقول ارسلان بان مصطفى كمال كان في بداية أمره يشهد صلاة الجمعة والمناسبات الدينية ، ويتحدث عن الاسلام وعن اخوانه المسلمين وعن معركته القادمة لاستعادة القدس ويردد انشاء الله .. ولكنه ما ان وقّّع اتفاقية لوزان حتى غيّر وجهه ، ونسي أقواله لا بل تنكّر لها وعمل بالضد منها (64). ولذا فان ارسلان يعتبر اتفاق لوزان بداية القطيعة بين الاسلام وحكام تركيا . وهو يسميهم ”المسلمين الجغرافيين “ ويتهمهم بالتآمر مع الاجانب في لوزان لالغاء الشريعة الاسلامية من بلادهم على أمل الحصول على امتيازات من الاوروبيين والاندماج معهم ولذلك لبسوا القبعة كعلامة على اندماجهم بالامم الاوروبية(65). وأرسلان الذي يعتبر نفسه مستهدفا" بالموقف اللاديني للكماليين ، لا يترك مناسبة الا ويتصدى فيها لهم . فهو حين يذكر القداديس التي اقيمت لراحة نفس الجنرال فوش ، والاقوال التي قيلت حول مزاياه الكاثوليكية والايمانية ، يختم مستهزئا" بالقول بان النكت حول ان اوروبا قد اصبحت بلا دين وان حكامها تركوا المسيحية وان علينا للحاق بهم في دروب التقدم ، ان نقطع صلتنا بالاسلام ، ان كل هذه المعلومات لم تصل بنجاح الا الى انقره ..(66).
وحين حوّل حكام انقره الزواج من ديني الى مدني ، فان أرسلان يسخر منهم ويتحدث عن الزواج ، وتعدد الزوجات ، والطلاق في الاسلام ليقول بان الاسلام ليس فيه زواج ديني حتى تلغيه انقره ..ان الزواج في الاسلام هو عقد بين اثنين يقره شاهدان عدلان (شاهداك زوّجاك)(67).
وحين يتحدث عن ثورة الافغان التي قامت احتجاجا" على اعمال حكومتهم المنافية لٍتعاليم الاسلام وتقاليده ، فانه يقارن الوضع الافغاني بما يجري في تركيا ويقرر بان الحكام الافغان قد تأثروا بالاتراك وبان الملك امان الله خان يقلّد مصطفى كمال (68). وفي مقال آخر يعتذر أرسلان عن غضبه العنيف ضد تركيا بعد ان كان شديد الارتباط بها الا انه يقول ان هذا الموقف لا يقتصر عليه بل هو يشمل الكثيرين ممن كانوا اصدقاء تركيا العثمانية ثم اصبحوا اشد أعداء الكمالية ويذكر منهم الشيخ شاكر ، والشيخ الجاويش ، ومصطفى صادق الرافعي (69).
ونحن نلحظ في كل مقالاته استخدامه كلمة انقره حين يتكلم عن الكماليين مع احتفاظه بالتقدير والاحترام لاستانبول والشعب التركي . وهو يصل الى حد القول بانه لا يقبل اي تجريح يطال الترك وانما يقبل كل نقد يصيب الكماليين مميزا" بين حكام انقره وبين المسلمين الاتراك الامناء لتاريخهم ولذكرى استانبول ولتضحياتهم في سبيل الاسلام (70). وهو يقرر بعد مشاهداته وملاحظاته حول السياسة الكمالية المعادية للاسلام بان خطر الفرنج على العرب هو أقل من خطر الكماليين (71).
ولذلك نجد ان مقالاته في الفتح شديدة العنف ضد حكام انقرة وضد المتفرنجين والعصريين الذين قد يجدونه متعصبا" وهو يسخر منهم قائلا" بانه لا يهمه ما يقولونه عنه طالما انه على الحق (72) وطالما ان ” ملاحدة انقره “ وأتباعهم في مصر واتباع اتباعهم في سوريا وفلسطين والعراق لا يجدون ما يقولونه ازاء واقعة كون الانكليز والالمان شديدو المحافظة في ما يخص تقاليدهم ومباديهم .. مكررا" سؤاله ان كان يجوز القول بان هؤلاء الانكليز والالمان وغيرهم هم جامدون متخلفون عفنون رجعيون . في حين ان التقدم الذي ينشده العصريون هو اكثر مما ما عليه الانكليز والالمان (73). لقد خدع الكماليون كل الناس لانهم اتبعوا سياسة متدرجة للتغيير البطيء ذلك ان شعبهم شديد التعلق بالاسلام فلم يستطيعوا ان يقطعوا صلتهم بهذا الدين بضربة واحدة مفاجئة (74).
لم يترك الامير اية مناسبة ممكنة الا وحذّر المسلمين وفتح أعينهم على مستقبل الاسلام في تركيا (75) وهو اشتكى مرات عديدة من تقاعس وسلبية المسلمين تجاه السياسة الكمالية (76) معتبرا" ان خطورة حملاته تتناسب مع درجة الخطورة التي يمثلها المشروع الكمالي الذي استفاد من اتكال المسلمين واعتيادهم تسليم امورهم وانقيادهم لتركيا.. وقد أثمرت حملات الامير تحوّلا" كبيرا" في مصر ادى الى وقوف رشيد رضا ، امين الرافعي ، عبد العزيز جاويش ، محمد الخضر حسين ، احمد تيٍمور ، عبد الحميد سعيد ، مصطفى صادق الرافعي ، ومجلة الفتح وجريدة الشورى وغيرها من القوى والشخصيات السياسية والدينية الى جانب موقف التصدي للكمالية .
الا ان الفتح أشارت وعن حق الى ان أول من استشعر خطر الكمالية وحذّر المسلمين منه هو الامير شكيب ارسلان نفسه (77).
8- نتائــج المواجهـــة:
اولى نتائج هذه المعركة الحضارية- السياسية تمثّلت في انتعاش التيار الاسلامي الحركي المقاوم في مصر وامتداد تأثيره الى شبه القارة الهندية والى اندونيسيا وماليزيا وبلدان المغرب في شمال افريقيا . ورافق ذلك ولادة عشرات الجمعيات والهيئات الدينية في مصر وهي معظمها أبصرت النور ما بين عامي 1927 و1929 ، وكان ابرزها : جمعية الشبان المسلمين ، جمعية مكارم الاخلاق الاسلامية ، جمعية الهداية الاسلامية ، جمعية السلفية ، جمعية أهل السنّة ، جمعية نشر الفضائل الاسلامية ، وأخيرا" جمعية الاخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنّـــا الذي عُرِف باعجابه الشديد وتأثره الكبير بالامير أرسلان ، كما تشهد بذلك كتاباته المبكرة في الفتح ، وكما يذكر هو نفسه في مذكراته حين يتحدث عن مرحلة 25- 28 والصراع الحضاري السياسي وبحثه عن اشكال جديدة للمواجهة بعد انتشار الجمعيات الدينية بتأثير من ارسلان والفتح والشورى (78) وفي نفس الوقت تطورت المعركة ضد البعثات التبشيرية وضد الحركة الصهيونية وكان تتويج ذلك في المؤتمر الاسلامي الاول الذي انعقد في القدس عام 1931 بتأثير كبير من الامير ارسلان ومدرسته.
وخلاصة القول في هذه العجالة أن الدور الكبير للأمير شكيب ارسلان في إرساء أسس النهضة الحضارية الشرقية (العربية الاسلامية) ارتكز الى خبرته العميقة في السياسات الشرقية ايام الدولة العثمانية،والى تجربته الواسعة في جبل لبنان وفي مصر ثم في أوروبا (حيث عاش لسنوات طوال في المنفى الاوروبي)..ولكن اولاً وأساساً الى روحه الطاهرة النبيلة: روح فارس من فرسان هذا الشرق وحكيم من حكمائه، جمع بين النظرية والممارسة في أروع وثاق يمثله كتاب :"لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"..
الهوامـــــش:
1- انظر دراستنا حول "التفكير الاصلاحي والتفكير الثوري : بين الافغاني ومحمد عبده" . ورقة بحثية الى ندوة المعهد الاسلامي – لندن – آب 1984. وأيضا" غازي التوبة ” الفكر الاسلامي المعاصر : دراسة وتقويم “ - بيروت 1977.
2- مارسيل كولومب : تطوّر مصر - بالفرنسية – باريس 1950- ص 121-122
3- م . ن .
4- م . ن .
5- لدراسة وافية مفصّلة حول الامير شكيب ارسلان ، انظر اطروحتنا للدكتوراه في جامعة السوربون – باريس – 1983. وهي بعنوان : الاسلام والعروبة في فكر وممارسة الأمير شكيب ارسلان (1869-1946) (بالفرنسية).
6- عجاج نويهض في مقدمة كتاب حاضر العالم الاسلامي ( طبعة بيروت 1974) . م1- ج1- ص 34- 35.
7- المنار – المجلد 23- ل\الجزء 2- ص 121-134، وج3 ص 202-212، وج4 ص 290-299، وج5 ص 373-382، وج6 ص 459-466.
8- نويهض – م. س. وفي لقاء شخصي معه جرى صيف 1980في رأس المتن.
9- أرسلان في مقدمة حاضر العالم الاسلامي م1-ج1- ص 4 و11.
10- كولومب : م. س ص144.
11- أرسلان : حاضر .. ص 24- 25.
12- م . ن ص 25.
13- م . ن ص 26- 30.
14- م . ن ص 31- 42.
15- م . ن ص 42- 105.
16- ارسلان في مقدمته لكتاب محمد احمد الغمراوي : النقد التحليلي لكتاب في الادب الجاهلي – القاهرة 1929 . والمقدمة تقع في الصفحات 3 الى 59.
17- جريدة الفتح العدد 237 ( 5/2/1931) والعدد 241 ( 19/3/1931).
18- ارسلان : حاضر العالم الاسلامي – م 1 – ج2 – الصفحات 140- 165 حول السنوسية ، والصفحات 166- 174 حول الامير عبد القادر الجزائري ، و175-187 حول البربر ، و188- 193 حول الشيخ شامل ، و 395- 396 حول القادرية والشاذلية والتيجانية، و 398- 407 حول السنوسية ، و304- 359 و360-401 و314- 321 حول الاسلام الاسود.
19- حاضر العالم الاسلامي : م1- ج1 ص 238- 239 و م2- ج3 ص 208- 348.
20- الفتح العدد 82 و86 ( شباط وآذار 1928) .
21- حاضر .. م2 - ج3 ص 1- 54.
22- حاضر م1 – ج1 ص 107- 155.
23- م . ن ص 240- 258.
24- ابو الاعلى المودودي : الخلافة والملك – تعريب احمد ادريس – دار القلم –
الكويت 1978.
25- حاضر .. م 1 –ج1- ص 334- 363 والفتح الاعداد 261-267-286 و342.
26- جريدة الشورى (2/7/1930).
27- الفتح العدد 295 (2/6/1932).
28- الشورى (26/8/1926).
29- الشورى (4/2/1926).
30- الفتح العدد 219- (10/10/1930).
31- أرسلان في مقدمة كتاب الغمراوي – م. س. ص 5.
32- الكتاب الذهبي لمجلة المقتطف في الذكرى الخمسين لصدورها - مصر 1926- ص125.
33- أرسلان : لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم – الطبعة الاولى القاهرة 1930- انظر طبعة بيروت 1975- ص 41.
34- م. ن ص 42.
35- م. ن ص 43- 44.
36- م. ن ص 45- 67.
37- م. ن ص 75- 76.
38- م. ن ص 77- 87.
39- م. ن ص 88 و ص 101- 117.
40- م. ن ص 95- 99.
41- م. ن ص 133- 138 و 153- 163.
42- كولومب : م. س. ص 122- 126.
43- الفتح- العدد 198 (8/5/1930).
44- الفتح- العدد 259 (6/7/1931).
45- ارسلان- حاضر .. م1- ج1- ص 238- 239 وم2-ج3- ص 343-364 وم2- ج4- ص 157-160 وايضا" مقالته حول الاسلام والحضارة الحديثة في مجلة الزهراء – الشهر الاول من عام 1344 ﻫ ( تموز 1925) ص 42- 45.
46- الفتح- العدد 138 (7/3/1929).
47- الفتح- العدد83 (9/2/1929).
48- الفتح- العدد320 (25/7/1351ﻫ).
49- الفتح- العدد204 (19/6/1930).
50- الفتح- العدد259 (17/6/1931).
51- الفتح- العدد274 (30/10/1931).
52- الفتح- العدد290 (25/3/1932).
53- الفتح- العدد333 (24/2/1933).
54- الفتح- العدد335 (10/3/1933).
55- الفتح- العدد383 .
56- الفتح- العدد 83 .
57- الفتح- العدد295 .
58- أرسلان : رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة- دمشق 1937- ص327- 328.
59- أرسلان : شوقي وصداقة أربعين سنة – القاهرة 1936- ص214.
60- م ن ص 121- 124.
61- الفتح- عدد225 (21/11/1930).
62- الشورى (31/8/1930).
63- الفتح- عدد195 (17/4/1930).
64- ارسلان - شوقي . م. س. ص 215.
65- الفتح- عدد163 (5/9/1929).
66- الشورى (8/5/1929).
67- الشورى (25/11/1926).
68- الفتح- عدد132 (24/1/1929).
69- أرسلان : رضا.. م. س. ص437.
70- الفتح- عدد292 (22/4/1932).
71- أرسلان : رضا. م. س. ص436.
72- الفتح- عدد53 (14/7/1927).
73- الفتح- عدد54 (21/7/1927).
74- الفتح- عدد58 (18/8/1927).
75- الفتح- عدد116(4/10/1928).
76- الفتح- عدد78 (5/1/1928).
77- الفتح- عدد194(10/4/1930).
78- كولومب م. س. ص125.
شكيب ارسلان والمغرب العربي
شكيب ارسلان والمغرب العربي
ورقة قدمت الى مؤتمر معهد الدراسات الاسلامية في جامعة المقاصد،تموز 2002، سعود المولى
هل كان شكيب أرسلان عثمانيا" مشرقيا" فلم يهتم بالمغرب العربي قبل عام 1930؟ هذا ما يؤكده باحثون عرب واوروبيون أبرزهم جوليت بسيس Bessis
التي تقول : ” حتى عشية ،1930 وباستثناء وجوده في ليبيا قبل عام 1914 حين كان يخدم الامبراطورية العثمانية، فان شكيب ارسلان لم يبد ابدا" اهتماما" خاصا" بالشؤون المغربية . فلا يبدو انه تعاطى بأي شكل من الاشكال مع الحركةالوطنية التونسية التي تطورت بعد الحرب الكبرى ، كما لا يبدو انه أقام صلات تعاون مع قادتها بمن فيهم الاساسي بينهم عبد العزيز الثعالبي . كما اننا لا نجد ايضا" اي أثر لمواقف معلنة خلال حرب الريف ..غير اننا نجد مراسلة بين الامير وبين الاصلاحي الجزائري طاهر العقبي ولعلها تندرج في سياق صلات أقدم قامت بين الحركة الاصلاحية الاسلامية ورائدها الشيخ ابن باديس وبين شكيب أرسلان .؟؟ (1)
يفتقر هذا الكلام الى الدقة والى الانصاف ناهيك عن ابتعاده عن العلمية والتاريخية والموضوعية .. والسبب في ذلك الاسقاط الغربي عدم معرفة الرابط بين الحركة الاصلاحية الاسلامية وبين الحركة الوطنية المغاربية ودور الامير كحلقة ربط وكصلة وصل بينهما .
صحيح ان عمل الامير خلال المرحلة ما بين 1918(تاريخ سقوط الدولة العثمانية) و1930 (تاريخ اصداره مجلة الامة العربية وزيارته لتطوان) قد اتسم بالتركيز على المشرق (القضية السورية التي حمل لواء الدفاع عنها أمام عصبة الامم ، وقضية فلسطين ، وكذلك قضية مواجهة العلمنة والتغريب في مصر) (2)، الا أن ذلك لا يجعلنا نقرر انه لم يهتم بالمغرب قبل عام 1930 رغم اننا نزعم بان عام 1930 شهد انعطافة تاريخية في فكر وممارسة الامير مرتبطة بتحولات عصره وهي انعطافة كان للمغرب حصة الاسد فيها .. ومن هنا قول الباحثين الغربيين ان عام 30 شهد تحول الامير نحو المغرب . ذلك ان عام 30 قد شهد انشاء مجلة الامة العربية من جهة وحصول تطورات خطيرة ومهمة في المغرب العربي من جهة اخرى الامر الذي أوجد ظروفا" بلورت مساهمة الامير المميزة في الحركة الوطنية المغاربية بقوة وعمق ..
المغرب العربي والحركة الاسلامية الاصلاحية
لا يمكن بأي حال من الاحوال فصل الحركة الوطنية المغربية عن سياقها التاريخي وحضنها الطبيعي الذي نشأت فيه وتبلورت بالارتباط التام معه وهو الاسلام الاصلاحي الذي مثّله الافغاني – عبده – رضا – وكان الامير أرسلان رائده وناشر فكره ومنهجه في المشرق والمغرب على السواء . يقول عبدالله العروي ان فكر وتراث محمد عبده قد أثمر بعد موته في المغرب اكثر من مصر .. وقال انه لو لم يوجد محمد عبده لوجب اختراعه ..
(3) وليس شخص محمد عبده هو من أثّر في المغرب وانما مدرسته وخصوصا بواسطة المنار ، وبواسطة سمعة وشهرة وعمل وفكر أرسلان .
” فعلى الرغم من ضغط مدرسة مالكية تقليدية ومن عزلة جغرافية نسبية الا ان التأثيرات المشرقية قد وصلت الى أقصى الغرب المغاربي “ .
فلقد كان هناك حوالي الالفي مغربي في القاهرة والاسكندرية يعملون في التجارة ، كما ان أعدادا" اخرى من الطلبة كانت تدرس في الازهر زمن الشيخ محمد عبده ومجلة المنار التي كان لها نفوذ كبير في المغرب .. وحتى عام 1912 عمل المصريون والاتراك مباشرة في المغرب بهدف مقاومة مخططات الاجانب .. وكان الخديوي عباس حلمي الثاني وجماعة تركيا الفتاة يرسلون بعثات عسكرية ودعائية للعمل وسط القبائل .(4)
وكان عبدالله ابن ادريس السنوسي رائد الاصلاحية في المغرب، طالبا" أزهريا" نجح في نشر أفكار تلك المدرسة وفي الدعوة الى انشاء الجمعيات والنشاطات الاجتماعية الثقافية والتربوية .
وقد واصل بوشعيب الدوكلي والعربي العلوي عمله وهما كانا من تلامذة المنار التي انتشرت بقوة في فاس . وفي الجزائر كان الشيخ العقبي والشيخ الابراهيمي ممن درس في المشرق وساهم في نشر مدرسة عبده – رضا . اما ابن باديس فهو المثال الساطع على الزواج ما بين الاسلام الاصلاحي للمؤسسين المشارقة وما بين العروبة
والوطنية الجزائرية المناضلة ضد الاستعمار الثقافي . وفي تونس كان علماء الزيتونة في طليعة من تجاوب مع دعوة مجلة العروة الوثقى لا بل يقال بان التونسيين (خصوصا" محمد السنوسي وبوحاجب وغيرهما) هم الذين دفعوا الافغاني وعبده الى اصدار المجلة من باريس وشاركوا فيها بالقصائد والمقالات .
وعلماء الزيتونة هم الذين دعوا محمد عبده لزيارة تونس حيث استقبل استقبال القادة الكبار في نوفمبر 1844 (5). ومن جهة اخرى فان زعماء الحزب الوطني المصري كان لهم اتصالات مستمرة مع التوانسة . كما ان محمد فريد زار تونس وكان له تأثير كبير على مجموعة الشبان الذين أسسوا في عام 1907 ” حركة تونس الفتاة “ (عبد العزيز الثعالبي، محمد وعلي باش حانبة) وكذلك على صحيفة ” التونسي “ التي كانت لسان حال المطالب التونسية والتي تحول مركز ادارتها الى مركز قيادة للحركة الوطنية ما بين الاعوام 1907 و 1912 .
لقد كانت حركة الجامعة الاسلامية من القوة بمكان في شمال افريقيا قبل الحرب العالمية الاولى الى حد انها ضمت العشرات من العلماء ومن تلامذة الافغاني وعبده وكانت الوقود الذي غذى الانتفاضات الشعبية ضد قوى الاحتلال الاستعمارية . وفي المغرب العربي كان شعور الاخوة والتضامن مع الدولة العثمانية قويا" الى حد انه استثار ردود فعل شعبية واسعة وعنيفة وخصوصا إبان الحرب في ليبيا وإابان الحرب العالمية الاولى . ففي خلال تلك المرحلة (1911-1914 ) برز موقف الامير أرسلان المدافع عن الدولة العثمانية والمعارض للدعوات الانفصالية من جهة كما لدعوات التتريك الطورانية من جهة اخرى . وهو حمل راية الدعوة الى الوحدة والى الجامعة الاسلامية والى صد الهجمة الغربية وانتصار الدولة العثمانية في حروبها ، وجسّد موقفه هذا عبر قيادته لكوكبة من المتطوعين من الدروز الى الحرب في ليبيا (1911-1912 ).. كما قاد مجموعة اخرى في الحملة العثمانية على ترعة السويس (1916) ..
وهذا الموقف الفكري والعملي هو عين الموقف الجماهيري المغربي والذي وجد في الامير ارسلان رمزا" له. وقد وجد هذا التيار تعبيره الابرز والاقوى في ” مجلة المغرب- الجزائر- مراكش- تونس- وليبيا “ وهي التي صدرت في جنيف في 30 أيار 1916 لتحمل مطالب الاهالي المغاربة في البلدان المذكورة في عنوانها . والمجلة صدرت شهرية بانتظام حتى آخر عام 1916، ثم تباطأت وتيرة صدورها بدءا" من يناير 1917 اذ صدرت في أعداد مزدوجة حتى آب 1918 ولتتوقف اخيرا" في عدد حمل تاريخ ايلول- كانون الاول 1918 ولكنه تضمن وثائقا" بتاريخ كانون الثاني- يناير 1919 (6).
اما مدير المجلة فهو محمد باش حانبه، التونسي من أصل تركي، والمنفي منذ 1912 مع شقيقه علي وعدد آخر من التوانسة ممن كانوا مقربين جدا" من الامير شكيب الذي وصف الاخوين باش حانبه بانهما ” أول أنصار تحرير المغرب والممهدين للحركة التونسية .“(7)
ومع نهاية الحرب وانهزام العثمانيين واحتلال بلدان المشرق العربي وتجزئتها، أصيب المغاربة بضربة قوية في آمالهم وتطلعاتهم الا انهم لم يتوقفوا عن النضال لتحرير بلادهم ، فكانت ثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي علامة مهمة في الوعي المغاربي (1920-1926) وهي لقيت كل الدعم والاحتضان من المسلمين في المشرق العربي وعلى رأسهم الامير شكيب (وذلك بعكس ما ذهبت اليه جولييت بسيس في مقالتها السالفة الذكر8).
في فصل طويل (من تعليقاته على كتاب حاضر العالم الاسلامي) مخصص لثورة الريف وبطلها الخطابي، يقارن الامير ارسلان بين الخطابي وكبار الاستراتيجيين في العالم ويجد انه أفضل من فوش وهندنبرغ ولينين وغيرهم .. وانه بطل الاسلام وحاميه والمدافع عنه .. وانه يجسّد كل صفات وميزات هؤلاء القادة الاستراتيجيين العظام بل ويتقدم عليهم في الشجاعة والإقدام والبطولة (9) .
ومثال آخر على الروابط التي كانت تجمع أرسلان بقادة المغرب العربي تقدمها لنا مراسلاته مع طاهر العقبي وابن باديس والتأثير الكبير الذي تركه فيهما وفي تطور الحركة الوطنية الاسلامية الجزائرية ، وكذلك في الزعيم مصالي الحاج (10) .
كما أن تأثيره امتد ليشمل الطلبة المغاربة المبعوثين في القاهرة ونابلس . وقد لعب هؤلاء الطلبة الى جانب اخوانهم المبعوثين في باريس، دورا" فائق الاهمية في نشر مقالات وكتابات وتوجيهات الامير أرسلان . وبفضل هذه الاتصالات التي تعود الى فترة نفي الاخوة باش حانبه في جنيف، والتي تجددت عقب ثورة الريف، أمكن التمهيد لزيارة الامير أرسلان لتطوان عام 1930 . وقبل الانتهاء من هذه النقطة لا بد أن نذكر المراسلات بين الامير أرسلان والسيد عبد السلام بنّونة والتي تذكر علاقة الطلبة المبعوثين في نابلس بالامير وتروي مسائل ومباحثات جرت عام 1928(11) .
الظهير البربري :
يمثل العام 1930 كما سبق القول نقطة تحوّل تاريخية بالنسبة للحركة الوطنية المغربية. فهي تؤرخ لأول انتفاضة شعبية في المغرب بمناسبة صدور الفرمان الشريفي (الشهير باسم الظهير البربري ) بتاريخ 16 حزيران والقاضي بالبناء على العرف البربري في المحاكم أو العدالة البربرية بديلا" عن الشرع الاسلامي . وقد اعتبر الامير ارسلان ان انطلاق مسيرة الحركة الوطنية وتبلورها وتعاظم قوتها تعود الى هذا الظهير والى حركة الرفض الشعبي التي أثارها (12) .
فقبل عام 1930 كان الوطنيون مشتتون في منظمات سرية ما بين تطوان وفاس والرباط وساله، ولم يكن هناك اي اتجاه او تيار او مجموعة يستطيع الادعاء بتمثيل كل المغرب .. كانت الحركة الوطنية عبارة عن منظمات او اشخاص يناضلون دون وحدة ودون برنامج على حد وصف أحد كبار القادة الوطنيين (13).
وقد انطلقت اول حركة رفض للظهير في ساله وهي الحركة التي عرفت باسم (يا لطيف) حيث ان الاهالي اعتصموا في المساجد يرددون الدعاء يا لطيف .. يا لطيف ..واشتعلت المساجد من مدينة الى مدينة ومن حي الى حي ومن قرية الى قرية، من الشمال الى الجنوب ، والى قلب القرويين ، صرخة واحدة ألهبت المغرب، يا لطيف ، ثم تحولت مظاهرات عارمة في الاسبوع الاول من شهر تموز واضطر الاحتلال معها الى استخدام القوة والقمع والاعتقالات والعقوبات الجماعية ..
وبواسطة مجلة الامة العربية التي كان الامير قد بدأ باصدارها في جنيف، عرف العالم كله، والمسلمون اولا"، طبيعة الخطر المحدق بالاسلام في المغرب. ومن الجزائر الى جاوه وسومطرة، وقف المسلمون وقفة رجل واحد ورفعوا الصوت بالاحتجاج مما أقلق السلطات الفرنسية (14).
ومنذ بداية حركة المساجد ارسل الامير أرسلان رسائل عاجلة للقادة والمسؤولين العرب والمسلمين .. منهم عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين في مصر، ومحب الدين الخطيب (جريدة الفتح )، ورشيد رضا (المنار) ومحمد علي الطاهر (الشورى) يطلب منهم شن حملة عامة للتعبئة دعما" للمغاربة في نضالهم (15) . وكان واضحا" ان ارسلان عرف كيف يستخدم سلاح الاعلام في تحقيق وعي عام ويقظة وطنية في العالم الاسلامي (16) .
وتركزت الحملات العنيفة ضد فرنسا لمحاولتها تنصير البربر الامر اللذي اعتبره أرسلان مأساة ومهزلة ووصمة عار في جبين الانسانية والحضارة والعدالة والقوانين (17) . ففرنسا تزعم بان البربر هم من أصل مسيحي او من عرق أوروبي .. وهي كانت تحلم بفرنسة المغرب لكي تستطيع بسط سيطرتها عليه . وتحقيق هذا الحلم يستلزم تدمير الاسلام .. وبما انه كان من الصعب ابعاد العرب عن الاسلام نظرا" لصلتهم بالرسول وشعبه وبلغة القرآن ، فأن الفرنسيين فكّروا بالبربر الذين يشكلون ثلثي سكان المغرب ونصف سكان الجزائر .
وكان الامير قد أشار الى خطر تنصير البربر في تعليقاته في ” حاضر العالم الاسلامي “. الا ان ما حدث عام 1930 هو ان فرنسا ارادت تطبيق هذه السياسة وقد شجعها على ذلك سياسة العلمنة الكمالية في تركيا التي طبقت بالتدريج ولم يكن عليها مواجهة حركة تضامن واتحاد اسلامية قادرة على افشالها . وهكذا اعتقدت فرنسا ان بامكانها توجيه ضربة قاضية للاسلام في المغرب باعطاء الصفة الرسمية والقانونية للعمل الذي بدأته البعثات التبشيرية والمدارس الفرنسية . غير أن حركة الاحتجاج والرفض المغربية كانت قوية وهجومية وعنيفة الى حد انها نجحت في توحيد كل الشعب وفي حشد تضامن كل المسلمين البربر والعرب في النضال المشترك . كما ان حركة النضال المغربي هذه قد أثارت حركة احتجاجات وتمردات واسعة ضد الحكومة الفرنسية في كل البلاد العربية وعلى الصعيد العالمي أيضا" .
ووسط حملة الاعتراض والاحتجاج هذه بحث الامير عن دعم وتأييد الملوك والرؤساء العرب والمسلمين من جهة ، وتضامن القوى التقدمية في البرلمان الفرنسي والرأي العام العالمي من جهة أخرى . ونتيجة لفشله في الحصول على دعم قوي من الملوك والرؤساء العرب فانه ركّز عمله وجهده على الحصول على دعم الاشتراكيين والراديكاليين في فرنسا وذلك لتدمير السياسة الفرنسية ”بأيدي الفرنسيين أنفسهم “ ، ومن خلال الاعلام والدعاية والاتصالات مع أحزاب المعارضة التي تقف ضد استخدام السلطة السياسية الفرنسية في خدمة نشر المسيحية ..
وكان أرسلان يرى بان هؤلاء الاشتراكيين والراديكاليين يستطيعون افشال سياسة فرنسا شرط ان يجدوا محاورين مسلمين .. (18)
في رسالة الى رشيد رضا بتاريخ 9 نوفمبر 1930 يكشف ارسلان عن اتصالاته بالاشتراكيين الفرنسيين في البرلمان ويذكر الرسائل التي أرسلها اليهم (وكل واحدة منها في 30 صفحة)، لشرح الوضع والطلب اليهم اتخاذ موقف ضد سياسة حكومتهم . ولكن محاولة التحالف هذه مع المعارضة الفرنسية فشلت سياسيا". ذلك ان الفرنسيين حسب أرسلان متضامنون للدفاع عن شرف فرنسا . كما ان الاشتراكيين والراديكاليين لا يهتمون لمسألة التنصير ولكنهم بالمقابل يعتبرون انه ليس بامكان فرنسا ممارسة سياسة معادية الدين ولذا فان ادانة ما يحصل في المغرب يساوي الاعتراف بواقعة وجود هكذا سياسة فرنسية .. ومن هنا فان هؤلاء المعارضين يلتزمون الصمت في جرائدهم .. (19) غير ان بعض الاشتراكيين وعلى رأسهم القائد الاشتراكي الكبير بيار رونندال وجان لونغيه يوافقون على طرح هذا الموضوع امام البرلمان (20) ومع علم أرسلان بان صوتهم سيكون دون صدى ، فانه ينتقل الى الهجوم داعيا" الى الاعتماد على القوى الذاتية للمسلمين وعلى ” ملك الملوك “ وهو سلاح المقاطعة للتجارة الفرنسية في كل البلدان الاسلامية (21)..
ان عمل ودعاية ارسلان ضد الظهير البربري كانا من الاسباب الرئيسية لنجاح الحركة الشعبية المغربية في فرض إلغاء الظهير . وقد أدى ذلك الى زيادة نفوذ وتأثير الامير بين المغاربة مما جعله يفكّر في زيارة المغرب لتعميق صلاته وروابطه بالمغاربة وتوحيد صفوفهم وتوجيه حركتهم الوطنية .
زيارة تطوان التاريخية :
قد يبدو مستغربا" إيلاء كل تلك الاهمية لزيارة قام بها الامير في ختام رحلته الاندلسية . ولكن يكفي ان نعرف مقدار إلحاح واهتمام المغاربة على التذكير الدائم بالزيارة والاحتفال بها واعتبارها نقطة تحوّل في تاريخ حركتهم الوطنية حتى ندرك; أهميتها التاريخية.( يحتفل أهالي تطوان وبلديتها كل 5 سنوات بذكرى زيارة الامير لبلدتهم وهم شكلوا لجنة وطنية خاصة بالاحتفال الذي بلغ أوجه في عام 1980 اي بمناسبة الذكرى الخمسين للزيارة). وقد أجمع المؤرخون والوطنيون المغاربة على كون الزيارة شكّلت ” عاملا" مهما" في التوجيه السياسي للحركة الوطنية “.. وكان الامير قد بدأ بجولة في بلاد الاندلس ، وباتصالات مع ” مجموعة تطوان “ التي قابلته عدة مرات ، قبل ان تدعوه للقدوم وتعد له استقبالا" شعبيا" ووطنيا" شاركت فيه وفود من كل المغرب وعلى رأسها وفد الرباط بقيادة أحمد بلافريج ومحمد يزيدي ومحمد الحسن الوزاني .. ويذكر عبد الكريم غلاب ان هذا الاتصال كان حاسما" في بلورة الحركة الوطنية الى حركة وطنية سياسية(22)..
في 18 حزيران 1930 يصل الامير الى باريس حيث يلتقي أحمد بلافريج ومحمد الفاسي ويبقى لبضعة أيام يقابل خلالها الطلبة السوريين ” في المطعم العربي الموجود قرب مسجد باريس“ . ومن باريس ينتقل الى تولوز ثم قرقشون حيث يزور بقايا الوجود العربي في المنطقة، وكتابه حول الفتوحات العربية يبدأ بذكر ووصف تلك المنطقة من جنوب فرنسا اي شمال الاندلس ، حيث توقف العرب وليس حيث بدأوا.. ذلك ان الامير قد اختار البدء برحلته من حيث توقف المسلمون وليس من حيث بدأوا في سوريا نظرا" لعدم تمكنه من المجيء الى سوريا المحتلة (23). وفي اسبانيا يلتقي مجددا" بلافريج والفاسي اللذين يرافقانه الى طنجه. وبسبب تلك الرحلة حرص المغاربة على التأكيد على ان ارسلان لم يأت الى المغرب لغرض السياحة وانما لاتمام مهمة سياسية (24) تتمثل في إقامة الصلات مع كل تشكيلات الحركة الوطنية بعد النجاح العظيم والاصداء الدولية للمعركة ضد الظهير . وقد أراد الامير اقامة هذه الصلات عبر طنجه نظرا" للوضعية الدولية للمدينة والتي تسهّل على وطنيي الجنوب الحضور دون مضايقة او مشاكل من طرف السلطات المحتلة. وحال وصوله الى طنجه يوم 10 آب بدأ اهالي تطوان بالتحرك بحثا" عن سبل اللقاء معه، مع علمهم بقرب حضوره الى تطوان لتنظيم الصلات مع عبد السلام بنّونة ورفاقه.
كما ان السلطات الاسبانية كانت في حالة استنفار انتظارا" لوصول الامير(25) وقد أبلغ عبد السلام بنّونة بواسطة أصدقاء له بان السلطات ستمنع الامير إذن الدخول والاقامة وذلك نتيجة لطلب المندوب الفرنسي في الادارة الدولية لطنجة (26) ولذلك فان بنونة توجّه هو نفسه الى طنجه للقاء الامير هناك (يوم 11 آب) وابلاغه بالطلب الفرنسي طرده من المدينة. وفي 12 آب يعود بنونة الى تطوان للاعداد لزيارة الامير بعد ان تأكد من حتمية تنفيذ قرار طرده. كما يقابل بنّونة القنصل الاسباني ليطلب منه السماح بدعوة ارسلان الى تطوان . وحال وصوله الى طنجه ، يلقى إرسلان استقبالا" كبيرا" من وجهاء المدينة ومنهم أقلعي ، أحرضان ، منبهي ، عبد السلام ، محمد الحداد ، محيي الدين الريسوني ، محمد العرقاوي ، ادريس الحريشي ، ووفود من فاس ، الرباط ، ساله وسيدي سليمان ، اضافة الى بنّونة ومحمد المصمودي القادمين من تطوان . ويصادف وصوله الاحتفال بمولد الرسول (13آب) فيعلن فرحه وابتهاجه لرؤية الاحتفالات الدينية تجري تحت عنوان الوطنية والعداء للامبريالية(27). وكان بعض الكتاب الغربيين قد أشاروا الى ان السلطات طردت أرسلان من طنجه حال وصوله اليها يوم 9 آب في حين انه وصلها يوم 10 آب وبقي فيها بضعة أيام لترتيب انتقاله الى تطوان ، وقد اقيمت له خلال وجوده في طنجه عدة استقبالات. وهو غادر طنجه في وقت كانت فيه السلطات تناقش مسألة طرده دون ان تكون قد اتخذت قرارا" بذلك، فوصل تطوان يوم 14 آب يرافقه قادة الحركة الوطنية لجنوب المغرب ( بلا فريج، محمد زباني ، محمد ابن العباس القباج) . وفي نفس يوم وصوله جرى له استقبال كبير شارك فيه عمر بن عبد الجليل، ومحمد الفاسي، وعبد الحميد صفريوي(من فاس) وابو بكر الملقي (من ساله) ووفود اخرى من عدة مدن واماكن(28).
وكانت السلطات الفرنسية قد تقدمت بعدة التماسات الى السلطات الاسبانية لطلب طرد الامير ولكن يبدو ان الاسبان تجاهلوا تلك الطلبات ومارسوا ” سياسة حيادية “ تجاه عداء فرنسا للامير أرسلان . لا بل ان القنصل الاسباني في تطوان أقام حفل استقبال على شرف الامير حضره عشرة مغاربة اضافة الى العديد من الشخصيات الاسبانية . وفي المقابل نصح الاسبان الامير بعدم القيام باي نشاط او تصريح معاد لفرنسا طوال مدة اقامته في تطوان (29).
ان أهمية اقامة الامير في تطوان يجسّدها تشكيل لجنة استقبال نظمت مهرجانا" كبيرا" على شرف الامير (يوم 17 آب) حضره اكثر من مئتي مواطن وتحدّث فيه حوالي العشرة مدحوا ومجّدوا الامير باسم
” الامة المغربية “ حتى ان البعض وصف المهرجان بانه مؤتمر وطني مغربي أسّس القواعد لنهضة الحركة الوطنية ، بل ذهب بعض المغربيين الى القول بانه ” نظّم في تطوان مع عبد السلام بنّونة الفرع المغربي للجنة السورية- الفلسطينة – المغربية “ (30) اي ان الامير قد اصبح له منذ ذلك اليوم تأثير ونفوذ على الحركة الوطنية المغربية ، على تنظيمها وعلى وحدتها الامر الذي ” جعل محطة تطوان مركزية في تنقلاته المختلفة... وقد أصبح محمد الوزاني سكرتيره في جنيف بين 1930 و 1933.. كما انه كان يراسل مكي ناصري ومختار أحرضان بانتظام .. والاخير كان يملك مكتبة في طنجه وتعتبره السلطات ضابط اتصال بين الوطنيين في فاس والرباط وتطوان . كما ان احمد بلا فريج كان يزوره بانتظام في جنيف“ (31) .
اذن يمكن اعتبار رحلة تطوان محطة هامة لتنظيم صلات الامير بالمغاربة كما صلاتهم فيما بينهم . ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الصلة ثابتة ومنتظمة ” ما بين أرسلان ومراكز التآمر والتخريب في تطوان والرباط وفاس والتي كان أرسلان مرشدها الروحي ومنسّق حملاتها ضد فرنسا “ (32). وقد أصبح الامير منذ الزيارة التاريخية لتطوان ، ” القائد الروحي والموجّه للحركة الوطنية المغربية حيث كان قادتها يتصلون به ويسألونه الرأي والنصح والارشاد في الكثير من القضايا التي كانت تواجههم ، وهم كانوا يراسلونه لإخباره بأعمال الاستعمار الفرنسي وبنشاط الحركة الوطنية المغربية “ (33) ولم يتنكر الامير للسمعة والمكانة التي اكتسبها عند المغاربة غير انه رفض المبالغة في إسناد دور المنظّم والقائد اليه.. فكتب يحتج على الصحف الفرنسية التي تزعم انه نظّم جمعية سرية في المغرب مرتبطة بالوفد السوري الفلسطيني في جنيف الذي أصبح بزعمهم وفدا" سوريا" – فلسطينيا"- مغربيا".. واذ يرفض الامير هذا الزعم مدافعا" عن المغاربة الذين كانت لهم منظماتهم السرية ونضالاتهم وعملهم ضد الاحتلال ومن اجل التحرر قبل اتصالاتهم بالامير .. فانه يقول بانه لا يوجد ما يبرر اندماج او ذوبان منظمات السوريين- الفلسطينيين بمنظمات المغاربة طالما ان هناك رابطة واحدة تجمع بينهم وهي الاسلام ، وبرنامجا" واضحا" هو القرآن .. (34)
صعود الحركة الوطنية :
يعلّق محمد بن عزوز حكيم على الوثائق المتعلقة بزيارة الامير الى تطوان ، مؤكدا" بان حركة الرفض الشعبي للظهير البربري ، والخطوة التي خطتها الحركة الوطنية المغربية للانتقال من مجرد عمل جبهوي الى وحدة وطنية حقيقية ، يعود الفضل فيها الى زيارة أرسلان التاريخية .
ذلك ان الامير ناقش مع الوطنيين سبل ووسائل تكوين وحدة فكر وعمل ، مدعومة بتنظيم وبتوجّه متكاملين ، تكون قاعدة لكل الانشطة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تستخدمها الحركة الوطنية للدفاع عن حق المغاربة في تقرير المصير وفي” الخيار الوطني الاسلامي الذي لا ينفصل عن الخيار العربي “ . ان لقاء الامير ارسلان مع الوطنيين المغاربة كان بمثابة مؤتمر اتخذ عدة قرارات مهمة . ( وذلك ايضا" حسب تقرير المفوض الاسباني الذي ارسلته حكومته بتاريخ 5 ايلول 1930).
ان الوثائق والرسائل المنشورة في المغرب لا تفيدنا في معرفة محتوى محادثات ارسلان مع القادة المغاربة في تطوان . غير أن من كتب عن الزيارة أكّد كما رأينا على أهميتها التاريخية وعلى تحول أرسلان بعدها الى اب روحي واستاذ مرشد للقادة من مؤسسي لجنة العمل الوطني في المغرب. وأكد المغاربة ايضا" على انه جرى خلال زيارة تطوان وضع برنامج عمل مشترك ضد الفرنسيين انطلاقا" من الكفاح ضد الظهير البربري ومن الحملة التي يقودها الامير ارسلان في الخارج ، خصوصا" بواسطة مجلته الامة العربية ، ناهيك عن مقالاته في الفتح والشورى والمنار.. حتى ان عبد الكريم غلاب يؤكد على انه بفضل الاتصال بالامير شكيب ، ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب ، استطاعت الحركة الوطنية المحافظة على توجهها الاسلامي الذي كان في أساس نشأتها
(35) . وبالفعل ، فان مجلة الامة العربية ستصبح منذ صدورها عام 1930 لسان حال المطالب الوطنية المغربية. وهي ستتابع بدقة تطور وصعود الحركة الوطنية المغربية في المغرب كما في فرنسا .
فبمناسبة نشر كتاب في باريس (1931) عنوانه ” عاصفة على المغرب ،أو أخطاء سياسة بربرية “ بتوقيع مسلم بربري ( هو في الحقيقة محمد الوزاني ) ، طبع بدعم الاوساط الفرنسية المعارضة لسياسة حكومتها ، تفرد الامة العربية الصفحات لتجميد الارهاصات الاولى للحركة الوطنية وللدعوة الى وحدة العمل (36). وتدعو المجلة الى استمرار النضال ضد الظهير البربري السيئ الصيت والمنحط ، والذي أصدرته فرنسا بغية إضعاف المسلمين عبر تفرقتهم وتقسيمهم ، كما تدعو الى ان ينتقل ذلك الكفاح الى مستوى أرقى من الوحدة ، الامر الذي يؤي الى تطور القوى الوطنية على طريق النصر(37).
ولا يتوقف اهتمام الامير عند حدود اعمال الدعاية والاعلام بل هو يتابع ويطالب بمعرفة أخبار المظاهرات والثورات المسلحة مثل ثورة آيت حمو في وجده ، والتفيلات وبرابرة الاطلس (38) ويدعو كل المسلمين الى نضال مرير لا هوادة فيه لان الله وعد المسلمين بالنصر شرط الكفاح والجهاد والتضحية والارادة والشجاعة والإقدام .. ولا ينبغي ان يتوهم المسلمون بان الامم المتمدنة تملك ما يكفي من العدالة والمساواة للآخرين، وانما العدالة والمساواة هي فقط فيما بينها هي . ولذا فانه ينبغي على الآخرين امتشاق السيف الذي يرعب من اجل المطالبة بحقوقهم “ (39). ودعا الامير في مقالات عديدة ورسائل الى المغاربة الى تشكيل مجموعات وجمعيات ولجان ومؤسسات وصحف الخ. وعلى كل اشكال الوحدة ، والاتصال والتواصل الممكنة ، وتأمين صندوق قومي لدعم الطلاب في اوروبا لمواصلة نضالهم(40).
وفي عام 1932 وجّه تحية الى المجلة الجديدة (المغرب) بمناسبة صدورها من باريس(استمرت من 32 حتى 1935) برئاسة روبرت – جان لونغيه ، جان مونيه ، غاستون برجوري ، بيار رنندال ،سكست كينين ، والاسبان اورتيغا ، ماريال ، وارزيلا . وهو نشر في مجلته الامة العربية اولى نصوص ووثائق لجنة العمل المغربي في اوروبا(41). كما انه نشر مقالات الشبان المغاربة الوطنيين أمثال محمد الوزاني ومحمد بنونة واحمد بلافريج اضافة الى نشر بيانات واعمال واخبار ومبادرات الحركة الوطنية بكافة فصائلها وقواها مثل انشاء جريدة ” نضال الشعب “ ( اول صحيفة وطنية مغربية ناطقة باللغة الفرنسية) في فاس على يد محمد الوزاني ، او صياغة مشروع ” خطة الاصلاحات المغربية “ وتقديمه الى الحكومة الفرنسية من طرف لجنة العمل المغربي عام 1934. وقد علّق الامير على هذه المبادرات وأيّدها ودعا الى توسيع العمل لطرح برنامج مشترك للنضال على اساس توحيد المغرب واستقلاله(42) .
وهكذا بفضل الامير ارسلان ايضا" ، دُعي عدد من المغاربة للمشاركة في المؤتمر الاسلامي الاول الذي انعقد في القدس في ديسمبر 1931(43) وجاء تشكيل اول لجنة وطنية في تطوان في سبتمبر 1930 ليؤكد على تأثير ونفوذ الامير(44) وفي اول ايار مايو 1931 صدرت اول وثيقة تحمل عنوان ” مطالب الامة المغربية “ وتوقيع الوطنيين في تطوان وجرى تقديمها الى السلطات الاسبانية يوم 8 حزيران وهي تحمل بوضوح فكر وتوجهات الامير(45).
وفي القاهرة أسّس عبد الخالق الطريس ( وهو احد أشد اتباع الامير حماسا" والتزاما") ” لجنة الدفاع عن القضية المغربية “ وذلك بالتعاون مع زملائه المغاربة المقيمين في مصر وأعلنوا عنها يوم 23 نوفمبر 1930. وقد كان لطريس نشاط كبير في القاهرة تحت اشراف ارسلان ، فقدّم في 5 ايار 1931 التماسا" موجها" الى قادة الحركة الوطنية يطلب منهم فيه نقاش أشكال وحدة التراب المغربي والمطالبة باستقلاله وكان ذلك في الشمال ( الخاضع للحماية الاسبانية ) أما في بقية انحاء المغرب الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي . كما ان لجنة الطريس نظّمت في القاهرة يوم 16 ايار مايو مهرجانا" حاشدا" بمناسبة مرور سنة على الظهير البربري وذلك في مركز جمعية الشبان المسلمين . وخطا الشمال المغربي خطوة اخرى باتجاه النضال السياسي والوحدة وذلك عند تشكيل ” وفد مطالب الامة “ ثم اللجنة الوطنية للشمال المغربي “ (46).
بين فرنسا وإسبانيا :
كان شمال المغرب ( الريف) خاضعا" لنظام الحماية الاسباني في حين ان الجنوب والمدن الرئيسية خضعت للحماية الفرنسية واحتفظت طنجه بوضعية الخضوع لنظام دولي . وبعد ثورة الريف ركّز أرسلان جهوده للنضال ضد الظهير البربري وضد السياسة الفرنسية في المغرب وهو رأى فيها خطرا" شديدا" على مستقبل البلاد . وفي عام 1931 أعلن ارسلان ان الماريشال ليوتي ” هو العدو الذي لا يرتكب أعمالا" حقيرة . ومن وجهة نظر الاهالي فان ليوتي هو الفرنسي الاكثر خطورة الذي عرفته افريقيا الشمالية لانه الاعقل واكثر حكمة . وهو عرف بحكمته كيف يطمئن ويهدئ العرب وكيف يجتذبهم بكل الوسائل نحو فرنسا .. فقد كان لا يثير مشاعرهم أو يستفز كبريائهم .. لقد قتل ليوتي استقلال المغرب ولكن دون ان يهينه “(47).
وخلال مرحلة الصراع ضد الظهير وقفت اسبانيا على الحياد او اختارت الظل . صحيح انها كانت قد قررت عدم اتباع طريقة السياسة الفرنسية حيال الاهالي الا ان ذلك كان لاسباب تتعلق بتجربتها الدامية والمكلفة في الريف ، وهي تجربة كلفتها الكثير ، ولم تكن اسبانيا بقادرة او بمستعدة لتكرارها او لخلق أجواء توتر واضطراب في المنطقة تسيئ الى وضعها العام.
وكانت اسبانيا تشعر بانها مهددة من جهة بالمطامع والمؤمرات الفرنسية في الشمال ، كما بضعفها العام بسبب التناقضات والصراعات الداخلية التي كانت كثيرة وخطيرة في تلك المرحلة من جهة اخرى . وهكذا فانها سعت الى كسب ود العرب والمسلمين لتهدئة الخواطر في الشمال ولتجنب المشاكل والاضطرابات وافشال المناورات الفرنسية . وينبغي ان نضع اختلاف المواقف بين الشمال المغربي وبقية المغرب ضمن اطار هذا الوضع المعقد الذي فهم الامير ارسلان كيف يتعامل معه. وبسبب دقة وتعقيد الوضع تجاهلت اسبانيا الطلبات الفرنسية بطرد الامير حين وصوله الى طنجه فهي لم تكن تشاطر فرنسا نظرتها الى نظام الحماية وتعتبر نفسها وحدها مسؤولة عن المنطقة . كما انها لم تكن تشاطر فرنسا رؤيتها السياسية خصوصا" لجهة الموقف من ارسلان او من مطالب الوطنيين العرب والمسلمين . ومع ردهم العنيف ضد الحملة الصحفية الفرنسية التي استهدفت أرسلان وحلفائه في تطوان ، فان الاسبان كانوا يتابعون عن كثب نشاطات وتحركات ارسلان حتى لا يتركوا له مجال إثارة غضب فرنسا . وكان الفرنسيون يواصلون ارسال التقارير والتحذيرات الى الاسبان حول اتصالاته مع القادة المغاربة في الشمال والجنوب وحول نشاطاته الامر الذي أدى الى زيادة المراقبة الاسبانية على عبد السلام بنونة كما على مراسلاته مع الامير ..ويبدو من قراءة الرسائل المتبادلة بين الامير وبنونة ، انهما كانا على معرفة بأمر المراقبة وانهما كانا يعملان على تضليلها (48) ومع ذلك فان بعض الرسائل كانت تقع في أيدي المفوض السامي الفرنسي في الرباط . ففي رسالة بتاريخ 12 حزيران 1931 يقوم الامير باعلام بنونة بانه دُعي الى اسبانيا من طرف الاندلسيين وانه رفض الدعوة لان فرنسا تتهمه بانه يقف وراء كل الحملة ضد الظهير البربري ووراء حركة المطالب الوطنية في الشمال . ويطلب الامير في رسالته من بنونة عدم الكتابة في رسائله عن اية امور قد يستخدمها الفرنسيون او الاسبان كحجة وكدليل عن صلته بالحركة الوطنية المغربية . وتقوم الصحف الفرنسية خلال عامي 1930 و1931 بشن حملة عنيفة متواصلة ضد نشاط ارسلان وبنونة الذي تتهمه بانه عميل للامير استنادا" الى الرسائل المتبادلة بينهما(49). ولم تكن المقالات الفرنسية لتهدف الى الاساءة او التشهير بالامير فقط وانما كانت وظيفتها الاساسية تحذير اسبانيا وانتقاد ” تهاونها وقلة ذكائها وعدم تبصّرها “ بازاء ” مؤامرات ومناورات الامير“ وخصوصا" بعد انتصار الجمهورية في اسبانيا في نيسان 1931. ذلك ان الجمهورية الوليدة سمحت للوطنيين بالتظاهر دون قمع او اعتقال وهو امر لم يرق للفرنسيين الذين كانوا يواجهون حركات الاحتجاج بالعنف في الجنوب .
اما في الشمال فقد احتفل المغاربة بانتصار الجمهورية بتظاهرة شعبية كبيرة ( يوم 14 نيسان 1931) تلاها تظاهرات عديدة ايام 4 ايار و 22 حزيران و3 آب من نفس السنة (50) وهذا الجو من الاحتفال بالانتصار ” الجمهوري“ ، ومن ” التسامح“ سمح للوطنيين المغاربة في الشمال بتقديم أول عريضة بمطالب الامة وذلك في اول أيار ،تلاها عريضة بمطالب العمال يوم 5 أيار (51). ومن ثم ولاول مرة في تاريخ البلاد توجّه وفد وطني الى مدريد حيث استقبله رئيس الجمهورية . ونتيجة لهذه الزيارة الرسمية اعترفت اسبانيا للمغاربة بحق اجراء انتخابات بلدية حرة وتشكيل جسم سياسي وطني شرعي هو ” وفد مطالب الامة“. ولم يكن ممكنا" الا ان تظهر هذه ” التنازلات “ الاسبانية في تعارض وتناقض مع الممارسات الفرنسية في الجنوب. وفي نفس الوقت فان الصحافة الاسبانية لم تبق صامتة في وجه الحملات الصحفية الفرنسية . فعلى سبيل المثال كرست صحيفة الرأي في سبته افتتاحيتها ليوم 4 سبتمبر 1931 للحديث عن ”اسبانيا وفرنسا في المغرب : أو بنونة ،أرسلان، وأحداث تطوان“ ( هكذا كان عنوان الافتتاحية الاسبانية ) . وفي هذا المقال يعيب رئيس فرنسا التحرير على فرنسا حملتها الاستعمارية المنظمة ضد ارسلان وبنونة والتي تتناقلها صحف باريس او المغرب او الجزائر “(52). وكان الامير قد أبدى في رسالة له الى بنونة بتاريخ 5 ديسمبر 1931 قلقه من الحملات التشهيرية في الصحف الفرنسية وخصوصا" في مجلة ”افريقيا الفرنسية“ ومجلة ”الحوليات المغربية- الشمالية“.
وبين 26 و 29 تموز 1932 قام بنونة بزيارة أرسلان في جنيف مما استدعى تجددا" في حملة الصحف الفرنسية الى حد إصدار عدد خاص من مجلة ”الحوليات“ حمل افتتاحية بقلم شارل هيدلان Hédelin (مدير ورئيس تحرير المجلة) حول ”قضية المغرب : أسماء .. لا بل اثباتات دامغة“.. جاء فيه مثلا" : ”حول شكيب أرسلان العميل الالماني وزعيم الدعوة الاسلامية العالمية، نقدم لكم صورا" لمناضلين معادين لفرنسا، وعلى كل صورة لوجه مألوف فان طنجه وفاس وتطوان ستتعرف على أبنائها.. ومن بين مجموعة شكيب ارسلان قد يكون هناك بعض المغرر بهم؟ نعم يمكن ذلك! ولكن بينهم ايضا" هناك خصوصا" جواسيس وخونة“(53). وتنشر المجلة صورة لأرسلان في طنجه أُخذت في شباط 1931 ومعه العديد من المغاربة ، وصورة اخرى له في تطوان ، وثالثة مع القنصل الاسباني في تطوان . وتزعم المقالة ان ارسلان يقف خلف صدور مجلة المغرب ، وان له اعوان في كل مكان في فرنسا، واسبانيا والمغرب، وانه يدير حركة اسلامية تنطق مجلة الامة العربية باسمها.. وتدعو المقالة أخيرا" الى إعدام أرسلان ورجاله في المغرب.
وفي وجه الحملات الفرنسية استخدم أرسلان مجلة الامة العربية ، اضافة الى جرائد الفتح والشورى وغيرها من الصحف والمجلات العربية والاسلامية. وأبرز ما ميز مقالاته في تلك الفترة ، تطويره لموقف سياسي مميز تجاه اسبانيا والوضع في المغرب. ” يملك الاسبان شيئا" من أخلاق وقيم العرب وهم لا ينحدرون الى المستوى الذي وصله الاسفاف الفرنسي“(45) هذا الحكم الاخلاقي أطلقه أرسلان ليطوّره الى ”خط سياسي“ ، وموقف واضح حول المغرب. فيقول انه لو كان يعرف بأن المغرب في وضعية تسمح له بالتحرر الآن من السيطرة الاوروبية وطرد فرنسا من فاس ومراكش والرباط ومكناس وكازابلانكا، لكان دعا ايضا" الى طرد الاسبان من الريف، وكل الاوروبيين من طنجه. الا انه (أي ارسلان) كان على ثقة بانه ما ان تخرج اسبانيا من الريف فان الفرنسيين سيحتلونه وسرتكبون فظاعات تملأ امثلتها تاريخ استعمارهم وبناء عليه، وطبقا" لقاعدة اختيار أهون الشرّين ، دعا الامير ارسلان صراحة الى بقاء الاسبان في الريف والى اقامة افضل العلاقات بينهم وبين المسلمين .وقال ان مطالبته بعدم خروجهم من الريف هو لحفظ التوازن(55). واعترف الوطنيون المغاربة من جهتهم بانهم أبرموا اتفاقا" فيما بينهم ، وبناء على تعليمات ارسلان ، يدعو الى عدم مهاجمة اسبانيا في الشمال وذلك كي لا يضطروا الى مواجهة عدوين في نفس الوقت(56).
وبالفعل ، فان الحركة الوطنية قد طبقت هذه السياسة في الشمال وهي قامت على مبدئين : 1- الفصل بين فرنسا واسبانيا، واعتبار الاولى الاشد خطرا" بالنظر الى كونها قوة استعمارية متوحشة بدليل أعمالها في الجزائر وقوة خطرة بدليل الظهير البربري . 2- العمل على استقلال المغرب الموحّد وليس شمال المغرب بالنظر الى المخاطر والنتائج السلبية التي قد تترتب على بقية انحاء البلاد.
وسمحت هذه السياسة (المتهاونة تجاه الاسبان) للوطنيين المغاربة باستخدام شمال المغرب لاحقا" كقاعدة ارتكاز ولجوء لجيش التحرير الذي كان يقاتل ضد الفرنسيين . وينبغي ان نسارع هنا الى التأكيد بأن الاسبان لم يوافقوا على هذه السياسة حبا" بالوطنيين وانما خدمة لمصالحهم . ولكن الوطنيين المغاربة عرفوا كيف يستفيدون من الوضع المعقد ويهادنون اسبانيا لخدمة قضية وحدة واستقلال المغرب مما يدل على نفاذ وصواب رأي الامير ومدى نفوذه وتأثيره في توجيه الحركة الوطنية المغربية(57). كما انه يبدو من الرسائل المتبادلة بين أرسلان وبنونة ان هذه السياسة قد جرى نقاشها في حلقات الحركة الوطنية في الشمال والجنوب على السواء وانه كان هناك اختلافات في الرأي وفي تقدير الوضع والموقف ، وان النقاش ادى الى توافق الجميع واقتناعهم بخطة أرسلان وموافقة كل اركان الحركة الوطنية وقادتها عليها خصوصا" احمد بلافريج ومجموعة باريس.(58) والصياغة الاكثر تعبيرا" عن سياسة الوفاق والتعاون هذه مع اسبانيا ، كانت من عمل الامير وذلك بعد تأسيس الجمهورية في اسبانيا وهي عبارة عن عريضة بالمطالب الوطنية قدمت الى الرئيس الجديد في مدريد وحملَت العناوين التالية : استقلال داخلي ، برلمان وحكومة منتخبين ومسؤلين امام الشعب ، مجالس اختيارية وبلدية منتخبة بحرية ، حرية الصحافة وحرية تشكيل الجمعيات ، مدارس مغربية في كل البلاد والتعليم باللغة العربية الى جانب الاسبانية كلغة اجنبية ثانية الخ..(59).
وقد نصح الامير مغاربة الشمال المطالبة باستقلال نسبي يسمح بوجود اسباني على مستوى الجيش والعلاقات الخارجية . ذلك ان ما كان يقلقه هو المطامع والمطامح الفرنسية في الريف واحتمال ابتلاعه اذا خرج منه الاسبان (60) ومن هنا فقد دعا الوطنيين الى التعاون مع الحزب الاندلسي العربي في اسبانيا ومع الحزب الاشتراكي وذلك لاستعادة مسجد قرطبة ولتشكيل تحالف وتعاون دائمين. واستمر الفرنسيون في تحريض الاسبان ضد ارسلان وجماعته مع التركيز على كون مطالب الشمال موجهة ضد مصالح فرنسا واسبانيا في آن معا". وفي نفس الوقت فان ارسلان كان يرى بعين السياسي الخبير ان بعض اعضاء الحكومة الاسبانية يوافقون فرنسا في سياستها ضد الوطنيين وانهم يرفضون مطالب الوفد الذي قدم الى مدريد وان الوضع الاسباني يسهد تجاذبات كثيرة قد تطيح بآمال الوطنيين . ومن هنا نصيحته للمغاربة بان يتظاهروا بعدم وجود أدنى علاقة مع فكره او عمله ( قائلا" لهم : لا اسلامية ولا قومية) (61).
وكان الامير قد بدأ يتلمس الاجواء الدولية التي كانت تنذر بتطورات سلبية في اسبانيا فركّز اهتمامه على الحزب العربي الاندلسي والجمعية الاسبانية الاسلامية وهما تحوّلا الى مراكز دفاع عن القضية الاسلامية، ولم يكن ليثق بثبات موقف الاشتراكيين والجمهوريين الاسبان بسبب الصراعات الداخلية والضغوط الدولية . وبالفعل ووفقا" لشهادة بنونة ، فان الاسبان غيّروا سياستهم بعد شهر العسل القصير مع الوطنيين وثبت للمغاربة ان الجمهوريين والاشتراكيين كانوا بلا نفع كحزب رغم ان الكثيرين منهم ساعدوا الحركة الوطنية (62).
ومع حلول العام 1933 تغيّرت الاوضاع في اسبانيا وتغيّرت معها اشكال العلاقات بين الوطنيين والسلطات الاسبانية في الشمال الامر الذي دفع المغاربة الى تشكيل ” حزب الاصلاح“ ( في 16 كانون الثاني 1931) وذلك بدعم وتأييد من الامير ارسلان .
دور ونفوذ الامير خارج المغرب :
منذ عودته الى تطوان عام 1931 بعد انهائه دروسه في باريس ،تحوّل عبد الخالق الطريّس الى شخصية رئيسية في الحركة الوطنية لشمال المغرب . في 23 مارس- آذار 1932 شكّل جمعية الطلبة المغاربة ، وفي أول ابريل – نيسان من نفس العام شكّل اللجنة الوطنية للشمال. كما انه نظّم عدة اجتماعات ومهرجانات وتظاهرات في تطوان اهمها في 14 نيسان ، 25 نيسان ، 5 أيار ، 12 أيار ، 16 أيار ، و24 تموز . وبين 25 و28 آب 1932 شارك في مؤتمر جمعية الطلبة المسلمين لافريقيا الشمالية AEMNA الذي انعقد في الجزائر والذي اعتبره الاوروبيون أول تظاهرة وحدوية مغاربية تحصل تحت راية الامير ارسلان .
وكان الطريّس قد زار الامير في جنيف من 6 الى 9 أيار وهو كان يعرف انه لكي يصبح الزعيم الاكثر شعبية للحركة الوطنية في الشمال فانه كان عليه الاتصال برائدها ومرشدها الروحي الامير شكيب (63).
وفي 3 تموز1933 نظّم الطريس اجتماعا" في تطوان للاحتفال بالذكرى الثالثة لزيارة الامير وقد شارك في الاجتماع زعماء من الجنوب .
وفي الفترة نفسها صدرت مجلة المغرب في فرنسا لتكون ناطقة باسم المطالب الوطنية ولا يخفي الامير
( في مراسلاته مع بنونة) انه كان وراء فكرة المجلة وهو دعا في رسائل كثيرة وطنيي الشمال لدعم صدور تلك االمجلة (64) التي كان رأيه فيها انها سلاح شديد الاهمية في النضال ، يُعادل ملايين السيوف . وهي ايضا" سلاح للوحدة ولبلورة المطالب والسياسات ولتكون صلة وصل بين الوطنيين اولا" كما بينهم وبين الاشتراكيين والاصدقاء الفرنسيين والاوروبيين من ثمّ .
ومن جهة أخرى فان بلافريج ووزّاني وغيرهما من القادة، كانوا ضيوفا" دائمين عند ارسلان في جنيف وفي رسائله يتحدث ارسلان دائما" عن هؤلاء القادة المغاربة بمحبة أبوية، فيسميهم ”ولدي أحمد“ ولدي الحبيب، ولدي العزيز، ولدي الفاسي (محمد)، ابن الاخ بنونة (الطيّب)، أخي الناصري (مكي) الخ... وهو يمدح محمد بنونة الذي يقضي عنده فترة طويلة (من 4 الى 26 ديسمبر 1933) برفقة علاّل الفاسي ورغم انه هذا الاخير لم يكن قد تجاوز عمره الـ 24 سنة ، فان الامير يصفه ” بالنابغة “ ويتنبأ له بمستقبل باهر (65).
وقد عقد الامير صلات صداقة وتعاون مع مسؤولي جمعية الطلبة المسلمين AEMNA وكذلك مع جماعة نجمة شمال افريقيا ، وخصوصا" قائدها الجزائري مصالي الحاج ، وكذلك مع مناضلي حزب الدستور ( بجناحيه القديم والجديد ) في تونس. وكان الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي على صلة دائمة مع الامير حتى انه كان لا ينقطع عن مراسلته اثناء ترحاله وتنقلاته في المنفى ما بين العواصم العربية ( وخصوصا" بغداد والقاهرة) وكان يطلعه في رسائله على كل آرائه ونشاطاته . وقد دُعي الثعالبي وارسلان الى حضور المؤتمر الثالث لجمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا ( من 19 الى 22 سبتمبر 1933 في باريس) ولكن السلطات الفرنسية رفضت دخولهم الاراضي الفرنسية . وكانت تقارير المخابرات الفرنسية ( المحفوظة في أرشيفات وزارة الخارجية) تفيد بان زعماء جمعية الطلبة المسلمين لا يخفون حقيقة تلقيهم تعليمات من شكيب أرسلان (66).
وللاسف فاننا لا نملك وثائق ( مراسلات، وشهادات شخصية ومذكرات ) حول طبيعة الصلات التي نشأت بين ارسلان من جهة وابن باديس وغيره من قادة الجزائر وتونس من جهة اخرى . ولكن الحقيقة الاكيدة هي انه مارس تأثيرا" كبيرا" عليهم . فمن قراءة مقالات ابن باديس في الدفاع عن سمعة الامير ضد هجمات الباروني (67) ومن قراءة النبذة الشخصية التي كتبها ارسلان في رثاء ابن باديس (68) يتبين لنا عمق الصلة والصداقة والمحبة ووحدة الفكر والعمل التي جمعت بينهما اضافة الى الاحترام المتبادل والتقدير لدور وجهاد كل منهما لتحقيق نفس الاهداف المتمثلة في الدفاع عن الاسلام والعروبة ضد السياسة الفرنسية .
ومن جهة اخرى فقد دافع أرسلان عن حزب الدستور التونسي في وجه الحملات الفرنسية التي كانت تصفه ” بعدو فرنسا رقم واحد“ وقال أرسلان ا ن الحزب نشأ وتنظّم وبدأ عمله في تونس قبل ان يكون له اي اتصال معه. ويذكر الامير تأثير مجلة الامة العربية لاحقا" حيث اعتاد التونسيون قراءتها ودعمها ثم مراسلتها وترجمة ونشر مقالاتها في جرائدهم ( العربية والفرنسية على السواء) وكذلك كافة مقالات ارسلان الصادرة في غيرها من الصحف والمجلات (69).
ويخصص الحبيب بورقيبة عددا" خاصا" (بكامله) من جريدته ” العمل التونسي“ للحديث عن الامير أرسلان وجهاده في خدمة الاسلام والعروبة (70) . أما في الجزائر، فان أرسلان يرى بان باعث نهضتها ومؤسس حركتها الوطنية هو الاستاذ الكبير عبد الحميد ابن باديس واخوانه من العلماء الذين ساروا على نهج محمد عبده وجمال الدين الافغاني . ومن هنا (حسب أرسلان) سر العلاقة الروحية التي جمعت بين ابن باديس وارسلان والتي اعتبرها أرسلان عروة وثيقة وحّدت بينهما اذ نبعت من وحدة مصادر فكرهما ورؤيتهما كما من وحدة أهدافهما الاجتماعية السياسية . وقال ارسلان ايضا ان الجزائريين كانوا يقرأون مقالاته العربية كما مقالاته الصادرة بالفرنسية في مجلة الامة العربية وانهم كانوا مسرورين بسياسته المدافعة عن حقوقهم (71).
وكان أرسلان هو الذي دفع بالحاج امين الحسيني الى دعوة مجموعة كبيرة من القادة المغاربة للمشاركة في المؤتمر الاسلامي الاول في القدس. وكانت تلك المشاركة أول تظاهرة رسمية حاشدة ومشهورة لتلك القوة الجديدة ( الحركات الوطنية المغاربية ) المتهمة بأنها صنيعة أرسلان.
في أعوام 1934- 1935 تصاعد القمع في المغرب ضد الوطنيين خصوصا" مع صعود النازية والفاشية في اوروبا الامر الذي صلّب وجذّر سياسة أرسلان وأعطاها طابعا" هجوميا". فها هو يخصص عشرات المقالات لفضح ممارسات القمع وادانتها والدعوة الى مقاومتها (72). ومن جهة أخرى فانه يزيد من اهتمامه بالقوى الجديدة الصاعدة : الطريس في المغرب ، مصالي الحاج في الجزائر ، بورقيبة في تونس ، فيكتب عنهم انه كان معجبا" ببلاغتهم وشجاعتهم وحماسهم وإقدامهم، وانه لم يعرف من قبل بين المسلمين من هو في مثل صلابتهم واندفاعهم ضد الاستعمار ومن هنا مبادرته الى اعادة نشر خطبهم وتصريحاتهم واقوالهم في مجلة الامة العربية . كما انهم كانوا يقومون باعادة تشر مقالاته في جرائدهم ومجلاتهم(73) وهو يكتب عن ” العمل الوطني المغربي “ ، كتيار مطلوب دعمه وباعتباره استمرارا" وتكاملا" مع الحزب الوطني للاصلاح في شمال المغرب ( والذي أسسه الطريّس). وكما يصف علال الفاسي بالنابغة، فانه يصف بلا فريج والوزاني بالابطال وبالقادة والزعماء لحركة النضال ضد الامبريالية. وهو يتولى الدفاع عنهما بعد سجنهما من قبل الفرنسيين ، ويدعو عموم المسلمين للتحرك لاطلاق سراحهما ولاحتذاء سيرتهما وسلوكهما. وهو يدعم أيضا" مجلة الاطلس التي بدأت تصدر بأسم ” العمل الوطني المغربي“ ويشارك فيها كاتبا" عدة مقالات ودراسات مما يسهم في اعطائها مصداقية وشهرة واسعة.
من هذه المبادرة الهجومية الارسلانية المرتكزة على قوى شابة مناضلة ومخلصة لفكره وتوجهاته، يكشف عنها أرسلان نفسه ويبلورها بوضوح حين يدعو جميع قادة تلك الحركات (نجمة شمال افريقيا ENA ، جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا AEMNA ، الدستور ، العمل الوطني المغربي ANM ، والحزب الوطني للاصلاح PNR ) الى المؤتمر الاسلامي الاوروبي الذي يبدأ أعماله في 12 سبتمبر ايلول 1935 في جنيف.
وكان شكيب يحلم منذ وقت طويل بعقد هذا المؤتمر ويعتبره فرصة لتوحيد القوى واعادة إطلاق النضال من اجل استقلال المسلمين . وهكذا، وللتمهيد للمؤتمر ، قام الامير بجولة بدأها في يوغوسلافيا ( البوسنة) حيث زار في الفترة من 26 ديسمبر 1933 وحتى شباط 1934 مدن بانيالوكا، ترافينيك ، سراييفو، ياسي، وبلغراد حيث حلّ ضيفا" على رئيس العلماء الشيخ ماغلايليتش (74) وفي أول آذار مارس ، وبمناسبة وفاة بنونة ، أذاع نداء تلي في جنازة الزعيم المغربي في تطوان. وخلال العام 1935 ضاعف الامير اتصالاته مع الجزائر : مراسلات مع ابن باديس والشيخ العقبي وكذلك مع توفيق المدني ( الدستور التونسي).
” غير ان الشخص الذي نال النصيب الاوفر من اهتمام الامير وتوجيهاته كان مصالي الحاج زعيم نجمة شمال افريقيا والذي كانت مقالاته مستوحاة مباشرة من شكيب“ (75) وقد كتب مصالي الحاج يصف علاقته بالامير فقال : ” كنت على اتصال مستمر مع الامير شكيب فهو لم يكن فقط سوريا"، وانما كان منتميا" لكل العرب والمسلمين ولم تكن الامبريالية الاوروبية لتحبه او لتحب من يقتربون منه.وكانت الصحافة الاستعمارية والاختصاصيون بالشؤون العربية الاسلامية يقدمونه على انه رجل خطر. وخلال محادثاتنا كنت اقول له بان العمل السياسي الشرعي لا يكفي لوحده لانتزاع استقلال بلادنا. وكان رده علي بانه ينبغي الاستمرار في العمل السياسي كما كان عليه في السابق وان هذا العمل سيطور نفسه بنفسه في اللحظة المناسبة حين يبلغ الوعي الوطني حده المعقول والكافي . وكان يقول لي ايضا" بأنه ينبغي على شعوب شمال افريقيا ان تتقارب ولكن دون ادعاء تحقيق الوحدة سريعا" وبشكل غوغائي يصدر ضجيجا" ولا يدوم . كان ينصحني بتحويل نجمة شمال افريقيا الى حقيقة سياسية فاعلة في كل افريقيا الشمالية“.(76)
في 7 سبتمبر 1935 يلتقي مصالي بأرسلان في فندق فكتوريا قرب الحديقة الانكليزية وبحيرة ليمان .. وكان الهدف من هذا اللقاء كما من اللقاءات التي ستليه تحضير مشاركة المغاربة بالمؤتمر الاسلامي الاوروبي . وقد وصف مصالي تلك اللقاءات الشديدة الاهمية كما وصف الملاحظات الدقيقة جد"ا والصائبة جدا" للامير :
” كان الامير طويلا" صلب البنية ولامعا" جدا" في الحديث وهو يتكلم ثلاث لغات.. وكان له صلات قوية بالعديد من الشخصيات الكبيرة في فرنسا وغيرها من البلدان . وكان له ايضا" الكثير من الاعداء السياسيين الذين كان يقارعهم بالقلم في مجلته الامة العربية ، وليس بالسيف..
تحدثنا عن حركتنا وتنبأ لها الامير والسيد لونغيه بمستقبل باهر.. كما تحدثنا عن احتمال نشوب حرب عالمية ثانية.. وقال الامير ان الوقت مناسب لكي تقوم فرنسا بخطوات في اتجاه حرية واستقلال الشعوب العربية وذلك
بغية كسب صداقتها وثقتها اذ لا ندري ما يخبئه المستقبل .. ان فرنسا المهددة بسبب وضعها الجغرافي ، تستطيع ان تحمي نفسها اذا أعطت الشعوب المستعمرة حقوقها او استمعت لمطالبها المحقة وذلك لكسب ثقتها وتعاونها معها في المستقبل القريب..
وهل نأمل بان تكون ” الجبهة الشعبية “ قادرة غدا" على مباشرة الحوار ؟ “.(77)
وقد سمعت أحزاب الحركة الوطنية المغاربية نصائح الامير شكيب فبادرت منذ وصول ”الجبهة الشعبية“ اليسارية الى السلطة في فرنسا (حزيران 1935) لعقد اجتماعات متواصلة للخروج بموقف موحّد (شاركت أحزاب الدستور التونسي والعمل المغربي ونجمة شمال افريقيا الجزائري في اجتماعات التنسيق هذه). وفي نهاية ديسمبر1935 حضرالسوري شكيب جابري (ابن شقيق إحسان) الى باريس للمشاركة في الحوارات التي بدأت بين القوى السياسية العربية وأبرزها لجنة العمل المغربي، نجمة شمال افريقيا، جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا، لجنة الدفاع عن الحريات في تونس، لجنة تحرير سوريا، عصبة حقوق الانسان في سوريا، الخ...). وكان شكيب جابري يحمل معه تعليمات وتوجيهات من أرسلان تطالب المجتمعين باعتماد خط توحيدي لكل الحركات الاسلامية وبمقاومة كل النزاعات والصراعات الداخلية بين تيارات الحركة الوطنية . ومن جهة اخرى فقد حملت توجيهات أرسلان دعوة الى عدم تسهيل اية مساومة اصلاحية مع فرنسا والى الاستفادة من الاوضاع الفرنسية الداخلية لاحداث اضطرابات في اكبر عدد ممكن من النقاط وذلك من خلال عمل موحّد يشمل سوريا ومصر وتونس والمغرب، والجزائر ان امكن .(78)
وحسب الخارجية الفرنسية فان ” معظم البيانات والمنشورات التي وزعتها جمعية الطلبة المسلمين خلال عام 1935 كانت قد كتبت او طبعت في جنيف“ ،وان ” تعليمات أرسلان كانت تصل من خلال جمعية الطلبة المسلمين الى لجنة العمل المغربي والى جناحي حزب الدستور التونسي“.. وان هذه الاتصالات أدت الى حملة قمع شرسة ضد القادة المغاربة لم يسبق لها مثيل. وهكذا فان مصالي الحاج غادر الى المنفى في جنيف حيث مكث الى جنب أرسلان فترة من الزمن ” تلقى خلالها تأهيلا" وتكوينا" عقائديا" من قبل الامير الدرزي الذي جعل من منزله في جادة أرنست هنتش مكتبا" للاعلام والتواصل شديد الاطلاع والمعرفة ومركزا" لحركة العروبة“ (79).
وفي جنيف شارك مصالي الحاج في اجتماعات متعددة وفي اتصالات متنوعة سمحت له بتطوير رؤيته السياسية للاوضاع فكتب يقول :” لقد تنبهت هناك الى ان العالم الاسلامي يملك مصادر قوة مهمة وكنت أحمل انطباعا" قويا" صادقا" بان آلية تفجير مسيرة التحرر الوطني قد انطلقت في العالم العربي . وكل لقاءاتي التي تمت بفضل الامير، مع السيد ضياء الدين ( رئيس وزراء ايراني أسبق) ونوري السعيد ( رئيس وزراء العراق لاحقا") او مع المغربي عمر بن عبد الجليل ، أثبتت لي ان المغاربة والمشارقة يريدون التعاون ومساعدة بعضهم البعض. وقد ازداد تقديري واحترامي وثقتي واعجابي بالامير شكيب أكثر فاكثر علما" انني كنت أعتبره أصلا" أهم واكبر زعيم وقائد في العالم العربي . وقد أدت علاقاتي معه الى مراكمة الاعداء والعداوات والاحقاد ضدي . ولم تؤد الاتهامات التي اعتبرته مشاغبا" متعصبا" في خدمة ابن سعود او موسكو ، الى ثنيي عن موقفي ورأيي في هذا الرجل الكبير“(80).
خــــاتمـــة :
كان لوصول ” الجبهة الشعبية اليسارية الى الحكم وقع ايجابي لدى الشعوب المستعمرة وحركات الاصلاح والمقاومة الوطنية. وأعلن مصالي الحاج وهو المؤيد المتحمس للجبهة الشعبية عن رفضه وعدائه لاي تفاوض حول اصلاح محدود مطالبا" بالاستقلال التام للجزائر . وأبدى المغاربة استعدادهم للتفاوض حول دعم الجمهورية الاسبانية مقابل نيل الاستقلال. وبتوجيه من أرسلان توجّه وفد مغربي الى مدريد بعد اتصالات اجراها مع الجبهة الشعبية في فرنسا لنيل دعمها. الا ان حكومتي فرنسا واسبانيا لم تتنازلا عن تصلبهما ورفضتا مطلب التفاوض حول الاستقلال او حتى مجرد الحكم الذاتي . وأمام تصاعد أخطار نشوب حرب عالمية كان رد الاشتراكيين الفرنسيين على المطالب الوطنية المغاربية : ”على جميع الفرنسيين رصّ الصفوف خلف فرنسا . وليس الوقت مناسبا" للكلام عن إصلاحات بنيوية“. لا بل ان الاشتراكيين ذهبوا أبعد من اليمين الفرنسي في سياستهم الاستعمارية فعملوا على تقسيم صفوف الوطنيين بين معتدلين ومتطرفين من خلال تقديم مشاريع ( مثل مشروع بلوم- فيوليت الجزائري) يتحدث انقساما" في صفوف النخب الوطنية دون ان تضمن تحقيق أي مطلب ولو بسيط..
وهكذا انقسم الجزائريون وانشق التونسيون في حزب الدستور (81) في حين ان المغاربة ذاقوا ويلات وحشية المفوض السامي الجديد نوغيس Noguês الذي فرضه انصار الحزب الاستعماري والعسكري وهو المعروف بحقده ضد الاسلام والمسلمين.(82).
وصبّ شكيب أرسلان جهده لتوحيد الصفوف وتنقية الاجواء خصوصا" بين الاصلاحيين المسلمين واتباع مصالي في الجزائر وهما كانا على صلة قوية به رغم الاختلافات فيما بينهما . كما عمل على محاولة إعادة توحيد جناحي الدستور في تونس وعلى الاصلاح والتوفيق بين انصار الوزاني وانصار الفاسي في لجنة العمل الوطني المغربي . فقام في 21 شباط 1937 بزيارة الى باريس حيث استقبل استقبالا" حاشدا" وباهرا" من قبل جمعية الطلبة المسلمين (AEMNA) والتقى وتحادث مطولا" مع بورقيبة كما مع غيره في محاولة لتجسيد مساعيه الوحدوية التي امتدت ايضا" الى المغرب بشماله وجنوبه..
غير ا ن تيار الانقسامات والصراعات بين النخب الوطنية في بلاد المغرب العربي لم يتوقف او يهدأ تغذّيه سياسات الاشتراكيين الفرنسيين التي استخدمت العصا والجزرة في آن معا" فكان قرار حلّ نجمة شمال افريقيا عام 1937 وسجن مصالي الحاج وقادة لجنة العمل الوطني المغربي والدستور التونسي ونفي الكثيرين منهم وتشتيت صفوف تجمعاتهم في فرنسا وقمع تحركاتهم في البلاد المحتلة..(83).
ولكن الزرع الذي زرعه الامير شكيب أرسلان في المغرب العربي أينع ثماره في المرحلة اللاحقة تصاعدا" في النضال من اجل استقلال ووحدة بلدان المغرب وتطورا" في اشكال العمل والتنظيم مما نقرأه بوضوح في رسالة الامير الشهيرة الى أكرم زعيتر وفيها يحدثه عن شكل التنظيمات والمؤسسات القاعدية المطلوب إقامتها لخوض النضال بصورة أكثر جذرية وبنجاح وانتصار..(84).
هوامش :
1- جولييت بسّيس : ” شكيب أرسلان والحركات الوطنية في المغرب، المجلة التاريخية – باريس - نيسان- حزيران 1973، ص 475 – 526.
2- لدراسة وافية تفصيلية حول جهاد الامير راجع اطروحتنا للدكتوراه بالفرنسية : العروبة والاسلام في فكر الامير شكيب أرسلان 1869- 1946، جامعة السوربون- باريس 4- 1983.
3- عبد الله العروي : الايديولوجية العربية المعاصرة ، (بالفرنسية) باريس 1970 ص 21-22.
4- شارل اندريه جوليان : المغرب في مواجهة الامبرياليات 1915- 1956، باريس 1978 ص 152.
5- عبدالله الطاهر : الحركة الوطنية التونسية ، بيروت 1976 ص 15- 23 .
6- انطوان فلوري : الحركة الوطنية العربية في جنيف بين الحربين ، في مجلة العلاقات الدولية – باريس- العدد 19، خريف 1979، ص 334.
7- مجلة الامة العربية ، جنيف ، العدد 10- 11( نوفمبر – ديسمبر) 1931.
8- حاضر العالم الاسلامي طبعة بيروت 1974 م2- ج3- ص184- 207.
9- نفس المصدر ، وأيضا" جريدة الشورى 16 تموز 1925.
10- مصالي الحاج : مذكرات بالفرنسية أعدها وحررها رونو دو روشبرون ، باريس 2198، ص166- 210
11- رسائل عبد السلام بنونة الى الامير في كتاب : الطيّب بنونة ، طنجة 1980،ص107-108.
12- ايفارست ليفي بروفنسال : نبذة عن سيرة حياة الامير شكيب بمناسبة وفاته . في مجلة دفاتر الشرق (باريس) العدد 9- 10 ، 1947، ص 12. وانظر ايضا" كتاب الامير : عروة الاتحاد بين أهل الجهاد بيونس ايرس ، 1947، ص 149.
13- عبد الكريم غلاب : تاريخ الحركة الوطنية المغربية – ج 1، كازابلانكا 1976، ص 72
14- جوليان ، مصدر سابق ، ص 161.
15- الفتح عدد 216 (11/10/1930) ورسالة بنونة بتاريخ 14 أيلول 1930، كتاب الطيّب بنونة ص 105
16- فلوري ، مصدر سابق ، ص 349.
17- أرسلان : عروة الاتحاد ، ص 150، والفتح عدد220(10/11/1930).
18- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 اكتوبر 1930، مصدر سابق ص 119.
19- احمد الشرباصي : امير البيان شكيب أرسلان ، جزءان ، القاهرة 1936، الجزء الثاني ،
ص 722.
20- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 اكتوبر 1930 ، مصدر سابق ، ورسالة بتاريخ 14 ايلول 1930 م . س. ص 104.
21- الفتح العدد 226 ، ورسائل الى بنونة م . س . ، الصفحات 125- 139- 191.
22- غلاب ، مصدر سابق ، ص 41 .
23- أرسلان : تاريخ غزوات العرب .
24- محمد ابن عزوز حكيم : وثائق سرية حول زيارة الامير شكيب للمغرب ، تطوان 1980، ص15
25- وفقا" للوثائق والتلغرافات المتبادلة بين المدير العام الاسباني للمغرب والمستعمرات ( في مدريد) والمفوض السامي في تطوان . انظر كتاب ابن عزوز حكيم ، ص 20- 23 .
26- م . ن ص 22- 24 ، وايضا" الرسالة من محمد أقلعي الى بنونة ، والرسالة الى القنصل العام الاسباني في تطوان ، (نفس المصدر).
27- رسالة من محمد بنونة الى ابن اخيه الطيّب بتاريخ 2 أيلول 1930، في وثائق سرية ، م . س ص 27- 29 .
28- رسالة من محمد بنونة الى الطيّب ، وكذلك مصدر إخباري من الاستخبارات الاسبانية الى المفوض السياسي .. وثائق سرية ..م . س ص 31 وايضا" الفتح العدد 221 .
29- حكيم : م .س ص 35- 40.
30- ليفي بروفنسال : م . س ص 12 وجوليان م . س ص 161 .
31- بسيس : م . س ص 480 .
32- بروفنسال ص 12 .
33- غلاّب : ص 87 .
34- أرسلان : عروة الاتحاد ، ص 153 .
35- غلاّب : ص 87 .
36- الامة العربية : عدد آذار 1931.
37- الامة العربية عدد أيار- حزيران 1931 .
38- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 أيلول 1930 ، م . س ص 109 .
39- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 اكتوبر 1930 ، م . س ص 118 .
40- رسالة الى بنونة ، م . س ص 118- 120
41- الامة العربية عدد آذار – نيسان وايار – حزيران 1932.
42- الامة العربية عدد كانون الثاني ، شباط ، 1935.
43- غلاّب ص 87 وحكيم ص 69 .
44- حكيم ص 65 .
45- ” وثائق تشهد “ ، الرباط 1980، ص 11 .
46- حكيم ص 68- 69 .
47- الامة العربية أيار – حزيران 1931 .
48- الرسائل المؤرخة في 15 كانون الثاني ، 27 شباط ، 21 اكتوبر 1932، بنونة م . س
ص 289- 295.
49- رسائل 8 تموز ، 5 آب ، 28 آب 1931 بنونة ، م . س ص 252- 260- 261- 266- 267 .
50- حكيم ص 76- 77.
51- وثائق تشهد ، ص 15 .
52- المقال ترجمة حكيم ، م . س ص 78- 80 .
53- مجلة الحوليات العدد 228 ، السنة التاسعة ، 18 سبتمبر 1932 ، مصوّرة ومنشورة في كتاب حكيم ، م . س ص 80- 83 .
54- رسالة الى بنونة بتاريخ اول آذار 1931 م . س ص 181 .
55- م . ن ص 181- 182 .
56- غلاّب ص 96 .
57- تعليق الطيّب بنونة على رسالة ارسلان الى والده عبد السلام ، بتاريخ ا آذار 1931 م . س. ص 181 .
58- رسالة بتاريخ 26 نيسان 1931 م . س . ص 214 ز
59- م . ن وايضا" رسالة 30 نيسان ( ص 220).
60- م . ن ص 228 .
61- رسالة بتاريخ 12 حزيران 1931، م . ن ص 242 .
62- شهادة الطيّب بنونة ، م . ن ص 242 .
63- حكيم ص 88 .
64- رسالة الى بنونة في 28 آب 1931، واخرى في 5 كانون الاول 1931 ، و 21 كانون الاول 1931،
و21 تشرين الاول 1932، و 11 كانون الاول 1932 ، م . ن الصفحات 266- 281- 284 – 297 – 306 .
65- رساالة الى بنونة في 6 كانون الاول 1933 . م . ن ص 332 .
66- أرشيفات الكيه دورسيه ( الخارجية) ، افريقيا ، شؤون عامة ، ملف الحركة الاسلامية ، انظر بسّيس ، م .س ص 480 .
67- الشهاب – مجلد 10- جزء 13- تاريخ 21 ديسمبر 1937- ص 438- 446 ومجلد 11 تاريخ كانون الثاني 1938 – ص 472 – 473 .
68- مقالة في مجلة العلم العربي ، الارجنتين – 27 نيسان 1940 . انظر كتاب ارسلان عروة الاتحاد ، م . س ص 91- 94 .
69- م . ن ص 147 ( مقالة بتاريخ 25 حزيران 1940).
70- مقالة افتتاحية بقلم بورقيبة في العدد الخاص من جريدة العمل التونسي – 5 حزيران 1937 .
71- ارسلان : عروة الاتحاد ، م . ن ص 148 .
72- الامة العربية ، سبتمبر- اكتوبر 1934 ونوفمبر- ديسمبر 1943 ويناير- فبراير 1935 .
73- ارسلان : عروة الاتحاد ، م . س ص 148.
74- ليفي بروفنسال : م. س ص 13- 14 والفتح العدد 312 و 319 .
75- ليفي بروفنسال : م . س ص 14 .
76- مصالي الحاج : م . س ص 209- 210 .
77- م . ن ص 197- 198.
78- أرشيفات الكيه دورسيه- انظر بسّيس – م . س. ص 482- 483.
79- جوليان في تعليقه على مذكرات مصالي الحاج ، م . س. ص 269 .
80- م . ن ص 270- 271 وايضا" ليفي بروفسال م . ن ص 15.
81- ارسلان : عروة الاتحاد ، ص 50 .
82- م . ن ص 44.
83- مصالي الحاج ، م . س ص 242.
84- الحكم أمانة – رسالة الامير الى أكرم زعيتر- نشرها المكتب الاسلامي – بيروت 1980
ورقة قدمت الى مؤتمر معهد الدراسات الاسلامية في جامعة المقاصد،تموز 2002، سعود المولى
هل كان شكيب أرسلان عثمانيا" مشرقيا" فلم يهتم بالمغرب العربي قبل عام 1930؟ هذا ما يؤكده باحثون عرب واوروبيون أبرزهم جوليت بسيس Bessis
التي تقول : ” حتى عشية ،1930 وباستثناء وجوده في ليبيا قبل عام 1914 حين كان يخدم الامبراطورية العثمانية، فان شكيب ارسلان لم يبد ابدا" اهتماما" خاصا" بالشؤون المغربية . فلا يبدو انه تعاطى بأي شكل من الاشكال مع الحركةالوطنية التونسية التي تطورت بعد الحرب الكبرى ، كما لا يبدو انه أقام صلات تعاون مع قادتها بمن فيهم الاساسي بينهم عبد العزيز الثعالبي . كما اننا لا نجد ايضا" اي أثر لمواقف معلنة خلال حرب الريف ..غير اننا نجد مراسلة بين الامير وبين الاصلاحي الجزائري طاهر العقبي ولعلها تندرج في سياق صلات أقدم قامت بين الحركة الاصلاحية الاسلامية ورائدها الشيخ ابن باديس وبين شكيب أرسلان .؟؟ (1)
يفتقر هذا الكلام الى الدقة والى الانصاف ناهيك عن ابتعاده عن العلمية والتاريخية والموضوعية .. والسبب في ذلك الاسقاط الغربي عدم معرفة الرابط بين الحركة الاصلاحية الاسلامية وبين الحركة الوطنية المغاربية ودور الامير كحلقة ربط وكصلة وصل بينهما .
صحيح ان عمل الامير خلال المرحلة ما بين 1918(تاريخ سقوط الدولة العثمانية) و1930 (تاريخ اصداره مجلة الامة العربية وزيارته لتطوان) قد اتسم بالتركيز على المشرق (القضية السورية التي حمل لواء الدفاع عنها أمام عصبة الامم ، وقضية فلسطين ، وكذلك قضية مواجهة العلمنة والتغريب في مصر) (2)، الا أن ذلك لا يجعلنا نقرر انه لم يهتم بالمغرب قبل عام 1930 رغم اننا نزعم بان عام 1930 شهد انعطافة تاريخية في فكر وممارسة الامير مرتبطة بتحولات عصره وهي انعطافة كان للمغرب حصة الاسد فيها .. ومن هنا قول الباحثين الغربيين ان عام 30 شهد تحول الامير نحو المغرب . ذلك ان عام 30 قد شهد انشاء مجلة الامة العربية من جهة وحصول تطورات خطيرة ومهمة في المغرب العربي من جهة اخرى الامر الذي أوجد ظروفا" بلورت مساهمة الامير المميزة في الحركة الوطنية المغاربية بقوة وعمق ..
المغرب العربي والحركة الاسلامية الاصلاحية
لا يمكن بأي حال من الاحوال فصل الحركة الوطنية المغربية عن سياقها التاريخي وحضنها الطبيعي الذي نشأت فيه وتبلورت بالارتباط التام معه وهو الاسلام الاصلاحي الذي مثّله الافغاني – عبده – رضا – وكان الامير أرسلان رائده وناشر فكره ومنهجه في المشرق والمغرب على السواء . يقول عبدالله العروي ان فكر وتراث محمد عبده قد أثمر بعد موته في المغرب اكثر من مصر .. وقال انه لو لم يوجد محمد عبده لوجب اختراعه ..
(3) وليس شخص محمد عبده هو من أثّر في المغرب وانما مدرسته وخصوصا بواسطة المنار ، وبواسطة سمعة وشهرة وعمل وفكر أرسلان .
” فعلى الرغم من ضغط مدرسة مالكية تقليدية ومن عزلة جغرافية نسبية الا ان التأثيرات المشرقية قد وصلت الى أقصى الغرب المغاربي “ .
فلقد كان هناك حوالي الالفي مغربي في القاهرة والاسكندرية يعملون في التجارة ، كما ان أعدادا" اخرى من الطلبة كانت تدرس في الازهر زمن الشيخ محمد عبده ومجلة المنار التي كان لها نفوذ كبير في المغرب .. وحتى عام 1912 عمل المصريون والاتراك مباشرة في المغرب بهدف مقاومة مخططات الاجانب .. وكان الخديوي عباس حلمي الثاني وجماعة تركيا الفتاة يرسلون بعثات عسكرية ودعائية للعمل وسط القبائل .(4)
وكان عبدالله ابن ادريس السنوسي رائد الاصلاحية في المغرب، طالبا" أزهريا" نجح في نشر أفكار تلك المدرسة وفي الدعوة الى انشاء الجمعيات والنشاطات الاجتماعية الثقافية والتربوية .
وقد واصل بوشعيب الدوكلي والعربي العلوي عمله وهما كانا من تلامذة المنار التي انتشرت بقوة في فاس . وفي الجزائر كان الشيخ العقبي والشيخ الابراهيمي ممن درس في المشرق وساهم في نشر مدرسة عبده – رضا . اما ابن باديس فهو المثال الساطع على الزواج ما بين الاسلام الاصلاحي للمؤسسين المشارقة وما بين العروبة
والوطنية الجزائرية المناضلة ضد الاستعمار الثقافي . وفي تونس كان علماء الزيتونة في طليعة من تجاوب مع دعوة مجلة العروة الوثقى لا بل يقال بان التونسيين (خصوصا" محمد السنوسي وبوحاجب وغيرهما) هم الذين دفعوا الافغاني وعبده الى اصدار المجلة من باريس وشاركوا فيها بالقصائد والمقالات .
وعلماء الزيتونة هم الذين دعوا محمد عبده لزيارة تونس حيث استقبل استقبال القادة الكبار في نوفمبر 1844 (5). ومن جهة اخرى فان زعماء الحزب الوطني المصري كان لهم اتصالات مستمرة مع التوانسة . كما ان محمد فريد زار تونس وكان له تأثير كبير على مجموعة الشبان الذين أسسوا في عام 1907 ” حركة تونس الفتاة “ (عبد العزيز الثعالبي، محمد وعلي باش حانبة) وكذلك على صحيفة ” التونسي “ التي كانت لسان حال المطالب التونسية والتي تحول مركز ادارتها الى مركز قيادة للحركة الوطنية ما بين الاعوام 1907 و 1912 .
لقد كانت حركة الجامعة الاسلامية من القوة بمكان في شمال افريقيا قبل الحرب العالمية الاولى الى حد انها ضمت العشرات من العلماء ومن تلامذة الافغاني وعبده وكانت الوقود الذي غذى الانتفاضات الشعبية ضد قوى الاحتلال الاستعمارية . وفي المغرب العربي كان شعور الاخوة والتضامن مع الدولة العثمانية قويا" الى حد انه استثار ردود فعل شعبية واسعة وعنيفة وخصوصا إبان الحرب في ليبيا وإابان الحرب العالمية الاولى . ففي خلال تلك المرحلة (1911-1914 ) برز موقف الامير أرسلان المدافع عن الدولة العثمانية والمعارض للدعوات الانفصالية من جهة كما لدعوات التتريك الطورانية من جهة اخرى . وهو حمل راية الدعوة الى الوحدة والى الجامعة الاسلامية والى صد الهجمة الغربية وانتصار الدولة العثمانية في حروبها ، وجسّد موقفه هذا عبر قيادته لكوكبة من المتطوعين من الدروز الى الحرب في ليبيا (1911-1912 ).. كما قاد مجموعة اخرى في الحملة العثمانية على ترعة السويس (1916) ..
وهذا الموقف الفكري والعملي هو عين الموقف الجماهيري المغربي والذي وجد في الامير ارسلان رمزا" له. وقد وجد هذا التيار تعبيره الابرز والاقوى في ” مجلة المغرب- الجزائر- مراكش- تونس- وليبيا “ وهي التي صدرت في جنيف في 30 أيار 1916 لتحمل مطالب الاهالي المغاربة في البلدان المذكورة في عنوانها . والمجلة صدرت شهرية بانتظام حتى آخر عام 1916، ثم تباطأت وتيرة صدورها بدءا" من يناير 1917 اذ صدرت في أعداد مزدوجة حتى آب 1918 ولتتوقف اخيرا" في عدد حمل تاريخ ايلول- كانون الاول 1918 ولكنه تضمن وثائقا" بتاريخ كانون الثاني- يناير 1919 (6).
اما مدير المجلة فهو محمد باش حانبه، التونسي من أصل تركي، والمنفي منذ 1912 مع شقيقه علي وعدد آخر من التوانسة ممن كانوا مقربين جدا" من الامير شكيب الذي وصف الاخوين باش حانبه بانهما ” أول أنصار تحرير المغرب والممهدين للحركة التونسية .“(7)
ومع نهاية الحرب وانهزام العثمانيين واحتلال بلدان المشرق العربي وتجزئتها، أصيب المغاربة بضربة قوية في آمالهم وتطلعاتهم الا انهم لم يتوقفوا عن النضال لتحرير بلادهم ، فكانت ثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي علامة مهمة في الوعي المغاربي (1920-1926) وهي لقيت كل الدعم والاحتضان من المسلمين في المشرق العربي وعلى رأسهم الامير شكيب (وذلك بعكس ما ذهبت اليه جولييت بسيس في مقالتها السالفة الذكر8).
في فصل طويل (من تعليقاته على كتاب حاضر العالم الاسلامي) مخصص لثورة الريف وبطلها الخطابي، يقارن الامير ارسلان بين الخطابي وكبار الاستراتيجيين في العالم ويجد انه أفضل من فوش وهندنبرغ ولينين وغيرهم .. وانه بطل الاسلام وحاميه والمدافع عنه .. وانه يجسّد كل صفات وميزات هؤلاء القادة الاستراتيجيين العظام بل ويتقدم عليهم في الشجاعة والإقدام والبطولة (9) .
ومثال آخر على الروابط التي كانت تجمع أرسلان بقادة المغرب العربي تقدمها لنا مراسلاته مع طاهر العقبي وابن باديس والتأثير الكبير الذي تركه فيهما وفي تطور الحركة الوطنية الاسلامية الجزائرية ، وكذلك في الزعيم مصالي الحاج (10) .
كما أن تأثيره امتد ليشمل الطلبة المغاربة المبعوثين في القاهرة ونابلس . وقد لعب هؤلاء الطلبة الى جانب اخوانهم المبعوثين في باريس، دورا" فائق الاهمية في نشر مقالات وكتابات وتوجيهات الامير أرسلان . وبفضل هذه الاتصالات التي تعود الى فترة نفي الاخوة باش حانبه في جنيف، والتي تجددت عقب ثورة الريف، أمكن التمهيد لزيارة الامير أرسلان لتطوان عام 1930 . وقبل الانتهاء من هذه النقطة لا بد أن نذكر المراسلات بين الامير أرسلان والسيد عبد السلام بنّونة والتي تذكر علاقة الطلبة المبعوثين في نابلس بالامير وتروي مسائل ومباحثات جرت عام 1928(11) .
الظهير البربري :
يمثل العام 1930 كما سبق القول نقطة تحوّل تاريخية بالنسبة للحركة الوطنية المغربية. فهي تؤرخ لأول انتفاضة شعبية في المغرب بمناسبة صدور الفرمان الشريفي (الشهير باسم الظهير البربري ) بتاريخ 16 حزيران والقاضي بالبناء على العرف البربري في المحاكم أو العدالة البربرية بديلا" عن الشرع الاسلامي . وقد اعتبر الامير ارسلان ان انطلاق مسيرة الحركة الوطنية وتبلورها وتعاظم قوتها تعود الى هذا الظهير والى حركة الرفض الشعبي التي أثارها (12) .
فقبل عام 1930 كان الوطنيون مشتتون في منظمات سرية ما بين تطوان وفاس والرباط وساله، ولم يكن هناك اي اتجاه او تيار او مجموعة يستطيع الادعاء بتمثيل كل المغرب .. كانت الحركة الوطنية عبارة عن منظمات او اشخاص يناضلون دون وحدة ودون برنامج على حد وصف أحد كبار القادة الوطنيين (13).
وقد انطلقت اول حركة رفض للظهير في ساله وهي الحركة التي عرفت باسم (يا لطيف) حيث ان الاهالي اعتصموا في المساجد يرددون الدعاء يا لطيف .. يا لطيف ..واشتعلت المساجد من مدينة الى مدينة ومن حي الى حي ومن قرية الى قرية، من الشمال الى الجنوب ، والى قلب القرويين ، صرخة واحدة ألهبت المغرب، يا لطيف ، ثم تحولت مظاهرات عارمة في الاسبوع الاول من شهر تموز واضطر الاحتلال معها الى استخدام القوة والقمع والاعتقالات والعقوبات الجماعية ..
وبواسطة مجلة الامة العربية التي كان الامير قد بدأ باصدارها في جنيف، عرف العالم كله، والمسلمون اولا"، طبيعة الخطر المحدق بالاسلام في المغرب. ومن الجزائر الى جاوه وسومطرة، وقف المسلمون وقفة رجل واحد ورفعوا الصوت بالاحتجاج مما أقلق السلطات الفرنسية (14).
ومنذ بداية حركة المساجد ارسل الامير أرسلان رسائل عاجلة للقادة والمسؤولين العرب والمسلمين .. منهم عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين في مصر، ومحب الدين الخطيب (جريدة الفتح )، ورشيد رضا (المنار) ومحمد علي الطاهر (الشورى) يطلب منهم شن حملة عامة للتعبئة دعما" للمغاربة في نضالهم (15) . وكان واضحا" ان ارسلان عرف كيف يستخدم سلاح الاعلام في تحقيق وعي عام ويقظة وطنية في العالم الاسلامي (16) .
وتركزت الحملات العنيفة ضد فرنسا لمحاولتها تنصير البربر الامر اللذي اعتبره أرسلان مأساة ومهزلة ووصمة عار في جبين الانسانية والحضارة والعدالة والقوانين (17) . ففرنسا تزعم بان البربر هم من أصل مسيحي او من عرق أوروبي .. وهي كانت تحلم بفرنسة المغرب لكي تستطيع بسط سيطرتها عليه . وتحقيق هذا الحلم يستلزم تدمير الاسلام .. وبما انه كان من الصعب ابعاد العرب عن الاسلام نظرا" لصلتهم بالرسول وشعبه وبلغة القرآن ، فأن الفرنسيين فكّروا بالبربر الذين يشكلون ثلثي سكان المغرب ونصف سكان الجزائر .
وكان الامير قد أشار الى خطر تنصير البربر في تعليقاته في ” حاضر العالم الاسلامي “. الا ان ما حدث عام 1930 هو ان فرنسا ارادت تطبيق هذه السياسة وقد شجعها على ذلك سياسة العلمنة الكمالية في تركيا التي طبقت بالتدريج ولم يكن عليها مواجهة حركة تضامن واتحاد اسلامية قادرة على افشالها . وهكذا اعتقدت فرنسا ان بامكانها توجيه ضربة قاضية للاسلام في المغرب باعطاء الصفة الرسمية والقانونية للعمل الذي بدأته البعثات التبشيرية والمدارس الفرنسية . غير أن حركة الاحتجاج والرفض المغربية كانت قوية وهجومية وعنيفة الى حد انها نجحت في توحيد كل الشعب وفي حشد تضامن كل المسلمين البربر والعرب في النضال المشترك . كما ان حركة النضال المغربي هذه قد أثارت حركة احتجاجات وتمردات واسعة ضد الحكومة الفرنسية في كل البلاد العربية وعلى الصعيد العالمي أيضا" .
ووسط حملة الاعتراض والاحتجاج هذه بحث الامير عن دعم وتأييد الملوك والرؤساء العرب والمسلمين من جهة ، وتضامن القوى التقدمية في البرلمان الفرنسي والرأي العام العالمي من جهة أخرى . ونتيجة لفشله في الحصول على دعم قوي من الملوك والرؤساء العرب فانه ركّز عمله وجهده على الحصول على دعم الاشتراكيين والراديكاليين في فرنسا وذلك لتدمير السياسة الفرنسية ”بأيدي الفرنسيين أنفسهم “ ، ومن خلال الاعلام والدعاية والاتصالات مع أحزاب المعارضة التي تقف ضد استخدام السلطة السياسية الفرنسية في خدمة نشر المسيحية ..
وكان أرسلان يرى بان هؤلاء الاشتراكيين والراديكاليين يستطيعون افشال سياسة فرنسا شرط ان يجدوا محاورين مسلمين .. (18)
في رسالة الى رشيد رضا بتاريخ 9 نوفمبر 1930 يكشف ارسلان عن اتصالاته بالاشتراكيين الفرنسيين في البرلمان ويذكر الرسائل التي أرسلها اليهم (وكل واحدة منها في 30 صفحة)، لشرح الوضع والطلب اليهم اتخاذ موقف ضد سياسة حكومتهم . ولكن محاولة التحالف هذه مع المعارضة الفرنسية فشلت سياسيا". ذلك ان الفرنسيين حسب أرسلان متضامنون للدفاع عن شرف فرنسا . كما ان الاشتراكيين والراديكاليين لا يهتمون لمسألة التنصير ولكنهم بالمقابل يعتبرون انه ليس بامكان فرنسا ممارسة سياسة معادية الدين ولذا فان ادانة ما يحصل في المغرب يساوي الاعتراف بواقعة وجود هكذا سياسة فرنسية .. ومن هنا فان هؤلاء المعارضين يلتزمون الصمت في جرائدهم .. (19) غير ان بعض الاشتراكيين وعلى رأسهم القائد الاشتراكي الكبير بيار رونندال وجان لونغيه يوافقون على طرح هذا الموضوع امام البرلمان (20) ومع علم أرسلان بان صوتهم سيكون دون صدى ، فانه ينتقل الى الهجوم داعيا" الى الاعتماد على القوى الذاتية للمسلمين وعلى ” ملك الملوك “ وهو سلاح المقاطعة للتجارة الفرنسية في كل البلدان الاسلامية (21)..
ان عمل ودعاية ارسلان ضد الظهير البربري كانا من الاسباب الرئيسية لنجاح الحركة الشعبية المغربية في فرض إلغاء الظهير . وقد أدى ذلك الى زيادة نفوذ وتأثير الامير بين المغاربة مما جعله يفكّر في زيارة المغرب لتعميق صلاته وروابطه بالمغاربة وتوحيد صفوفهم وتوجيه حركتهم الوطنية .
زيارة تطوان التاريخية :
قد يبدو مستغربا" إيلاء كل تلك الاهمية لزيارة قام بها الامير في ختام رحلته الاندلسية . ولكن يكفي ان نعرف مقدار إلحاح واهتمام المغاربة على التذكير الدائم بالزيارة والاحتفال بها واعتبارها نقطة تحوّل في تاريخ حركتهم الوطنية حتى ندرك; أهميتها التاريخية.( يحتفل أهالي تطوان وبلديتها كل 5 سنوات بذكرى زيارة الامير لبلدتهم وهم شكلوا لجنة وطنية خاصة بالاحتفال الذي بلغ أوجه في عام 1980 اي بمناسبة الذكرى الخمسين للزيارة). وقد أجمع المؤرخون والوطنيون المغاربة على كون الزيارة شكّلت ” عاملا" مهما" في التوجيه السياسي للحركة الوطنية “.. وكان الامير قد بدأ بجولة في بلاد الاندلس ، وباتصالات مع ” مجموعة تطوان “ التي قابلته عدة مرات ، قبل ان تدعوه للقدوم وتعد له استقبالا" شعبيا" ووطنيا" شاركت فيه وفود من كل المغرب وعلى رأسها وفد الرباط بقيادة أحمد بلافريج ومحمد يزيدي ومحمد الحسن الوزاني .. ويذكر عبد الكريم غلاب ان هذا الاتصال كان حاسما" في بلورة الحركة الوطنية الى حركة وطنية سياسية(22)..
في 18 حزيران 1930 يصل الامير الى باريس حيث يلتقي أحمد بلافريج ومحمد الفاسي ويبقى لبضعة أيام يقابل خلالها الطلبة السوريين ” في المطعم العربي الموجود قرب مسجد باريس“ . ومن باريس ينتقل الى تولوز ثم قرقشون حيث يزور بقايا الوجود العربي في المنطقة، وكتابه حول الفتوحات العربية يبدأ بذكر ووصف تلك المنطقة من جنوب فرنسا اي شمال الاندلس ، حيث توقف العرب وليس حيث بدأوا.. ذلك ان الامير قد اختار البدء برحلته من حيث توقف المسلمون وليس من حيث بدأوا في سوريا نظرا" لعدم تمكنه من المجيء الى سوريا المحتلة (23). وفي اسبانيا يلتقي مجددا" بلافريج والفاسي اللذين يرافقانه الى طنجه. وبسبب تلك الرحلة حرص المغاربة على التأكيد على ان ارسلان لم يأت الى المغرب لغرض السياحة وانما لاتمام مهمة سياسية (24) تتمثل في إقامة الصلات مع كل تشكيلات الحركة الوطنية بعد النجاح العظيم والاصداء الدولية للمعركة ضد الظهير . وقد أراد الامير اقامة هذه الصلات عبر طنجه نظرا" للوضعية الدولية للمدينة والتي تسهّل على وطنيي الجنوب الحضور دون مضايقة او مشاكل من طرف السلطات المحتلة. وحال وصوله الى طنجه يوم 10 آب بدأ اهالي تطوان بالتحرك بحثا" عن سبل اللقاء معه، مع علمهم بقرب حضوره الى تطوان لتنظيم الصلات مع عبد السلام بنّونة ورفاقه.
كما ان السلطات الاسبانية كانت في حالة استنفار انتظارا" لوصول الامير(25) وقد أبلغ عبد السلام بنّونة بواسطة أصدقاء له بان السلطات ستمنع الامير إذن الدخول والاقامة وذلك نتيجة لطلب المندوب الفرنسي في الادارة الدولية لطنجة (26) ولذلك فان بنونة توجّه هو نفسه الى طنجه للقاء الامير هناك (يوم 11 آب) وابلاغه بالطلب الفرنسي طرده من المدينة. وفي 12 آب يعود بنونة الى تطوان للاعداد لزيارة الامير بعد ان تأكد من حتمية تنفيذ قرار طرده. كما يقابل بنّونة القنصل الاسباني ليطلب منه السماح بدعوة ارسلان الى تطوان . وحال وصوله الى طنجه ، يلقى إرسلان استقبالا" كبيرا" من وجهاء المدينة ومنهم أقلعي ، أحرضان ، منبهي ، عبد السلام ، محمد الحداد ، محيي الدين الريسوني ، محمد العرقاوي ، ادريس الحريشي ، ووفود من فاس ، الرباط ، ساله وسيدي سليمان ، اضافة الى بنّونة ومحمد المصمودي القادمين من تطوان . ويصادف وصوله الاحتفال بمولد الرسول (13آب) فيعلن فرحه وابتهاجه لرؤية الاحتفالات الدينية تجري تحت عنوان الوطنية والعداء للامبريالية(27). وكان بعض الكتاب الغربيين قد أشاروا الى ان السلطات طردت أرسلان من طنجه حال وصوله اليها يوم 9 آب في حين انه وصلها يوم 10 آب وبقي فيها بضعة أيام لترتيب انتقاله الى تطوان ، وقد اقيمت له خلال وجوده في طنجه عدة استقبالات. وهو غادر طنجه في وقت كانت فيه السلطات تناقش مسألة طرده دون ان تكون قد اتخذت قرارا" بذلك، فوصل تطوان يوم 14 آب يرافقه قادة الحركة الوطنية لجنوب المغرب ( بلا فريج، محمد زباني ، محمد ابن العباس القباج) . وفي نفس يوم وصوله جرى له استقبال كبير شارك فيه عمر بن عبد الجليل، ومحمد الفاسي، وعبد الحميد صفريوي(من فاس) وابو بكر الملقي (من ساله) ووفود اخرى من عدة مدن واماكن(28).
وكانت السلطات الفرنسية قد تقدمت بعدة التماسات الى السلطات الاسبانية لطلب طرد الامير ولكن يبدو ان الاسبان تجاهلوا تلك الطلبات ومارسوا ” سياسة حيادية “ تجاه عداء فرنسا للامير أرسلان . لا بل ان القنصل الاسباني في تطوان أقام حفل استقبال على شرف الامير حضره عشرة مغاربة اضافة الى العديد من الشخصيات الاسبانية . وفي المقابل نصح الاسبان الامير بعدم القيام باي نشاط او تصريح معاد لفرنسا طوال مدة اقامته في تطوان (29).
ان أهمية اقامة الامير في تطوان يجسّدها تشكيل لجنة استقبال نظمت مهرجانا" كبيرا" على شرف الامير (يوم 17 آب) حضره اكثر من مئتي مواطن وتحدّث فيه حوالي العشرة مدحوا ومجّدوا الامير باسم
” الامة المغربية “ حتى ان البعض وصف المهرجان بانه مؤتمر وطني مغربي أسّس القواعد لنهضة الحركة الوطنية ، بل ذهب بعض المغربيين الى القول بانه ” نظّم في تطوان مع عبد السلام بنّونة الفرع المغربي للجنة السورية- الفلسطينة – المغربية “ (30) اي ان الامير قد اصبح له منذ ذلك اليوم تأثير ونفوذ على الحركة الوطنية المغربية ، على تنظيمها وعلى وحدتها الامر الذي ” جعل محطة تطوان مركزية في تنقلاته المختلفة... وقد أصبح محمد الوزاني سكرتيره في جنيف بين 1930 و 1933.. كما انه كان يراسل مكي ناصري ومختار أحرضان بانتظام .. والاخير كان يملك مكتبة في طنجه وتعتبره السلطات ضابط اتصال بين الوطنيين في فاس والرباط وتطوان . كما ان احمد بلا فريج كان يزوره بانتظام في جنيف“ (31) .
اذن يمكن اعتبار رحلة تطوان محطة هامة لتنظيم صلات الامير بالمغاربة كما صلاتهم فيما بينهم . ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الصلة ثابتة ومنتظمة ” ما بين أرسلان ومراكز التآمر والتخريب في تطوان والرباط وفاس والتي كان أرسلان مرشدها الروحي ومنسّق حملاتها ضد فرنسا “ (32). وقد أصبح الامير منذ الزيارة التاريخية لتطوان ، ” القائد الروحي والموجّه للحركة الوطنية المغربية حيث كان قادتها يتصلون به ويسألونه الرأي والنصح والارشاد في الكثير من القضايا التي كانت تواجههم ، وهم كانوا يراسلونه لإخباره بأعمال الاستعمار الفرنسي وبنشاط الحركة الوطنية المغربية “ (33) ولم يتنكر الامير للسمعة والمكانة التي اكتسبها عند المغاربة غير انه رفض المبالغة في إسناد دور المنظّم والقائد اليه.. فكتب يحتج على الصحف الفرنسية التي تزعم انه نظّم جمعية سرية في المغرب مرتبطة بالوفد السوري الفلسطيني في جنيف الذي أصبح بزعمهم وفدا" سوريا" – فلسطينيا"- مغربيا".. واذ يرفض الامير هذا الزعم مدافعا" عن المغاربة الذين كانت لهم منظماتهم السرية ونضالاتهم وعملهم ضد الاحتلال ومن اجل التحرر قبل اتصالاتهم بالامير .. فانه يقول بانه لا يوجد ما يبرر اندماج او ذوبان منظمات السوريين- الفلسطينيين بمنظمات المغاربة طالما ان هناك رابطة واحدة تجمع بينهم وهي الاسلام ، وبرنامجا" واضحا" هو القرآن .. (34)
صعود الحركة الوطنية :
يعلّق محمد بن عزوز حكيم على الوثائق المتعلقة بزيارة الامير الى تطوان ، مؤكدا" بان حركة الرفض الشعبي للظهير البربري ، والخطوة التي خطتها الحركة الوطنية المغربية للانتقال من مجرد عمل جبهوي الى وحدة وطنية حقيقية ، يعود الفضل فيها الى زيارة أرسلان التاريخية .
ذلك ان الامير ناقش مع الوطنيين سبل ووسائل تكوين وحدة فكر وعمل ، مدعومة بتنظيم وبتوجّه متكاملين ، تكون قاعدة لكل الانشطة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تستخدمها الحركة الوطنية للدفاع عن حق المغاربة في تقرير المصير وفي” الخيار الوطني الاسلامي الذي لا ينفصل عن الخيار العربي “ . ان لقاء الامير ارسلان مع الوطنيين المغاربة كان بمثابة مؤتمر اتخذ عدة قرارات مهمة . ( وذلك ايضا" حسب تقرير المفوض الاسباني الذي ارسلته حكومته بتاريخ 5 ايلول 1930).
ان الوثائق والرسائل المنشورة في المغرب لا تفيدنا في معرفة محتوى محادثات ارسلان مع القادة المغاربة في تطوان . غير أن من كتب عن الزيارة أكّد كما رأينا على أهميتها التاريخية وعلى تحول أرسلان بعدها الى اب روحي واستاذ مرشد للقادة من مؤسسي لجنة العمل الوطني في المغرب. وأكد المغاربة ايضا" على انه جرى خلال زيارة تطوان وضع برنامج عمل مشترك ضد الفرنسيين انطلاقا" من الكفاح ضد الظهير البربري ومن الحملة التي يقودها الامير ارسلان في الخارج ، خصوصا" بواسطة مجلته الامة العربية ، ناهيك عن مقالاته في الفتح والشورى والمنار.. حتى ان عبد الكريم غلاب يؤكد على انه بفضل الاتصال بالامير شكيب ، ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب ، استطاعت الحركة الوطنية المحافظة على توجهها الاسلامي الذي كان في أساس نشأتها
(35) . وبالفعل ، فان مجلة الامة العربية ستصبح منذ صدورها عام 1930 لسان حال المطالب الوطنية المغربية. وهي ستتابع بدقة تطور وصعود الحركة الوطنية المغربية في المغرب كما في فرنسا .
فبمناسبة نشر كتاب في باريس (1931) عنوانه ” عاصفة على المغرب ،أو أخطاء سياسة بربرية “ بتوقيع مسلم بربري ( هو في الحقيقة محمد الوزاني ) ، طبع بدعم الاوساط الفرنسية المعارضة لسياسة حكومتها ، تفرد الامة العربية الصفحات لتجميد الارهاصات الاولى للحركة الوطنية وللدعوة الى وحدة العمل (36). وتدعو المجلة الى استمرار النضال ضد الظهير البربري السيئ الصيت والمنحط ، والذي أصدرته فرنسا بغية إضعاف المسلمين عبر تفرقتهم وتقسيمهم ، كما تدعو الى ان ينتقل ذلك الكفاح الى مستوى أرقى من الوحدة ، الامر الذي يؤي الى تطور القوى الوطنية على طريق النصر(37).
ولا يتوقف اهتمام الامير عند حدود اعمال الدعاية والاعلام بل هو يتابع ويطالب بمعرفة أخبار المظاهرات والثورات المسلحة مثل ثورة آيت حمو في وجده ، والتفيلات وبرابرة الاطلس (38) ويدعو كل المسلمين الى نضال مرير لا هوادة فيه لان الله وعد المسلمين بالنصر شرط الكفاح والجهاد والتضحية والارادة والشجاعة والإقدام .. ولا ينبغي ان يتوهم المسلمون بان الامم المتمدنة تملك ما يكفي من العدالة والمساواة للآخرين، وانما العدالة والمساواة هي فقط فيما بينها هي . ولذا فانه ينبغي على الآخرين امتشاق السيف الذي يرعب من اجل المطالبة بحقوقهم “ (39). ودعا الامير في مقالات عديدة ورسائل الى المغاربة الى تشكيل مجموعات وجمعيات ولجان ومؤسسات وصحف الخ. وعلى كل اشكال الوحدة ، والاتصال والتواصل الممكنة ، وتأمين صندوق قومي لدعم الطلاب في اوروبا لمواصلة نضالهم(40).
وفي عام 1932 وجّه تحية الى المجلة الجديدة (المغرب) بمناسبة صدورها من باريس(استمرت من 32 حتى 1935) برئاسة روبرت – جان لونغيه ، جان مونيه ، غاستون برجوري ، بيار رنندال ،سكست كينين ، والاسبان اورتيغا ، ماريال ، وارزيلا . وهو نشر في مجلته الامة العربية اولى نصوص ووثائق لجنة العمل المغربي في اوروبا(41). كما انه نشر مقالات الشبان المغاربة الوطنيين أمثال محمد الوزاني ومحمد بنونة واحمد بلافريج اضافة الى نشر بيانات واعمال واخبار ومبادرات الحركة الوطنية بكافة فصائلها وقواها مثل انشاء جريدة ” نضال الشعب “ ( اول صحيفة وطنية مغربية ناطقة باللغة الفرنسية) في فاس على يد محمد الوزاني ، او صياغة مشروع ” خطة الاصلاحات المغربية “ وتقديمه الى الحكومة الفرنسية من طرف لجنة العمل المغربي عام 1934. وقد علّق الامير على هذه المبادرات وأيّدها ودعا الى توسيع العمل لطرح برنامج مشترك للنضال على اساس توحيد المغرب واستقلاله(42) .
وهكذا بفضل الامير ارسلان ايضا" ، دُعي عدد من المغاربة للمشاركة في المؤتمر الاسلامي الاول الذي انعقد في القدس في ديسمبر 1931(43) وجاء تشكيل اول لجنة وطنية في تطوان في سبتمبر 1930 ليؤكد على تأثير ونفوذ الامير(44) وفي اول ايار مايو 1931 صدرت اول وثيقة تحمل عنوان ” مطالب الامة المغربية “ وتوقيع الوطنيين في تطوان وجرى تقديمها الى السلطات الاسبانية يوم 8 حزيران وهي تحمل بوضوح فكر وتوجهات الامير(45).
وفي القاهرة أسّس عبد الخالق الطريس ( وهو احد أشد اتباع الامير حماسا" والتزاما") ” لجنة الدفاع عن القضية المغربية “ وذلك بالتعاون مع زملائه المغاربة المقيمين في مصر وأعلنوا عنها يوم 23 نوفمبر 1930. وقد كان لطريس نشاط كبير في القاهرة تحت اشراف ارسلان ، فقدّم في 5 ايار 1931 التماسا" موجها" الى قادة الحركة الوطنية يطلب منهم فيه نقاش أشكال وحدة التراب المغربي والمطالبة باستقلاله وكان ذلك في الشمال ( الخاضع للحماية الاسبانية ) أما في بقية انحاء المغرب الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي . كما ان لجنة الطريس نظّمت في القاهرة يوم 16 ايار مايو مهرجانا" حاشدا" بمناسبة مرور سنة على الظهير البربري وذلك في مركز جمعية الشبان المسلمين . وخطا الشمال المغربي خطوة اخرى باتجاه النضال السياسي والوحدة وذلك عند تشكيل ” وفد مطالب الامة “ ثم اللجنة الوطنية للشمال المغربي “ (46).
بين فرنسا وإسبانيا :
كان شمال المغرب ( الريف) خاضعا" لنظام الحماية الاسباني في حين ان الجنوب والمدن الرئيسية خضعت للحماية الفرنسية واحتفظت طنجه بوضعية الخضوع لنظام دولي . وبعد ثورة الريف ركّز أرسلان جهوده للنضال ضد الظهير البربري وضد السياسة الفرنسية في المغرب وهو رأى فيها خطرا" شديدا" على مستقبل البلاد . وفي عام 1931 أعلن ارسلان ان الماريشال ليوتي ” هو العدو الذي لا يرتكب أعمالا" حقيرة . ومن وجهة نظر الاهالي فان ليوتي هو الفرنسي الاكثر خطورة الذي عرفته افريقيا الشمالية لانه الاعقل واكثر حكمة . وهو عرف بحكمته كيف يطمئن ويهدئ العرب وكيف يجتذبهم بكل الوسائل نحو فرنسا .. فقد كان لا يثير مشاعرهم أو يستفز كبريائهم .. لقد قتل ليوتي استقلال المغرب ولكن دون ان يهينه “(47).
وخلال مرحلة الصراع ضد الظهير وقفت اسبانيا على الحياد او اختارت الظل . صحيح انها كانت قد قررت عدم اتباع طريقة السياسة الفرنسية حيال الاهالي الا ان ذلك كان لاسباب تتعلق بتجربتها الدامية والمكلفة في الريف ، وهي تجربة كلفتها الكثير ، ولم تكن اسبانيا بقادرة او بمستعدة لتكرارها او لخلق أجواء توتر واضطراب في المنطقة تسيئ الى وضعها العام.
وكانت اسبانيا تشعر بانها مهددة من جهة بالمطامع والمؤمرات الفرنسية في الشمال ، كما بضعفها العام بسبب التناقضات والصراعات الداخلية التي كانت كثيرة وخطيرة في تلك المرحلة من جهة اخرى . وهكذا فانها سعت الى كسب ود العرب والمسلمين لتهدئة الخواطر في الشمال ولتجنب المشاكل والاضطرابات وافشال المناورات الفرنسية . وينبغي ان نضع اختلاف المواقف بين الشمال المغربي وبقية المغرب ضمن اطار هذا الوضع المعقد الذي فهم الامير ارسلان كيف يتعامل معه. وبسبب دقة وتعقيد الوضع تجاهلت اسبانيا الطلبات الفرنسية بطرد الامير حين وصوله الى طنجه فهي لم تكن تشاطر فرنسا نظرتها الى نظام الحماية وتعتبر نفسها وحدها مسؤولة عن المنطقة . كما انها لم تكن تشاطر فرنسا رؤيتها السياسية خصوصا" لجهة الموقف من ارسلان او من مطالب الوطنيين العرب والمسلمين . ومع ردهم العنيف ضد الحملة الصحفية الفرنسية التي استهدفت أرسلان وحلفائه في تطوان ، فان الاسبان كانوا يتابعون عن كثب نشاطات وتحركات ارسلان حتى لا يتركوا له مجال إثارة غضب فرنسا . وكان الفرنسيون يواصلون ارسال التقارير والتحذيرات الى الاسبان حول اتصالاته مع القادة المغاربة في الشمال والجنوب وحول نشاطاته الامر الذي أدى الى زيادة المراقبة الاسبانية على عبد السلام بنونة كما على مراسلاته مع الامير ..ويبدو من قراءة الرسائل المتبادلة بين الامير وبنونة ، انهما كانا على معرفة بأمر المراقبة وانهما كانا يعملان على تضليلها (48) ومع ذلك فان بعض الرسائل كانت تقع في أيدي المفوض السامي الفرنسي في الرباط . ففي رسالة بتاريخ 12 حزيران 1931 يقوم الامير باعلام بنونة بانه دُعي الى اسبانيا من طرف الاندلسيين وانه رفض الدعوة لان فرنسا تتهمه بانه يقف وراء كل الحملة ضد الظهير البربري ووراء حركة المطالب الوطنية في الشمال . ويطلب الامير في رسالته من بنونة عدم الكتابة في رسائله عن اية امور قد يستخدمها الفرنسيون او الاسبان كحجة وكدليل عن صلته بالحركة الوطنية المغربية . وتقوم الصحف الفرنسية خلال عامي 1930 و1931 بشن حملة عنيفة متواصلة ضد نشاط ارسلان وبنونة الذي تتهمه بانه عميل للامير استنادا" الى الرسائل المتبادلة بينهما(49). ولم تكن المقالات الفرنسية لتهدف الى الاساءة او التشهير بالامير فقط وانما كانت وظيفتها الاساسية تحذير اسبانيا وانتقاد ” تهاونها وقلة ذكائها وعدم تبصّرها “ بازاء ” مؤامرات ومناورات الامير“ وخصوصا" بعد انتصار الجمهورية في اسبانيا في نيسان 1931. ذلك ان الجمهورية الوليدة سمحت للوطنيين بالتظاهر دون قمع او اعتقال وهو امر لم يرق للفرنسيين الذين كانوا يواجهون حركات الاحتجاج بالعنف في الجنوب .
اما في الشمال فقد احتفل المغاربة بانتصار الجمهورية بتظاهرة شعبية كبيرة ( يوم 14 نيسان 1931) تلاها تظاهرات عديدة ايام 4 ايار و 22 حزيران و3 آب من نفس السنة (50) وهذا الجو من الاحتفال بالانتصار ” الجمهوري“ ، ومن ” التسامح“ سمح للوطنيين المغاربة في الشمال بتقديم أول عريضة بمطالب الامة وذلك في اول أيار ،تلاها عريضة بمطالب العمال يوم 5 أيار (51). ومن ثم ولاول مرة في تاريخ البلاد توجّه وفد وطني الى مدريد حيث استقبله رئيس الجمهورية . ونتيجة لهذه الزيارة الرسمية اعترفت اسبانيا للمغاربة بحق اجراء انتخابات بلدية حرة وتشكيل جسم سياسي وطني شرعي هو ” وفد مطالب الامة“. ولم يكن ممكنا" الا ان تظهر هذه ” التنازلات “ الاسبانية في تعارض وتناقض مع الممارسات الفرنسية في الجنوب. وفي نفس الوقت فان الصحافة الاسبانية لم تبق صامتة في وجه الحملات الصحفية الفرنسية . فعلى سبيل المثال كرست صحيفة الرأي في سبته افتتاحيتها ليوم 4 سبتمبر 1931 للحديث عن ”اسبانيا وفرنسا في المغرب : أو بنونة ،أرسلان، وأحداث تطوان“ ( هكذا كان عنوان الافتتاحية الاسبانية ) . وفي هذا المقال يعيب رئيس فرنسا التحرير على فرنسا حملتها الاستعمارية المنظمة ضد ارسلان وبنونة والتي تتناقلها صحف باريس او المغرب او الجزائر “(52). وكان الامير قد أبدى في رسالة له الى بنونة بتاريخ 5 ديسمبر 1931 قلقه من الحملات التشهيرية في الصحف الفرنسية وخصوصا" في مجلة ”افريقيا الفرنسية“ ومجلة ”الحوليات المغربية- الشمالية“.
وبين 26 و 29 تموز 1932 قام بنونة بزيارة أرسلان في جنيف مما استدعى تجددا" في حملة الصحف الفرنسية الى حد إصدار عدد خاص من مجلة ”الحوليات“ حمل افتتاحية بقلم شارل هيدلان Hédelin (مدير ورئيس تحرير المجلة) حول ”قضية المغرب : أسماء .. لا بل اثباتات دامغة“.. جاء فيه مثلا" : ”حول شكيب أرسلان العميل الالماني وزعيم الدعوة الاسلامية العالمية، نقدم لكم صورا" لمناضلين معادين لفرنسا، وعلى كل صورة لوجه مألوف فان طنجه وفاس وتطوان ستتعرف على أبنائها.. ومن بين مجموعة شكيب ارسلان قد يكون هناك بعض المغرر بهم؟ نعم يمكن ذلك! ولكن بينهم ايضا" هناك خصوصا" جواسيس وخونة“(53). وتنشر المجلة صورة لأرسلان في طنجه أُخذت في شباط 1931 ومعه العديد من المغاربة ، وصورة اخرى له في تطوان ، وثالثة مع القنصل الاسباني في تطوان . وتزعم المقالة ان ارسلان يقف خلف صدور مجلة المغرب ، وان له اعوان في كل مكان في فرنسا، واسبانيا والمغرب، وانه يدير حركة اسلامية تنطق مجلة الامة العربية باسمها.. وتدعو المقالة أخيرا" الى إعدام أرسلان ورجاله في المغرب.
وفي وجه الحملات الفرنسية استخدم أرسلان مجلة الامة العربية ، اضافة الى جرائد الفتح والشورى وغيرها من الصحف والمجلات العربية والاسلامية. وأبرز ما ميز مقالاته في تلك الفترة ، تطويره لموقف سياسي مميز تجاه اسبانيا والوضع في المغرب. ” يملك الاسبان شيئا" من أخلاق وقيم العرب وهم لا ينحدرون الى المستوى الذي وصله الاسفاف الفرنسي“(45) هذا الحكم الاخلاقي أطلقه أرسلان ليطوّره الى ”خط سياسي“ ، وموقف واضح حول المغرب. فيقول انه لو كان يعرف بأن المغرب في وضعية تسمح له بالتحرر الآن من السيطرة الاوروبية وطرد فرنسا من فاس ومراكش والرباط ومكناس وكازابلانكا، لكان دعا ايضا" الى طرد الاسبان من الريف، وكل الاوروبيين من طنجه. الا انه (أي ارسلان) كان على ثقة بانه ما ان تخرج اسبانيا من الريف فان الفرنسيين سيحتلونه وسرتكبون فظاعات تملأ امثلتها تاريخ استعمارهم وبناء عليه، وطبقا" لقاعدة اختيار أهون الشرّين ، دعا الامير ارسلان صراحة الى بقاء الاسبان في الريف والى اقامة افضل العلاقات بينهم وبين المسلمين .وقال ان مطالبته بعدم خروجهم من الريف هو لحفظ التوازن(55). واعترف الوطنيون المغاربة من جهتهم بانهم أبرموا اتفاقا" فيما بينهم ، وبناء على تعليمات ارسلان ، يدعو الى عدم مهاجمة اسبانيا في الشمال وذلك كي لا يضطروا الى مواجهة عدوين في نفس الوقت(56).
وبالفعل ، فان الحركة الوطنية قد طبقت هذه السياسة في الشمال وهي قامت على مبدئين : 1- الفصل بين فرنسا واسبانيا، واعتبار الاولى الاشد خطرا" بالنظر الى كونها قوة استعمارية متوحشة بدليل أعمالها في الجزائر وقوة خطرة بدليل الظهير البربري . 2- العمل على استقلال المغرب الموحّد وليس شمال المغرب بالنظر الى المخاطر والنتائج السلبية التي قد تترتب على بقية انحاء البلاد.
وسمحت هذه السياسة (المتهاونة تجاه الاسبان) للوطنيين المغاربة باستخدام شمال المغرب لاحقا" كقاعدة ارتكاز ولجوء لجيش التحرير الذي كان يقاتل ضد الفرنسيين . وينبغي ان نسارع هنا الى التأكيد بأن الاسبان لم يوافقوا على هذه السياسة حبا" بالوطنيين وانما خدمة لمصالحهم . ولكن الوطنيين المغاربة عرفوا كيف يستفيدون من الوضع المعقد ويهادنون اسبانيا لخدمة قضية وحدة واستقلال المغرب مما يدل على نفاذ وصواب رأي الامير ومدى نفوذه وتأثيره في توجيه الحركة الوطنية المغربية(57). كما انه يبدو من الرسائل المتبادلة بين أرسلان وبنونة ان هذه السياسة قد جرى نقاشها في حلقات الحركة الوطنية في الشمال والجنوب على السواء وانه كان هناك اختلافات في الرأي وفي تقدير الوضع والموقف ، وان النقاش ادى الى توافق الجميع واقتناعهم بخطة أرسلان وموافقة كل اركان الحركة الوطنية وقادتها عليها خصوصا" احمد بلافريج ومجموعة باريس.(58) والصياغة الاكثر تعبيرا" عن سياسة الوفاق والتعاون هذه مع اسبانيا ، كانت من عمل الامير وذلك بعد تأسيس الجمهورية في اسبانيا وهي عبارة عن عريضة بالمطالب الوطنية قدمت الى الرئيس الجديد في مدريد وحملَت العناوين التالية : استقلال داخلي ، برلمان وحكومة منتخبين ومسؤلين امام الشعب ، مجالس اختيارية وبلدية منتخبة بحرية ، حرية الصحافة وحرية تشكيل الجمعيات ، مدارس مغربية في كل البلاد والتعليم باللغة العربية الى جانب الاسبانية كلغة اجنبية ثانية الخ..(59).
وقد نصح الامير مغاربة الشمال المطالبة باستقلال نسبي يسمح بوجود اسباني على مستوى الجيش والعلاقات الخارجية . ذلك ان ما كان يقلقه هو المطامع والمطامح الفرنسية في الريف واحتمال ابتلاعه اذا خرج منه الاسبان (60) ومن هنا فقد دعا الوطنيين الى التعاون مع الحزب الاندلسي العربي في اسبانيا ومع الحزب الاشتراكي وذلك لاستعادة مسجد قرطبة ولتشكيل تحالف وتعاون دائمين. واستمر الفرنسيون في تحريض الاسبان ضد ارسلان وجماعته مع التركيز على كون مطالب الشمال موجهة ضد مصالح فرنسا واسبانيا في آن معا". وفي نفس الوقت فان ارسلان كان يرى بعين السياسي الخبير ان بعض اعضاء الحكومة الاسبانية يوافقون فرنسا في سياستها ضد الوطنيين وانهم يرفضون مطالب الوفد الذي قدم الى مدريد وان الوضع الاسباني يسهد تجاذبات كثيرة قد تطيح بآمال الوطنيين . ومن هنا نصيحته للمغاربة بان يتظاهروا بعدم وجود أدنى علاقة مع فكره او عمله ( قائلا" لهم : لا اسلامية ولا قومية) (61).
وكان الامير قد بدأ يتلمس الاجواء الدولية التي كانت تنذر بتطورات سلبية في اسبانيا فركّز اهتمامه على الحزب العربي الاندلسي والجمعية الاسبانية الاسلامية وهما تحوّلا الى مراكز دفاع عن القضية الاسلامية، ولم يكن ليثق بثبات موقف الاشتراكيين والجمهوريين الاسبان بسبب الصراعات الداخلية والضغوط الدولية . وبالفعل ووفقا" لشهادة بنونة ، فان الاسبان غيّروا سياستهم بعد شهر العسل القصير مع الوطنيين وثبت للمغاربة ان الجمهوريين والاشتراكيين كانوا بلا نفع كحزب رغم ان الكثيرين منهم ساعدوا الحركة الوطنية (62).
ومع حلول العام 1933 تغيّرت الاوضاع في اسبانيا وتغيّرت معها اشكال العلاقات بين الوطنيين والسلطات الاسبانية في الشمال الامر الذي دفع المغاربة الى تشكيل ” حزب الاصلاح“ ( في 16 كانون الثاني 1931) وذلك بدعم وتأييد من الامير ارسلان .
دور ونفوذ الامير خارج المغرب :
منذ عودته الى تطوان عام 1931 بعد انهائه دروسه في باريس ،تحوّل عبد الخالق الطريّس الى شخصية رئيسية في الحركة الوطنية لشمال المغرب . في 23 مارس- آذار 1932 شكّل جمعية الطلبة المغاربة ، وفي أول ابريل – نيسان من نفس العام شكّل اللجنة الوطنية للشمال. كما انه نظّم عدة اجتماعات ومهرجانات وتظاهرات في تطوان اهمها في 14 نيسان ، 25 نيسان ، 5 أيار ، 12 أيار ، 16 أيار ، و24 تموز . وبين 25 و28 آب 1932 شارك في مؤتمر جمعية الطلبة المسلمين لافريقيا الشمالية AEMNA الذي انعقد في الجزائر والذي اعتبره الاوروبيون أول تظاهرة وحدوية مغاربية تحصل تحت راية الامير ارسلان .
وكان الطريّس قد زار الامير في جنيف من 6 الى 9 أيار وهو كان يعرف انه لكي يصبح الزعيم الاكثر شعبية للحركة الوطنية في الشمال فانه كان عليه الاتصال برائدها ومرشدها الروحي الامير شكيب (63).
وفي 3 تموز1933 نظّم الطريس اجتماعا" في تطوان للاحتفال بالذكرى الثالثة لزيارة الامير وقد شارك في الاجتماع زعماء من الجنوب .
وفي الفترة نفسها صدرت مجلة المغرب في فرنسا لتكون ناطقة باسم المطالب الوطنية ولا يخفي الامير
( في مراسلاته مع بنونة) انه كان وراء فكرة المجلة وهو دعا في رسائل كثيرة وطنيي الشمال لدعم صدور تلك االمجلة (64) التي كان رأيه فيها انها سلاح شديد الاهمية في النضال ، يُعادل ملايين السيوف . وهي ايضا" سلاح للوحدة ولبلورة المطالب والسياسات ولتكون صلة وصل بين الوطنيين اولا" كما بينهم وبين الاشتراكيين والاصدقاء الفرنسيين والاوروبيين من ثمّ .
ومن جهة أخرى فان بلافريج ووزّاني وغيرهما من القادة، كانوا ضيوفا" دائمين عند ارسلان في جنيف وفي رسائله يتحدث ارسلان دائما" عن هؤلاء القادة المغاربة بمحبة أبوية، فيسميهم ”ولدي أحمد“ ولدي الحبيب، ولدي العزيز، ولدي الفاسي (محمد)، ابن الاخ بنونة (الطيّب)، أخي الناصري (مكي) الخ... وهو يمدح محمد بنونة الذي يقضي عنده فترة طويلة (من 4 الى 26 ديسمبر 1933) برفقة علاّل الفاسي ورغم انه هذا الاخير لم يكن قد تجاوز عمره الـ 24 سنة ، فان الامير يصفه ” بالنابغة “ ويتنبأ له بمستقبل باهر (65).
وقد عقد الامير صلات صداقة وتعاون مع مسؤولي جمعية الطلبة المسلمين AEMNA وكذلك مع جماعة نجمة شمال افريقيا ، وخصوصا" قائدها الجزائري مصالي الحاج ، وكذلك مع مناضلي حزب الدستور ( بجناحيه القديم والجديد ) في تونس. وكان الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي على صلة دائمة مع الامير حتى انه كان لا ينقطع عن مراسلته اثناء ترحاله وتنقلاته في المنفى ما بين العواصم العربية ( وخصوصا" بغداد والقاهرة) وكان يطلعه في رسائله على كل آرائه ونشاطاته . وقد دُعي الثعالبي وارسلان الى حضور المؤتمر الثالث لجمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا ( من 19 الى 22 سبتمبر 1933 في باريس) ولكن السلطات الفرنسية رفضت دخولهم الاراضي الفرنسية . وكانت تقارير المخابرات الفرنسية ( المحفوظة في أرشيفات وزارة الخارجية) تفيد بان زعماء جمعية الطلبة المسلمين لا يخفون حقيقة تلقيهم تعليمات من شكيب أرسلان (66).
وللاسف فاننا لا نملك وثائق ( مراسلات، وشهادات شخصية ومذكرات ) حول طبيعة الصلات التي نشأت بين ارسلان من جهة وابن باديس وغيره من قادة الجزائر وتونس من جهة اخرى . ولكن الحقيقة الاكيدة هي انه مارس تأثيرا" كبيرا" عليهم . فمن قراءة مقالات ابن باديس في الدفاع عن سمعة الامير ضد هجمات الباروني (67) ومن قراءة النبذة الشخصية التي كتبها ارسلان في رثاء ابن باديس (68) يتبين لنا عمق الصلة والصداقة والمحبة ووحدة الفكر والعمل التي جمعت بينهما اضافة الى الاحترام المتبادل والتقدير لدور وجهاد كل منهما لتحقيق نفس الاهداف المتمثلة في الدفاع عن الاسلام والعروبة ضد السياسة الفرنسية .
ومن جهة اخرى فقد دافع أرسلان عن حزب الدستور التونسي في وجه الحملات الفرنسية التي كانت تصفه ” بعدو فرنسا رقم واحد“ وقال أرسلان ا ن الحزب نشأ وتنظّم وبدأ عمله في تونس قبل ان يكون له اي اتصال معه. ويذكر الامير تأثير مجلة الامة العربية لاحقا" حيث اعتاد التونسيون قراءتها ودعمها ثم مراسلتها وترجمة ونشر مقالاتها في جرائدهم ( العربية والفرنسية على السواء) وكذلك كافة مقالات ارسلان الصادرة في غيرها من الصحف والمجلات (69).
ويخصص الحبيب بورقيبة عددا" خاصا" (بكامله) من جريدته ” العمل التونسي“ للحديث عن الامير أرسلان وجهاده في خدمة الاسلام والعروبة (70) . أما في الجزائر، فان أرسلان يرى بان باعث نهضتها ومؤسس حركتها الوطنية هو الاستاذ الكبير عبد الحميد ابن باديس واخوانه من العلماء الذين ساروا على نهج محمد عبده وجمال الدين الافغاني . ومن هنا (حسب أرسلان) سر العلاقة الروحية التي جمعت بين ابن باديس وارسلان والتي اعتبرها أرسلان عروة وثيقة وحّدت بينهما اذ نبعت من وحدة مصادر فكرهما ورؤيتهما كما من وحدة أهدافهما الاجتماعية السياسية . وقال ارسلان ايضا ان الجزائريين كانوا يقرأون مقالاته العربية كما مقالاته الصادرة بالفرنسية في مجلة الامة العربية وانهم كانوا مسرورين بسياسته المدافعة عن حقوقهم (71).
وكان أرسلان هو الذي دفع بالحاج امين الحسيني الى دعوة مجموعة كبيرة من القادة المغاربة للمشاركة في المؤتمر الاسلامي الاول في القدس. وكانت تلك المشاركة أول تظاهرة رسمية حاشدة ومشهورة لتلك القوة الجديدة ( الحركات الوطنية المغاربية ) المتهمة بأنها صنيعة أرسلان.
في أعوام 1934- 1935 تصاعد القمع في المغرب ضد الوطنيين خصوصا" مع صعود النازية والفاشية في اوروبا الامر الذي صلّب وجذّر سياسة أرسلان وأعطاها طابعا" هجوميا". فها هو يخصص عشرات المقالات لفضح ممارسات القمع وادانتها والدعوة الى مقاومتها (72). ومن جهة أخرى فانه يزيد من اهتمامه بالقوى الجديدة الصاعدة : الطريس في المغرب ، مصالي الحاج في الجزائر ، بورقيبة في تونس ، فيكتب عنهم انه كان معجبا" ببلاغتهم وشجاعتهم وحماسهم وإقدامهم، وانه لم يعرف من قبل بين المسلمين من هو في مثل صلابتهم واندفاعهم ضد الاستعمار ومن هنا مبادرته الى اعادة نشر خطبهم وتصريحاتهم واقوالهم في مجلة الامة العربية . كما انهم كانوا يقومون باعادة تشر مقالاته في جرائدهم ومجلاتهم(73) وهو يكتب عن ” العمل الوطني المغربي “ ، كتيار مطلوب دعمه وباعتباره استمرارا" وتكاملا" مع الحزب الوطني للاصلاح في شمال المغرب ( والذي أسسه الطريّس). وكما يصف علال الفاسي بالنابغة، فانه يصف بلا فريج والوزاني بالابطال وبالقادة والزعماء لحركة النضال ضد الامبريالية. وهو يتولى الدفاع عنهما بعد سجنهما من قبل الفرنسيين ، ويدعو عموم المسلمين للتحرك لاطلاق سراحهما ولاحتذاء سيرتهما وسلوكهما. وهو يدعم أيضا" مجلة الاطلس التي بدأت تصدر بأسم ” العمل الوطني المغربي“ ويشارك فيها كاتبا" عدة مقالات ودراسات مما يسهم في اعطائها مصداقية وشهرة واسعة.
من هذه المبادرة الهجومية الارسلانية المرتكزة على قوى شابة مناضلة ومخلصة لفكره وتوجهاته، يكشف عنها أرسلان نفسه ويبلورها بوضوح حين يدعو جميع قادة تلك الحركات (نجمة شمال افريقيا ENA ، جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا AEMNA ، الدستور ، العمل الوطني المغربي ANM ، والحزب الوطني للاصلاح PNR ) الى المؤتمر الاسلامي الاوروبي الذي يبدأ أعماله في 12 سبتمبر ايلول 1935 في جنيف.
وكان شكيب يحلم منذ وقت طويل بعقد هذا المؤتمر ويعتبره فرصة لتوحيد القوى واعادة إطلاق النضال من اجل استقلال المسلمين . وهكذا، وللتمهيد للمؤتمر ، قام الامير بجولة بدأها في يوغوسلافيا ( البوسنة) حيث زار في الفترة من 26 ديسمبر 1933 وحتى شباط 1934 مدن بانيالوكا، ترافينيك ، سراييفو، ياسي، وبلغراد حيث حلّ ضيفا" على رئيس العلماء الشيخ ماغلايليتش (74) وفي أول آذار مارس ، وبمناسبة وفاة بنونة ، أذاع نداء تلي في جنازة الزعيم المغربي في تطوان. وخلال العام 1935 ضاعف الامير اتصالاته مع الجزائر : مراسلات مع ابن باديس والشيخ العقبي وكذلك مع توفيق المدني ( الدستور التونسي).
” غير ان الشخص الذي نال النصيب الاوفر من اهتمام الامير وتوجيهاته كان مصالي الحاج زعيم نجمة شمال افريقيا والذي كانت مقالاته مستوحاة مباشرة من شكيب“ (75) وقد كتب مصالي الحاج يصف علاقته بالامير فقال : ” كنت على اتصال مستمر مع الامير شكيب فهو لم يكن فقط سوريا"، وانما كان منتميا" لكل العرب والمسلمين ولم تكن الامبريالية الاوروبية لتحبه او لتحب من يقتربون منه.وكانت الصحافة الاستعمارية والاختصاصيون بالشؤون العربية الاسلامية يقدمونه على انه رجل خطر. وخلال محادثاتنا كنت اقول له بان العمل السياسي الشرعي لا يكفي لوحده لانتزاع استقلال بلادنا. وكان رده علي بانه ينبغي الاستمرار في العمل السياسي كما كان عليه في السابق وان هذا العمل سيطور نفسه بنفسه في اللحظة المناسبة حين يبلغ الوعي الوطني حده المعقول والكافي . وكان يقول لي ايضا" بأنه ينبغي على شعوب شمال افريقيا ان تتقارب ولكن دون ادعاء تحقيق الوحدة سريعا" وبشكل غوغائي يصدر ضجيجا" ولا يدوم . كان ينصحني بتحويل نجمة شمال افريقيا الى حقيقة سياسية فاعلة في كل افريقيا الشمالية“.(76)
في 7 سبتمبر 1935 يلتقي مصالي بأرسلان في فندق فكتوريا قرب الحديقة الانكليزية وبحيرة ليمان .. وكان الهدف من هذا اللقاء كما من اللقاءات التي ستليه تحضير مشاركة المغاربة بالمؤتمر الاسلامي الاوروبي . وقد وصف مصالي تلك اللقاءات الشديدة الاهمية كما وصف الملاحظات الدقيقة جد"ا والصائبة جدا" للامير :
” كان الامير طويلا" صلب البنية ولامعا" جدا" في الحديث وهو يتكلم ثلاث لغات.. وكان له صلات قوية بالعديد من الشخصيات الكبيرة في فرنسا وغيرها من البلدان . وكان له ايضا" الكثير من الاعداء السياسيين الذين كان يقارعهم بالقلم في مجلته الامة العربية ، وليس بالسيف..
تحدثنا عن حركتنا وتنبأ لها الامير والسيد لونغيه بمستقبل باهر.. كما تحدثنا عن احتمال نشوب حرب عالمية ثانية.. وقال الامير ان الوقت مناسب لكي تقوم فرنسا بخطوات في اتجاه حرية واستقلال الشعوب العربية وذلك
بغية كسب صداقتها وثقتها اذ لا ندري ما يخبئه المستقبل .. ان فرنسا المهددة بسبب وضعها الجغرافي ، تستطيع ان تحمي نفسها اذا أعطت الشعوب المستعمرة حقوقها او استمعت لمطالبها المحقة وذلك لكسب ثقتها وتعاونها معها في المستقبل القريب..
وهل نأمل بان تكون ” الجبهة الشعبية “ قادرة غدا" على مباشرة الحوار ؟ “.(77)
وقد سمعت أحزاب الحركة الوطنية المغاربية نصائح الامير شكيب فبادرت منذ وصول ”الجبهة الشعبية“ اليسارية الى السلطة في فرنسا (حزيران 1935) لعقد اجتماعات متواصلة للخروج بموقف موحّد (شاركت أحزاب الدستور التونسي والعمل المغربي ونجمة شمال افريقيا الجزائري في اجتماعات التنسيق هذه). وفي نهاية ديسمبر1935 حضرالسوري شكيب جابري (ابن شقيق إحسان) الى باريس للمشاركة في الحوارات التي بدأت بين القوى السياسية العربية وأبرزها لجنة العمل المغربي، نجمة شمال افريقيا، جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا، لجنة الدفاع عن الحريات في تونس، لجنة تحرير سوريا، عصبة حقوق الانسان في سوريا، الخ...). وكان شكيب جابري يحمل معه تعليمات وتوجيهات من أرسلان تطالب المجتمعين باعتماد خط توحيدي لكل الحركات الاسلامية وبمقاومة كل النزاعات والصراعات الداخلية بين تيارات الحركة الوطنية . ومن جهة اخرى فقد حملت توجيهات أرسلان دعوة الى عدم تسهيل اية مساومة اصلاحية مع فرنسا والى الاستفادة من الاوضاع الفرنسية الداخلية لاحداث اضطرابات في اكبر عدد ممكن من النقاط وذلك من خلال عمل موحّد يشمل سوريا ومصر وتونس والمغرب، والجزائر ان امكن .(78)
وحسب الخارجية الفرنسية فان ” معظم البيانات والمنشورات التي وزعتها جمعية الطلبة المسلمين خلال عام 1935 كانت قد كتبت او طبعت في جنيف“ ،وان ” تعليمات أرسلان كانت تصل من خلال جمعية الطلبة المسلمين الى لجنة العمل المغربي والى جناحي حزب الدستور التونسي“.. وان هذه الاتصالات أدت الى حملة قمع شرسة ضد القادة المغاربة لم يسبق لها مثيل. وهكذا فان مصالي الحاج غادر الى المنفى في جنيف حيث مكث الى جنب أرسلان فترة من الزمن ” تلقى خلالها تأهيلا" وتكوينا" عقائديا" من قبل الامير الدرزي الذي جعل من منزله في جادة أرنست هنتش مكتبا" للاعلام والتواصل شديد الاطلاع والمعرفة ومركزا" لحركة العروبة“ (79).
وفي جنيف شارك مصالي الحاج في اجتماعات متعددة وفي اتصالات متنوعة سمحت له بتطوير رؤيته السياسية للاوضاع فكتب يقول :” لقد تنبهت هناك الى ان العالم الاسلامي يملك مصادر قوة مهمة وكنت أحمل انطباعا" قويا" صادقا" بان آلية تفجير مسيرة التحرر الوطني قد انطلقت في العالم العربي . وكل لقاءاتي التي تمت بفضل الامير، مع السيد ضياء الدين ( رئيس وزراء ايراني أسبق) ونوري السعيد ( رئيس وزراء العراق لاحقا") او مع المغربي عمر بن عبد الجليل ، أثبتت لي ان المغاربة والمشارقة يريدون التعاون ومساعدة بعضهم البعض. وقد ازداد تقديري واحترامي وثقتي واعجابي بالامير شكيب أكثر فاكثر علما" انني كنت أعتبره أصلا" أهم واكبر زعيم وقائد في العالم العربي . وقد أدت علاقاتي معه الى مراكمة الاعداء والعداوات والاحقاد ضدي . ولم تؤد الاتهامات التي اعتبرته مشاغبا" متعصبا" في خدمة ابن سعود او موسكو ، الى ثنيي عن موقفي ورأيي في هذا الرجل الكبير“(80).
خــــاتمـــة :
كان لوصول ” الجبهة الشعبية اليسارية الى الحكم وقع ايجابي لدى الشعوب المستعمرة وحركات الاصلاح والمقاومة الوطنية. وأعلن مصالي الحاج وهو المؤيد المتحمس للجبهة الشعبية عن رفضه وعدائه لاي تفاوض حول اصلاح محدود مطالبا" بالاستقلال التام للجزائر . وأبدى المغاربة استعدادهم للتفاوض حول دعم الجمهورية الاسبانية مقابل نيل الاستقلال. وبتوجيه من أرسلان توجّه وفد مغربي الى مدريد بعد اتصالات اجراها مع الجبهة الشعبية في فرنسا لنيل دعمها. الا ان حكومتي فرنسا واسبانيا لم تتنازلا عن تصلبهما ورفضتا مطلب التفاوض حول الاستقلال او حتى مجرد الحكم الذاتي . وأمام تصاعد أخطار نشوب حرب عالمية كان رد الاشتراكيين الفرنسيين على المطالب الوطنية المغاربية : ”على جميع الفرنسيين رصّ الصفوف خلف فرنسا . وليس الوقت مناسبا" للكلام عن إصلاحات بنيوية“. لا بل ان الاشتراكيين ذهبوا أبعد من اليمين الفرنسي في سياستهم الاستعمارية فعملوا على تقسيم صفوف الوطنيين بين معتدلين ومتطرفين من خلال تقديم مشاريع ( مثل مشروع بلوم- فيوليت الجزائري) يتحدث انقساما" في صفوف النخب الوطنية دون ان تضمن تحقيق أي مطلب ولو بسيط..
وهكذا انقسم الجزائريون وانشق التونسيون في حزب الدستور (81) في حين ان المغاربة ذاقوا ويلات وحشية المفوض السامي الجديد نوغيس Noguês الذي فرضه انصار الحزب الاستعماري والعسكري وهو المعروف بحقده ضد الاسلام والمسلمين.(82).
وصبّ شكيب أرسلان جهده لتوحيد الصفوف وتنقية الاجواء خصوصا" بين الاصلاحيين المسلمين واتباع مصالي في الجزائر وهما كانا على صلة قوية به رغم الاختلافات فيما بينهما . كما عمل على محاولة إعادة توحيد جناحي الدستور في تونس وعلى الاصلاح والتوفيق بين انصار الوزاني وانصار الفاسي في لجنة العمل الوطني المغربي . فقام في 21 شباط 1937 بزيارة الى باريس حيث استقبل استقبالا" حاشدا" وباهرا" من قبل جمعية الطلبة المسلمين (AEMNA) والتقى وتحادث مطولا" مع بورقيبة كما مع غيره في محاولة لتجسيد مساعيه الوحدوية التي امتدت ايضا" الى المغرب بشماله وجنوبه..
غير ا ن تيار الانقسامات والصراعات بين النخب الوطنية في بلاد المغرب العربي لم يتوقف او يهدأ تغذّيه سياسات الاشتراكيين الفرنسيين التي استخدمت العصا والجزرة في آن معا" فكان قرار حلّ نجمة شمال افريقيا عام 1937 وسجن مصالي الحاج وقادة لجنة العمل الوطني المغربي والدستور التونسي ونفي الكثيرين منهم وتشتيت صفوف تجمعاتهم في فرنسا وقمع تحركاتهم في البلاد المحتلة..(83).
ولكن الزرع الذي زرعه الامير شكيب أرسلان في المغرب العربي أينع ثماره في المرحلة اللاحقة تصاعدا" في النضال من اجل استقلال ووحدة بلدان المغرب وتطورا" في اشكال العمل والتنظيم مما نقرأه بوضوح في رسالة الامير الشهيرة الى أكرم زعيتر وفيها يحدثه عن شكل التنظيمات والمؤسسات القاعدية المطلوب إقامتها لخوض النضال بصورة أكثر جذرية وبنجاح وانتصار..(84).
هوامش :
1- جولييت بسّيس : ” شكيب أرسلان والحركات الوطنية في المغرب، المجلة التاريخية – باريس - نيسان- حزيران 1973، ص 475 – 526.
2- لدراسة وافية تفصيلية حول جهاد الامير راجع اطروحتنا للدكتوراه بالفرنسية : العروبة والاسلام في فكر الامير شكيب أرسلان 1869- 1946، جامعة السوربون- باريس 4- 1983.
3- عبد الله العروي : الايديولوجية العربية المعاصرة ، (بالفرنسية) باريس 1970 ص 21-22.
4- شارل اندريه جوليان : المغرب في مواجهة الامبرياليات 1915- 1956، باريس 1978 ص 152.
5- عبدالله الطاهر : الحركة الوطنية التونسية ، بيروت 1976 ص 15- 23 .
6- انطوان فلوري : الحركة الوطنية العربية في جنيف بين الحربين ، في مجلة العلاقات الدولية – باريس- العدد 19، خريف 1979، ص 334.
7- مجلة الامة العربية ، جنيف ، العدد 10- 11( نوفمبر – ديسمبر) 1931.
8- حاضر العالم الاسلامي طبعة بيروت 1974 م2- ج3- ص184- 207.
9- نفس المصدر ، وأيضا" جريدة الشورى 16 تموز 1925.
10- مصالي الحاج : مذكرات بالفرنسية أعدها وحررها رونو دو روشبرون ، باريس 2198، ص166- 210
11- رسائل عبد السلام بنونة الى الامير في كتاب : الطيّب بنونة ، طنجة 1980،ص107-108.
12- ايفارست ليفي بروفنسال : نبذة عن سيرة حياة الامير شكيب بمناسبة وفاته . في مجلة دفاتر الشرق (باريس) العدد 9- 10 ، 1947، ص 12. وانظر ايضا" كتاب الامير : عروة الاتحاد بين أهل الجهاد بيونس ايرس ، 1947، ص 149.
13- عبد الكريم غلاب : تاريخ الحركة الوطنية المغربية – ج 1، كازابلانكا 1976، ص 72
14- جوليان ، مصدر سابق ، ص 161.
15- الفتح عدد 216 (11/10/1930) ورسالة بنونة بتاريخ 14 أيلول 1930، كتاب الطيّب بنونة ص 105
16- فلوري ، مصدر سابق ، ص 349.
17- أرسلان : عروة الاتحاد ، ص 150، والفتح عدد220(10/11/1930).
18- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 اكتوبر 1930، مصدر سابق ص 119.
19- احمد الشرباصي : امير البيان شكيب أرسلان ، جزءان ، القاهرة 1936، الجزء الثاني ،
ص 722.
20- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 اكتوبر 1930 ، مصدر سابق ، ورسالة بتاريخ 14 ايلول 1930 م . س. ص 104.
21- الفتح العدد 226 ، ورسائل الى بنونة م . س . ، الصفحات 125- 139- 191.
22- غلاب ، مصدر سابق ، ص 41 .
23- أرسلان : تاريخ غزوات العرب .
24- محمد ابن عزوز حكيم : وثائق سرية حول زيارة الامير شكيب للمغرب ، تطوان 1980، ص15
25- وفقا" للوثائق والتلغرافات المتبادلة بين المدير العام الاسباني للمغرب والمستعمرات ( في مدريد) والمفوض السامي في تطوان . انظر كتاب ابن عزوز حكيم ، ص 20- 23 .
26- م . ن ص 22- 24 ، وايضا" الرسالة من محمد أقلعي الى بنونة ، والرسالة الى القنصل العام الاسباني في تطوان ، (نفس المصدر).
27- رسالة من محمد بنونة الى ابن اخيه الطيّب بتاريخ 2 أيلول 1930، في وثائق سرية ، م . س ص 27- 29 .
28- رسالة من محمد بنونة الى الطيّب ، وكذلك مصدر إخباري من الاستخبارات الاسبانية الى المفوض السياسي .. وثائق سرية ..م . س ص 31 وايضا" الفتح العدد 221 .
29- حكيم : م .س ص 35- 40.
30- ليفي بروفنسال : م . س ص 12 وجوليان م . س ص 161 .
31- بسيس : م . س ص 480 .
32- بروفنسال ص 12 .
33- غلاّب : ص 87 .
34- أرسلان : عروة الاتحاد ، ص 153 .
35- غلاّب : ص 87 .
36- الامة العربية : عدد آذار 1931.
37- الامة العربية عدد أيار- حزيران 1931 .
38- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 أيلول 1930 ، م . س ص 109 .
39- رسالة الى بنونة بتاريخ 14 اكتوبر 1930 ، م . س ص 118 .
40- رسالة الى بنونة ، م . س ص 118- 120
41- الامة العربية عدد آذار – نيسان وايار – حزيران 1932.
42- الامة العربية عدد كانون الثاني ، شباط ، 1935.
43- غلاّب ص 87 وحكيم ص 69 .
44- حكيم ص 65 .
45- ” وثائق تشهد “ ، الرباط 1980، ص 11 .
46- حكيم ص 68- 69 .
47- الامة العربية أيار – حزيران 1931 .
48- الرسائل المؤرخة في 15 كانون الثاني ، 27 شباط ، 21 اكتوبر 1932، بنونة م . س
ص 289- 295.
49- رسائل 8 تموز ، 5 آب ، 28 آب 1931 بنونة ، م . س ص 252- 260- 261- 266- 267 .
50- حكيم ص 76- 77.
51- وثائق تشهد ، ص 15 .
52- المقال ترجمة حكيم ، م . س ص 78- 80 .
53- مجلة الحوليات العدد 228 ، السنة التاسعة ، 18 سبتمبر 1932 ، مصوّرة ومنشورة في كتاب حكيم ، م . س ص 80- 83 .
54- رسالة الى بنونة بتاريخ اول آذار 1931 م . س ص 181 .
55- م . ن ص 181- 182 .
56- غلاّب ص 96 .
57- تعليق الطيّب بنونة على رسالة ارسلان الى والده عبد السلام ، بتاريخ ا آذار 1931 م . س. ص 181 .
58- رسالة بتاريخ 26 نيسان 1931 م . س . ص 214 ز
59- م . ن وايضا" رسالة 30 نيسان ( ص 220).
60- م . ن ص 228 .
61- رسالة بتاريخ 12 حزيران 1931، م . ن ص 242 .
62- شهادة الطيّب بنونة ، م . ن ص 242 .
63- حكيم ص 88 .
64- رسالة الى بنونة في 28 آب 1931، واخرى في 5 كانون الاول 1931 ، و 21 كانون الاول 1931،
و21 تشرين الاول 1932، و 11 كانون الاول 1932 ، م . ن الصفحات 266- 281- 284 – 297 – 306 .
65- رساالة الى بنونة في 6 كانون الاول 1933 . م . ن ص 332 .
66- أرشيفات الكيه دورسيه ( الخارجية) ، افريقيا ، شؤون عامة ، ملف الحركة الاسلامية ، انظر بسّيس ، م .س ص 480 .
67- الشهاب – مجلد 10- جزء 13- تاريخ 21 ديسمبر 1937- ص 438- 446 ومجلد 11 تاريخ كانون الثاني 1938 – ص 472 – 473 .
68- مقالة في مجلة العلم العربي ، الارجنتين – 27 نيسان 1940 . انظر كتاب ارسلان عروة الاتحاد ، م . س ص 91- 94 .
69- م . ن ص 147 ( مقالة بتاريخ 25 حزيران 1940).
70- مقالة افتتاحية بقلم بورقيبة في العدد الخاص من جريدة العمل التونسي – 5 حزيران 1937 .
71- ارسلان : عروة الاتحاد ، م . ن ص 148 .
72- الامة العربية ، سبتمبر- اكتوبر 1934 ونوفمبر- ديسمبر 1943 ويناير- فبراير 1935 .
73- ارسلان : عروة الاتحاد ، م . س ص 148.
74- ليفي بروفنسال : م. س ص 13- 14 والفتح العدد 312 و 319 .
75- ليفي بروفنسال : م . س ص 14 .
76- مصالي الحاج : م . س ص 209- 210 .
77- م . ن ص 197- 198.
78- أرشيفات الكيه دورسيه- انظر بسّيس – م . س. ص 482- 483.
79- جوليان في تعليقه على مذكرات مصالي الحاج ، م . س. ص 269 .
80- م . ن ص 270- 271 وايضا" ليفي بروفسال م . ن ص 15.
81- ارسلان : عروة الاتحاد ، ص 50 .
82- م . ن ص 44.
83- مصالي الحاج ، م . س ص 242.
84- الحكم أمانة – رسالة الامير الى أكرم زعيتر- نشرها المكتب الاسلامي – بيروت 1980
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)