1العنف والارهاب والمقاومة: بحث في فقه الامام شمس الدين
ورقة مقدمة الى المؤتمر الفكري الاول عن فكر الامام شمس الدين،بيروت،كانون الثاني 2002سعود المولى
1- عن العنف:
العنف، الحرب، القتال، العدوان، الإرهاب..
مفردات وعناوين للسلوك البشري، لم يخترعها الاسلام وانما هي وُجدت منذ كانت البشرية.. فهي قديمة قِدم العالم والكون… جاء الاسلام وحاول ضبطها ضمن إطار الانسانية وحدود الحق والعدل والسلام
( وهذه من أسماء الله الحسنى أي من المطلقات الكلية الضابطة والناظمة لحياة البشر ولكدح الانسان على هذه الارض عملا بسنته في خلقه (يا أيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه).
يظهر العنف في الميثولوجيات والاساطير اليونانية والرومانية القديمة ( وايضا البابلية والسومرية والفرعونية والكنعانية الخ...) مرتبطا بالبدايات اي بالاصول التكوينية للاجتماع البشري ، وملازما بالتالي لصورة الالهة-الابطال او الملوك المؤسسين .وهو في الكتاب المقدس( كما في القراّن) يرتبط بالمعصية ( اّدم وحواء) أي ببدايات البشرية مع قتل قايين لاخيه هابيل .ولم يظهر العنف كمساْلة ( او كاشكالية وكقضية) الا في العصور الاخيرة ومنذ القرن التاسع عشر ميلادي تحديدا.
فمن اللافت للانتباه ان العنف لم يكن موضوعا مستقلا للتاْمل وللتفكيرالفلسفي في التراث الغربي .اذ لم يذكره مباشرة اي من الكبار ( كموضوع مستقل للدراسة) قبل جورج سوريل(1847-1922) الذي جعل منه موضوعا مركزيا وذلك في كتابه الشهير "تاْملات حول العنف-reflexions sur la violence”" الصادر عام 1908 ( وهو كتاب يتناول بالتحديد موضوع الثورة الطبقية العنيفة).ولم يدرس احد سبب هذا الاغفال او التغييب لفكرة وموضوعة العنف في الفلسفة وفي الفكر الغربي ...نعم هناك اشارة الى العنف في احد المقاطع الشهيرة المنقولة عن اناكسيماندر(547-611 ق.م.) وهو المقطع الذي وصفه هايدغر بانه اقدم قول في الفكر الغربي..يقول اناكسيماندار:"ان الاشياء من لحظة ولادتها تخضع لقانون الضرورة اي للفناء الحتمي..ذلك انها تتناوب العدوان – العنف على بعضها البعض عبر القصاص والتكفير عن المظالم"..وبعده قال هيراقليطس (480-540 ق.م.) ان "العنف هو أبو وملك كل شيىء" وهي العبارة التي خلدها فريدريك انجلز (1820-1895) بقوله "العنف هو قابلة التاريخ"..كما أنها وردت بنفس النص في البيان الشيوعي(1847) لصاحبيه ماركس وانجلز.
لقد اْدان سقراط الاستخدام المبالغ فيه للقوة والسلطة وحتى للخطاب او القول"العنيف"لان ذلك يعرقل عمل العقل والجمال والتوازن والانسجام..فالعنف عنده مدان بسبب نتائجه واّثاره وليس لذاته ( او بذاته).. وفي حين ان الفلسفة القديمة والحديثة (والاسلامية ايضاً) تجاهلت أو غيّبت مسألة العنف، فان التراجيديا (الملهاة المأساوية) استعادتها وعبّرت عنهوم ومثلّتها ولكن في صورة غضب، وانتقام، وأحوال اخرى مختلفة من العاطفة العنيفة.. وايضاً فان هذه الاحوال العاطفية العنيفة (او التراجيدية) لم تكن ابداً معزولة، أي معتبرة لذاتها باستقلال عن سياقات ومسارات اخرى تؤطرها وتحددها.. فهي (العاطفة العنيفة واحوالها) نتاج إفراط أو تجاوز للحد (باليونانية Ubris) أو لحظة جنون (باليونانية até) وهي متعلقة عموماً بالآلهة..
فالعنف البشري يُعبّر عن الإلهي الكامن في الاشياء، ويتجاوزه في آن معاً، مجسداً بذلك ما يسميه بول ريكور ”عدم التمييز بين ما هو الالهي divin وما هو الجِنّي( او الشيطاني démonique “ ).. وهذا الالتباس – التداخل هو ما شكّل المضمون الفضائحي- الغرائبي للتراجيديا..
ولم يختلف الامر عند اللاتين حيث ان اللغة اللاتينية لا تميّز حتى بين عنف وقوة (Vïs ← هي عنف وقوة ==> force, vigueur, puissance, influence, violence, emploi de la force…etc...) وحتى نهاية القرن الثامن عشر تجاهلت الحضارة الغربية نقاش هذه المسألة التي أضحت فجأة أساسية في القرن العشرين..
ونحن بالمقابل لا نجد في القرآن الكريم أي استخدام للفظة عنف . أما في المعاجم العربية فالعنف هو الشدة وضد الرفق.. وفي القرآن استخدامات لألفاظ الحرب والارهاب والقتال والعدوان مما سيَرِد ذكره لاحقاً.
وبرأيي فان مصطلح ومفهوم العنف ينتمي الى زمن الحداثة، فهو إما انه لم يكن وارداً أصلاً قبل القرن التاسع عشر، واما انه كان في طور التكوّن والتشكّل من خلال الحداثة بكل معانيها وقيمها ومفاهيمها ومفرداتها.. وما نسميه اليوم عنفاَ قد جرى إدراكه وتصوّره مفهومياً، بالتدريج، ومن خلال ثلاثة مستويات أو أبعاد رئيسية :
1- بُعد او مستوى بسيكولوجي :العنف هنا هو تفجّر للقوة وللشدة وللعدوان يأخذ شكل ” فقدان للعقل (جنون) “ ويصل الى حدود القتل.
2- بُعد او مستوى أخلاقي : العنف هنا هو الاعتداء على أملاك وعلى حرية الغير.
3- بُعد او مستوى سياسي :العنف هنا هو استخدام القوة للوصول الى السلطة أو للاحتفاظ بها او لتطويعها لاغراض مضمرة .
وهذا المعنى الثالث هو الذي ساد في القرن العشرين كما يظهر بوضوح من خلال قاموس لالاند الفلسفي : ” العنف : الاستخدام غير المشروع، أو على الاقل غير الشرعي- القانوني للقوة “ .
وبدون أدنى شك فإن تطوّر التفكير الديمقراطي والروح الديمقراطية هو الذي أدى لولادة المفهوم الحديث- المعاصر عن العنف وأعطاه في الآن نفسه ذلك المعنى التحقيري المذموم (في مقابل اللين والرفق والسلم والمحبة والخ...) . فمنذ اللحظة التي وُلد فيها مفهوم المواطن (ووضعية المواطن بالتالي) وتم فيها الاعتراف بحق المواطن في الحرية والسعادة، لم يعد ممكناً الخلط بين العنف والقوة... فلم يعد العنف من نتاج الضرورات الطبيعية- الفيزيائية-(مثل الكوارث) او السياسية (قوة الحق الالهي) وانما صار ظاهرة متعلقة بالحرية، أي انه صار بالإمكان ومن الواجب محاربته والتغلب عليه. ان وعي العنف أي إدراكه الواعي وخصوصاً ذلك النوع الذي يصيب البشر، قد نما وتطور مع نمو وتطوّر السياسة باعتبارها فاعلية انسانية لها غايات معقولة وايجابية تتجاوز ضرورات النظام الاجتماعي ومتطلبات إدارة المدينة الى طرح مسألة ومفهوم المواطنية والحرية والمساواة...ان امتلاك عبيد ( ونظام العبودية) كان امرا طبيعيا مقبولا في عالم كان يسود فيه نظام القوة وكانت الحرية فيه امتيازا ارستقراطيا...ولكن ما ان تصبح الحرية قيمة بذاتها، في السياسة، التي أصبحت وضعية، يظهر الطلاق مع الواقع ويصبح الواقع ذاته عنفاً غير محتمل وغير مسموح...
لقد كان هيغل أول فيلسوف أدرج العنف ليس فقط ضمن إطار ”عقلانية تاريخ المجتمعات“ ، وانما ايضاً وأساساً في نشوء الوعي ذاته.. فالوعي لا يولد من الحياة، لا يصبح ” وعياً لذاته pour soi “ الا عبر نفي الآخر. غير ان هذا النفي- النقض- لا يُقدم او لا يُنتج سوى يقيناً ذاتياً. لكي أكون على يقين من ”وجودي“، يجب ان ينوجد الآخر ايضاً، وان يعترف بي كموجود. ان الصراع من اجل الحياة يصبح .... صراعاً من أجل الاعتراف : ألم يقل هيغل ” فقط عبر المجازفة بحياتنا نستطيع الاحتفاظ بحريتنا “؟ أي انني اتخلص أو أخرج من إطار الحياة الطبيعية الحيوانية، فقط بأن أواجهها واُصارعها، بان اكون قادراً على المجازفة بحياتي وان أحصل بالمقابل من الآخر، وان اضطر الامر فبالقوة والاكراه، على اعتراف وعلى دليل على اعترافه بي ..
ان هذه المخاطرة او المجازفة تفترض اذن القوة ، او العنف الذي اُواجهه وذلك الذي اخوضه او اقوم به .
وهكذا فان هيغل لم يرفض العنف ، لا بل انه من خلال جدلية العبد والسيد أدرج العنف في سياق سيرورة التطور البشري.. فكانت الحرب والحال هذه شكلاً طبيعياً من أشكال العلاقات بين الدول. صحيح ان هيغل لم يُمجّد العنف، بل هو اعتبر مثلاً العمل والثفافة تعبيرات وعلاقات اكثر رقياً ومقبولية.. الا ان العنف كان يجد تبريره وشرعيته من خلال انه يظهر كمقدمة لازمة وضرورية لأنسنة العلاقات ما بين الافراد وما بين الامم والدول..
لقد ظل التحليل الهيغلي مسيطراً الى حد كبير على قسم كامل من التصورات المعاصرة حول العنف .. وهو يظهر بوضوح في التراث الماركسي بمختلف تلاوينه.. فلقد طوّرت االماركسية نموذجاً نظرياً يقوم على ثنائية مسألة العنف : ايجابي وسلبي ، جيد وسيء ، وذلك تبعاً للاهداف التي يسعى اليها العنف او بالاحرى وفقاً للقوى التاريخية التي تحمله او تقوم به. وحسب ماركس وانجلز (البيان الشيوعي 1847- كتاب انتي دوهرنغ لانجلز 1878 وخصوصاً في الفصل المعنون: الاقتصاد السياسي، المقطع المتعلق بنظرية العنف، كما في كتاب ماركس مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ووصولاً الى كتاب لينين: الدولة والثورة) فان الصراع الطبقي هو محرك التاريخ وبالتالي فانه لا يمكن الافلات من العنف الا اذا أردنا الهروب بواسطة الاوهام الطوباوية أو الدين.. ولكن الماركسية تميّز بين العنف الذي تُمارسه الطبقات المستغّلة المسيطرة (البورجوازية اليوم) والتي تقف حجر عثرة في وجه تطور القوى التاريخية، وبين عنف المستغَّلين الكادحين (او البروليتاريا) والذي يتم لمصلحة التحرر العام لكل البشر.. وقد وقفت الماركسية بقوة في وجه ما أسمته بالحلول الطوباوية التي طرحها أمثال اوُين Owen، وفورييه
Fourier ودعت بالمقابل الى حلول عملية لا تقدمها الا الثورة العنيفة. أما جورج سوريل فقد ذهب بالتناقض الى حده الاقصى فقال : ان القوة هي بورجوازية فيما العنف هو بروليتاري.. وهو بذلك يريد قلب المصطلحات او قلب الوضع حتى. اي انه باستخدامه لمصطلح العنف (كمحرر) في مقابل " القوة " (الظلامية الرجعية) وبتمجيده للعنف بالتالي، فانه يريد فضح الاستخدام "الطبيعي" لوسائل السيطرة والتي لم تعد تثير الاستغراب أو الفضيحة كونها أضحت تكتسي بالشرعية والقانون وبالعادة والاخلاق.
في حين ان وسائل القوة المستخدمة جماعياً وبصراحة مكشوفة (كما في الاضراب او المظاهرة وصولاً حتى العصيان والمقاومة).. تحتاج الى اعادة اعتبار كسلاح ثوري تاريخي وتقدمي وبالتالي..
لقد ادت هذه الجدلية الى إطلاق سلسلة من المواقف والحوارات بين المثقفين ومن الاعمال المسرحية والروائية والأدبية كان في أساسها الإشكال الذي طرحته مطلع القرن العشرين (اواخر القرن التاسع عشر) الاعمال الارهابية الفوضوية والعدمية (في روسيا على وجه أخص،ثم الاستعمار الاوروبي وخصوصا مساْلة الجزائر)... فكان طبيعياً ان يعكس دوستويفسكي واندريه مالرو وجان بول سارتر وألبير كامو هذا النقاش.. ولا يغيب عن بالنا ان نذكر هنا بان هذا النقاش ما يزال مستمراً الى اليوم بسبب الواقع المعاصر المرتبط بموضوعات الارهاب وأخذ الرهائن وتفجير الطائرات وبكل اعمال العنف السياسي.. وهو نقاش- حوار تناول ايضاً مفاهيم الحرب العادلة والحرب الصليبية أو الحرب الدينية والجهاد..
2- عن الحرب والسلم
” الحرب هي شكل من أشكال العنف المنهجي والمنظّم، المحدود في الزمان والمكان، والخاضع لقواعد قانونية خاصة شديدة التغيّر حسب الامكنة والعصور“ (غاستون بوتول - مبحث علم الحرب
traité de Polémologie-Sociologie des guerres–Paris Payot,1951,560 pages- p 37.)
وحسب كلاوزفيتز ” فان الحرب هي امتداد للسياسة بأشكال اخرى“.
أما جوزيف دو مايستر Joseph de Maistre فهو يقول بأن ” الحرب هي اذن إلهية بحد ذاتها طالما انها أحد انظمة العالم“ (أو قوانينه) La guerre est donc divine en elle-même puisque c’est une loi du monde.
وقد كان للامام شمس الدين ومنذ مرحلة مبكرة من اجتهاده الفقهي اهتمام كبير بهذه الظاهره البشرية ومحاولة للتنظير والتأصيل الاسلامي نلحظها خصوصاً في كتبه ودراساته عن الامام علي (ع) وأهمها :” دراسات في نهج البلاغة“ وكتاب ” السلم وقضايا الحرب عند الامام علي “.
منذ البداية انحاز الشيخ الى معنى السلم في حياة البشر، باعتبار ”ان فكرة الاسلام المبدئية والاساسية في العلاقات بين البشر هي فكرة السلم والتعاون على البر والتقوى في النطاق الاجتماعي، على مستوى الامة وعلى مستوى الجماعة الانسانية كلها“.
واذا كان التنوع سنّة إلهية ورحمة للبشر، فان ” الاتجاه الذي يجب ان ينبثق من حالة التنوع هوم تنمية العلاقات السلمية بين الجماعات المتنوّعة ليكون مآل ذلك الى حالة التكامل بين الناس، وهذا يعني انه لا يجوز ان يتحول التنوّع الذي يحمل دائماً إمكانية التواصل التكاملي الى تناقض يُبعد الجماعات الاسلامية عن حالة السلم“..( انظر كتاب السلم وقضايا الحرب عند الامام على).
والنقطة المثيرة في هذا العرض الاول ان الامام يذكّرنا بأن آية التعارف ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ان أكرمكم عند الله أتقاكم، ان الله عليم خبير“ هي آية مدنية أي انها نزلت بعد إقامة المجتمع السياسي الاسلامي وتشكيل الدولة الاسلامية الاولى في المدينة.. وفي كلام الامام هذا رد على شبهات وافتراضات كثيرة عالجها البحاثة والمستشرقون وهي قالت بوجوب التمييز بين الفترتين المكية والمدينية من التشريع الاسلامي لجهة اعتبار الاولى فترة دعوة سلمية والثانية فترة حربية ناجمة عن تمظهر الاسلام بمظهر الدولة والحكم.. فيقرر شمس الدين بأن المضمون التشريعي للآية المذكورة ( الآية 13 في سورة الحجرات المدنية) هو من المضامين الثابتة في التشريع الاسلامي. ثم يعضد الامام تأكيده هذا باستشهادات من آيات اخرى (مدنية) ليؤكد بأن فكرة السلم بين البشر على مستوى الانسانية كلها وعلى مستوى الامة هي مظهر لفكرة الاسلام المبدئية الاساسية عن السلم الكوني .
” فالكون بجميع مظاهره قائم على مبدأ التكامل والتعاون من خلال النواميس الكونية العامة التي أودعها الله فيه . فالتكامل في الطبيعة يعكس حالة السلم بين عناصرها والتي تجعلها تتكامل وتنمو وتتجدد باستمرار... وهي الحالة النموذجية المثالية التي يجب ان يكون عليها المجتمع البشري..“ هذه الحالة النموذجية المثالية نجدها في آيات الميزان : ” والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان “ (سورة الرحمن 7-9) (راجع بحثنا حول العدل في الاسلام
ضمن كتاب: العدل في المسيحية والاسلام – المكتبة البوليسية 1996- جونيه لبنان).
وقد طوّر شمس الدين رؤيته الانسانية هذه للحالة النموذجية المثالية التي يجب ان يكون عليها المجتمع البشري والكون عموماً، في اطروحاته اللاحقة حول الحضارة الغربية، وحول الاسلام والغرب ( راجع كتابيه : الحوار الاسلامي-المسيحي: نحو مشروع للنضال المشترك، و: الاسلام والغرب، منشورات مؤسسة الامام شمس الدين للحوار- بيروت2003).. وهو اقترح مبكراًَ (رسالته الى مؤتمر الحوار الاسلامي المسيحي المنعقد في ليبيا 26/2/1976) ان تكون الاصول الايمانية المشتركة منطلقاً لحوار يُواجه فيه قادة الفكر والروح في المسيحية والاسلام الوضعية الانسانية السائدة في العالم المعاصر، بما يثير أسئلة تتناول معظم المواقف والاتجاهات الاساسية للحضارة الحديثة.. ومن هذه الاسئلة التي اقترحها سماحته يومها أسئلة تتعلق بطريقة تعامل الحضارة الحديثة مع الطبيعة والذهنية التي تحكم هذه الطريقة وتوجهها، والروح التي ينبغي ان توجه البحث العلمي، وأسئلة حول الاستغراق في الترف ومجتمع الاستهلاك وحرية الاعلان التجاري والدعائي، وأسئلة حول قضايا الاستعمار القديم والجديد والعنصرية والصهيونية، وقضايا القهر والقمع في السياسة والثقافة وغيرها... وحول تجارة اللهو وحول الوظيفة الاجتماعية للمال وحول الابحاث التي تجري في المختبرات ومراكز البحث حول اسلحة الدمار الشامل او حول اسلحة جرثومية وبيولوجية وكيماوية او حول غيرها..
وقد حدد الامام الهدف من هذا الحوار في الوصول الى نضال مشترك ” من اجل حضارة اكثر انسانية وتوازناً، ومن اجل انسان أكثر انسجاماُ في وجوده وحركته مع إرادة الله “ التي هي الحق والعدل والسلم والقسط والميزان...
ان بناء السلم في علاقة الانسان بأخيه الانسان، وفي علاقته بالطبيعة والكون وكل مظاهر الحياة، يعني تحقيق إرادة الله في الانسجام والتوازن إذ هما العدل..
ومن هذا الموقف المبدئي الثابت والاساس ينتقل سماحته الى السلم في المجال الحياتي المباشر للبشر أي في العلاقات داخل الامة أو على مستوى الانسانية جمعاء.. ويختار الشيخ كمثال مؤيد لفهمه هذا ، الشخصية الاكثر إثارة لمعاني الحرب والقتال والجهاد في تاريخ الاسلام والمسلمين : شخصية الامام علي(ع).
فهذا الامام العظيم، وهو بالنسبة للشيخ إمام الأئمة وإمام أهل الحق والعدل والحرية والكرامة وهو الشخصية النموذج والمثال على مستوى البشر بعد شخصية الرسول، هذا الامام التقي الورع قد استغرقت الحرب جانباً كبيراً من حياته، اذ بدأها فتى يافعاًً محارباً في حروب النبي كلها تقريباً، إما ضابطاُ تحت قيادته وإما قائداً مباشراً لها، وأنهاها في حروب متواصلة ضد الفتنة التي حاول وأدها سلماً وسياسة فلم يفلح.. فكانت الحرب عنوانه الذي عُرف به واشتهر حتى طغت صورة المحارب المقاتل الذي لا ينزل عن فرسه على صورة الانسان الاب الاخ التقي الورع الحكيم العاقل المسالم..
وحسب الشيخ فان الامام علي كان من ” اعظم المسلمين وعياً لحقيقة وأبعاد وعمق هذه الفكرة المبدئية الاصيلة عن السلم في الكون والطبيعة والمجتمع البشري والامة، ومن ثم فقد كان في جميع أدوار حياته أشدّ المسلمين حرصاً على تطبيقها ومراعاتها في جميع اعماله وأقواله “ . ويعطي الشيخ عن الامام علي صورة اخرى غير تلك التي نسجتها اوهام العامة وأساطيرها عن المحارب الدائم المحب للقتال والمشاكس والعنيف والجاحد والعابس..
فالامام علي حاول جهده المحافظة على حالة السلم في الامة ودفع ثمن ذلك غالياً في حياته الشخصية والعامة وفي حقوقه السياسية. وهو آثر التضحية بحقوقه في سبيل مراعاة هذه الفكرة والحرص على تطبيقها: ” والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور الا عليّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زُخرُفِهِ وزِبْرِجِهِ “ ( نهج البلاغة- النص 74).
لقد كانت الحرب عند الامام علي ، وككل حرب، مفروضة عليه . خاضها كارهاً وهو دامي القلب.. ومع ذلك فانه لم ينس ابداً واجب الدعوة الى مراعاة حالة السلم وتجنب العنف ونحن نلمس ذلك في نصوص كثيرة من نهج البلاغة يعيد الشيخ شمس الدين ابرازها وتظهيرها لعل أهمها وصيته لمعقل بن قيس الرياحي حين انفذه الى الشام: ” لا تُقاتلن الا من قاتلك . ولا تدن من القوم دنو من يريد ان يُنشب الحرب، ولا تُباعد عنهم تباعد من يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملّنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار اليهم “ (النص 12 من نهج البلاغة)- باب الكتب).
أو في وصيته الى عسكره قبل لقاء العدو بصفين :” لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم ، فانكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة اخرى لكم عليهم. فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مُدبراً، ولا تصيبوا مُعوِراً ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى وان شتمن أعراضكم وسببن امراءكم “ (النص 14)
فالحرب حسب الامام علي، ورؤية الشيخ شمس الدين، ضرورة ينبغي دفعها بجميع الوسائل السلمية. اذ يجب تفاديها كلما أمكن ذلك. واذا لم تفلح الوسائل السياسية وغيرها في تفادي نشوب الحرب ونشبت، فينبغي اغتنام جميع الفرص من اجل وضع حد لها والعودة الى حالة السلم..
ويصدمك شمس الدين حين يستنتج من سيرة الامام علي ” ان دعوة العدو الى الصلح ينبغي الاستجابة لها بسرعة وإخلاص، لا من باب انها فرصة تتيح الغدر بالعدو ونقض الصلح معه وانما من حيث انها تطبيق باخلاص عظيم لفكرة السلام “ .. وهو يستخدم نصاً شهيراً للامام علي من عهده الى مالك الاشترحين ولاه مصر ، ويضيف شمس الدين ان هذا النص العظيم له في نهج البلاغة امثال يمثل نظرة الامام الى قضية الحرب والسلم، واولوية السلم في العلاقات الانسانية ويكشف عن الروح الاخلاقية العالية في الالتزام بعهود السلام. ← اما نص الامام علي فهو التالي : ” ولا تدفعن صلحاً دعاك اليه عدوك ولله فيه رضى، فان الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك...... ولا تختلن عدوك
( أي تخدعه) فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع في العهود “ .. (النص 53 من باب المختار من كتبه) ← ان هوية الحرب عند الامام علي هي دوماً مفروضة ، مكروهة ، فهي اذن دفاعية، وهي ان اصبحت ضرورة واجبة فذلك لا يعني نسيان واجب السعي الى السلام القائم على الحق والعدل، ولا الى اعتبار ان يكون مجرد الخلاف داعياً الى الحرب...
فالامام علي لم يقدم على اية حرب مدفوعاً بالانفعال او الغضب الشخصي وانما لاسباب موضوعية وهو ” لا يقدم عليها الا حين لا يجد مندوحة عنها “ ..لذا فهو لا يستجيب لرغبات جنوده وضباطه في التعجيل بالحرب وانما يعطي الفرصة للمنحرفين ليثوبوا الى الحق ويستجيبوا ، فاذا لم ينتفعوا بالفرصة وأبوا الا الاصرار على الانحراف فانه يعيد تحليل الموقف من جديد “.
ويعطي الشيخ مثالاً على هذا من موقف الامام علي مع أصحابه حين أشاروا عليه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جرير بن عبد الله الجبلي الى معاوية برسالة يدعوه فيها الى البيعة والاعتراف بالسلطة. ” ان استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم إغلاق للشام وصرف لأهله عن خير ان أرادوه “ (النص رقم 43 – من الباب الاول في نهج البلاغة).
والشيخ لا ينسى ان يورد لنا قول الامام علي (في نفس النص) كيف تزاحم اصحابه عليه بعد ان طال منعه لهم من قتال أهل الشام في صفين ” فتداكوا علي تداك الابل الهيم يوم وردها وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها حتى ظننت انهم قاتلي او بعضهم قاتل بعض لدي “ (النص 54- الباب الاول )...
ونختم اخيراً بالاشارة الى ان نظرة الامام علي الى الحرب كونها محكومة بالضرورة السياسية الايمانية وليس بالميل او العاطفة الشخصية، وكونها مكروهة في حين ان السلم هو الأولى وهو الواجب، هذه النظرة العظيمة يلخصها قوله او وصيته لاصحابه والسائرين على خطه الفكري ، بشأن التعامل مع الخوارج من بعده، وهم الذين تآمروا على قتله وقتلوه : ” لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه “ (نهج البلاغة- النص 61 من الباب الاول ).
هذه الآراء والعبر والخلاصات عرضها الامام شمس الدين في كتبه الاولى عن نهج البلاغة والامام علي، وهي ظلت هاجسه يسعى الى تبيانها وتوضيحها خصوصاً بعد اندلاع المقاومة في جنوب لبنان وبعد انتشار ظاهرة الصحوة الاسلامية وانتصار الثورة الاسلامية في ايران.. ولذلك انكب الامام بعد تلك المرحلة على تأصيل النظرة الى موضوعي المقاومة ، والجهاد ، وهي اصبحت من العناوين الاساسية في حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.
3-العنف والحرب والدين
وقد اهتم الشيخ اهتماماً بالغاً بسؤال : العنف والدين، والحرب والدين.. وقد كان لي حوارات معمقة مع سماحته حول ذلك انطلاقاً من ملاحظة كنت سمعتها منه حول قصة إبني آدم لما همّ احدهما بقتل اخيه وقال له الثاني : ” لئن بَسطتَ اليَّ يدَك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يديَّ اليكَ لأقتلك إني اخاف الله رب العالمين“ (المائدة –28 ) وكنا في ندوة فكرية شارك فيها سماحته مع الاساتذة الشيخ جودت السعيد والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي عنوانها :” الحوار في سبيل التعايش مع التعدد والاختلاف“ (جرت في بيروت في 13/5/1994)) يومها قال جودت السعيد ما نصه : ” والآن أطلب امامكم من اخي واستاذي العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي له مقامه في العالم الاسلامي وفي بلده ، أطلب منه ان يكتب في هذا الموضوع : متى يجوز في الاسلام للانسان ان يرفع سيفاً على الآخر ليقتله؟ “ ثم اردف الاستاذ جودت معلناً ” أنا على مذهب ابن آدم الاول“.. وحين استغربنا قوله هذا أجابنا بالتالي : ” ورد في كتب السنّة التي يتقبلها المسلمون جيداً، عن صحابة جيدين- كأبي موسى الاشعري وأبي ذر الغفاري وسعد بن أبي وقاص- ان رسول الله لم يكن فقط يمارس عدم جواز الدفاع عن النفس بل حذر المسلمين من الخوض والوقوع في الفتن في المستقبل، فقد قال لأبي ذر: كيف أنت اذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟ قلت الله ورسوله أعلم ، قال عليك بالصبر، ثم قال يا أباذر، قلت لبيك وسعديك ، قال وكيف انت اذا رأيت أحجار الزيت تغرق بالدم ؟ ، قلت ما خار الله لي ولرسوله ، قال عليك بمن أنت معه، قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي ؟ قال شاركت القوم اذن ، قلت فما تأمرني ؟ قال تلزم بيتك ، قلت فان دخل على بيتي ؟، قال فان خشيت ان يبهرك شعاع السيف ، فألق بثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه“.
وفي رواية عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله أرأيت ان دخل على بيتي وبسط يده ليقتلني قال فقال رسول الله: ” كن كابن آدم وتلا الراوي الآية 28 من سورة المائدة.... ومما قاله جودت السعيد ايضاً : ان الناس في العالم ينقسمون الى مذهبين والقرآن يقر بوجود هذين المذهبين.. مذهب ابن آدم الذي يريد حل المشكلات بالعنف، ومذهب ابن آدم الذي رفض هذا ولجأ الى السلم... ولان الاسلام شرع الجهاد فقد ظن كثير من المسلمين ان الباب مفتوح على مصراعيه دون بحث في شروطه الدقيقة “... وكان الشيخ البوطي قد تحدث عن كتابه ” الجهاد في الاسلام: كيف نفهمه وكيف نمارسه؟“ وفيه ان ليس في الاسلام قتل بدون محاربة، وانه لا يجوز رفع السيف على انسان لم يقاتل ولم يرفع سيفاً.. وكانت هذه الفكرة أساسية في الحوار الذي جرى في الندوة والذي تطرّق الى آيات :” فان ألقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً”(النساء-90) و” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم“ (الممتحنة 8).. والاحاديث المروية عن الرسول: ” لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض “، و” اذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار“.. وآية ”يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة“ (البقرة 208) وصولاً الى الآية – المفتاح (حسب وصف سماحة الشيخ شمس الدين يومها) ” لا إكراه في الدين “(البقرة 256) وقد أشار الاستاذ البوطي الى ان لا هنا ليست للنهي وانما للنفي .. وأضاف الاستاذ السعيد بأن الاسلام جاء ايضاً بـ” لا إكراه في السياسة“.. وقد أفاض سماحة الشيخ شمس الدين في الحديث عن التعددية والحوار وحق الاختلاف ومعنى لا اكراه في الدين ولا اكراه في السياسة وحول معنى الجهاد والحرب وشروطهما (مما نجده موضحاً مبسطاً في كتبه التي صدرت بعد ذلك : جهاد الامة- وفقه العنف المسلح).. وحين انفضت الندوة سألته عن تفسيره لآية إبني آدم التي بنى عليها جودت السعيد فلسفته في الجهاد السلمي (راجع كتبه الصادرة عن دار الفكر المعاصر وأبرزها: كن كابن آدمو مذهب ابن آدم الاول- والدين والقانون: رؤية قرآنية) فكان مما قاله لي الامام وحفظته وسجلته يومها..
ان القتال والعنف والحرب هي من الامور البشرية الدنيوية لذلك فانها لم ترد بالمعنى الديني في القرآن ، ولم يرد إطلاقاًً مفهوم الحرب المقدسة او القدسية التي ظهرت أول ما ظهرت كمفهوم وكموضوعة في الحضارة الغربية عبر الميثولوجيا القديمة حيث تشترك الآلهة مباشرة او غير مباشرة في الحرب وتمنحها بركتها وتكافئ المحاربين مكافآت روحية- غيبية (العفو عن الخطايا، الحياة الأبدية).. وفي هذه الميثولوجيا الحرب مقدسة لان لها أيضاً غاية دينية ودوافعها هي دينية وكذلك مجرياتها ومفرداتها وأعمالها القتالية التي تتم تحت عين الالهة وفي ظل رعايتها وعنايتها... ولكن هذا المعنى (الحرب المقدّسة (Guerre Sainte- Holy War لم يصل أبداً الى المستوى الذي بلغه عند العبرانيين الذين جعلوا من الحرب جزءاً مكملاً من ايديولوجيتهم الدينية ، كما ترى ذلك بوضوح في كتب التوراة..
فمن الحرب – الفتح، وإله الجيوش(قبل السبي البابلي) الى الحرب- الانتقام والحرب- العقاب، حيث يُعاقب يهوه الكفار (من الاسرائيليين عبدة الاصنام الى الشعوب المعادية لشعب الله المختار) الى الحرب- الكارثة والمصيبة الناجمة عن حمق وحيوانية البشر(وهي في النتيجة انتقام وعقب الهي للبشر الآثمين المغرورين تماماً كالامراض والاوبئة والكوارث الطبيعية)، في كل هذه المعاني تظهر الحرب المقدّسة الدينية بأجلى مظاهرها ومفرداتها مما لا نجد مثيلاً له في القرآن.. ان القرآن لم يستخدم لفظ العنف مع انه استخدم نقيضه ” إذهبا الى فرعون انه طغى ، وقولا له قولاً ليناً ، لعله يتذكر او يخشى“ . واستخدم الفاظ الاعتداء والعدوان والقتال والقتل والفتنة والطغيان ولكن دون أي اعتبار ديني- او قُدسي ( قداسة- مقدس) وانما من حيث هي أفعال بشرية وسنن كونية ( مثل سنّة التدافع ومثل سنن الحوار والاختلاف والتنوّع ).. فقال سبحانه وتعالى: ” الشهر الحرام بالشهر الحرام ، والحرمات قصاص ، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم “ ( البقرة194).
” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، ان الله لا يحبّ المعتدين.. واقتلوهم حيث تقفتموهم واخرجوهم من حيث أخرجوكم “( البقرة 190).
” فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاًً “( النساء 91) ” وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله “(الانفال 10) ” والفتنة أشد من القتل ، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم،كذلك جزاء الكافرين ، فان انتهوا فان الله غفور رحيم ، وقاتلوهم كذلك تكون فتنة ويكون الدين لله ، فان انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين ، (البقرة 190- 193).
ان هذا الاستخدام القرآني الواقعي لمصطلحات وألفاظ: الحرب والقتل والقتال والفتنة والعدوان ، وضبطه بضوابط العدل والحق والسلام (وهي من أسماء الله الحسنى) قد جعل من الجهاد مرتبة اخرى مختلفة تماماً بحيث انه ينبغي علينا عدم الخلط بينهما.. فليس الجهاد هو الحرب المقدسة او الحرب الدينية كما يحلو للمستشرقين ولبعض البحاثة العرب والمسلمين ترجمته. فهو ليس guerre sainte / holy war وليس Croisade – Crusade.. انه شيء آخر تماماً حاول الامام شمس الدين شرحه بوضوح وتفصيل .
4- معنى الجهاد
وقد أفاض سماحته في الكلام عن معنى الجهاد في الاسلام وأفرد لذلك محاضرات قيّمة اُلقيت
على جمع من العلماء الأقاضل (في بحث الخارج من الدراسة الحوزوية) طوال اعوام (1990- 1996).
وقد توسّع في محاضراته هذه في شرح المعاني المختلفة لمصطلح الجهاد كما ورد في المعاجم اللغوية وفي كتب التفسير والفقه والحديث.. فالاصل اللغوي يعود الى مادة جَهَد والجُهد (بالضم) وهو المشقة البالغة والجَهد(بالفتح) وهو الارض الصلبة ، وبالفتح والضم وهو الطاقة ومنه قوله تعالى: ” والذين لا يجدون الا جُهدَهم “ (التوبة79) وفي الآية قراءتان بفتح الجيم وضمها أي وسعهم وطاقتهم ، وقيل المضموم الطاقة والمفتوح المشقة- وفي اللغة ايضاً جَهَد البئر اذا بالغ في استخراج مائها ، وجَهَد اللبن اذا بالغ في إخراج زبده، واللبن المجهود هو الذي اُخذ زبده...
(انظر مقاييس اللغة- ج ا- مادة جهد- ص 468- 487- تحقيق عبد السلام هارون).
وبحسب الامام ، فالظاهر ان ” جميع هذه المعاني ترجع الى أصل واحد هو الشدّة إما في ذات الشيء أو في التعامل معه ومعالجته... فالارض الصلبة شديدة في ذاتها وتستنزف القوة والطاقة في معالجتها واستصلاحها، والبئر معناها في مائها ، فاذا بالغ في استخراجها فقد عاملها معاملة شديدة.. وكذلك الحال في اللبن الذي نزع زبده بعد مزجه بالماء ومخضه... وبذل الطاقة في شيء عبارة اخرى عن تحمّل المشقة في سبيله “..
والظاهر أيضاً (ودائماً بحسب الامام) ان ” لفظ الجهاد موضوع في أصل اللغة لمطلق بذل الجهد بدنياً كان ام نفسياً ام عقلياً ام مالياً ، في مجال الخير ام في مجال الشر ، فهو حقيقة لغوية في هذا المعنى العام الجامع “ .
قد لا ينتبه البعض الى هذا الامر الذي يقرره سماحته (كون لفظ الجهاد حقيقة لغوية قد تأتي على نحوين أي باتجاه الخير او الشر) الا ان هذا التقرير يهدف لدى سماحته الى نزع القداسة عن المصطلحات والمفردات واعادتها الى حيز التداول البشري كحقائق مجرّدة ، موضوعية ، لا تحمل في ذاتها قدسية او إطلاقية وانما هو الانسان واستخدامه لها يعطيها معان اطلاقية او قدسية او مقدّسة .. فقد استعملت مادة جَهَد بهيئاتها المختلفة في النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة ، بالمعنى اللغوي العام الذي هو بذل الوسع وتحمل المشقة في سبيل شيء ما أكان ذلك بمعنى بذل الطاقة في الخير ام بذل الطاقة في الشر او الحرام.
بذل الطاقة في الخير : ومن الامثلة على ذلك الآيات :
- ” وجاهدوا في الله حق جهاده “ (الحج 78).
- ” والذين جاهدوا فينا لنهديَنَّهم سبلَنا “ (العنكبوت 69).
فالجهاد هنا بمعنى بذل المرء وسعَه في سبيل الدعوة للدين . وقد استعمل الجهاد في الكتاب بمعنى الدعوة السلمية الى ا لله والصبر على الاذى في سبيل ذلك ، في العهد المكي قبل الهجرة الى المدينة : ” ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم “ (النحل 10) ← ” فلا تُطِع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً “ (الفرقان 52).
في السنّة
1- جهاد النفس وهو إما بترويضها على الطاعات ومخالفة نوازعها الشريرة وسميت في حديث مشهور ” الجهاد الاكبر“. ومنه كف الاذى عن الناس . في وصية النبي لعلي: يا علي أفضل الجهاد من أصبح لا يهم بظلم أحد.. ومنه قول الامام الباقر: وأي جهاد أفضل من عفة بطن وفرج..
2- السعي في طلب المعيشة من الحلال ( الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله).
3- عبادة الحج ( الحج جهاد كل ضعيف).
4- طلب العلم ( الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله - عن علي.
5- القيام بالوظائف الزوجية على أتم وجه اي حسب الحديث جهاد المرأة حسن التبعّل وايضاً : جهاد المرأة ان تصبر على ما ترى من اذى زوجها وغيرته (او عشرته).
6- الجهر بالحق في مواجهة الظلم والجور ← أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان.
بذل الطاقة في الشر او الحرام : ومن الامثلة عليها الآيات :
- ” ووصينا الانسان بوالديه حُسناً ، وان جاهداك لتُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما “(العنكبوت 8).
- ” وان جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما“ ( لقمان 15).
فقد استعمل الجهاد هنا بمعنى بذل الوسع والطاقة في سبيل الشرك أي ما هو شر وحرام...
5- الجهاد بمعنى القتال
في اطار معنى بذل الطاقة فيما هو خير استعمل الجهاد في القتال في سبيل الله والمشاركة فيه بالمال والنفس..
وقد استند المفسّرون والفقهاء الى الآية 86 من سورة التوبة ” واذا اُنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنَك اُولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين“ واستنتجوا ان دلالة الآية على استعمال لفظ جاهدوا في ” القتال “ سببها القرينة التي هي قوله ” استئذنك اُولوا الطول“ او قوله ” ذرنا نكن مع القاعدين“ باعتبار ان القعود هو في مقابل النفرالجهادي... ووجدوا ان الظاهر من قوله وجاهدوا مع رسوله ، هو القتال . ويقرر الامام شمس الدين في محاضراته :
”ومن هنا اصبح الجهاد في الاصطلاح يُطلق على ” معنى أخص هو القتال والعمل الحربي ، وما يتعلق بذلك من بذل المال وصرف العمل وبه جرت استعمالات الجهاد في العرف ، وعليه استقر اصطلاح الفقهاء والمفكرين المسلمين ، حتى غدا لفظ الجهاد حقيقة في هذا المعنى بحيث اذا اُطلق الآن بين خاصة الناس وعامتهم لم يتبادر منه غيره . نعم يختص المتبادَر بالقتال ، وأما الجهاد بالمال فيدخل فيه بالعناية وكذلك سائر المعاني اللغوية والشرعية كجهاد النفس والهوى والسعي في الرزق وغيرها فانها تحتاج الى اضافة صريحة لتتبادر معانيها “..
وقد رأى الامام ان كون الجهاد حقيقة شرعية في المعنى الخاص وهو القتال الحربي يعود لمكان وروده في استعمالات الشرع أي في السنّة المنقولة عن النبي وفي كلام الامام علي الوارد في هذا المعنى مجرداً عن القرينة ، ووروده في غيره من المعاني اللغوية مقروناً بالقرينة وهي اما الاضافة الى موضوع ( كما في جهاد النفس وجهاد المرأة) او الى وصف مثل قوله الجهاد الاكبر...
ولكن الامام يسأل ان كان صدق لفظ الجهاد على هذا المعنى الخاص المصطلح (القتال الحربي) هو حقيقة شرعية بالوضع التعييني او التعيّني او لا ؟
فيرى ان وضعه بهذا المعنى (القتال) لم يكن بالوضع التعييني الكاشف عن تخصيص النبي لهذا اللفظ بهذا المعنى الخاص ” اذ لم يُعهد منه انه وضع الفاظاً لمعان معيّنة“ ولو كان مثل ذلك قد حصل لنقل إلينا جزماً خاصة وان القتال كان من الشؤون التي كادت تكون يومية في حياة المسلمين..
ولذلك فلا بد ا نه كان حقيقة شرعية بالوضع ” التعيّني“ من زمان النبي نشأ من كثرة استعماله فيه منه ومن المسلمين تبعاً له حتى غلب هذا المعنى الخاص على المعنى الوسيع.
ويبحث الامام عن الرابط الفكري بين المعنى الشرعي للجهاد والمعنى اللغوي له . فيجد انه في الشدّة واستنزاف أقصى القوة والطاقة التي يتطلبها القتال والعمل الحربي ، كما يشير اليه قوله سبحانه ” كُتب عليكم القتال وهو كُره لكم“ فان جهة الكره ما فيه من شدّة وعسر وتحمّل للمشقة وليس من مشقّة اعظم من بذل النفس والمال.
والجهاد بما يبذله المجاهد من مشقّة في سبيل الله يطهّره من الآثام ويجعله انسانياً نقياً ممتازاً...
وبهذا المعنى فقد حدثني الامام ذات مرة عن تجربة المهاتما غاندي في حركة اللاعنف فقال ما معناه بان اللاعنف هو حركة لتطهير الذات ، ولمعرفة الذات ، فهو جهاد أكبر او هو الجهاد الأكبر عينه . والاسلام ركّز على هذا المعنى الذي نجده خصوصاً في تجربة الرسول في مكة قبل الهجرة ، ثم في تجارب الامام علي نفسه ، وأخيراً في تجربة الأئمة جميعاً وحتى عصر الغيبة الكبرى..
وفي رأي الامام فان ” ثورة الحسين“ (ع) هي آية في الجهاد السلمي اللاعنفي في مواجهة الظلم والطغيان.. وعلى الرغم من استقرار ” المعنى الحربي“ لجهاد الامام الحسين في أذهان العامة بفعل الاساطير والخوارق والقصص المنسوبة اليه والى غيره من الائمة ، الا ان الواقع يُظهر ان سيد الشهداء وامير أهل الجنة ، كان قد فهم قبل توجهه الى كربلاء مع العدد القليل من صحبه وأهل بيته ان معركته مع جيش يزيد هي معركة الكف في مواجهة السيف ، والعين في وجه المخرز ، والدم في مقابل الظلم والحقد والعدوان.. وكان عامل الايمان هو محركه الوحيد ، تماماً مثل غاندي الذي سمى ذلك : قوة الروح ( أو ساتياغراها).
اختار الحسين الشهادة وهي هنا ليست فقط بمعنى الموت استشهاداً وانما بالمعنى القرآني الاوسع والأهم :” لتكونوا شهداء على الناس“.. فالحسين شاهداً وشهيداً ، مثال الجهاد السلمي ونموذج المجاهد الحقيقي.
وقد عمل كثيرون على توضيح هذه الصورة ”السلمية“ للاسلام من خلال مثالي ونموذجي الرسول نفسه والامام الحسين من بعده . ولعلنا نجد ذلك خصوصاً بين المسلمين الغربيين او بين المفكرين الغربيين المنصفين للاسلام.. وخير مثال تقدمه لنا الباحثات المفكرات : آن ماري شيمل ، وكارين أرمسترونغ ، وربيعة تيري هاريس ، ومن الباحثين والمفكرين الغربيين ومعظمهم من المتصوفة نذكر مارتن لنغز ، كما يجدر ذكر اعمال الايراني سيد حسين نصر، والجنوب الافريقي فريد اسحق ، والسيريلانكي باوا محيي الدين والتايلاندي قادر محيي الدين...
ويلفت الانتباه ان الذين كتبوا في هذا الاتجاه هم من النساء الغربيات المسلمات او المتأثرات بالاسلام الى جانب غربيين أسلموا وتصوفوا ( رينيه غينون- رجا غارودي- عبد الحليم هربرت الخ...) او مسلمين من مناطق نائية ( جنوب افريقيا – سيريلنكا- تايلندا...).
وكانت رغبة الامام شمس الدين ان يكتب في هذا الموضوع توضيحاً وشرحاً وإعادة للمسألة الى نصابها الحقيقي والصحيح وهو ان الاسلام يعني السلام وان الحرب والقتال امور مكروهة ولكن مفروضة بسبب الوضع البشري . وكان الامام يذكر الآية المباركة: ” واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، قال اني اعلم ما لا تعلمون“ (البقرة 30) ليستلخص منها ان سفك الدماء والفساد في الارض سنّة آدمية ، بشرية ، ولم يسمح العمر ولا الوقت بتحقيق رغبة الامام الا انه عوّض عن ذلك بالتأكيد على مسألتين أساسيتين (في كتابين رئيسيين: جهاد الامة وفقه العنف المسلح) وهما :
- ان كل جهاد في الاسلام هو جهاد دفاعي .
- ان العنف المسلح غير المحكوم بضوابط واصول الجهاد الدفاعي الفقهية هو محرّم شرعاً.
6- الجهاد: شروطه وضوابطه
كتاب جهاد الامة هو بحث فقهي استلالي يتناول بعمق وشمولية مشروعية واحكام الجهاد في
الاسلام. وهو محاضرات ألقاها سماحته على مدى سنوات وصدر منها هذا الجزء الاول (478 صفحى قطع كبيرة من تحرير الشيخ حسن مكي). في هذا الكتاب دراسة وافية حول الجهاد الابتدائي (وهو القتال المبتدأ من ا لمسلمين لاجل الدعوة الى الاسلام بادخال الكفار فيه وحملهم على اعتناعه). والمشهور لدى فقهاء المسلمين تخيير الكفار بين الاسلام او الخضوع لسلطانه بأداء الجزية والرضوخ لشرائطها او القتل ان كانوا من أهل الكتاب أو من لهم شبهة كتاب ، وان كانوا من غيرهم ، فأما الاسلام او القتل لا غير . وقد خالف الامام شمس الدين هذا المشهور وذهب في بحث تفصيلي طويل الى ” ان أدلة الوجوب المستقاة من آيات الكتاب تدل على ان الطبيعة العامة والراسخة والوحيدة لمهمة الرسول هي البلاغ ، وعلى عدم معقولية الإكراه في الدين“.. كما ” ان الآيات المدعى الاستدلال بها على وجوب الجهاد الابتدائي اما غير دالة من حيث عدم الاطلاق فيها او هي مقيدة على فرض اطلاقها“.. اما دعوى ان آية ” واقتلوهم حيث ثقفتموهم“ (من سورة البقرة) هي ناسخة لجميع ما احتوى على القيود ولكل آية فيها أمر بالموادعة أو الكف عن القتال فقد ردها الامام بشكل دقيق كما انه بعد استقرائه لأدلة السنّة المطهّرة قرر ” ان جلّ الاحاديث ضعيفة فلا حجية فيها ، وان النادر الذي صح من الاخبار ليس ناظراً الى تشريع او بيان حكم الجهاد الابتدائي“ . وخلص بعد دراسة وافية مدققة الى ان ” الاحاديث جميعها غير صالحة للاستدلال من أي وجه فُرض“ واستنتج بعد ” فقدان الدلالة من الكتاب والسنّة على المدعّى ، على عدم مشروعية الجهاد الابتدائي “. كما انه ناقش دليلي السيرة والاجماع مناقشة تفصيلية ليختم بنفس النتيجة فقال: ” هذا تمام البيان في الاستدلال على مشروعية او عدم مشروعية الجهاد الابتدائي بالمعنى المتقدم وهو ان يكون كفر الكفار بذاته مقتضي تام لقتالهم مطلقاً. وقد رأينا – والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وأحكامه – عدم استفادة مشروعية هذا السنخ ، من الادلة الاربعة جميعها“ (أي الكتاب والسنّة المروية والسيرة العملية والاجماع). ويواصل الامام استنتاجاته الجريئة محاولاً ايجاد العذر لمن سبقه ” ”ويحتمل ان يكون الامر قد اختلط على الفقهاء القائلين بوجوبه بين الجهاد الابتدائي بالمعنى الذي حددناه ، وبين ما اصطلح عليه في هذه الاعصار بالحرب الوقائية التي تستبق وقوع العدوان وتدفعه. فان كان الامر كما قلنا عاد نزاعنا معهم لفظياً والا وقعت المخالفة “.
وفي مكان آخر من الكتاب (جهاد الامة) وعند بحث ” علة مشروعية الجهاد“ يقرر الامام ” ان علية
الجهاد القتالي هي العدوان المعبّر عنه في فقه العامة بالحرابة. فاذا لم يكن ثمة من عدوان او تأهب للعدوان على المسلمين فان قتالهم تحت شعار الجهاد لدعوتهم الى الاسلام يكون امراً غير مشروع “ . وهو يستعرض هنا ايضاً الادلة من الكتاب والسنّة ( في اعلان عدم جواز القتال الا مع العدوان وفي اقتران كل امر بالقتال بالنهي عن العدوان).
وعند بحثه شرائط الجهاد تناول سماحته شرائط ” وجوب الجهاد الابتدائي على مبنى القوم في وجوبه“
(البلوغ، الذكورة، الحرية، العقل، القدرة الجسدية، القدرة المالية، الخبرة العسكرية، اذن الوالدين، الخ) ذكر الامام ان الفقهاء أخذوا هذه الشروط باعتبارها شروطاً لمطلق الجهاد فيما صرّح بعضهم بأن الملحوظ فيها هو الجهاد الابتدائي خاصة ، ولم يذكروا الجهاد الدفاعي في عصر الغيبة الا عرضاً ولم يفردوا له بحثاً مستقلاً. ” ولم نجد من القديم والحديث من قام بذلك سوى السيد الخميني في رسالته العملية( تحرير الوسيلة)، واخيراً السيد الاستاذ الخوئي في رسالته العملية (منهاج الصالحين). وهذا غر يب منهم رضوان الله عليهم ، فان وظيفة الفقيه بيان حكم المكلفين فيما هو محل ابتلائهم ، او يمكن ان يكونوا في معرض الابتلاء به “.
وبعد كل ما تقدم من مباحث في بيان الشروط التي يتصوّر اعتبارها في الجهاد الابتدائي ، على مبنى القوم في وجوبه ، استنتج سماحة الامام ” ان الجهاد في حقيقته ليس الا الدفاعي ولا مشروعية لغيره “.. ولكن الفقهاء الذين سبقوه لم يعتنوا أبداً بالكلام عن الجهاد الدفاعي ( في عصر الغيبة). ويعلل الامام سر ذلك في امور يعددها :
1- احتياطهم ( أي الفقهاء) الشديد في الدماء.
2- انهم عاشوا في ظل حكومات غير شرعية وحكام غير شرعيين في نظرهم فامتنعوا عن البحث في ذلك كما امتنعوا عن التعاون مع تلك الحكومات لئلا تستغل أبحاثهم في أحكام ومواقف تتخذ ذريعة لنصرة حكام الجور وتبرير أعمالهم الحربية غير الشرعية.
3- عدم خبرة كثير منهم بالقضية السياسية للمسلمين في عصره وعدم التفاتهم الى الاخطار التي تحيط بالمسلمين والتي تقتضي بحث شؤون الجهاد الدفاعي وتثقيف المسلمين به.
وبسبب من هذا القصور تطوّرت في الساحة الفكرية الاسلامية المعاصرة وخصوصاً بسبب الظلم الكبير والعدوان الاكبر المتمثلين في استباحة العالم الاسلامي امام الاستعمار والامبريالية والصهيونية والانظمة الدكتاتورية ، تطوّرت مفاهيم وافكار ورؤى وتصورات جعلت من العنف والارهاب والجهاد المسلح الابتدائي مسلّمات شرعية لا تناقش مما اقتضى تصدي الامام شمس الدين لها وفي مرحلة مبكرة ورغم الحملات التي طالته وحاصرته وحاولت الاساءة اليه..
7- العنف ا لمسلح
في كتابه ( فقه العنف المسلح) الصادر عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر- (بيروت2001) اعتبر الامام شمس الدين الحركة الاسلامية المعاصرة ذات ا لهدف السياسي والتي بدأت مع جمال الدين الافغاني ، تعبيراً عن مقاومة الامة وتشبثها بثقافتها بعد تحطّم البنية السياسية والتنظيمية للاسلام في صيغة الدولة ” اذ برز المضمون الثقافي للانسان المسلم نابضاً بالحياة وذلك في صيغة الاسرة والمجتمع والامة“.. و” جسّدت الحركة الاسلامية في جميع تمظهراتها موقف التصدي للمشروع الاستعماري ثم المشروع الامبريالي“... ورأى الامام ان هذه الحركة ولدت وهي محاصرة ، ونمت وترعرعت في حالة الحصار التي ازدادت أطواقه ومراكزه من الحصار الخارجي الى الانظمة والدول في الداخل الى الاحزاب والنخب العلمانية التي حاربت الحركة الاسلامية اذ رأت فيها منافساً على الساحة الشعبية ومنافساَ لها في السعي نحو السلطة ( سيطرة ام مشاركة) وضداً لها او نقيضاً في المضمون العقيدي السياسي التنظيمي للدولة والمجتمع .. وكانت الانظمة الوطنية التي جاءت في مرحلة التحرر من الاستعمار أشد وطأة وقساوة على الحركة الاسلامية من سابقاتها وذلك تحت شعار محاربة الرجعية الدينية والعقلية الغيبية وبسبب من الصراع الذي قسم العالم العربي بنتيجة للحرب الباردة منذ مطلع الخمسينات.. ” ولما كانت الجيوش هي الاداة التي استعملت في قلب السلطة والاستيلاء عليها فقد اتخذت هذه الجيوش موقف التربص والعداء من الحركة الاسلامية واطروحتها“..
ولكن الامام يرى ان اسوأ ما واجهته الحركة الاسلامية العربية هو تلك ” الحالة الشاذة المرضية لعلاقتها مع المجتمع ا لاهلي ومع علماء الدين“ اذ تميزت بالغربة والانفصال عن القاعدة الشعبية ان لم يكن بمواقف الحذر والشك والتحفظ ناهيك عن الفتور وعدم الانفتاح وربما العداء والقطيعة مع علماء الدين على اختلاف مقاماتهم ورتبهم.. ما زاد من ” حالة الحصار وزاد من قساوته وضاعف من الشعور بالعزلة وولد في حالات كثيرة شعوراً حاداً بالمؤامرة“.
في هذا الجو من الحصار والعزلة وما يكوّنه من افكار ومشاعر ولد مناخ العنف الذي طبع الحركة الاسلامية وطبع اسلوب العمل السياسي الذي مارسته اكان عنفاً في لهجة ومفردات الخطاب السياسي أم في اشكال السلوك والتعامل الحياتي اليومي ، ام عنفاً مسلحاً..
وقد التمست الجماعات التي مارست العنف أساساً فقهياً لشرعية استعمال العنف المسلح مما أوقع الحر كة الاسلامية بسبب ذلك في اخطاء وخطايا كبيرة..
لقد استعمل العنف المسلح ضد القوى الاجنبية وكان ذلك من خلال اساليب :
1- المواجهة المسلحة ، والاغتيال والخطف لغاية الاسترهان وخطف الطائرات ونسف السفارات والمؤسسات الاجنبية وأخذ رهائن مدنيين أجانب ،
2- واستعمل العنف ضد الانظمة المحلية الحاكمة اغتيالاً واسترهاناً ونسفاً لمؤسسات حكومية،
3- واستخدم العنف ضد الاحزاب المنافسة ( واكبر مثال له حدث في افغانستان ولبنان والجزائر ومصر)
4- اما العنف ضد المجتمع الاهلي فتمثل في التصدي لمظاهر الانتهاكات للشريعة الاسلامية ( او ما يفترض انها كذلك) مثل محلات القمار وبيع الخمور واماكن اللهو ، بالنسف والتحطيم ، وفي اهانة وايذاء النساء غير المحجبات...
وهكذا بحث سماحته في أصل شرعية استعمال العنف المسلح في الشريعة الاسلامية باعتبار العنف وسيلة في العمل السياسي وعن مدى سعة هذه الشرعية بالنسبة الى موضوعات العنف التي تقدم ذكرها ، الا انه حذّر منذ البداية الى أمرين :
1- ان دراسته لم تهدف الى معرفة الجذور الفكرية لاعتماد العنف المسلح لدى الحركة الاسلامية : أهو عائد الى الفكر والشريعة الاسلاميين (وقد رفض ذلك بشدة) ام الى كونه رد فعل على العنف الذي مارسته قوى الاستعمار والانظمة ( وهو لم يجز ذلك باعتبار رد الفعل مخالف لقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر اخرى) او انه نتيجة التأثر باسلوب العنف الذي اعتمدته قوى اليسار الماركسي ( بادرماينهوف الالمانية، الجيش الاحمر الياباني، الجيش الايرلندي السري، ايتا الباسك، الخط المباشر الفرنسية ، الالوية الحمراء الايطالية، ناهيك عن اميركا اللاتينية الخ..) وبرأي الامام فان الحضارة الغربية انتجت من افكار العنف وأساليبه ما لم تنتجه اية حضارة اخرى في تاريخ البشر.
2- ان دراسته لم تتناول العنف السياسي المسلح والعنف في الخطاب السياسي والعنف في السلوك والتعامل الحياتي ضد الاجنبي الغازي والمحتل اذ ان هذا العنف يدخل في باب الجهاد الدفاعي المشروع والواجب كتاباً وسنّة وعقلاً واجماعاً بين المسلمين ، ولكنه واجب بشروطه التي قررها الفقهاء والتي عالجها في كتابه جهاد الامة.( مما تناولناه في ما سبق).
اذن حدد الامام شمس الدين مجال بحثه في الحكم الشرعي عن استعمال العنف المسلح ابتداء ضد الانظمة الحاكمة بأشخاصها ومؤسساتها السلطوية وضد المؤسسات العامة وضد الاحزاب وضد المجتمع الاهلي وضد اشخاص الاجانب والمؤسسات الاجنبية في بلادنا وضد الاجانب في البلاد الاخرى الخ...
وحدد هدفه بمحاولة معرفة الموقف الشرعي المناسب من مسألة العنف هذه الى البحث عن مشروعيته وأخلاقيته وعن منفعته وجدواه .
ولذلك فان الشيخ الامام يدرس كل الاشكال المحتملة للعنف السياسي المسلح في الاسلام ، أكانت باسم الجهاد ( بكل ألوانه ومعانيه) ام باسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، او قتال البغاة ، او حتى الدفاع عن الاسلام ، ويستنتج عدم مشروعية العنف وعدم جواز استخدامه وسيلة للوصول الى السلطة أو لبناء موقع سياسي او للتعامل في الحياة السياسية ، وبالتالي يفتي الامام الرئيس بحرمة العنف السياسي المسلح بكل أشكاله ولا يستثني منه سوى ما أجمعت عليه جميع شعوب الارض ومواثيق العلاقات الدولية من وجوب التصدي للعدوان والاحتلال ومن شرعية المقاومة التحريرية بالتالي ، انطلاقاً من كون كل جهاد مسموح او شرعي في الاسلام هو جهاد دفاعي بحت ، ولا شرعية لما يُعرف بالجهاد الابتدائي او جهاد الدعوة او غير ذلك.. ولا يكتفي الامام في كتابه الخطير الذي تأخر نشره عشر سنوات ، بدراسة المشروعية الفقهية الدينية وانما يتناول ايضاً الجدوى السياسية ، حيث يقرر فيه عدم استفادة الحركة الاسلامية العالمية في اي مكان في العالم وفي اي مجال من مجالات الحياة السياسية والثقافية والوطنية من استخدامها لاسلوب العنف المسلح. وتفتح دراسة الامام شمس الدين الباب واسعاً امام نوع من الابحاث غير معروف في الفقه السياسي يتناول عدداً من الموضوعات مثل الحرب العادلة والحرب غير العادلة ، العنف واللاعنف ، السلم وقضاياه ، الحرب وامورها وضوابطها ، الجهاد وابوابه في العصر الحديث ، الارهاب والمقاومة ، المشروعية الفقهية والجدوى السياسية ، الخ... والجديد ذكره هنا ان كتاب الامام شمس الدين اعتمد الفقه المقارن ولم يكتف بايراد الخلاصات او التقريرات الفقهية الشيعية وانما عالج الموضوع من خلال آراء فقهاء المذاهب كافة ، وموسعاً إطار البحث ليشمل الجانب السياسي العلماني أيضاً...
8- المقاومة
لا يوجد زعيم ديني او سياسي كتب وحاضر ووعظ وأرشد ووجّه وناشد وخاطب، وايضاً نظّم وأصّل خطاب المقاومة الفقهي والسياسي ، بقدر ما فعل الامام شمس الدين .. حتى أني أزعم بأنه فقيه المقاومة وفيلسوفها بامتياز ... ولا يمكن حصر المساهمات المكتوبة او المسجّلة لسماحته في هذالمجال.. ولا يمكن حتى رصد المواقف والتوجّهات التي شكّلت زاداً وذخيرة للمجاهدين خلال ربع قرن من توليه سدة المسؤولية الشرعية. أذكر باعتزاز وقوفه مثل سماحة الامام السيد موسى الصدر ، الى جانب الشرفاء والمخلصين من كوادر ومجاهدي الثورة الفلسطينية منذ عام 1969 وحتى اللحظة الاخيرة.. فهؤلاء القادة كانوا يميّزون على الدوام بين انتصارهم للقضية الفلسطينية ( أعدل وأشرف قضية في التاريخ البشري على حد قول شمس الدين) وبين انتقادهم ومواجهتهم للسلوكيات الضارة وللرؤى والمواقف الخاطئة التي تتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية عما آلت عليه الاوضاع في لبنان وفي خصوص الوضع الفلسطيني.. وليس هنا مجال فتح هذا الملف انما يعنينا بالاساس عملية التأصيل الفقهي والتنظير السياسي لمسألة المقاومة في لبنان ، كامتداد وتواصل في نهج سماحته في التعامل مع قضية الحرب والعنف والجهاد..
المقاومة المدنية الشاملة
في الكثير من مداخلاته وخطبه وأبحاثه ، ومنذ إعلانه ” قرار المواجهة “ واطلاق المقاومة المدنية الشاملة إثر الاجتياح والاحتلال الاسرائيلي صيف 1982 ، لا بل ومنذ مرحلة مبكرة جداً نلحظها في كلام له في العراق إثر عدوان ونكسة الخامس من حزيران 1967 ، تعاطى الامام شمس الدين مع عنوان ومفردة المقاومة على اعتبار انها ليست غاية في ذاتها ، كما يحلو للبعض تصويره جهلاً أو تطرفاً ، بل هي ” وسيلة أو اداة سياسية للضغط على العدو نتيجة لايذائه وإنزال الخسائر فيه “. وهو ربط المقاومة ، ومنذ البداية ، باطار ناظم شامل وعميق كي لا تتحول الى عمليات مسلحة تؤذي الجماهير الصامدة قبل ان تلحق الاذى بالعدو. فدعا مبكراً الى ان تكون المقاومة في جنوب لبنان جزءاً من استراتيجية عربية موّحدة ، ( أو خطة عربية موّحدة) ومدماكاً في المواجهة العربية الشاملة للمشروع الصهيوني ، تقوم على التضامن العربي الفعّال أولاً وعلى الحرب الشعبية العربية الشاملة ثانياً وعلى الوحدة الوطنية والتضامن الداخلي والصمود الشعبي ثالثاً.. وهو لذلك لم يتراجع في أية لحظة عن هذا الفهم الشامل للمقاومة مما نستطيع تلمسه وتحديد عناوينه من مراجعتنا لكتاب المقاومة في الخطاب الفقهي السياسي ( المؤسسة الدولية للدراسات والنشر- بيروت 1998)ومن سلسلة الكتب التي نشرت خطبه وأحاديثه في عاشوراء..وهو فهم لخصه سماحته في كلام واضح بليغ فقال:
"ان لبنان المقاوم لا يتجسّد في خصوص الجماعات المسلحة التي تقوم بالعمليات العسكرية. ان جوهر المقاومة يقوم على ثلاثة أبعاد: البعد الاول والاساسي هو موقف الممانعة السياسية والمقاومة السياسية وهذه شرطها الاساسي ان ترتكز على وحدة وطنية راسخة.
البعد الثاني هو صمود الاهالي ، الناس البسطاء الشرفاء، في بيوتهم وقراهم وأماكن عملهم.. وهذا قمة المقاومة.
البعد الثالث هو العمل المسلح وهو عنصر أساسي في اكتمال حركة المقاومة وفعاليتها. ولكن ما كان لهذا العنصر ان يؤثّر لولا انه في حضن الموقف السياسي والصمود الشعبي الذي هو الاب الطبيعي لولادة العمل المسلح واستمراره “..