في كتابه نظام الخطاب، يقول ميشال فوكو:" نحن نعلم أنه ليس لنا الحق في أن نقول كل شيء"..
أطلت علينا الألفية الثالثة للميلاد بخطاب جنائزي ُيمجد منطق النهايات في كل شيء.. خطاب يبتلع الخصوصيات الثقافية تحت عنوان ما هو عالمي، ويؤجج في الآن نفسه أبشع ما في الخصوصيات القبلية والمذهبية والطائفية والاثنية والعشائرية من تفتيت وتفسيخ ووحشية..
وفي الوقت الذي صرنا فيه نستطيع ان تقول كل شيء أمسينا لا نقول شيئاً... تعولمت وسائل الاتصال والتواصل وأدوات التعبير على اختلافها..ولكننا صرنا أقل معرفة واقل دراية وحتى أقل اطمئناناً وتواصلاً... حتى بتنا في شك إن كان الإعلام حقاً أداة اتصال ووسيلة نقل وإيصال ولغة حوار وتواصل ومنبر معرفة حيادية موضوعية صادقة أمينة؟ وصار مشروعاً أن نسأل إن كان هدف الإعلام في عصرنا الراهن هو فعلاً الحقيقة ؟ وان كانت وسيلته هي حقاً الصدق والخبر الصحيح والمعلومة المجرّدة عن أية غاية؟
ليس عندي أدنى شك من أن جوابنا على هذه التساؤلات هو جواب سلبي. لماذا؟
لأن واقع الإعلام، نهجه وقيَمه وآليات تطوره، قوانينه ونظمه ومؤسساته ووسائله، تجسداته المباشرة وغير المباشرة، هو واقع القوة المادية الطاغية المسيطرة. الإعلام الحديث ليس تطويرا ً للإعلام القديم الذي عرفته الشعوب، انه انقطاع معرفي يندرج في سياق القطع الحداثوي مع مسيرة الفطرة الانسانية، انه عكس الفطرة ونقيضها لا بل هو أداة تدميرها كلياً..
وهنا تكمن إشكالية ما أسماه بعض الغربيين "موت الحضارة" (أوزوالد شبرنغلر)، أو "القلق في الحضارة" (فرويد)..أو موت الله (نيتشه) أو موت الانسان (فوكو)..وصولاً الى إعلان موت الحداثة نفسها والانتقال الى ما بعد الحداثة (مع بودريار وبورديو وليوتار ودريدا).
غير أن الإشكالية الأكبر في مسيرة الانسانية كانت وما تزال إشكالية العلاقة بين الحرية والمسؤولية، أي بين حرية الفرد أو فردانيته الحرة غير المقيّدة ،وبين مسؤوليته كعضو في الجماعة أي قيود وضوابط انتمائه وجماعته .. وهي إشكالية لم تجد لها حلاً حتى في أعتى الديمقراطيات الغربية حريةً وفردانية ، منذ قال سارتر بأن "الآخر هو الجحيم". فما بالكم وقد صار سؤال الانسان لا ينفصل عن سؤال التعدد والاختلاف، أي عن سؤال "الآخر" المغاير: الشبيه والمختلف ،عقلاً كان أم جسداً، ما يضعنا أمام مشكلة الانساني بين الوحدة والتعدد، وأمام قضية التنوع والاختلاف، وما ينتج عنهما من صدام وعنف أو من تواصل وتبادل وتفاعل.. ومن هنا موقعية حرية التعبير والحرية عموماً ومسالة الرقابة خصوصاً..
ولا بد من الإعلان بداية أننا مع الجرأة على النقد والتفكير وعلى السؤال الدائم والتمحيص الدقيق والشك بالمطلقات وبالثنائيات والتقابلات، والجرأة على نقد الايديولوجيات القائمة على قناعات جاهزة وعلى إجابات معلبة.. ذلك أن العقل والفكر الحر يستضيء بالشك في المألوف والسعي الدائم الى استكشاف الاسئلة، والمحاكمة النقدية للموجود، والتساؤل عما هو قائم، وعدم الوثوق الأعمى بنتائج وحقائق يقينية.. وهل يمكن تخيل الإبداع الديني والأدبي والفني والثقافي وحتى السياسي من دون عقل نقدي وفكر حر يقظ منفتح على تعدد الأسئلة وعلى النسبية الثقافية..
وهل يمكن أن يكون هناك من مثقف حقيقي لا يحمل صفات وخصائص العقل النقدي والتفكير الحر: أي أن يكون صادقاً مع نفسه، لا يقبل استغلال عقله أو موقفه أو نقده في أي اتجاه مخالف لقناعاته، وأن يكون كما قال المتنبي "على قلق دائم كأن الريح تحتي" (أي السؤال)..
يقول كزينوفون"الناس يفطنون دوماً لأخطاء الناس ويغفلون غفلة مطبقة عن أخطائهم هم" ..
أما في القرآن الكريم فإن الله "لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"..
وفي الانجيل أن "الحقيقة تحرر"..
فكيف يستقيم ذلك كله مع الرقابة على الفكر وعلى القول والتعبير؟؟