السبت، 20 مارس 2010

بيان للرأي العام في المغرب من قيادة البديل الحضاري

باسم الله الرحمن الرحيم
بيان للرأي العام
لهذه الأسباب تخوض قيادة البديل الحضاري الاضراب المفتوح عن الطعام

بعد محاكمة ابتدائية أجمعت كل تقاريرالمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية،على فسادها وغياب شروط المحاكمة العادلة بل اعتبرتها ظالمة استهدفت تصفية الحسابات السياسوية مع إسلاميين ديمقراطيين معروفين محليا ودوليا باعتدالهم ووسطيتهم ونبذهم للعنف...جاءت محكمة الاستئناف لتكرس غياب الارادة الحقيقية في محاكمتنا محاكمة عادلة ولتكرس استمرار استعمال القضاء كوسيلة لمواجهة الخصوم السياسيين تماما كما جاء في تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة بشأن دور القضاء خلال سنوات الرصاص.
بناء على هذا المسار الظالم نعلن نحن الموقعين أسفله (المصطفى المعتصم – أمين عام حزب البديل الحضاري ومحمد الأمين الركالة – الناطق الرسمي باسم الحزب) أننا قررنا، بكل ألم وحسرة وأسف ،أن نطلب من هيأة دفاعنا الانسحاب من المحكمة الجارية،ورفض كل مساعدة قضائية بل ومقاطعة جلسات الاستئناف التي لم يعد لها أي معنى، كما نعلن للرأي العام دخولنا في إضراب مفتوح عن الطعام احتجاجا على مصادرة حقنا في محاكمة عادلة...
لقد قررنا خوض إضراب مفتـوح عن الطعام انتصارا للحرية والكرامة والحـق في المواطنة والعـدل والمساواة والديمقراطية والحق في الاختلاف والمرجعية ورفض الاكراه ولو في الدين ورفض التوسل بالعنف والارهاب سواء كان إرهاب أفراد أو جماعات أو دولة...ولكي يصبح المغرب وطنا لكل أبنائه لا فرق بين غنيهم وفقيرهم في الحقوق والواجبات وأمام القانون،ولا بين أبناء الأسر العريقة وغير العريقة و بين إسلامييهم وعلمانييهم و بين عربهم وأمازيغييهم،إلا بالعمل الصالح والنافع الذي يخدم أمن البلاد واستقرارها وتقدمها.
قررنا الدخول في الاضراب عن الطعام لنصرخ بقوة في وجه العبث والرداءة واللامعنى وعدم الكفاءة والحكامة بالمؤامرة..ولنقول لقوى الفساد والاستبداد ببلادنا ما قاله سكان مدريد للفاشستيين:(بوجودنا لن تمروا..) وسنبذل الغالي والنفيس كي لا تعود بلادنا إلى سنوات الرصاص التي تحنون إليها.
نعم نحن جد متألمان لاضطرارنا خوض هذا الإضراب المفتوح عن الطعام لإيماننا بأن للمغرب هموما وأولويات أكبر من أن ينشغل بمثل قضيتنا...متألمان لأن بلادنا في غنى عن ممارسات تعيدها إلى سنوات الرصاص وإلى موقع المتهم بانتهاك حقوق الإنسان وعلى رأسها الحق في محاكمة عادلة..ومتالمان لأن القضاء الذي كان عليه أن يرافق التحولات الديمقراطية ويواكب المنجزات الاقتصادية والتنموية التي أطلقها العهد الجديد،قد أصبح بفساده وعدم استقلاليته عائقا حقيقيا أمام إنجاح الانتقال الديمقراطي ومخططات التنمية.
نحن كلنا حسرة لأننا بصدد إضاعة فرصة تاريخية لانجاح الانتقال الديمقراطي وتحقيق المصالحة الشاملة التي لا تقصي أحدا أو تستثنيه باعتبار هذه المصالحة قاعدة كل وحدة وطنية ضرورية لمواجهة مناورات خصوم وحدتنا الترابية.
كما أننا متأسفان لإصرار البعض على الاضرار بسمعة البلاد...ومتاسفان لما وصل إليه الوضع السياسي بالمغرب من انهيارورداءة وفراغ قاتل يسئ إلى المرحلة ومتطلباتها وإلى تطور العملية السياسية ببلادنا بما يهدد استقرارها وأمنها ويرهن مستقبلها للمجهول.ويشهد الله سبحانه وتعالى أننا ما اتخذنا هذا القرار إلا بعد نفاذ صبرنا..سنتان من الحرمان من الحرية والظلم حاولنا فيها أن نحاصر حصارنا ونتجاوز محنتنا ونفلسف قرار من أدخلنا ظلما وعدوانا في هذه المؤامرة الدنيئة الرخيصة.. حاولنا أن نقنع أنفسنا أن إيجاد حل لقضيتنا مسألة وقت...نعم صَبرنا حتى ولد صبرنا صبرا،وكلما كنا نمعن في ضبط النفس كي لا نسئ لبلادنا كنا نحس أن الآخرين يعاملوننا باستخفاف واحتقار كما عكست ذلك اطوار المحاكمة التي أثبتنا فيها للرأي العام المحلي والدولي تهافت الرواية الرسمية وتداعيها وزورها وأثبتنا بمعية هيأة دفاعنا الكفأة براءتنا..
طيلة سنتين من السجن حاولنا أن نجيب عن سؤال ممتنع هو :لماذا اعتقلنا ولماذا وبماذا نحاكم؟
حاولنا أن نعرف الذنب أو الجريرة أو الجريمة التي ارتكبناها في حق بلادنا وحق نظامها السياسي لنستحق كل هذه الآلام وهذا العقاب !!.
ربما جريمتنا النكراء أننا لم نلعب الدور الذي يريده البعض للاسلاميين:التطرف والارهاب،بل كنا من أشد المتصدين للتطرف والمدينين للإرهاب الأمر الذي أربك حسابات البعض وخيب ظنهم..ربما جريرتنا وجريرة حزب البديل الحضاري أننا رفضنا الاصطفاف والتحالف على أساس المرجعيات وسعينا إلى التقارب مع شرفاء المغرب وقواه الديمقراطية..بل وأسسنا معهم القطب الديمقراطي..
ربما ذنبنا أننا نربك حسابات ونشوش على ترتيب من يريدون إعادة صياغة المشهد السياسي المغربي على هواهم ومصالحهم...ربما...ربما...
ونعترف أننا ارتكبنا أخطاء فادحة في حقنا وحق إخواننا في حزب البديل الحضاري عندما تحمسنا أشد الحماس للمرحلة واستحقاقاتها وصدقنا شعاراتها ومن أطلقها،وآمنا بأن من واجبنا وواجب كل مغربي مهما كانت مرجعيته وانتماؤه الاديولوجي والفكري العمل على إنجاح الانتقال إلى الديمقراطية لأن البديل الآخرلن يكون سوى الفساد والاكراه والاستبداد..
ذنبنا أنه عندما اطلق الملك محمد السادس العديد من الأوراش وأرسل العديد من الاشارات وأخذ العديد من المبادرات انخرطنا بكل عفوية وصدق وإخلاص وثقة في خدمة المرحلة واستحقاقاتها لاعادة الثقة في العملية السياسية..كنا نظن أننا بصدد بناء مغرب الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والتقدم والوحدة والتنمية..مغرب العهد الجديد وكل تأخرعن الانخراط في معركة الانتقال إلى الديمقراطية هو خيانة للأمة وللوطن.
ذنبنا وخطؤنا القاتل أننا اعتقدنا أن زمن الفاسدين والمستبدين قد ولى لغيررجعة.
ربما كان ذنبنا أيضا أننا لم نكن "محميي الظهر" ومدعومين بسفارة دولة كبرى أو على ارتباط بلوبي أو بالانتماء إلى عائلة عريقة رفع عنها القلم.
ذنبنا وذنب حزب البديل الحضاري أننا كنا الحلقة الأضعف في الساحة السياسية المغربية التي تشهد اليوم إعادة ترتيب بئيس..وكان نصيبنا من هذا الترتيب حل حزب البديل الحضاري وسجن أمينه العام وناطقه الرسمي.
ذنبنا أننا آمنا بأن لا وحدة وطنية من دون مصالحة وطنية شاملة..كما آمنا بأن المغرب الجديد لن يقوم إلا على أساس نظام ملكي ديمقراطي ودعونا إلى إقرار ملكية مواطنة...
ذنبنا أننا عملنا على طرح فكر وسَطي متنور يحاصر من داخل المرجعية الاسلامية التطرف والعنف والارهاب ويدعو إلى الحوار والابتعاد عن الاكراه ويحث على الحوار والتلاقح الحضاري بديلا عن الاصطدام والصراع الحضاري..
إذا كانت هذه هي ذنوبنا وأخطاؤنا وذنوب وأخطاء رجال ونساء البديل الحضاري فإننا نعلن بكل صرامة وإصرار أننا لن نعتذر وسنتشبث بخياراتنا ونضالنا من أجل بناء صرح الديمقراطية الحقيقية ببلادنا،لن نعتذر لأننا لم نكن يوما خونة ولا إرهابيين،لن نعتذر لأن البعض خان ثقتنا،لن نعتذرلأننا رفضنا تقسيم المغرب إلى علمانيين وإسلاميين،لن نعتذر لأننا نرفض الفساد والاستبداد والرداءة وعدم الكفاءة.
نحن عندما تبنينا الخيار الديمقراطي كخيار استراتيجي كنا نعلم أننا لم نختر الطريق السهل المفروش بالورود وكنا دائما مستعدين لتأدية فاتورة خياراتنا من دمائنا ولحومنا وحريتنا..فثمن حب الأوطان وعشق الحرية والعيش بكرامة وفي ظل الديمقراطية غال جدا.لهذا نقول للمرة الألف :نسجن ونموت ويحيى الوطن...
حرا ..موحدا ..وآمنا.
"رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات".
صدق الله العظيم،والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

إمضاء:
• المصطفى المعتصم/أمين عام حزب البديل الحضاري
• محمد الأمين الركالة/الناطق الرسمي لحزب البديل الحضاري

السجن المحلي بسلا
في: الثلاثاء29ربيع الأول1431
الموافق ل:16مارس2010

The Euro in Crisis

GUY SORMAN
The Euro in Crisis
In Greece and elsewhere, statism proves riskier than free markets.
18 March 2010
The financial crisis of 2008, still far from over, has done severe damage to the reputation of the free market. The crisis, we are assured, was caused by the withdrawal of the state and an excess of deregulation. To get out of it will thus require a massive return to public spending and intervention, which is in fact what we see happening all over Europe and in the United States. However, what we might call the Greek affair should make us question the statist solution. We ought to consider the possibility that public management could prove even more dangerous than private—that state regulation is no less chancy than deregulation.
The duplicity and corruption of Greek public accounting was more than an error of bookkeeping. The concealment of the country’s real budget deficit necessarily involved a gigantic network of complicity that included the whole political class, the state bureaucracy, and the banks. This network was not confined to Greece: it included Greece’s European partners, Europe’s political leaders, the governors of the Eurozone, the directors of the European Central Bank, and the European Commission. It’s hard to believe that the European Commission’s Directorate General for Economic and Financial Affairs was ignorant of what was really happening in Greece; and it will come as a surprise to some but not others that Eurostat, the statistical institute of the European Commission, has for years been publishing deliberately false numbers that make the phony accounting of the ratings agencies implicated in the 2008 financial crisis pale in comparison.
What was the motive for all this deception? Obviously, to give credibility to the euro, a common currency supposed to rival the American dollar. Recall that the theoretical virtue of the euro is to bring down interest rates in Europe: the more solid the money, the lower the rates, which encourages economic development (or, in the case of Spain and Portugal, real-estate speculation). It was therefore much to Europe’s advantage to cover for Greece and protect the euro.
What’s telling is that the people who brought the hoax to light were neither the Greek nor the European authorities but private speculators. The Greek state, to its great dismay, suddenly discovered that it could no longer sell treasury bonds on financial markets at the same rate as the Germans did. The open market had decided that euros owned by Greeks were not the same as euros owned by Germans. Should we blame these private actors for exposing the truth? On the contrary: it was their professional duty to generate profits for their clients, often for their retirement accounts. The public actors, for their part, were duty-bound in principle to manage the euro through predictable and transparent rules. It is therefore inappropriate for French president Nicolas Sarkozy and Greek prime minister George Papandreou to accuse private speculators of “attacking” the euro. If the euro—at least in Greek hands—had been above suspicion, it would not have been attacked.
Beyond the Greek affair, moreover, it’s suddenly evident that the Eurozone as a whole suffers from awful public management. Not a single government in the Eurozone (Germany remaining the most virtuous, to be sure) respects the two requirements that the euro theoretically imposes on states using it: a public deficit that’s less than 3 percent of GDP and a public debt that’s less than 60 percent of the same. After Greece, the states with the largest debts are Ireland, Spain, and Italy, followed by a second group that includes France and Portugal.
How did the Eurozone become so badly managed and, in the end, so unpredictable? Adverse local traditions—the spendthrift state in France, the lying state in Greece—endured, and a Keynesian catastrophe compounded them. In the name of crisis management, Keynesian ideology led to a sort of renationalization of the European economy. Perhaps the return of statism helped prevent a deeper depression; we’ll never know for sure, because the Great Crisis never happened. But what has been proven, at least to a high degree of probability, is that the renewed energies of statism have left behind a fragile euro and unmanageable public debt. The United States should take no comfort in the euro’s problems, by the way. The leading credit-ratings agencies have just warned that they may downgrade American debt—unsurprisingly, since all Western countries that follow the Keynesian road flirt with bankruptcy. We are all Greeks now.
Economics can be a cruel science because it offers a choice between imperfect solutions. On the one hand, markets are unpredictable—and vulnerable to speculative crises and private failures—but they lead, on the whole, to general development, as history has amply demonstrated. On the other hand, public intervention offers short-term security but generates risks more serious than those of market uncertainty—namely public debt, inflation, and stagnation. The usual choice in economics is not between good and evil but between more evil and less. The path is narrow but known.
Guy Sorman, a City Journal contributing editor, is the author of numerous books, including Economics Does Not Lie.

1919: Betrayal and the Birth of Modern Liberalism

FRED SIEGEL
1919: Betrayal and the Birth of Modern Liberalism
Disillusionment with Woodrow Wilson changed the American Left forever.
Today’s state-oriented liberalism, we are often told, was the inevitable extension of the pre–World War I tradition of progressivism. The progressives, led by President Woodrow Wilson, placed their faith in reason and the better nature of the American people. Expanded government would serve as an engine of popular goodwill to soften the harsh rigors of industrial capitalism. Describing the condition of his fellow intellectuals prior to World War I, Lewis Mumford exclaimed that “there was scarcely one who did not assume that mankind either was permanently good or might sooner or later reach such a state of universal beatitude.” After the unfortunate Republican interregnum of the 1920s, so the story goes, this progressivism, faced with the Great Depression, matured into the full-blown liberalism of the New Deal.
But a central strand of modern liberalism was born of a sense of betrayal, of a rejection of progressivism, of a shift in sensibility so profound that it still resonates today. More precisely, the cultural tone of modern liberalism was, in significant measure, set by a political love affair gone wrong between Wilson and a liberal Left unable to grapple with the realities of Prussian power. Initially embraced by many leftists as a thaumaturgical leader of near-messianic promise, Wilson came to be seen—in the wake of a cataclysmic war, a failed peace, repression at home, revolution abroad, and a country wracked by a “Red Scare”—as a Judas. His numinous rhetoric, it was concluded, was mere mummery.
One strand of progressives grew contemptuous not only of Wilson but of American society. For the once-ardent progressive Frederick Howe, formerly Wilson’s Commissioner of Immigration, the prewar promise of a benign state built on reasoned reform had turned to ashes. “I hated,” he wrote, “the new state that had arisen” from the war. “I hated its brutalities, its ignorance, its unpatriotic patriotism, that made profit from our sacrifices and used it to suppress criticism of its acts. . . . I wanted to protest against the destruction of my government, my democracy, my America.”
Making a decisive break with Wilson and their optimism about America, the disenchanted progressives renamed themselves “liberals.” The progressives had been inspired by a faith in democratic reforms as a salve for the wounds of both industrial civilization and power politics; the new liberals saw the American democratic ethos as a danger to freedom both at home and abroad.
Wilson, a devout Presbyterian and former college professor, was the first and probably the only president to have studied socialism systematically. In 1887, as a young man, he responded to the growth of vast industrial monopolies that threatened individual freedom by arguing that “in fundamental theory socialism and democracy are almost if not quite one and the same. They both rest at bottom upon the absolute right of the community to determine its own destiny and that of its members. Men as communities are supreme over men as individuals.” In the 1912 presidential race, he said that “when you do socialism justice, it is hardly different from the heart of Christianity itself.” Four years later, he brushed aside intense opposition to appoint two pro-labor-union justices to the Supreme Court and backed railroad workers in their fight for an eight-hour day. The president imposed a surtax on the wealthy and won the support of such prominent socialists as Upton Sinclair and Helen Keller.
For many on the left, Wilson’s 1916 campaign slogan, “He kept us out of war,” opened the way for the emergence of a more vibrant American culture. The war in Europe seemed far away, and progressives were for the moment imbued with an impregnable optimism. The administration’s critique of European power politics and talk of the need for international law gave pacifist Jane Addams “unlimited faith in the president.” When Meyer London, the antiwar socialist congressman from New York’s Lower East Side, and Socialist Party leader Morris Hilquit visited the White House to talk about the prospects for peace in Europe, they came away concluding that Wilson’s “sympathies are entirely with us.” Similarly, as Thomas Knock recounts in his book To End All Wars, after visiting the White House, the leaders of the American Union Against Militarism felt that “the President had taken us into his bosom.” Wilson, they noted, “always referred to the Union Against Militarism as though he were a member of it” and talked about the need to create “a family of nations.”
The courtship between Wilson and the leftists was nurtured by the hard fought 1916 presidential election. Wilson faced a Republican Party that had recovered from a 1912 split between Teddy Roosevelt’s breakaway Bull Moose progressives and anti-reform regulars to coalesce around Supreme Court Justice Charles Evan Hughes. As war raged in Europe, the incumbent narrowly won by bringing sizable numbers of Bull Moosers (who admired Germany’s proto-welfare state) and Eugene Debs’s Socialists into his “peace camp.”
Even after the U.S. entered the war in April 1917, pushed by Germany’s declaration of unrestricted submarine warfare and the public revelation of the Kaiser’s plans for an alliance with Mexico to reconquer the Southwest, Wilson maintained his strong ties with the largely antiwar Left. The very speech in which he asked for a congressional declaration of war also welcomed the Russian revolution that had overthrown the czar and put the socialist Alexander Kerensky (temporarily) in power. Wilson effusively, if inaccurately, described the revolution as the fulfillment of the Russian people’s long struggle for democracy, and Secretary of State Robert Lansing declared that it “had removed the one objection to affirming that the European War was a war between Democracy and Absolutism.” Some progressives even backed America’s entry. The progressive animus toward corrupt and overmighty party bosses and autocratic monarchists was “readily transferred to an overbearing Kaiser and a hegemonic war machine,” notes historian Morton Keller.
Wilson insisted on referring to the United States not as an ally of England and France but as an “associated power,” and he made a point of keeping U.S. forces strictly under American command, rankling the British and French, whom he regarded as imperialists. Eight months later, shortly after Lenin had taken power in Russia, Wilson expressed ambivalence about Bolshevism: “My heart is with them, but my mind has a contempt for them.” Yet Wilson’s “Fourteen Points, his message of good luck to the ‘republic of labor unions’ in Russia . . . his warning to the Allied powers that their treatment of Bolshevik Russia would be the ‘acid test’ of their ‘good will . . . intelligence and unselfish sympathy’: these moves were immensely impressive to us,” explained magazine editor Max Eastman, speaking for many leftists and progressives. Indeed, when Russian War Commissar Leon Trotsky coined the now famous concept of the “fellow traveler,” he was referring to Wilson. Trotsky sensed that the American president shared the Bolsheviks’ hatred of European imperialism, and he thought that Soviet Russia and a reformed America would travel on parallel tracks into a brighter future.
While Wilson increasingly spoke of international comity, relations between ethnic groups within the United States were breaking down. The Kaiser’s aggression in Eastern Europe prompted pitched battles between Germans and Slavs in the streets of Chicago. At the same time, nearly half a million Germans in America returned home to fight for the fatherland. Charles John Hexamer, president of the National German-American Alliance, financed in part by the German government, insisted that Germans needed to maintain their separate identity and not “descend to the level of an inferior culture.” Germans even began attacking that inferior culture. The most important instance of German domestic sabotage was the spectacular explosion on Black Tom Island in the summer of 1916, which shook a sizable swath of New York City and New Jersey. The man-made peninsula in New York Harbor was a key storage and shipping point for munitions sold to the British and French. The bombing sank the peninsula into the sea, killed seven, and damaged the Statue of Liberty. Wilson denounced Germany’s supporters in America: “Such creatures of passion, disloyalty, and anarchy must be crushed out.”
The government responded with repression, as journalist Ann Hagedorn chronicles in Savage Peace: Hope and Fear in America. Under the Sedition Act of 1918, people were sentenced to 10 years in prison for saying that they preferred the Kaiser to Wilson; others were jailed for mocking salesmen of Liberty Bonds, which supported the war effort. Most famously, socialist leader Debs was jailed for criticizing conscription.
Wilson placed George Creel, a journalist, socialist, and strong supporter of child labor laws and women’s suffrage, in charge of ensuring home-front morale through the Committee for Public Information. But the Committee, which Creel described as “the world’s greatest adventure in advertising,” wildly overshot its mark, encouraging the banning of everything German, from Beethoven to sauerkraut to teaching the German language. The Justice Department and the attorney general, Thomas Gregory, encouraged local vigilantism against Germans, giving the American Protective League, a quarter-of-a-million-strong nativist organization, semi-official status to spy on those suspected of disloyalty. The League went out of its way to break up labor strikes as well, while branding its critics Reds.
Responding to the League’s excesses, Wilson declared that he’d “rather the blamed place should be blown up than persecute innocent people.” But in the next breath he said, “Woe be to the man or group of men that seeks to stand in our way.” Despite his misgivings, Wilson deferred to Gregory’s judgment and refrained from taking action against extremists. Only after the armistice ended the war in November 1918 did Wilson, heeding the advice of incoming attorney general A. Mitchell Palmer, move to end government cooperation with the League. But by now, the disparity between Wilson’s call for extending liberty abroad and the suppression of liberty at home had become a running sore for disenchanted progressives.
The armistice largely ended the fighting in Europe, but it opened a new chapter in hostilities at home: the Red Scare. Back in March, the Bolsheviks’ effectively unconditional surrender to the Germans at Brest-Litovsk had created a cat’s cradle of anticommunist fear intertwined with hostility to the Huns. Germany got control of the Baltic states, Poland, Belarus, and the Ukraine, with their attendant coal and oil resources—freeing the Kaiser’s army to focus on the Western front, to deadly effect. Lenin’s return to Russia in April 1917 by way of a sealed railroad car supplied by Berlin was now seen as proof, and not only by conspiratorialists, that the Bolshevik leader was a German agent.
Progressives and leftists, counseled by Raymond Robbins, who had worked for Wilson in 1912 and served as an unofficial ambassador to the Bolsheviks, adopted a counter-conspiracy ethos that persists even today. Smitten by Bolshevism, Robbins wrote to Lenin that “it has been my eager desire . . . to be of some use in interpreting this new democracy to the people of America.” Robbins also mistakenly blamed the U.S. for forcing Lenin to agree to Germany’s harsh terms at Brest-Litovsk. Over the next several years, explains historian Peter Filene, Robbins’s efforts helped shape the views of many American progressives. They became enraged when Wilson gave in to pressure from France and England, both suffering enormous casualties on the western front, and provided half-hearted American military support to a campaign that tried to force the Bolsheviks back into the war. Filene points out that for progressives, the “betrayal” of which most Americans accused the Bolsheviks was actually an American perfidy.
Here too, Wilson, juggling principle and practicality, proved strikingly inconstant. In the words of German scholar George Schild, “the Wilson who agreed to the Allied intervention [against the Soviets] in the summer of 1918” and the Wilson who just one year later in Paris helped save the Soviet Union by insisting that the Germans relinquish their conquests on the eastern front “almost seem like two different people.” Faced with the Soviet challenge and bearing the new ideology of universal democracy, Wilson floated the idea that the Bolsheviks should be invited to the peace conference. (Churchill blocked the suggestion.) Wilson the progressive argued that “war won’t defeat Bolshevism, food will.” Capitalism, Wilson argued, had to reform itself to stave off Bolshevik barbarism.
Wilson’s efforts to reconstruct Europe would largely fail, not only because the U.S. refused to join the League of Nations, but because the task at hand was undoable; what the war had sundered could not be put back together. Many former Wilson supporters were angry and disillusioned with the meager fruits of a war that had failed to make the world safe for democracy. But those feelings were shared widely across the political spectrum. Those who were soon to call themselves liberals were particularly provoked by wartime conscription, the repression of civil liberties, and the wildly overwrought fears of Bolshevism at home.
Already in 1918, when the war was still raging, labor unions, emboldened by a surge in membership and squeezed by an inflation-triggered decline in living standards, had engaged in a wave of strikes, some of them repressed by the American Protective League, local police forces, and agents of the Pinkerton National Detective Agency. Walkouts led by the Industrial Workers of the World, known for work sabotage, seemed particularly ominous. IWW members, known as Wobblies, sometimes described themselves as Lenin’s advance guard. At the end of the year, in the wake of the armistice, New York mayor John Hylan banned the socialist red flag at public gatherings, and shortly thereafter a socialist rally at Madison Square Garden was broken up by 500 soldiers and sailors. The bad blood endured. On the first anniversary of the war’s end, American Legionnaires and Wobblies clashed in Centralia, Washington. Six Wobblies were killed.
Every strike, confrontation, and racial incident was taken, on both left and right, as a manifestation of Bolshevism. Every challenge to the existing social order, no matter how justified, wound up attributed to the red menace. African-Americans’ so-called “uppityness”—insufficient deference to whites—was blamed on homegrown Bolshevism and met with lynchings and a resurgence of the Ku Klux Klan. White attacks on blacks set off black riots in Chicago and Washington that federal troops were called in to suppress.
The Red Scare intensified in June 1919, when Attorney General Palmer was nearly killed by a terrorist bomb planted in his Georgetown home. Bombs went off in seven other cities the same night. The bombers were probably from the Galleanisti group of Italian anarchists, which included the as-yet unknown Nicola Sacco and Bartolomeo Vanzetti, notes Beverley Gage in The Day Wall Street Exploded. But the Russian Bolsheviki were seen as responsible, reigniting the intense, hysterical nationalism of the war years. Palmer, who subsequently claimed to have a list of 60,000 subversives, engaged in a series of warrantless raids aimed at capturing the mostly immigrant red radicals, some of whom were jailed or shipped back to Russia. With no reproach from Wilson, Palmer trampled on civil liberties and harassed the innocent as well as the likely guilty. Then came the famed Wall Street bombing of September 1920, which claimed the lives of 38 New Yorkers and injured 400; like the Palmer attack, it was probably perpetrated by the Galleanisti anarchists, but the Bolsheviks again took the blame.
An aggressive nationalism and an accelerated Americanization became political twins. Both demanded something that, with the partial exception of the Civil War North, had never before existed in America—a coherent, irrefragable governmental power. In Europe, war had become bound up with revolution; in the U.S., the war, together with the Bolshevik challenge, called up the seemingly un-American concept of a General Will—a 100 percent Americanism that brooked no opposition. Progressives’ disenchantment with America intensified.
Even Prohibition contributed to progressives’ growing sense of estrangement from the country. Before the war, progressives had broadly supported Prohibition as a means to protect working-class families from the economic depredations of drink. But after the war, the emerging liberals were disturbed by what they saw as cultural continuation of wartime repression. “Like most sensible people,” shouted liberal Harold Stearns, “I regard prohibition as an outrage and a direct invitation to revolution.”
The silver lining of the wartime-spawned repression was that it laid the groundwork for the modern interpretation of the First Amendment that would eventually extend free-speech rights to individuals harassed not only by the federal government but by states and localities as well. The strongest section of Hagedorn’s Savage Peace deals with the key case in advancing this new understanding. Jacob Abrams, a Russian Jewish immigrant who worked as a bookbinder, had printed anarchist leaflets in English and Yiddish and dropped them from buildings on New York’s Lower East Side. The pamphlets bitterly denounced Wilson’s cooperating with England and France in trying to force Russia’s government back into the war against Germany. Zealous prosecutors saw the leaflets as violations of the Espionage Act, which made it a crime to undermine American wartime policy. Abrams, sentenced to 20 years in jail, would eventually be deported.
In 1919, the Supreme Court upheld Abrams’s conviction. But in his dissent, Supreme Court Justice Oliver Wendell Holmes, while agreeing that “speech that produces or is intended to produce a clear and imminent danger” can be prosecuted, maintained that he saw no such danger in Abrams’s leaflets, which he described as “silly” writings by an “unknown man.” Holmes’s underlying reasoning would prove extraordinarily influential. Like John Stuart Mill, Holmes found that a maximum of free speech was essential for a successful society. America, he argued, had an interest in discovering truth available only through “the marketplace of ideas,” where competing viewpoints are compelled to make their best case.
Palmer had hoped to ride the Red Scare into the White House. But within a year the amiable, if ineffectual, Warren G. Harding of Ohio was ensconced in Washington, along with his card-playing cronies. The crusade that had ended abroad was brought to a close at home. Harding released Debs from prison and returned America to what he dubbed “normalcy.”
For intellectuals and writers who had anticipated utopia in 1916, however, the postwar years brought anger and intensified alienation. The war, said writer Floyd Dell, had produced a generation of young minds “trained in disillusion.” They felt betrayed by Wilson, who had not only suppressed civil liberties but had tried to force Russia back into the war and made compromises with European imperialism at Versailles. They disdained a society that had supported both the Red Scare and Prohibition. In the words of an influential young liberal, “we crushed German militarism only to find that we ourselves had adopted many of its worst features.”
Literary critic Malcolm Cowley spoke for many intellectuals in the wake of the war: “We believed that we had fought for an empty cause, that the Germans were no worse than the Allies, no better, that the world consisted of fools and scoundrels.” Critic Harold Stearns, in his seminal 1919 book Liberalism in America, asserted bitterly that “in Soviet countries there is no fact of freedom of the press and no pretense that there is. In America today there is in fact no freedom of the press and we only make the matter worse by pretending that there is.” The state, said the soured progressive Frederick Howe, “seemed to want to hurt people; it showed no concern for innocence. . . . It was not my America, it was something else.”
What followed was not so much protest as simmering scorn. In 1919, the Germanophile H. L. Mencken, writing in The New Republic, called sarcastically for honoring the civilian heroes who had suppressed Beethoven by bedizening them with bronze badges and golden crosses. Mencken ridiculed the mass of Americans who had backed “Wilson’s War,” branding them a “timorous, sniveling, poltroonish, ignominious mob”; a great admirer of Kaiser Wilhelm, he denigrated American democracy as “the worship of jackals by jackasses.” Taking its cues from Mencken, the liberalism that emerged from 1919 was contemptuous of American culture and politics. For liberals, the war years had shown that American society and democracy were themselves agents of repression. These sentiments deepened during the 1920s and have been an ongoing current in liberalism ever since.
The new liberal ethos was not without its virtues. In picking their fights with Prohibition and their former hero Wilson, liberals encouraged the sense of tolerance and appreciation of differences that would, over time, mature into what came to be called pluralism. “The root of liberalism,” wrote Stearns, “is hatred of compulsion, for liberalism has the respect for the individual and his conscience and reason which the employment of coercion necessarily destroys.” Though not always observed by liberals themselves, the call for an urbane temper would come to mark liberalism at its best.The underside of this new sensibility was an inverted moralism and a quasi-aristocratic hauteur that has dogged political liberalism down to the present day. “Something oppressed” the liberals, wrote Cowley in 1934; “some force was preventing them from doing their best work.” At the time, that “something” was “the stupidity of the crowd, it was hurry and haste, it was Mass Production, Babbittry, Our Business Civilization; or perhaps it was the Machine.” As this current carried into the 1950s, what oppressed the liberals became affluence, suburbia, two-car garages, and backyard barbecues.
Most recently, the liberal plaint has been taken up by the aging but affluent “68ers,” who supported Barack Obama’s presidential campaign because they saw themselves as victims of American society. If they had lived to see it, their progenitors of 1919 would have smiled in recognition.
Fred Siegel is a contributing editor to City Journal and a visiting professor at St. Francis College in Brooklyn

وثيقة وقفة حق الفلسطينية المسيحية

على أبواب عيد الميلاد المجيد، وبعد الصلاة والتفكير وتبادل الرأي في المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون على أرضهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، تنادى مجموعة من الفلسطينيين المسيحيين، ليطلقوا صرختهم صرخة أمل في غياب كل أمل. وجاء في نص الدعوة: "إنّنا إذ نستلهم سرَّ حبِّ الله للجميع وسرَّ حضوره الإلهي في تاريخ الشعوب وفي تاريخ أرضنا بصورة خاصة، نقول اليوم كلمتنا انطلاقًا من إيماننا المسيحيّ وانتمائنا الفلسطينيّ، وهي كلمة إيمان ورجاء ومحبّة".

وكان الاجتماع يوم الحادي عشر من كانون الاول 2009 في دار الندوة الدولي في بيت لحم، من الساعة الثانية بعد الظهر وحتى السابعة مساء. وأطلقوا كلمتهم انطلاقا من الايمان المسيحي والانتماء الفلسطيني.

وقد وقع الوثيقة غبطة البطريرك ميشيل صبّاح والمطران منيب يونان والمطران عطالله حنّا والأب جمال خضر والأب رفيق خوري والأب متري الرّاهب والأب نعيم عتيق والأب يوحنّا كتناشو والأب فادي دياب ود.جريس خوري وسدر دعيبس ونورا قرط ولوسي ثلجيّة ونضال أبو الزلف ورفعت قسيس وهو منسق المبادرة اضافة الى آخرين.

وفيما يلي النص الكامل للوثيقة الفلسطينية المسيحية الاولى التي صدرت عن الاجتماع، وننشرها هنا كما وصلت من الاصل:

نحن، مجموعة من الفلسطينيّين المسيحيّين، بعد الصلاة والتفكير وتبادل الرأي في المعاناة التي نعيشها على أرضنا، تحت الاحتلال الإسرائيليّ، نطلق اليوم صرختنا، صرخة أمل في غياب كلِّ أمل، مقرونةً بصلاتنا وإيماننا بالله الساهر بعنايته الإلهيّة على جميع سكّان هذه الأرض. وإنّنا إذ نستلهم سرَّ حبِّ الله للجميع وسرَّ حضوره الإلهيِّ في تاريخ الشعوب وفي تاريخ أرضنا بصورة خاصّة، نقول اليوم كلمتنا انطلاقًا من إيماننا المسيحيّ وانتمائنا الفلسطينيّ، وهي كلمة إيمان ورجاء ومحبّة.

ولماذا الآن؟ لأنّنا اليوم وصلنا بمأساة شعبنا الفلسطينيّ إلى طريق مسدود، بينما يكتفي أصحاب القرار بإدارة الأزمة بدل العمل الجدّي في سبيل حلِّها. وهذا ما يملأ قلوب المؤمنين بالأسى وبالتساؤلات: ماذا تصنع الأسرة الدوليّة؟ وماذا تصنع القيادات السياسيّة في فلسطين وإسرائيل والعالم العربيّ؟ وماذا تصنع الكنيسة؟ لأنّ القضيّة ليست قضيّة سياسيّة وحسب، بل هي سياسة يُدمَّر فيها الإنسان، وهذا أمرٌ يهمّ الكنيسة.

إنّنا نخاطب إخوتنا أبناءَ كنائسنا في هذه الأرض، ونوجِّه نداءنا هذا، كفلسطينيّين وكمسيحيّين، إلى قادتنا الدينيّين والسياسيّين، وإلى مجتمعنا الفلسطينيّ والمجتمع الإسرائيليّ، وإلى الأسرة الدوليّة، وإلى إخوتنا وأخواتنا في كنائس العالم.

1. الواقع

1-1 "يَقُولُونَ سَلامٌ سَلامٌ وَلا سَلام" (إرميا 6: 14). الكلّ يتكلّم اليوم على السلام ومسيرة السلام في الشرق الأوسط. وما زال ذلك كلّه حتى الآن كلامًا فقط، بينما الواقع على الأرض هو الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة وحرمانُنا حرّيّتَنا وكلّ ما ينتج عن ذلك من عواقب:

1-1-1 هو الجدار الفاصل الذي أُقيم على الأراضي الفلسطينيّة والذي صادر قسمًا كبيرًا منها، وقد حوّل مدننا وقرانا إلى سجون، وفصل بينها فجعلها كانتونات وأشلاء متناثرة. وغزّة، بعد الحرب الوحشيّة التي شنّتها إسرائيل عليها في شهر كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009، ما زالت تعيش في أوضاع لاإنسانيّة تحت حصار مستمرّ، وهي وأهلها منفصلون جغرافيًّا عن سائر الأراضي الفلسطينيّة.

1-1-2 الواقع هو أنّ المستوطنات الإسرائيليّة تنهب أرضنا باسم الله وباسم القوّة، وتسيطر على مواردنا الطبيعيّة لا سيّما المياه والأراضي الزراعيّة حارمةً مئات الآلاف من الفلسطينيّين منها. وغدت اليوم عائقًا دونَ أيِّ حلٍّ سياسيّ.

1-1-3 وهي المذلّة التي ما زلنا مُخضَعين لها عند الحواجز العسكريّة في حياتنا اليوميّة، عند توجُّهِنا إلى أعمالنا أو مدارسنا أو مستشفياتنا.

1-1-4 وهو الفصل بين أفراد العائلة الواحدة الذي يجعل حياة الأسرة نفسها أمرًا مستحيلا للآلاف من الفلسطينيّين، ولا سيّما في العائلات التي لا يحمل فيها أحد الزوجين هوّيّة إسرائيليّة.

1-1-5 والحرّية الدينيّة نفسها أصبحت محدّدة، حرّية الوصول إلى الأماكن المقدّسة، بادّعاء الأمن. فمقدَّساتُ القدس محرَّمة على العديد من المسيحيّين والمسلمين من الضّفة وغزّة والقطاع، وحتّى على المقدسيّين أنفسهم في الأعياد. كما أنّ البعض من كهنتنا العرب يعانون من منعهم من دخول القدس بصورة عاديّة.

1-1-6 واللاجئون جزء من واقعنا. وأغلبهم ما زال يعيش في المخيّمات في ظروف صعبة لا تليق بالإنسان. هؤلاء، أصحاب حقّ العودة، لا يزالون ينتظِرون عودتهم جيلاً بعد جيل، ماذا سيكون مصيرهم؟

1-1-7 والأسرى، ألوف الأسرى، في السجون الإسرائيليّة، هم أيضًا جزء من واقعنا. الإسرائيليّون يحرّكون العالم لتحرير أسير واحد، وهؤلاء الآلاف من الأسرى الفلسطينيين القابعين في السجون الإسرائيليّة متى يحرَّرون؟

1-1-8 والقدس قلب واقعنا، وهي في الوقت نفسه رمز سلام وعلامة خصومة. بعد أن فصل الجدار العازل بين أحيائها الفلسطينيّة، ما زالت مستمرّةً عمليّةُ تفريغها من سكّانها الفلسطينيّين المسيحيّين والمسلمين. يُجرَّدون من هوّياتهم أي من حقِّهم في البقاء في القدس، وتُهدَم بيوتهم أو تُصادَر. القدس مدينة المصالحة أصبحت مدينة التفرقة والإقصاء ومن ثمّ سببًا للاقتتال بدل السلام.

1-2 وجزء من هذا الواقع أيضًا هو الاستخفاف الإسرائيليّ بالشرعيّة الدوليّة وقراراتها، والعجز العربيّ وعجز الأسرة الدوليّة أمام هذا الاستخفاف. وحقوق الإنسان ممتهَنة، وبالرغم من التقارير المختلفة للجمعيّات المحلّيّة والعالميّة لحقوق الإنسان، فإنّ الظلم ما زال مستمرًّا.

1-2-1 والفلسطينيّون في دولة إسرائيل، وإن كانوا مواطنين ولهم حقوق المواطنة وواجباتها، فقد عانوا هم أيضًا من ظلم تاريخيّ وما زالوا يعانون اليوم من سياسات التمييز. هم أيضًا ينتظرون أن ينالوا حقوقهم كاملة وأن يُعامَلوا على قاعدة المساواة مثل كلِّ مواطن في الدولة.

1-3 والهجرة هي أيضًا من مظاهر واقعنا. فغياب كلّ رؤية أو بارقة أمل في السلام والحرّية دفع بالشباب المسلم والمسيحي على السواء إلى الهجرة، فحُرِمَت الأرض من أهمّ مواردها وغناها، أي الشباب المثقّف. وتناقصُ عدد المسيحيّين، بصورة خاصّة في فلسطين، هو من النتائج الخطيرة لهذا الصراع وللعجز والفشل المحلّيّ والدوليّ في إيجاد حلٍّ للقضيّة برمّتها.

1-4 وأمام هذا الواقع، يدّعي الإسرائيليّون تبرير أعمالهم على أنّها دفاعٌ عن النفس، بما في ذلك الاحتلال والعقاب الجماعيّ وكلُّ أنواع التنكيل بالفلسطينيّين. وهذه، في نظرنا، رؤية تقلب الواقع رأسًا على عقب. نعم، هناك مقاومة فلسطينيّة للاحتلال. ولكن لو لم يكن الاحتلال لما كانت هناك مقاومة، ولما كان خوف ولا انعدام أمن. هذا ما نراه، فندعو الإسرائيليّين إلى إنهاء الاحتلال، فيرون عالمًا جديدًا لا خوف فيه ولا تهديد، بل أمن وعدل وسلام.

1-5 كان الردُّ الفلسطيني على هذا الواقع متنوّعًا. ردَّ البعض بطرق المفاوضات، وهذا كان موقف السلطة الفلسطينيّة الرسميّة، ومع ذلك لم تحصل على أيِّ تقدُّم في مسيرة السلام. وكان ردُّ بعض الأحزاب السياسيّة باللجوء إلى المقاومة المسلّحة. وتذرّعت إسرائيل بذلك لتتَّهم الفلسطينيّين بالإرهاب. وتمكَّنت بذلك من طمس المعنى الحقيقيّ للصراع إذ باتت القضيّة تُصوَّر على أنّها قضيّة حرب إسرائيليّة على الإرهاب، لا قضيّة احتلال إسرائيليّ ومقاومة فلسطينيّة مشروعة لوضع حدٍّ له.

1-5-1 وازدادت الكارثة بالصراع الداخليّ بين الفلسطينيّين أنفسهم وبانفصال غزّة عن الأراضي الفلسطينيّة. وهنا لا بدّ من القول إنّه ولَئِن كان هذا الانقسام بين الفلسطينيّين أنفسهم، إلاّ أنّ الأسرة الدوليّة كانت سببًا رئيسًا فيه لرفضها التعامل على نحو إيجابيّ مع إرادة الشعب الفلسطينيّ التي عبّر عنها بالطرق الديموقراطيّة الشرعيّة في انتخابات عام 2006.

ومرة ثانية نكرِّر ونقول إنّ كلمتنا المسيحيّة في وسط ذلك كلّه، في وسط نكبتنا، هي كلمة إيمان ورجاء ومحبّة.

2. كلمة إيمان

نؤمن بالله وهو إله صالح وعادل

2-1 إنّنا نؤمن بالله الواحد الأحد، خالق الكون والإنسان. نؤمن به إلهًا صالحًا وعادلاً ومُحِبًّا لجميع خلائقه. ونؤمن أنّ كلّ إنسان هو خليقة الله، خلقه على صورته ومثاله، وأنّ كرامته من كرامته تعالى. وهذه الكرامة هي نفسها في كلّ إنسان. هذا الكلام يعني، لنا نحن هنا، في هذه الأرض بالذات، أنّ الله خلقنا، لا لنتخاصم ونقتتل، بل لنتعارف ونتحابّ ونبنيها معًا بمحبّتنا وبالاحترام المتبادل بعضُنا لبعض.

2-1-1 ونؤمن بكلمة الله الأزليّ، ابنه الوحيد سيّدنا يسوع المسيح، الذي أرسله مخلِّصًا للعالمين.

2-1-2 ونؤمن بالروح القدس الذي يواكب الكنيسة والبشريّة في مسيرتهما. وهو يساعدنا على فهم الكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد كوحدة واحدة، اليوم وهنا، ويبيّن لنا تجلّي الله للبشريّة في الماضي والحاضر والمستقبل.

كيف نفهم كلمة الله؟

2-2 ونؤمن أنّ الله كلّم البشريّة، هنا في أرضنا: "إنَّ الله، بَعدَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا قَدِيمًا مَرَّاتٍ كَثِيرَةً بِلِسَانِ الأنبِيَاءِ كَلامًا مُختَلِفَ الوَسَائِلِ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأيَّامِ، وَهِيَ آخِرُ الأيَّامِ، بِلِسَانِ الابنِ الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيءٍ، وَبِهِ أَنشَأَ العَالَمِينَ" (الرسالة إلى العبرانيين 1:1-2).

2-2-1 ونؤمن، نحن الفلسطينيّين المسيحيّين، مثل سائر المسيحيين في العالم، أنّ يسوع المسيح أتى ليكمِّل الشريعة والأنبياء. هو الألف والياء والبداية والنهاية. فبنوره وبهداية الروح القدس نقرأ الكتب المقدّسة، ونتأمّل فيها ونفسّرها، كما فسّرها يسوع المسيح لتلميذَيْ عمّاوس، كما جاء في إنجيل القديس لوقا: "فَبَدَأ مِن مُوسَى وَجَمِيعِ الأنبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا فِي جَمِيعِ الكُتُبِ مَا يَختَصُّ بِهِ" (لوقا 24: 27).

2-2-2 جاء السيد المسيح ينادي باقتراب ملكوت الله، فأحدث ثورة في حياة البشريّة وإيمانها. وأتانا "بتعليم جديد" (مرقس 1: 27) ونور جديد لفهم العهد القديم وما ورد فيه من مفاهيم لها صلة بإيماننا المسيحيّ وبحياتنا اليوميّة، مثل المواعد والاختيار وشعب الله والأرض. وإنّنا نؤمن أنّ كلمة الله كلمةٌ حيّة تلقي على كلّ حقبة من حِقَب التاريخ ضوءًا خاصًّا، فتُبيِّن للمؤمنين ماذا يقول الله لنا اليوم وهنا. ولهذا لا يجوز تحويل كلمة الله إلى أحرف جامدة تشوّه حبَّ الله وعنايته في حياة الشعوب والأفراد. هذا هو الخطأ في التفاسير الكتابيّة الأصوليّة التي تحمل لنا الموت والدمار حينما تجمِّد كلمة الله وتسلِّمها من جيل إلى جيل كلمةً ميتَةً، فتُستَعمَل سلاحًا في تاريخنا الحاضر يحرمنا حقّنا في أرضنا.

لأرضنا رسالة كونيّة شاملة

2-3 ونؤمن أنّ لأرضنا رسالة كونيّة شاملة. وبهذه الشموليّة تنفتح مفاهيم المواعد والأرض والاختيار وشعب الله لتشمل البشرية كلَّها، بدءًا من شعوب هذه الأرض كلِّها. ونرى في ضوء تعاليم الكتاب المقدّس أنّ الوعد بالأرض لم يكن يومًا عنوانًا لبرنامج سياسيّ. بل إنّه مقدّمة لخلاص كونيٍّ شامل، وهو البدء بتحقيق ملكوت الله على الأرض.

2-3-1 لقد أرسل الله إلى هذه الأرض الآباء والأنبياء والرسل، يحملون إلى العالم رسالة كونيّة شاملة. واليوم نحن فيها ثلاث ديانات، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. أرضنا هي أرض الله، كباقي بلدان العالم، وهي مقدّسة بحضور الله فيها، لأنّه وحده القدّوس والمقدِّس. فمن واجبنا، نحن الساكنين فيها، أن نحترم مشيئة الله فيها وأن نحرِّرها من شرِّ الظلم والحرب الذي فيها. هي أرضٌ لله فيجب أن تكون أرضًا للمصالحة والسلام والمحبّة. وهذا أمر ممكن. بما أنّ الله وضعنا فيها، شعبَيْن، فإنّه يمنحنا أيضًا المقدرة، إن شئنا، على أن نعيش معًا ونُقِرَّ فيها العدل والسلام، ونجعلها فعلاً أرضَ الله: "لِلرَّبِّ الأرضُ وَمَا فِيهَا، الدُّنيَا وَسَاكِنُوهَا" (مزمور 24: 1).

2-3-2 وجودنا، نحن الفلسطينيّين، مسيحيّين ومسلمين، على هذه الأرض ليس طارئًا، بل له جذور متأصّلة ومرتبطة بتاريخ وجغرافيّة هذه الأرض، مثلَ ارتباط أيّ شعب بأرضه التي يوجد فيها اليوم. وقد وقع في حقِّنا ظلمٌ لمّا هُجِّرنا. أراد الغرب أن يعوِّض عمّا اقترف هو في حقّ اليهود في بلاد أوروبا، فقام بالتعويض على حسابنا وفي أرضنا. حاول تصحيح الظلم فنتج عنه ظلم جديد.

2-3-3 وعلاوة على ذلك، إنّنا نرى بعض اللاهوتيّين في الغرب يحاولون أن يُضفُوا على الظلم الذي لحق بنا شرعيّة لاهوتيّة وكتابيّة. فأصبحت المواعد، بحسب تفسيراتهم، تهديدًا لكياننا، و"البشرى السارّة" في الإنجيل نفسه أصبحت لنا "نذيرَ موت". إنّنا ندعو هؤلاء اللاهوتيّين إلى تعميق الفكر في كلمة الله وإلى تصويب تفسيراتهم حتى يروا في كلمة الله مصدر حياة لكلّ الشعوب.

2-3-4 إنَّ صلتنا بهذه الأرض حقّ طبيعيّ، وليست قضيّة أيديولوجيّة ولا مسألة نظريّة لاهوتيّة فقط. هي قضية حياة أو موت. قد يكون هناك من لا يتّفق معنا بل يناصبنا العداء فقط لأنّنا نقول إنَّنا نريد أن نعيش أحرارًا في أرضنا. لأنّنا فلسطينيّون نعاني من الاحتلال لأرضنا، ولأنّنا مسيحيّون نعاني من التفسيرات المغلوطة لبعض اللاّهوتيّين. وأمام هذه الحال، تقوم مهمّتنا بأن نُبقِيَ كلمة الله لا مصدر موت بل مصدر حياة، وبأن نُبقيَ "البشرى السارّة" على ما هي، "بشرى سارّة" لنا ولكلّ الناس. وأمام من يهدّد كياننا، كفلسطينيّين مسيحيّين ومسلمين، بالكتاب المقدس، إننا نجدّد إيماننا بالله، لأنّنا نعلم أنّ كلمة الله لا يمكن أن تكون سبب دمار لنا.

2-4 ولهذا نقول إنّ استخدام الكتاب المقدّس، لتبرير أو تأييد خيارات ومواقف سياسية فيها ظلم يفرضه إنسان على إنسان أو شعب على شعب آخر، يحوّل الدين إلى أيديولوجيّة بشريّة ويجرّد كلمة الله من قداستها وشموليّتها وحقيقتها.

2-5 ولهذا نقول أيضًا إنّ الاحتلال الإسرائيليّ للأرض الفلسطينيّة هو خطيئة ضدّ الله وضدّ الإنسان لأنّه يحرم الإنسان الفلسطينيّ حقوقَه الإنسانيّة الأساسيّة التي منحه ايّاها الله، ويشوّه صورة الله في الإنسان الإسرائيليّ المحتلّ بقدر ما يشوّهها في الإنسان الفلسطينيّ الواقع تحت الاحتلال. ونقول إنّ أيّ لاهوت يدَّعي الاستناد إلى الكتاب المقدس أو العقيدة أو التاريخ ليبرّر الاحتلال إنما هو بعيد عن تعليم الكنيسة، لأنه يدعو إلى العنف والحرب المقدّسة باسم الله، ويُخضِع الله سبحانه لمصالح بشرية آنِيّة، ويشوّه صورته في الإنسان الواقع في الوقت نفسه تحت ظلم سياسيّ وظلم لاهوتيّ.

3. الرجاء

3-1 مع غياب أيّ بارقة أمل، يبقى رجاؤنا قويًّا. الوضع الراهن لا يبشِّر بأيّ حلٍّ قريب أو بنهاية الاحتلال المفروض علينا. نعم، كثرت المبادرات والمؤتمرات والزيارات والمفاوضات، إلا أنّ ذلك كلّه لم يعقبه أيّ تغيير في وضعنا ومعاناتنا. حتى الموقف الأمريكيّ الجديد الذي أعلنه الرئيس أوباما، وإرادته الظاهرة لوضع حدٍّ للمأساة، لم يكن له أثر في تغيير واقعنا. لأنّ الردَّ الإسرائيليّ الصريح والرافضَ للحلّ، لم يدَعْ مجالاً للأمل. ومع ذلك، يبقى رجاؤنا قويًّا. لأنّنا وضعنا رجاءنا في الله. إنّه صالحٌ وقديرٌ ومحِبٌّ للبشر، وسوف ينتصر صلاحه يومًا على الشرِّ الذي نحن فيه. وبهذا المعنى قال القدّيس بولس: "إنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَن يَكُونُ عَلَينَا؟... فَمَن يَفصِلُنَا عَن مَحَبَّةِ المَسِيحِ، أشِدَّةٌ أم ضِيقٌ أم اضطِهَادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيفٌ؟ فَقَد وَرَدَ فِي الكِتَابِ: إنَّنَا مِن أَجلِكَ نُعَانِي المَوتَ طَوَالَ النَّهَارِ... وَأَنَا وَاثِقٌ أَن لا خَلِيقَةٌ بِوُسعِهَا أَن تَفصِلَنَا عَن مَحَبَّةِ لله" (روما 8: 31 و35 و36 و39).

ما معنى الرجاء؟

3-2 الرجاء فينا يعني أولاً إيماننا بالله، وثانياً تطلُّعاتنا إلى مستقبل أفضل، وثالثاً عدم السير وراء أوهام، إذ إنّنا نعلم أنّ الفرج ليس وشيكًا. الرجاء هو مقدرتُنا على رؤية الله في وسط الشدّة، وعلى العمل مع روح الله فينا، ومن هذه الرؤية نستمدّ القوّة للصمود والبقاء والعمل في سبيل تغيير الواقع الذي نحن فيه. الرجاء يعنى عدم التنازل أمام الشرّ، بل هو الوقوف أمامه والاستمرار في مقاومته. إنّنا لا نرى في الحاضر والمستقبل سوى خراب ودمار. نرى تجبّر القويّ وتوجّهه إلى فصل عنصريّ متزايد وفرض قوانين تنفي كياننا وكرامتنا. ونرى حيرةً وانقسامًا في الموقف الفلسطينيّ. ومع ذلك، فإذا قاومنا هذا الواقع اليوم وعملنا بجدّ، قد نحول دون حلول الدمار الذي يلوح على الأفق القريب.

بعض علامات الرجاء

3-3 إنّ الكنيسة في بلادنا، رؤساءها ومؤمنيها، تحمل، بالرغم من ضعفها وانقساماتها، علامات تسند رجاءنا. ففي رعايانا حيويّة ظاهرة، ومعظم شبيبتنا، فيها، رسل فعّالون في سبيل العدل والسلام. وبالإضافة إلى التزام الأفراد، فإن المؤسّسات الكنسية المتنوّعة تجعل لإيماننا حضورًا فاعلاً، حضورَ خدمة ومحبّة وصلاة.

3-3-1 ومن علامات الرجاء أيضًا المراكز اللاهوتيّة المحليّة، ذات الطابع الدينيّ والاجتماعيّ، وهي كثيرة في مختلف كنائسنا. والروح المسكونيّة، ولو أنّها ما زالت متعثّرة، إلاّ أنّها ظاهرة في مختلف اللقاءات بين العائلات الكنسيّة.

3-3-2 يضاف إلى ذلك الحوارات المتعدّدة بين الأديان. فهناك أولاً الحوار المسيحيّ الإسلاميّ، الذي يشمل المسئولين وقسمًا من الشعب أيضًا. مع العلم بأنّ الحوار مسيرة طويلة وجهد يكتمل يومًا بعد يوم عبر المعاناة نفسها والآمال نفسها. وهناك الحوارات بين الديانات الثلاث اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وعدد من الحوارات على مختلف المستويات الأكاديميّة أو الاجتماعيّة التي تحاول تقليص المسافات التي يفرضها الاحتلال والحدَّ من التشويه لصورة الإنسان في قلب أخيه الإنسان.

3-3-3 ومن أهمّ علامات الرجاء أيضًا صمود الأجيال واستمرار الذاكرة التي لا تنسى النكبة ومعانيها، وإيمانها بعدالة قضيّتها. وكذلك تطوُّرُ الوعي لدى الكثير من الكنائس في العالم ورغبتُها في معرفة حقيقة ما يحدث هنا.

3-3-4 وبالإضافة إلى ذلك، نرى لدى الكثيرين تصميمًا لتخطّي أحقاد الماضي، والاستعداد للمصالحة بعد إقرار العدل. وقد تزايد الوعي العامّ بضرورة إقرار الحقوق الوطنيّة والسياسيّة للفلسطينيّين، وارتفعت أصوات يهوديّة وإسرائيليّة مُحِبّةٌ للسلام والعدل تؤيّد ذلك، وانضمّت إليها مناصرة دوليّة عامّة. صحيح أنّ قوى العدل والمصالحة هذه ما زالت غير قادرة على تبديل واقع الظلم، إلا أنّها طاقة بشريّة لها تأثيرها وقد تقصّر زمن المعاناة وتسرِّع مجيء عهد المصالحة.

رسالة الكنيسة

3-4 كنيستنا هي كنيسةُ بَشَرٍ يصلّون ويخدمون، وصلاتهم وخدمتهم هي نبوّة تحمل صوت الله في الحاضر والمستقبل. كلّ ما يحصل في أرضنا ولكلّ إنسان فيها، وكلّ الآلام والآمال، وكلّ ظلم وكلّ جهد لوقف هذا الظلم، كلّ ذلك جزء من صلاةِ كنيستنا وخدمةِ جميع المؤسّسات فيها، ونشكر الله على أنّ الكنيسة ترفع صوتها ضدّ الظلم رغم أنّ بعضهم يودّون لو تبقى في صمتها متقوقعةً في عباداتها.

3-4-1 رسالتها رسالة نبويّة تعلن كلمة الله في السياق المحليّ وفي الأحداث اليوميّة، بجرأة ووداعة ومحبّة شاملة. وإذا تحيّزت فإنّها تتحيّز للمظلوم وتقف إلى جانبه، كما وقف السيد المسيح إلى جانب كلّ فقير وخاطئ داعيًا إيّاه إلى التوبة وإلى الحياة واستعادة الكرامة التي منحه إيّاها الله، والتي لا يجوز لأيّ بشر أن يجرّده منها.

3-4-2 رسالة الكنيسة هي المناداة بملكوت الله، ملكوت عدل وسلام وكرامة. دعوتنا ككنيسة حيّة هي أن نشهد لصلاح الله، ولكرامة الإنسان، ومن ثَمَّ أن نصلِّي وأن نُسمِع صوتنا ينبئ بمجتمع جديد يؤمن فيه الإنسان بكرامة نفسه وكرامة خصمه.

3-4-3 كنيستنا تبشّر بالملكوت. ولا يمكن ربط ملكوت الله بأيّة مملكة أرضية. قال يسوع أمام بيلاطس: "نَعَم، أنَا مَلِكٌ. وَلَكِنَّ مَملَكَتِي لَيسَتْ مِن هَذَا العَالَمِ" (راجع يوحنا 18: 36 و37). وقال القدّيس بولس: "لَيسَ مَلَكُوتُ الله أكلا وَشُربًا بَل بِرٌّ وَسَلامٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ القُدُسِ" (روما 14: 17). ولذلك ليس الدين دعمًا أو تأييدًا لأيّ نظام سياسيّ ظالم، إنما هو دعامة للعدل والحقيقة وكرامة الإنسان. كما أنّه يسعى لتنقية أنظمة فيها ظلم للإنسان وامتهان لكرامته. وملكوتُ الله على الأرض غير مقيَّد بأيّ توجّه سياسيّ، لأنّه أكبر وأشمل من أن يحدّه أيّ نظام سياسي.

3-4-4 وقال يسوع المسيح "إنَّ مَلَكُوتَ الله هُوَ بَينَكُم" (لوقا 17: 21). وهذا الملكوت الحاضر بيننا وفينا هو امتداد لسرّ الفداء، وهو حضور الله بيننا واستشعارنا بهذا الحضور في كلّ ما نعمل وما نقول. وبهذا الحضور الإلهيّ نعمل إلى أن يتمّ العدل الذي نرتجيه في هذه الأرض.

3-4-5 إنّ الظروف القاسية التي عاشتها وتعيشها الكنيسة الفلسطينيّة جعلتها تصقل إيمانها وتتبيّن دعوتها بصورة أوضح. بحَثْنا في دعوتنا وازدادت معرفتنا بها في وسط الألم والمعاناة : نحن نحمل اليوم قوّة المحبّة بدل قوّة الانتقام وثقافة الحياة بدلَ ثقافة الموت. وهذا مصدر رجاء لنا وللكنيسة وللعالم.

3-5 القيامة أساس رجائنا. كما قام يسوع منتصرًا على الموت والشرّ، كذلك نستطيع ويستطيع كلّ سكّان هذه الأرض الانتصار على شرّ الحرب فيها. وسوف نبقى، نحن، كنيسة شاهدة وصامدة وفاعلة في أرض القيامة.

4. المحبة

وصية المحبة

4-1 قال السيد المسيح لنا: "أَحِبُّوا بَعضُكُم بَعضًا كَمَا أَحبَبْتُكُم أنَا" (يوحنا 13: 24). وقد أوضح كيف تكون المحبّة وكيف يكون التعامل مع الأعداء، قال: "سَمِعتُم أنَّهُ قِيلَ أحْبِبْ قريبَكَ وأبغِضْ عَدُوَّكَ. أمّا أنَا فَأَقُولُ لَكُم أحِبّوا أَعدَاءَكُم، وَصَلُّوا لأجلِ الَّذينَ يضْطَهِدونكُم، فَتَكُونُوا أَبنَاءَ أبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَهُوَ يُطلِـعُ شَمْسَهُ عَلَى الأشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، ويُمطِرُ عَلَى الأبرَارِ وَالظّالِمِينَ... فَكُونُوا أَنتُم كَامِلِينَ، كَمَا أنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ كَامِلّ." (متى 5 : 45 -47)

وقال القدّيس بولس: "لا تُجَازُوا أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ" ( روما 12: 17). وقال القديس بطرس: "لا تَرُدُّوا الشَّرَّ بِالشَّرِّ وَالشَّتِيمَةَ بِالشَّتِيمَةِ بَل بَارِكُوا فَتَرِثُوا البَرَكَةَ لأنَّكُم لِهَذَا دُعِيتُم" (1بطرس 3: 9).

المقاومة

4-2 هذا كلام واضح. المحبّة هي وصيّة السيد المسيح لنا، وتشمل الأصدقاء والأعداء. وهي دليل واضح لنا إذا ما كنّا في ظروف يجب علينا فيها أن نقاوم الشرّ مهما كان نوعه.

4-2-1 المحبّة هي رؤية وجه الله في كلّ إنسان. كلّ إنسان أخي وأختي. ولكنَّ رؤية وجه الله في كلّ إنسان لا تعني قبول الشرّ أو الاعتداءِ من قِبَلِه، بل تقوم المحبّة بإصلاح الشرّ ووقف الاعتداء.

والظلم الواقع على الشعب الفلسطينيّ، أي الاحتلال الإسرائيليّ، هو شرّ يجب مقاومته. هو شرٌّ وخطيئة يجب مقاومتها وإزالتها. تقع هذه المسؤوليّة أولاً على الفلسطينيّين أنفسهم الواقعين تحت الاحتلال. فالمحبّة المسيحيّة تدعو إلى المقاومة، إلاّ أنّ المحبّة تضع حدًّا للشرّ بسلوكها طرق العدل. ثم تقع المسؤوليّة على الأسرة الدوليّة إذ أصبحت الشرعيّة الدوليّة اليوم هي التي تحكم العلاقات بين الشعوب. وعلى الظالم نفسه أخيرًاً أن يحرّر نفسه هو من الشرّ الذي فيه ومن الظلم الذي أوقعه على غيره.

4-2-2 إذا ما استعرضنا تاريخ الشعوب وجدنا فيها الحروب الكثيرة ومقاومة الحرب بالحرب، والعنف بالعنف. وسار الشعب الفلسطيني في طريق الشعوب ولاسيّما في أوَّل مراحل صراعه مع الاحتلال الإسرائيليّ كما أنّه ناضل نضالاً سلميًّا لاسيّما خلال انتفاضته الأولى. ومع ذلك كلّه، فإنّنا نرى أنّه يجب على الشعوب كلِّها أن تبدأ مسارًا جديدًا في علاقاتها بعضِها مع بعض وفي حلّ نزاعاتها، فتتجنّب طرق القوّة العسكريّة وتلجأ إلى الطرق العادلة. وهذا ينطبق على الشعوب القويّة عسكريًّا أولاً، صاحبةِ القوّة والفارضةِ ظلمَها على الشعوب الضعيفة.

4-2-3 ونقول إنّ خيارنا المسيحيّ في وجه الاحتلال الإسرائيليّ هو المقاومة. فالمقاومة حقّ وواجب على المسيحيّ. ولكنّها المقاومة بحسب منطق المحبّة، فهي مقاومة مبدعة، أي أنّها تجد الطرق الإنسانيّة التي تخاطب إنسانيّة العدوّ نفسه. وإنّ رؤية صورة الله في وجه العدوّ نفسه واتّخاذ مواقف المقاومة في ضوء هذه الرؤية هي الطريقة الفعّالة لوقف الظلم وإجبار الظالم على وضع حدٍّ لاعتدائه، وللوصول إلى الهدف المنشود، أي استرداد الأرض والحريّة والكرامة والاستقلال.

4-2-4 لقد ترك السيد المسيح لنا مثالاً لنقتدي به. علينا أن نقاوم الشرّ، ولكنه علّمنا أن لا نقاوم الشرّ بالشرّ. إنّها وصيّة صعبة، ولا سيّما إذا أصرَّ العدوّ على تجبّره وعلى إنكار حقِّنا في البقاء هنا. هي وصيّة صعبة. ولكنّها الوصيّة. وهي الوحيدة التي تستطيع أن تقف في وجه التصريحات الواضحة من قبل سلطات الاحتلال الرافضةِ لوجودنا وفي وجه الحجج الكثيرة التي تحتجّ بها لاستمرار فرض الاحتلال علينا.

4-2-5 تندرج إذًا المقاومة لشرّ الاحتلال في هذه المحبّة المسيحيّة الرافضة للشرّ والمقوِّمةِ له. هي مقاومة الظلم بكلّ أشكاله، وبالأساليب التي تدخل في منطق المحبّة، فنستثمر كلّ الطاقات في صنع السلام. قد نقاوم بالعصيان المدنيّ. ولا نقاوم بالموت بل باحترام الحياة. إنّنا نكنّ كلّ احترام وتقدير لكلّ من بذل حياته حتى اليوم في سبيل الوطن. ونقول إنّ كلّ مواطن يجب أن يكون مستعدًّا للدفاع عن حياته وحريّته وأرضه.

4-2-6 من هنا، إنّنا نرى أنّ ما تقوم به منظّماتٌ مدنيّة فلسطينيّة ودوليّة غير حكوميّة، وكذلك بعضُ الهيئات الدينيّة، من دعوة الأفراد والمجتمعات والدول إلى مقاطعةٍ اقتصاديّة وتجاريّة لكلّ ما ينتجه الاحتلال وسحب الاستثمارات منه، يندرج في نطاق المقاومة السلميّة. وإنّنا نرى أنَّ حملات المناصرة هذه يجب أن تسير علانيّة وبجدّيّة، معلنةً بصدق وبوضوح أنّ هدفها ليس الانتقام من أحد، بل وضع حدٍّ لشرٍّ قائم، وتحرير الظالم والمظلوم منه، وتحرير الشعبين من مواقف الحكومات الإسرائيليّة المتطرّفة، والوصول بهما إلى العدل والمصالحة. بهذه الروح وبهذا السعي سوف نصل أخيرًا إلى الحلّ المنشود، على غرار ما حصل في جنوب إفريقيا وفي حركات تحرّر كثيرة في العالم.

4-3 بمحبّتنا نتجاوز هذه المظالم لنضع أسس مجتمع جديد لنا ولخصومنا. إنّ مستقبلنا ومستقبلهم واحد، إمّا دائرة عنف نهلك فيها معًا، وإمّا سلام ننعم به سويَّة. فنحن ندعو الإسرائيليّين إلى التخلّي عن ظلمهم لنا، وألاّ يشوّهوا الصورة الحقيقيّة لواقع الاحتلال بادّعاء مقاومة الإرهاب. جذور "الإرهاب" هي ظلم الإنسان وشرّ الاحتلال. هذه أمور يجب أن تزول إن كانت هناك نيّة صادقة لإزالة "الإرهاب". ندعو الإسرائيليّين أن يكونوا شركاء سلام لا شركاء في دائرة عنف لا نهاية لها، فنقاوم الشرّ معًا، شرّ الاحتلال، وشرّ حلقة العنف الجهنّميّة.

5. كلمتنا لإخوتنا

5-1 إنّنا كلنا نقف اليوم أمام طريق مسدود، وأمام مستقبل ينذر بالويلات. وكلمتنا لجميع إخوتنا المسيحيّين هي كلمة أمل وصبر وصمود وجهد جديد في سبيل مستقبل أفضل. كلمة تقول لهم إنّنا في هذه الأرض حاملو رسالة، وسنستمرّ في حملها ولو بين الأشواك والدماء والمشقّات اليوميّة. وإنّنا نضع رجاءنا في الله. هو الذي سيمنحنا الفرج حينما يشاء، ولكنّنا في الوقت نفسه نعمل. معه تعالى وبحسب مشيئته الإلهيّة نعمل، للبناء ومقاومة الشرّ وتقريب ساعة العدل والسلام.

5-2 نقول لهم: هذا زمن توبة، توبة تعيدنا إلى شركة المحبّة مع كلّ متألّم، مع الأسرى، والجرحى والذين أصيبوا بإعاقة مؤقّتة أو دائمة، ومع الأطفال الذين لا يقدرون أن يعيشوا طفولتهم، ومع كلّ من يبكي عزيزًا له. شركة المحبّة تقول للمؤمن بالروح والحقّ: أخي أسير فأنا أسير، أخي دُمِّر منزله فمنزلي هو المدمَّر. أخي قُتِل فأنا المقتول. نحن جزء من التحدّيات وشركاء في كلّ ما حصل ويحصل. وقد نكون، أفرادًا أو رؤساءَ كنيسة، قد صمتنا في حين كان يجب أن يرتفع صوتنا ليندّد بالظلم ويشارك في المعاناة. هو زمن توبة عن الصمت، وعن اللامبالاة، وعن عدم المشاركة، أو لأنّنا لم نتمسّك بشهادتنا في هذه الأرض، فهجرناها، أو لأنّنا لم نفكّر ولم نعمل بما فيه الكفاية في سبيل التوصّل إلى رؤية جديدة موحَّدة، فانقسمنا، ونقضنا بذلك شهادتنا وضعفت كلمتنا. توبة لاهتماماتنا بمؤسسّاتنا في بعض الأحيان على حساب رسالتنا، فلُجِم الصوت النبويّ الذي يمنحه الروح للكنائس.

5-3 ندعو إخوتنا إلى الصمود في زمن الشدّة هذا، كما صمدنا عبر القرون، وعبر تقلّب الدول والحكومات. كونوا صابرين صامدين ممتلئين بالرجاء واملأوا به قلب كلّ أخ لكم مشارك في الشدّة نفسها: "كُونُوا دَائِمًا مُستَعِدّينَ لأن تَرُدُّوا عَلَى مَن يَطلُبُ مِنكُم دَلِيلَ مَا أَنتُم عَلَيهِ مِنَ الرَّجَاءِ" (1بطرس 3: 15). وكونوا ساعين مشاركين في كلّ تضحية تتطلّبها المقاومة مع المحبّة للتغلُّب على المحنة التي نحن فيها.

5-4 عددنا قليل. ولكنّ رسالتنا كبيرة ومهمّة. أرضنا بحاجة مُلِحّة إلى المحبّة. ومحبّتنا هي رسالة للمسلم ولليهوديّ وللعالم.

5-4-1 رسالتنا للمسلمين هي رسالة محبّة وعيش مشترك ودعوةٌ للتخلّص من التعصّب والتطرّف. وهي أيضًا رسالةٌ للعالم أنّ المسلمين ليسوا هدف قتال أو عنوان إرهاب، بل هم هدف سلام وعنوان حوار.

5-4-2 ورسالتنا لليهود تقول لهم : لقد اقتتلنا وما زلنا نقتتل، إلا أنّنا قادرون اليوم وغدًا على المحبّة والعيش معًا، وقادرون على تنظيم حياتنا السياسيّة بكل تعقيداتها بمنطق هذه المحبّة وبقوّتها، بعد إزالة الاحتلال وإقامة العدل.

5-5-3 وكلمة الإيمان تقول لكلّ مندرج في أيّ عمل سياسي: لم يُصنَع الإنسان للكراهيّة. لا يجوز أن تكره. ولا يجوز أن تَقتُل ولا يجوز أن تُقتَل. ثقافة المحبّة هي ثقافة قبول الآخر، وبها تكتمل ذات الإنسان، وتثبت أركان المجتمع.

6. كلمتنا لكنائس العالم

6-1 كلمتنا لكنائس العالم هي أولاً كلمة شكر على التضامن الذي أظهرته لنا قولاً وعملاً وحضورًا بيننا. وهي كلمة إشادة بمواقف العديد من الكنائس والمسيحيّين الداعمين لحقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره. وهي رسالة تضامن مع تلك الكنائس التي عانت بسبب مواقفها المناصرة للحقّ والعدل.

ولكنّها أيضًا نداء إلى التوبة وإعادة النظر في مواقف لاهوتيّة أصوليّة داعمة لمواقف سياسيّة ظالمة للإنسان الفلسطينيّ. هي نداء للوقوف مع المظلوم، ولإبقاء كلمة الله بشرى سارّة للجميع، لا لتحويلها سلاحًا يفتك بالمظلوم. كلمة الله كلمة محبّة لكلّ خليقته. ليس الله حليفًا لأحد على أحد ولا خصمًا مع أحد في وجه أحد، بل هو ربّ الكلّ ومحِبّ الكلّ، وطالب العدل من الكلّ ومعطي وصاياه نفسها للكلّ. ولهذا نحن نريد من الكنائس ألاّ تعمل على إعطاء غطاء لاهوتيّ للظلم الذي نحن فيه أي لخطيئة الاحتلال المفروض علينا. إنّ سؤالنا اليوم لإخوتنا وأخواتنا في كلّ الكنائس هو: هل تقدرون أن تساعدونا على استعادة حرّيّتنا، وبذلك فقط تساعدون الشعبين على التوصّل إلى العدل والسلام والأمن والمحبة؟

6-2 ولفهم الواقع الذي نحن فيه، نقول للكنائس: تَعَالوا وانظُروا. ويقوم دورنا بأن نعرّفكم على حقيقة واقعنا، وبأن نستقبلكم حجّاجًا إلينا مصلّين، حاملينَ رسالة سلام ومحبّة ومصالحة، تتقصّون الحقائق وتكتشفون الإنسان الإسرائيليّ والفلسطينيّ معًا.

6-3 إننا ندين كلّ أشكال العنصريّة، الدينيّة منها والعرقيّة، بما فيها المعاداة للساميّة وكراهية المسلمين (الإسلاموفوبيا)، وندعوكم إلى إدانتها وإلى اتّخاذ موقف حاسم من كلّ مظهر من مظاهرها، ومع ذلك ندعوكم إلى قول كلمة حقّ واتخاذ موقف حقّ من الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة. وكما قلنا سابقًا، إنّنا نرى في المقاطعة وسحب الاستثمارات وسائل لاعنفيّة لتحقيق العدل والسلام والأمن للجميع.

7. كلمتنا للأسرة الدوليّة

7- كلمتنا للأسرة الدوليّة هي مطالبتنا لها بالكفّ عن "الكيل بمكيالَين"، وبتطبيق القرارات الدوليّة ذات الصلة بالقضيّة الفلسطينيّة على جميع الأطراف. لأنّ تطبيق القانون الدوليّ على البعض وعدم تطبيقه على البعض الآخر يفتح الباب على مصراعيه لشريعة الغاب ويبرّر ادّعاء جماعات مسلّحة ودول عديدة بأنّ المجتمع الدوليّ لا يفهم سوى منطق القوّة. ولهذا إنّنا ندعو إلى الاستجابة لما تدعو إليه الهيئات المدنيّة والدينيّة، كما ذكرنا سابقا، والبدء بتطبيق نظام العقوبات على إسرائيل. ونكرّر مرة أخرى، لا للانتقام، بل من أجل عمل جدّيٍّ في سبيل التوصُّل إلى سلام عادل ونهائيّ، ينهي الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة ولسائر الأراضي العربيّة المحتلّة، ويضمن الأمن والسلام للجميع.

8. القيادات الدينيّة اليهوديّة والإسلاميّة

8- نوجّه أخيرا نداءنا إلى القيادات الدينيّة والروحيّة اليهوديّة والإسلاميّة، التي نشترك معها في رؤيتنا للإنسان الذي خلقه الله ومنحه كرامة متساوية. ومن ثمّ فمن واجب كلِّ واحد منّا أن يدافع عن الإنسان المظلوم وعن الكرامة التي منحه إيّاها الله. وبهذا نسمو معًا فوق المواقف السياسيّة التي أخفقت حتى الآن والتي ما زالت تسير بنا في طرق الإخفاق واستمرار المعاناة.

9. دعوتنا لشعبنا الفلسطينيّ وللإسرائيليّين

9-1 هي دعوة لرؤية وجه الله في كلّ خليقته، وتجاوز حدود الخوف أو العرق، لإقامة حوار بنّاء، لا للسير في مناورات لا تنتهي ولا هدف لها سوى إبقاء الحال على ما هي. دعوتنا هي للوصول إلى رؤية واحدة مبنيّة على المساواة والمشاركة لا على الاستعلاء أو إنكار الآخر أو الاعتداء بحجّة الخوف والأمن. نحن نقول إنّ المحبة ممكنة وإنّ الثقة المتبادلة ممكنة. ومن ثمّ إنّ السلام ممكن والمصالحة النهائيّة ممكنة. وبذلك يتحقّق العدل والأمن للجميع.

9-2 مجال التربية أمر مهمّ. يجب أن تعمل المناهج التربويّة على معرفة الآخر كما هو، لا من خلال مرآة المخاصمة أو العداوة أو العصبيّة الدينيّة. لأنّ برامج التربية الدينيّة والإنسانيّة متأثرة اليوم بهذه المخاصمة. حان الوقت إذًا للشروع ببرامج تربية جديدة تُظهِر وجه الله في الآخر، وتقول للجميع إنّنا قادرون أن نحبّ بعضنا بعضًا وأن نبني مستقبلنا معًا في أمن وسلام.

9-3 الدولة الدينيّة، اليهوديّة أو الإسلاميّة، تخنق الدولة وتحصرها في حدود ضيّقة وتجعلها دولة تفضّل مواطنًا على مواطن وتستثني وتفرّق بين مواطنيها. دعوتنا لليهود والمسلمين المتديّنين: لتكن الدولة لكلّ مواطنيها مبنيّة على احترام الدين، ولكن أيضًا على المساواة والعدل والحرّيّة واحترام التعدُّدية، وليس على السيطرة العدديّة أو الدينيّة.

9-4 وإلى القيادات الفلسطينيّة نقول إنّ الانقسامات الداخليّة هي إضعاف لنا وسبب لمزيد من المعاناة. ولا شيء يبرّرها. فلا بدّ من وضع حدٍّ لها، وذلك من أجل الخير العام، وهو أهمّ من مصلحة جميع الأحزاب. وإنّنا نطالب الأسرة الدوليّة بالمساعدة على هذه الوحدة وباحترام إرادة الشعب الفلسطينيّ، كما يعبّر عنها بحرّيته.

9-5 والقدس هي القاعدة الروحيّة لرؤيتنا ولحياتنا كلِّها، إذ هي مدينة جعل الله لها مكانة خاصة في تاريخ البشريّة. فهي المدينة التي تسير إليها جميع الشعوب، وتجتمع فيها على الألفة والمحبّة في حضرة الإله الواحد الأحد، بحسب رؤية النبي أشعيا: "وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأيّامِ أنَّ جَبَلَ بَيتِ الرَّبِّ يُوَطَّدُ في رَأسِ الجِبَالِ وَيَرتَفِعُ فَوقَ التِّلالِ، وَتَجرِي إلَيهِ جَمِيعُ الأُمَمِ... وَيَحكُمُ بَينَ الأُمَمِ، وَيَقضِي لِلشُّعُوبِ الكَثِيرَةِ، فَيَضرِبُونَ سُيُوفَهُم سِكَكًا وَرِمَاحَهُم مَنَاجِلَ، فَلا تَرفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيفًا وَلا يَتَعَلَّمُونَ الحَربَ بَعدَ ذَلِكَ" (أشعيا 2:2- 5). على هذه الرؤية النبويّة، وعلى الشرعيّة الدوليّة في ما يختصّ بالقدس كلّها، فيها اليوم شعبان وثلاث ديانات، يجب أن يرتكز كلّ حلٍّ سياسيّ. وهي أوّل القضايا التي يجب الاتّفاق عليها، لأنّ إقرار قداستها ورسالتها سيكون مصدر إلهام لحلِّ القضية كلِّها، وهي قضية ثقة متبادلة ومقدرةٍ مشترَكة على بناء "أرض جديدة" في أرض الله هذه.

10. رجاؤنا وإيماننا بالله

10- في غياب كلِّ أمل، إنّنا نطلق صرخة أمل. لأنّنا نؤمن بالله، إلهٍ صالح وعادل. ونؤمن أنّ صلاحه سوف ينتصر أخيرًا على شرّ الكراهية والموت الباقي حتى الآن في أرضنا. وسنرى "أرضًا جديدة" و"إنسانًا جديدًا" يسمو بروحه حتى يبلغ محبّة كلّ أخ وأخت له في هذه الأرض.

إلغاء الطائفية السياسية: هل من جديد ؟؟

إلغاء الطائفية السياسية: هل من جديد ؟؟
د. سعود المولى

طُرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية أربع مرات منذ توقيع إتفاق الطائف (1989) وإقرار التعديلات الدستورية (1990)، وحتى المبادرة الأخيرة للرئيس بري (فتكون هي الخامسة). وفي المرات الأربع السابقة كان يتم سحب الموضوع بعد صدور موقف واضح وحاسم من المرجعية الإسلامية الشيعية يومذاك (الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين).
في المرة الأولى صدر مطلب إلغاء الطائفية السياسية عن الرئيس نبيه بري يوم وقفت الكنيسة المارونية ومعها عدد كبير من اللبنانيين (المسلمين خصوصاً في بيروت) موقف مقاطعة انتخابات صيف 1992...يومها صدر كلام للشيخ محمد مهدي شمس الدين "يدعو السياسيين والقياديين الى أن يباشروا الأمور برفق والا يدفعوا الأمور نحو أزمة في ما يتعلق بالاختيارات الكبرى في شان الدولة والمجتمع"..
في المرة الثانية صدر الكلام عن الوزير عبدالله الأمين إثر نداء السينودس الشهير (14 كانون الأول 1995) الذي دعا (في ما دعا اليه) الى قبول "التعددية الثقافية والديمقراطية التوافقية".. يومها ثارت ثائرة الأصولية الشيعية واتهمت المسلمين الذين شاركوا كضيوف في أعمال السينودوس بأنهم وافقوا على أمر جلل...وجرى اتهامنا على المنابر بأن سكوتنا عن مبدأي التعددية الثقافية والديمقراطية التوافقية هو قبول بالفدرالية والكانتونات (والعياذ بالله؟؟)..هذا طبعاً من غير أن يكون لنا ناقة أو جمل (كضيوف مسلمين مراقبين حضرنا كل الجلسات) في ما صدر عن السينودوس.. وقبل أن يستفحل الفرز ما بين مؤيد ومعارض لمطلب إلغاء الطائفية السياسية كان الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى سحب الموضوع من التداول..
في المرة الثالثة صدر الكلام عن الرئيس نبيه بري مجدداً إثر مشاركة وزراء "أمل" في الموافقة على مشروع الزواج المدني الذي طرحه الرئيس الياس الهراوي وعارضه الرئيس رفيق الحريري (16 شباط 1998)... يومها صدرت مواقف وتصريحات عنيفة عن المراجع الدينية الإسلامية السنية وصلت إلى حد تكفير المسلمين الشيعة الذين صوّتوا مع المشروع. وقد اضطر الرئيس بري من ناحيته إلى تغطية وزرائه بطرح إلغاء الطائفية السياسية كمقدمة لا بد منها لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. وهو يقصد بذلك "إحراج" المشروع "لإخراجه"...فأخرجه فعلاً بلباقته المعهودة.. ولكن سبق ذلك أيضاً موقف واضح للشيخ شمس الدين يدعو الى سحب الموضوع من التداول..
في المرة الرابعة انطلق الكلام عن الدعوة إلى تطبيق المادة 95 من الدستور من النائب الدكتور مروان فارس، وذلك إثر صدور نداء المطارنة الموارنة الشهير (20 أيلول 2000)...وقد حاول النائب فارس يومها جمع تواقيع على عريضة نيابية وما لبثت المحاولة أن انهارت وطواها الصمت ما أوحى يومها (ربما من غير قصد) بأن المسألة كلها لم تتعدّ التهويل والإستعراض وليس المبدئية والجدية في الطرح... وكما في المرتين السابقتين كان للإمام شمس الدين الموقف نفسه الداعي إلى سحب الموضوع من التداول مع دخول عنصر جديد تمثل في طرحه لموقف جديد ومتقدم كان الأول من نوعه بالنسبة إلى القيادة الإسلامية ، والشيعية منها تحديداً.
المهم أن طرح إلغاء الطائفية السياسية كان يتم في مناسبات سياسية معينة، وهو كان يتكرر غالباً كلما صدر موقف مسيحي يطالب بالتوازن والمشاركة أو يطرح قضية خلافية ما.
واليوم ومع إكتمال عقد السنوات العشرين على دستور الطائف، ومع نجاح المصالحات الداخلية الأخيرة والتهدئة وتشكيل الحكومة الجديدة واجتياز كل قطوعاتها (بما فيها قطوع البيان الوزاري)، عاد الكلام عن إلغاء الطائفية السياسية فجأة ، وربط البعض بينه وبين موقف رئيس الجمهورية وبعض القيادات المسيحية من مسألة إعادة بعض الصلاحيات الى الرئيس (ما يعني تعديل الطائف).. وربط آخرون بينه وبين النقاش الساخن حول بند المقاومة في لجنة صياغة البيان الوزاري...في حين دافع المسؤولون في حركة أمل عن موقف رئيسهم في اتجاهين اثنين: الأول تأكيد العمل على إلغاء الطائفية السياسية كونها الشر المطلق، والثاني القول بأن الرئيس بري دعا فقط الى تشكيل الهيئة الوطنية المنصوص عنها في الطائف..وتكرر هذا الدفاع المتناقض في جلسات نيل الحكومة الثقة في البرلمان...في حين دعا المسؤولون في حزب الله الى إلغاء الطائفية السياسية من جهة وإلى الديمقراطية التوافقية من جهة أخرى ؟ وعلى العموم فقد كشفت المسألة عن حقيقة مخيفة وهي أن لا أحداً (لا في السلطة بجناحيها 8 و14 آ ذار، ولا خارج السلطة في ما يسمى المجتمع المدني ) يملك مشروعاً فعلياً واضحأً لكيفية "تجاوز الطائفية السياسية" (وهذا تعبير أفضل من الإلغاء)، ولا عن كيفية "الحفاظ على الديمقراطية التوافقية" (بحسب وثيقة حزب الله الأخيرة) وعلى "الجمهورية الديمقراطية البرلمانية" (بحسب وثيقة الطائف) في آن معاً...ولا عن أية خطط مرحلية لازالتها من النفوس أو النصوص...
والحال أن المسألة المطروحة أمام العقلاء هي تطوير النظام السياسي اللبناني.. وهذا بلا شك عمل تاريخي لا تقوم به أو تفرضه نخبة حزبية أو فئة أو طائفة من طوائف اللبنانيين..
إن التغيير، أي تغيير، هو من عمل الناس أصحاب المصلحة فيه، وبناء على إقتناعاتهم وخياراتهم التي تتكون لديهم من خلال الثقة والأمان (وهذا معنى إلغاء الطائفية السياسية من النفوس)، وبناء على عمل اجتهادي دستوري يقوم به أهل الدراية والاختصاص لصياغة أطر نظرية وعملية لهذا التغيير (وهذا معنى الإلغاء من النصوص)...فليس التغيير أداة لتأكيد عقيدة ما، أو لإثبات نظرية ما، خارج التاريخ، أو فوق الوطن والناس والمجتمع. كما أنه ليس فزاعة لإخافة الشريك الآخر في الوطن كلما عنّ ذلك على البال....وليس البديل أيضاً تأبيد أية صيغة وتركها دون تمحيص ومراجعة وإعادة نظر... ولكننا وقد شبعنا تجارب على حساب الناس ودماء الناس ومصالح الناس، نحن الذين عشنا ووعينا دروس التجربة الشيوعية في الإتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا (السابقين) أو الجمهوريات الديمقراطية الشعبية، أو حتى تجربة اليمن الجنوبية الشعبية ، ناهيك عن التجارب القومية في الجماهيرية الليبية أو دول البعث أو غيرها، لا نحب المغامرات ولا نحبّذ الابتزاز والمقايضات ... من هنا كان قول الإمام شمس الدين مراراً وتكراراً بأن "التاجر حين يتاجر فإنما هو يتاجر بماله وبضاعته ، أو ربما ببعض مال الناس ، أما السياسي الحزبي فإنه عندما يتاجر فإنه يتاجر بدماء الناس وبكرامتهم وحريتهم ، فهؤلاء هم من يدفع الثمن في حين يتربع السياسيون الحزبيون على عرش السلطة".. وفي قضايا التغيير والتطوير السياسيين ينبغي التركيز في ما يخص وضعنا الحالي في لبنان على تكوين اقتناعات حقيقية لقبول بعضنا البعض واحترام خيارات بعضنا البعض على قاعدة تنفيذ إتفاق الطائف بأمانة وبنحو يحقق التمثيل الصحيح والمشاركة الفعلية والقوية في صنع القرار السياسي والإقتصادي والتنموي.
وقد صاغ الإمام شمس الدين موقفه الجديد (يومها) بناء على هذا التقدير حتى توصل إلى إقتناع مفاده أن المادة 95 هي من "الأخطاء التي أرتكبت في مفاوضات الطائف" لجهة توقيت إلغاء الطائفية السياسية بعد إنتخاب أول مجلس نيابي على أساس المناصفة... ويقول الإمام إنّ "هذا التوقيت كان مبنياً على التسرع، وهو توقيت خطأ"." (راجع تصريحه في صحف الثلاثاء 3/10/2000). وفي التصريح نفسه يذهب الإمام شمس الدين إلى القول أن "النظام السياسي الذي أقره اتفاق الطائف يشكل عنصر إستقرار للبنان إذا استخدم بعدالة وبروح إنسانية، فهو يمثل قوة تماسك في لبنان، والأفضل ألا نزج لبنان الآن في وضع تنظيمي يخلق شكوكاً وإرباكاً".

مقومات الموقف الشيعي الجديد
لم يحمل أحد في لبنان مطلب إلغاء الطائفية السياسية كما حمله الشيعة إلى حد أنه أصبح عنواناً لحركتهم السياسية، كما كانت "المشاركة" عنواناً للحركة السياسية للطائفة السنية. صحيح أن المطلب ورد على لسان كل الأطراف والفئات، منذ البيان الوزاري الأول للشهيد الرئيس رياض الصلح، وأنه تحول قضية على يد الشهيد المعلّم كمال جنبلاط ، إلا ان مرحلة الصعود السياسي للطائفة الشيعية بقيادة الإمام السيد موسى الصدر هي التي بلورت هذا المطلب كتعبير عن طموح "المحرومين" في المساواة والعدالة وفي التمثيل الصحيح المتناسب مع وزنهم العددي وكفاياتهم... ويكفي هنا أن نتذكر أول مؤتمر صحافي للسيد الصدر عام 1966 وفيه عرض الإجحاف اللاحق بالطائفة الشيعية في وظائف الدولة وفي موازنة الحكومات المتعاقبة... حتى أن مقولة الحرمان تلازمت مع مطلب إلغاء الطائفية السياسية... هذا التماهي هو الذي جعل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى يتقدم صفوف المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية وذلك منذ إنتخاب الإمام الصدر رئيساً (1969) وحتى المذكرة الشهيرة إبان الأحداث الفتنة (1977)... حتى إن ورود الصيغة الجديدة للمادة 95 في التعديلات الدستورية بعد الطائف اعتبر وقتها إنتصاراً للشيعة....
وفي ظل أجواء كهذه كان من الطبيعي أن يُصدم أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حين فاجأهم الإمام شمس الدين في جلسة خاصة دعا إليها في حزيران 2000، بإبلاغهم رسمياً تحفظه على مطلب إلغاء الطائفية السياسية. سبق ذلك قيام وفد من قيادتي "حركة أمل" و"حزب الله" (كل على حدة) بزيارة الإمام شمس الدين للإستفسار منه عن موقفه بعد خطابه الشهير في إفتتاح مؤتمر "التوترات الدينية" الذي نظّمه الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي ومجلس كنائس الشرق الأوسط في 9 آذار 2000.
ولم يكتف الإمام شمس الدين بطلب تجميد السعي لإلغاء الطائفية السياسية أو سحب المشروع من التداول لأسباب تكتيكية تتعلق بالإستقطاب التنابذي الذي يثيره طرحه، وإنما تعدى ذلك إلى المطالبة بالعدول نهائياً عنه.
وخلاصة تفكير الإمام شمس الدين في هذا المجال هي أن لبنان أنجز برغم كل تشكيك وإتهام "أفضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك، وأن الواجب، الديني أولاً، والسياسي ثانياً، يفرض المحافظة عليها وصونها وترسيخها".
أكثر من هذا، فقد قال الإمام شمس الدين بأن "الأطروحة الحارة والساطعة والمتوهجة التي سادت في العقدين الأخيرين عن سعي المجتمع اللبناني إلى إلغاء نظامه القائم فعلاً على ما يسمى نظام الطائفية السياسية، هذه الأطروحة أنا أدعو الآن ليس فقط إلى تجميدها بل إلى العدول عنها لأنني أعتقد بأن الصيغة اللبنانية هي إنجاز من أعظم إنجازات الروح والعقل في لبنان، وقد تكون نموذجاً ينبغي أن يستفيد منه الآخرون الذين يعيشون في مجتمعات فيها نسبة كبيرة أو صغيرة من التعددية"..(من كلامه في مؤتمر الفريق العربي للحوار،9 آذار 2000).
على أن الموقف النهائي للشيخ شمس الدين ورد في وصاياه الأخيرة قبل وفاته المفاجئة في 10 كانون الثاني 2001.. ففي الوصايا (دار النهار،الطبعة الأولى،ايلول 2002) يقول شمس الدين أنه بعد "التبصّر العميق في طبيعة الاجتماع اللبناني وفي المجموعات المكوّنة للمجتمع اللبناني، وفي طبيعة النظام الديمقراطي البرلماني، الذي يتميّز بخصوصيات معيّنة نتيجة للتنوع الطائفي(...)وتبصرّت(...)تبيّن لي اأن إلغاء الطائفية السياسية(...) يحمل مغامرة كبرى قد تهدد مصير لبنان، أوعلى الأقل ستهدد استقرار لبنان، وقد تخلق ظروفا للاستقواء بالخارج من هنا ومن هناك، ولتدخل القوى الاجنبية من هنا ومن هناك، ولذلك فإني أوصي الشيعة خصوصاً، وجميع اللبنانيين(....) أن يرفعوا من العمل السياسي ومن الفكر السياسي مشروع إلغاء الطائفية السياسية لا بمعنى أنه يحرم البحث فيه والسعي اليه، ولكن هو من المهمات المستقبلية البعيدة وقد يحتاج الى عشرات السنين لينضج بحسب نضج تطور الاجتماع اللبناني وتطورات المحيط العربي بلبنان(...) وأعتقد أن صيغة الطائف هي صيغة نموذجية في هذا الشأن، والنظام السياسي الذي بني عليها هو نظام سليم لولا ما شابه من بعض الاخطاء سواء في صياغة اتفاق الطائف وما تفرع عنه أو في مجال التطبيق...".
هذا الكلام صدم ويصدم نهجاً في العمل السياسي كان يعتبر مطلب إلغاء الطائفية السياسية من ثوابت الموقف الوطني ومن مسلمات الوعي والإنتماء الديمقراطي والمدني... فجاء الإمام شمس الدين ليقول بأنه ليس من شعارات عمل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (أو الطائفة الشيعية) السعي إلى إلغاء الطائفية السياسية بل إلى ترشيدها أو إلى ترسيخها على أسس رشيدة... وهو بذلك يريد القول بأن الطائفية السياسية التي هي نظام لبنان أو هي الصيغة السياسية لتوافقه الديمقراطي، هي عنصر استقرار وعنصر قوة وتماسك للبنان إذا "إستخدمت بعدالة وبروح إنسانية" أي إذا كانت "رشيدة"..
وفي حديث خاص قال الإمام شمس الدين أنه يرجح أن تبقى هذه الصيغة هي نظام لبنان. وهو كان يدعو إلى عدم تعريضها لإنتهاكات قد تجعلنا نأسف عليها.وردد في هذا المجال قول الشاعر: "رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه"... وكم.. وكم.. مرت علينا من أيام، بكينا فيها ومنها وها نحن الآن نبكي عليها...
في مراجعاته لموضوع الطائفية السياسية وصيغة النظام السياسي اللبناني دعا الامام شمس الدين الى جعل الطائف محوراً لأي عمل إصلاحي تطويري، وإلى تطبيق الطائف بالكامل نصاً وروحاً، لا بل هو ذهب الى القول بأنه لا يوجد صيغة افضل من الطائف للحكم في لبنان..

تطوير الصيغة اللبنانية
والفكرة الرئيسية هنا تنبع من النبع نفسه الذي عبّرت عنه رسالة الإرشاد الرسولي (1998)، والمتعلقة بكون لبنان أكثر من وطن، إنه نموذج ورسالة حضارية في آن واحد. وكان سبق للإمام شمس الدين أن صرح مراراً بأن "لبنان لا معنى له دون مسيحييه، ولا معنى له دون مسلميه، إن معناه يكمن في مسلميه ومسيحييه المتعايشين معاً المتحاورين في حوار الحياة والذين أنجزوا عبر تاريخ عيشهم المشترك تلك الصيغة السياسية الفريدة في العالم العربي".
وعلى هذا فإن الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية لم تعد بعد كلام الامام شمس الدين تقدّم أي إبداع فكري أو إجتهاد نظري للبناء عليه.. وصار المطلوب اليوم من القوى الديمقراطية والمدنية الحقيقية أكثر من مجرد تكرار المكرر الممل.. المطلوب صوغ إطار نظري لمقوّمات تطوير الصيغة اللبنانية ولمبادئ النظر إلى الكيان والدولة والمجتمع في لبنان ، هنا والآن..
لقد كان بناء الدولة في لبنان منسجماً إلى حد كبير مع طبيعة المجتمع اللبناني وخياراته الأساسية في مطلع القرن العشرين.. ومن هذا الانسجام بالضبط استمد النظام اللبناني قوته الأساسية برغم وجوده عند تقاطع الأهواء والتيارات الإقليمية والدولية المختلفة التي كان كل منها يجد في الداخل اللبناني صدى قوياً نظراً لتعقد هذا الداخل وانفتاحه في آن معاً.
ومنذ تأسيس الكيان اللبناني (إعلان لبنان الكبير 1920 ودستور1926 ثم ميثاق 1943)، برز إلى الوجود اتجاهان اثنان تنازعا الكلام حول التجربة اللبنانية :
1- اتجاه قانوني حداثوي يدعو إلى بناء "دولة حديثة " ، دولة "القانون والمؤسسات"، ومجتمع مدني – سياسي حديث ، يتجاوز "المجتمع الأهلي الطائفي العشائري المناطقي"، وهو ينظر إلى تلك الروابط على أنها "عصبيات متخلفة" تشد المجتمع اللبناني إلى الوراء وتمنع تطوره وتعيق نموه ناهيك عن كونها أصل الحروب الدورية...
2- إتجاه طائفي – ميثاقي اعتبر التزام ميثاق 1943 هو المدخل الأساس لقيام دولة من نوع جديد أسماها الصيغة اللبنانية المميزة تقوم على التوفيق بين الاعتبارات الطائفية والأهلية ، وبين اعتبارات المواطنة والمجتمع الحديث.
وقد جاء الطائف كتسوية ليجمع بين الاتجاهين، فكان صيغة ميثاقية- دستورية لا شبيه لها في أي مكان. ففي مقدمة الدستور مثلاً يرد أن "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على... المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل"...وعلى أن "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية"...ثم نفس المقدمة تختم بالقول بأنه "لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"..هنا كان ينبغي ومنذ الطائف أن تنصب اهتمامات وتطويرات كل من يسعى الى التغيير..(تحية تقدير واجبة الى أعمال المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم وخصوصاً الدكتور أنطوان مسرّة)...
وحين دعا الشيخ شمس الدين الى "دولة لا دين لها" (منذ شباط 1983)، فإنما كان يدعو أي الاعتراف بالطوائفية من جهة (الميثاق التوافقي) والى الفصل بين الطوائف والدولة من جهة أخرى (الدستور المدني أوالدولة التي لا دين لها)... فبحسب اجتهادات الامام شمس الدين ، فإن الدولة (أية دولة) هي في جوهرها جهاز إدارة وضبط للنشاطات والمصالح المشتركة في المجتمع، وليس لها غاية تستمد منها شرعيتها... فالشرعية التي تمتلكها هي شرعية وظيفية محضة. ولا يمكن الحكم على هذه الدولة الا من خلال إعتماد مقاييس الفعالية والمردودية للنظر في نتائج إدارتها للنشاطات المشتركة في مجتمعها. وهذا هو معنى فصل الطوائف عن الدولة وجعلها جهاز إدارة للمصالح العامة وللحقوق والواجبات.(ترد هذه المقاطع في الوثيقة التأسيسية للمؤتمر الدائم للحوار اللبناني،1992).
واقع الحال أن الدولة في مجتمعاتنا العربية أخفقت في الاتجاهين، فانفصلت عن المجتمع في ميداني المصالح العملية والغايات البعيدة، وتحوّلت إلى جسم يبدو دخيلاً، تقوم علاقته بالمجتمع على نصاب من الغربة والتنازع والغلبة. وفي حين قدّم الغرب في الماضي نموذج الدولة القويّة المكيِّفة لمجتمعها، وهو يقدّم اليوم نموذج الدولة الفدرالية اللامركزية المحققة للتنوع ضمن الوحدة، قدّمت تجاربنا العربية الحديثة نموذج الدولة الهجينة العاجزة والسلطة الاستبدادية الطائفية العشائرية في آن معاً..
ولئن بدا للبعض أن التعدد في المجتمع اللبناني حالة خاصة ينبغي تجاوزها لصالح "الدولة الحديثة" ، اللاطائفية ، العلمانية ، القوية ، القادرة على تذويب الاختلافات وتحقيق الانصهار الوطني ، فإن مسيرة العالم اليوم باتجاه اعتبار التنوع والتعدد ثروة حضارية (حسب قول الإمام موسى الصدر)، خصوصاً في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها وعن معنى ومضمون لهويتها ، قد أعاد الاعتبار إلى النقاش حول العلاقة بين الطائفية والتعدد الطائفي وبين صورة الدولة الحديثة المرتجاة .
وبالإجمال فإنه ينبغي الاعتراف أولاً بأنه لا يمكن في أي حال من الأحوال فصل الدين عن السياسة ، لا في لبنان ولا في أي مجتمع آخر. فالمسلمون والمسيحيون، يعيشون معاً في مجتمع سياسي، ولا بد أن يتحركوا في هذا المجتمع إنطلاقاً من أفكارهم ونصوصهم وتصوراتهم للعالم والكون والإنسان والمجتمع ، وهذه كلها أمور تختلط بالسياسة أو تؤثر فيها. ولعل هذا ما قصده المصلحون المجددون أمثال السيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في كلامهم عن دور عالم الدين في المجتمع وفي السياسة باعتبارها من شؤون المجتمع وليس من شؤون الدولة وحدها...والفصل المدعى بين الدين والسياسة ليس إلا فصلاً صورياً أو شكلياً، حصل في مرحلة من التاريخ، وتطبيقه الصارم لا يؤدي إلا الى مزيد من القمع ( قمع المجتمع ونفيه وتغريبه من جانب نخب الدولة، مثال تجربة الأنظمة العربية مع الحالة الاسلامية ومع المجتمع عموماً) أو الى تعسف في إستخدام القانون المدني (العلماني) (أنظر مثال تركيا الكمالية والنظام الإيرني الشاهنشاهي كما النظام الأفغاني في عشرينات القرن العشرين والنظام التونسي في أيامنا هذه، وأنظر أيضاً قضية مواجهة الحجاب في فرنسا اليوم من جانب بعض العلمانيين "المتعصبين")..وبدل الدعوة إلى الفصل، دعا الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ومعه كبار المفكرين المسلمين أمثال الجزائري مالك بن نبي والعراقي النجفي حسين النائيني والإيراني مهدي بازركان والعراقي الكردي فاضل رسول والمصري الإمام محمد عبده والسوداني حسن الترابي والتونسي راشد الغنوشي والمغربي علال الفاسي، إلى التمييز بين المستويين، بين السياسة والدين (وإلى الإنسجام بينهما كما في وثيقة الوفاق اللبناني في الطائف 1989، وهذا البند لم يدخل في التعديلات الدستورية). ذلك "أن حداً فاصلاً دقيقاً ومرناً ومتحركاً يقوم بينهما، يمكن أن تعبّر عنه المعادلة الآتية: لا يمكن أن يتحول الدين سياسة، وإلا فقد جوهره الفطري الإنساني، وغابت قيمه العرفانية والأخلاقية، وضاعت ديناميته وحركتيه التي تتجاوز كل سياسة وضعية وذلك بفعل الضغط الإجتماعي وإحتمال الإنحراف البشري، ولا يمكن أن تتحول السياسة ديناً وإلا فقدت مبررها كسياسة مدنية وأصبحت أسيرة نص من النصوص أو مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف" (بحسب وجيه كوثراني).....
الأصل الذي تعلمناه من السيد موسى الصدر أنه ينبغي ألا ينعزل الدين عن هموم المجتمع ومشاكله وقضاياه، بل أن يكون له كلمة ومشاركة في السياسة والعمل السياسي..
والأصل الذي تعلمناه من محمد مهدي شمس الدين أنه يجب على السياسة أن تستلهم الدين في أخلاقيته وقيمه في حركة أسماها التقوى الحوارية : تقوى الله وتقوى الأخوّة الإنسانية، وتقوى الشعب والأمة..وأن لا يتدخل الدين في الدولة التي هي جهاز وظيفي لخدمة المصالح المشتركة أو الصالح العام... فالدولة بحسب شمس الدين هي مؤسسة من مؤسسات المجتمع ، وإن كانت المؤسسة الكبرى بامتياز أو مؤسسة المؤسسات. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل اختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه اوإلغائياً له. وهذا المعنى يتأكد في المجتمعات التي لم تستطع الدولة فيها تفكيك النسيج الاجتماعي وإرساء علاقة بين أفراد وجهاز دولة متضخّم السطوة على الدوام. ولذا فإن الدولة المطلوبة هنا هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، في معادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحدّدها المجتمع؛ فلا الدولة وصيّة على المجتمع تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على أن يحلّ محلها.
والأصل الذي تعلمناه من التجربة الايرانية انه يمكن تنظيم "الحد الفاصل بين الدين والسياسة"، (عنوان كتاب مهدي بازركان- ترجمه ونشره فاضل رسول، دار الكلمة، بيروت، 1979)..
أما الدولة فهي مجال آخر (ليس هو الدين وليس هو وحده السياسة) لا يجوز أن يرتهن للقيد الطائفي أو العشائري أو المناطقي.. الدولة ولاية من الولايات وليست الولاية الوحيدة وغن كانت الأكبر... والأصل الاسلامي هو أن لا تستبد الدولة بالولايات (كما يشرح بصورة رائعة عادل عبد المهدي في كتابه: الثوابت والمتغيرات في الاجتماع العربي الاسلامي)، وأن لا يتشتت المجتمع دون حكومة (بالمعنى الاسلامي)..أي أن لا يطغى طرف الدولة بنخبها، وايديولوجية نخبها، على المجتمع (مثال الدول العربية الاستبدادية وعراق صدام حسين تحديداً) وأن لا يخترق المجتمع بما يختزنه من تعددية وتنوع وصراعات ومصالح وحدة الدولة فيفككها إلى زعامات ومراكز طائفية ومذهبية وجهوية وفئوية (مثال لبنان).هنا ينبغي أن تقدم لنا التجربة اللبنانية (كما العراقية اليوم) بكل عجرها وبجرها، صياغات نظرية عن التوازن بين الدولة والمجتمع يقوم على التعددية واللامركزية وعلى الانسجام بين الدين والسياسة في خدمة الانسان، وعلى تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، وإحلال التناغم والانسجام بينهما، على أسس العدالة والكرامة والمساواة والحرية والديمقراطية للجميع وبين الجميع.وفي هذا فليتنافس المتنافسون.

الدين والرقابة: مداخلة سعود المولى في ندوة سكايز

الدين والرقابة: مداخلة سعود المولى في ندوة سكايز
السبت 30 كانون الثاني 2010
مقدمة:
في كتابه نظام الخطاب، يقول ميشال فوكو:" نحن نعلم انه ليس لنا الحق في أن نقول كل شيء"..
أطلت علينا الألفية الثالثة للميلاد بخطاب جنائزي ُيمجد منطق النهايات في كل شيء.. خطاب يبتلع الخصوصيات الثقافية تحت عنوان ما هو عالمي، ويؤجج في الآن نفسه أبشع ما في الخصوصيات القبلية والمذهبية والطائفية والاثنية والعشائرية من تفتيت وتفسيخ ووحشية..
وفي الوقت الذي صرنا فيه نستطيع ان تقول كل شيء أمسينا لا نقول شيئاً... تعولمت وسائل الاتصال والتواصل حتى بتنا في شك إن كان الإعلام حقاً أداة اتصال ووسيلة نقل وإيصال ولغة حوار وتواصل ومنبر معرفة حيادية موضوعية صادقة أمينة؟
وهل هدف الإعلام، أي إعلام، في عصرنا الراهن هو الحقيقة ؟ وهل وسيلته هي الصدق والخبر الصحيح والمعلومة المجرّدة عن أية غاية؟
ليس عندي أدنى شك من أن جوابنا على هذه التساؤلات هو جواب سلبي. لماذا؟
لأن واقع الإعلام، نهجه وقيَمه وآليات تطوره، قوانينه ونظمه ومؤسساته ووسائله، تجسداته المباشرة وغير المباشرة، هو واقع القوة المادية الطاغية المسيطرة. الإعلام الحديث ليس تطويرا ً للإعلام القديم الذي عرفته الشعوب، انه انقطاع معرفي يندرج في سياق القطع الحداثوي مع مسيرة الفطرة الانسانية، انه عكس الفطرة ونقيضها لا بل هو أداة تدميرها كلياً..
وهنا تكمن إشكالية العلاقة بين الحرية والمسؤولية، أي بين حرية الفرد ومسؤولية الجماعة وهي إشكالية لم تجد لها حلاً حتى في أعتى الديمقراطيات الغربية حريةً...
غير أن الموت الذي سبق أن أعلنه نيتشه (موت الإله) وفوكو( موت الإنسان) ليس انسداداً كونياً، بل هو صيحة الحرية للفكر والنقد ويقظتها إذ هي لا تبدأ إلا لحظة تقويض استبداد ونرجسية ووحدانية فكر ما ، أو ثقافة ما، أو خطاب ما ، في كل زمان ومكان.. ومنذ قال سارتر بأن "الآخر هو الجحيم" صار سؤال الانسان اليوم لا ينفصل عن سؤال التعدد والاختلاف، أي عن سؤال الآخر: الشبيه والمختلف ، عقلاً أم جسداً، ما يضعنا أمام مشكلة الانساني بين الوحدة والتعدد، وأمام قضية التنوع والاختلاف، وما ينتج عنهما من صدام وعنف أو من تواصل وتبادل وتفاعل.. ومن هنا موقعية حرية التعبير والحرية عموماً .. ومن هنا ضرورة الإعلاء دائماً من شأن الجرأة على النقد والتفكير وعلى السؤال الدائم والتمحيص الدقيق والشك بالمطلقات وبالثنائيات والتقابلات، والجرأة على نقد الايديولوجيات القائمة على قناعات جاهزة وعلى إجابات معلبة.. ان العقل والفكر الحر يستضيء بالشك في المألوف والسعي الدائم الى استكشاف الاسئلة، والمحاكمة النقدية للموجود، والتساؤل عما هو قائم، وعدم الوثوق الأعمى بنتائج وحقائق يقينية.. وهل يمكن تخيل الإبداع الديني والأدبي والفني والثقافي وحتى السياسي من دون عقل نقدي وفكر حر يقظ منفتح على تعدد الأسئلة وعلى النسبية الثقافية..
وهل يمكن أن يكون هناك من مثقف حقيقي لا يحمل صفات وخصائص العقل النقدي والتفكير الحر: أي أن يكون صادقاً مع نفسه، لا يقبل استغلال عقله أو موقفه أو نقده في أي اتجاه مخالف لقناعاته، وأن يكون كما قال المتنبي "على قلق دائم كأن الريح تحتي" (أي السؤال)..
يقول كزينوفون"الناس يفطنون دوماً لأخطاء الناس ويغفلون غفلة مطبقة عن أخطائهم هم" ..
أما في القرآن الكريم فإن الله "لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"..
وفي الانجيل أن "الحقيقة تحرر"..
فكيف يستقيم ذلك مع الرقابة على الفكر وعلى القول والتعبير؟؟
1= أنواع الرقابات المختلفة والتداخل فيما بينها
ليست الرقابة التي تخضع لها المجتمعات العربية في الوقت الراهن محصورة بالرقابة الحكومية الفوقية أو الرسمية والتي تتحكم في وسائل الإعلام والمعلومات وترسم سياسات تلك الوسائل أو تضع لها الحدود والخطوط الحمر والضوابط وصولاً الى القتل وشتى أنواع القمع... فالرقابة لا بل كم الأفواه هو مما يتناسب مع مصالح الحكومات ومع هدف الدفاع عن بقاء النخب الحاكمة في الحكم.
غير أن هناك أنواعا أخرى من الرقابات "غير الحكومية" أو غير الرسمية، كالرقابة الاجتماعية والثقافية والدينية، وكلها تتحالف معا لتخفض من سقف التعبير في هذه المجتمعات ولتدفعها إلى الوراء بحيث صارت تتذيل قائمة مجتمعات العالم المعاصر في المجال الخاص بحرية التعبير .وليس هناك أدنى شك من كون الرقابة الدينية هي الأخطر والأقسى طالما أن الاستبداد الديني هو أبشع أنواع الاستبداد على رأي مشايخنا الكبار عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وحسين النائيني ومحمد مهدي شمس الدين..
وحتى نقطع الطريق على الذين قد يقولون إننا نطرح رؤية نقدية من منطلقات مقارنة مع المجتمعات الغربية، فإننا سنركز في كلمتنا على زاوية مقارنة مختلفة تماماً إذ سنقول بأن المجتمعات العربية الاسلامية عرفت درجة عالية جداً من الانفتاح والحوار والتسامح والحرية خلال العصور الذهبية لرقيها، في حين أن حاضرها الفقير البائس يتسم بالتوتر والانغلاق والخشية من الآخر ومن الرأي الآخر إلى درجة فاضحة ، ونحن دخلنا مرحلة من الاستبداد والحجر على الفكر شبيهة بالمرحلة السلبية للمسيحية في القرون الوسطى.
يكفي أن نتذكر مساجلات وجدالات المسلمين بين أشاعرة ومعتزلة ، وبين شيعة وخوارج، وبين مذاهب وفرق تتحاور في المساجد والأسواق والبيوت والساحات وحتى أروقة الحكم في دمشق وبغداد والقاهرة..ويكفي على كل حال أن نقرأ أقوال المعتزلة في خلق القرآن وفي العدل والتوحيد لنرى كم هو البون شاسع بين أمسنا وحاضرنا..فنحن لا نملك اليوم إمكانية التعبير عن رأي أقل بكثير من جرأة ووضوح رأي المعتزلة في خلق القرآن... فكيف بكلام ابن رشد وابن سينا والفارابي والطوسي الخ...
والاطروحة التي نقدمها تقول بأن جوهر الثقافة الإسلامية كما تُعبّر عنه النصوص التأسيسية (القرآن والسنة) تسامحي ومنفتح على الآخر، بخلاف ثقافات اخرى ترفض الآخر ولا تتسامح معه. لكن القرون الأخيرة التي مر بها العالم الإسلامي، والتي تميزت بالاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي، وأورثتنا تخلفاً رهيباً، شهدت اندفاع المجتمعات الإسلامية بعيداً عن جوهر ثقافتها الأصلي، وغرست فيها هذا التوتر الذي يكاد يقترب من الانهيار العصبي لا بل من انفصام الشخصية الذي يحدث على مستوى الأفراد..

2= دور الفتوى في زيادة الرقابة في المجتمعات المسلمة
وما يميّز مجتمعاتنا على كل حال هو صعود دور رجال الدين في رسم حدود الحياة العامة وتعبيراتها المختلفة..وترافق ذلك مع تزايد دور "الفتوى" والاستغلال السياسي السيئ لها من قبل بعض العلماء والسياسيين بشكل تم إخراجها بسببه عن المسار الفقهي والديني الذي تنتمي إليه. ويمكن اعطاء امثلة عن هذا الاستغلال، في معركة المسلمين مع كتاب سلمان رشدي، "آيات شيطانية"، والذي أدى إلى خلق انطباع مشوه حول فكرة ولفظة "الفتوى" عند الرأي العام الغربي، بحيث صارت تدل على "الحكم بالموت"، وهو الحكم الذي تضمنته فتوى تكفير سلمان رشدي في شباط 1988.
وإذا جمعت إلى تلك الفتوى فتاوى أخرى أصدرها أصوليون متعصبون ومتطرفون، سواء بتكفير هذا الأديب أو ذاك، فإن فكرة الفتوى، التي هي أصلا فكرة تنويرية لعموم المسلمين قد تم تشويهها بطريقة فظة، وأصبحت سيفا رقابيا مسلطا على الإبداع المسلم.
لقد أوجدت فكرة الفتوى مناخاً من الخوف، وبالنسبة للغربيين فإن لفظة فتوى تُترجم عادةً على أنها حكم بالموت، وكما يعلم أي مسلم فإن كلمة فتوى تعني رأياً فقهياً أو قانونياً، ولا تتضمن معنىً مخيفاً، ولكن مع الأسف فإن هذا هو الذي يحدث في الغرب كما في الشرق، حيث صار صبية الجماعات المتطرفة ممن لا فقه عندهم ولا تقوى يلعبون بمبدأ الفتوى (وبعضهم بمبدأ "التكليف الشرعي") كأداة إرهابية ليس إلا..
إنه أمر مقلق بالطبع، فلو كنت صحفياً تريد أن تعيش حياةً عادية وتحافظ على عائلتك، ولكن تشعر بأن حياتك تتعرض لخطر بسبب كتابة شيء ما، فإن ذلك سوف يبعث على الخوف من الكتابة بحرية، وهذا بحد ذاته بالطبع أمر محزن للغاية.
المشكلة الاساس في وضعنا اليوم تتمثل في صعود الاصوليات المتنوعة وهي تعبير عن سياسات واسترايتجيات الهوية الاثنية أو القومية أو العشائرية القبلية أو المذهبية المحلية ، وكلها تنتمي إلى ما يسميه ابن خلدون العصبية.. وهذه لا علاقة لها بالدين بل هي تكون أحياناً ضد الدين الذي تدعي النطق باسمه أو التعبير عن أهله. والأحزاب الطائفية في لبنان فيها كل شيء إلا الدين والورع والتقوى ومكارم الأخلاق. وهي تستمد عصبيتها ولحمتها وقوتها وسطوتها من مصادر أخرى غير الدين (ولو أن الدين رمز لتشكيلها) من قبيل العشيرة والعائلة والجوار في السكن والحي والشارع (وثقافة الشارع) ومن قبيل الذاكرة الجميعة الانتقائية.. وغيرها.. فالأصولية هي هنا أصولية الهوية وليس أصولية العودة إلى أصول الدين أي أنها أصولية طهارة الذات المطلقة المقدسة في مقابل نجاسة وكفر وفساد ودونية الآخر. ولا يمكن رفض هذه الأصولية الدينية برفض الدين وإنما بإعادة الاعتبار إلى القيم الدينية الحقة وأولها انسانية الانسان وكرامته وحريته، هذا هو المقدس المطلق أي الأصل الذي تنبني عليه علاقات البشر ومن هنا واجب العمل على صياغة ميثاق أو منظومة القيم الانسانية التي تحترم وتقدس حياة الانسان وعقله وروحه وكرامته وحقوقه وحرياته.. وتقدس اختلاف البشر كسنة إلهية وكحقيقة تكوينية. وتحترم الاختلاف وحق الاختلاف والتعبير عن هذا الاختلاف من خلال التنوع والتعدد الثقافي ومن خلال الحرية المطلقة للرأي والتعبير.

3= موقف الحكومات والأنظمة من الإعلام الحر
لكن ثمة ملاحظة ربما تريح أعصاب كثيرين في المؤسسات الرسمية الحاكمة في العالم العربي والإسلامي تكمن في أن أوضاع مجتمعات المسلمين المغرقة في الرقابة ليست وحيدة في هذا الحال المأساوي، بل إن معظم دول العالم مع الأسف تأتي في نفس التصنيف.ويكفي أن نستعيد هنا الموقف الفرنسي المخجل من الحجاب الاسلامي أو الموقف الآوروبي الإرهابي من أي كلام عن المحرقة النازية ضد اليهود والذي وصل الى حد إصدار قوانين تحرّم الكلام والنقاش وتعاقب عليه بالسجن ناهيك عن العزل الاجتماعي..وبمعزل عن موقفنا من هذا الكلام إلا أن الأمر يدل على أن كل مجتمع يخلق لنفسه حرمات ومحرمات يجعلها سقفاً لحرية التعبير..أي أنه ليس هناك من حرية مطلقة وإنما كل حرية هي مقيدة بما يسمونه الحفاظ على النظام العام وأمن المجتمع وسلامته واستقراره... فنحن لسنا وحدنا في تقييد حرية التعبير ...إنما نحن أكثر استبداداً من غيرنا لأن استبدادنا أحمق مكشوف وحشي وليس ناعماً مقنعاً كالاوروبيين...
حين اندلعت قضية روبير فوريسون في فرنسا (قبل قضية غارودي بسنوات) انبرى للدفاع عن حقه في حرية التعبير واحد من كبار اليساريين اليهود هو جان غابرييل كوهن بنديت وقد كتب يومها مقالاً عنوانه "القضية قضية مبدأ" قال فيه :" ان كون الغالبية العظمى من الناس تعيش في ظل أنظمة حكم تنعدم فيها حرية التعبير، يجعلنا نستنتج اننا ُنعتبر محظوظين وسعداء لكوننا نعيش في بلد توجد فيه حرية تعبير، وان علينا الاكتفاء بهذا القدر من الحظ والسعادة.. ولمن لا يقتنع فان منشقي الكتلة الشرقية واللاجئين السياسيين من أميركا اللاتينية، موجودون عندنا بالضبط لإعادة تذكيرنا بهذه النعمة التي هي امتياز من العبث نكرانه. غير أني أعتقد بأن هذا الامتياز يفرض علينا عدم الاكتفاء بما هو عندنا. من الواجب طبعاً ان ندافع عنه، وان نمنع بتره أو تحويره، ولكن ينبغي أيضاً ان نناضل لكي نحصل على ما هو أكثر منه. ففي هذا الحقل المعّين لحرية التعبير، لا توجد حدود. وإذا كنت أعرف ثمن الفرق بين نظام ديموقراطي وأخر توتاليتاري فان هذا لا يجعلني أرضخ لفزاعة الدولة التوتاليتارية لكي أقبل ما أعتبر انه يحد من حرية التعبير... وفي الماضي كنت أجد مختلف الحجج الصالحة لتبرير منع غيري من حق التعبير. ولكني اليوم أقاتل من أجل حرية التعبير والحق في هذه الحرية للجميع ودون استثناء، حتى لأشد أعدائي حدة حماسة.."
ويمكن هنا أن نتذكر موقف السلفي رشيد رضا من قضية دريفوس بمقابل موقف الفرنسيين: يكتب رشيد رضا في العدد الأول من جريدته المصرية (المنار) (1898)(ص 53-55) معيباً على فرنسا الجمهورية ومبادئ الحرية ما فعلته باليهود وبخصوص قضية دريفوس ..ويقول إن هذا الاضطهاد لم ينتج عن تعصب ديني عند الفرنسويين وهم أقرب الى وهن العقيدة وإنما مصدره التعصب الجنسي (العنصري) والحسد الذميم وقد أثارهما في صدور الفرنسويين "فئة من أرباب الجرائد المعادين لليهود الطامعين بما في ايديهم من خزائن الموال"..ويقول رشيد رضا أنه لو جرى مثل تلك الحوادث مع الشرقيين لقامت قيامة تلك الجرائد ضدنا... وأجمل ما في كلام رشيد رضا قوله : "ومن الغريب أن داء الجرائد الإفرنسية قد سرى الى بعض الجرائد المصرية فقامت تصلي اليهود ناراً حامية وتأخذ عليهم مهارتهم في الكسب وتفننهم في اساليب الربح...أما نحن فرأينا أن الحرية العمومية ليست مختصة بفريق دون فريق..فإن التمدن الصحيح والعدالة الحقيقية يفرضان المساواة المطلقة بين جميع بني الانسان في المنافع العمومية.."...
لاحظوا هذه العبارات تقال في أواخر القرن التاسع عشر:
الحرية العمومية-المساواة المطلقة-التمدن الصحيح-العدالة الحقيقية-المنافع العمومية.
وتصوروا أن تصدر عن إسلامي سلفي أو حتى إسلامي معتدل في يومنا هذا.
4= الإسلام والحرية الدينية
تقول المادة 18 من إعلان - ميثاق حقوق الإنسان: "لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة"...
والى ذلك ذهب الإمام شمس الدين في تفسيره لآية "لا إكراه في الدين" وللآيات الأخرى المماثلة: ("ولو شاء الله لجمعهم على الهدى - ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة - قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه - لكم دينكم ولي ديني - ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين - وما جعلناك عليهم حفيظا - من شاء فيلؤمن ومن شاء فليكفر")... وهو ما ذهب إليه أيضا الكثير من العلماء والفقهاء المعاصرين.
يقول الشيخ عبد العزيز جاويش (تلميذ محمد عبده وصديق شكيب أرسلان ومصطفى كامل) "وما كان للعقائد أن تتكون بالإرغام والقهر، ولا للإسلام الذي هو دين البحث والنظر أن يقول بقتل من لا يدينون به" (كتابه: الإسلام دين الفطرة والحرية - الزهراء للإعلام العربي - لا تاريخ نشر)... ويقول الشيخ عبد المتعال الصعيدي "الحرية الدينية عبارة عن حق الإنسان في اختيار عقيدته الدينية فلا يكون لغيره من الناس سلطان عليه في ما يعتقده، بل له أن يعتقد ما يشاء وله ألا يعتقد في شيء أصلا، وله إذا اعتقد في شيء أن يرجع عن اعتقاده وله الحرية في الدعوة إلى ما يعتقده بالتي هي أحسن" (كتابه: حرية الفكر في الإسلام - دار الفكر العربي ط2 - القاهرة - دون تاريخ).
ومما يتعلق بموضوع الحرية الدينية قضية الردة (أي الكفر بعد الإسلام عن وعي واختيار) وقد برز في العقود الأخيرة التيار الذي أسس له وطوره المشايخ محمد عبده، ورشيد رضا، وعبد المتعال الصعيدي، ومحمد مهدي شمس الدين، وراشد الغنوشي، وحسن الترابي، وعبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، وعبد العزيز جاويش، وسيد قطب، ومالك بن نبي، ومن رجال القانون الدستوري: فتحي عثمان وعبد الحميد متولي وعبد الحكيم حسن العيلي ومحمد سليم غزوري وطارق البشري ومحمد سليم العوا، والذي يقول بأن الردة جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة، وإنما هي مسألة سياسية (من قبيل الخيانة الوطنية والحرابة، أي الخروج المسلح على الدولة) وبذلك تكون عقوبة المرتد تعزيراً لا حداً، أي أن عقوبة الردة هي تشريع زمني يطبق تبعاً لما تمليه المصلحة العامة مع مراعاة البيئة الخاصة.
إن الكثير من المفكرين المسلمين، وعلى رأسهم الشيخ شمس الدين والترابي والغنوشي، يتفقون مع الشيخ عبد المتعال الصعيدي في أن آيات الحرية الدينية أصلية ولم يتم نسخها، وفي أن حرية اختيار العقيدة أو تغييرها مطلقة في الإسلام "فلكل إنسان أن يعتقد ما يشاء في الدنيا، وحسابه على الله تعالى في الآخرة، وليس من حقنا أن نحاسبه بشيء على ما يعتقده، لأن كل إنسان عاقل يتحمل مسؤولية اعتقاده ولا نتحملها نحن عنه، فليس لنا أن نحاسبه على شيء من شأن نفسه وحدها، ولا شأن لنا فيه" (عبد المتعال الصعيدي).
ومع ذلك، فان السائد في فكر الحركة الإسلامية المعاصرة وممارستها، لا علاقة له بما سبق تقريره من موقف إسلامي أصيل في الحرية الدينية وحرية الاعتقاد وتغيير المعتقد. وهذا مما يعيق لا بل يلغي إمكان الحوار، أي حوار. إن قبول الحرية الإنسانية بالمطلق يبدأ بقبول حرية تغيير الرأي أو المعتقد ولعل هذا ما عبّرت عنه وجودية جان بول سارتر، وما كان الإمام شمس الدين قد وصفه بالمغامرة: ففي كل حوار هناك على الدوام مغامرة، فنحن لا نعرف كيف ينتهي الحوار، الذي هو بالنتيجة لحظة وجود أصيلة.

Malcolm X: remember him after 45 years

Malcolm X: remember him after 45 years


Eulogy by Ossie Davis

Eulogy delivered by actor/activist Ossie Davis
at the funeral of Malcolm X Faith Temple Church
Of God, February 27,1965

http://www.eulogyspeech.net/famous-eulogies/Malcolm-X-Eulogy-by-Ossie-Davis.shtml

"Here - at this final hour, in this quiet place -
Harlem has come to bid farewell to one of its brightest
hopes -extinguished now, and gone from us forever. For
Harlem is where he worked and where he struggled and
fought - his home of homes, where his heart was, and
where his people are - and it is, therefore, most
fitting that we meet once again - in Harlem - to share
these last moments with him. For Harlem has ever been
gracious to those who have loved her, have fought her,
and have defended her honor even to the death.

It is not in the memory of man that this beleaguered,
unfortunate, but nonetheless proud community has found
a braver, more gallant young champion than this Afro-
American who lies before us - unconquered still. I say
the word again, as he would want me to : Afro-American
- Afro-American Malcolm, who was a master, was most
meticulous in his use of words. Nobody knew better than
he the power words have over minds of men. Malcolm had
stopped being a 'Negro' years ago. It had become too
small, too puny, too weak a word for him. Malcolm was
bigger than that. Malcolm had become an Afro-American
and he wanted - so desperately - that we, that all his
people, would become Afro-Americans too.

There are those who will consider it their duty, as
friends of the Negro people, to tell us to revile him,
to flee, even from the presence of his memory, to save
ourselves by writing him out of the history of our
turbulent times. Many will ask what Harlem finds to
honor in this stormy, controversial and bold young
captain - and we will smile. Many will say turn away -
away from this man, for he is not a man but a demon, a
monster, a subverter and an enemy of the black man -
and we will smile. They will say that he is of hate - a
fanatic, a racist - who can only bring evil to the
cause for which you struggle! And we will answer and
say to them : Did you ever talk to Brother Malcolm? Did
you ever touch him, or have him smile at you? Did you
ever really listen to him? Did he ever do a mean thing?
Was he ever himself associated with violence or any
public disturbance? For if you did you would know him.
And if you knew him you would know why we must honor
him.

Malcolm was our manhood, our living, black manhood!
This was his meaning to his people. And, in honoring
him, we honor the best in ourselves. Last year, from
Africa, he wrote these words to a friend: 'My journey',
he says, 'is almost ended, and I have a much broader
scope than when I started out, which I believe will add
new life and dimension to our struggle for freedom and
honor and dignity in the States. I am writing these
things so that you will know for a fact the tremendous
sympathy and support we have among the African States
for our Human Rights struggle. The main thing is that
we keep a United Front wherein our most valuable time
and energy will not be wasted fighting each other.'
However we may have differed with him - or with each
other about him and his value as a man - let his going
from us serve only to bring us together, now.

Consigning these mortal remains to earth, the common
mother of all, secure in the knowledge that what we
place in the ground is no more now a man - but a seed -
which, after the winter of our discontent, will come
forth again to meet us. And we will know him then for
what he was and is - a Prince - our own black shining
Prince! - who didn't hesitate to die, because he loved
us so."