انتخابات العراق والدروس اللبنانية
فواز طرابلسي
عبّرت الانتخابات العراقية الأخيرة أول ما عبّرت عن جرأة شعب أراد، بالرغم من الاحتلال ومن وابل القذائف والتفجيرات الدموية، أن يمارس حقه في اختيار حكامه والمشاركة في القرار من أدق تفاصيل حياته اليومية في الأمن والماء والخبز والكهرباء إلى أكبر القضايا والقرارات المصيرية، ومنها مصير الاحتلال ذاته، المقدّر له أن يخفّض قواته إلى 50 ألفاً بحلول آب القادم، تمهيداً لسحب الباقي في نهاية 2011.
هذا هو أول معنى أن يخرج 62,4% من الناخبين العراقيين، من أصل نحو 20 مليوناً، ليدلوا بأصواتهم لمرشحيهم في 18 محافظة عراقية في يوم واحد.
كذب جورج بوش الابن عندما ادّعى عقب احتلال قواته العراق عام 2003 أنه «أنجز المهمة» وحقق «النصر أخيراً بظهور عراق ديموقراطي». ناقضه قائد قواته في تعليقه على مجرى الانتخابات الأخيرة. والأهم أن الديموقراطية لم تتحقق بعد في العراق وهي لن تتحقق إلا بزوال الاحتلال ووقف العنف وتجاوز نظام التوازع الطائفي والإثني للسلطات وللتمثيل السياسي الإداري. فهذا الأخير، مثله مثل قرينه اللبناني، يتناقض ومبدأ المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين الذي هو المبدأ الأساس للديموقراطية.
لكن الأكيد أن النظام الانتخابي في العراق لم يأت منّة من الاحتلال أصلاً. كانت رغبة المفوض السامي الأميركي بريمر تعيين مجمع للقبائل والأحزاب والشخصيات على غرار المجمع القبائلي الأفغاني. فتضافرت ضغوط من أطراف وقوى عراقية متعددة، بما فيها الموقف الحازم لآية الله السيستاني، لتفرض اعتماد صيغة الانتخابات النيابية في تشكيل الهيئات الدستورية. وها هو العراق يخطو خطوة جديدة في التمثيل السياسي يحفّز عليها قرب انسحاب قوات الاحتلال.
والآن لم يبقَ خارج العملية الانتخابية إلا مَن سعى لتخريبها ومنع العراقيين من اختيار حكّامهم: إرهابيو (بلا مزدوجين) تنظيم «القاعدة» من فارضي «الإمارات الإسلامية» وبقايا البعثيين العاملين على إعادة دكتاتورية الحزب الواحد بواسطة العنف.
إلى هؤلاء يجب أن يضاف 499 مرشحاً (60% سنّة و40% شيعة) من أصل 6218 قرّرت لجنة المساءلة والعدالة منعهم من الترشح لارتباطهم بحزب البعث. جدير بالذكر أن السلطات الأميركية في العراق عارضت قرارات إلغاء الترشيح هذه وسعت للحيلولة دون تطبيق قانون المساءلة والعدالة الذي فرضته هي بذاتها. هكذا انقلبت سلطات الاحتلال الأميركي على مواقفها السابقة على جاري عاداتها الإجرامية. هم الذين فرضوا قانون «اجتثاث البعث» وهم الذين سرّحوا الجيش والقسم الأكبر من الإدارة وجرّموا الطائفة العربية السنّية بأكملها وحمّلوها أوزار دكتاتورية صدام حسين وجرائمه. وها هم الآن يعملون على إعادة أسوأ عناصر البعث من عسكريين ومدنيين إلى الحياة العامة والتمثيل السياسي، بحجة تمثيل السنّة.
الأكيد أن المحافظات ذات الأكثرية السنّية لم تعر هذا الادعاء أي اهتمام ولا هي رضخت لضغوط «القاعدة» أو البعث لمقاطعة الانتخابات فاقترعت بكثافة كبيرة لافتة.
من المبكر التنبؤ بما قد تحمله النتائج التي سوف تعلن في الأيام القادمة. على أنه يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
[ المنافسة على أشدّها بين تحالف «العراقية» الذي يضم ممثلين شيعة وسنّة برئاسة أياد علاوي، وبين تحالف «دولة القانون» الذي يترأسه نوري المالكي، رئيس الوزراء الحالي، فيما تتراجع أصوات «الائتلاف الوطني العراقي»، التي يتزعمه عمار الحكيم، رئيس «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» والذي يشارك فيه التيار الصدري.
[ يصعب على المالكي تشكيل الحكومة القادمة. فالمعارضة ضده كبيرة بما في ذلك معارضة التحالف الكردستاني الذي يتهمه بالانفراد بل الدكتاتورية. مع أنه لم يعد مؤكداً أن الكتلة الكردية قادرة على الاستمرار في لعب دورها بما هي بيضة القبّان في تشكيل الوزارة القادمة، خصوصاً مع تنامي نفوذ وأصوات فريق كردي ثالث هو حزب «التغيير»، يسعى لكسر الاحتكار المزمن للتمثيل الكردي الذي مارسه الحزب الديموقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال الطالباني، رئيس الجمهورية العراقية، علماً بأن حزب «التغيير» يأكل من ناخبي هذا الأخير بنوع خاص.
[ إن مَن يعاين توزع القوى الإقليمية وراء الفريقين الرئيسيين المتنافسين لا يسعه إلا أن يلاحظ استقطاباً لتلك القوى شبيهاً بما عرفته الانتخابات اللبنانية، مع فارق واحد هو عدم انتظام الموقف السوري دعماً لكتلة الأحزاب المرتبطة بإيران هذه المرة.
لهذا ولأسباب أخرى، لم يخطئ وليد جنبلاط إذ قال إن ثمة دروساً يمكن أن نتعلّمها من الانتخابات العراقية. ذلك أن النظام الانتخابي العراقي يكاد ينفرد عن سائر الأنظمة العربية بثلاث خصائص أساسية تستحق التأمل في لبنان:
أولاً، ممارسة المغتربين العراقيين حقهم في الاقتراع. مع أن نسب الاقتراع لعراقيي الخارج في 16 بلداً من بلدان الشتات العراقي، جاءت مخيّبة.
ثانياً، الكوتا النسائية بنسبة 20%، ما يستوجب التذكير بالكوتا النسائية في لبنان بمناسبة هذا الثامن من آذار.
ثالثاً، وهو الأهم: القاعدة النسبية للنظام الانتخابي.
جرت الانتخابات السابقة عام 2005 على قاعدة الانتخابات النسبية واللائحة المقفلة، ثم تبيّن أن نظام اللائحة المقفلة يغلّب تمثيل الأحزاب على حساب الأفراد. فجرى اعتماد النسبية مع اللائحة المفتوحة بما يسمح بانتخاب أفراد إضافة للأحزاب.
إن تطبيق هذه القواعد الثلاث في التجربة الانتخابية العراقية يستحق الاهتمام والمتابعة في لبنان الذي لم يعد يمكن أن يستمر على قانونه الانتخابي الحالي.
قد يبدو المشهد الانتخابي العراقي شديد التعقيد في ظل النسبية. يتنافس فيه لا أقل من 85 تنظيماً سياسياً بينها 12 تشكيلاً ائتلافياً. لكن، سوف تجد معظم هذه القوى مجالاً للتمثيل إذا حصلت على حد أدنى من أصوات الناخبين، بحيث يأتي البرلمان صورة دقيقة إلى أبعد حد عن الأمزجة السياسية للرأي العام العراقي، هذا إذا استثنينا التلاعب والتزوير اللذين لا يمكن إخراجهما من الحساب.
بهذا المعنى تحمل النسبية في التجربة الانتخابية العراقية درساً بليغاً للبنان: إنها أفضل صيغة لتمثيل الأقليات، مهما تكن أشكالها وصفاتها، وخير ضمان لها ضد طغيان الأكثريات كائناً ما كانت هذه الأكثريات.