استحقاقات أيلول الفلسطينية
الفلسطينيون ومعهم الدول العربية يتوجهون للعالم، ممثلاً بالأمم المتحدة، لترسيخ الاعتراف بحقهم في تجسيد دولة فلسطين المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وهو الموقف الذي يتمتع بإجماع دولي غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي..
ولكن لا بد لنا ونحن نتحدث عن استحقاقات ايلول والخيارات الماثلة أمام الشعب الفلسطيني، أن نُميز بين قيام دول العالم بالاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وبين قبول دولة فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة.
فالاعتراف شيء (Recognition) ، وقبول العضوية (Admittance) شيء أخر.
إن الوضع الذي خلقه إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، من قبل المجلس الوطني الفلسطيني، وما نتج عن مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 ، واتفاقات أوسلو لعام 1993 ، وميلاد السلطة الوطنية الفلسطينية ، جعلت من الاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وبعاصمتها القدس الشرقية ، أمراً مُكملاً ومُسانداً لعملية السلام وليس مُناقضاً له، كما أنه لا يدخل ضمن الإجراءات أحادية الجانب على اعتبار أن الاعتراف هو قرار سيادي لكل دولة من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم...وقد اعترفت عشرات الدول بدولة فلسطين منذ العام 1988..
أما في مسألة طلب فلسطين الانضمام كعضو في الأمم المتحدة (Member State)، فيتم تقديم الطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ويتضمن الطلب وثيقة رسمية في شكل إعلان قبول الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة. ويتعين على الأمين العام أن "يعرض الطلب أمام مجلس الأمن فوراً " وإرسال نسخة من الطلب إلى الجمعية العامة "للعلم فقط ".والمادة 4 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أن "الدول" فقط هي التي يحق لها الحصول على عضوية في الأمم المتحدة. وبالتالي فإن طلب القبول يجب أن يكون من كيان يستوفي معايير "الدولة" حسب (اتفاقية مونتيفيديو) لسنة 1993 ، بما في ذلك وجود إقليم محدد ووجود حكومة معترف بها. ومع ذلك فإن هذا لا يستبعد المتقدمين في الحالات التي لا تزال هناك خلافات كبيرة فيها حول الحدود الإقليمية. والسوابق الماضية تؤكد أيضاً أن وجود إجماع دولي حول الاعتراف ليس شرطاً مُسبقاً لتقديم طلب العضوية. الجمعية العامة للأمم المتحدة هي صاحبة القرار بشأن قبول العضوية في الأمم المتحدة. لكن حسب المادة 4 يتطلب أن يكون هذا "بناء على توصية من مجلس الأمن". بالتالي فإن مجلس الأمن هو من ينظر في طلب العضوية أولاً.
أمام العالم فرصة لتبني مقترحا جديدا قد يتمكن من تغيير مسار عقود من الفشل في محادثات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، ألا وهو: اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين عضواً كامل العضوية.
لقد أيدت أكثر من 120 دولة من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية هذه المبادرة التي أطلقتها منظمة التحرير الفلسطينية ودعمتها جامعة الدول العربية ، ولكن الولايات المتحدة ودولة إسرائيل يعارضانها بشدة. ولا تزال أوروبا مترددة.
لقد فشلت مبادرات السلام، التي تقودها الولايات المتحدة، على مدى عقود، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تعتقل الفلسطينيين وتصادر أراضيهم وتشجع الاستيطان البربري وتقيم جدار الفصل العنصري وتعتدي على لبنان وتحتل الجولان، وتمنع فلسطين أن تكون كيانا سياسيا مستقلا كامل السيادة.
قد تغير المبادرة الفلسطينية الجديدة الجريئة اللعبة، وعلى أوروبا أخذ زمام المبادرة لدعم الحق.
وتوازياً مع العمل العربي المشترك أصبح من الأهمية بمكان العمل على حشد الرأي العام الدولي واعتباره جزءاً من إستراتيجية سياسية أشمل تعزز وتدعم الجهود الفلسطينية والعربية للاعتراف بدولة فلسطين.
الاثنين، 1 أغسطس 2011
مقتطفات من مقابلة مع شيخ المناضلين السوريين رياض الترك
الحياة-- الجمعة, 29 تموز/يوليو 2011
محمد علي الأتاسي
-- سبب صمتي عائد في جزء كبير منه إلى رغبتي في أن تعطى الحقوق إلى أصحابها. الآن الكلام للشارع. الكلام للشباب الثائر. الكلام لمن يصنع الحدث. الكلام للشعب الذي يخرج اليوم عن صمته ويقوض جدران مملكة الصمت…طبعاً، لا يعني كلامي هذا أن علينا نحن السياسيين أن نلتزم الصمت ونتقاعس عن مواكبة الثورة السورية، وأنا من جهتي موجود حيث يمكنني أن أساعد تنظيمياً ومعنوياً وسياسياً رجال الثورة الحقيقيين، ضمن حدود طاقتي وإمكانياتي وإن كان هذا النشاط لا يظهر في الإعلام. مع ذلك اسمح لي بالقول إن ما أسمعه من بعض المتسلقين على ظهر الثورة في التسابق للتعليق السهل على الحدث، يصيبني بحالة من القرف والنفور من الكلام المجاني، ويدفعني لتكريس جلّ وقتي، للعمل الميداني وجمع شمل المعارضة في الداخل ومنع انزلاق بعض أطرافها إلى أي مواقف تلفيقية أو متخاذلة، تخدم النظام وتقوض أهداف الثورة.
دعني أقول في هذا السياق إن من إيجابيات هذه الثورة أنها سرعت من عملية الفرز داخل أوساط المعارضة السورية، وإننا نحن في حزب الشعب الديموقراطي وفي «إعلان دمشق» حددنا منذ البداية انحيازنا إلى جانب الشباب الثائر وركزنا جهودنا على دعم الثورة بمختلف الأشكال المتاحة. من هنا موقفي السياسي لا ينفصل عن موقف «إعلان دمشق» وعن البيانات التي لم ينفك يصدرها منذ بداية الأحداث، وعن التحركات الميدانية التي لم يتقاعس عن المشاركة فيها.
-- الثورات لا تصنع بالتصريحات والمقابلات التلفزيونية، ولكنها تصنع بالفعل على أرض الواقع، وهذا الفعل له اليوم، طعم وشكل وروح الشباب. ولا أعتقد أن تصريحاتي يمكنها أن تضيف الكثير في هذا السياق. أنا كنت ولا زلت وسأبقى إلى جانب أبناء شعبي، ولن أتقاعس عن تقديم أي جهد في سبيل أن تنجح هذه الثورة وتصل بالمجتمع والدولة (لا السلطة المستبدة) إلى بر الآمان. لقد نشأ وضع في الماضي كنت فيه من بين القلائل الذين رفعوا أصواتهم جهراً بالحقيقة، لكننا اليوم أمام شعب يخرج عن صمته ويصنع لغته ويصوغ شعاراته ويبدع تحركاته، فلنستمع له بتأنٍّ، ولنمش معه لا أمامه، ولنمتنع عن مصادرة صوته أو تجييره لمصلحتنا.
-- صدقاً لم يفاجئني اندلاع الثورة، وإن كنت في البداية، كما هو حال أي إنسان، غير قادر على تحديد أين ومتى وكيف ستندلع الثورة كحدث. مع ذلك، لقد بدا الأمر واضحاً بالنسبة لي، كما بالنسبة للكثير من متتبعي مخاضات المجتمع السوري، ومفاده أن هذا المجتمع لن يبقَ بمنأى عن حركة التغيير العربية وأننا لن نكون الاستثناء وأن سورية لن تبقى مملكة الصمت. وهذا ما كان.
أذكر هنا ساعات النقاش الطويلة التي كانت تجمعني ببعض الصحافيين والديبلوماسيين الأجانب الذين كانوا يركزون على غياب البديل للنظام القائم وضعف المعارضة المنظمة وينتهي الأمر بهم إلى نوع من الدفاع غير المباشر عن النظام في مواجهة مطالبتنا بالبديل الوطني الديموقراطي. وكنت أجيبهم باستمرار أنه لا يكفي أن ينظروا إلى عملية التغيير من خلال السلطة والمعارضة، بل عليهم أن يرصدوا حركة المجتمع السوري، لأنه هو الذي سيثور وهو الذي سيحسم في النهاية هذا الصراع. وأن مصير هذا المجتمع في النهاية عندما يسترجع حقه في انتخاب ممثليه الحقيقيين، أن ينتج ليس فقط معارضة فاعلة ولكن كذلك سلطة سياسية ذات صدقية وتتمتع بمشروعية شعبية حقيقية. وها نحن اليوم نرى كيف أن هذا الشعب عاد ليكون الرقم الصعب واللاعب الأساس في هذه الثورة، وسينتهي به الأمر إلى تكريس قيادات سياسية جديدة، تكون جديرة به وبتضحياته. وأنا هنا لا أرى أي سلبية في غياب القيادات السياسية بالمعنى التقليدي للكلمة عن هذه الثورة. وهذه الظاهرة الجديدة، تشترك فيها معظم الثورات العربية، وتسجل لها على الصعيد العالمي، بعد أن كانت الثورات في الماضي ترتبط بقادة كاريزماتيين وبأحزاب وتيارات أيديولوجية أو حتى بانقلابات عسكرية.
-- دعني أقل بداية إن واحداً من أهم منجزات الثورة السورية هو نجاحها في تهشيم وجه الاستبداد وكسر هيبته وضعضعة نقاط قوته الأساسية المتجسدة في أجهزة الأمن والميليشيات المسلحة. ولقد أتى زج الجيش الوطني في هذه المواجهة مع الناس، ليعيد إلى الواجهة شبح الانشقاقات والتفكك. من هنا أنا أعتبر أن السلطة أصبحت ساقطة موضوعياً والمسألة مسألة وقت وحسن تنظيم بين القوى الميدانية والتنسيقيات والقوى الفاعلة في مختلف المدن والبلدات. من هنا تأتي أهمية توحد جهود التنسيقيات المحلية والتقائها في لجنة وطنية جامعة تتشكل من حول برنامج حد أدنى سياسي.
دعني أقل في هذا السياق إن أفضل وثيقة سياسية صدرت حتى الآن بخصوص مستقبل الثورة، هي تلك التي أنجزتها لجان التنسيق المحلية تحت عنوان "رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سورية السياسي"، كونها تمثل رؤية متكاملة لآلية نجاح الثورة وإيجاد مخارج آمنة للبلاد توقف حمام الدم وتتيح انتقالاً هادئاً ومتدرجاً للسلطة يبدأ من الإقرار بأن القضية المركزية والهدف الأول للثورة هما تغيير النظام السياسي، متمثلاً كنقطة انطلاق في إنهاء ولاية الرئيس الحالي.
الثورة اليوم بحاجة لتسييس معين أراه متضمناً في هذه الوثيقة. كما أن هذه الثورة بحاجة لتأكيد استقلاليتها تجاه الأحزاب المتلكئة التي لا تزال عاجزة عن الالتحاق بركب الثورة. من هنا فإنني أتقاطع في هذه اللحظة مع هذه الوثيقة، وهي تعبر عن وجهة نظري في الظرف الحالي، لكن تطورات الثورة قد تفرض علينا تسويات وتدفعنا إلى تطوير مواقفنا في حال مال ميزان القوى لمصلحة الثورة واقتربنا من تحقيق الانتصار.
طبعاً يظل التحدي الأساس للثورة متجسداً في إمكانية كسب عقول وقلوب الفئات الصامتة التي لم تتحرك بعد، إما لحذرها من التغيير أو لخوفها من القمع أو لحرصها على مصالحها. ومن هنا تأتي أهمية تأكيد سلمية الثورة وكونها ستأتي بالحرية ليس فقط للثوار ولكن لجميع فئات المجتمع وستضمن حقوق الأقليات الدينية والإثنية. فسورية الجديدة ستكون للجميع وفقاً لمبادئ المساواة والعدالة.
تبقى الإشارة إلى البعد الاقتصادي في عملية التغيير. فالوضع القائم إذا استمر على ما هو عليه فسيؤدي إلى انهيار شامل في الأوضاع المعيشية، وهذا ما تتحمل مسؤوليته السلطة القائمة، وهو سيؤدي في النهاية إلى ابتعاد فئات اجتماعية جديدة عن السلطة القائمة. فالثورة السورية هي في المحصلة ثورة مجتمع تبدأ من جنوبه وتنتهي بشماله، وتمتد من غربه إلى شرقه.
في المحصلة، فإن استمرار الثورة على سلميتها وإمعان السلطة في سياسة العنف الأعمى والهروب إلى الأمام، لا بد له ن أن يؤدي في النهاية إلى ظهور عوامل التفكك في دوائر السلطة في شكل تنشأ عنه قناعات داخل بعض هذه الدوائر بضرورة عزل القوى الشرسة والهوجاء، وبأن العنف والمزيد منه لن يؤديا في النهاية إلى أي نتيجة، وبالتالي فإنه لا بد من إيجاد تسوية مع الناس، تتيح آلية انتقال سلمي للسلطة وتعمل على قلب صفحة الجمهورية الوراثية نهائياً من تاريخ سورية المعاصر.
-- النظام، وعلى رأسه بشار الأسد، انتهى سياسياً وهو يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عما جرى، ومن غير الممكن ولا المقبول أن يلعب دوراً سياسياً في أي مرحلة انتقالية. رأيي ألا مهادنة مع (الرئيس) بشار وعليه أن يرحل. في المقابل نحن مستعدون لأن نمدّ أيدينا إلى أهل النظام من الذين لم تلوث أيديهم بالدماء ولا بالمال الحرام، وذلك من أجل تأمين مخرج آمن للبلاد يقطع الطريق على أي نزعات ثأرية ويجنب الجميع المزيد من الدمار والدماء.
-- برأيي إن ما حدث في درعا وبانياس وحمص من تهويل بخطر الفتنة الطائفية، هو من إنتاج المصنع الأمني السوري الذي يكذب ويفبرك ادعاءات بوجود أصوليين ومندسين وقوى متطرفة تدير الاحتجاجات في الشارع وتقوم بأعمال القتل والتنكيل، في حين أن المصنع الأمني هو المسؤول عن معظم الجرائم المرتكبة بحق الأبرياء بما فيها بعض الجرائم المرتكبة بحق بعض عناصر الجيش.
إن التغيير الوطني الديموقراطي السلمي والمتدرج، هو الذي يقطع الطريق على الفتنة الطائفية، ولا يمكنه في النهاية إلا أن يصب في مصلحة جميع مكونات المجتمع السوري، وهيهات أن يجرى في هذا السياق استبدال استبداد بآخر مقابل. فالثورة السورية حررت نفسها وهي ستحرر في النهاية غيرها. و بمعنى آخر فإن الذين ينزلون اليوم إلى الشارع هم أحرار وسيحررون غيرهم لاحقاً، ليتساوى الجميع في ظل دولة مدنية حديثة ودستور ديموقراطي يضمن الحقوق والواجبات للجميع.
زرت أخيراً طرطوس وبعض المناطق بالجبل والقدموس وحمص والسلمية، وسنحت لي الفرصة، على رغم ظروف العمل السري، أن أتبادل الآراء مع بعض الأوساط المتنورة في تلك المناطق، ولمست وعياً جدياً لدى العقلاء بأن الحل الأمني لن يقود إلا إلى الطريق المسدود، وأن المخرج الآمن هو في فك الارتباط بالنظام. وفي هذا السياق جاءت البيانات المشتركة لأحياء حمص وبيان الشباب العلويين وبيان مشايخ علويين لتقول كلها بصراحة، إن ما يجرى في سورية هو ثورة ديموقراطية من أجل الحرية والكرامة، ولا علاقة له بالطائفية ولا بالطائفيين.
-- هذه الثورة أدخلت البحــث عن سورية المستقبل في كل بيت وداخل كل عــائلة، وبالتالي أصبح من حق كل إنسان أن يضع رأيه وأن يتخذ الموقف الذي يراه مناســباً. فالأمــر بات يتعلق ليس فقط بمصير ســورية ومصير المنطقة، بل بمصير كل عائلة وكــل فرد ينتمي إلى هذا الوطن، سواء كان مع الثورة أو ضدها.
هذه الثورة بدأت من داخل سورية، وتطورت في داخل سورية، وستتوج من داخل سورية. مع ذلك لا أرى أي مصلحة في وضع الداخل السوري في تناحر مع الدور الإيجابي للجاليات والقوى السورية الموجودة قسراً في الخارج. فمهمة الطرفين أن يتكاملا لا أن يتناقضا.
-- هذه الثورة هي أولاً وقبل كل شيء ثورة وطنية شعبية جامعة. ولا يغير من هذا التوصيف أن بعض الأوساط الاجتماعية الحاضنة لها هي بيئات مسلمة ومتدينة تمارس شعائرها بعيداً من أي تزمت أو غلو أو إقصاء لآخر. هكذا كان المجتمع السوري على مدى تاريخه الطويل وهكذا سيظل، مثالاً للتعددية والتعايش المشترك والتسامح المتبادل.
مع ذلك أحب أن أضيف هنا، أن في ظل سورية الجديدة المحررة من الاستبداد وفي ظل الحريات ودولة القانون، لا يمكن إلّا أن يكون هناك مكان ورأي للإسلاميين، ومكان ورأي لكل من الليبراليين والقوميين واليساريين والشيوعيين. فعلى الحياة السياسية في سورية الجديدة أن تتسع لجميع أبنائها، ما عدا أولئك الذين تلوثت أيديهم بالدم والمال الحرام.
-- على رغم كل الذي حدث علينا جميعاً أن نحرص على مؤسسة الجيش ونبعدها عن السياسة ونحذر من مغبة إقحامها في هذا الصراع إلى جانب السلطة المستبدة. صحيح أن هناك داخل الجيش مجموعة من الضباط والهياكل التي سعت جاهدة خلال السنين الماضية إلى تحويل هذا الجيش من جيش يدافع عن الوطن إلى جيش يدافع عن الأسرة، ولم تتردد في سبيل هذا من أن توجه سلاحها إلى صدور أبناء شعبها. لكن الجيش كمؤسسة وكتركيب وكتاريخ، كان وسيظل جيش الوطن، ومن يقف في الشارع ليتظاهر قد يكون أخاً أو قريباً أو صديقاً لمن يقبض على الزناد ويرتدي اللباس العسكري. ألم تلاحظ التوتر، بل والاشتباكات التي حصلت في مناطق عدة بين القوى الأمنية وتشكيلات الجيش. ألا تعتقد معي أن ظاهرة الانشقاقات الفردية التي بتنا نراها داخل الجيش، إذا دلت على شيء فعلى أن هؤلاء هم الأحفاد الحقيقيين ليوسف العظمة والشيخ صالح العلي. صحيح أنهم قاموا بذلك في شكل فردي وبمعزل عن المؤسسة العسكرية الأم. لكن هذه المؤسسة، على رغم كل الضغوط التي تتعرض لها من خلال محاولة زجها في مواجهة أبناء شعبها، لا بد لها في نهاية المطاف أن تثبت أنها هي الأخرى مؤسسة الوطن ووريثة أبطاله.
-- من مميزات هذه الثورة أنها في جوهرها وقيمها عابرة للطوائف والمذاهب، وهناك الكثير من الشهداء والمعتقلين من أبناء الطائفة المسيحية. وإذا كان هناك بعض الخائفين أو المترددين من أبناء هذه الطائفة، فإنني لن أذكرهم فقط بفارس الخوري، ولكنني سأذكرهم بموقف البطريرك إبان الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي. فكون البطريرك كان غير قادر على إعلان تضامنه العلني مع الثوار، فإن هذا لم يمنعه من أن يرسل سراً القمح والدقيق لتغذية الثوار في غوطة دمشق، كما أنه قام في بداية عهد الاستقلال بإدخال الكثير من أبناء الشهداء في الميتم المسيحي وعلّمهم مجاناً حتى دخولهم الجامعات.
وإذا كان صحيحاً أن هم السلطة الأول والأخير هو زرع الشقاق والفتنة بين أبناء المذاهب والطوائف، حتى يسود لها الأمر، فإن علينا جميعاً أن نتذكر أن هذه الثورة هي ثورة من أجل المواطنة ومن أجل حرية السوريين وكرامته جميعاً، على تعدد مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والقومية.
-- توافر الشروط الموضوعية لعقد مؤتمر للحوار الوطني بالداخل ، يرتبط برجحان كفة ميزان القوى لمصلحة الثورة، وبأن يدرك أهل النظام ألّا تسوية ولا حل مع (الرئيس) بشار الأسد وأن المخرج هو في فك الارتباط بين العائلة والنظام، وبعدها يأتي البحث في شروط الانتقال السلمي إلى الدولة المدنية الديموقراطية. عندها يمكن أن أشارك في مثل هكذا مؤتمر على أن يكون بين المشاركين فيه ممثلو الشباب والتنسيقيات وممثلو فاعليات المجتمع والأحزاب المعارضة وأهل النظام ممن لم تتلوث أيديهم بالدم أو بالمال الحرام. والواقع أن تفاعل هذه القوى وتعاونها فيما بينها، سيسمح في مرحلة لاحقة بوضع الخطوط العريضة لعملية التغيير والخروج بحل سلمي وتأمين بديل يضمن قيادة سورية في المرحلة الانتقالية وصولاً إلى انتخاب مجلس تأسيسي تكون مهمته وضع دستور جديد والتحضير لانتخابات حرة وديموقراطية.
-- أنا إنسان حر، وأدرك أن سورية باقية والاستبداد إلى زوال، ويسعدني أن أرى نضال هذا الشعب العظيم وقدرته غير المحدودة على التضحية، وفي هذا تأكيد أنه سينال في النهاية حريته كاملة وغير مجتزأة. ودعني أنتهز هذه الفرصة لأطالب الدول العربية والجامعة العربية والمجتمع الدولي بأن ينتصر لهذا الشعب الذي يواجه منذ أربعة أشهر الدبابات والرصاص الحي بصدره العاري، كما انتصر لمصر وتونس. فهذه الثورات في جانب منها، تنطلق من مشترك أساسي هو توق الناس إلى العيش بكرامة وحرية.
محمد علي الأتاسي
-- سبب صمتي عائد في جزء كبير منه إلى رغبتي في أن تعطى الحقوق إلى أصحابها. الآن الكلام للشارع. الكلام للشباب الثائر. الكلام لمن يصنع الحدث. الكلام للشعب الذي يخرج اليوم عن صمته ويقوض جدران مملكة الصمت…طبعاً، لا يعني كلامي هذا أن علينا نحن السياسيين أن نلتزم الصمت ونتقاعس عن مواكبة الثورة السورية، وأنا من جهتي موجود حيث يمكنني أن أساعد تنظيمياً ومعنوياً وسياسياً رجال الثورة الحقيقيين، ضمن حدود طاقتي وإمكانياتي وإن كان هذا النشاط لا يظهر في الإعلام. مع ذلك اسمح لي بالقول إن ما أسمعه من بعض المتسلقين على ظهر الثورة في التسابق للتعليق السهل على الحدث، يصيبني بحالة من القرف والنفور من الكلام المجاني، ويدفعني لتكريس جلّ وقتي، للعمل الميداني وجمع شمل المعارضة في الداخل ومنع انزلاق بعض أطرافها إلى أي مواقف تلفيقية أو متخاذلة، تخدم النظام وتقوض أهداف الثورة.
دعني أقول في هذا السياق إن من إيجابيات هذه الثورة أنها سرعت من عملية الفرز داخل أوساط المعارضة السورية، وإننا نحن في حزب الشعب الديموقراطي وفي «إعلان دمشق» حددنا منذ البداية انحيازنا إلى جانب الشباب الثائر وركزنا جهودنا على دعم الثورة بمختلف الأشكال المتاحة. من هنا موقفي السياسي لا ينفصل عن موقف «إعلان دمشق» وعن البيانات التي لم ينفك يصدرها منذ بداية الأحداث، وعن التحركات الميدانية التي لم يتقاعس عن المشاركة فيها.
-- الثورات لا تصنع بالتصريحات والمقابلات التلفزيونية، ولكنها تصنع بالفعل على أرض الواقع، وهذا الفعل له اليوم، طعم وشكل وروح الشباب. ولا أعتقد أن تصريحاتي يمكنها أن تضيف الكثير في هذا السياق. أنا كنت ولا زلت وسأبقى إلى جانب أبناء شعبي، ولن أتقاعس عن تقديم أي جهد في سبيل أن تنجح هذه الثورة وتصل بالمجتمع والدولة (لا السلطة المستبدة) إلى بر الآمان. لقد نشأ وضع في الماضي كنت فيه من بين القلائل الذين رفعوا أصواتهم جهراً بالحقيقة، لكننا اليوم أمام شعب يخرج عن صمته ويصنع لغته ويصوغ شعاراته ويبدع تحركاته، فلنستمع له بتأنٍّ، ولنمش معه لا أمامه، ولنمتنع عن مصادرة صوته أو تجييره لمصلحتنا.
-- صدقاً لم يفاجئني اندلاع الثورة، وإن كنت في البداية، كما هو حال أي إنسان، غير قادر على تحديد أين ومتى وكيف ستندلع الثورة كحدث. مع ذلك، لقد بدا الأمر واضحاً بالنسبة لي، كما بالنسبة للكثير من متتبعي مخاضات المجتمع السوري، ومفاده أن هذا المجتمع لن يبقَ بمنأى عن حركة التغيير العربية وأننا لن نكون الاستثناء وأن سورية لن تبقى مملكة الصمت. وهذا ما كان.
أذكر هنا ساعات النقاش الطويلة التي كانت تجمعني ببعض الصحافيين والديبلوماسيين الأجانب الذين كانوا يركزون على غياب البديل للنظام القائم وضعف المعارضة المنظمة وينتهي الأمر بهم إلى نوع من الدفاع غير المباشر عن النظام في مواجهة مطالبتنا بالبديل الوطني الديموقراطي. وكنت أجيبهم باستمرار أنه لا يكفي أن ينظروا إلى عملية التغيير من خلال السلطة والمعارضة، بل عليهم أن يرصدوا حركة المجتمع السوري، لأنه هو الذي سيثور وهو الذي سيحسم في النهاية هذا الصراع. وأن مصير هذا المجتمع في النهاية عندما يسترجع حقه في انتخاب ممثليه الحقيقيين، أن ينتج ليس فقط معارضة فاعلة ولكن كذلك سلطة سياسية ذات صدقية وتتمتع بمشروعية شعبية حقيقية. وها نحن اليوم نرى كيف أن هذا الشعب عاد ليكون الرقم الصعب واللاعب الأساس في هذه الثورة، وسينتهي به الأمر إلى تكريس قيادات سياسية جديدة، تكون جديرة به وبتضحياته. وأنا هنا لا أرى أي سلبية في غياب القيادات السياسية بالمعنى التقليدي للكلمة عن هذه الثورة. وهذه الظاهرة الجديدة، تشترك فيها معظم الثورات العربية، وتسجل لها على الصعيد العالمي، بعد أن كانت الثورات في الماضي ترتبط بقادة كاريزماتيين وبأحزاب وتيارات أيديولوجية أو حتى بانقلابات عسكرية.
-- دعني أقل بداية إن واحداً من أهم منجزات الثورة السورية هو نجاحها في تهشيم وجه الاستبداد وكسر هيبته وضعضعة نقاط قوته الأساسية المتجسدة في أجهزة الأمن والميليشيات المسلحة. ولقد أتى زج الجيش الوطني في هذه المواجهة مع الناس، ليعيد إلى الواجهة شبح الانشقاقات والتفكك. من هنا أنا أعتبر أن السلطة أصبحت ساقطة موضوعياً والمسألة مسألة وقت وحسن تنظيم بين القوى الميدانية والتنسيقيات والقوى الفاعلة في مختلف المدن والبلدات. من هنا تأتي أهمية توحد جهود التنسيقيات المحلية والتقائها في لجنة وطنية جامعة تتشكل من حول برنامج حد أدنى سياسي.
دعني أقل في هذا السياق إن أفضل وثيقة سياسية صدرت حتى الآن بخصوص مستقبل الثورة، هي تلك التي أنجزتها لجان التنسيق المحلية تحت عنوان "رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سورية السياسي"، كونها تمثل رؤية متكاملة لآلية نجاح الثورة وإيجاد مخارج آمنة للبلاد توقف حمام الدم وتتيح انتقالاً هادئاً ومتدرجاً للسلطة يبدأ من الإقرار بأن القضية المركزية والهدف الأول للثورة هما تغيير النظام السياسي، متمثلاً كنقطة انطلاق في إنهاء ولاية الرئيس الحالي.
الثورة اليوم بحاجة لتسييس معين أراه متضمناً في هذه الوثيقة. كما أن هذه الثورة بحاجة لتأكيد استقلاليتها تجاه الأحزاب المتلكئة التي لا تزال عاجزة عن الالتحاق بركب الثورة. من هنا فإنني أتقاطع في هذه اللحظة مع هذه الوثيقة، وهي تعبر عن وجهة نظري في الظرف الحالي، لكن تطورات الثورة قد تفرض علينا تسويات وتدفعنا إلى تطوير مواقفنا في حال مال ميزان القوى لمصلحة الثورة واقتربنا من تحقيق الانتصار.
طبعاً يظل التحدي الأساس للثورة متجسداً في إمكانية كسب عقول وقلوب الفئات الصامتة التي لم تتحرك بعد، إما لحذرها من التغيير أو لخوفها من القمع أو لحرصها على مصالحها. ومن هنا تأتي أهمية تأكيد سلمية الثورة وكونها ستأتي بالحرية ليس فقط للثوار ولكن لجميع فئات المجتمع وستضمن حقوق الأقليات الدينية والإثنية. فسورية الجديدة ستكون للجميع وفقاً لمبادئ المساواة والعدالة.
تبقى الإشارة إلى البعد الاقتصادي في عملية التغيير. فالوضع القائم إذا استمر على ما هو عليه فسيؤدي إلى انهيار شامل في الأوضاع المعيشية، وهذا ما تتحمل مسؤوليته السلطة القائمة، وهو سيؤدي في النهاية إلى ابتعاد فئات اجتماعية جديدة عن السلطة القائمة. فالثورة السورية هي في المحصلة ثورة مجتمع تبدأ من جنوبه وتنتهي بشماله، وتمتد من غربه إلى شرقه.
في المحصلة، فإن استمرار الثورة على سلميتها وإمعان السلطة في سياسة العنف الأعمى والهروب إلى الأمام، لا بد له ن أن يؤدي في النهاية إلى ظهور عوامل التفكك في دوائر السلطة في شكل تنشأ عنه قناعات داخل بعض هذه الدوائر بضرورة عزل القوى الشرسة والهوجاء، وبأن العنف والمزيد منه لن يؤديا في النهاية إلى أي نتيجة، وبالتالي فإنه لا بد من إيجاد تسوية مع الناس، تتيح آلية انتقال سلمي للسلطة وتعمل على قلب صفحة الجمهورية الوراثية نهائياً من تاريخ سورية المعاصر.
-- النظام، وعلى رأسه بشار الأسد، انتهى سياسياً وهو يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عما جرى، ومن غير الممكن ولا المقبول أن يلعب دوراً سياسياً في أي مرحلة انتقالية. رأيي ألا مهادنة مع (الرئيس) بشار وعليه أن يرحل. في المقابل نحن مستعدون لأن نمدّ أيدينا إلى أهل النظام من الذين لم تلوث أيديهم بالدماء ولا بالمال الحرام، وذلك من أجل تأمين مخرج آمن للبلاد يقطع الطريق على أي نزعات ثأرية ويجنب الجميع المزيد من الدمار والدماء.
-- برأيي إن ما حدث في درعا وبانياس وحمص من تهويل بخطر الفتنة الطائفية، هو من إنتاج المصنع الأمني السوري الذي يكذب ويفبرك ادعاءات بوجود أصوليين ومندسين وقوى متطرفة تدير الاحتجاجات في الشارع وتقوم بأعمال القتل والتنكيل، في حين أن المصنع الأمني هو المسؤول عن معظم الجرائم المرتكبة بحق الأبرياء بما فيها بعض الجرائم المرتكبة بحق بعض عناصر الجيش.
إن التغيير الوطني الديموقراطي السلمي والمتدرج، هو الذي يقطع الطريق على الفتنة الطائفية، ولا يمكنه في النهاية إلا أن يصب في مصلحة جميع مكونات المجتمع السوري، وهيهات أن يجرى في هذا السياق استبدال استبداد بآخر مقابل. فالثورة السورية حررت نفسها وهي ستحرر في النهاية غيرها. و بمعنى آخر فإن الذين ينزلون اليوم إلى الشارع هم أحرار وسيحررون غيرهم لاحقاً، ليتساوى الجميع في ظل دولة مدنية حديثة ودستور ديموقراطي يضمن الحقوق والواجبات للجميع.
زرت أخيراً طرطوس وبعض المناطق بالجبل والقدموس وحمص والسلمية، وسنحت لي الفرصة، على رغم ظروف العمل السري، أن أتبادل الآراء مع بعض الأوساط المتنورة في تلك المناطق، ولمست وعياً جدياً لدى العقلاء بأن الحل الأمني لن يقود إلا إلى الطريق المسدود، وأن المخرج الآمن هو في فك الارتباط بالنظام. وفي هذا السياق جاءت البيانات المشتركة لأحياء حمص وبيان الشباب العلويين وبيان مشايخ علويين لتقول كلها بصراحة، إن ما يجرى في سورية هو ثورة ديموقراطية من أجل الحرية والكرامة، ولا علاقة له بالطائفية ولا بالطائفيين.
-- هذه الثورة أدخلت البحــث عن سورية المستقبل في كل بيت وداخل كل عــائلة، وبالتالي أصبح من حق كل إنسان أن يضع رأيه وأن يتخذ الموقف الذي يراه مناســباً. فالأمــر بات يتعلق ليس فقط بمصير ســورية ومصير المنطقة، بل بمصير كل عائلة وكــل فرد ينتمي إلى هذا الوطن، سواء كان مع الثورة أو ضدها.
هذه الثورة بدأت من داخل سورية، وتطورت في داخل سورية، وستتوج من داخل سورية. مع ذلك لا أرى أي مصلحة في وضع الداخل السوري في تناحر مع الدور الإيجابي للجاليات والقوى السورية الموجودة قسراً في الخارج. فمهمة الطرفين أن يتكاملا لا أن يتناقضا.
-- هذه الثورة هي أولاً وقبل كل شيء ثورة وطنية شعبية جامعة. ولا يغير من هذا التوصيف أن بعض الأوساط الاجتماعية الحاضنة لها هي بيئات مسلمة ومتدينة تمارس شعائرها بعيداً من أي تزمت أو غلو أو إقصاء لآخر. هكذا كان المجتمع السوري على مدى تاريخه الطويل وهكذا سيظل، مثالاً للتعددية والتعايش المشترك والتسامح المتبادل.
مع ذلك أحب أن أضيف هنا، أن في ظل سورية الجديدة المحررة من الاستبداد وفي ظل الحريات ودولة القانون، لا يمكن إلّا أن يكون هناك مكان ورأي للإسلاميين، ومكان ورأي لكل من الليبراليين والقوميين واليساريين والشيوعيين. فعلى الحياة السياسية في سورية الجديدة أن تتسع لجميع أبنائها، ما عدا أولئك الذين تلوثت أيديهم بالدم والمال الحرام.
-- على رغم كل الذي حدث علينا جميعاً أن نحرص على مؤسسة الجيش ونبعدها عن السياسة ونحذر من مغبة إقحامها في هذا الصراع إلى جانب السلطة المستبدة. صحيح أن هناك داخل الجيش مجموعة من الضباط والهياكل التي سعت جاهدة خلال السنين الماضية إلى تحويل هذا الجيش من جيش يدافع عن الوطن إلى جيش يدافع عن الأسرة، ولم تتردد في سبيل هذا من أن توجه سلاحها إلى صدور أبناء شعبها. لكن الجيش كمؤسسة وكتركيب وكتاريخ، كان وسيظل جيش الوطن، ومن يقف في الشارع ليتظاهر قد يكون أخاً أو قريباً أو صديقاً لمن يقبض على الزناد ويرتدي اللباس العسكري. ألم تلاحظ التوتر، بل والاشتباكات التي حصلت في مناطق عدة بين القوى الأمنية وتشكيلات الجيش. ألا تعتقد معي أن ظاهرة الانشقاقات الفردية التي بتنا نراها داخل الجيش، إذا دلت على شيء فعلى أن هؤلاء هم الأحفاد الحقيقيين ليوسف العظمة والشيخ صالح العلي. صحيح أنهم قاموا بذلك في شكل فردي وبمعزل عن المؤسسة العسكرية الأم. لكن هذه المؤسسة، على رغم كل الضغوط التي تتعرض لها من خلال محاولة زجها في مواجهة أبناء شعبها، لا بد لها في نهاية المطاف أن تثبت أنها هي الأخرى مؤسسة الوطن ووريثة أبطاله.
-- من مميزات هذه الثورة أنها في جوهرها وقيمها عابرة للطوائف والمذاهب، وهناك الكثير من الشهداء والمعتقلين من أبناء الطائفة المسيحية. وإذا كان هناك بعض الخائفين أو المترددين من أبناء هذه الطائفة، فإنني لن أذكرهم فقط بفارس الخوري، ولكنني سأذكرهم بموقف البطريرك إبان الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي. فكون البطريرك كان غير قادر على إعلان تضامنه العلني مع الثوار، فإن هذا لم يمنعه من أن يرسل سراً القمح والدقيق لتغذية الثوار في غوطة دمشق، كما أنه قام في بداية عهد الاستقلال بإدخال الكثير من أبناء الشهداء في الميتم المسيحي وعلّمهم مجاناً حتى دخولهم الجامعات.
وإذا كان صحيحاً أن هم السلطة الأول والأخير هو زرع الشقاق والفتنة بين أبناء المذاهب والطوائف، حتى يسود لها الأمر، فإن علينا جميعاً أن نتذكر أن هذه الثورة هي ثورة من أجل المواطنة ومن أجل حرية السوريين وكرامته جميعاً، على تعدد مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والقومية.
-- توافر الشروط الموضوعية لعقد مؤتمر للحوار الوطني بالداخل ، يرتبط برجحان كفة ميزان القوى لمصلحة الثورة، وبأن يدرك أهل النظام ألّا تسوية ولا حل مع (الرئيس) بشار الأسد وأن المخرج هو في فك الارتباط بين العائلة والنظام، وبعدها يأتي البحث في شروط الانتقال السلمي إلى الدولة المدنية الديموقراطية. عندها يمكن أن أشارك في مثل هكذا مؤتمر على أن يكون بين المشاركين فيه ممثلو الشباب والتنسيقيات وممثلو فاعليات المجتمع والأحزاب المعارضة وأهل النظام ممن لم تتلوث أيديهم بالدم أو بالمال الحرام. والواقع أن تفاعل هذه القوى وتعاونها فيما بينها، سيسمح في مرحلة لاحقة بوضع الخطوط العريضة لعملية التغيير والخروج بحل سلمي وتأمين بديل يضمن قيادة سورية في المرحلة الانتقالية وصولاً إلى انتخاب مجلس تأسيسي تكون مهمته وضع دستور جديد والتحضير لانتخابات حرة وديموقراطية.
-- أنا إنسان حر، وأدرك أن سورية باقية والاستبداد إلى زوال، ويسعدني أن أرى نضال هذا الشعب العظيم وقدرته غير المحدودة على التضحية، وفي هذا تأكيد أنه سينال في النهاية حريته كاملة وغير مجتزأة. ودعني أنتهز هذه الفرصة لأطالب الدول العربية والجامعة العربية والمجتمع الدولي بأن ينتصر لهذا الشعب الذي يواجه منذ أربعة أشهر الدبابات والرصاص الحي بصدره العاري، كما انتصر لمصر وتونس. فهذه الثورات في جانب منها، تنطلق من مشترك أساسي هو توق الناس إلى العيش بكرامة وحرية.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)