لا فلسطين ولا سلام دون القدس
- رام الله 31-12-2009 وفا-
النص الكامل للخطاب الذي ألقاه مساء اليوم بمقر الرئاسة برام الله لمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لانطلاقة الثورة.
:
أيتها الأخوات، أيها الإخوة
يا أبناء شعبنا المناضل والصامد والوفي
أيها الفلسطينيون الأحبة في كل مكان
نحتفل اليوم بذكرى انطلاق ثورتنا التي فَجرتها طلائعُ حركة التحرير الوطني الفلسطيني، 'فتح'، مُعلنة بداية عهد جديد في تاريخ شعبنا، وتاريخ منطقتنا.
خمسة وأربعون عاماً من النضال المتواصل، اسُتعمِلت خلاله أساليبٌ متعددةٌ للمقاومة، في ثورة هي الأطول في تاريخ الشعوب في هذا العصر، ثورة لا يدرك ما واجهته من مصاعب في مرحلة الإعداد، ثم الولادة، إلا من انخرط في صفوفها في تلك السنوات التي أعقبت نكبة عام 1948 والتي شَهِدت ضَياع الوطن وتشريد الشعب ومحاربة ومنع الفلسطينيين من تنظيم أنفسهم في أي إطار، وتحريم رفع هذا العلم الخفّاق، علم فلسطين، كرمز من رموز هويتنا الوطنية.
نُحيي هذه الذكرى لنؤكد على تمسكنا بثوابتنا الوطنية، وعلى أن هذه الثورة قد انطلقت لتبقى وتنتصر.
أثبتت انطلاقة ثورتنا بقيادة فتح عام 1965، أن هذا الشعب العظيم لا تُثنيه جراحاته وآلامه ومعاناته من النهوض كطائر الفينيق، فقدم عشرات آلاف الشهداء البررة أرواحهم، في سبيل تحقيق الهدف الذي لا بديل عنه، وهو الحرية وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها قلب فلسطين دُرة التاج مدينة القدس الخالدة، وحل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين كما ورد في المبادرة العربية وحسب القرار 194.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة
لا يمكن إدراك حجم الانجازات التي حققتها ثورتنا العملاقة، رغم كل الصعوبات والتحديات التي لا زلنا نواجهها، إلا باستذكار ومعرفة الوضع الذي كان سائداً قبل الانطلاقة.
فقد كانت قضية فلسطين تختصر دولياً بكونها قضية لاجئين، أما إسرائيل فاعتبرتها قضيةً منتهيةً لأن كبار السن يموتون، وحديثي الولادة بعد النكبة ينسون. وعلى الصعيد العربي -للأسف- كانت القضية مجالا للمزايدات بين الأنظمة في الصراع بينها، وكنا نحن الفلسطينيين مشتتين جغرافياً مختلفين سياسياً.
وجاءت حركة فتح لتصنع مع بقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية تاريخنا الحديث، فحوّلَت القضية من قضية إنسانية إلى قضية وطنية ومن قضية حدود إلى قضية وجود، وأصبح اللاجئون من الفلسطينيين، بل كل الفلسطينيين، مناضلين من أجل الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
فَتَحتَ راية منظمة التحرير الفلسطينية، التي وحدت شعبنا في كل أماكن تواجده، وضمت إلى صفوفها كل أطيافه السياسية، فرضنا قضيتنا على جدول أعمال كل المؤسسات الدولية والإقليمية، حيث عادت فلسطين لتحتل موقعها في جامعة الدول العربية، وأصبحت عضواً في منظمة المؤتمر الإسلامي وفي حركة عدم الانحياز، وتحظى بصفة المراقب الدائم في الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، ولا ننسى أيضا أنها عضو مراقب في القمة الأفريقية.
هذه الإنجازات التي تحققت، يُدركها أكثر من غيره، من عاش في لهيب هذه الثورة، وناضل جنباً إلى جنب مع القادة الشهداء الذين تَخلوا عن كل الامتيازات، وعلى رأسهم القائد الرمز ياسر عرفات، متذكرين شهيدنا الأول عبد الفتاح عيسى الحمود عضو اللجنة المركزية وأبو يوسف النجار وكمال عدوان والقائمة تطول إلى الشهيد صخر حبش 'أبو نزار'.. وغيرهم وغيرهم من عشرات الآلاف الذين روت دماءهم الطاهرة تراب وساحات المواجهة، سواء في الأرض المحتلة من أقصاها إلى أقصاها، أو في المنافي القريبة والبعيدة وآخر شهدائنا ستة قتلوا بدمٍ باردٍ من قِبل القوات الإسرائيلية في نابلس وقطاع غزة.
وهنا لا بد من وقفة عند هذا الحدث الكريه الحقير التي قامت به القوات الإسرائيلية، لنقول لمن سنوجه كلامنا إليه بأننا أمام وقفة وبأننا سنقدم جردة حساب لسنوات ماضية وبأننا في النهاية سنقول كلمتنا.
ويُدرك جيلنا أهمية الوحدة الوطنية التي أنجزناها على أنقاض الانقسام والتشرذم، الوحدة التي يجب الحفاظ عليها والتمسك بها، وإفشال كل مخططات المتآمرين عليها.
علينا أن نبني على ما تم إنجازه وتطويره، فثورتنا منذ انطلقت، حددت هويتها كحركة تحرر وطني للشعب الفلسطيني المنتمي إلى أُمته العربية والإسلامية، فقضيتنا هي قضية هذه الأمة العظيمة، التي قدمت قوافل الشهداء من أجل فلسطين، وقد حَرصنا منذ البداية على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأن نُبقي قضيتنا فوق أية خلافات، وألا نسمح بزجها في أية صراعاتٍ إقليميةٍ أو غير إقليمية، ونحن بحاجة اليوم، وأكثر من الماضي للتمسك بهذا النهج، والاستفادة من عِبَرِ الماضي.. كل عِبَرِ الماضي.
وبهذه المناسبة فقد قلنا لكل أشقائنا وأصدقائنا ومنن حولنا وبالذات لأشقائنا في لبنان مؤخرا، أننا ضيوف على الشعب اللبناني كما أننا ضيوف على غيره من الدول العربية، وأننا لن نتدخل في شؤونه الداخلية وأننا تحت القانون ولسنا فوق القانون، ونقول هذا ليس للبنان فقط وإنما لكل مكان ولكل دولة عربية كانت أو غير عربية هذا القول دون تردد لأننا نريد أن نبقى ضيوفا أعزاء إلى أن يأتي الوقت لعودتنا لوطننا الفلسطيني.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة
يُحاول البعض منا أن يرسم صورة قاتمة للوضع بأسره، ورغم إدراكي أكثر من غيري لكل المصاعب، إلا أن ذلك يجب ألا يَحول دون إدراكنا واعترافنا بالانجازات الني نحققها، رغم كل ما يضعه الاحتلال من عراقيل أمامنا.
فعلى الصعيد السياسي، هناك تفهم دولي غير مسبوق لمواقفنا، ولا توجد اليوم دولة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، تدافع عن مواقف الحكومة الإسرائيلية، وأصبحت المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، سياسة رسمية تُطالب بانجازها كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وحتى نقول كل الحقيقة فإن ما صرح به الرئيس أوباما كلام كان في منتهى الأهمية وعلينا أن نتمسك به ونطالبه دائما بأن يتمسك به، عندما قال إن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة مصلحة حيوية أميركية، إذا عليهم أن ينفذوا هذا الكلام وأن لا يكون فقط كلاما في الهواء، هذا كلام جيد جاء من أميركا ومن أعلى رأس في أميركا ونقول تمسكوا بهذا الموقف وأوفوا بعهدكم.
وحققنا على صعيد وضعنا الداخلي في الضفة الغربية، رغم مأساة الانقلاب ومعاناة أهلنا في قطاع غزة، حققنا الأمن لمواطنينا، ونمواً اقتصادياً في مجالات مختلفة، صناعية وزراعية وسياحية، وغيرها، وتذكرون أننا منذ بدأنا هذه المرحلة رفعنا شعارا وهو قوله سبحانه وتعالى 'فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف' وهذا هو الشعار الذي نسعى وسعينا ونعمل من أجل تحقيقه دائما وأبدا هو الأمن للمواطنين، ولقمة العيش والحياة الكريمة، ودائما نقول اللهم آمنا في أوطاننا والحمد لله أننا نتمتع لولا بعض التدخلات ولولا بعض التداخلات ولولا بعض الاجتياحات ولولا.. نحن نعيش في أمن وأمان ولكن للحديث بقية.
واستطعنا أن نعقد مؤتمر حركة فتح، حيث تم انتخاب قيادة جديدة عبر الممارسة الديمقراطية، وعقد مجلسنا الوطني دورة اجتماعات استثنائية، استكملنا خلالها عضوية اللجنة التنفيذية ولم يعد هناك من يتحدث عن عدم شرعية اللجنة التنفيذية، إذ أننا اتبعنا النظام والقانون وطبقنا هذا النظام والقانون، باستكمال اللجنة التنفيذية وأصبحت اللجنة التنفيذية كاملة العضوية، كما جرت انتخابات لعدة منظمات شعبية وعلى رأسها إتحاد المرأة، ونحن سائرون على طريق استكمال الانتخابات لبقية المنظمات، وكذلك الإعداد لإجراء الانتخابات البلدية لأننا بدأنا عهودنا الديمقراطية ونريد أن نستمر في الديمقراطية رغم كل أولئك الذين لا يريدون الديمقراطية إلا مرة واحدة، مع التأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
إننا أصدرنا مرسوما للانتخابات في 24/10 من أجل عقد هذه الانتخابات حسب الدستور، حسب القانون الأساسي في 24/1/2010، وقبل ذلك كان هناك الوثيقة المصرية للمصالحة، وعندما قامت لجنة الانتخابات المركزية المستقلة؛ بالمناسبة نحن من القلة في العالم الذين لا تجري وزارة الداخلية الانتخابات وإنما تجريها لجنة مستقلة كاملة الاستقلال، وهذا يشهد به العالم أجمع، لكن جوبهت هذه اللجنة برفض من حركة حماس قائلين سنمنع ذلك بقوة السلاح، ثم جاءت الوثيقة المصرية التي كانت عبارة عن جمع لكل الآراء المتناقضة لأن الذي يصالح لا يستطيع أن يرضي الطرف هذا والطرف هذا بكامل طلباته، وقالوا هذا ما رسونا عليه، وما وصلنا إليه وبالتالي نرجو أن نذهب إلى المصالحة الوطنية بعد أن تعبنا، عامان ونصف كاملة ومصر تسعى من أجل المصالحة الوطنية، ونحن رغم أنه كانت لدينا بعض الملاحظات لكن من أجل المصلحة الوطنية، وحرصا على جهود مصر التي تعبت معنا كثيرا، قلنا نحن مستعدون القبول بهذه الوثيقة ووقعنا عليها في الوقت المحدد 15 تشرين أول/أكتوبر خلال هذا العام، وفوجئنا أن حماس قالت لدينا ملاحظات وبدأت هذه الملاحظات أو الهينات الهينات بتقرير غولدستون، ثم رجعوا عنها ووضعوا مجموعة من الملاحظات وبدأوا يتكلمون عنها، ثم قالت لهم مصر تعالوا وقعوا وسنأخذ بعين الاعتبار ملاحظاتكم بعد التوقيع، لكنهم رفضوا وأصروا ثم أرسلوا لنا بشكل رسمي نحن مستعدون للتوقيع على الوثيقة لكن ليس في مصر، طبعا نحن لا أخلاقنا ولا ضميرنا ولا مصلحتنا الوطنية والقومية ولا وفاءنا يقبل هذا، ورفضنا، إذا القضية لم تكن قضية ملاحظات أو قضية استدراكات، وإنما هي في مكان التوقيع، التوقيع يتم في المكان الذي تمت فيه كل هذه المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، التوقيع سيكون في مصر، والمتابعة ستكون في مصر، وقلنا نحن لا نريد هذا الاقتراح ومصممون على أن لا يكون التوقيع بمصر.
رغم أنهم يتحدثون عن انتخابات، إلا أنهم اقترحوا علينا بصفة رسمية وقالوا أنتم في المجلس السابق بقيتم 11 عاما، نحن نريد تمديد 10 سنوات للمجلس والرئيس، قلنا كلا وبذلك المصالحة إلى الآن تراوح مكانها ونحن فعلا جادون ونريد المصالحة، وجادون في الانتخابات ولن نمدد، نريد انتخابات رئاسية وتشريعية وسنعمل بكل جهد لتطبيقها وعلى الشعب الفلسطيني أن يختار.
إن هذه الإنجازات التي حققناها ونُحققها، وتحظى بتقدير المؤسسات الدولية، تواجه من قبل الحكومة الإسرائيلية والجهات الأكثر تطرفاً فيها، بتصعيد الأعمال العدوانية، والاستفزاز المبرمج، الذي يظهر واضحاً في التصدي للمظاهرات والمسيرات والاعتصامات السلمية في القدس ونعلين وبلعين والمعصرة، وفي أعمال قطعان المستوطنين ممن وصل بهم الأمر إلى حد إحراق المسجد في ياسوف.
نحن مع حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة المشروعة، ما يجري في نعلين وبلعين نحن معه، ونؤيده ونحن مع أهلنا في القدس عندما يهدم بيت أو تصادر أرض أو يطرد إنسان أو تلغى هوية، نحن معهم أن يقفوا في وجه هذه الإجراءات الظالمة، هذا حقنا ونحن نمارس حقنا في إطار القانون الدولي.
لقد أَعلنت سابقاً، وأؤكد أمامكم مجدداً اليوم: لن نقع في الفخ الذي ينصبونه لنا، إنهم يسعون عبر استفزازاتهم المكررة والمتكررة إلى جرنا لردود فعل تأخذ طابع العنف، كي يتخلصوا من العُزلة والضغط الدولي فسيستغلون قوة نفوذهم الإعلامي، لتأخذ الضحية صورة الجلاد. وليس لديهم مانع أن يظهرونا بهذا المظهر حتى يقولوا للعالم أنظروا إلى الفلسطينيين ماذا يفعلون، نحن في إطار القانون نعمل، وفي إطار النظام نعمل، نريد أرضنا نريد بلدنا، نريد دولتنا المستقلة في حدود 67.
فلنثق، أخواتي وإخواني، بأنفسنا، ولا ننجر إلى جوقة المزاودين أصحاب الشعارات، أو يتملكنا اليأس، فنُقْدِم على أعمال غير محسوبة. نحن قلنا أكثر مرة نحن ضد الصواريخ العبثية فاعتبرونا إننا متخاذلون لا نريد المقاومة، ولا نريد ..، خرجوا علينا باتفاقات مع التنظيمات بل بدؤوا يمنعون ويضربون كل من يحاول أن يقوم بعمل مقاوم، لدرجة شهد لهم رئيس الأركان الإسرائيلي إشكنازي شهادة شعرية وقال 'نحن قمعنا حماس وهي تقمع باقي الناس'، واليوم إسرائيل تقول لم تشهد العشر أعوام الماضية أهدأ مما حصل في غزة. المقاومة والممانعة شعارات غير صحيحة، إن هذا يصنف مقاومة ممانعة وهذا يصنف تخاذل واستسلام، نحن في إحدى القمم العربية قال بعض الأخوة إن هذه المبادرة العربية لن تبقى إلى الأبد، فقلنا لهم هنالك ثلاثة خيارات، الأول: الحرب إذا كنتم جاهزين..، الحل الآخر اللاسلم واللاحرب ونحن نرفضه، الحل الثالث طريق السلام ونحن مع طريق السلام ومع المبادرة العربية، لذلك لا نريد أن نرفع صوتنا عاليا وبالتالي لا نحصد شيء، نحن نريد طريق السلام، وبالمناسبة ما هو الفرق الآن بين مواقفنا السياسية ومواقف حماس، هم يقولون الدولة ذات الحدود المؤقتة التي قدموها تعني من جملة ما تعني أن تخرج 60% أو 50% من الضفة الغربية وأن تكون هناك تهدئة أو هدنة لـ 10 أو 15 عاما القدس واللاجئين لاحقا، هذا هو مشروع الدولة ذات الحدود المؤقتة والذي طرحه مؤخرا موفاز وقال 'نحن نطرحه على حماس إذا نجحت في الانتخابات'. المشروع الثاني هو حدود 67 ويتكلمون فيه فعلا لكن نقبل حدود 67 إنما تكلموا معنا، إذا تكلم الغرب والشرق معهم يقبلون هذا، بالخلاصة لا يوجد خلاف بيننا على العقيدة لا، السياسة لا، المقاومة لا، إذا على ماذا مختلفين، إذا لماذا لا تذهبون وتوقعوا على الوثيقة، يقولون لا نستطيع أن نوقعها لكن لماذا، من الذي يأمر.
أيها الإخوة، يا أبناء شعبنا الوفي
أُجدد اليوم، وفي ذكرى الانطلاقة، دعوتي إلى الإسراع في إنهاء حالة الانقسام، فعلى حركة حماس وقيادتها أن تتوقف عن المتاجرة بمعاناة أهلنا في القطاع، واستخدامهم كرهينة، عليهم أن يقرأوا ما صَرح به وزير خارجية إيران حول المساعدة التي قدمت للشعب الفلسطيني. وأقول لهم أن تصعيد الخلاف مع مصر الشقيقة بسبب الأنفاق لا يخدم سوى إسرائيل ومخططاتها، فإسرائيل تريد أن تتخلص من أي التزام تجاه القطاع، ومعظم القادة الإسرائيليين، يعملون لكي يكون للقطاع كيانه الخاص، وهو ما يتوافق مع نوايا أصحاب مشروع إقامة الإمارة المتأسلمة في غزة، وهذا يصب في مصلحة المشروع الإسرائيلي، مشروع الدولة ذات الحدود المؤقتة التي تقترحها عدة أطراف إسرائيلية من داخل الحكومة وخارجها، وتقوم على أساس كيان في غزة مرتبط سياسياً لا جغرافياً بجزر وكانتونات فلسطينية في الضفة الغربية تقع خلف جدار الفصل العنصري.
مرة أخرى، أقول لقيادة حركة حماس، وبالذات للوطنيين والمتنورين من كوادرها وقياداتها، هنالك كثيرون يعلمون وكثيرون يفهمون الحقيقة وهناك كثيرون يعلمون ماذا يجب أن يفعل لأنهم وطنيون ومتنورون، أقول لهؤلاء، قَوّموا بمسؤولية نتائج الانقلاب وما جره من مآس، وقَوّموا ردود الفعل على تصريحاتكم وأفعالكم، وقوموا كم تكسب إسرائيل من الانقسام وكم يخسر الشعب الفلسطيني. لأنه أقل كلمة تقولها إسرائيل وقت اللزوم عندما يزنقون مع من نتكلم، هنالك غزة والضفة، هذه حجة مخبئة في أي وقت يزنقون في حل يقولون مع من نتكلم، علينا أن ننتبه وحدة الشعب الفلسطيني، لمصلحتنا جميعا لمصلحة كل الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية والعالم، إذا حلت قضيتنا تحل كل بؤر الصراع في العالم.
إن التوقيع على الوثيقة المصرية، والذهاب إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية هو الطريق الأمثل، إن لم يكن الطريق الوحيد، حتى يقول الشعب الفلسطيني كلمته، ويحدد خياراته الوطنية.
أتوجه في هذا اليوم الذي يصادف مرور عام كامل على العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزه، لأؤكد لأهلنا في كل ركن من أركان القطاع الحبيب بأن معاناتهم هي معاناتنا جميعاً، وبأننا سنواصل تقديم مختلف أشكال الدعم المتاحة، وأشكال الدعم المتاحة كما هو معروف نحن نقدم لأهلنا لا منة إنما واجب لـ 77 ألف موظف، و58% من موازنة السلطة الوطنية لقطاع غزة، وأقول كل المساعدة والتسهيلات من أجل مرور المواد الغذائية والصحية وغيرها، التي نقدمها نحن أو يقدمها العالم، تمر ونوصلها لأهلنا في غزة وإن كانوا في البداية يصادرونها ويبيعونها، ولا أدري إن مازالوا يصادرونها ويبيعونها، لكن أقول كل المواد الضرورية الإنسانية الغذائية الطبية تصل من عندنا إلى هناك، لذلك لا نريد المتاجرة بالشعارات. وستبقى ذكرى الألف وخمسمائة شهيد والأكثر من خمسة آلاف جريح، ونحو مئة ألف لا زالوا مشردين نتيجة للعدوان، دافعا لنا من أجل متابعة تنفيذ ما ورد في تقرير غولدستون الذي نسيه المزاودون، لكننا سنعمل بكل الجدية والمسؤولية حتى يتم تقديم مرتكبي جرائم الحرب للعدالة الدولية.
بعد أن خرج تقرير غولدستون من مجلس حقوق الإنسان لم يعد أحد يسأل، الآن هناك لجنة فلسطينية عربية، وهناك سفيران من عندنا سفيرنا في جنيف والآخر في الأمم المتحدة يجلسون مع وزير الخارجية لمتابعة تقرير غولدستون، نحن متابعون للتقرير. ولكن في نفس الوقت نتذكر عندما حصل العدوان على قطاع غزة عقد مؤتمر للمانحين اسمه مؤتمر شرم الشيخ، يوجد 4.5 أو أكثر مليار دولار لكن مازالت في خزائن الدول، نحن اقترحنا إعادة البناء من خلال المؤسسات الدولية، رفضوا إما من طريقنا أو لا، هنالك 100 ألف غير مهمين، هنالك 4.5 مليار دولار عند الدول لمساعدة غزة، ولو صرف بعض هذه الأموال لأعيدت الحياة لقطاع غزة، كيف لا طريق إلا بإعادة اللحمة وبسرعة بإجراء الانتخابات ويختار الشعب من يريد، وكل العالم يعرف أن عندنا قدر من الشفافية غير موجود في الدول الاسكندينافية.
يا أبناء شعبنا الفلسطيني في كل مكان.
نواجه اليوم، بعد رفض الحكومة الإسرائيلية الاتفاقيات الموقعة، وعدم التزامها بتطبيق خارطة الطريق، والعودة إلى المفاوضات من النقطة التي وصلنا إليها مع الحكومة السابقة، نواجه تحدياً مصيرياً، يتعلق بالقدس ومستقبلها، ونعتبر أن كل الجهود يجب أن تنصب من أجل إفشال مشاريع الحكومة الإسرائيلية التي تتحدى العالم بأسره بإجراءاتها وأعمالها، التي تشمل إقامة جدار الفصل العنصري، والاستيطان في المدينة وإغلاقها أمام المواطنين الفلسطينيين بما في ذلك منعهم من الدخول للصلاة في المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة، واستصدار قرارات هدمٍ لمئات منازل الفلسطينيين أو سحب هوياتهم المقدسية، والتفنن في استصدار قرارات حكومية أو من قبل بلدية الاحتلال؛ إذا أرادت الحكومة التهرب من شيء يقولون البلدية وإذا أرادت البلدية التهرب من شيء يقولون الحكومة، هل يمكن لقرار أن يمشي من دون أن يكون رئيس الحكومة موافق عليه. بفرض ضرائب باهظة على مواطنينا، وحرمانهم من الحصول على تراخيص بناء في أراضيهم، حتى الكنائس لديها أراضي تريد أن تبني لرعاياها إسرائيل تمنع المسلم والمسيحي لأنها تريد أن تغير معالم المدينة، القائمة تطول بشأن ما تتخذه إسرائيل من إجراءات تهدف في النهاية إلى تغيير معالم المدينة، وتصفية الوجود الفلسطيني الإسلامي والمسيحي فيها.
إن القدس، التي احتفلنا هذا العام بكونها عاصمة للثقافة العربية، لا يمكن إلا أن تبقى كما كانت دائماً، عاصمة فلسطين وقلبها، فلا فلسطين بدون القدس، ولا سلام بدون القدس، وواهم كل من يعتقد بأن هناك فلسطينياً واحداً يمكن أن يساوم على القدس، أو يتنازل عنها، إنني احيي صمود أهلنا، وتمسكهم في البقاء حتى في خيمة تنصب أمام بيوتهم التي احتلها المستوطنون العنصريون، إنها القدس درة التاج.
وأدعو أشقاءنا في العالمين العربي والإسلامي إلى ترجمة مواقفهم المعلنة بشأن التمسك بالقدس والحفاظ على طابعها العربي والإسلامي، بتقديم الدعم الذي يمكّن أهلها من الصمود ومواصلة البقاء والثبات في مواجهة أعتى موجة تطرف وعنصرية تنتشر اليوم في صفوف عدة أحزاب إسرائيلية.
وأقول لدول العالم كافة، وبخاصة للدول الكبرى، التي تتحمل مسؤولية الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، بأن مواقفها التي لا تعترف بضم إسرائيل للقدس، يجب أن تتحول إلى إجراءات عملية، إذ لا يجوز أن تستمر هذه الازدواجية في التعاطي مع إسرائيل، يكفينا قرارات ومواقف لكن نريد ترجمة عملية لهذه المواقف ونريد ترجمة عملية لإعلانات العرب والمسلمين بأن القدس أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، بأن القدس لنا كيف نحميها. إننا نسمع تصريحات من هنا وهناك تتراوح ما بين إدانة الاستيطان، أو اعتباره عقبة في طريق السلام، ولكننا لا نلمس أي فعل أو إجراء لمواجهة تمادي إسرائيل في الاستيطان بل والإعلان عن أنها سائرة فيه.
إنني أقول لشعب إسرائيل، ولأحزابه ولحكومته، إن السلام بيننا يجب أن يقوم على أساس انسحابكم من أراضينا التي احتلت عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، إن السلام الذي يضمن إقامة دولتنا المستقلة إلى جانبكم إلى جانب دولتكم، هو الذي يوفر الأمن، والاستقرار والرفاهية والتعايش ... واقرأوا جيداً ما جاء في مبادرة السلام العربية.
إن مبادرة السلام العربية أثمن ما قدم منذ عام 1948 إلى يومنا هذا، التي اعتمدت من كل الأقطار العربية والإسلامية وعليها الأعلام جميعها العربية والإسلامية، كلهم قالوا تنسحب إسرائيل من الأراضي العربية والإسلامية جميعها نطبع علاقاتنا، لا أدري بدلا من أن تعيش في جزيرة من السلام تعيش في محيط هادئ من السلام، هل هم لا يفهمون مصلحتهم لا أدري.
إن يدنا ستبقى ممدودة للوصول إلى سلام عادل ينهي الاحتلال الإسرائيلي الذي وقع عام 1967، ولكننا لن نتنازل عن ثوابتنا الوطنية، والنقاط الثماني التي أكدت عليها، ولاقت إجماعا فلسطينياً وعربياً ودولياً هي الأساس الذي نبني عليه سياستنا في منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1988 وحتى يومنا هذا. ولذلك علينا أن نوقف الحديث عن مسلسل التنازلات، عندما يقال أوقفوا مسلسل التنازلات.. أي مسلسل تنازلات الذي يتفاوض يتفاوض، لكن الذي يوقع علي ماذا يوقع، نحن منذ عام 1988 قلنا هذا وهذا.. ماذا تبدل منذ 1988 حتى 2010، 22 عاما لا نجهد أنفسنا ونعذب أروحنا ونقول دائما وأبدا أوقفوا مسلسل التنازلات، لا يوجد مسلسل تنازلات، هذا هو موقفنا ولم يتغير، ومن يقول تغير يراجعني.
أيتها الأخوات والإخوة
لقد عَبرنا عن ترحيبنا بالبيان الأخير الذي أصدرته دول الاتحاد الأوروبي، حيث أشار بوضوح إلى رفض وعدم شرعية ما تقوم به إسرائيل في القدس الشرقية المحتلة رغم أن البيان لم يؤخذ بالضبط كما قدمته السويد لكن ثبت فيه وباقي الضفة الغربية، ونتطلع بأمل للاجتماع القادم للرباعية الدولية في موسكو للخروج بموقف واضح بشأن حدود دولتنا وعاصمتها القدس، وسنُبقي الباب مفتوحاً من أجل الذهاب في الوقت المناسب إلى مجلس الأمن، في حال استمرار إسرائيل على مواقفها الحالية الرافضة للمفاوضات. وهذا الذي اتهمنا به أنه عمل أحادي نحن قلنا في اجتماع جامعة الدول العربية ولجنة المتابعة العربية أننا نريد الذهاب لمجلس الأمن لنقول أين حدود دولتنا وقالوا أن هذا عمل أحادي، نحن ذهبنا لنسأل أولا بموافقة الدول العربية وأوروبا وروسيا والصين واليابان وكندا والولايات المتحدة، ونحن نعلم إذا لا يريدونه يقولون كلمة من أربعة أحرف ويقولون لنا مع السلامة، نحن نفهم هذا، وبالتالي هذا ليس عملا أحاديا، هذا عمل من مجلس الأمن الدولي أكبر منبر دولي عالمي نشكو إليه بعد الله أمرنا.
يا أبناء شعبنا الفلسطيني الصامد على أرض وطنه وفي الشتات.
اليوم في ذكرى الانطلاقة أتوجه بالتحية لكل مواطنة، ولكل مواطن فلسطيني في شتى بقاع الأرض .. وأخص بتحياتي وتحياتكم جميعاً أسيراتنا وأسرانا البواسل وجرحانا وأبناء وزوجات وأمهات الشهداء، وأعاهدكم بأننا سنبقى متمسكين بثوابتنا الوطنية، وبأن دم شهدائنا لن يذهب هدراً، وبأن تبقى راية التحرر والاستقلال خفاقة حتى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها قدسنا الحبيبة، مسرى نبينا عليه السلام، قدسنا حاضنة تاريخنا وثقافتنا، رمز التعايش والتسامح، درة التاج يتعانق فيها الأقصى مع كنيسة القيامة ليتردد منها صوت واحد، صوت الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي جاء في عزيز كتابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
' ءَامنَ الرسولُ بِما أُنزِلَ إليهِ مَن رَّبهِ والمُؤمَنُونَ كُلٌ ءَامنَ بِاللهِ وملائِكتهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرقُ بينَ أحدٍ من رُسُلهِ وقالوا سَمِعنَا وأَطَعنا غُفرانَكَ رَبَّنا وإليكَ المَصير '
صدق الله العظيم'
عاشت فلسطين ... عاشت منظمة التحرير الفلسطينية ... عاشت فتح ... المجد للشهداء والحرية للأسرى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجمعة، 1 يناير 2010
الشيخ الصفار يدين التمييز الطائفي في السعودية
الشيخ الصفار يدين التمييز الطائفي في السعودية
ويصف مرتكبيه بالخارجين على القانون
أكد رجل الدين السعودي الشيعي الشيخ حسن الصفار في محاضرة ألقاها مؤخرا في مجلس المبارك في محافظة القطيف شرق السعودية أن الوقت بات ملائما لطرح مشكلة التمييز الطائفي القائمة في المملكة.
وأوضح بأن 'النظام الأساسي' للمملكة يخلو من أشكال التمييز بين المواطنين السعوديين ويضمن المساواة في الحقوق والواجبات حسبما ذكرت شبكة 'راصد' للانباء السعودية الشيعية،مستشهدا في ذلك بالمادة الثامنة لنظام الحكم ومستدركا 'رغم حضر القانون للتمييز، إلا أن هناك شريحة قليلة متشددة تمارس التمييز ضد المواطنين الذين كفل النظام لهم التساوي في الحقوق والواجبات'.
والمحاضرة التي حضرها نحو ألفي شخص، بينهم حضور من مختلف مناطق المملكة شدد الصفار فيها على أن الوقت بات ملائما لطرح مشكلة التمييز الممارسة من قبل شريحة اجتماعية مستفيدة من بقاء الوضع على حاله. واصفا مطبقي التمييز بـ'الخارجين عن القانون'.
ورأى بـ'أن بعض الملفات لم تلقَ النقاش والطرح على الصعيد الوطني (سابقا)، إلا أنها في الوقت الحاضر فُتحت ملفاتها مثل حقوق الإنسان والفقر'.
في إشارة منه لتحقق إصلاحات عدة قدمها مسؤولو المملكة وعلى رأسهم الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
وطالب النخب السعودية بالحديث عن هذا الملف الذي بات يؤرق جزءا من أبناء الوطن، منتقدا حالة السكوت الذي جعل ممارسي التمييز يتمادون أكثر من أي وقت مضى.
واضاف 'لا بد من خلق مناخ معادي للمتشددين في أي طرف'، ضاربا المثل بـ'الحوار الوطني' الذي أطلقه الملك عبدالله.
وأضاف 'إن الحوار الوطني استبشر به الناس لأنهم شعروا أنه سيلامس هذا ملف التمييز بين المواطنين'.
وعن التشدد الديني الذي يقود للتمييز قال 'هناك جماعات متشددة تتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة الشيعة السعوديين بالولاء للخارج، وهذا منطق المهرجين، إذ أن الشيعة يشهد لهم بالولاء الوطني، وقد سمعت ذلك شخصيا من كبار مسؤولي الدولة' ،مضيفا 'إننا هنا ندافع كغيرنا عن تراب الوطن وأمنه واستقراره'.
ودان الصفار ممارسي التشدد من كل الأطراف، إذ قال 'نحن أيضا بيننا متشددون دينيا، وينبغي علينا تحمل مسؤوليتنا، كما نطالب الآخر بتحمل مسؤوليته'.
وزاد 'إن عدم الاعتراف بوجود مشكلة تمييز وتشدد ديني يسهم في خلق مناخ وطني سلبي،، كما أن عدم الاعتراف بأخطاء كل طرف ضد الطرف الآخر يؤدي لاستمرار المشكلة التي لا تعتبر من صالح البلاد'.
واستعرض جوانب عدة، من أشكال التمييز في العالم، إذ قال 'إننا نجد كيف تكون المشاكل وتكبر وتفتح مجالا للتدخل في شؤون البلدان، ففي مشكلة دارفور في السودان تدخل دولي بسبب عدم المساواة هناك، وفي أمريكا ناضل السود حتى وصل أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية'.
مستعرضا تاريخ النضال للسود الأمريكيين الذين جاؤوا لأمريكا كعبيد.
من جانبه قال الباحث حمود العتيبي القادم من العاصمة الرياض 'إن ما سمعته هذه الليلة خطاب وطني بامتياز، وهو يصلح ليكون نواة انطلاق لمعالجة هذه المشاكل التي يمارسها البعض'.
مضيفا 'لا أستطيع أن أخاطب المتطرفين، وأوجه خطابي للعقلاء في هذا الوطن العزيز لأقول لهم يجب أن نقف يدا واحدة ضد المشاكل التي تعترض طريق إصلاح الوطن، وأن نكون عونا لقيادتنا الرشيدة في تحقيق ذلك'.
وزاد 'من يفرق بين مواطن وآخر هو عدو لهذا الوطن، والجميع متساوون كما نص القانون على ذلك'.
ويصف مرتكبيه بالخارجين على القانون
أكد رجل الدين السعودي الشيعي الشيخ حسن الصفار في محاضرة ألقاها مؤخرا في مجلس المبارك في محافظة القطيف شرق السعودية أن الوقت بات ملائما لطرح مشكلة التمييز الطائفي القائمة في المملكة.
وأوضح بأن 'النظام الأساسي' للمملكة يخلو من أشكال التمييز بين المواطنين السعوديين ويضمن المساواة في الحقوق والواجبات حسبما ذكرت شبكة 'راصد' للانباء السعودية الشيعية،مستشهدا في ذلك بالمادة الثامنة لنظام الحكم ومستدركا 'رغم حضر القانون للتمييز، إلا أن هناك شريحة قليلة متشددة تمارس التمييز ضد المواطنين الذين كفل النظام لهم التساوي في الحقوق والواجبات'.
والمحاضرة التي حضرها نحو ألفي شخص، بينهم حضور من مختلف مناطق المملكة شدد الصفار فيها على أن الوقت بات ملائما لطرح مشكلة التمييز الممارسة من قبل شريحة اجتماعية مستفيدة من بقاء الوضع على حاله. واصفا مطبقي التمييز بـ'الخارجين عن القانون'.
ورأى بـ'أن بعض الملفات لم تلقَ النقاش والطرح على الصعيد الوطني (سابقا)، إلا أنها في الوقت الحاضر فُتحت ملفاتها مثل حقوق الإنسان والفقر'.
في إشارة منه لتحقق إصلاحات عدة قدمها مسؤولو المملكة وعلى رأسهم الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
وطالب النخب السعودية بالحديث عن هذا الملف الذي بات يؤرق جزءا من أبناء الوطن، منتقدا حالة السكوت الذي جعل ممارسي التمييز يتمادون أكثر من أي وقت مضى.
واضاف 'لا بد من خلق مناخ معادي للمتشددين في أي طرف'، ضاربا المثل بـ'الحوار الوطني' الذي أطلقه الملك عبدالله.
وأضاف 'إن الحوار الوطني استبشر به الناس لأنهم شعروا أنه سيلامس هذا ملف التمييز بين المواطنين'.
وعن التشدد الديني الذي يقود للتمييز قال 'هناك جماعات متشددة تتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة الشيعة السعوديين بالولاء للخارج، وهذا منطق المهرجين، إذ أن الشيعة يشهد لهم بالولاء الوطني، وقد سمعت ذلك شخصيا من كبار مسؤولي الدولة' ،مضيفا 'إننا هنا ندافع كغيرنا عن تراب الوطن وأمنه واستقراره'.
ودان الصفار ممارسي التشدد من كل الأطراف، إذ قال 'نحن أيضا بيننا متشددون دينيا، وينبغي علينا تحمل مسؤوليتنا، كما نطالب الآخر بتحمل مسؤوليته'.
وزاد 'إن عدم الاعتراف بوجود مشكلة تمييز وتشدد ديني يسهم في خلق مناخ وطني سلبي،، كما أن عدم الاعتراف بأخطاء كل طرف ضد الطرف الآخر يؤدي لاستمرار المشكلة التي لا تعتبر من صالح البلاد'.
واستعرض جوانب عدة، من أشكال التمييز في العالم، إذ قال 'إننا نجد كيف تكون المشاكل وتكبر وتفتح مجالا للتدخل في شؤون البلدان، ففي مشكلة دارفور في السودان تدخل دولي بسبب عدم المساواة هناك، وفي أمريكا ناضل السود حتى وصل أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية'.
مستعرضا تاريخ النضال للسود الأمريكيين الذين جاؤوا لأمريكا كعبيد.
من جانبه قال الباحث حمود العتيبي القادم من العاصمة الرياض 'إن ما سمعته هذه الليلة خطاب وطني بامتياز، وهو يصلح ليكون نواة انطلاق لمعالجة هذه المشاكل التي يمارسها البعض'.
مضيفا 'لا أستطيع أن أخاطب المتطرفين، وأوجه خطابي للعقلاء في هذا الوطن العزيز لأقول لهم يجب أن نقف يدا واحدة ضد المشاكل التي تعترض طريق إصلاح الوطن، وأن نكون عونا لقيادتنا الرشيدة في تحقيق ذلك'.
وزاد 'من يفرق بين مواطن وآخر هو عدو لهذا الوطن، والجميع متساوون كما نص القانون على ذلك'.
هذا هو المرجع العلامة آية الله العظمى يوسف الصانعي وهذه بعض مواقفه
لقاء سماحته رئيس المنظمة الشعبية للدفاع عن تحرير القدس (حجة الاسلام والمسلمين محتشمي بور
(الحق في قضية فلسطين هو ما قاله الامام الخميني من أنّ اسرائيل غدة سرطانية)
هذا ما قاله سماحة آية الله العظمى الصانعي في لقائه حجة الاسلام والمسلمين محتشمي بور رئيس المنظمة الشعبية للدفاع عن تحرير القدس الشريف وأعضاء اللجنة الطلابية للدفاع عن فلسطين.
كما أضاف فضيلته: "اني أعتقد أنّ الغربة الشديدة التي تعاني منها فلسطين اليوم هي أكثر من الغربة التي كانت تعيشها عهد النظام الملكي الظالم في ايران؛ وذلك لان النظام السابق اذا كان متواطئاً مع اسرائيل فان وضوح سقم عمله أمر لا غبار عليه، لكن اليوم تطرح بعض القضايا دون الالتفات الى لوازمها أو يبالغ في بعض المسائل التي تعود نتائجها السلبية على القدس الشريف ومجمل القضايا الفلسطينية".
كما قال: " لا يمكن توقّع نهوض الشعب في سبيل القضية الفلسطينية الاّ اذا اجتنبنا عن ارتكاب العنف في الداخل".
ويذكر أنّه في بداية اللقاء قدّم السيد محتشمي بور تقريراً عن مجمل الاوضاع في فلسطين والظروف القاسية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في مواجهة اسرائيل الغاصبة وقال: "من المؤسف أنّ الاوضاع في العالم لاسلامي وايران سببت اقرار نوع سكوت ذي مغزى وعدم مبالاة تجاه القضية الفلسطينية، أتاحت للنظام الاسرائيلي الفرصة لتمرير قضاياه وتنفيذ أجندته".
كما أشار الى مواقف الدول تجاه ايرن في القضية النووية وتجاذبات انتخابات رئاسة الجمهورية وقال: "من المؤسف أنّ الحكومة التي كان لها موقف خاص تجاه المحرقة اليهودية اختارت اليوم السكوت تجاه مسائل فلسطين". التاريخ : 2009/12/11
بيان سماحة آية الله العظمى الصانعي (مدّ ظلّه العالي) بمناسبة رحيل آية الله العظمى المنتظري( قدس الله نفسه الزكية)
بسمه تعالى
"اذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدّها شيء\"
رحل الى جوار ربّه الفقيه المتقي والعارف الزاهد والمحقق الذي قلّ نظيره والمجاهد الصبور وأسوة المقاومة شيخنا الاستاذ آية الله العظمى المنتظري (قدس الله نفسه الزكية). وبهذه المناسبة أبعث تعازيي الى صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن (أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء) ومراجع التقليد والحوزات العلمية والشعب الايراني الشريف وعوائل الشهداء والمضحّين وجميع الشعوب المتحرّرة وذويه السببين والنسبيين وبخاصة حجة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ أحمد المنتظري. آمل من الله القادر الرحيم أن يوفّق الجميع للمضي في طريقه، وهو طريق الترويج للاسلام الصادق الذي يعني التسليم أمام الحقّ والعدالة والتسليم أمام الكمال المطلق لذات الباري تعالى، وأن تكون حياتهم ومماتهم مقترنة بحبّ آل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) الذين قارعوا الظلم ووقفوا الى جنب المظلومين على طول التاريخ حتى نالوا الشهادة.
قم المقدسة يوسف الصانعي
3/محرم الحرام/1431--------------------------------------------2009/12/20
إنّ كربلاء وعاشوراء اللتيْن تُمثّلان رَمزاً حَيّاً لنا، هما مَظهر كُرهنا للظلم واشمئزازنا من الاستبداد. ولا رَيبَ في أنّ التعاطف مع عاشوراء هو عامل ضروريّ لاستئصال جذور العُنف في عالم البشريّة، وبيانٌ واضح لعلاقتنا الوطيدة بالمظلوم بكلّ المَقاييس
لعلّ أهمّ دَرس وعِبرة يُمكن استنباطهما من واقعة كَربلاء – التي نَعشقها ونُقيم لأجلها المَجالس ونُحيي لذكراها التعازي ونَعقد بصَددها المؤتمرات – هي بيان قُبح الإرهاب وقسوة الظلم وبشاعة الجريمة. ولا شَكّ في أنّ هذا المَوقف يُمثّل واحداً من الأمور التي يَفخر بها الشيعة الذين لا يَكتفون باعتبار الإرهاب ليس وسيلة للتحرّك والسّير قُدُماً، بل ويَسعون إلى مُحاربته والتّصدي له.
إنّ كربلاء وعاشوراء اللتيْن تُمثّلان رَمزاً حَيّاً لنا، هما مَظهر كُرهنا للظلم واشمئزازنا من الاستبداد. ولا رَيبَ في أنّ التعاطف مع عاشوراء هو عامل ضروريّ لاستئصال جذور العُنف في عالم البشريّة، وبيانٌ واضح لعلاقتنا الوطيدة بالمظلوم بكلّ المَقاييس.
ولقد كانت حادثة عاشوراء حركة سياسيّة مَدروسة، فالإمام الحسين(عليه السلام) لم يُقرّر تَرك المدينة والتوجّه إلى الكوفة إلاّ بطَلب وإلحاح مُتواصليْن من أهل الكوفة أنفسهم. فهو(عليه السلام) لَم يَذهب إلى هناك من أجل الحرب، إنّما فُرِضَت عليه الحَرب فَرضاً، فما كان عليه إلاّ قبول الشهادة للدّفاع عن المظلومين ومُقاومة الظلم ونَيل الحريّة. والواقع أنّه كان قراراً حاسماً يَدعو للفَخر والعزّة. ولم يَتوانى الإمام(عليه السلام) وأصحابه الأخيار الأوفياء عن سَفك دِمائهم والتّضحية بأرواحهم أملاً منهم في الوقوف بوَجه الظلم ومُقاومة الاستبداد، ليتمكّن أفراد البشر بعد ذلك العَيش بسلام وهدوء.
يوسف الصانعي
التاريخ : 2009/12/19
(الحق في قضية فلسطين هو ما قاله الامام الخميني من أنّ اسرائيل غدة سرطانية)
هذا ما قاله سماحة آية الله العظمى الصانعي في لقائه حجة الاسلام والمسلمين محتشمي بور رئيس المنظمة الشعبية للدفاع عن تحرير القدس الشريف وأعضاء اللجنة الطلابية للدفاع عن فلسطين.
كما أضاف فضيلته: "اني أعتقد أنّ الغربة الشديدة التي تعاني منها فلسطين اليوم هي أكثر من الغربة التي كانت تعيشها عهد النظام الملكي الظالم في ايران؛ وذلك لان النظام السابق اذا كان متواطئاً مع اسرائيل فان وضوح سقم عمله أمر لا غبار عليه، لكن اليوم تطرح بعض القضايا دون الالتفات الى لوازمها أو يبالغ في بعض المسائل التي تعود نتائجها السلبية على القدس الشريف ومجمل القضايا الفلسطينية".
كما قال: " لا يمكن توقّع نهوض الشعب في سبيل القضية الفلسطينية الاّ اذا اجتنبنا عن ارتكاب العنف في الداخل".
ويذكر أنّه في بداية اللقاء قدّم السيد محتشمي بور تقريراً عن مجمل الاوضاع في فلسطين والظروف القاسية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في مواجهة اسرائيل الغاصبة وقال: "من المؤسف أنّ الاوضاع في العالم لاسلامي وايران سببت اقرار نوع سكوت ذي مغزى وعدم مبالاة تجاه القضية الفلسطينية، أتاحت للنظام الاسرائيلي الفرصة لتمرير قضاياه وتنفيذ أجندته".
كما أشار الى مواقف الدول تجاه ايرن في القضية النووية وتجاذبات انتخابات رئاسة الجمهورية وقال: "من المؤسف أنّ الحكومة التي كان لها موقف خاص تجاه المحرقة اليهودية اختارت اليوم السكوت تجاه مسائل فلسطين". التاريخ : 2009/12/11
بيان سماحة آية الله العظمى الصانعي (مدّ ظلّه العالي) بمناسبة رحيل آية الله العظمى المنتظري( قدس الله نفسه الزكية)
بسمه تعالى
"اذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدّها شيء\"
رحل الى جوار ربّه الفقيه المتقي والعارف الزاهد والمحقق الذي قلّ نظيره والمجاهد الصبور وأسوة المقاومة شيخنا الاستاذ آية الله العظمى المنتظري (قدس الله نفسه الزكية). وبهذه المناسبة أبعث تعازيي الى صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن (أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء) ومراجع التقليد والحوزات العلمية والشعب الايراني الشريف وعوائل الشهداء والمضحّين وجميع الشعوب المتحرّرة وذويه السببين والنسبيين وبخاصة حجة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ أحمد المنتظري. آمل من الله القادر الرحيم أن يوفّق الجميع للمضي في طريقه، وهو طريق الترويج للاسلام الصادق الذي يعني التسليم أمام الحقّ والعدالة والتسليم أمام الكمال المطلق لذات الباري تعالى، وأن تكون حياتهم ومماتهم مقترنة بحبّ آل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) الذين قارعوا الظلم ووقفوا الى جنب المظلومين على طول التاريخ حتى نالوا الشهادة.
قم المقدسة يوسف الصانعي
3/محرم الحرام/1431--------------------------------------------2009/12/20
إنّ كربلاء وعاشوراء اللتيْن تُمثّلان رَمزاً حَيّاً لنا، هما مَظهر كُرهنا للظلم واشمئزازنا من الاستبداد. ولا رَيبَ في أنّ التعاطف مع عاشوراء هو عامل ضروريّ لاستئصال جذور العُنف في عالم البشريّة، وبيانٌ واضح لعلاقتنا الوطيدة بالمظلوم بكلّ المَقاييس
لعلّ أهمّ دَرس وعِبرة يُمكن استنباطهما من واقعة كَربلاء – التي نَعشقها ونُقيم لأجلها المَجالس ونُحيي لذكراها التعازي ونَعقد بصَددها المؤتمرات – هي بيان قُبح الإرهاب وقسوة الظلم وبشاعة الجريمة. ولا شَكّ في أنّ هذا المَوقف يُمثّل واحداً من الأمور التي يَفخر بها الشيعة الذين لا يَكتفون باعتبار الإرهاب ليس وسيلة للتحرّك والسّير قُدُماً، بل ويَسعون إلى مُحاربته والتّصدي له.
إنّ كربلاء وعاشوراء اللتيْن تُمثّلان رَمزاً حَيّاً لنا، هما مَظهر كُرهنا للظلم واشمئزازنا من الاستبداد. ولا رَيبَ في أنّ التعاطف مع عاشوراء هو عامل ضروريّ لاستئصال جذور العُنف في عالم البشريّة، وبيانٌ واضح لعلاقتنا الوطيدة بالمظلوم بكلّ المَقاييس.
ولقد كانت حادثة عاشوراء حركة سياسيّة مَدروسة، فالإمام الحسين(عليه السلام) لم يُقرّر تَرك المدينة والتوجّه إلى الكوفة إلاّ بطَلب وإلحاح مُتواصليْن من أهل الكوفة أنفسهم. فهو(عليه السلام) لَم يَذهب إلى هناك من أجل الحرب، إنّما فُرِضَت عليه الحَرب فَرضاً، فما كان عليه إلاّ قبول الشهادة للدّفاع عن المظلومين ومُقاومة الظلم ونَيل الحريّة. والواقع أنّه كان قراراً حاسماً يَدعو للفَخر والعزّة. ولم يَتوانى الإمام(عليه السلام) وأصحابه الأخيار الأوفياء عن سَفك دِمائهم والتّضحية بأرواحهم أملاً منهم في الوقوف بوَجه الظلم ومُقاومة الاستبداد، ليتمكّن أفراد البشر بعد ذلك العَيش بسلام وهدوء.
يوسف الصانعي
التاريخ : 2009/12/19
آية الله منتظري
"آية الله منتظري رجل ذو قيمة عالية ، عالم ملتزم ، فقيه جليل ،مجاهد كبير ، دخل السجون مراراً وتحمل الظلم والاضطهاد والأذى، فنضج بهذه الأمور... إنه خلاصة عمري..."
المرحوم الامام الخميني
"آية الله منتظري من الناحية العلمية أقوى من كثير ممن هم في مستوى درجة آية الله ودرجة المرجعية" الشهيد آية الله مرتضى مطهري
"آية الله منتظري أحد مراجع التقليد وأحد فقهائنا الكبار.. ويجب أن نعتبره من فقهاء الاسلام من الدرجة الاولى ..وهو كذلك...أستاذنا الكبير... أستاذ الحوزة العلمية..هو أمل الشعب الايراني في المستقبل".. السيد علي خامنئي
" آية الله منتظري فقيه مجتهد، جيد الذوق، دقيق الفهم،كثير المطالعة، ذو سابقة جمة، جيد الاختيار، سلس الذهن... والحوزات العلمية تذعن لشخصيته العلمية"
آية الله جنتي
" نظراً الى الأصل الخامس من القانون الأساسي الذي يجعل ولاية الأمر بعهدة الفقيه، العادل، المتقي، الواعي لمسائل العصر، المدير المدبّر فاننا نرى هذه الصفات متحققة في آية الله منتظري" مجلس الخبراء
مظلوم يا حسين يا شهيد
مظلوم يا حسين علي منتظري
يا شهيد الاسلام الرسالي والتشيع الحق
يا شهيد الوحدة الاسلامية الحقيقية
يا شهيد المحبة والتسامح والانفتاح
يا شهيد عاشوراء الكف في وجه السيف
يا شهيد الجمهورية الديمقراطية الاسلامية
يا شهيد حقوق الانسان في ايران والعالم الاسلامي
يا شهيد العدالة والحرية والكرامة
لكم الله يا شعب ايران العظيم
لكم الله يا آل بيت منتظري
لكم الله يا رفاق حسين علي منتظري
الرئيس السيد محمد خاتمي
الرئيس السيد مير حسين موسوي
الرئيس الشيخ مهدي كروبي
الرئيس آية الله الشيخ هاشمي رفسنجاني
السيد علي أكبر محتشمي بور
السيد بهزاد نبوي
السيد هادي خامنئي
لكم الله يا علماء ايران ومراجعها
يا آية الله يوسف صانعي
يا آية الله السيد خادمي أصفهاني
يا آية الله فاضل اللنكراني
يا آية الله ملكوتي
يا آية الله طاهري أصفهاني
لكم الله يا شهداء انتفاضة عاشوراء المباركة
يا رجال ونساء وشباب وشابات طهران وأصفهان وتبريز وشيراز ومشهد ونجف آباد
يا أبناء الثورة...
يا أبناء وأحفاد الخميني والمطهري وشريعتي وطالقاني وبهشتي والمنتظري ..
يا أبناء الحلم الذي يريدون اليوم قتله..
لكم الله يا أهالي الشهداء
وعظّم الله أجركم بهذا المصاب
ولا تهنوا ولا تحزنوا
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
منظمة الطلاب السائرين على نهج الامام المنتظري- طهران
المرحوم الامام الخميني
"آية الله منتظري من الناحية العلمية أقوى من كثير ممن هم في مستوى درجة آية الله ودرجة المرجعية" الشهيد آية الله مرتضى مطهري
"آية الله منتظري أحد مراجع التقليد وأحد فقهائنا الكبار.. ويجب أن نعتبره من فقهاء الاسلام من الدرجة الاولى ..وهو كذلك...أستاذنا الكبير... أستاذ الحوزة العلمية..هو أمل الشعب الايراني في المستقبل".. السيد علي خامنئي
" آية الله منتظري فقيه مجتهد، جيد الذوق، دقيق الفهم،كثير المطالعة، ذو سابقة جمة، جيد الاختيار، سلس الذهن... والحوزات العلمية تذعن لشخصيته العلمية"
آية الله جنتي
" نظراً الى الأصل الخامس من القانون الأساسي الذي يجعل ولاية الأمر بعهدة الفقيه، العادل، المتقي، الواعي لمسائل العصر، المدير المدبّر فاننا نرى هذه الصفات متحققة في آية الله منتظري" مجلس الخبراء
مظلوم يا حسين يا شهيد
مظلوم يا حسين علي منتظري
يا شهيد الاسلام الرسالي والتشيع الحق
يا شهيد الوحدة الاسلامية الحقيقية
يا شهيد المحبة والتسامح والانفتاح
يا شهيد عاشوراء الكف في وجه السيف
يا شهيد الجمهورية الديمقراطية الاسلامية
يا شهيد حقوق الانسان في ايران والعالم الاسلامي
يا شهيد العدالة والحرية والكرامة
لكم الله يا شعب ايران العظيم
لكم الله يا آل بيت منتظري
لكم الله يا رفاق حسين علي منتظري
الرئيس السيد محمد خاتمي
الرئيس السيد مير حسين موسوي
الرئيس الشيخ مهدي كروبي
الرئيس آية الله الشيخ هاشمي رفسنجاني
السيد علي أكبر محتشمي بور
السيد بهزاد نبوي
السيد هادي خامنئي
لكم الله يا علماء ايران ومراجعها
يا آية الله يوسف صانعي
يا آية الله السيد خادمي أصفهاني
يا آية الله فاضل اللنكراني
يا آية الله ملكوتي
يا آية الله طاهري أصفهاني
لكم الله يا شهداء انتفاضة عاشوراء المباركة
يا رجال ونساء وشباب وشابات طهران وأصفهان وتبريز وشيراز ومشهد ونجف آباد
يا أبناء الثورة...
يا أبناء وأحفاد الخميني والمطهري وشريعتي وطالقاني وبهشتي والمنتظري ..
يا أبناء الحلم الذي يريدون اليوم قتله..
لكم الله يا أهالي الشهداء
وعظّم الله أجركم بهذا المصاب
ولا تهنوا ولا تحزنوا
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
منظمة الطلاب السائرين على نهج الامام المنتظري- طهران
طابت ذكراك أيها الشيخ الجليل
عادل حبه
الخبر المحزن الذي تناقلته وكالات الأنباء يوم الأحد المصادف 20 كانون الأول حول رحيل الشيخ الجليل آية الله حسين علي منتظري عن عمر ناهز السابعة والثمانين، بقدر ما أثار لدي الأسى والحزن، فإنه قد أرجعني إلى عقد الستينيات من القرن الماضي لأستذكر تلك الأيام المريرة التي قضيتها في سجن "قصر" في عهد الشاه. فقد تعرفت في هذا السجن وعبر سبع سنوات على الكثير من الوجوه البارزة في الحركة الوطنية الإيرانية ومنهم شيخنا الجليل وإبنه محمد منتظري في قاطع رقم 4 من هذا السجن. إن السجن السياسي ربما يكون فريداً ولا يضاهيه أي مكان أحياناً في شفافيته، حيث يمكن للمرء أن لا يتعرف فقط على الخريطة السياسية والاجتماعية لأي بلد بسبب تلون التيارات التي ينتمي السجناء السياسيين إليها، بل إن السجن يكشف أيضا كل مكنونات السجين وخصاله، نقاط قوته وحسناته والصفات السلبية التي لا يتحرر أي كائن إنساني منها.
في ربيع عام 1966 نقلنا نحن السجناء الشيوعيون العراقيون من قاطع رقم 3 في سجن قصر إلى قاطع رقم 4 الأكثر اتساعاً ومساحة. هناك التقينا بنخبة فريدة من السجناء السياسيين الإيرانيين الذين نقل غالبيتهم من سجن برازجان الصحراوي في أقصى الجنوب الإيراني بعد أن أعيدوا إلى سجن العاصمة. وكان منهم الضباط الشيوعيين من أعضاء حزب توده إيران (أعدم خمسة منهم بعد 30 عاماً في السجن من قبل حكام إيران الحاليين) وقادة حزب "نهضة الحرية" بزعامة المهندس مهدي بازركان وآية الله سيد محمود الطالقاني. وكان من بين السجناء أيضاً طيب الذكر آية الله حسين علي منتظري وابنه محمد اللذين يقضيان مدة حكم لمدة سنتين، إضافة إلى اثنين من قادة حزب توده ممن جرى تخفيف الحكم عليهم من الإعدام إلى المؤبد وهما برويز حكمت جو وعلي خاوري. وكان هناك عدد آخر من السجناء من مختلف الإتجاهات. وكانت شخصيتي رجلي الدين المرحوم آية الله سيد محمود الطالقاني والفقيد آية الله حسين علي منتظري، هي أكثر ما جلب الانتباه من بين السجناء، الذين كانا يتمتعان بخصائص تميزهما عن مجموعة غير قليلة من رجال الدين ممن صادفتهم أثناء فترة السجن.
فالفقيد حسين علي منتظري كان شديد الالتزام بموقف متسامح خال من تكفير أو نبذ لمن يحمل أفكاراً أوعقائد أوأديان أخرى. فهو يختلط بالجميع ويتناقش دون أن يفسد للوّد قضية ودون أن يمتنع عن تلبية الدعوة على كأس شاي أو وليمة "سجنية" خلافاً لما كان يقوم بها فريق من المتشددين ممن يجلسون على كراسي الحكم في إيران الآن. فتراه تارة يجالس الشهيد كاكي أوانسيان( أعدم في مجزرة السجون في عام 1988) ليتناقش ويتبادل النوادر ثم يرجع ليقوم بإداء طقوسه الدينية عندما يحين وقتها.
ولم ير منتظري في الدين أو المذهب وسيلة للإكراه أو فرض طقوس وخيار إيماني محدد عملاً بالنص القرآني "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ـ البقرة:256". كما كان ينظر إلى الإيمان الديني كخيار للبشر مسترشداً بسورة الكهف:" وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا". فالبشر حسب هذه الآية مخيّر في إيمانه ولكنه غير مخير في "ظلمه" سواء أكان مؤمناً أم غير مؤمن. فغضب الخالق ينصب على كل الظالمين ومنهم من كان "مسلماً" من أمثال معاوية ويزيد والحجاج وصلاح الدين الأيوبي محرر القدس الذي سفك دماء كل أركان حكام مصر من السلالة الفاطمية، ناهيك عن الجبابرة "المسلمين" في عصرنا من أمثال صدام حسين وعزة الدوري وعلي خامنئي وخلخالي وغيرهم من "المسلمين" الذين يتحملون وزر قتل وإبادة البشر بدون تكليف من رب العالمين.
امتاز الفقيد بسعيه للمعرفة. فهو لم يحدد نفسه بالمصادر الدينية على أهميتها بالنسبة له كرجل دين، بل تبحر في الأدب الفارسي وفي اللغة العربية، وكان يطالع ما يتسرب بشكل سري إلى السجن من كتب متنوعة ويتناقش حولها مع أصحاب الآراء الأخرى دون أن يفسد ذلك احترامه لهم. تراه أحياناً منهمكاً في متابعة دراسته للغة الإنجليزية التي أتقنها في السجن هو وابنه محمد، الذي كنت أدقق له دروس اللغتين الإنجليزية والعربية.
لقد قضى الفقيد منتظري نصف حياته في السجون والنفي والتشرد والإبعاد في عهد الشاه، والحجر المنزلي والأذى في عهد حكام الجمهورية الأسلامية. ولم يُقل ذلك من إرادته بل زادته المحن قوة وجعلت منه حساسا للغاية ضد الظلم ومناصراً لحق الإنسان في الحياة وفي حرية المعتقد ومنتقداً بليغاً وصريحاً للانتهاكات في زمن "الجمهورية الإسلامية" ولكل اعوجاج في سياستها. وجراء ذلك أتُهم بأنه اتخذ "مواقف غير مبدئية" تجاه الحرب العراقية الإيرانية!!!.. وهذا ما حدا بالتيار المتشدد للتآمر عليه وإبعاده عن منصب خليفة الخميني أو قائمقامه في حالة رحيله، وإزاحته عن الميدان السياسي ومنعه من اللقاء بأحد وعومل بأقسى وأحط الأساليب. فقد وجّه منتظري انتقاداً صريحاً لسياسة حكام إيران التي تراهن على استمرار الحرب مع العراق، وانتقد الشعار الذي رفعه المتشددون وحتى بعض من العراقيين الذين التفوا حول المتشددين ورفعوا شعار:" حرب حرب حتى النصر" و"الطريق إلى فلسطين عبر كربلاء"، وما يعني ذلك من استمرار هذه الحرب العبثية الدموية التي أشعلها صدام واستمر بها حكام التطرف الديني في إيران. وفي هذا الإطار انتقد حكم الإعدام الجائر الذي صدر بحق صهره مهدي هاشمي، وتنفيذ هذا الحكم بسبب فضحه لصفقة ما سمي آنذاك بـ"إيران غيت" بعد الزيارة السرية لماكفرلين موفد الرئيس الأمريكي ريغان في عام 1987 من أجل إطلاق سراح الدبلوماسيين الأمريكان الستة الذين اختطفوا من قبل حزب الله في لبنان مقابل إمداد إسرائيل للأسلحة إلى إيران، بما يعني ذلك استمرار هذه الحرب الجهنمية التي جلبت الدمار والقتل الجماعي لكلى الشعبين.
ونظراً لمشاعره الإنسانية ولتجاربه الشخصية مع اضطهاد بني البشر، فقد كان الوحيد من بين رجال الدين في إيران وخارجها من وجّه أشد أشكال الإدانة للمجازر الجماعية التي أرتكبت في صيف عام 1988، والتي رافقت قبول المرحوم الخميني بوقف الحرب العراقية الإيرانية بعد فشل شعار "حرب حرب حتى النصر". وطالت هذه المجازر ما يزيد على 5 آلاف من السجناء السياسيين في مختلف سجون إيران، وتم إعدامهم في ليلة واحدة وبدون محاكمات وبدون أدنى مبرر سوى مطالبة هذه الحركات السياسية بوقف الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس. واعتبر منتظري أن سكوت المراجع الدينية على هذه الانتهاكات" بمثابة ذريعة بيد الحكم للمزيد من هذه الانتهاكات". ولذا فليس من قبيل الصدفة أن تشير داعية حقوق الإنسان السيدة شيرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل إلى ذلك في رثائها للفقيد منتظري حيث قالت:" ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن السجناء السياسيين وتخليت جراء ذلك عن كل المناصب الحكومية وحتى زعامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن المظلوم دون أن تحرض على العنف ضد الظالم. تعلمت منك إن سكوت المظلوم يشجع الظالم، فلا ينبغي التزام الصمت. أبي لقد تعلمت الكثير منك رغم إنني لم أف بمقامك كابنة وتلميذة لك".
نعم إن الفقيد لم يكن من ذلك الطراز الذي يتاجر بإيمانه أو دينه من أجل الجاه، ولا يتظاهر يذلك من أجل المنصب أو جمع الأموال . فهو لم يلطخ جبينه بالسواد كي يدلل على مبالغته بتدينه وليصبح ذلك جوازاً للحصول على المكاسب والجاه كما يفعل عدد غير قليل من طلاب المناصب الآن. ولم يتوسل الفقيد منتظري بفتاوى تتعارض مع القيم الإنسانية، فهو الذي أفتى بجواز المصافحة بين النساء والرجال، واعتبر إن رفض هذه المصافحة لا يدل إلا على عدم الاحترام وقلة الذوق ولا علاقة لهذا الرفض بالمعايير الدينية. وكان الوحيد من بين رجال الدين من دافع عن الحريات الدينية و أدان القمع والتصفيات ضد أتباع المذهب البهائي في إيران معتبراً أن البهائيين مواطنون إيرانيون يجب أن يتمتعوا بنفس حقوق سائر المواطنين الإيرانيين. وأفتى بعدم شرعية انتزاع الاعترافات من المتهمين بالقوة وأدان مثل هذه الأساليب التي تمارس في أقبية سجون ومعتقلات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقال:"إن مثل هذه الاعترافات ليس لها أي أساس شرعي وقانوني ويجب توجيه الاتهام لمرتكبي هذه الأفعال وتقديمهم إلى محاكم عادلة وعلنية لكي يشعر المواطنون بعدم انتهاك حرياتهم ويشعروا بالأمل في المستقبل وأن لا يجري التوسل بالقمع وسد أبواب الجامعات لمنع الشعب من الاحتجاج". وفي الذكرى الثلاثين لاحتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الطلبة، اعتبر هذا الأجراء غير صحيح ولا يمت بصلة إلى طابع العلاقات المتحضرة بين الدول مهما كانت اختلافاتها.
وأعتبر منتظري إن ممارسات ولاية الفقية، والمرشد علي خامنئي على وجه الخصوص، ما هي إلاّ ضرب من الاستبداد الذي أطلق عليها أسم "ولاية العسكر"، وهي تشكل خطراً على الدين وعلى المراجع الدينية. وأكد وهو الذي أشرف على كتابة الدستور على أنه ليس من حق الولي الفقيه الولاية المطلقة ومصادرة رأي الناخب الإيراني بحيث يتحول الفقيه إلى الحاكم المطلق، فالنبي لم تكن لديه الولاية المطلقة. وأكد خاصة في السنوات الأخيرة على ضرورة "إدارة شؤون البلاد على أساس رأي الشعب". وإن مهمة ولي الفقيه هي الشؤون الفقهية والمراقبة على سير تطبيق الدستور وليس التحول هو ورجال الدين الآخرين من أنصاره إلى قادة لقوى الأمن أو إلى ضباط تحقيق ومخابرات أوإلى وزراء للداخلية. وطالب بعدم تدخل الولي الفقيه في شؤون الحكم واحترام الفصل بين السلطات والمسؤولية المشتركة أمام القانون دون أن يكون لولي الفقيه موقع فوق القوانين.
وتبلورت مواقف آية الله منتظري ضد الاستبداد والدفاع عن حقوق المواطن الإيراني في الأشهر الأخيرة من عمره بعد التزوير الفاضح في انتخابات رئاسة الجمهورية وتبلور "حركة الخضر" المناهضة للاستبداد الديني و "للدكتاتور"، بحيث أصبح الفقيد الزعيم الروحي لهذه الحركة الإصلاحية. وأعلن منتظري بصراحة "أن من يتوسل بالعنف والتزوير يفقد أية مشروعية في تولي المناصب والمسؤولية في الدولة الإيرانية". وعبر الفقيد بعد إعلان نتائج الانتخابات أن " العدالة والأمانة قد انهارت"، وحذر المسؤولين من نسيان استبداد الشاه وتجربته الفاشلة.
لقد مرت سنوات على اللقاء بهذه الشخصية الدينية الإنسانية، وكان آخرها دعوته لي والعائلة في بيته في مدينة قم بعد انتصار الثورة الإيرانية في ربيع عام 1979 وبعد تحرره من سجن الشاه. كان أكثر تواضعاً وبساطة وأشد حماساً لبناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان ومختلف الآراء والأديان، وعبر عن امتنانه لاستضافتي لابنه الشهيد محمد الذي قدم إلى العراق وأقام في بيتنا بعد هروبه من ملاحقة نظام الشاه عام 1972، ثم التحاقة بمكتب الراحل الخميني في مدينة النجف ثم عودته من جديد سراً إلى إيران. وقد ذهب محمد ضحية التفجير الذي عصف بمقر الحزب الجمهوري في طهران في يوم إطلاق سراحي من سجن إيفين في طهران في يوم 28 حزيران عام 1981.
طابت ذكراك أبها الشيخ الجليل، ولتهب في سماء إيران نسائم التسامح والمحبة وسمو القيم الإنسانية والإنسان باعتباره صاحب الحق و الكلمة الأخيرة في إدارة شؤونه.
adelmhaba@yahoo.co.uk
كاتب عراقي
الخبر المحزن الذي تناقلته وكالات الأنباء يوم الأحد المصادف 20 كانون الأول حول رحيل الشيخ الجليل آية الله حسين علي منتظري عن عمر ناهز السابعة والثمانين، بقدر ما أثار لدي الأسى والحزن، فإنه قد أرجعني إلى عقد الستينيات من القرن الماضي لأستذكر تلك الأيام المريرة التي قضيتها في سجن "قصر" في عهد الشاه. فقد تعرفت في هذا السجن وعبر سبع سنوات على الكثير من الوجوه البارزة في الحركة الوطنية الإيرانية ومنهم شيخنا الجليل وإبنه محمد منتظري في قاطع رقم 4 من هذا السجن. إن السجن السياسي ربما يكون فريداً ولا يضاهيه أي مكان أحياناً في شفافيته، حيث يمكن للمرء أن لا يتعرف فقط على الخريطة السياسية والاجتماعية لأي بلد بسبب تلون التيارات التي ينتمي السجناء السياسيين إليها، بل إن السجن يكشف أيضا كل مكنونات السجين وخصاله، نقاط قوته وحسناته والصفات السلبية التي لا يتحرر أي كائن إنساني منها.
في ربيع عام 1966 نقلنا نحن السجناء الشيوعيون العراقيون من قاطع رقم 3 في سجن قصر إلى قاطع رقم 4 الأكثر اتساعاً ومساحة. هناك التقينا بنخبة فريدة من السجناء السياسيين الإيرانيين الذين نقل غالبيتهم من سجن برازجان الصحراوي في أقصى الجنوب الإيراني بعد أن أعيدوا إلى سجن العاصمة. وكان منهم الضباط الشيوعيين من أعضاء حزب توده إيران (أعدم خمسة منهم بعد 30 عاماً في السجن من قبل حكام إيران الحاليين) وقادة حزب "نهضة الحرية" بزعامة المهندس مهدي بازركان وآية الله سيد محمود الطالقاني. وكان من بين السجناء أيضاً طيب الذكر آية الله حسين علي منتظري وابنه محمد اللذين يقضيان مدة حكم لمدة سنتين، إضافة إلى اثنين من قادة حزب توده ممن جرى تخفيف الحكم عليهم من الإعدام إلى المؤبد وهما برويز حكمت جو وعلي خاوري. وكان هناك عدد آخر من السجناء من مختلف الإتجاهات. وكانت شخصيتي رجلي الدين المرحوم آية الله سيد محمود الطالقاني والفقيد آية الله حسين علي منتظري، هي أكثر ما جلب الانتباه من بين السجناء، الذين كانا يتمتعان بخصائص تميزهما عن مجموعة غير قليلة من رجال الدين ممن صادفتهم أثناء فترة السجن.
فالفقيد حسين علي منتظري كان شديد الالتزام بموقف متسامح خال من تكفير أو نبذ لمن يحمل أفكاراً أوعقائد أوأديان أخرى. فهو يختلط بالجميع ويتناقش دون أن يفسد للوّد قضية ودون أن يمتنع عن تلبية الدعوة على كأس شاي أو وليمة "سجنية" خلافاً لما كان يقوم بها فريق من المتشددين ممن يجلسون على كراسي الحكم في إيران الآن. فتراه تارة يجالس الشهيد كاكي أوانسيان( أعدم في مجزرة السجون في عام 1988) ليتناقش ويتبادل النوادر ثم يرجع ليقوم بإداء طقوسه الدينية عندما يحين وقتها.
ولم ير منتظري في الدين أو المذهب وسيلة للإكراه أو فرض طقوس وخيار إيماني محدد عملاً بالنص القرآني "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ـ البقرة:256". كما كان ينظر إلى الإيمان الديني كخيار للبشر مسترشداً بسورة الكهف:" وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا". فالبشر حسب هذه الآية مخيّر في إيمانه ولكنه غير مخير في "ظلمه" سواء أكان مؤمناً أم غير مؤمن. فغضب الخالق ينصب على كل الظالمين ومنهم من كان "مسلماً" من أمثال معاوية ويزيد والحجاج وصلاح الدين الأيوبي محرر القدس الذي سفك دماء كل أركان حكام مصر من السلالة الفاطمية، ناهيك عن الجبابرة "المسلمين" في عصرنا من أمثال صدام حسين وعزة الدوري وعلي خامنئي وخلخالي وغيرهم من "المسلمين" الذين يتحملون وزر قتل وإبادة البشر بدون تكليف من رب العالمين.
امتاز الفقيد بسعيه للمعرفة. فهو لم يحدد نفسه بالمصادر الدينية على أهميتها بالنسبة له كرجل دين، بل تبحر في الأدب الفارسي وفي اللغة العربية، وكان يطالع ما يتسرب بشكل سري إلى السجن من كتب متنوعة ويتناقش حولها مع أصحاب الآراء الأخرى دون أن يفسد ذلك احترامه لهم. تراه أحياناً منهمكاً في متابعة دراسته للغة الإنجليزية التي أتقنها في السجن هو وابنه محمد، الذي كنت أدقق له دروس اللغتين الإنجليزية والعربية.
لقد قضى الفقيد منتظري نصف حياته في السجون والنفي والتشرد والإبعاد في عهد الشاه، والحجر المنزلي والأذى في عهد حكام الجمهورية الأسلامية. ولم يُقل ذلك من إرادته بل زادته المحن قوة وجعلت منه حساسا للغاية ضد الظلم ومناصراً لحق الإنسان في الحياة وفي حرية المعتقد ومنتقداً بليغاً وصريحاً للانتهاكات في زمن "الجمهورية الإسلامية" ولكل اعوجاج في سياستها. وجراء ذلك أتُهم بأنه اتخذ "مواقف غير مبدئية" تجاه الحرب العراقية الإيرانية!!!.. وهذا ما حدا بالتيار المتشدد للتآمر عليه وإبعاده عن منصب خليفة الخميني أو قائمقامه في حالة رحيله، وإزاحته عن الميدان السياسي ومنعه من اللقاء بأحد وعومل بأقسى وأحط الأساليب. فقد وجّه منتظري انتقاداً صريحاً لسياسة حكام إيران التي تراهن على استمرار الحرب مع العراق، وانتقد الشعار الذي رفعه المتشددون وحتى بعض من العراقيين الذين التفوا حول المتشددين ورفعوا شعار:" حرب حرب حتى النصر" و"الطريق إلى فلسطين عبر كربلاء"، وما يعني ذلك من استمرار هذه الحرب العبثية الدموية التي أشعلها صدام واستمر بها حكام التطرف الديني في إيران. وفي هذا الإطار انتقد حكم الإعدام الجائر الذي صدر بحق صهره مهدي هاشمي، وتنفيذ هذا الحكم بسبب فضحه لصفقة ما سمي آنذاك بـ"إيران غيت" بعد الزيارة السرية لماكفرلين موفد الرئيس الأمريكي ريغان في عام 1987 من أجل إطلاق سراح الدبلوماسيين الأمريكان الستة الذين اختطفوا من قبل حزب الله في لبنان مقابل إمداد إسرائيل للأسلحة إلى إيران، بما يعني ذلك استمرار هذه الحرب الجهنمية التي جلبت الدمار والقتل الجماعي لكلى الشعبين.
ونظراً لمشاعره الإنسانية ولتجاربه الشخصية مع اضطهاد بني البشر، فقد كان الوحيد من بين رجال الدين في إيران وخارجها من وجّه أشد أشكال الإدانة للمجازر الجماعية التي أرتكبت في صيف عام 1988، والتي رافقت قبول المرحوم الخميني بوقف الحرب العراقية الإيرانية بعد فشل شعار "حرب حرب حتى النصر". وطالت هذه المجازر ما يزيد على 5 آلاف من السجناء السياسيين في مختلف سجون إيران، وتم إعدامهم في ليلة واحدة وبدون محاكمات وبدون أدنى مبرر سوى مطالبة هذه الحركات السياسية بوقف الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس. واعتبر منتظري أن سكوت المراجع الدينية على هذه الانتهاكات" بمثابة ذريعة بيد الحكم للمزيد من هذه الانتهاكات". ولذا فليس من قبيل الصدفة أن تشير داعية حقوق الإنسان السيدة شيرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل إلى ذلك في رثائها للفقيد منتظري حيث قالت:" ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن السجناء السياسيين وتخليت جراء ذلك عن كل المناصب الحكومية وحتى زعامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن المظلوم دون أن تحرض على العنف ضد الظالم. تعلمت منك إن سكوت المظلوم يشجع الظالم، فلا ينبغي التزام الصمت. أبي لقد تعلمت الكثير منك رغم إنني لم أف بمقامك كابنة وتلميذة لك".
نعم إن الفقيد لم يكن من ذلك الطراز الذي يتاجر بإيمانه أو دينه من أجل الجاه، ولا يتظاهر يذلك من أجل المنصب أو جمع الأموال . فهو لم يلطخ جبينه بالسواد كي يدلل على مبالغته بتدينه وليصبح ذلك جوازاً للحصول على المكاسب والجاه كما يفعل عدد غير قليل من طلاب المناصب الآن. ولم يتوسل الفقيد منتظري بفتاوى تتعارض مع القيم الإنسانية، فهو الذي أفتى بجواز المصافحة بين النساء والرجال، واعتبر إن رفض هذه المصافحة لا يدل إلا على عدم الاحترام وقلة الذوق ولا علاقة لهذا الرفض بالمعايير الدينية. وكان الوحيد من بين رجال الدين من دافع عن الحريات الدينية و أدان القمع والتصفيات ضد أتباع المذهب البهائي في إيران معتبراً أن البهائيين مواطنون إيرانيون يجب أن يتمتعوا بنفس حقوق سائر المواطنين الإيرانيين. وأفتى بعدم شرعية انتزاع الاعترافات من المتهمين بالقوة وأدان مثل هذه الأساليب التي تمارس في أقبية سجون ومعتقلات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقال:"إن مثل هذه الاعترافات ليس لها أي أساس شرعي وقانوني ويجب توجيه الاتهام لمرتكبي هذه الأفعال وتقديمهم إلى محاكم عادلة وعلنية لكي يشعر المواطنون بعدم انتهاك حرياتهم ويشعروا بالأمل في المستقبل وأن لا يجري التوسل بالقمع وسد أبواب الجامعات لمنع الشعب من الاحتجاج". وفي الذكرى الثلاثين لاحتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الطلبة، اعتبر هذا الأجراء غير صحيح ولا يمت بصلة إلى طابع العلاقات المتحضرة بين الدول مهما كانت اختلافاتها.
وأعتبر منتظري إن ممارسات ولاية الفقية، والمرشد علي خامنئي على وجه الخصوص، ما هي إلاّ ضرب من الاستبداد الذي أطلق عليها أسم "ولاية العسكر"، وهي تشكل خطراً على الدين وعلى المراجع الدينية. وأكد وهو الذي أشرف على كتابة الدستور على أنه ليس من حق الولي الفقيه الولاية المطلقة ومصادرة رأي الناخب الإيراني بحيث يتحول الفقيه إلى الحاكم المطلق، فالنبي لم تكن لديه الولاية المطلقة. وأكد خاصة في السنوات الأخيرة على ضرورة "إدارة شؤون البلاد على أساس رأي الشعب". وإن مهمة ولي الفقيه هي الشؤون الفقهية والمراقبة على سير تطبيق الدستور وليس التحول هو ورجال الدين الآخرين من أنصاره إلى قادة لقوى الأمن أو إلى ضباط تحقيق ومخابرات أوإلى وزراء للداخلية. وطالب بعدم تدخل الولي الفقيه في شؤون الحكم واحترام الفصل بين السلطات والمسؤولية المشتركة أمام القانون دون أن يكون لولي الفقيه موقع فوق القوانين.
وتبلورت مواقف آية الله منتظري ضد الاستبداد والدفاع عن حقوق المواطن الإيراني في الأشهر الأخيرة من عمره بعد التزوير الفاضح في انتخابات رئاسة الجمهورية وتبلور "حركة الخضر" المناهضة للاستبداد الديني و "للدكتاتور"، بحيث أصبح الفقيد الزعيم الروحي لهذه الحركة الإصلاحية. وأعلن منتظري بصراحة "أن من يتوسل بالعنف والتزوير يفقد أية مشروعية في تولي المناصب والمسؤولية في الدولة الإيرانية". وعبر الفقيد بعد إعلان نتائج الانتخابات أن " العدالة والأمانة قد انهارت"، وحذر المسؤولين من نسيان استبداد الشاه وتجربته الفاشلة.
لقد مرت سنوات على اللقاء بهذه الشخصية الدينية الإنسانية، وكان آخرها دعوته لي والعائلة في بيته في مدينة قم بعد انتصار الثورة الإيرانية في ربيع عام 1979 وبعد تحرره من سجن الشاه. كان أكثر تواضعاً وبساطة وأشد حماساً لبناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان ومختلف الآراء والأديان، وعبر عن امتنانه لاستضافتي لابنه الشهيد محمد الذي قدم إلى العراق وأقام في بيتنا بعد هروبه من ملاحقة نظام الشاه عام 1972، ثم التحاقة بمكتب الراحل الخميني في مدينة النجف ثم عودته من جديد سراً إلى إيران. وقد ذهب محمد ضحية التفجير الذي عصف بمقر الحزب الجمهوري في طهران في يوم إطلاق سراحي من سجن إيفين في طهران في يوم 28 حزيران عام 1981.
طابت ذكراك أبها الشيخ الجليل، ولتهب في سماء إيران نسائم التسامح والمحبة وسمو القيم الإنسانية والإنسان باعتباره صاحب الحق و الكلمة الأخيرة في إدارة شؤونه.
adelmhaba@yahoo.co.uk
كاتب عراقي
الكواكبي والنائيني: جوانب غير مكتشفة
محمد جمال باروت
تم مؤخراً اكتشاف الترجمة الفارسية لكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي (1854 - 1902)، في مكتبة جامعة "برنستون" في الولايات المتحدة الأمريكية (1). وقد بيَّن مترجمها عبد الحسين في مقدمته المقتضبة أنه أنهى الترجمة في شهر شعبان سنة 1325هـ أي ما يوافق شباط 1907م، حيث قامت المكتبة العلمية الإسلامية في طهران بطبع الترجمة عام 1327هـ أي عام 1909م وتوزيعها. وهو العام الذي احتدم فيه الصراع ما بين الثورة الدستورية الإيرانية والشاه محمد علي القاجاري، والذي انقسمت فيه المؤسسة الدينية الشيعية ومجتهدوها بشكل قطبي حاد إلى ما عُرف بـ "أنصار المستبدة" و"أنصار المشروطة". وقد تزامن نشر هذه الترجمة لكتاب الكواكبي مع إصدار الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (1860 - 1936) مُنظِّر ثورة "المشروطة" لكتابه "تنبيه الأمة وتنزيه الملة في وجوب المشروطة" في العام نفسه، والذي يُعتبر وثيقة راديكالية نادرة وراقية بالغة التطور عن مدى نضج الخطاب الإصلاحي الإسلامي في المجال الشيعي الإسلامي الاثني عشري، وصياغته لنظرية "ولاية الأمة على نفسها" في عصر الغيبة (غيبة الإمام المهدي المنتظر وهو الإمام الثاني عشر للشيعة الجعفرية) التي جاءت الصياغة الخمينية لنظرية "ولاية الفقيه" والتي تشكل حالياً الأساس الفقهي للجمهورية الإسلامية في إيران لتقيم قطعاً باتراً معها وعنها في آن، وهو ما يفسر تهميش الأجهزة الأيديولوجية الإيرانية لهذه الوثيقة واستبعادها وإقصاءها.
وقد جاء في مقدمة المترجم عبد الحسين (هل هو الشيخ عبد الحسين الحلّي الذي بقي مرافقاً لآية الله العظمى النائيني حتى وفاته؟) أنه قد قام بهذه الترجمة "استجابة للأوامر الصادرة، لتعميم الفائدة للعوام والخواص" بوصف كتاب "طبائع الاستبداد" "من الكتب النفيسة والمفيدة في مجال توعية الشعب وإيقاظه من نوم الجهل والغفلة وخلق استعداد الرقي والتربية، وبذلك فهو من أفضل المؤلفات القديمة والجديدة، بل يمكن القول في هذا المجال بأنه لم يؤلَّف كتاب مثله حتى الآن" (2). ومن المعروف أن الطبعة العربية الأولى لـ "طبائع الاستبداد" قد صدرت عام 1900، ووزعت في حينه على نطاق واسع، ثم نقَّحها الكواكبي وزاد عليها بما يعادل ضعفها، ووضع لها عام 1902 مقدمةً جديدة كطبعة ثانية. إلا أن هذه الطبعة في صورتها المزيدة لم تنشر إلا عام 1973 حين بادر حفيد الكواكبي وحافظ تراثه الدكتور عبد الرحمن الكواكبي إلى طبعها بالاستناد إلى أوراقها المكتوبة بخط جده (3) . وبذلك فإن الترجمة الفارسية لـ "طبائع الاستبداد" هي الترجمة لكتاب الكواكبي في شكله الذي عبرت عنه الطبعات الأولى ماقبل هذه الطبعة المزيدة.
وتأخذ هذه الترجمة أهميتها من كونها تمَّت في ظروف الثورة الدستورية الإيرانية المعروفة تاريخياً باسم "المشروطة"، حيث مارست تأثيراً واضحاً على كتاب "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" (4) للنائيني منظِّر تلك الثورة وكنا قد أشرنا في كتابنا "يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة"، وفي معرض تحليلنا للقطيعة التي أحدثتها نظرية "ولاية الفقيه" كما صاغها الخميني عن نظرية "ولاية الأمة على نفسها" الإصلاحية الشيعية المستنيرة، وافتقاد نظرية "ولاية الفقيه" بصياغتها تلك إلى أي سند فقهي معتبر يسبغ عليها صفة الأصالة، إلى أنه بغض النظر عن مدى اطلاع الإمام النائيني على "طبائع الاستبداد" فإن تحديده لمعنى الاستبداد وما يقابله، وتعيينه للآلية القائمة ما بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي يتم "وفقاً لطريقة الكواكبي، بل وبشكلٍ يقترب كثيراً من لغة الكواكبي وصياغاته وروحيته" (5) فوصفنا النائيني بـ "كواكبي الشيعة".
وكان دليلنا إلى ذلك علمياً صرفاً، يقوم على المقارنة ما بين الكتابين، بشكلٍ يمكننا فيه القول إن "طبائع الاستبداد" هو بمثابة نص غائب امتصه الإمام النائيني، وأعاد بناءه في رسالته العظيمة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" بما ينسجم مع حركة "المشروطة" في إيران، التي يمكن القول إن أساسها الفقهي قد قام على نظرية "ولاية الأمة على نفسها".
غير أننا لم نتمكن آنذاك من معرفة هل كان كتاب الكواكبي مترجماً إلى الفارسية أم لا، إلى أن تم منذ فترة وجيزة التعرف على هذه الترجمة المطبوعة، والتأكد في ظل المعطيات النصية والسياقية من اطلاع النائيني عليها وامتصاصه لها. فما هو السياق الذي صدرت فيه الترجمة الفارسية لـ "طبائع الاستبداد"؟ وما دلالات التزامن ما بين نشر هذه الترجمة وإصدار الإمام النائيني لرسالته الجريئة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" في عام واحد وسياقٍ واحد ولأغراض واحدة؟ ومن الذي دفع لإصدار الأمر بترجمة "طبائع الاستبداد" إلى الفارسية، ما دام المترجم عبد الحسين يشير إلى أن ترجمته للكتاب قد تمَّت "استجابة للأوامر الصادرة"؟
* * *
أرجح التقدير أن "الأوامر الصادرة" التي يُفترض أن صاحبها يتمتع بسلطة المرجعية، هي أوامر آية الله محمد كاظم الخراساني (1838 - 1911) الذي كان قائد الثورة الدستورية إلى جانب الشيخ عبد الله المازنداري أحد كبار المجتهدين المراجع. وقد وضع الخراساني والمازنداري، مقدمة لـ "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" أجازا فيه الكتاب، وتمتعت إجازتهما له بوصفهما من كبار المجتهدين المراجع بقوة الفتوى والإجازة الشرعية لما جاء في الكتاب من أفكار جريئة وراديكالية، مع أن النائيني نفسه كان يومئذٍ مجتهداً إلا أنه أقل مرتبة من اجتهاد المرجعين اللذين أجازا كتابه، وكان من فضلاء الشيخ الخراساني.
من هنا ليس من المستبعد أن الخراساني هو الذي أمر بالترجمة وبكتابة النائيني لكتابه في آن، وهو ما يحتمل اطلاع النائيني على الترجمة إبانها وبعد الانتهاء منها، علماً أنها طبعت بعد سنتين من إنهاء ترجمتها، ليتزامن نشرها مع كتاب النائيني. وإذا كان المترجم عبد الحسين هو نفسه الشيخ عبد الحسين الحلّي، فإن هذا يعزز الاحتمال بشكل قاطع، إذ كان عبد الحسين الحلي من مرافقي النائيني وفضلائه حتى وفاة هذا الأخير. وبالتالي يفسر ذلك تأثر النائيني بصياغات الكواكبي. فإذا كان الجهاز المفهومي للنائيني والكواكبي يكاد يكون واحداً بحكم أن هذا الجهاز هو نفسه الجهاز المفهومي لحركة الإصلاح الإسلامي برمتها، فإن القسم المتعلق بالاستبداد في كتاب النائيني شديد الصلة بكتاب الكواكبي، فالنائيني يعرِّف الاستبداد وما يقابله وفق تعريف الكواكبي، وأحياناً وفق صياغاته نفسها. فيقول الكواكبي "يستعملون في مقام كلمة استبداد كلمات استعباد واعتساف وتسلط وتحكم في مقابلتها كلمات شرع مصون، وحقوق محترمة، وحس مشترك وحياة طيبة. ويستعملون في مقام صفة (مستبد) كلمات حاكم بأمره، وحاكم مطلق، وظالم، وجبار، وفي مقابلة حكومة مستبدة كلمات عادلة ومقيدة ومسئولة. ويستعملون في مقام صفة (مستبد عليهم) كلمات أسرى، وأذلاء ومستصغرين ومستنبتين وفي مقابلتها محتسبون وأباة وأحرار وأحياء" (6) في حين يقول النائيني "وهذه السلطة تسمى: المحدودة والمقيدة والعادلة والمشروطة والمسئولة والدستورية ووجه تسميتها من هذه الأسماء ظاهر. والقائم بهذه السلطة يسمى الحافظ والحارس والقائم بالقسط، والمسئول والعادل، والأمة المتنعمة بكل هذه النعمة، تسمى: أمة محتسبة، وأبية، وحرة، وحية"(7) .
ويأخذ التناص ما بين "طبائع الاستبداد" و"تنبيه الأمة" بعداً أكثر وضوحاً في تحليل العلاقة ما بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، وهو ما يستفيض به النائيني بلغة كفاحية وراقية المستوى وشديدة التنظيم، فنجد التناص بين قول الكواكبي عن أن العوام يجدون "معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات وهم هم ليس من شأنهم أن يفرِّقوا بين الفعال المطلق والحاكم بأمره، وبين "لا يسأل عما يفعل" و"غير مسئول" وبين "المنعم وولي النعم" وبين "جل شأنه" و"جليل الشأن"، بناءً عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، وهذه الحال هي التي سهلت .. دعوى بعض المستبدين الألوهية" (8) وبين قول النائيني "وأصبحت (أي الشعبة الاستبدادية الدينية) تعد سلبنا للظالمين صفات الذات الأحدية كالفعال لما يشاء، والحاكم بما يريد والمالك للرقاب وعدم المسئولية عما يفعل منافية للدين الإسلامي" (9) والانقياد للمستبد السياسي الذي يستمد استبداده من الدين هو من "مراتب الشرك بالذات الأحدية -في المالكية، والحاكمية بما يريد، والفعالية لما يشاء، وعدم المسؤولية عما يفعل - إلى غير ذلك من الصفات الخاصة بالألوهية والأسماء القدسية الخاصة به جل شأنه"(10) .
والحقيقة أن "الصفات الإلهية" التي يدعيها المستبد ضمناً هي واحدة من توصيف الكواكبي والنائيني لها، كما أن ما يفهمه الكواكبي من معنى الحكومة الدستورية وأنظمتها ومؤسساته هو على وجه الدقة ما يفهمه منها النائيني وبشكل متقارب كثيراً. ومن هنا فإن لغة الكواكبي المعادية لـ "الكهنوتية" تجد ما يعادلها تماماً في لغة النائيني، وإن كانت في لغة النائيني تأخذ أبعاداً أكثر تشخيصاً، نتيجة مواجهة النائيني للسلطة المرجعية التي يضطلع بها المجتهدون من أنصار المستبدة، فيشير إلى أن "تقليدهم" (والتقليد في المذهب الجعفري واجب شرعي على العوام) هو من قبيل اتخاذ الأحبار آلهة من دون الله. فنبرة النائيني الجريئة والكفاحية ضد "الإكليركية" تأخذ هنا في المجال الشيعي سياقاً خاصاً، كنتيجة لخصوصية العلاقة ما بين العوام والمرجع على أساس التقليد، ومن هنا فإنها تكتسب دلالات خاصة. فلا يصف النائيني وهو المجتهد تلك "الإكليركية" بأقل من صفات "الطائفة الشريرة المتلصصة المعممة" من "عبيد السلطان" و"منافقي العصر وشياطينه وعبدة ظالميه وفاسقيه" و"لصوص الدين" و"مضلي ضعفاء المسلمين".
ويشير ذلك كله إلى التكامل الوظيفي ما بين "طبائع الاستبداد" و"تنبيه الأمة" في شروط الثورة الدستورية الإيرانية. وهو ما يقودنا إلى قراءة هذا التكامل في إطار النفوذ الهائل الذي تمتعت به أفكار الإصلاح الإسلامي في المجال الشيعي الجعفري في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، وتسليط الأضواء على طبيعة العلاقة ما بين الأفكار الإصلاحية الإسلامية لجمال الدين الأفغاني على وجه التحديد وما بين المناخ الذي تفاعلت فيه ترجمة "طبائع الاستبداد" وكتاب "تنبيه الأمة".
* * *
يشكل وصول "طبائع الاستبداد" إلى "النجف" أمراً طبيعياً للغاية، في سياق الاستهلاك النجفي الواسع لأدبيات الإصلاح الإسلامي في تلك الحقبة. فإذا كانت مجلة "العروة الوثقى" (التي كان يصدرها كل من الأفغاني ومحمد عبده من باريس) من أولى تلك الأدبيات التي كانت تصل إلى "النجف"(11) وتوزع وتناقش فيها وتجد على الدوام مشتركين فيها، فإن "طبائع الاستبداد" يبدو وكأنه من أواخر تلك الأدبيات. ومما لا شك فيه أن "طبائع الاستبداد" ونتيجةً للغته التحريضية الكفاحية قد لاقى تفاعلاً خاصاً في أوساط المجتهدين والعلماء الشباب المتهيئين للثورة الدستورية، وهو الأمر الذي دفع - كما نرجح - آية الله الخراساني إلى إصدار الأمر بترجمته ونشره مع "تنبيه الأمة".
وإذا كان التناص في أشكاله الواضحة والظاهرة على مستوى النظام اللغوي والدلالي حاضراً بقوة ما بين "تنبيه الأمة" و"طبائع الاستبداد"، فإن "تنبيه الأمة" يضرب جذوره في الوعي الإصلاحي الإسلامي المرتبط بنشاط الأفغاني. فبقدر ما هو النائيني "كواكبي" الشيعة هنا بقدر ما أن أفكاره هي تعبير مطور ونوعي وتتسم بالأصالة، لأفكار الأفغاني. فيذهب علامتنا هادي العلوي إلى أن "النائيني كان في رسالته متكلماً بلغة جمال الدين وأفكاره السياسية، فهو لم يتكلم على الحكومة الدينية، وإنما عُني بالمطابقة بين الشريعة والمشروطة لشرعنة هذا المبدأ وتقريبه من أذواق الناس والرد على دعاة المستبدة" (12).
كان الأفغاني نفسه دارساً في النجف، أقام فيه منذ عام 1850 أربع سنوات. وكان الشيخ محمد كاظم الخراساني الذي يصغره بسنة زميلاً له في هذه الحقبة، إلا أن الأفغاني الذي كان يحركه هاجس النشاط العملي لم يكمل دراسته ولم يصل بالتالي إلى درجة الاجتهاد في حين أتمها الخراساني إلى أن أصبح مجتهداً - مرجعاً.
فعرف الأفغاني في المشرق العربي من المغرب الأقصى مروراً بتونس إلى مصر وغيرها بوصفه مصلحاً إسلامياً، طغت شخصيته على حركة الإصلاح الإسلامي برمتها، وعُرف في مدينتي النجف وكربلاء بشكلٍ خاص بهذه الصفة. وبهذا المعنى كان الأفغاني هو الشخصية الكبرى التي توحدت فيها حركة الإصلاح الإسلامي للأمة بشيعيّها وسنييّها، وفي حين كان نفوذه على العلمانيين في المشرق أكبر بكثير وأوسع فعالية فإن نفوذه في النجف كان في أوساط رجال الدين. وكان من تلك الشخصيات الشيعية التي احتقرت باستمرار الانقسام المذهبي للأمة وترهاته، ونجد تواصلاً عميقاً لهذا الاحتقار وترفعاً على المذهبية بأقصى أشكاله وأشدها وضوحاً لدى النائيني في "تنبيه الأمة".
وارتبطت بإقامة الأفغاني الثانية في العراق رسالته الشهيرة التي وجهها مع المجتهد السيد علي أكبر الشيرازي واللذين كانا قد أبعدا من قبل الشاه من إيران إلى البصرة، إلى المرجع الأعلى الإمام السيد حسن الشيرازي، حيث استصدرا بنتائجها فتوى "التنباك" الشهيرة، مما دفع الأفغاني إلى مطالبة المرجع الأعلى بإصدار فتوى بخلع الشاه إلا أن المرجع الأعلى لم يستجب لهذا الطلب الأخير، فبادر أحد مريدي جمال الدين وكان ينشئ على ما يبدو نوعاً من الحلقات التنظيمية أينما حل، إلى اغتيال الشاه ناصر الدين مطلقاً كلمته الشهيرة "خذها من يد جمال الدين"، مما أدى إلى احتجاز السلطان عبد الحميد للأفغاني في الآستانة بشكل ضيف معزز مكرم.
تأثر علماء النجف وشخصياته بنشاط جمال الدين، وكان زميله الخراساني الذي لا يقل أصالة عنه في طليعة هؤلاء المتأثرين إلى جانب النائيني الذي كان في المحيط الإصلاحي للمرجع الأعلى الشيرازي. وترجمت الحركة الإصلاحية عن نفسها سياسياً بشكل حركة دستورية أرغمت الشاه القاجاري مظفر الدين على تشكيل برلمان منتخب وإعلان الموافقة على الدستور في آب 1906. إلا أن ابنه الشاه محمد علي القاجاري تنكر للبرلمان والدستور مدعوماً في ذلك من بعض رجال الدين أو المجتهدين - المراجع وهم الذين يصفهم النائيني بـ "الشعبة الاستبدادية الدينية" مما أدى إلى اندلاع "المشروطة" التي هدفت إلى إرغام الشاه على السماح للبرلمان بإعلان الدستور. ولم يكن أمر "الحكومة الدينية" وارداً لا من قريب ولا من بعيد في مطالب "المشروطة" وهذا ما يؤكده بشكل حاسم منظرها النائيني حين رفض أن تكون الشريعة بتفاصيلها من مهام الحكومة بل اشترط في التشريعات ألا تكون معادية للإسلام. وبمعنى آخر لم يدعُ النائيني وثوار "المشروطة" إلى حكومة دينية من الطراز الذي نلقاه حالياً في إيران بل إلى حكومة مدنية دستورية تحترم الإسلام وتقر بحمايته، وهو نفسه برنامج الكواكبي في "طبائع الاستبداد".
ما يهمنا هنا هو أن الموقف من "المشروطة" شق المجتهدين ومن خلفهم الشعب الإيراني والمؤمنين إلى "دعاة مستبدة" و"دعاة مشروطة"(13)، وكان على رأس "دعاة المستبدة" مرجع كبير هو آية الله السيد كاظم اليزدي في حين كان على رأس "دعاة المشروطة" مرجع لا يقل مقامه عنه هو آية الله كاظم الخراساني. ولقد كان عاما 1908 و1909 هما عامي هذا الانقسام القطبي الحاد، الذي مارس فيه "دعاة المستبدة" أعمالاً يصفها السيد هبة الدين الشهرستاني أحد تلاميذ جمال الدين بـ "منتهى الوحشية" مما أدى بتحريضٍ من الخراساني والنائيني وترجمة الكواكبي على حد سواء، الخراساني بوصفه قائداً والنائيني بوصفه منظّراً والكواكبي بوصفه داعماً إيديولوجياً، إلى مهاجمة منزل المجتهد فضل الله النوري الذي كان يساند الشاه وإلى شنقه، وانتهى الأمر بخلع الشاه محمد علي في نهاية عام 1909م. وخلال العام الذي سبقه، كان آية الله الخراساني وعدد من كبار المجتهدين قد وجهوا رسالتهم الشهيرة إلى السلطان عبد الحميد عام 1908 لإعادة الدستور. ويكشف ذلك عن أن هؤلاء، وضمنهم النائيني في كتابه وبشكل صريح، عن اهتمامهم بالدستورية في العالم الإسلامي، وعن تعاملهم مع الدولة العثمانية كدولة إسلامية يرتبط بها حماية الإسلام.
ونجد في كتاب النائيني بشكلٍ غير مباشر أي من دون تسمية عرضاً لموقف فضل الله النوري وتفنيداً كفاحياً له، تعكس لغته القاسية والحاسمة حدة الانشقاق (14) .
في هذه الظروف تحديداً أمر كاظم الخراساني بترجمة وطبع كتاب "طبائع الاستبداد"، وكأن "طبائع الاستبداد" لم يعد صرخة في واد بل ذهب بالأوتاد.
* * *
غير أن الحركة الدستورية خبت بعد مقتل قائدها آية الله الخراساني في ظروفٍ غامضة، يرجّح هادي العلوي أن آية الله اليزدي الذي كان على رأس المستبدة وراءها (15)، فانزوى النائيني، وبدأت صفة رجل الدين تطغى على الرجل الدستوري فيه. وتتوج هذا الطغيان بانفراده بالمرجعية الدينية بدءاً من عام 1920، حيث قام نفسه بهدف صد مهاجمة خصومه له، بمحاصرة كتابه "تنبيه الأمة" وجمع نسخه وإتلافها. وبذل الإمام النائيني على ما يقال يومذاك لشراء كل نسخة ما لا يقل عن ليرتين ذهبيتين لإتلافها وهو ثمن هائل (16)، في حين يشير البعض إلى أن ثمن النسخة قد وصل إلى خمس ليرات ذهبية (17) وحال دون إعادة نشرها بالعربية في مجلة "الفجر الصادق" بواسطة الضغوطات التي بذلها الشيخ عبد الحسين الحلي (هل هو عبد الحسين مترجم "طبائع الاستبداد" ورفيق النائيني في المشروطة؟)، إلى أن تجرأ الشيخ عارف الزين على نشر ترجمة صالح الجعفري لها بشكل حلقات في مجلة "العرفان" الصيداوية. وقد أغري الزين بالمال وبطبع مجلة "العروة الوثقى" مجدداً في مطابع مجلته بغية عدم نشر الترجمة، إلا أن نشر هذه الترجمة كان يهم في الآن ذاته المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني الذي كان من خصوم النائيني، والذي كان نشرها بالنسبة لديه يمكن أن يساعد على حملة "ديماغوجية" ضد ماضي الشيخ النائيني، وسط العوام الذين يمكنهم حينئذ التوقف عن تقليده وتقليد مرجعٍ آخر، بحكم تعددية المراجع وحرية تقليد من يراه المؤمن مناسباً من المراجع، في المذهب الشيعي.
واستكمل الانتصار السياسي والمؤسساتي لنظرية "ولاية الفقه" كما صاغها الإمام الخميني، وهي نظرية وبالشكل الذي صاغها فيه الخميني تفتقد إلى الأصالة وإلى السند الفقهي المعتبر وإلى التواصل مع حركة الإصلاح الإسلامي في الفضاء الشيعي، وتؤسس لنظام كهنوتي أدانه النائيني وثوار "المشروطة" بحزم وبشكل نهائي واعتبروه من الأضاليل، كما أدانه الكواكبي نفسه في حديثه عن الاستبداد في "طبائع الاستبداد"، فاستكمل ذلك حصار نظرية النائيني وإقصاءها وتهميشها إلى أن أعاد الشيخ محمد مهدي شمس الدين إنتاجها وتطويرها في صيغة "ولاية الأمة على نفسها" (18) .
_________
* كاتب وباحث سوري
المصدر: المعهد الشرق العربي في لندن.
الهوامش:
(1) عثر الدكتور عبد الرحمن الكواكبي حفيد الكواكبي وحافظ تراثه على صورة هذه الترجمة وزودنا بنسخة عنها ننشر هنا مقدمتها بالفارسية والعربية.
(2) من مقدمة عبد الحسين مترجم "طبائع الاستبداد" إلى الفارسية، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، سيد حسين، منطقة جلوخان، شارع شمس العمارة 1327.
(3) الطبعة المزيدة لـ "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، منشورات رياض كيالي، ط2، دمشق 1973.
(4) حسين النائيني: تنبيه الأمة وتنويه الملة، ترجمة صالح الجعفري، أعادت "الغدير" اللبنانية نشرها في الأعداد 10 و11 و12 - 13 (كانون الثاني - آذار) 1990 - 1991، على حلقتين.
(5) محمد جمال باروت: يثرب الجديدة - الحركات الإسلامية الراهنة، دار الريس، لندن 1994، ص62.
(6) الرحالة ك: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر 1931، ص7.
(7) النائيني، تنبيه الأمة، "الغدير" العددان 10 و11 ك1 1990، ص63.
(8) الرحالة ك، المصدر السابق، ص14-15.
(9) النائيني، المصدر السابق، ص86.
(10) المصدر نفسه، ص67.
(11) هادي العلوي: لاهوت التحرير الإسلامي، التجربة والمرتقب، "الحرية" عدد 255، 27 آذار-2 نيسان 1988، ص42.
(12) المصدر نفسه، ص43.
(13) تجد تفصيلات جيدة عن المشروطة في، عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1985، ص 112 - 113 و145 - 147.
(14) هو ما يناقشه النائيني تحت عنوان المغالطة الثالثة، "الغدير" عدد 12 - 13، ص 108.
(15) من المعروف أن الخراساني قد توفي عام 1911 أي بعد مقتل الشاه محمد علي القاجاري بعامين واعتلاء ابنه العرش خلفاً له، بينما يؤكد العلوي أن الخراساني قتل على الأرجح بمؤامرة دبرها اليزدي، في اليوم الذي حدده الخراساني لقتال الشاه محمد علي القاجاري. غير أن هذا لا ينفي أن اليزدي ظلَّ يعتبر كتاب النائيني بدعة منكرة.
(16) جعفر الخليلي: العرفان، المجلد 43، ص1032، 1956، أوردته "الغدير" 10 و11 عام 1990، ص58.
(17) الشيخ علي الخاقاني، موسوعة شعراء الغري، ج4، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف 1954، ص301-302، أوردته "الغدير" عدد 10 و11، ص 58.
(18) انظر تحليلنا المفصل للقطيعة ما بين نظرية "ولاية الفقيه" في صياغتها الخمينية ونظرية "ولاية الأمة على نفسها" في بحثنا، التشيع السياسي بين نظريتي "ولاية الفقيه" و"ولاية الأمة على نفسها" في، يثرب الجديدة - الحركات الإسلامية الراهنة، دار الريس، لندن 1994، ص 49 - 94.
تم مؤخراً اكتشاف الترجمة الفارسية لكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي (1854 - 1902)، في مكتبة جامعة "برنستون" في الولايات المتحدة الأمريكية (1). وقد بيَّن مترجمها عبد الحسين في مقدمته المقتضبة أنه أنهى الترجمة في شهر شعبان سنة 1325هـ أي ما يوافق شباط 1907م، حيث قامت المكتبة العلمية الإسلامية في طهران بطبع الترجمة عام 1327هـ أي عام 1909م وتوزيعها. وهو العام الذي احتدم فيه الصراع ما بين الثورة الدستورية الإيرانية والشاه محمد علي القاجاري، والذي انقسمت فيه المؤسسة الدينية الشيعية ومجتهدوها بشكل قطبي حاد إلى ما عُرف بـ "أنصار المستبدة" و"أنصار المشروطة". وقد تزامن نشر هذه الترجمة لكتاب الكواكبي مع إصدار الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (1860 - 1936) مُنظِّر ثورة "المشروطة" لكتابه "تنبيه الأمة وتنزيه الملة في وجوب المشروطة" في العام نفسه، والذي يُعتبر وثيقة راديكالية نادرة وراقية بالغة التطور عن مدى نضج الخطاب الإصلاحي الإسلامي في المجال الشيعي الإسلامي الاثني عشري، وصياغته لنظرية "ولاية الأمة على نفسها" في عصر الغيبة (غيبة الإمام المهدي المنتظر وهو الإمام الثاني عشر للشيعة الجعفرية) التي جاءت الصياغة الخمينية لنظرية "ولاية الفقيه" والتي تشكل حالياً الأساس الفقهي للجمهورية الإسلامية في إيران لتقيم قطعاً باتراً معها وعنها في آن، وهو ما يفسر تهميش الأجهزة الأيديولوجية الإيرانية لهذه الوثيقة واستبعادها وإقصاءها.
وقد جاء في مقدمة المترجم عبد الحسين (هل هو الشيخ عبد الحسين الحلّي الذي بقي مرافقاً لآية الله العظمى النائيني حتى وفاته؟) أنه قد قام بهذه الترجمة "استجابة للأوامر الصادرة، لتعميم الفائدة للعوام والخواص" بوصف كتاب "طبائع الاستبداد" "من الكتب النفيسة والمفيدة في مجال توعية الشعب وإيقاظه من نوم الجهل والغفلة وخلق استعداد الرقي والتربية، وبذلك فهو من أفضل المؤلفات القديمة والجديدة، بل يمكن القول في هذا المجال بأنه لم يؤلَّف كتاب مثله حتى الآن" (2). ومن المعروف أن الطبعة العربية الأولى لـ "طبائع الاستبداد" قد صدرت عام 1900، ووزعت في حينه على نطاق واسع، ثم نقَّحها الكواكبي وزاد عليها بما يعادل ضعفها، ووضع لها عام 1902 مقدمةً جديدة كطبعة ثانية. إلا أن هذه الطبعة في صورتها المزيدة لم تنشر إلا عام 1973 حين بادر حفيد الكواكبي وحافظ تراثه الدكتور عبد الرحمن الكواكبي إلى طبعها بالاستناد إلى أوراقها المكتوبة بخط جده (3) . وبذلك فإن الترجمة الفارسية لـ "طبائع الاستبداد" هي الترجمة لكتاب الكواكبي في شكله الذي عبرت عنه الطبعات الأولى ماقبل هذه الطبعة المزيدة.
وتأخذ هذه الترجمة أهميتها من كونها تمَّت في ظروف الثورة الدستورية الإيرانية المعروفة تاريخياً باسم "المشروطة"، حيث مارست تأثيراً واضحاً على كتاب "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" (4) للنائيني منظِّر تلك الثورة وكنا قد أشرنا في كتابنا "يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة"، وفي معرض تحليلنا للقطيعة التي أحدثتها نظرية "ولاية الفقيه" كما صاغها الخميني عن نظرية "ولاية الأمة على نفسها" الإصلاحية الشيعية المستنيرة، وافتقاد نظرية "ولاية الفقيه" بصياغتها تلك إلى أي سند فقهي معتبر يسبغ عليها صفة الأصالة، إلى أنه بغض النظر عن مدى اطلاع الإمام النائيني على "طبائع الاستبداد" فإن تحديده لمعنى الاستبداد وما يقابله، وتعيينه للآلية القائمة ما بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي يتم "وفقاً لطريقة الكواكبي، بل وبشكلٍ يقترب كثيراً من لغة الكواكبي وصياغاته وروحيته" (5) فوصفنا النائيني بـ "كواكبي الشيعة".
وكان دليلنا إلى ذلك علمياً صرفاً، يقوم على المقارنة ما بين الكتابين، بشكلٍ يمكننا فيه القول إن "طبائع الاستبداد" هو بمثابة نص غائب امتصه الإمام النائيني، وأعاد بناءه في رسالته العظيمة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" بما ينسجم مع حركة "المشروطة" في إيران، التي يمكن القول إن أساسها الفقهي قد قام على نظرية "ولاية الأمة على نفسها".
غير أننا لم نتمكن آنذاك من معرفة هل كان كتاب الكواكبي مترجماً إلى الفارسية أم لا، إلى أن تم منذ فترة وجيزة التعرف على هذه الترجمة المطبوعة، والتأكد في ظل المعطيات النصية والسياقية من اطلاع النائيني عليها وامتصاصه لها. فما هو السياق الذي صدرت فيه الترجمة الفارسية لـ "طبائع الاستبداد"؟ وما دلالات التزامن ما بين نشر هذه الترجمة وإصدار الإمام النائيني لرسالته الجريئة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" في عام واحد وسياقٍ واحد ولأغراض واحدة؟ ومن الذي دفع لإصدار الأمر بترجمة "طبائع الاستبداد" إلى الفارسية، ما دام المترجم عبد الحسين يشير إلى أن ترجمته للكتاب قد تمَّت "استجابة للأوامر الصادرة"؟
* * *
أرجح التقدير أن "الأوامر الصادرة" التي يُفترض أن صاحبها يتمتع بسلطة المرجعية، هي أوامر آية الله محمد كاظم الخراساني (1838 - 1911) الذي كان قائد الثورة الدستورية إلى جانب الشيخ عبد الله المازنداري أحد كبار المجتهدين المراجع. وقد وضع الخراساني والمازنداري، مقدمة لـ "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" أجازا فيه الكتاب، وتمتعت إجازتهما له بوصفهما من كبار المجتهدين المراجع بقوة الفتوى والإجازة الشرعية لما جاء في الكتاب من أفكار جريئة وراديكالية، مع أن النائيني نفسه كان يومئذٍ مجتهداً إلا أنه أقل مرتبة من اجتهاد المرجعين اللذين أجازا كتابه، وكان من فضلاء الشيخ الخراساني.
من هنا ليس من المستبعد أن الخراساني هو الذي أمر بالترجمة وبكتابة النائيني لكتابه في آن، وهو ما يحتمل اطلاع النائيني على الترجمة إبانها وبعد الانتهاء منها، علماً أنها طبعت بعد سنتين من إنهاء ترجمتها، ليتزامن نشرها مع كتاب النائيني. وإذا كان المترجم عبد الحسين هو نفسه الشيخ عبد الحسين الحلّي، فإن هذا يعزز الاحتمال بشكل قاطع، إذ كان عبد الحسين الحلي من مرافقي النائيني وفضلائه حتى وفاة هذا الأخير. وبالتالي يفسر ذلك تأثر النائيني بصياغات الكواكبي. فإذا كان الجهاز المفهومي للنائيني والكواكبي يكاد يكون واحداً بحكم أن هذا الجهاز هو نفسه الجهاز المفهومي لحركة الإصلاح الإسلامي برمتها، فإن القسم المتعلق بالاستبداد في كتاب النائيني شديد الصلة بكتاب الكواكبي، فالنائيني يعرِّف الاستبداد وما يقابله وفق تعريف الكواكبي، وأحياناً وفق صياغاته نفسها. فيقول الكواكبي "يستعملون في مقام كلمة استبداد كلمات استعباد واعتساف وتسلط وتحكم في مقابلتها كلمات شرع مصون، وحقوق محترمة، وحس مشترك وحياة طيبة. ويستعملون في مقام صفة (مستبد) كلمات حاكم بأمره، وحاكم مطلق، وظالم، وجبار، وفي مقابلة حكومة مستبدة كلمات عادلة ومقيدة ومسئولة. ويستعملون في مقام صفة (مستبد عليهم) كلمات أسرى، وأذلاء ومستصغرين ومستنبتين وفي مقابلتها محتسبون وأباة وأحرار وأحياء" (6) في حين يقول النائيني "وهذه السلطة تسمى: المحدودة والمقيدة والعادلة والمشروطة والمسئولة والدستورية ووجه تسميتها من هذه الأسماء ظاهر. والقائم بهذه السلطة يسمى الحافظ والحارس والقائم بالقسط، والمسئول والعادل، والأمة المتنعمة بكل هذه النعمة، تسمى: أمة محتسبة، وأبية، وحرة، وحية"(7) .
ويأخذ التناص ما بين "طبائع الاستبداد" و"تنبيه الأمة" بعداً أكثر وضوحاً في تحليل العلاقة ما بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، وهو ما يستفيض به النائيني بلغة كفاحية وراقية المستوى وشديدة التنظيم، فنجد التناص بين قول الكواكبي عن أن العوام يجدون "معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات وهم هم ليس من شأنهم أن يفرِّقوا بين الفعال المطلق والحاكم بأمره، وبين "لا يسأل عما يفعل" و"غير مسئول" وبين "المنعم وولي النعم" وبين "جل شأنه" و"جليل الشأن"، بناءً عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، وهذه الحال هي التي سهلت .. دعوى بعض المستبدين الألوهية" (8) وبين قول النائيني "وأصبحت (أي الشعبة الاستبدادية الدينية) تعد سلبنا للظالمين صفات الذات الأحدية كالفعال لما يشاء، والحاكم بما يريد والمالك للرقاب وعدم المسئولية عما يفعل منافية للدين الإسلامي" (9) والانقياد للمستبد السياسي الذي يستمد استبداده من الدين هو من "مراتب الشرك بالذات الأحدية -في المالكية، والحاكمية بما يريد، والفعالية لما يشاء، وعدم المسؤولية عما يفعل - إلى غير ذلك من الصفات الخاصة بالألوهية والأسماء القدسية الخاصة به جل شأنه"(10) .
والحقيقة أن "الصفات الإلهية" التي يدعيها المستبد ضمناً هي واحدة من توصيف الكواكبي والنائيني لها، كما أن ما يفهمه الكواكبي من معنى الحكومة الدستورية وأنظمتها ومؤسساته هو على وجه الدقة ما يفهمه منها النائيني وبشكل متقارب كثيراً. ومن هنا فإن لغة الكواكبي المعادية لـ "الكهنوتية" تجد ما يعادلها تماماً في لغة النائيني، وإن كانت في لغة النائيني تأخذ أبعاداً أكثر تشخيصاً، نتيجة مواجهة النائيني للسلطة المرجعية التي يضطلع بها المجتهدون من أنصار المستبدة، فيشير إلى أن "تقليدهم" (والتقليد في المذهب الجعفري واجب شرعي على العوام) هو من قبيل اتخاذ الأحبار آلهة من دون الله. فنبرة النائيني الجريئة والكفاحية ضد "الإكليركية" تأخذ هنا في المجال الشيعي سياقاً خاصاً، كنتيجة لخصوصية العلاقة ما بين العوام والمرجع على أساس التقليد، ومن هنا فإنها تكتسب دلالات خاصة. فلا يصف النائيني وهو المجتهد تلك "الإكليركية" بأقل من صفات "الطائفة الشريرة المتلصصة المعممة" من "عبيد السلطان" و"منافقي العصر وشياطينه وعبدة ظالميه وفاسقيه" و"لصوص الدين" و"مضلي ضعفاء المسلمين".
ويشير ذلك كله إلى التكامل الوظيفي ما بين "طبائع الاستبداد" و"تنبيه الأمة" في شروط الثورة الدستورية الإيرانية. وهو ما يقودنا إلى قراءة هذا التكامل في إطار النفوذ الهائل الذي تمتعت به أفكار الإصلاح الإسلامي في المجال الشيعي الجعفري في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، وتسليط الأضواء على طبيعة العلاقة ما بين الأفكار الإصلاحية الإسلامية لجمال الدين الأفغاني على وجه التحديد وما بين المناخ الذي تفاعلت فيه ترجمة "طبائع الاستبداد" وكتاب "تنبيه الأمة".
* * *
يشكل وصول "طبائع الاستبداد" إلى "النجف" أمراً طبيعياً للغاية، في سياق الاستهلاك النجفي الواسع لأدبيات الإصلاح الإسلامي في تلك الحقبة. فإذا كانت مجلة "العروة الوثقى" (التي كان يصدرها كل من الأفغاني ومحمد عبده من باريس) من أولى تلك الأدبيات التي كانت تصل إلى "النجف"(11) وتوزع وتناقش فيها وتجد على الدوام مشتركين فيها، فإن "طبائع الاستبداد" يبدو وكأنه من أواخر تلك الأدبيات. ومما لا شك فيه أن "طبائع الاستبداد" ونتيجةً للغته التحريضية الكفاحية قد لاقى تفاعلاً خاصاً في أوساط المجتهدين والعلماء الشباب المتهيئين للثورة الدستورية، وهو الأمر الذي دفع - كما نرجح - آية الله الخراساني إلى إصدار الأمر بترجمته ونشره مع "تنبيه الأمة".
وإذا كان التناص في أشكاله الواضحة والظاهرة على مستوى النظام اللغوي والدلالي حاضراً بقوة ما بين "تنبيه الأمة" و"طبائع الاستبداد"، فإن "تنبيه الأمة" يضرب جذوره في الوعي الإصلاحي الإسلامي المرتبط بنشاط الأفغاني. فبقدر ما هو النائيني "كواكبي" الشيعة هنا بقدر ما أن أفكاره هي تعبير مطور ونوعي وتتسم بالأصالة، لأفكار الأفغاني. فيذهب علامتنا هادي العلوي إلى أن "النائيني كان في رسالته متكلماً بلغة جمال الدين وأفكاره السياسية، فهو لم يتكلم على الحكومة الدينية، وإنما عُني بالمطابقة بين الشريعة والمشروطة لشرعنة هذا المبدأ وتقريبه من أذواق الناس والرد على دعاة المستبدة" (12).
كان الأفغاني نفسه دارساً في النجف، أقام فيه منذ عام 1850 أربع سنوات. وكان الشيخ محمد كاظم الخراساني الذي يصغره بسنة زميلاً له في هذه الحقبة، إلا أن الأفغاني الذي كان يحركه هاجس النشاط العملي لم يكمل دراسته ولم يصل بالتالي إلى درجة الاجتهاد في حين أتمها الخراساني إلى أن أصبح مجتهداً - مرجعاً.
فعرف الأفغاني في المشرق العربي من المغرب الأقصى مروراً بتونس إلى مصر وغيرها بوصفه مصلحاً إسلامياً، طغت شخصيته على حركة الإصلاح الإسلامي برمتها، وعُرف في مدينتي النجف وكربلاء بشكلٍ خاص بهذه الصفة. وبهذا المعنى كان الأفغاني هو الشخصية الكبرى التي توحدت فيها حركة الإصلاح الإسلامي للأمة بشيعيّها وسنييّها، وفي حين كان نفوذه على العلمانيين في المشرق أكبر بكثير وأوسع فعالية فإن نفوذه في النجف كان في أوساط رجال الدين. وكان من تلك الشخصيات الشيعية التي احتقرت باستمرار الانقسام المذهبي للأمة وترهاته، ونجد تواصلاً عميقاً لهذا الاحتقار وترفعاً على المذهبية بأقصى أشكاله وأشدها وضوحاً لدى النائيني في "تنبيه الأمة".
وارتبطت بإقامة الأفغاني الثانية في العراق رسالته الشهيرة التي وجهها مع المجتهد السيد علي أكبر الشيرازي واللذين كانا قد أبعدا من قبل الشاه من إيران إلى البصرة، إلى المرجع الأعلى الإمام السيد حسن الشيرازي، حيث استصدرا بنتائجها فتوى "التنباك" الشهيرة، مما دفع الأفغاني إلى مطالبة المرجع الأعلى بإصدار فتوى بخلع الشاه إلا أن المرجع الأعلى لم يستجب لهذا الطلب الأخير، فبادر أحد مريدي جمال الدين وكان ينشئ على ما يبدو نوعاً من الحلقات التنظيمية أينما حل، إلى اغتيال الشاه ناصر الدين مطلقاً كلمته الشهيرة "خذها من يد جمال الدين"، مما أدى إلى احتجاز السلطان عبد الحميد للأفغاني في الآستانة بشكل ضيف معزز مكرم.
تأثر علماء النجف وشخصياته بنشاط جمال الدين، وكان زميله الخراساني الذي لا يقل أصالة عنه في طليعة هؤلاء المتأثرين إلى جانب النائيني الذي كان في المحيط الإصلاحي للمرجع الأعلى الشيرازي. وترجمت الحركة الإصلاحية عن نفسها سياسياً بشكل حركة دستورية أرغمت الشاه القاجاري مظفر الدين على تشكيل برلمان منتخب وإعلان الموافقة على الدستور في آب 1906. إلا أن ابنه الشاه محمد علي القاجاري تنكر للبرلمان والدستور مدعوماً في ذلك من بعض رجال الدين أو المجتهدين - المراجع وهم الذين يصفهم النائيني بـ "الشعبة الاستبدادية الدينية" مما أدى إلى اندلاع "المشروطة" التي هدفت إلى إرغام الشاه على السماح للبرلمان بإعلان الدستور. ولم يكن أمر "الحكومة الدينية" وارداً لا من قريب ولا من بعيد في مطالب "المشروطة" وهذا ما يؤكده بشكل حاسم منظرها النائيني حين رفض أن تكون الشريعة بتفاصيلها من مهام الحكومة بل اشترط في التشريعات ألا تكون معادية للإسلام. وبمعنى آخر لم يدعُ النائيني وثوار "المشروطة" إلى حكومة دينية من الطراز الذي نلقاه حالياً في إيران بل إلى حكومة مدنية دستورية تحترم الإسلام وتقر بحمايته، وهو نفسه برنامج الكواكبي في "طبائع الاستبداد".
ما يهمنا هنا هو أن الموقف من "المشروطة" شق المجتهدين ومن خلفهم الشعب الإيراني والمؤمنين إلى "دعاة مستبدة" و"دعاة مشروطة"(13)، وكان على رأس "دعاة المستبدة" مرجع كبير هو آية الله السيد كاظم اليزدي في حين كان على رأس "دعاة المشروطة" مرجع لا يقل مقامه عنه هو آية الله كاظم الخراساني. ولقد كان عاما 1908 و1909 هما عامي هذا الانقسام القطبي الحاد، الذي مارس فيه "دعاة المستبدة" أعمالاً يصفها السيد هبة الدين الشهرستاني أحد تلاميذ جمال الدين بـ "منتهى الوحشية" مما أدى بتحريضٍ من الخراساني والنائيني وترجمة الكواكبي على حد سواء، الخراساني بوصفه قائداً والنائيني بوصفه منظّراً والكواكبي بوصفه داعماً إيديولوجياً، إلى مهاجمة منزل المجتهد فضل الله النوري الذي كان يساند الشاه وإلى شنقه، وانتهى الأمر بخلع الشاه محمد علي في نهاية عام 1909م. وخلال العام الذي سبقه، كان آية الله الخراساني وعدد من كبار المجتهدين قد وجهوا رسالتهم الشهيرة إلى السلطان عبد الحميد عام 1908 لإعادة الدستور. ويكشف ذلك عن أن هؤلاء، وضمنهم النائيني في كتابه وبشكل صريح، عن اهتمامهم بالدستورية في العالم الإسلامي، وعن تعاملهم مع الدولة العثمانية كدولة إسلامية يرتبط بها حماية الإسلام.
ونجد في كتاب النائيني بشكلٍ غير مباشر أي من دون تسمية عرضاً لموقف فضل الله النوري وتفنيداً كفاحياً له، تعكس لغته القاسية والحاسمة حدة الانشقاق (14) .
في هذه الظروف تحديداً أمر كاظم الخراساني بترجمة وطبع كتاب "طبائع الاستبداد"، وكأن "طبائع الاستبداد" لم يعد صرخة في واد بل ذهب بالأوتاد.
* * *
غير أن الحركة الدستورية خبت بعد مقتل قائدها آية الله الخراساني في ظروفٍ غامضة، يرجّح هادي العلوي أن آية الله اليزدي الذي كان على رأس المستبدة وراءها (15)، فانزوى النائيني، وبدأت صفة رجل الدين تطغى على الرجل الدستوري فيه. وتتوج هذا الطغيان بانفراده بالمرجعية الدينية بدءاً من عام 1920، حيث قام نفسه بهدف صد مهاجمة خصومه له، بمحاصرة كتابه "تنبيه الأمة" وجمع نسخه وإتلافها. وبذل الإمام النائيني على ما يقال يومذاك لشراء كل نسخة ما لا يقل عن ليرتين ذهبيتين لإتلافها وهو ثمن هائل (16)، في حين يشير البعض إلى أن ثمن النسخة قد وصل إلى خمس ليرات ذهبية (17) وحال دون إعادة نشرها بالعربية في مجلة "الفجر الصادق" بواسطة الضغوطات التي بذلها الشيخ عبد الحسين الحلي (هل هو عبد الحسين مترجم "طبائع الاستبداد" ورفيق النائيني في المشروطة؟)، إلى أن تجرأ الشيخ عارف الزين على نشر ترجمة صالح الجعفري لها بشكل حلقات في مجلة "العرفان" الصيداوية. وقد أغري الزين بالمال وبطبع مجلة "العروة الوثقى" مجدداً في مطابع مجلته بغية عدم نشر الترجمة، إلا أن نشر هذه الترجمة كان يهم في الآن ذاته المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني الذي كان من خصوم النائيني، والذي كان نشرها بالنسبة لديه يمكن أن يساعد على حملة "ديماغوجية" ضد ماضي الشيخ النائيني، وسط العوام الذين يمكنهم حينئذ التوقف عن تقليده وتقليد مرجعٍ آخر، بحكم تعددية المراجع وحرية تقليد من يراه المؤمن مناسباً من المراجع، في المذهب الشيعي.
واستكمل الانتصار السياسي والمؤسساتي لنظرية "ولاية الفقه" كما صاغها الإمام الخميني، وهي نظرية وبالشكل الذي صاغها فيه الخميني تفتقد إلى الأصالة وإلى السند الفقهي المعتبر وإلى التواصل مع حركة الإصلاح الإسلامي في الفضاء الشيعي، وتؤسس لنظام كهنوتي أدانه النائيني وثوار "المشروطة" بحزم وبشكل نهائي واعتبروه من الأضاليل، كما أدانه الكواكبي نفسه في حديثه عن الاستبداد في "طبائع الاستبداد"، فاستكمل ذلك حصار نظرية النائيني وإقصاءها وتهميشها إلى أن أعاد الشيخ محمد مهدي شمس الدين إنتاجها وتطويرها في صيغة "ولاية الأمة على نفسها" (18) .
_________
* كاتب وباحث سوري
المصدر: المعهد الشرق العربي في لندن.
الهوامش:
(1) عثر الدكتور عبد الرحمن الكواكبي حفيد الكواكبي وحافظ تراثه على صورة هذه الترجمة وزودنا بنسخة عنها ننشر هنا مقدمتها بالفارسية والعربية.
(2) من مقدمة عبد الحسين مترجم "طبائع الاستبداد" إلى الفارسية، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، سيد حسين، منطقة جلوخان، شارع شمس العمارة 1327.
(3) الطبعة المزيدة لـ "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، منشورات رياض كيالي، ط2، دمشق 1973.
(4) حسين النائيني: تنبيه الأمة وتنويه الملة، ترجمة صالح الجعفري، أعادت "الغدير" اللبنانية نشرها في الأعداد 10 و11 و12 - 13 (كانون الثاني - آذار) 1990 - 1991، على حلقتين.
(5) محمد جمال باروت: يثرب الجديدة - الحركات الإسلامية الراهنة، دار الريس، لندن 1994، ص62.
(6) الرحالة ك: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر 1931، ص7.
(7) النائيني، تنبيه الأمة، "الغدير" العددان 10 و11 ك1 1990، ص63.
(8) الرحالة ك، المصدر السابق، ص14-15.
(9) النائيني، المصدر السابق، ص86.
(10) المصدر نفسه، ص67.
(11) هادي العلوي: لاهوت التحرير الإسلامي، التجربة والمرتقب، "الحرية" عدد 255، 27 آذار-2 نيسان 1988، ص42.
(12) المصدر نفسه، ص43.
(13) تجد تفصيلات جيدة عن المشروطة في، عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1985، ص 112 - 113 و145 - 147.
(14) هو ما يناقشه النائيني تحت عنوان المغالطة الثالثة، "الغدير" عدد 12 - 13، ص 108.
(15) من المعروف أن الخراساني قد توفي عام 1911 أي بعد مقتل الشاه محمد علي القاجاري بعامين واعتلاء ابنه العرش خلفاً له، بينما يؤكد العلوي أن الخراساني قتل على الأرجح بمؤامرة دبرها اليزدي، في اليوم الذي حدده الخراساني لقتال الشاه محمد علي القاجاري. غير أن هذا لا ينفي أن اليزدي ظلَّ يعتبر كتاب النائيني بدعة منكرة.
(16) جعفر الخليلي: العرفان، المجلد 43، ص1032، 1956، أوردته "الغدير" 10 و11 عام 1990، ص58.
(17) الشيخ علي الخاقاني، موسوعة شعراء الغري، ج4، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف 1954، ص301-302، أوردته "الغدير" عدد 10 و11، ص 58.
(18) انظر تحليلنا المفصل للقطيعة ما بين نظرية "ولاية الفقيه" في صياغتها الخمينية ونظرية "ولاية الأمة على نفسها" في بحثنا، التشيع السياسي بين نظريتي "ولاية الفقيه" و"ولاية الأمة على نفسها" في، يثرب الجديدة - الحركات الإسلامية الراهنة، دار الريس، لندن 1994، ص 49 - 94.
علي شريعتي.. ونقد الاستحمار الديني
د. حسان عبد الله
حالة الانكفاء الذاتي التي يعيشها المثقف المسلم المعاصر تعد من أهم الآفات العقلية والأمراض النهضوية؛ حيث أصبح كل مثقف "سجين كهفه"، فانعدم التواصل والاتصال بين الفكرة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وتعتبر حالة الدكتور الشهيد علي شريعتي نموذجا على ذلك.
فكر الدكتور شريعتي ليس فكرا مجهولا كما يظنه البعض، بل هو فكر بارز وقوي الحضور في الثقافة الإيرانية، فقد مثلت أفكاره مقدمات أساسية أسهمت بشكل واضح في الثورة الإسلامية في إيران، ولم تنته عند هذا الحد، بل لازالت تسهم حتى الآن في التخطيط للمجتمع الإسلامي المتكامل.
اتسمت كتابات شريعتي ومؤلفاته بخاصية "الهدفية"، فجاءت هذه المؤلفات لإبراز فكرة، أو لمعالجة واقع، أو لنقد تراث.. إلخ، ولا نبالغ إذا قلنا إن الكتاب الواحد تبرز فيه عدة أفكار ترمي إلى معالجة هدف ما قد وضعه شريعتي ليحققه، سواء كان ذلك في محاضرة أو درس أو مقالة، كما اتسمت كتاباته بالطابع العلمي والعملي معا.
الحقائق الأساسية
ولد علي بن محمد تقي شريعتي في (مزينان)، وهي قرية من قرى سنروار في منطقة خراسان في إيران، وذلك في عام 1933م، وكان أبوه محمد تقي شريعتي من كبار المفكرين والمجاهدين الإسلاميين.
أسس شريعتي الأب في مدينة (مشهد) بالاشتراك مع عدد من علماء الدين المناضلين "مركز الحقائق الإسلامية"، وقام بنشاط واسع في تنقية أصول التشيع، كما شارك في توعية الجماهير بالدور الحقيقي للدين في المجتمع..
في مثل هذه البيئة وفي كنف هذا الأب شب علي شريعتي، مهتما منذ طفولته بقضايا الدين والأمراض المنتشرة في المجتمع، وفي عام 1955م التحق بكلية الآداب في مدينة "مشهد" لدراسة اللغة والأدب الفارسي، وفي نفس العام اختاره عميد الكلية ليكون المسئول الأول عن "الجمعية الأدبية الطلابية"، وفي عام 1957م تم القبض عليه مع (16) عضوا من أعضاء حركة المقاومة الوطنية ضد نظام الشاه، وحبس في سجن (قزل قلعة) في طهران.
أنهى دراسته الجامعية عام 1958م، وحصل على المركز الأول في قسم اللغة الفارسية وآدابها، ونظرا لذلك منحته الجامعة بعثة علمية لاستكمال دراسته بالخارج، فتوجه إلى فرنسا في عام 1959م، والتحق بمدرسة الآليانس لتعلم اللغة الفرنسية.
ويتحدث الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا (رحمه الله) عن هذه الفترة في حياة شريعتي: "تعد سنوات فرنسا من أكثر السنوات خصوبة في حياة شريعتي القصيرة العريضة، إذ كان شابا ذا ضمير طاهر، ذكيا يقظ القلب، مسلما حقيقيا، يعرف تماما قيمة كونه مسلما، عرف تراثه جيدا، وحمل معه زادا غنيا وفياضا وقيما من الثقافة الإسلامية، وبالتالي لم يتعرض شريعتي لتلك الصدمة التي يتعرض لها المبعوثون من العالم الفقير المستضعف، عندما يتعاملون مع العالم الغني المتكبر لأول مرة؛ فتكون نتيجة ذلك أن يتغربوا، ويفرغوا من الداخل، و(يتشبهوا) دون مقاومة، أما شريعتي فإنه لم يحسب نفسه قط مسلما ضئيلا أو صغيرا، أو متخلفا أمام الجبروت الغربي، ولم يفقد شخصيته الإسلامية، وذاته الحقيقية".
انضم شريعتي إلى منظمة تحرير الجزائر في فرنسا، وقبض عليه عام 1960م، وفي عام 1963 أنهى دراسته في جامعة السوربون، وحصل على الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، وعند عودته إلى طهران قبض عليه جهاز المخابرات "السافاك"، ثم أطلق سراحه بعد ذلك، حيث عمل أستاذا مساعدا في قسم التاريخ بجامعة مشهد.
مثلت "حسينية إرشاد" مركزا مهما من مراكز الإشعاع العلمي للجماهير الإيرانية قبل الثورة، وكان شريعتي من أبرز المفكرين الذين ارتبط ذكر هذه الحسينية بأسمائهم، كما ارتبط ذكر المدرسة الفيضية بالخميني ( قائد الثورة الإيرانية)، وقد توفي المفكر الإيراني المستنير د. علي شريعتي عام 1978م بعد حياة فكرية حافلة بالاجتهاد والجهاد لإصلاح المجتمع الإسلامي وتنقيته من آفاته.
منهجية التعرف على الإسلام
انطلاقا من "محورية الدين" ومركزيته الحضارية اهتم شريعتي بإبراز "الإسلام" كمنهج فكري وتربوي وحضاري، وأهم ما عني به هو وضع منهجية للتعرف على الإسلام؛ وذلك لأن شريعتي يرى أن المنهج (له أهمية أعظم من الفلسفة والعلم)، كما أنه العامل الأساسي في "إيجاد التقدم أو الانحطاط"، ومن هنا فقد رأى شريعتي أنه من الضروري وضع منهج لمعرفة الإسلام.
وأهم قواعد هذا المنهج بحسب شريعتي "شمولية الإسلام في مقابل المحدودية"، فالإسلام ليس دينا محدودا في جانب واحد من جوانب الحياة والكون والإنسان، بل له جوانب متعددة وشاملة، فالإسلام يوضح العلاقة بين الإنسان وربه في منهج علائقي، ويوضح أبعاد الحياة الإنسانية، وطريقة المعيشة على الأرض، وللإسلام بعد حضاري، فهو دين الحضارة والتمدن، ومن كل ذلك يخلص شريعتي إلى ضرورة دراسة الإسلام بمناهج متعددة تشمل جوانبه المختلفة.
ويقترح شريعتي طريقا يتضمن عدة خطوات للتعرف الصحيح على الإسلام، وهي: معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته، ثم معرفة القرآن الكريم وطبيعته وأهدافه، وكذلك معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم ودوره وأبعاد شخصيته الإنسانية، وعلاقاته المختلفة، وبعد ذلك إدراك السنن التاريخية في ظهور الإسلام، وإدراك النماذج البشرية التي صنعها الإسلام.
ويذكر شريعتي في كتابه "إسلام شناسي" (معرفة الإسلام) بعض الأركان الأساسية في الإسلام، وهي: العلاقة المباشرة بين الله والإنسان، والمساواة العامة، والشورى في الحكومة، ومسئولية الإنسان عن أفعاله، والعقلانية والعلمية، والانسجام بين الدين والمدنية، السننية، إقرار الطبيعة المزدوجة للإنسان "الخير والشر"، والحرية.
العودة إلى الذات
مثلت فكرة (العودة إلى الذات) بعدا إستراتيجيا مهما في فكر شريعتي، وارتبط ذلك بفكرة بناء الذات، وهي نفس الأفكار تقريبا التي ظهرت عند أصحاب الاتجاه الإسلامي في فترة الستينيات، لا سيما سيد قطب، وقد حملت إحدى كتابات شريعتي نفس هذا العنوان "العودة إلى الذات"، بينما أوضحت كتابات أخرى مفاهيم أساسية في بناء الذات، أهمها: "بناء الذات الثورية"، "النباهة والاستحمار".
وتضمنت هذه المؤلفات عدة أفكار ومفاهيم وأطروحات أسهمت بشكل جلي في تحديد "الهوية الحضارية الإسلامية"، مجتمعا وأفرادا ومؤسسات، كذا العلاقة الحضارية بالآخر الغربي، ونشير فيما يلي إلى بعض هذه المتضمنات الفكرية..
إلى أي ذات تكون العودة؟:حيث يوضح شريعتي أن قضيته "العودة إلى الذات" تتضمن العودة إلى أصالة الذات، "أي العودة إلى الثقافة الإسلامية والأيديولوجية الإسلامية"، وإلى الإسلام لا كتقليد، أو وراثة، أو نظام عقيدة موجودة بالفعل في المجتمع، بل إلى الإسلام كأيديولوجية، وإيمان بعث الوعي وأحدث المعجزة في هذه المجتمعات.
كما أن عناية شريعتي بالذات واهتمامه بها جاء لإبراز تفرد "الذات الإسلامية" في مكوناتها وعناصرها عن غيرها من الذوات التي لا تحمل هذه الصفة "الإسلامية"، وفي ذلك يقول: "إن منطقنا هو الذات الإسلامية نفسها وينبغي أن نجعل شعارنا هو العودة إلى هذه الذات نفسها؛ لأنها الذات الوحيدة القريبة لنا ومنا من بين كل الذوات، وهي الثقافة الوحيدة التي لا تزال حية حتى الآن، وهي الروح والإيمان والحياة الوحيدة في المجتمع الآن".
ويؤكد شريعتي على مسألة "الوعي" كسبيل ضروري لتحرر الذات والعودة إليها عودة حقيقية، وهنا يؤكد على دور "الناس" أنفسهم، ودرجة وعيهم للوصول إلى هذا الهدف، "فإنه ما لم يصل الناس إلى الوعي، وما لم يصيروا هم أنفسهم أصحاب شخصيات إنسانية واعية، وما لم يرتقوا من مرحلة التبعية والتقليد لشخصياتهم الدينية والعلمية التي تحتكر القدوة والفتوى إلى مرحلة النضج الاجتماعي والسياسي يكون فيها القادة خاضعين لإرادتهم وخط سيرهم الواعي".
تحرير الذات من الابتلاء بمرض التغرب: فمن الآفات التي أشار إليها شريعتي في الشخصية المسلمة ابتلاؤها بمرض "التغرب" أو "التغريب"، وهي مرحلة وقع فيها فئة "المنبهرين بالغرب" و "المهزومين ثقافيا وعقديا"، وأرادوا لمجتمعاتهم نفس هذا المصير.
ويصف شريعتي هذه الفئة التي أصيبت بهذا المرض بأنهم هم "المخرفون الرجعيون المتعفنون المتحجرون، والعوام القدماء الذين استطاعت أجهزة الدعاية الغربية محو كل ملامحهم ومحتوياتهم التاريخية والثقافية والدينية والأخلاقية والإنسانية، وجعلتهم عصريين، فالعصري هو الإنسان الذي سلبوا منه كل ما يملك وحولوه إلى (بطن) حريص ملتصق بأجهزة الصناعة للرأسمالية العالمية فحسب".
دور المفكر في مشروع العودة
لا يعول شريعتي على مفكر بعينه في مشروعه الحضاري "العودة إلى الذات"، ولكنه يحدد صفاته الأساسية، ويصفه بالمفكر المستنير، وهو الذي يمتلك رؤية شاملة منفتحة ومتطورة وقدرة على إدراك أوضاع العصر والمجتمع الذي يعيش فيه وتحليلها منطقيا، وذو إحساس بالارتباط التاريخي، وذو رؤية واتجاه اجتماعي محدد، ولا بد له أيضا من إحساس بالمسئولية، وهي وليدة نفس ذلك الوعي الإنساني الخاص، الوعي بالذات والوعي بالعالم والوعي بالمجتمع.
وهذا الوعي هو أسمى ميزة في النوع الإنساني، وهو أكثر تجليا فيمن نضجوا من أفراد، هذا الوعي ليس فلسفة أو علوما طبيعية أو إنسانية أو فنونا أو صناعات وآدابا، بل هو نوع من الاستعداد للهداية وشعور بالنبوة وحاسة القيادة، نفس الطريق الخاص الذي كان موجودا عند الأنبياء، هو العلم الذي عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "نور يقذفه الله في قلب من يشاء"، هو نفسه الوعي والحكمة في القرآن.
ويتحدد دور المفكر في إيقاظ ضمير المجتمع ومنح الناس الوعي الذاتي، والتفسيرات الحياتية المختلفة للواقع الذاتي، والتفسيرات الحياتية المختلفة للواقع الأخلاقي والاجتماعي والثقافي، واستخراج المواد الخام للطاقات المعنوية والفكرية في تاريخ الأمة وثقافتها.
بناء الذات.. مبادئ وأبعاد
يظهر د. علي شريعتي في مشروعه "العودة إلى الذات" في صورة رجل تربوي تجديدي، يطرح المبادئ والأبعاد والأساليب التربوية التي تساعد في "بناء الذات" المنشودة، وهي عند شريعتي في عدة جوانب:
أ- محددات: يحدد شريعتي المقصود ببناء الذات، وهو عبارة عن "إعداد الذات ثوريا في صورة أصل وأصالة وهدف، أي أن يوهب الجوهر الوجودي للذات تكامله".
ب- المبدأ الأساسي: وتنطلق فلسفة بناء الذات من خلال مبدأ أساسي، وهو أن الإنسان صاحب دور في مسيرته التاريخية، وفي تغيير نظامه الاجتماعي، وذلك انطلاقا من وعي الإنسان وإرادته، واعتبارهما علة في مسيرة التاريخ والتطورات الاجتماعية.
ج- أبعاد بناء الذات هي: الحرية، والإحساس العرفاني، والجانب الأخلاقي.. حيث يؤكد أن بناء الذات في هذه الأبعاد الثلاثة يتم معا وبتناسق وباستمرار، أي أن تقدم الإنسان في بعد منها يفسر كمرحلة منفصلة عن المشاركة في بنية العصر، كما تشير أحكام الإسلام إلى ذلك، فالإنسان عندما يصل إلى سن التكليف يؤمر على الفور بمسئولياته الفردية، التي تحتوي على بناء الذات في نفس الوقت مع مسئولياته الجماعية، التي تشكل رسالته الاجتماعية والسياسية، فقد كُلف بالصوم والصلاة، في نفس الوقت الذي كُلف فيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د- أصالة بناء الذات: أكد شريعتي على عدة جوانب تبرز أصالة بناء الذات الثورية، وهي:
1- العبادة: المقصود من العبادة هنا هو الاتصال الوجودي المستمر بين الإنسان والله.. الله الذي هو منبع الروح والجمال والهدف والإيمان، وكل قيمنا الإنسانية، وبدونه يغوص كل شيء في مستنقع العبث واللامعنى والابتذال، والعبادة جهاد في محو الألوان العارضة، وتحطيم القوالب الاجتماعية الضيقة، وصقل الوجودية الحقيقية، واستخراج الكنوز الخفية للوعي، والوصول إلى حالة أكثر تقدمية من تلك التي وصل إليها عظماء العارفين في موروثنا.
2- العمل: ويوضح شريعتي معنى العمل في الإسلام بمفهومه الواسع؛ من حيث تضمنه العمل الديني الخالص والعمل الفكري، وكذلك العمل الاقتصادي، وبمعنى أكثر تفصيلا فإن كل عمل صالح سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو صحيا أو في سبيل الناس، يفسر كنوع من العبادة الدينية، حتى نوم الإنسان المؤمن وطعامه وكسبه عيشه.
3- النضال الاجتماعي: أكد شريعتي على ضرورة تكامل مفهوم النضال الاجتماعي مع العبادة والعمل، وذكر أن النضال الاجتماعي أعظم العوامل التي تكوَّن الوعي الذاتي.
4- تنمية النباهة والقضاء على الاستحمار: ويعرف شريعتي "مجتمع النباهة" بأنه المجتمع الذي يشعر فيه الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته بالمجتمع والمقدرات الراهنة بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وأمته، والشعور بانضمامه وارتباطه بالمجتمع، وشعوره بمسئوليته كرائد وقائد في الطليعة، من أجل الهداية والتحرير والحركة الشاملة تجاه شعبه وأمته.
أما الاستحمار فمعناه تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وتحريف مساره عن "النباهة الإنسانية" و"النباهة الاجتماعية"، فردا كان أو جماعة، وأي دافع عمل على تحريف "هاتين النباهتين" فهو دافع استحمار.
الدين الاستحماري
ويطرح شريعتي مصطلحا آخر أسماه "الدين الاستحماري"، ويقصد به الذين يستخدمون الدين بغرض التضليل، مثل قساوسة وباباوات العصور الوسطى في أوروبا، ويقول عنه: إنه الدين المضلل، الدين الحاكم، شريك المال والقوة، الدين الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات الدين، لديهم إجازات للاكتساب، وفيها علامات خاصة تنبئ عن احتفاظهم بالدين، وأنهم الدعاة، ولكنهم من شركاء الاثنين المذكورين، السلطة السياسية والاقتصادية، فهذا الدين يسخر الناس كالحمير، أي يستحمرهم.
والمتأمل لمفهوم "الدين الاستحماري" يلاحظ البعد النقدي في فكر شريعتي، الخاص بهيمنة السلطان على الدين، أو إخضاع الدين لمصالح السلطان، وهي الصورة التي عاشها الواقع الشيعي في إيران في عهد الشاه، وتعيشها المجتمعات الإسلامية منذ زمن بعيد، حيث إن هيمنة فقهاء السلطان لا تزال مستمرة ومؤثرة بشكل قوي في عالم المسلمين اليوم، هؤلاء الفقهاء "يدعون للسلطان الظالم"، و "يطلبون من المظلومين الصبر"، و "يفتونهم بحرمة الخروج على السلطان"، فهؤلاء حقا يستحمرون الناس، والدين الذي يدعون إليه هو الدين الاستحماري، وهو الذي يقول عنه شريعتي إنه "يسلبني مسئولياتي تجاه مجتمعي".
تنقـية المذهب الشـيعي
من القضايا الفكرية الاستراتيجية عند شريعتي انشغاله بقضية تصحيح وتنقية المذهب الشيعي مما علق به من أمور خارجة عن خطه الصحيح الأصيل، وأسهم فيها بشكل واضح فرق الغلاة، وكذلك الدولة الصفوية..
واتخذ شريعتي في هذا الميدان منهجين؛ الأول: المنهج النقدي لحالة التشيع المعاصر، والثاني: المنهج المقارن بين التشيع الذي خطه "البيت العلوي" نسبة إلى الإمام علي بن أبى طالب (رضي الله عنه)، والتشيع الذي ابتدعته "الدولة الصفوية" عندما تبنت المذهب الشيعي الإثني عشري مذهبا رسميا لها في إيران في بدايات القرن العاشر الميلادي.
ويخلص شريعتي إلى وضع معايير للمقارنة والتصحيح بين التشيع العلوي والصفوي، وهي كما يلي:
الوصاية: في التشيع العلوي هي توصية من النبي بأمر من الله لتشخيص الفرد الأصلح طبق معياري العلم والتقوى، أما في التشيع الصفوي فهي: قاعدة تنصيب وراثي وسلالي للحكم على أساس العنصر والقرابة.
وبالنسبة للإمامة: ففي التشيع العلوي هي القيادة الثورية النزيهة الهادفة لهداية الناس وبناء المجتمع بناء سليما، والارتقاء به إلى مستوى الطموح والنضج والاستقلال، أما في التشيع الصفوي فهي هي الاعتقاد بعصمة الأئمة الاثني عشر باعتبارهم الوسيلة الوحيدة للتقرب إلى الله، ويلعبون دور الآلهة الصغار.
وفي حقيقة المذهب فإن التشيع العلوي هو تشيع الحب والمعرفة، تشيع الوحدة والعدل الاجتماعي في المجتمع والحياة، تشيع الاجتهاد والحرية، تشيع ثورة كربلاء والشهادة، تشيع التوحيد والاختيار، تشيع نصرة الحسين، تشيع الإنسانية.
لكن التشيع الصفوي بحسب شريعتي هو تشيع الجهل والفرقة، تشيع العدل الفلسفي لما بعد الموت، تشيع الجمود والعبودية، تشيع مصيبة كربلاء والموت، تشيع الشرك والجبر، تشيع ندب الحسين، تشيع القومية.
وبهذا النهج وعن طريق التحليل الفلسفي والتاريخي والمذهبي يوضح شريعتي الأبعاد الأصيلة للتشيع العلوي في مقابل ما دخل عليه من أفكار وأخلاق وممارسات التشيع الصفوي.
التقريب بين الشيعة والسنة
من المحاور المهمة عند شريعتي محور "التقريب بين الشيعة والسنة"، ويقول عنه في كتاب "الإمام علي": "الوحدة التي أؤمن بها وحدة الأمة الإسلامية وما فيها من مذاهب مختلفة تجاه العدو الخارجي.. وحدة الشيعة والسنة ضد العدو الخارجي.. توحيد الموقف داخل البيت الإسلامي على ما فيه من اختلافات ضد الإمبريالية والصهيونية.. هذه هي الوحدة".
ويرى شريعتي أن إثارة الخلافات بين الشيعة والسنة الهدف منها إشغال المسلمين عن الصراع القائم بين المسلمين والصهاينة، ويضيف قائلا: إن الاختلاف بين التشيع العلوي والسنة المحمدية ليس أكثر من الاختلاف بين عالِمين فقيهين من مذهب واحد حول مسألة علمية.
وفي النهاية.. لابد أن تكون هناك دعوة لقراءة فكر شريعتي بوعي وتأمل بهدف استخراج ما فيه من قيم تصلح لمعالجة قضايانا السياسية والاجتماعية والوحدوية والنضالية، والتي تسهم بدورها في بناء النهضة الإسلامية المنشودة على الصعيد العالمي، كما قررها القرآن الكريم.
وهنا لابد أن يلتفت القارئ العربي إلى مثل هذه القراءة الواعية، لعله يجد فيها ضالته التي ظل يبحث عنها عشرات السنين، مغلقا على نفسه أبوابا يظن دون طرقها أنها لا تفتح، وإن فتحت فإنها لا تفيد.
** د. حسان عبد الله متخصص في الفكر التربوي الإمامي
المصدر: موقع مدارك اسلام أون لاين
حالة الانكفاء الذاتي التي يعيشها المثقف المسلم المعاصر تعد من أهم الآفات العقلية والأمراض النهضوية؛ حيث أصبح كل مثقف "سجين كهفه"، فانعدم التواصل والاتصال بين الفكرة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وتعتبر حالة الدكتور الشهيد علي شريعتي نموذجا على ذلك.
فكر الدكتور شريعتي ليس فكرا مجهولا كما يظنه البعض، بل هو فكر بارز وقوي الحضور في الثقافة الإيرانية، فقد مثلت أفكاره مقدمات أساسية أسهمت بشكل واضح في الثورة الإسلامية في إيران، ولم تنته عند هذا الحد، بل لازالت تسهم حتى الآن في التخطيط للمجتمع الإسلامي المتكامل.
اتسمت كتابات شريعتي ومؤلفاته بخاصية "الهدفية"، فجاءت هذه المؤلفات لإبراز فكرة، أو لمعالجة واقع، أو لنقد تراث.. إلخ، ولا نبالغ إذا قلنا إن الكتاب الواحد تبرز فيه عدة أفكار ترمي إلى معالجة هدف ما قد وضعه شريعتي ليحققه، سواء كان ذلك في محاضرة أو درس أو مقالة، كما اتسمت كتاباته بالطابع العلمي والعملي معا.
الحقائق الأساسية
ولد علي بن محمد تقي شريعتي في (مزينان)، وهي قرية من قرى سنروار في منطقة خراسان في إيران، وذلك في عام 1933م، وكان أبوه محمد تقي شريعتي من كبار المفكرين والمجاهدين الإسلاميين.
أسس شريعتي الأب في مدينة (مشهد) بالاشتراك مع عدد من علماء الدين المناضلين "مركز الحقائق الإسلامية"، وقام بنشاط واسع في تنقية أصول التشيع، كما شارك في توعية الجماهير بالدور الحقيقي للدين في المجتمع..
في مثل هذه البيئة وفي كنف هذا الأب شب علي شريعتي، مهتما منذ طفولته بقضايا الدين والأمراض المنتشرة في المجتمع، وفي عام 1955م التحق بكلية الآداب في مدينة "مشهد" لدراسة اللغة والأدب الفارسي، وفي نفس العام اختاره عميد الكلية ليكون المسئول الأول عن "الجمعية الأدبية الطلابية"، وفي عام 1957م تم القبض عليه مع (16) عضوا من أعضاء حركة المقاومة الوطنية ضد نظام الشاه، وحبس في سجن (قزل قلعة) في طهران.
أنهى دراسته الجامعية عام 1958م، وحصل على المركز الأول في قسم اللغة الفارسية وآدابها، ونظرا لذلك منحته الجامعة بعثة علمية لاستكمال دراسته بالخارج، فتوجه إلى فرنسا في عام 1959م، والتحق بمدرسة الآليانس لتعلم اللغة الفرنسية.
ويتحدث الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا (رحمه الله) عن هذه الفترة في حياة شريعتي: "تعد سنوات فرنسا من أكثر السنوات خصوبة في حياة شريعتي القصيرة العريضة، إذ كان شابا ذا ضمير طاهر، ذكيا يقظ القلب، مسلما حقيقيا، يعرف تماما قيمة كونه مسلما، عرف تراثه جيدا، وحمل معه زادا غنيا وفياضا وقيما من الثقافة الإسلامية، وبالتالي لم يتعرض شريعتي لتلك الصدمة التي يتعرض لها المبعوثون من العالم الفقير المستضعف، عندما يتعاملون مع العالم الغني المتكبر لأول مرة؛ فتكون نتيجة ذلك أن يتغربوا، ويفرغوا من الداخل، و(يتشبهوا) دون مقاومة، أما شريعتي فإنه لم يحسب نفسه قط مسلما ضئيلا أو صغيرا، أو متخلفا أمام الجبروت الغربي، ولم يفقد شخصيته الإسلامية، وذاته الحقيقية".
انضم شريعتي إلى منظمة تحرير الجزائر في فرنسا، وقبض عليه عام 1960م، وفي عام 1963 أنهى دراسته في جامعة السوربون، وحصل على الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، وعند عودته إلى طهران قبض عليه جهاز المخابرات "السافاك"، ثم أطلق سراحه بعد ذلك، حيث عمل أستاذا مساعدا في قسم التاريخ بجامعة مشهد.
مثلت "حسينية إرشاد" مركزا مهما من مراكز الإشعاع العلمي للجماهير الإيرانية قبل الثورة، وكان شريعتي من أبرز المفكرين الذين ارتبط ذكر هذه الحسينية بأسمائهم، كما ارتبط ذكر المدرسة الفيضية بالخميني ( قائد الثورة الإيرانية)، وقد توفي المفكر الإيراني المستنير د. علي شريعتي عام 1978م بعد حياة فكرية حافلة بالاجتهاد والجهاد لإصلاح المجتمع الإسلامي وتنقيته من آفاته.
منهجية التعرف على الإسلام
انطلاقا من "محورية الدين" ومركزيته الحضارية اهتم شريعتي بإبراز "الإسلام" كمنهج فكري وتربوي وحضاري، وأهم ما عني به هو وضع منهجية للتعرف على الإسلام؛ وذلك لأن شريعتي يرى أن المنهج (له أهمية أعظم من الفلسفة والعلم)، كما أنه العامل الأساسي في "إيجاد التقدم أو الانحطاط"، ومن هنا فقد رأى شريعتي أنه من الضروري وضع منهج لمعرفة الإسلام.
وأهم قواعد هذا المنهج بحسب شريعتي "شمولية الإسلام في مقابل المحدودية"، فالإسلام ليس دينا محدودا في جانب واحد من جوانب الحياة والكون والإنسان، بل له جوانب متعددة وشاملة، فالإسلام يوضح العلاقة بين الإنسان وربه في منهج علائقي، ويوضح أبعاد الحياة الإنسانية، وطريقة المعيشة على الأرض، وللإسلام بعد حضاري، فهو دين الحضارة والتمدن، ومن كل ذلك يخلص شريعتي إلى ضرورة دراسة الإسلام بمناهج متعددة تشمل جوانبه المختلفة.
ويقترح شريعتي طريقا يتضمن عدة خطوات للتعرف الصحيح على الإسلام، وهي: معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته، ثم معرفة القرآن الكريم وطبيعته وأهدافه، وكذلك معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم ودوره وأبعاد شخصيته الإنسانية، وعلاقاته المختلفة، وبعد ذلك إدراك السنن التاريخية في ظهور الإسلام، وإدراك النماذج البشرية التي صنعها الإسلام.
ويذكر شريعتي في كتابه "إسلام شناسي" (معرفة الإسلام) بعض الأركان الأساسية في الإسلام، وهي: العلاقة المباشرة بين الله والإنسان، والمساواة العامة، والشورى في الحكومة، ومسئولية الإنسان عن أفعاله، والعقلانية والعلمية، والانسجام بين الدين والمدنية، السننية، إقرار الطبيعة المزدوجة للإنسان "الخير والشر"، والحرية.
العودة إلى الذات
مثلت فكرة (العودة إلى الذات) بعدا إستراتيجيا مهما في فكر شريعتي، وارتبط ذلك بفكرة بناء الذات، وهي نفس الأفكار تقريبا التي ظهرت عند أصحاب الاتجاه الإسلامي في فترة الستينيات، لا سيما سيد قطب، وقد حملت إحدى كتابات شريعتي نفس هذا العنوان "العودة إلى الذات"، بينما أوضحت كتابات أخرى مفاهيم أساسية في بناء الذات، أهمها: "بناء الذات الثورية"، "النباهة والاستحمار".
وتضمنت هذه المؤلفات عدة أفكار ومفاهيم وأطروحات أسهمت بشكل جلي في تحديد "الهوية الحضارية الإسلامية"، مجتمعا وأفرادا ومؤسسات، كذا العلاقة الحضارية بالآخر الغربي، ونشير فيما يلي إلى بعض هذه المتضمنات الفكرية..
إلى أي ذات تكون العودة؟:حيث يوضح شريعتي أن قضيته "العودة إلى الذات" تتضمن العودة إلى أصالة الذات، "أي العودة إلى الثقافة الإسلامية والأيديولوجية الإسلامية"، وإلى الإسلام لا كتقليد، أو وراثة، أو نظام عقيدة موجودة بالفعل في المجتمع، بل إلى الإسلام كأيديولوجية، وإيمان بعث الوعي وأحدث المعجزة في هذه المجتمعات.
كما أن عناية شريعتي بالذات واهتمامه بها جاء لإبراز تفرد "الذات الإسلامية" في مكوناتها وعناصرها عن غيرها من الذوات التي لا تحمل هذه الصفة "الإسلامية"، وفي ذلك يقول: "إن منطقنا هو الذات الإسلامية نفسها وينبغي أن نجعل شعارنا هو العودة إلى هذه الذات نفسها؛ لأنها الذات الوحيدة القريبة لنا ومنا من بين كل الذوات، وهي الثقافة الوحيدة التي لا تزال حية حتى الآن، وهي الروح والإيمان والحياة الوحيدة في المجتمع الآن".
ويؤكد شريعتي على مسألة "الوعي" كسبيل ضروري لتحرر الذات والعودة إليها عودة حقيقية، وهنا يؤكد على دور "الناس" أنفسهم، ودرجة وعيهم للوصول إلى هذا الهدف، "فإنه ما لم يصل الناس إلى الوعي، وما لم يصيروا هم أنفسهم أصحاب شخصيات إنسانية واعية، وما لم يرتقوا من مرحلة التبعية والتقليد لشخصياتهم الدينية والعلمية التي تحتكر القدوة والفتوى إلى مرحلة النضج الاجتماعي والسياسي يكون فيها القادة خاضعين لإرادتهم وخط سيرهم الواعي".
تحرير الذات من الابتلاء بمرض التغرب: فمن الآفات التي أشار إليها شريعتي في الشخصية المسلمة ابتلاؤها بمرض "التغرب" أو "التغريب"، وهي مرحلة وقع فيها فئة "المنبهرين بالغرب" و "المهزومين ثقافيا وعقديا"، وأرادوا لمجتمعاتهم نفس هذا المصير.
ويصف شريعتي هذه الفئة التي أصيبت بهذا المرض بأنهم هم "المخرفون الرجعيون المتعفنون المتحجرون، والعوام القدماء الذين استطاعت أجهزة الدعاية الغربية محو كل ملامحهم ومحتوياتهم التاريخية والثقافية والدينية والأخلاقية والإنسانية، وجعلتهم عصريين، فالعصري هو الإنسان الذي سلبوا منه كل ما يملك وحولوه إلى (بطن) حريص ملتصق بأجهزة الصناعة للرأسمالية العالمية فحسب".
دور المفكر في مشروع العودة
لا يعول شريعتي على مفكر بعينه في مشروعه الحضاري "العودة إلى الذات"، ولكنه يحدد صفاته الأساسية، ويصفه بالمفكر المستنير، وهو الذي يمتلك رؤية شاملة منفتحة ومتطورة وقدرة على إدراك أوضاع العصر والمجتمع الذي يعيش فيه وتحليلها منطقيا، وذو إحساس بالارتباط التاريخي، وذو رؤية واتجاه اجتماعي محدد، ولا بد له أيضا من إحساس بالمسئولية، وهي وليدة نفس ذلك الوعي الإنساني الخاص، الوعي بالذات والوعي بالعالم والوعي بالمجتمع.
وهذا الوعي هو أسمى ميزة في النوع الإنساني، وهو أكثر تجليا فيمن نضجوا من أفراد، هذا الوعي ليس فلسفة أو علوما طبيعية أو إنسانية أو فنونا أو صناعات وآدابا، بل هو نوع من الاستعداد للهداية وشعور بالنبوة وحاسة القيادة، نفس الطريق الخاص الذي كان موجودا عند الأنبياء، هو العلم الذي عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "نور يقذفه الله في قلب من يشاء"، هو نفسه الوعي والحكمة في القرآن.
ويتحدد دور المفكر في إيقاظ ضمير المجتمع ومنح الناس الوعي الذاتي، والتفسيرات الحياتية المختلفة للواقع الذاتي، والتفسيرات الحياتية المختلفة للواقع الأخلاقي والاجتماعي والثقافي، واستخراج المواد الخام للطاقات المعنوية والفكرية في تاريخ الأمة وثقافتها.
بناء الذات.. مبادئ وأبعاد
يظهر د. علي شريعتي في مشروعه "العودة إلى الذات" في صورة رجل تربوي تجديدي، يطرح المبادئ والأبعاد والأساليب التربوية التي تساعد في "بناء الذات" المنشودة، وهي عند شريعتي في عدة جوانب:
أ- محددات: يحدد شريعتي المقصود ببناء الذات، وهو عبارة عن "إعداد الذات ثوريا في صورة أصل وأصالة وهدف، أي أن يوهب الجوهر الوجودي للذات تكامله".
ب- المبدأ الأساسي: وتنطلق فلسفة بناء الذات من خلال مبدأ أساسي، وهو أن الإنسان صاحب دور في مسيرته التاريخية، وفي تغيير نظامه الاجتماعي، وذلك انطلاقا من وعي الإنسان وإرادته، واعتبارهما علة في مسيرة التاريخ والتطورات الاجتماعية.
ج- أبعاد بناء الذات هي: الحرية، والإحساس العرفاني، والجانب الأخلاقي.. حيث يؤكد أن بناء الذات في هذه الأبعاد الثلاثة يتم معا وبتناسق وباستمرار، أي أن تقدم الإنسان في بعد منها يفسر كمرحلة منفصلة عن المشاركة في بنية العصر، كما تشير أحكام الإسلام إلى ذلك، فالإنسان عندما يصل إلى سن التكليف يؤمر على الفور بمسئولياته الفردية، التي تحتوي على بناء الذات في نفس الوقت مع مسئولياته الجماعية، التي تشكل رسالته الاجتماعية والسياسية، فقد كُلف بالصوم والصلاة، في نفس الوقت الذي كُلف فيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د- أصالة بناء الذات: أكد شريعتي على عدة جوانب تبرز أصالة بناء الذات الثورية، وهي:
1- العبادة: المقصود من العبادة هنا هو الاتصال الوجودي المستمر بين الإنسان والله.. الله الذي هو منبع الروح والجمال والهدف والإيمان، وكل قيمنا الإنسانية، وبدونه يغوص كل شيء في مستنقع العبث واللامعنى والابتذال، والعبادة جهاد في محو الألوان العارضة، وتحطيم القوالب الاجتماعية الضيقة، وصقل الوجودية الحقيقية، واستخراج الكنوز الخفية للوعي، والوصول إلى حالة أكثر تقدمية من تلك التي وصل إليها عظماء العارفين في موروثنا.
2- العمل: ويوضح شريعتي معنى العمل في الإسلام بمفهومه الواسع؛ من حيث تضمنه العمل الديني الخالص والعمل الفكري، وكذلك العمل الاقتصادي، وبمعنى أكثر تفصيلا فإن كل عمل صالح سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو صحيا أو في سبيل الناس، يفسر كنوع من العبادة الدينية، حتى نوم الإنسان المؤمن وطعامه وكسبه عيشه.
3- النضال الاجتماعي: أكد شريعتي على ضرورة تكامل مفهوم النضال الاجتماعي مع العبادة والعمل، وذكر أن النضال الاجتماعي أعظم العوامل التي تكوَّن الوعي الذاتي.
4- تنمية النباهة والقضاء على الاستحمار: ويعرف شريعتي "مجتمع النباهة" بأنه المجتمع الذي يشعر فيه الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته بالمجتمع والمقدرات الراهنة بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وأمته، والشعور بانضمامه وارتباطه بالمجتمع، وشعوره بمسئوليته كرائد وقائد في الطليعة، من أجل الهداية والتحرير والحركة الشاملة تجاه شعبه وأمته.
أما الاستحمار فمعناه تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وتحريف مساره عن "النباهة الإنسانية" و"النباهة الاجتماعية"، فردا كان أو جماعة، وأي دافع عمل على تحريف "هاتين النباهتين" فهو دافع استحمار.
الدين الاستحماري
ويطرح شريعتي مصطلحا آخر أسماه "الدين الاستحماري"، ويقصد به الذين يستخدمون الدين بغرض التضليل، مثل قساوسة وباباوات العصور الوسطى في أوروبا، ويقول عنه: إنه الدين المضلل، الدين الحاكم، شريك المال والقوة، الدين الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات الدين، لديهم إجازات للاكتساب، وفيها علامات خاصة تنبئ عن احتفاظهم بالدين، وأنهم الدعاة، ولكنهم من شركاء الاثنين المذكورين، السلطة السياسية والاقتصادية، فهذا الدين يسخر الناس كالحمير، أي يستحمرهم.
والمتأمل لمفهوم "الدين الاستحماري" يلاحظ البعد النقدي في فكر شريعتي، الخاص بهيمنة السلطان على الدين، أو إخضاع الدين لمصالح السلطان، وهي الصورة التي عاشها الواقع الشيعي في إيران في عهد الشاه، وتعيشها المجتمعات الإسلامية منذ زمن بعيد، حيث إن هيمنة فقهاء السلطان لا تزال مستمرة ومؤثرة بشكل قوي في عالم المسلمين اليوم، هؤلاء الفقهاء "يدعون للسلطان الظالم"، و "يطلبون من المظلومين الصبر"، و "يفتونهم بحرمة الخروج على السلطان"، فهؤلاء حقا يستحمرون الناس، والدين الذي يدعون إليه هو الدين الاستحماري، وهو الذي يقول عنه شريعتي إنه "يسلبني مسئولياتي تجاه مجتمعي".
تنقـية المذهب الشـيعي
من القضايا الفكرية الاستراتيجية عند شريعتي انشغاله بقضية تصحيح وتنقية المذهب الشيعي مما علق به من أمور خارجة عن خطه الصحيح الأصيل، وأسهم فيها بشكل واضح فرق الغلاة، وكذلك الدولة الصفوية..
واتخذ شريعتي في هذا الميدان منهجين؛ الأول: المنهج النقدي لحالة التشيع المعاصر، والثاني: المنهج المقارن بين التشيع الذي خطه "البيت العلوي" نسبة إلى الإمام علي بن أبى طالب (رضي الله عنه)، والتشيع الذي ابتدعته "الدولة الصفوية" عندما تبنت المذهب الشيعي الإثني عشري مذهبا رسميا لها في إيران في بدايات القرن العاشر الميلادي.
ويخلص شريعتي إلى وضع معايير للمقارنة والتصحيح بين التشيع العلوي والصفوي، وهي كما يلي:
الوصاية: في التشيع العلوي هي توصية من النبي بأمر من الله لتشخيص الفرد الأصلح طبق معياري العلم والتقوى، أما في التشيع الصفوي فهي: قاعدة تنصيب وراثي وسلالي للحكم على أساس العنصر والقرابة.
وبالنسبة للإمامة: ففي التشيع العلوي هي القيادة الثورية النزيهة الهادفة لهداية الناس وبناء المجتمع بناء سليما، والارتقاء به إلى مستوى الطموح والنضج والاستقلال، أما في التشيع الصفوي فهي هي الاعتقاد بعصمة الأئمة الاثني عشر باعتبارهم الوسيلة الوحيدة للتقرب إلى الله، ويلعبون دور الآلهة الصغار.
وفي حقيقة المذهب فإن التشيع العلوي هو تشيع الحب والمعرفة، تشيع الوحدة والعدل الاجتماعي في المجتمع والحياة، تشيع الاجتهاد والحرية، تشيع ثورة كربلاء والشهادة، تشيع التوحيد والاختيار، تشيع نصرة الحسين، تشيع الإنسانية.
لكن التشيع الصفوي بحسب شريعتي هو تشيع الجهل والفرقة، تشيع العدل الفلسفي لما بعد الموت، تشيع الجمود والعبودية، تشيع مصيبة كربلاء والموت، تشيع الشرك والجبر، تشيع ندب الحسين، تشيع القومية.
وبهذا النهج وعن طريق التحليل الفلسفي والتاريخي والمذهبي يوضح شريعتي الأبعاد الأصيلة للتشيع العلوي في مقابل ما دخل عليه من أفكار وأخلاق وممارسات التشيع الصفوي.
التقريب بين الشيعة والسنة
من المحاور المهمة عند شريعتي محور "التقريب بين الشيعة والسنة"، ويقول عنه في كتاب "الإمام علي": "الوحدة التي أؤمن بها وحدة الأمة الإسلامية وما فيها من مذاهب مختلفة تجاه العدو الخارجي.. وحدة الشيعة والسنة ضد العدو الخارجي.. توحيد الموقف داخل البيت الإسلامي على ما فيه من اختلافات ضد الإمبريالية والصهيونية.. هذه هي الوحدة".
ويرى شريعتي أن إثارة الخلافات بين الشيعة والسنة الهدف منها إشغال المسلمين عن الصراع القائم بين المسلمين والصهاينة، ويضيف قائلا: إن الاختلاف بين التشيع العلوي والسنة المحمدية ليس أكثر من الاختلاف بين عالِمين فقيهين من مذهب واحد حول مسألة علمية.
وفي النهاية.. لابد أن تكون هناك دعوة لقراءة فكر شريعتي بوعي وتأمل بهدف استخراج ما فيه من قيم تصلح لمعالجة قضايانا السياسية والاجتماعية والوحدوية والنضالية، والتي تسهم بدورها في بناء النهضة الإسلامية المنشودة على الصعيد العالمي، كما قررها القرآن الكريم.
وهنا لابد أن يلتفت القارئ العربي إلى مثل هذه القراءة الواعية، لعله يجد فيها ضالته التي ظل يبحث عنها عشرات السنين، مغلقا على نفسه أبوابا يظن دون طرقها أنها لا تفتح، وإن فتحت فإنها لا تفيد.
** د. حسان عبد الله متخصص في الفكر التربوي الإمامي
المصدر: موقع مدارك اسلام أون لاين
مفتي شيعي: إمامة "علي" دينية وليست سياسية
صبحي مجاهد، مراسل إسلام أون لاين
/ 27-12-2009
"زبدة التفكير في رفض السب والتكفير".. هذا هو اسم الكتاب الذي أصدره الدكتور علي الأمين، مفتي منطقة صور وأحد علماء الشيعة في لبنان، ويحوي الكتاب نقدا عنيفا للآراء الشيعية التي تكفر أهل السنة، ويرفض القول بكفر من لا يؤمن بإمامة علي رضي الله عنه، والكتاب هو مضمون مقابلة تليفزيونية أجرتها قناة "المستقلة" الفضائية.
ويظهر الكتاب ما طرأ في البنية الفكرية الشيعية من تطور جذري، لاسيما في العديد من المفاهيم الكبرى، كمفهوم ارتباط دخول الجنة بالإيمان بالأئمة، ويعد هذا الكتاب خطوة كبيرة يقوم بها عالم شيعي بارز في هذا المجال.
مفتي صور أكد في كتابه أن سب الصحابة ليس لصيق المذهب الشيعي، وأن ذهاب بعض علماء الشيعة إلى رأي من الآراء تجاه الصحابة لا يعني أنه رأي المذهب.
وشدد د. الأمين على أن القول بفسق كبار الصحابة كأبي بكر وعمر هو جمود فكري مرفوض، موضحا أن ما تتبناه بعض المراجع الشيعية في هذا الأمر ليس حجة على الشيعة، كما أنه لا يوجد إجماع لمذهب الشيعة الإمامية على ذلك، فسب الصحابة ليس أصلا من أصول المذهب الشيعي كما يدعي البعض.
وقال: "إن ما يقول به المرجعان علي السيستاني والخميني بأن من لا يؤمن بإمامة علي رضي الله عنه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كافر، هو قول يجب ألا نسير عليه؛ لأن الأصل أن من وجد فيه الإيمان بالله وبالرسول وبالآخرة فهو مسلم ومؤمن، أما الإيمان بالإمامة -وإن كان يعد أصلا بمذهب- لكنه لا يجوز أن يكون طريقا لتكفير الآخرين".
واستطرد الأمين: "إن مصطلح الإيمان عند جملة من فقهاء المذهب الجعفري يقصد به الإيمان بالمذهب الإمامي (الإثنا عشري)، وهذا قول لا يجوز، علاوة على مخالفته للمعنى القرآني، ونحن نعتقد أن هذا المصطلح من المصطلحات المتأخرة التي جاءت بعد عصور متعددة من نزول الآيات، ومحاولة البعض تحميل لفظ الإيمان الموجود في القرآن الكريم معنى مذهبيا هو توجه خاطئ".
وتساءل متعجبا: ماذا نقول إذن في المؤمنين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتوفوا قبل أن تطرح مسألة إمامة علي من الأساس، هل نقول إنهم كفار؟ وعلى هذا فإن تفسير كلمة الإيمان في القرآن اصطلاحيا بهذا المعنى أمر لا يقبله عقل.
وأضاف أن "تحمل لفظ الإيمان الذي ورد في القرآن الكريم معنى اصطلاحيا جاء بعد قرون من زمن النزول.. يعني مثلا كان هناك مؤمنون في عهد رسول الله وتوفوا قبل أن تطرح مسألة الإمامة وما شاكل هذا".
وأشار إلى أنه ينبغي فهم معنى الإيمان الحقيقي بأنه هو الإيمان بهذه الأصول التي ذكرها القرآن الكريم: الإيمان بالله وبرسوله وملائكته وكتبه، طبعا مع العمل، وعليه فلا صحة للرأي الشيعي الذي يردده البعض من أن دخول الجنة يتطلب الإيمان بالأئمة "الإثنا عشرية"، وأكد أنه لابد من تحرير هذا الأمر؛ حيث يعد خطأ في الاجتهاد.
ويرفض الكتاب ما ذهب إليه الشيخ المفيد -وهو من علماء الشيعة الكبار- من أن الخلفاء الراشدين الثلاثة السابقين للإمام علي ((فساق ظالمون عصاة وفي النار بظلمهم مخلدون)).
واستطرد: "إن التكفير الذي يذهب إليه البعض في قضية الإيمان بالأئمة ليس شرطا من شروط المذهب الشيعي، وإنما هو اجتهاد يتحمله صاحبه".
ويشير إلى أنه لا ينبغي للشيعي أن يقلد مرجعية شيعية كالسيستاني في أن الصحابة مرتدون؛ لأنهم أنكروا بيعة "علي" بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأوضح الكاتب قائلا: "إن أهل الاختصاص يقولون بأن التقليد في الموضوعات غير واجب وغير صحيح، ولذلك عندما يقول السيستاني بأن الصحابة مثلا ارتدوا لأنهم لم يبايعوا عليا فهذا رأيه في موضوع من الموضوعات التي يجب عدم رجوع المقلدين إلى مقلدهم فيها، وإنما بإمكانهم أن تكون لهم أنظارهم في هذه القضية".
وأضاف الأمين أن هناك تقصيرا في العلاقة بين الشيعة وأهل البيت، وأن تلك العلاقة بحاجة إلى تهذيب وتنظيم، خاصة فيما يتعلق بالدعاء؛ لأن الدعاء بغير الله مرفوض؛ لذا يكون التهذيب حتى لا تترك الأمور للعادات والتقاليد تتحكم في الأمر.
وعن مسألة أولي الأمر وقصرهم على الأئمة أوضح مفتي صور "أن (أولي الأمر) شامل كل من تولى أمور المسلمين، وليس قاصرا على أئمة آل البيت، وأن القصر لأولي الأمر عليهم هو نوع من التأويل وليس التفسير".
وأكد: "أن الإمامة لا تعني القيادة السياسية، وأن الإمام هو الحافظ للشرع ومؤتمن عليه، ومستمر في النهج في دفع الشبهات عن الشريعة، فهذه مكانة الإمامة في الدين، ومتروك للأئمة أن تختار ولي أمرها في السياسة".
وأضاف أنه بناء على ذلك "فإن إمامة علي إمامة شرعية وليست سياسية، فهو إمام اختارته الأمة وإن لم تختره سياسيا، فلم يفقد موقعه التشريعي والتوجيهي في عصر الخليفة الأول والثاني والثالث؛ لذا كان هناك تعاون بين الخلفاء وتناصح، وكان هناك انخراط".
وقال الأمين: "إن الإمامة ليست موضع شك عندنا وهي ثابتة على نحو القطع واليقين، ولا يؤثر في ثبوتها عدم تمكن الإمام من القيادة السياسية للأمة؛ لأن الإمامة لا تزيد على النبوة التي كان الهدف الأساسي منها هو مشروع الهداية والإرشاد إلى سواء السبيل".
وانطلق الكاتب من هنا إلى أن الإمامة في المذهب الشيعي لا ينبغي أن تكون لصيقة بالمنصب السياسي باعتبار إنها تقتضي القيادة السياسية الفعلية، مشيرا إلى أن هذا ما ذكره في كتاب "ولاية الدولة ودولة الفقيه".
ودلل الأمين على كلامه بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان إماما ولم يكن قائدا سياسيا، وهذا ما يعين أن الإمامة لا تقتضي القيادة السياسية، وإنما يمكن التعبير عنها بالمعنى المنطقي بأنها تعطي الأهلية للقيادة السياسية والفعلية.
________________________________________
/ 27-12-2009
"زبدة التفكير في رفض السب والتكفير".. هذا هو اسم الكتاب الذي أصدره الدكتور علي الأمين، مفتي منطقة صور وأحد علماء الشيعة في لبنان، ويحوي الكتاب نقدا عنيفا للآراء الشيعية التي تكفر أهل السنة، ويرفض القول بكفر من لا يؤمن بإمامة علي رضي الله عنه، والكتاب هو مضمون مقابلة تليفزيونية أجرتها قناة "المستقلة" الفضائية.
ويظهر الكتاب ما طرأ في البنية الفكرية الشيعية من تطور جذري، لاسيما في العديد من المفاهيم الكبرى، كمفهوم ارتباط دخول الجنة بالإيمان بالأئمة، ويعد هذا الكتاب خطوة كبيرة يقوم بها عالم شيعي بارز في هذا المجال.
مفتي صور أكد في كتابه أن سب الصحابة ليس لصيق المذهب الشيعي، وأن ذهاب بعض علماء الشيعة إلى رأي من الآراء تجاه الصحابة لا يعني أنه رأي المذهب.
وشدد د. الأمين على أن القول بفسق كبار الصحابة كأبي بكر وعمر هو جمود فكري مرفوض، موضحا أن ما تتبناه بعض المراجع الشيعية في هذا الأمر ليس حجة على الشيعة، كما أنه لا يوجد إجماع لمذهب الشيعة الإمامية على ذلك، فسب الصحابة ليس أصلا من أصول المذهب الشيعي كما يدعي البعض.
وقال: "إن ما يقول به المرجعان علي السيستاني والخميني بأن من لا يؤمن بإمامة علي رضي الله عنه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كافر، هو قول يجب ألا نسير عليه؛ لأن الأصل أن من وجد فيه الإيمان بالله وبالرسول وبالآخرة فهو مسلم ومؤمن، أما الإيمان بالإمامة -وإن كان يعد أصلا بمذهب- لكنه لا يجوز أن يكون طريقا لتكفير الآخرين".
واستطرد الأمين: "إن مصطلح الإيمان عند جملة من فقهاء المذهب الجعفري يقصد به الإيمان بالمذهب الإمامي (الإثنا عشري)، وهذا قول لا يجوز، علاوة على مخالفته للمعنى القرآني، ونحن نعتقد أن هذا المصطلح من المصطلحات المتأخرة التي جاءت بعد عصور متعددة من نزول الآيات، ومحاولة البعض تحميل لفظ الإيمان الموجود في القرآن الكريم معنى مذهبيا هو توجه خاطئ".
وتساءل متعجبا: ماذا نقول إذن في المؤمنين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتوفوا قبل أن تطرح مسألة إمامة علي من الأساس، هل نقول إنهم كفار؟ وعلى هذا فإن تفسير كلمة الإيمان في القرآن اصطلاحيا بهذا المعنى أمر لا يقبله عقل.
وأضاف أن "تحمل لفظ الإيمان الذي ورد في القرآن الكريم معنى اصطلاحيا جاء بعد قرون من زمن النزول.. يعني مثلا كان هناك مؤمنون في عهد رسول الله وتوفوا قبل أن تطرح مسألة الإمامة وما شاكل هذا".
وأشار إلى أنه ينبغي فهم معنى الإيمان الحقيقي بأنه هو الإيمان بهذه الأصول التي ذكرها القرآن الكريم: الإيمان بالله وبرسوله وملائكته وكتبه، طبعا مع العمل، وعليه فلا صحة للرأي الشيعي الذي يردده البعض من أن دخول الجنة يتطلب الإيمان بالأئمة "الإثنا عشرية"، وأكد أنه لابد من تحرير هذا الأمر؛ حيث يعد خطأ في الاجتهاد.
ويرفض الكتاب ما ذهب إليه الشيخ المفيد -وهو من علماء الشيعة الكبار- من أن الخلفاء الراشدين الثلاثة السابقين للإمام علي ((فساق ظالمون عصاة وفي النار بظلمهم مخلدون)).
واستطرد: "إن التكفير الذي يذهب إليه البعض في قضية الإيمان بالأئمة ليس شرطا من شروط المذهب الشيعي، وإنما هو اجتهاد يتحمله صاحبه".
ويشير إلى أنه لا ينبغي للشيعي أن يقلد مرجعية شيعية كالسيستاني في أن الصحابة مرتدون؛ لأنهم أنكروا بيعة "علي" بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأوضح الكاتب قائلا: "إن أهل الاختصاص يقولون بأن التقليد في الموضوعات غير واجب وغير صحيح، ولذلك عندما يقول السيستاني بأن الصحابة مثلا ارتدوا لأنهم لم يبايعوا عليا فهذا رأيه في موضوع من الموضوعات التي يجب عدم رجوع المقلدين إلى مقلدهم فيها، وإنما بإمكانهم أن تكون لهم أنظارهم في هذه القضية".
وأضاف الأمين أن هناك تقصيرا في العلاقة بين الشيعة وأهل البيت، وأن تلك العلاقة بحاجة إلى تهذيب وتنظيم، خاصة فيما يتعلق بالدعاء؛ لأن الدعاء بغير الله مرفوض؛ لذا يكون التهذيب حتى لا تترك الأمور للعادات والتقاليد تتحكم في الأمر.
وعن مسألة أولي الأمر وقصرهم على الأئمة أوضح مفتي صور "أن (أولي الأمر) شامل كل من تولى أمور المسلمين، وليس قاصرا على أئمة آل البيت، وأن القصر لأولي الأمر عليهم هو نوع من التأويل وليس التفسير".
وأكد: "أن الإمامة لا تعني القيادة السياسية، وأن الإمام هو الحافظ للشرع ومؤتمن عليه، ومستمر في النهج في دفع الشبهات عن الشريعة، فهذه مكانة الإمامة في الدين، ومتروك للأئمة أن تختار ولي أمرها في السياسة".
وأضاف أنه بناء على ذلك "فإن إمامة علي إمامة شرعية وليست سياسية، فهو إمام اختارته الأمة وإن لم تختره سياسيا، فلم يفقد موقعه التشريعي والتوجيهي في عصر الخليفة الأول والثاني والثالث؛ لذا كان هناك تعاون بين الخلفاء وتناصح، وكان هناك انخراط".
وقال الأمين: "إن الإمامة ليست موضع شك عندنا وهي ثابتة على نحو القطع واليقين، ولا يؤثر في ثبوتها عدم تمكن الإمام من القيادة السياسية للأمة؛ لأن الإمامة لا تزيد على النبوة التي كان الهدف الأساسي منها هو مشروع الهداية والإرشاد إلى سواء السبيل".
وانطلق الكاتب من هنا إلى أن الإمامة في المذهب الشيعي لا ينبغي أن تكون لصيقة بالمنصب السياسي باعتبار إنها تقتضي القيادة السياسية الفعلية، مشيرا إلى أن هذا ما ذكره في كتاب "ولاية الدولة ودولة الفقيه".
ودلل الأمين على كلامه بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان إماما ولم يكن قائدا سياسيا، وهذا ما يعين أن الإمامة لا تقتضي القيادة السياسية، وإنما يمكن التعبير عنها بالمعنى المنطقي بأنها تعطي الأهلية للقيادة السياسية والفعلية.
________________________________________
مصر على أعتاب مفترق طرق
د. سمير غطاس..
تكاد مصر أن تصل، بعد برهة وجيزة إلى مفترق طرق، فها نحن، للمرة الأولى بعد ١٩٥٢ لا نعرف على وجه الدقة أو اليقين إلى من وكيف ستنتقل سلطة الحكم ورئاسة الجمهورية الرابعة، لأنه لم يبت الأمر بعد فى ما يسمى اصطلاحاً بعملية «التوريث» وهنا، كما فى الحالات المشوشة والتى يسودها اللايقين، يجرى عادة الاستعانة بالسيناريوهات الافتراضية، وفى الحالة المصرية يمكن قراءة أربعة من هذه السيناريوهات:
١- أن يتشبث الرئيس مبارك، ما دام قلبه ينبض على حد تعبيره، بولاية حكم جديدة ويمضيها إلى نهايتها.
٢- أن يدعو الرئيس بعد فترة من ولايته الجديدة فى ثلثها الأول أو منتصفها إلى انتخابات جديدة مبكرة ويساند خليفته ويدعم حكمه فيما يقدر الله له من العمر.
٣- أن تضعف قبضة الرئيس فتظهر الصراعات الداخلية وقد يتطور الأمر لخروجها عن السيطرة.
٤- أو أن تختلط كل الأوراق فى حالة غياب الرئيس ويعاد النظر فى ترتيبها.
ورغم ما لكل واحد من هذه السيناريوهات من منطق مختلف وشروط مميزة فإنها تجتمع على ترجيح احتمال إجراء عملية نقل السلطة فى مصر من داخل النظام بالتوافق بين مراكز ثقله وليس من خارجه.
ومع هذا فإن مصر ستجد نفسها، موضوعيا، على عتبة مفترق طرق لأنه لم يعد من الممكن للنظام فى مصر أن يبقى محتجزاً لاطول من ذلك فى أزمة مارس ١٩٥٤ وما أفرزته من نظام سياسى لا نزال نعيش فى ظله، كما لايمكن لطاقات المجتمع المصرى أن تبقى لأطول من ذلك محتجزة فى أزمة صدمة الحداثة أو التصادم معها.
لكن اقتراب مصر من اللحظة التاريخية للوقوف على مفترق طرق يستوجب التزود بقدر ولو قليل من الحكمة ربما مثل تلك التى وردت بشكل رمزى فى القصة الشهيرة «أليس فى بلاد العجائب؟» التى صدرت فى عام ١٨٦٥ وتحكى مغامرات طفلة انزلقت إلى عالم غريب مع الحيوانات،
وعندما وصلت هذه الطفلة إلى مفترق طرق سألت صديقتها القطة عن أى الطرق التى يجب أن تسلكها، فردت بقولها: ما دمت لاتعرفين الهدف فليس مهما أى الطرق تسلكين، وكأن نفس هذا المعنى قد تردد قبل ذلك بكثير فى مقولة للفيلسوف سينيكا (٤.م- ٦٥م) قال فيها: «عندما لايعرف الإنسان الميناء الذى سيتوجه إليه فإن أى رياح ستهب لن تكون هى الرياح الصحيحة»،
وقبل أن تقترب مصر من الوقوف على عتبة مفترق الطرق ينبغى للمصريين أن يتوافقوا على هدفهم القومى، كانت كثير من الأمم قد اعتبرت أنها على مفترق طرق قبيل الدخول فى الألفية الثالثة وحددت كل منها أهدافها المنظورة، وشهد القرن الجديد ميلاد ظاهرة برامج ٢٠٢٠ التى أنجزتها دول عديدة فى العالم وحددت فيها أهدافها عند مفترق الألفية الثالثة.
وليس أقل من أن نكون فى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا وأن نكون فى مصاف الدول المستقرة فى أنظمتها السياسية الديمقراطية وأن نرتقى إلى مكانة متقدمة على مدرج الدول التى تكفل الرفاهية لمواطنيها وترعى جميع حقوقه. هذا هو الهدف الذى تستحقه مصر والتحدى الذى ينبغى أن يرفعه المشروع القومى الجديد، ولم يعد من المقبول أن تبقى مصر فى حالة انعدام الوزن ولا تغادر الدوران فى فلك دول العالم الثالث التى تسمى بالدول النامية، وكل برنامج للإصلاح السياسى يجب أن يرتبط بهذا الهدف الذى يؤمن للمواطن المصرى حصة أكبر وأفضل من تنمية وتوسيع كعكة الدخل القومى إلى حدها الأقصى الممكن،
وقد يتعذر على الأحزاب فى مصر إدراك ما تدعو له من إصلاح سياسى حقيقى طالما هى تتمسك بإستراتيجية أحادية للتغيير من أعلى وتمشى مقلوبة على رأسها، ولا تمتلك بعد ما يؤهلها لأن تبرهن لعموم المصريين أن الإصلاح السياسى هو شرط ضرورى ولازم لتحقيق الأهداف القومية لمصر ولتحسين الأوضاع الشخصية للمواطنين،
وقد أشرنا فى مقالات سابقة إلى عجز هذه الأحزاب عن إيجاد أدنى صلة بين أشكال الاحتجاج المطلبية التى اجتاحت مصر فى السنوات الثلاث الأخيرة وبين برامج الإصلاح السياسى، وعجزها عن استعادة العافية للحركة الطلابية فى الجامعات وعجزها عن دمج منظمات المجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية فى مشروع الإصلاح السياسى، وقد لايتحقق كل هذا بما أسماه رئيس حزب الوفد مؤخراً بالذهاب إلى الجماهير بدلا من انتظار أن تأتى هى إلى الحزب، وكأنه يعيد الآن اكتشاف العجلة، لأنه ليس هناك من حزب فى مصر من أيام الاتحاد الاشتراكى إلى الحزب الوطنى لم يرفع الشعارات الفارغة عن النزول للجماهير والالتحام بالشعب؟!
ولا يمكن قبول منطق الأحزاب الذى يخفى عجزه الذاتى فى هذا المجال خلف المبررات التى تتحدث عن تقييد أجهزة الأمن لحركتها وسط الجماهير، ولو كانت هذه المبررات صحيحة لما شهدت البشرية، بما فيها مصر، أى ثورة أو إصلاح أو تغيير فى كل تاريخها، لأن الشرطى، وليس أى شىء آخر، هو أقدم مهنة فى التاريخ، ومع ذلك لم يخل سجل هذا التاريخ من ثورة أو أنتفاضة أو هبة أو تمرد أو عصيان مدنى أو احتجاج أو حركة للإصلاح والتغيير، المهم أن تكون مستعدا لدفع الثمن لأن الأحزاب ليست أندية أو وكالات للسياحة والسفر وهى تدعو جماهيرها للتغيير السياسى وليس لمتعة الاستجمام والاستحمام والتسوق .
ولهذا تثير الحالة السياسية فى مصر المزيد من الأسئلة حول طبيعة ودور النخبة، حيث يرى البعض أنها تتحمل المسؤولية الأولى عن تردى الأوضاع السياسية فى مصر بما فى ذلك الأوضاع الحزبية، وتمتد هذه المسؤولية حتى إلى النخب التى اختارت أن تلعب دوراً موهوماً للإصلاح من داخل الحزب الوطنى، فيما يحمل البعض الآخر هذه المسؤولية للأحزاب المصابة بالعقم المزمن وعدم القدرة على التفاعل مع المجتمع وتوليد أجيال جديدة من النخب التى تحمل راية الإصلاح السياسى ومشعل التنوير الفكرى والثقافى.
ومن المثير حقا للاستنكار والدهشة أن نصادف فى القرن الواحد والعشرين نفس المعارك الفكرية التى واجهتها النخبة المصرية فى أواخر القرن التاسع عشر وكادت أن تنتصر فيها لحرية العقل ومواكبة الحداثة والتقدم وكأننا لم نفارق بعد اللحظة التى عرفتها مصر قبل قرن كامل من الزمان والتى واجهتها وانتصرت فيها النخب فى المجتمعات الأخرى قبل أكثر من خمسة قرون، وهناك من يرى أن الوضع الراهن هو أكثر تراجعا حتى من الحالة التى واجهت فيها النخب المصرية لحظة الصدمة مع الحداثة التى فجرتها الهزيمة أمام البونابرتية فى عام ١٧٩٨،
فبعد اكثر من ١٧٠ عاما وقعت صدمة هزيمة ١٩٦٧ ما أدى إلى تراجع قطاعات ليست قليلة من النخبة المصرية عن مشروع الدولة المدنية والالتحاق بالتقدم والحداثة بل والارتداد إلى المشروعات السلفية ووصل الأمر ببعض رموز النخبة المصرية المعاصرة إلى حد إدانة كل رموز الإصلاح الفكرى والسياسى ولم يسلم من ذلك الافتراء ممثلو السلفية الإصلاحية الشيخ حسن العطار والشيخ محمد عبده، والمصلحون الآخرون مثل رفاعة الطهطاوى والشيخ على عبدالرازق وأحمد لطفى السيد وقاسم أمين وغيرهم ممن تتهمهم النخب المتحولة للسلفية الجهولة بالتغريب؟،
رغم أن هذه النخبة الجهولة لم تنتج أى أثر فكرى يتجاوز أو حتى يجارى ما وضعه هؤلاء فى زمانهم، يكفى أن نشير هنا إلى ما ورد فى كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى صدر فى ١٩٣٨ وقال فيه: «مادام لاكهنوت فى الإسلام ولم تنشأ فيه طبقة ذات منفعة معينة فى سيطرة الدين على المجتمع فلن يكون من الممكن إجراء فصل بين الدين والمدنية مماثل لذلك الذى أجرى فى أوروبا فحسب بل إن ذلك سيكون أسهل على المسلمين منه على المسيحيين»،
ولو قرأت مثل هذه العبارة اليوم بعد ٧٠ سنة على مسامع مجلس الشعب لطلب نواب الوطنى قبل نواب الإخوان من الدكتور فتحى سرور شطبها من مضبطة الجلسة واستصدروا قرارا بالأغلبية بتكفير طه حسين وتجريده من عمادة الأدب العربى وربما تكليف السيد حبيب العادلى بإلقاء القبض عليه؟!، لكننا مع ذلك نعتقد أنه لا مستقبل للمشروع السلفى المجهول فى مصر كونه سيتصادم موضوعيا مع حركة التاريخ للأمام ومع الحراك الاجتماعى وتوق الأجيال الجديدة فى مصر للالتحاق بالتقدم والحداثة وليس الارتداد عنها أو التصادم معها، لكن المشكلة تبقى فى محنة النخبة التى تتحايل الآن لأسلمة الحداثة بدلا من أن تحدث التفكير الدينى وتنتصر للعقل على النقل وللتقدم على التأخر وتكون قادرة على الرد على موشى دايان الذى قال بعد ٦٧: «ليتهم يسألون أنفسهم لماذا يتحدثون دائما عن عظماء ماضيهم ولا يجدون فى حاضرهم أحدا من العظماء يتحدثون عنه».
ولتفادى الوقوع فى الخطأ المتكرر لإعادة وصف المشهد السياسى للنخب فى مصر فأنه يمكن اقتراح سلة من الخيارات العملية لإيجاد مخارج، ولو انتقالية، لإشكالية النخبة فى مصر، ومن ذلك مثلا اقتراح مايلى:
١- أن تبادر قوى ما من النخبة فى مصر للدعوة إلى إطار ديمقراطى يدعو للتوافق حول بيان نهضوى للإصلاح الدينى والفكرى والثقافى ويؤسس لمدرسة مفتوحة وحرة تهتم برفد الواقع الراهن بدماء جديدة تعزز النخب الإصلاحية فى مصر.
٢- أن تبادر المؤسسات القائمة فعلا (اتحاد الكتاب/ الجمعيات الأهلية غير الحكومية/ بعض الصحف الخاصة/ الفنانين...إلخ) إلى إعادة تعريف وظيفتها الفكرية والثقافية وإعادة تحديد أدوارها الاجتماعية فى إطار مشروع إصلاحى نهضوى تنتظم فيه المبادرات الفردية والقطاعية المبعثرة.
٣- أن يجتهد الجميع فى حل إشكالية العطالة التى أصابت دور الجامعات فى مصر لتستأنف دورها المحتجز فى تكوين كوادر نخبوية جديدة، وتبدو حركة ٩ مارس لهيئة التدريس إذا ما ربطت الصلة بالجماعات الطلابية مؤهلة لتحمل قسم من هذه المسؤولية الخطيرة.
٤- أن الاحزاب المصرية، حتى فى وضعها الراهن، يمكن أن تستعيد تقاليد مدارس الكادر ليس فقط لتلقين أيديولوجاتها وإنما للانفتاح على معارف فكرية وثقافية أوسع بما يسهم فى تكوين كادرات نخبوية جديدة.
٥- بذل الجهد لتشبيك المواقع الليبرالية على الإنترنت وإيجاد الوسائل المناسبة لنقل إسهامات الشباب من الفضاء الافتراضى إلى الواقع المجتمعى.
ومن جهة أخرى كانت ردة فعل الشارع المصرى، وخاصة فى القطاع الواسع للشباب، على نكسة أم درمان الكروية قد اجتذبت العديد من التأويلات، التى كان أكثرها تميزا التأويل الذى عزا ما حدث إلى الرغبة العارمة لهذا الجيل فى البحث عن هويته الوطنية واحتجاجه على طمس الطابع الوطنى لهذه الهوية تحت وطأة الدوائر الثلاث، القومية العربية والأفريقية والاسلامية، فضلا عن استدعاء الدائرة الفرعونية فقط عندما يتعلق الأمر بالمنافسات الرياضية،
ومن البديهى أن تحتل إشكالية الهوية الوطنية مكانتها المركزية فى صلب أى مشروع للإصلاح السياسى فى مصر بالنظر لموقف التيار القومى الذى يقدم العروبة على الوطنية المصرية ويبدو متناقضا فى مواقفه عندما يرفع صوته بالمعارضة فى مصر فيما يبتلع لسانه إزاء نفس الظواهر العربية التى يعارضها هنا (التوريث فى سوريا والتمديد والتوريث فى الجماهيرية والقمع والتمييز الإثنى والدينى فى السودان...الخ)،
وبالمقابل يعتمد الإخوان المسلمين فى مصر مفهوما مختلفا للأمة تعنى به الأمة الإسلامية وليس الأمة المصرية، ومن المفارقات الطريفة أن يعلن مرشد الإخوان عن رفضه لولاية المرأة المصرية أو القبطى المصرى فيما يقبل تولية أى مسلم ولو من زمبابوى أو سيرلانكا على حكم مصر (الإسلام الأسيوى ولى النساء الرئاسة فى الباكستان وبنجلاديش، والهند ذات الأغلبية الهندوسية ولت عليها رئيسا مسلما وتخلفه الآن امرأة)، والطريف أن المرشد نفسه يرفض ولاية غير المصرى على منصب المرشد العام للإخوان، ويبدو أن الإخوان كتنظيم أعز على قلب المرشد من مصر كدولة ووطن، ولهذا يبدو من الضرورى أن يشتمل كل برنامج للإصلاح السياسى على ما يحسم مفهوم هوية مصر والمصريين.
ولا تتوقف إشكالية الإصلاح السياسى فى مصر على هذه الامور المهمة، اذ ثمة ماهو أهم وأخطر منها تعطيلا لعمليات الإصلاح، ويتعلق الأمر بانسحاب أو استقالة الأغلبية من الشعب المصرى من المشاركة فى الحياة السياسية، وبهذا الصدد تشير الدراسات إلى انحسار عضوية المصريين فى الأحزاب إلى ما هو أقل من نسبة ٥%من السكان والقسم الأكبر من هذه النسبة ينتسب إلى عضوية الحزب الوطنى لأسباب واضحة ومعروفة،
كما لاتتجاوز نسبة المشاركة فى الانتخابات ٢٠% من المسجلين فى القوائم، وتعود هذه الظاهرة فى أصلها إلى سببين متعاقبين تاريخيا، الأول منهما يعود إلى مرحلة النظام الأبوى الناصرى الذى كان يبسط وصايته على المصريين ويفرض نموذج الحزب الواحد ويقمع أى مبادرة للعمل السياسى المستقل بما حدا بالمصريين إلى اعتزال العمل السياسى مبكرا والاستقالة من الحياة السياسية، ولم يتغير هذا الأمر فى جوهره فى ولاية الرئيس مبارك لأن المواطن المصرى بات يطرح سؤال الجدوى من المشاركة فى نظام الحريات المقيدة وفى ظل احتكار حزب الأغلبية للحكم وإقصاء وتهميش المعارضة
وفى ظل العجز الذاتى لأحزاب المعارضة عن تمثيل الأغلبية الصامتة من الشعب وقد انعكست كل هذه الظواهر سلبا على الحالة الفكرية والثقافية للمجتمع المصرى، لأن استقالة المصريين وعزوفهم عن المشاركة السياسية تزامنت مع استقالة العقل الجمعى من وظائفه فى التفكير النقدى الحر والانشغال بقضايا الوطن والمجتمع وانجرف إلى الانشغال بالقضايا البيولوجية للبقاء على قيد الحياة، وأشاعت الثقافة السلفية الجهولة قيم التعصب الدينى والمذهبى وأنماط التفكير الغيبى والخرافى واستنزاف الجهد والطاقة فى محاكاة الماضى شكلا ومظهرا بما يصعب معه الحديث عن حاضنة شعبية لمشروع الإصلاح والتغيير.
ولهذا كله يجب أن تتصدر ظاهرة انسحاب المصريين من المشاركة السياسية جدول كل الأحزاب والقوى التى تدعو إلى الإصلاح ولكن من منطلق ومنظور المساءلة الذاتية عن أسباب هذه الظاهرة واستمرارها، لكن الأمر لايجب أن يقتصر على هذا الجهد البحثى والفكرى وإنما ينبغى أن يتجاوزه إلى المبادرة باقتراح أطر جديدة تعنى بالأساس بإقناع المصريين بجدوى عودتهم عن الانسحاب أو الاستقالة من المشاركة السياسية،
وما من شك فى أن المجتمع المصرى بحاجة ماسة إلى حركة حقيقية للدفاع عن حقوق المواطن، تعنى بتوعية المواطنين أولا بحقوقهم الأساسية كدافعى ضرائب ومنتجين وممولين لخزانة الدولة وموازنتها العامة كما تعنى هذه الحركة بتدريب وتعويد المواطنين على المشاركة العملية فى الدفاع عن حقوقهم وقضاياهم المعيشية بالطرق السلمية، ولابد أن تشعر الأحزاب فى مصر بالخجل من أن تبادر وزارة الصناعة والتجارة إلى إنشاء هيئة لحماية المستهلك فيما تعتقد الأحزاب موهومة أنها تنشغل بالقضايا الكبرى للإصلاح السياسى،
كما يجب أن تشعر الأحزاب مرة أخرى بالخجل بعد أن تحول المستشار جودت الملط، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبة إلى زعيم حقيقى لمعارضة الحكومة فى مجلس الشعب، وربما لإخفاء خجلها وعجزها بالغت بعض القوى بالاحتفاء بالدور الذى لعبه المستشار الملط فى يناير من العام الماضى (انظر مثلا الموقع الرسمى للإخوان المسلمين يوم ١٤/١/٢٠٠٨)،
وفضلا عن حاجة مصر لتجديد دماء النخبة وإذكاء روحها وإحياء هويتها الوطنية واستعادة مشاركة المصريين فى الحياة السياسية فإنها تحتاج أيضا إلى حزب سياسى جديد يعى أولا تعريف نفسه ومبرر وجوده كحزب وظيفته الأساسية هى السعى لاستلام السلطة أو المشاركة فى الائتلافات الحكومية، وأن يعد نفسه وكوادره لهذه المهمة التاريخية وأن يكون حزبا مستقلا بالفعل ويعتمد ذاتيا على موارده الاقتصادية والمالية وأن يقطع كل صلة له بنموذج الحزب الواحد والزعيم الواحد ويبرهن عن تبنيه غير المشروط للالتزام بالديمقراطية ويسمح بتعايش الأجنحة والتيارات المتباينة داخله وأن ينمى ويطور برامجه ويبنى حكومة ظل حقيقية تتمتع كوادرها بالنزاهة والكفاءة السياسية والمهنية وتكون لديها القدرة والجاهزية اللازمة لتدوال السلطة، وأن يكرس هذا الحزب جهده لإصلاح قيم المجتمع وسلوكه ويعزز قابليته ومشاركته فى الإصلاح والتغيير وأن يكون حزبا شعبيا وجديرا بتمثيل المصالح الأساسية لمصر والمصريين.
قد يكون علينا أن نبدأ من الآن التفكير بجدية أكثر حول خيارات المستقبل لأن مصر، موضوعيا، تقترب كثيرا من لحظة الوقوف على مفترق طرق.
تكاد مصر أن تصل، بعد برهة وجيزة إلى مفترق طرق، فها نحن، للمرة الأولى بعد ١٩٥٢ لا نعرف على وجه الدقة أو اليقين إلى من وكيف ستنتقل سلطة الحكم ورئاسة الجمهورية الرابعة، لأنه لم يبت الأمر بعد فى ما يسمى اصطلاحاً بعملية «التوريث» وهنا، كما فى الحالات المشوشة والتى يسودها اللايقين، يجرى عادة الاستعانة بالسيناريوهات الافتراضية، وفى الحالة المصرية يمكن قراءة أربعة من هذه السيناريوهات:
١- أن يتشبث الرئيس مبارك، ما دام قلبه ينبض على حد تعبيره، بولاية حكم جديدة ويمضيها إلى نهايتها.
٢- أن يدعو الرئيس بعد فترة من ولايته الجديدة فى ثلثها الأول أو منتصفها إلى انتخابات جديدة مبكرة ويساند خليفته ويدعم حكمه فيما يقدر الله له من العمر.
٣- أن تضعف قبضة الرئيس فتظهر الصراعات الداخلية وقد يتطور الأمر لخروجها عن السيطرة.
٤- أو أن تختلط كل الأوراق فى حالة غياب الرئيس ويعاد النظر فى ترتيبها.
ورغم ما لكل واحد من هذه السيناريوهات من منطق مختلف وشروط مميزة فإنها تجتمع على ترجيح احتمال إجراء عملية نقل السلطة فى مصر من داخل النظام بالتوافق بين مراكز ثقله وليس من خارجه.
ومع هذا فإن مصر ستجد نفسها، موضوعيا، على عتبة مفترق طرق لأنه لم يعد من الممكن للنظام فى مصر أن يبقى محتجزاً لاطول من ذلك فى أزمة مارس ١٩٥٤ وما أفرزته من نظام سياسى لا نزال نعيش فى ظله، كما لايمكن لطاقات المجتمع المصرى أن تبقى لأطول من ذلك محتجزة فى أزمة صدمة الحداثة أو التصادم معها.
لكن اقتراب مصر من اللحظة التاريخية للوقوف على مفترق طرق يستوجب التزود بقدر ولو قليل من الحكمة ربما مثل تلك التى وردت بشكل رمزى فى القصة الشهيرة «أليس فى بلاد العجائب؟» التى صدرت فى عام ١٨٦٥ وتحكى مغامرات طفلة انزلقت إلى عالم غريب مع الحيوانات،
وعندما وصلت هذه الطفلة إلى مفترق طرق سألت صديقتها القطة عن أى الطرق التى يجب أن تسلكها، فردت بقولها: ما دمت لاتعرفين الهدف فليس مهما أى الطرق تسلكين، وكأن نفس هذا المعنى قد تردد قبل ذلك بكثير فى مقولة للفيلسوف سينيكا (٤.م- ٦٥م) قال فيها: «عندما لايعرف الإنسان الميناء الذى سيتوجه إليه فإن أى رياح ستهب لن تكون هى الرياح الصحيحة»،
وقبل أن تقترب مصر من الوقوف على عتبة مفترق الطرق ينبغى للمصريين أن يتوافقوا على هدفهم القومى، كانت كثير من الأمم قد اعتبرت أنها على مفترق طرق قبيل الدخول فى الألفية الثالثة وحددت كل منها أهدافها المنظورة، وشهد القرن الجديد ميلاد ظاهرة برامج ٢٠٢٠ التى أنجزتها دول عديدة فى العالم وحددت فيها أهدافها عند مفترق الألفية الثالثة.
وليس أقل من أن نكون فى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا وأن نكون فى مصاف الدول المستقرة فى أنظمتها السياسية الديمقراطية وأن نرتقى إلى مكانة متقدمة على مدرج الدول التى تكفل الرفاهية لمواطنيها وترعى جميع حقوقه. هذا هو الهدف الذى تستحقه مصر والتحدى الذى ينبغى أن يرفعه المشروع القومى الجديد، ولم يعد من المقبول أن تبقى مصر فى حالة انعدام الوزن ولا تغادر الدوران فى فلك دول العالم الثالث التى تسمى بالدول النامية، وكل برنامج للإصلاح السياسى يجب أن يرتبط بهذا الهدف الذى يؤمن للمواطن المصرى حصة أكبر وأفضل من تنمية وتوسيع كعكة الدخل القومى إلى حدها الأقصى الممكن،
وقد يتعذر على الأحزاب فى مصر إدراك ما تدعو له من إصلاح سياسى حقيقى طالما هى تتمسك بإستراتيجية أحادية للتغيير من أعلى وتمشى مقلوبة على رأسها، ولا تمتلك بعد ما يؤهلها لأن تبرهن لعموم المصريين أن الإصلاح السياسى هو شرط ضرورى ولازم لتحقيق الأهداف القومية لمصر ولتحسين الأوضاع الشخصية للمواطنين،
وقد أشرنا فى مقالات سابقة إلى عجز هذه الأحزاب عن إيجاد أدنى صلة بين أشكال الاحتجاج المطلبية التى اجتاحت مصر فى السنوات الثلاث الأخيرة وبين برامج الإصلاح السياسى، وعجزها عن استعادة العافية للحركة الطلابية فى الجامعات وعجزها عن دمج منظمات المجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية فى مشروع الإصلاح السياسى، وقد لايتحقق كل هذا بما أسماه رئيس حزب الوفد مؤخراً بالذهاب إلى الجماهير بدلا من انتظار أن تأتى هى إلى الحزب، وكأنه يعيد الآن اكتشاف العجلة، لأنه ليس هناك من حزب فى مصر من أيام الاتحاد الاشتراكى إلى الحزب الوطنى لم يرفع الشعارات الفارغة عن النزول للجماهير والالتحام بالشعب؟!
ولا يمكن قبول منطق الأحزاب الذى يخفى عجزه الذاتى فى هذا المجال خلف المبررات التى تتحدث عن تقييد أجهزة الأمن لحركتها وسط الجماهير، ولو كانت هذه المبررات صحيحة لما شهدت البشرية، بما فيها مصر، أى ثورة أو إصلاح أو تغيير فى كل تاريخها، لأن الشرطى، وليس أى شىء آخر، هو أقدم مهنة فى التاريخ، ومع ذلك لم يخل سجل هذا التاريخ من ثورة أو أنتفاضة أو هبة أو تمرد أو عصيان مدنى أو احتجاج أو حركة للإصلاح والتغيير، المهم أن تكون مستعدا لدفع الثمن لأن الأحزاب ليست أندية أو وكالات للسياحة والسفر وهى تدعو جماهيرها للتغيير السياسى وليس لمتعة الاستجمام والاستحمام والتسوق .
ولهذا تثير الحالة السياسية فى مصر المزيد من الأسئلة حول طبيعة ودور النخبة، حيث يرى البعض أنها تتحمل المسؤولية الأولى عن تردى الأوضاع السياسية فى مصر بما فى ذلك الأوضاع الحزبية، وتمتد هذه المسؤولية حتى إلى النخب التى اختارت أن تلعب دوراً موهوماً للإصلاح من داخل الحزب الوطنى، فيما يحمل البعض الآخر هذه المسؤولية للأحزاب المصابة بالعقم المزمن وعدم القدرة على التفاعل مع المجتمع وتوليد أجيال جديدة من النخب التى تحمل راية الإصلاح السياسى ومشعل التنوير الفكرى والثقافى.
ومن المثير حقا للاستنكار والدهشة أن نصادف فى القرن الواحد والعشرين نفس المعارك الفكرية التى واجهتها النخبة المصرية فى أواخر القرن التاسع عشر وكادت أن تنتصر فيها لحرية العقل ومواكبة الحداثة والتقدم وكأننا لم نفارق بعد اللحظة التى عرفتها مصر قبل قرن كامل من الزمان والتى واجهتها وانتصرت فيها النخب فى المجتمعات الأخرى قبل أكثر من خمسة قرون، وهناك من يرى أن الوضع الراهن هو أكثر تراجعا حتى من الحالة التى واجهت فيها النخب المصرية لحظة الصدمة مع الحداثة التى فجرتها الهزيمة أمام البونابرتية فى عام ١٧٩٨،
فبعد اكثر من ١٧٠ عاما وقعت صدمة هزيمة ١٩٦٧ ما أدى إلى تراجع قطاعات ليست قليلة من النخبة المصرية عن مشروع الدولة المدنية والالتحاق بالتقدم والحداثة بل والارتداد إلى المشروعات السلفية ووصل الأمر ببعض رموز النخبة المصرية المعاصرة إلى حد إدانة كل رموز الإصلاح الفكرى والسياسى ولم يسلم من ذلك الافتراء ممثلو السلفية الإصلاحية الشيخ حسن العطار والشيخ محمد عبده، والمصلحون الآخرون مثل رفاعة الطهطاوى والشيخ على عبدالرازق وأحمد لطفى السيد وقاسم أمين وغيرهم ممن تتهمهم النخب المتحولة للسلفية الجهولة بالتغريب؟،
رغم أن هذه النخبة الجهولة لم تنتج أى أثر فكرى يتجاوز أو حتى يجارى ما وضعه هؤلاء فى زمانهم، يكفى أن نشير هنا إلى ما ورد فى كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى صدر فى ١٩٣٨ وقال فيه: «مادام لاكهنوت فى الإسلام ولم تنشأ فيه طبقة ذات منفعة معينة فى سيطرة الدين على المجتمع فلن يكون من الممكن إجراء فصل بين الدين والمدنية مماثل لذلك الذى أجرى فى أوروبا فحسب بل إن ذلك سيكون أسهل على المسلمين منه على المسيحيين»،
ولو قرأت مثل هذه العبارة اليوم بعد ٧٠ سنة على مسامع مجلس الشعب لطلب نواب الوطنى قبل نواب الإخوان من الدكتور فتحى سرور شطبها من مضبطة الجلسة واستصدروا قرارا بالأغلبية بتكفير طه حسين وتجريده من عمادة الأدب العربى وربما تكليف السيد حبيب العادلى بإلقاء القبض عليه؟!، لكننا مع ذلك نعتقد أنه لا مستقبل للمشروع السلفى المجهول فى مصر كونه سيتصادم موضوعيا مع حركة التاريخ للأمام ومع الحراك الاجتماعى وتوق الأجيال الجديدة فى مصر للالتحاق بالتقدم والحداثة وليس الارتداد عنها أو التصادم معها، لكن المشكلة تبقى فى محنة النخبة التى تتحايل الآن لأسلمة الحداثة بدلا من أن تحدث التفكير الدينى وتنتصر للعقل على النقل وللتقدم على التأخر وتكون قادرة على الرد على موشى دايان الذى قال بعد ٦٧: «ليتهم يسألون أنفسهم لماذا يتحدثون دائما عن عظماء ماضيهم ولا يجدون فى حاضرهم أحدا من العظماء يتحدثون عنه».
ولتفادى الوقوع فى الخطأ المتكرر لإعادة وصف المشهد السياسى للنخب فى مصر فأنه يمكن اقتراح سلة من الخيارات العملية لإيجاد مخارج، ولو انتقالية، لإشكالية النخبة فى مصر، ومن ذلك مثلا اقتراح مايلى:
١- أن تبادر قوى ما من النخبة فى مصر للدعوة إلى إطار ديمقراطى يدعو للتوافق حول بيان نهضوى للإصلاح الدينى والفكرى والثقافى ويؤسس لمدرسة مفتوحة وحرة تهتم برفد الواقع الراهن بدماء جديدة تعزز النخب الإصلاحية فى مصر.
٢- أن تبادر المؤسسات القائمة فعلا (اتحاد الكتاب/ الجمعيات الأهلية غير الحكومية/ بعض الصحف الخاصة/ الفنانين...إلخ) إلى إعادة تعريف وظيفتها الفكرية والثقافية وإعادة تحديد أدوارها الاجتماعية فى إطار مشروع إصلاحى نهضوى تنتظم فيه المبادرات الفردية والقطاعية المبعثرة.
٣- أن يجتهد الجميع فى حل إشكالية العطالة التى أصابت دور الجامعات فى مصر لتستأنف دورها المحتجز فى تكوين كوادر نخبوية جديدة، وتبدو حركة ٩ مارس لهيئة التدريس إذا ما ربطت الصلة بالجماعات الطلابية مؤهلة لتحمل قسم من هذه المسؤولية الخطيرة.
٤- أن الاحزاب المصرية، حتى فى وضعها الراهن، يمكن أن تستعيد تقاليد مدارس الكادر ليس فقط لتلقين أيديولوجاتها وإنما للانفتاح على معارف فكرية وثقافية أوسع بما يسهم فى تكوين كادرات نخبوية جديدة.
٥- بذل الجهد لتشبيك المواقع الليبرالية على الإنترنت وإيجاد الوسائل المناسبة لنقل إسهامات الشباب من الفضاء الافتراضى إلى الواقع المجتمعى.
ومن جهة أخرى كانت ردة فعل الشارع المصرى، وخاصة فى القطاع الواسع للشباب، على نكسة أم درمان الكروية قد اجتذبت العديد من التأويلات، التى كان أكثرها تميزا التأويل الذى عزا ما حدث إلى الرغبة العارمة لهذا الجيل فى البحث عن هويته الوطنية واحتجاجه على طمس الطابع الوطنى لهذه الهوية تحت وطأة الدوائر الثلاث، القومية العربية والأفريقية والاسلامية، فضلا عن استدعاء الدائرة الفرعونية فقط عندما يتعلق الأمر بالمنافسات الرياضية،
ومن البديهى أن تحتل إشكالية الهوية الوطنية مكانتها المركزية فى صلب أى مشروع للإصلاح السياسى فى مصر بالنظر لموقف التيار القومى الذى يقدم العروبة على الوطنية المصرية ويبدو متناقضا فى مواقفه عندما يرفع صوته بالمعارضة فى مصر فيما يبتلع لسانه إزاء نفس الظواهر العربية التى يعارضها هنا (التوريث فى سوريا والتمديد والتوريث فى الجماهيرية والقمع والتمييز الإثنى والدينى فى السودان...الخ)،
وبالمقابل يعتمد الإخوان المسلمين فى مصر مفهوما مختلفا للأمة تعنى به الأمة الإسلامية وليس الأمة المصرية، ومن المفارقات الطريفة أن يعلن مرشد الإخوان عن رفضه لولاية المرأة المصرية أو القبطى المصرى فيما يقبل تولية أى مسلم ولو من زمبابوى أو سيرلانكا على حكم مصر (الإسلام الأسيوى ولى النساء الرئاسة فى الباكستان وبنجلاديش، والهند ذات الأغلبية الهندوسية ولت عليها رئيسا مسلما وتخلفه الآن امرأة)، والطريف أن المرشد نفسه يرفض ولاية غير المصرى على منصب المرشد العام للإخوان، ويبدو أن الإخوان كتنظيم أعز على قلب المرشد من مصر كدولة ووطن، ولهذا يبدو من الضرورى أن يشتمل كل برنامج للإصلاح السياسى على ما يحسم مفهوم هوية مصر والمصريين.
ولا تتوقف إشكالية الإصلاح السياسى فى مصر على هذه الامور المهمة، اذ ثمة ماهو أهم وأخطر منها تعطيلا لعمليات الإصلاح، ويتعلق الأمر بانسحاب أو استقالة الأغلبية من الشعب المصرى من المشاركة فى الحياة السياسية، وبهذا الصدد تشير الدراسات إلى انحسار عضوية المصريين فى الأحزاب إلى ما هو أقل من نسبة ٥%من السكان والقسم الأكبر من هذه النسبة ينتسب إلى عضوية الحزب الوطنى لأسباب واضحة ومعروفة،
كما لاتتجاوز نسبة المشاركة فى الانتخابات ٢٠% من المسجلين فى القوائم، وتعود هذه الظاهرة فى أصلها إلى سببين متعاقبين تاريخيا، الأول منهما يعود إلى مرحلة النظام الأبوى الناصرى الذى كان يبسط وصايته على المصريين ويفرض نموذج الحزب الواحد ويقمع أى مبادرة للعمل السياسى المستقل بما حدا بالمصريين إلى اعتزال العمل السياسى مبكرا والاستقالة من الحياة السياسية، ولم يتغير هذا الأمر فى جوهره فى ولاية الرئيس مبارك لأن المواطن المصرى بات يطرح سؤال الجدوى من المشاركة فى نظام الحريات المقيدة وفى ظل احتكار حزب الأغلبية للحكم وإقصاء وتهميش المعارضة
وفى ظل العجز الذاتى لأحزاب المعارضة عن تمثيل الأغلبية الصامتة من الشعب وقد انعكست كل هذه الظواهر سلبا على الحالة الفكرية والثقافية للمجتمع المصرى، لأن استقالة المصريين وعزوفهم عن المشاركة السياسية تزامنت مع استقالة العقل الجمعى من وظائفه فى التفكير النقدى الحر والانشغال بقضايا الوطن والمجتمع وانجرف إلى الانشغال بالقضايا البيولوجية للبقاء على قيد الحياة، وأشاعت الثقافة السلفية الجهولة قيم التعصب الدينى والمذهبى وأنماط التفكير الغيبى والخرافى واستنزاف الجهد والطاقة فى محاكاة الماضى شكلا ومظهرا بما يصعب معه الحديث عن حاضنة شعبية لمشروع الإصلاح والتغيير.
ولهذا كله يجب أن تتصدر ظاهرة انسحاب المصريين من المشاركة السياسية جدول كل الأحزاب والقوى التى تدعو إلى الإصلاح ولكن من منطلق ومنظور المساءلة الذاتية عن أسباب هذه الظاهرة واستمرارها، لكن الأمر لايجب أن يقتصر على هذا الجهد البحثى والفكرى وإنما ينبغى أن يتجاوزه إلى المبادرة باقتراح أطر جديدة تعنى بالأساس بإقناع المصريين بجدوى عودتهم عن الانسحاب أو الاستقالة من المشاركة السياسية،
وما من شك فى أن المجتمع المصرى بحاجة ماسة إلى حركة حقيقية للدفاع عن حقوق المواطن، تعنى بتوعية المواطنين أولا بحقوقهم الأساسية كدافعى ضرائب ومنتجين وممولين لخزانة الدولة وموازنتها العامة كما تعنى هذه الحركة بتدريب وتعويد المواطنين على المشاركة العملية فى الدفاع عن حقوقهم وقضاياهم المعيشية بالطرق السلمية، ولابد أن تشعر الأحزاب فى مصر بالخجل من أن تبادر وزارة الصناعة والتجارة إلى إنشاء هيئة لحماية المستهلك فيما تعتقد الأحزاب موهومة أنها تنشغل بالقضايا الكبرى للإصلاح السياسى،
كما يجب أن تشعر الأحزاب مرة أخرى بالخجل بعد أن تحول المستشار جودت الملط، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبة إلى زعيم حقيقى لمعارضة الحكومة فى مجلس الشعب، وربما لإخفاء خجلها وعجزها بالغت بعض القوى بالاحتفاء بالدور الذى لعبه المستشار الملط فى يناير من العام الماضى (انظر مثلا الموقع الرسمى للإخوان المسلمين يوم ١٤/١/٢٠٠٨)،
وفضلا عن حاجة مصر لتجديد دماء النخبة وإذكاء روحها وإحياء هويتها الوطنية واستعادة مشاركة المصريين فى الحياة السياسية فإنها تحتاج أيضا إلى حزب سياسى جديد يعى أولا تعريف نفسه ومبرر وجوده كحزب وظيفته الأساسية هى السعى لاستلام السلطة أو المشاركة فى الائتلافات الحكومية، وأن يعد نفسه وكوادره لهذه المهمة التاريخية وأن يكون حزبا مستقلا بالفعل ويعتمد ذاتيا على موارده الاقتصادية والمالية وأن يقطع كل صلة له بنموذج الحزب الواحد والزعيم الواحد ويبرهن عن تبنيه غير المشروط للالتزام بالديمقراطية ويسمح بتعايش الأجنحة والتيارات المتباينة داخله وأن ينمى ويطور برامجه ويبنى حكومة ظل حقيقية تتمتع كوادرها بالنزاهة والكفاءة السياسية والمهنية وتكون لديها القدرة والجاهزية اللازمة لتدوال السلطة، وأن يكرس هذا الحزب جهده لإصلاح قيم المجتمع وسلوكه ويعزز قابليته ومشاركته فى الإصلاح والتغيير وأن يكون حزبا شعبيا وجديرا بتمثيل المصالح الأساسية لمصر والمصريين.
قد يكون علينا أن نبدأ من الآن التفكير بجدية أكثر حول خيارات المستقبل لأن مصر، موضوعيا، تقترب كثيرا من لحظة الوقوف على مفترق طرق.
نحو دولة مدنية لا دين ولا مذهب لها
الدكتور سعود المولى
في مطلع الثمانينات من القرن العشرين دعا الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين الى "دولة مدنية لا دين لها".. يومها "عوتب على هذا القول" وصدرت ضده "مواقف وتصريحات شديدة اللهجة" (بحسب تعبيره في ندوة له في 6/7/1995)... إلا أنه ظل يعيد ويكرر موقفه هذا حتى وفاته في 10 كانون الثاني/يناير 2001...واليوم ونحن أمام الذكرى التاسعة لرحيله لا يسعنا إلا ان نتذكر موقفه هذا بخصوص التجربة العراقية الجديدة والتي تحاول أن ترسم لنفسها أفقاً مختلفاً عن تاريخ العراق الدولة الشديدة المركزية أو المستبدة..والحقيقة أن الشيخ شمس الدين كان يستعيد موقف العظماء الكبار من مراجع النجف الأشرف من الشيخ حسين النائيني الى السيد محسن الحكيم في التعامل مع قضية الدين والسياسة من جهة، والدين والدولة من جهة أخرى.. وهو حين كان يدعو الى الاعتراف بالطوائفية (من جهة الميثاق التوافقي) فإنما كان يؤكد في الوقت نفسه على الفصل بين الطوائف والدولة من جهة سلطة الدستور المدني أوالدولة التي لا دين لها...أو دولة الحق والمؤسسات..... وحين يقول الامام شمس الدين دولة لا دين ولا مذهب لها فهو لا يعني مواطنين بلا دين أو مذهب، أو مجتمعاً بلا دين، وإنما يعني تحديداً دولة وسلطات حاكمة لا دين ولا مذهب لها... وهو هنا يميّز في الفقه السياسي بين اعتبارين للمجتمع، أي مجتمع: الاعتبار الأهلي-المدني، والاعتبار السياسي.المجتمع الأهلي- المدني لا علاقة له ببنية الدولة ولا حتى بوجودها أو عدم وجودها.. المجتمع الأهلي يحتضن ثقافة أهله وينوّع نفسه بحيث يحتضن تنوعاتهم وخصوصياتهم.. هو المجتمع المسلم أو المسيحي، السني او الشيعي أو الدرزي أو العلوي أو الأيزيدي أو الشبكي او الكاكائي، أو هو المجتمع الكوردي أو الاشوري أو الكلداني أو الصابئي أو الماروني أو الأرثوذوكسي أو السرياني أو..أو... هذا المجتمع هو باعتبار أهلي، وهو باعتبار آخر سياسي، نظّم نفسهفي مؤسسة كبرى لإدارة شؤون حياته وتطويرها هي مؤسسة الدولة.. بهذا المعنى فإن هذا المجتمع السياسي هو مجتمع بلا دين أو طائفة أو مذهب.. فبحسب اجتهادات الامام شمس الدين ، فإن الدولة (أية دولة) هي في جوهرها جهاز إدارة وضبط للنشاطات والمصالح المشتركة في المجتمع، وليس لها غاية تستمد منها شرعيتها... فالشرعية التي تمتلكها هي شرعية وظيفية محضة. ولا يمكن الحكم على هذه الدولة الا من خلال إعتماد مقاييس الفعالية والمردودية للنظر في نتائج إدارتها للنشاطات المشتركة في مجتمعها. وهذا هو معنى فصل الطوائف عن الدولة وجعلها جهاز إدارة للمصالح العامة وللحقوق والواجبات.. وأن لا يتدخل الدين في الدولة التي هي جهاز وظيفي لخدمة المصالح المشتركة أو الصالح العام.... فالدولة بحسب شمس الدين هي مؤسسة من مؤسسات المجتمع ، وإن كانت المؤسسة الكبرى بامتياز أو مؤسسة المؤسسات. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل اختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه اوإلغائياً له. وهذا المعنى يتأكد في المجتمعات التي لم تستطع الدولة فيها تفكيك النسيج الاجتماعي وإرساء علاقة بين أفراد وجهاز دولة متضخّم السطوة على الدوام. ولذا فإن الدولة المطلوبة هنا هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، في معادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحدّدها المجتمع؛ فلا الدولة وصيّة على المجتمع تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على أن يحلّ محلها...
واقع الحال أن الدولة في مجتمعاتنا العربية أخفقت في الاتجاهين، فانفصلت عن المجتمع في ميداني المصالح العملية كما الغايات البعيدة، وتحوّلت إلى جسم يبدو دخيلاً، تقوم علاقته بالمجتمع على نصاب من الغربة والتنازع والغلبة. وفي حين قدّم الغرب في الماضي نموذج الدولة القويّة المكيِّفة لمجتمعها، وهو يقدّم اليوم نموذج الدولة الفدرالية اللامركزية المحققة للتنوع ضمن الوحدة، قدّمت تجاربنا العربية الحديثة نموذج الدولة الهجينة العاجزة والسلطة الاستبدادية الطائفية العشائرية في آن معاً..
ولئن بدا للبعض أن التعدد في المجتمع اللبناني (أو العراقي) حالة خاصة ينبغي تجاوزها لصالح "الدولة الحديثة" ، اللاطائفية ، العلمانية ، القوية ، القادرة على تذويب الاختلافات وتحقيق الانصهار الوطني ، فإن مسيرة العالم اليوم باتجاه اعتبار التنوع والتعدد ثروة حضارية (حسب قول الإمام موسى الصدر)، خصوصاً في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها وعن معنى ومضمون لهويتها ، قد أعاد الاعتبار إلى النقاش حول العلاقة بين الطائفية والتعدد الطائفي من جهة وبين صورة الدولة الحديثة المرتجاة من جهة أخرى .
وبالإجمال فإنه ينبغي الاعتراف أولاً بأنه لا يمكن في أي حال من الأحوال فصل الدين عن السياسة ، لا في لبنان ولا في العراق ولا في أي مجتمع آخر. فالمسلمون والمسيحيون والصابئة والإيزيديون، والسنة والشيعة، والعرب والكورد، يعيشون معاً في مجتمع سياسي، ولا بد أن يتحركوا في هذا المجتمع إنطلاقاً من أفكارهم ونصوصهم وتصوراتهم للعالم والكون والإنسان والمجتمع ، وهذه كلها أمور تختلط بالسياسة أو تؤثر فيها. ولعل هذا ما قصده المصلحون المجددون أمثال السيد محسن الحكيم والسيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في كلامهم عن دور عالم الدين في المجتمع وفي السياسة باعتبارها من شؤون المجتمع وليس من شؤون الدولة وحدها...والفصل المدعى بين الدين والسياسة ليس إلا فصلاً صورياً أو شكلياً، حصل في مرحلة من التاريخ، وتطبيقه الصارم لا يؤدي إلا الى مزيد من القمع ( قمع المجتمع ونفيه وتغريبه من جانب نخب الدولة، مثال تجربة الأنظمة العربية مع الحالة الاسلامية ومع المجتمع عموماً) أو الى تعسف في إستخدام القانون المدني (العلماني) (أنظر مثال تركيا الكمالية والنظام الإيرني الشاهنشاهي كما النظام الأفغاني في عشرينات القرن العشرين والنظام التونسي في أيامنا هذه، وأنظر أيضاً قضية مواجهة الحجاب في فرنسا اليوم من جانب بعض العلمانيين "المتعصبين")..وبدل الدعوة إلى الفصل، دعا الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ومعه كبار المفكرين المسلمين أمثال الجزائري مالك بن نبي والعراقي النجفي حسين النائيني والإيراني مهدي بازركان والعراقي الكوردي فاضل رسول والمصري الإمام محمد عبده والسوداني حسن الترابي والتونسي راشد الغنوشي والمغربي علال الفاسي، إلى التمييز بين المستويين، بين السياسة والدين (وإلى الإنسجام بينهما كما في وثيقة الوفاق اللبناني في الطائف 1989، وكما في الدستور العراقي الجديد). ذلك "أن حداً فاصلاً دقيقاً ومرناً ومتحركاً يقوم بينهما، يمكن أن تعبّر عنه المعادلة الآتية: لا يمكن أن يتحول الدين سياسة، وإلا فقد جوهره الفطري الإنساني، وغابت قيمه العرفانية والأخلاقية، وضاعت ديناميته وحركتيه التي تتجاوز كل سياسة وضعية وذلك بفعل الضغط الإجتماعي وإحتمال الإنحراف البشري، ولا يمكن أن تتحول السياسة ديناً وإلا فقدت مبررها كسياسة مدنية وأصبحت أسيرة نص من النصوص أو مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف" (بحسب الدكتور وجيه كوثراني).....
الأصل الذي تعلمناه من علماء النجف الكبار من الشيخ النائيني والسيد الحكيم الى السيد السيستاني مروراً بالسيد موسى الصدر والامام الخميني: أنه ينبغي ألا ينعزل الدين عن هموم المجتمع ومشاكله وقضاياه، بل أن يكون له كلمة ومشاركة في السياسة والعمل السياسي..
والأصل الذي تعلمناه من محمد مهدي شمس الدين أنه يجب على السياسة أن تستلهم الدين في أخلاقيته وقيمه في حركة أسماها التقوى الحوارية : تقوى الله وتقوى الأخوّة الإنسانية، وتقوى الشعب والأمة..
والأصل الذي تعلمناه من التجربة الايرانية انه يمكن تنظيم "الحد الفاصل بين الدين والسياسة"، (عنوان كتاب مهدي بازركان- ترجمه ونشره فاضل رسول، دار الكلمة، بيروت، 1979)..
أما الدولة فهي مجال آخر (ليس هو الدين وليس هو وحده السياسة) لا يجوز أن يرتهن للقيد الطائفي أو العشائري أو المناطقي.. الدولة ولاية من الولايات وليست الولاية الوحيدة وإن كانت الأكبر... والأصل الاسلامي هو أن لا تستبد الدولة بالولايات (كما يشرح بصورة رائعة السيد عادل عبد المهدي في كتابه: الثوابت والمتغيرات في الاجتماع العربي الاسلامي)، وأن لا يتشتت المجتمع دون حكومة (بالمعنى الاسلامي)..أي أن لا يطغى طرف الدولة بنخبها، وايديولوجية نخبها، على المجتمع (مثال الدول العربية الاستبدادية وعراق صدام حسين تحديداً) وأن لا يخترق المجتمع بما يختزنه من تعددية وتنوع وصراعات ومصالح وحدة الدولة فيفككها إلى زعامات ومراكز طائفية ومذهبية وجهوية وفئوية (مثال لبنان).هنا ينبغي أن تقدم لنا التجربة اللبنانية (كما العراقية اليوم) بكل عجرها وبجرها، صياغات نظرية عن التوازن بين الدولة والمجتمع يقوم على التعددية واللامركزية الموسّعة وعلى الانسجام بين الدين والسياسة في خدمة الانسان، وعلى تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، وإحلال التناغم والانسجام بينهما، على أسس العدالة والكرامة والمساواة والحرية والديمقراطية للجميع وبين الجميع.
وفي هذا فليتنافس المتنافسون.
في مطلع الثمانينات من القرن العشرين دعا الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين الى "دولة مدنية لا دين لها".. يومها "عوتب على هذا القول" وصدرت ضده "مواقف وتصريحات شديدة اللهجة" (بحسب تعبيره في ندوة له في 6/7/1995)... إلا أنه ظل يعيد ويكرر موقفه هذا حتى وفاته في 10 كانون الثاني/يناير 2001...واليوم ونحن أمام الذكرى التاسعة لرحيله لا يسعنا إلا ان نتذكر موقفه هذا بخصوص التجربة العراقية الجديدة والتي تحاول أن ترسم لنفسها أفقاً مختلفاً عن تاريخ العراق الدولة الشديدة المركزية أو المستبدة..والحقيقة أن الشيخ شمس الدين كان يستعيد موقف العظماء الكبار من مراجع النجف الأشرف من الشيخ حسين النائيني الى السيد محسن الحكيم في التعامل مع قضية الدين والسياسة من جهة، والدين والدولة من جهة أخرى.. وهو حين كان يدعو الى الاعتراف بالطوائفية (من جهة الميثاق التوافقي) فإنما كان يؤكد في الوقت نفسه على الفصل بين الطوائف والدولة من جهة سلطة الدستور المدني أوالدولة التي لا دين لها...أو دولة الحق والمؤسسات..... وحين يقول الامام شمس الدين دولة لا دين ولا مذهب لها فهو لا يعني مواطنين بلا دين أو مذهب، أو مجتمعاً بلا دين، وإنما يعني تحديداً دولة وسلطات حاكمة لا دين ولا مذهب لها... وهو هنا يميّز في الفقه السياسي بين اعتبارين للمجتمع، أي مجتمع: الاعتبار الأهلي-المدني، والاعتبار السياسي.المجتمع الأهلي- المدني لا علاقة له ببنية الدولة ولا حتى بوجودها أو عدم وجودها.. المجتمع الأهلي يحتضن ثقافة أهله وينوّع نفسه بحيث يحتضن تنوعاتهم وخصوصياتهم.. هو المجتمع المسلم أو المسيحي، السني او الشيعي أو الدرزي أو العلوي أو الأيزيدي أو الشبكي او الكاكائي، أو هو المجتمع الكوردي أو الاشوري أو الكلداني أو الصابئي أو الماروني أو الأرثوذوكسي أو السرياني أو..أو... هذا المجتمع هو باعتبار أهلي، وهو باعتبار آخر سياسي، نظّم نفسهفي مؤسسة كبرى لإدارة شؤون حياته وتطويرها هي مؤسسة الدولة.. بهذا المعنى فإن هذا المجتمع السياسي هو مجتمع بلا دين أو طائفة أو مذهب.. فبحسب اجتهادات الامام شمس الدين ، فإن الدولة (أية دولة) هي في جوهرها جهاز إدارة وضبط للنشاطات والمصالح المشتركة في المجتمع، وليس لها غاية تستمد منها شرعيتها... فالشرعية التي تمتلكها هي شرعية وظيفية محضة. ولا يمكن الحكم على هذه الدولة الا من خلال إعتماد مقاييس الفعالية والمردودية للنظر في نتائج إدارتها للنشاطات المشتركة في مجتمعها. وهذا هو معنى فصل الطوائف عن الدولة وجعلها جهاز إدارة للمصالح العامة وللحقوق والواجبات.. وأن لا يتدخل الدين في الدولة التي هي جهاز وظيفي لخدمة المصالح المشتركة أو الصالح العام.... فالدولة بحسب شمس الدين هي مؤسسة من مؤسسات المجتمع ، وإن كانت المؤسسة الكبرى بامتياز أو مؤسسة المؤسسات. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل اختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه اوإلغائياً له. وهذا المعنى يتأكد في المجتمعات التي لم تستطع الدولة فيها تفكيك النسيج الاجتماعي وإرساء علاقة بين أفراد وجهاز دولة متضخّم السطوة على الدوام. ولذا فإن الدولة المطلوبة هنا هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، في معادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحدّدها المجتمع؛ فلا الدولة وصيّة على المجتمع تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على أن يحلّ محلها...
واقع الحال أن الدولة في مجتمعاتنا العربية أخفقت في الاتجاهين، فانفصلت عن المجتمع في ميداني المصالح العملية كما الغايات البعيدة، وتحوّلت إلى جسم يبدو دخيلاً، تقوم علاقته بالمجتمع على نصاب من الغربة والتنازع والغلبة. وفي حين قدّم الغرب في الماضي نموذج الدولة القويّة المكيِّفة لمجتمعها، وهو يقدّم اليوم نموذج الدولة الفدرالية اللامركزية المحققة للتنوع ضمن الوحدة، قدّمت تجاربنا العربية الحديثة نموذج الدولة الهجينة العاجزة والسلطة الاستبدادية الطائفية العشائرية في آن معاً..
ولئن بدا للبعض أن التعدد في المجتمع اللبناني (أو العراقي) حالة خاصة ينبغي تجاوزها لصالح "الدولة الحديثة" ، اللاطائفية ، العلمانية ، القوية ، القادرة على تذويب الاختلافات وتحقيق الانصهار الوطني ، فإن مسيرة العالم اليوم باتجاه اعتبار التنوع والتعدد ثروة حضارية (حسب قول الإمام موسى الصدر)، خصوصاً في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها وعن معنى ومضمون لهويتها ، قد أعاد الاعتبار إلى النقاش حول العلاقة بين الطائفية والتعدد الطائفي من جهة وبين صورة الدولة الحديثة المرتجاة من جهة أخرى .
وبالإجمال فإنه ينبغي الاعتراف أولاً بأنه لا يمكن في أي حال من الأحوال فصل الدين عن السياسة ، لا في لبنان ولا في العراق ولا في أي مجتمع آخر. فالمسلمون والمسيحيون والصابئة والإيزيديون، والسنة والشيعة، والعرب والكورد، يعيشون معاً في مجتمع سياسي، ولا بد أن يتحركوا في هذا المجتمع إنطلاقاً من أفكارهم ونصوصهم وتصوراتهم للعالم والكون والإنسان والمجتمع ، وهذه كلها أمور تختلط بالسياسة أو تؤثر فيها. ولعل هذا ما قصده المصلحون المجددون أمثال السيد محسن الحكيم والسيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في كلامهم عن دور عالم الدين في المجتمع وفي السياسة باعتبارها من شؤون المجتمع وليس من شؤون الدولة وحدها...والفصل المدعى بين الدين والسياسة ليس إلا فصلاً صورياً أو شكلياً، حصل في مرحلة من التاريخ، وتطبيقه الصارم لا يؤدي إلا الى مزيد من القمع ( قمع المجتمع ونفيه وتغريبه من جانب نخب الدولة، مثال تجربة الأنظمة العربية مع الحالة الاسلامية ومع المجتمع عموماً) أو الى تعسف في إستخدام القانون المدني (العلماني) (أنظر مثال تركيا الكمالية والنظام الإيرني الشاهنشاهي كما النظام الأفغاني في عشرينات القرن العشرين والنظام التونسي في أيامنا هذه، وأنظر أيضاً قضية مواجهة الحجاب في فرنسا اليوم من جانب بعض العلمانيين "المتعصبين")..وبدل الدعوة إلى الفصل، دعا الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ومعه كبار المفكرين المسلمين أمثال الجزائري مالك بن نبي والعراقي النجفي حسين النائيني والإيراني مهدي بازركان والعراقي الكوردي فاضل رسول والمصري الإمام محمد عبده والسوداني حسن الترابي والتونسي راشد الغنوشي والمغربي علال الفاسي، إلى التمييز بين المستويين، بين السياسة والدين (وإلى الإنسجام بينهما كما في وثيقة الوفاق اللبناني في الطائف 1989، وكما في الدستور العراقي الجديد). ذلك "أن حداً فاصلاً دقيقاً ومرناً ومتحركاً يقوم بينهما، يمكن أن تعبّر عنه المعادلة الآتية: لا يمكن أن يتحول الدين سياسة، وإلا فقد جوهره الفطري الإنساني، وغابت قيمه العرفانية والأخلاقية، وضاعت ديناميته وحركتيه التي تتجاوز كل سياسة وضعية وذلك بفعل الضغط الإجتماعي وإحتمال الإنحراف البشري، ولا يمكن أن تتحول السياسة ديناً وإلا فقدت مبررها كسياسة مدنية وأصبحت أسيرة نص من النصوص أو مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف" (بحسب الدكتور وجيه كوثراني).....
الأصل الذي تعلمناه من علماء النجف الكبار من الشيخ النائيني والسيد الحكيم الى السيد السيستاني مروراً بالسيد موسى الصدر والامام الخميني: أنه ينبغي ألا ينعزل الدين عن هموم المجتمع ومشاكله وقضاياه، بل أن يكون له كلمة ومشاركة في السياسة والعمل السياسي..
والأصل الذي تعلمناه من محمد مهدي شمس الدين أنه يجب على السياسة أن تستلهم الدين في أخلاقيته وقيمه في حركة أسماها التقوى الحوارية : تقوى الله وتقوى الأخوّة الإنسانية، وتقوى الشعب والأمة..
والأصل الذي تعلمناه من التجربة الايرانية انه يمكن تنظيم "الحد الفاصل بين الدين والسياسة"، (عنوان كتاب مهدي بازركان- ترجمه ونشره فاضل رسول، دار الكلمة، بيروت، 1979)..
أما الدولة فهي مجال آخر (ليس هو الدين وليس هو وحده السياسة) لا يجوز أن يرتهن للقيد الطائفي أو العشائري أو المناطقي.. الدولة ولاية من الولايات وليست الولاية الوحيدة وإن كانت الأكبر... والأصل الاسلامي هو أن لا تستبد الدولة بالولايات (كما يشرح بصورة رائعة السيد عادل عبد المهدي في كتابه: الثوابت والمتغيرات في الاجتماع العربي الاسلامي)، وأن لا يتشتت المجتمع دون حكومة (بالمعنى الاسلامي)..أي أن لا يطغى طرف الدولة بنخبها، وايديولوجية نخبها، على المجتمع (مثال الدول العربية الاستبدادية وعراق صدام حسين تحديداً) وأن لا يخترق المجتمع بما يختزنه من تعددية وتنوع وصراعات ومصالح وحدة الدولة فيفككها إلى زعامات ومراكز طائفية ومذهبية وجهوية وفئوية (مثال لبنان).هنا ينبغي أن تقدم لنا التجربة اللبنانية (كما العراقية اليوم) بكل عجرها وبجرها، صياغات نظرية عن التوازن بين الدولة والمجتمع يقوم على التعددية واللامركزية الموسّعة وعلى الانسجام بين الدين والسياسة في خدمة الانسان، وعلى تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، وإحلال التناغم والانسجام بينهما، على أسس العدالة والكرامة والمساواة والحرية والديمقراطية للجميع وبين الجميع.
وفي هذا فليتنافس المتنافسون.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)