الأحد، 3 يوليو 2011

حركة النهضة التونسيّة في الذكرى الثلاثين لتأسيسها

راشد الغنوشي

توطئة: من كان يخطر بباله أن يحصل ما حصل في 14 كانون الثاني الماضي، والأسابيع التي مهدت له والتحولات التي جرت وتجري في تونس؟ أن يقود احتراق البوعزيزي رحمه الله إلى لهيب ثوري يجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها حتى يستقر الحريق في العاصمة، فيقوّض ملك الطاغية وعصابة المافيا الملتفة حوله وجهازه القمعي وأداته الحزبية فلا يجدوا سبيلاً غير الهروب الذليل، بما فتح أبواب السجون ومعابر الحدود أمام عودة أشد معارضيه إلى الساحة، تهتف باسمهم عشرات ومئات الآلاف وترتفع رايات أحزابهم، بينما توصد أوكار حزبه المتعفن ويلاحق رموزه بجرائم النهب والقتل، ويمتد اللهب المقدس ثورة عربية وإنسانية؟!
إنه لمن دواعي الثناء على الله عز وجل بما هو له أهل من الحمد والشكر، أن يأتي على أبناء حركة الاتجاه الإسلامي سلف النهضة، حينٌ من الدهر بعد ثورة يناير المباركة وليس من بين قيادييها وأعضائها سجين ولا مشرّد، وتكون هذه أول ذكرى نحتفي فيها علناً ومجتمعين بعد ثلاثين سنة من تأسيسها في 6/6/1981، استقبلت خلالها المعتقلات ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً، وزّعت عليهم المحاكم الظالمة آلاف الأعوام من الأحكام بالسجن، هي ضروب من الموت البطيء، آتت أكلها في الإجهاز على ما لا يقل عن مائة وخمسين منهم، فارضة القهر والتنكيل والمحاصرة والطرد من الشغل على مئات الآلاف من عوائلهم وأصدقائهم، وعلى عدة آلاف التشرد في أكثر من خمسين دولة في العالم في أوسع هجرة وأشرس هجمة على حركة عرفها تاريخ البلاد.
وها هي الحركة النهضة مثل طائر الفينيق تنتفض من تحت الرماد، تملأ الساحات وتستقبلها الجماهير بفيض عارم من الحب والولاء آلافاً مؤلفة، حيثما حلت في أرجاء البلاد، فارضة نفسها معطىً أساسياً في تاريخ تونس الحديثة وحاضرها، رفضاً لسياسات تهميش الإسلام والعروبة المعتمدة من دولة الاستقلال وتأكيداً لهما في أي مشروع تنموي مستقبلي جادّ للبلاد، وذلك ضمن تعددية سياسية لا تبدو المسافة فيها بين الحركة الإسلامية وبين أقرب الأحزاب إليها قابلة لأن تعبر.. فما العبرة والرسائل؟
1- أصالة العقائد وعبث الطغيان
لقد استنفد الرئيسان المخلوعان (مبارك وابن علي) كل الإمكانات القمعية للدولة الحديثة، مستعينين بأوسع قطاعات «الحداثة» من أجل سلخ البلاد من هويتها الإسلامية العربية وربطها بما وراء البحار، متدرّعين بواجهة براقة زائفة من الحداثة لتسويغ سياسات الاستبداد والفساد، فكانت الهجمة الأولى صبيحة الاستقلال على الإسلام والعروبة، عقائد وشعائر وقيماً ومؤسسات ورموزاً، فما مضى غير عقد ونصف عقد على انطلاق الهجمة حتى تنبه المجتمع للخطر الماحق الذي يهدّد كيانه، فكان ميلاد الحركة الإسلامية في بداية السبعينات استجابة لطلب شعبي عميق وواسع على الهوية المهددة وعلى الكرامة والعدل المستباحين.
ورغم سلسلة المواجهات المتلاحقة ضد التيار الإسلامي، فقد استمر صعوده وتغلغله في أعماق المجتمع عبر الآلام المبرحة التي سلطت على أتباعه وأقاربهم منذ سنة 1981 (500 سجين بينهم القيادة التاريخية) وبلغ القمع مستوى أعلى سنة 1987 حيث أنضجت الحركة التغيير خلال مسيرات استمرت طوال ثمانية أشهر كانت من إرهاصات ثورة 14 يناير، اضطرت إلى الكمون في انتظار تآكل الصف المعادي، حتى كانت الثورة المباركة التي أزاحت السدّ من طريق التيار الإسلامي الذي أوقفه بالقوة المتوحشة إثر انتخابات 1989 التي حسمت نتائجها القوة الغاشمة حرماناً للإسلاميين من فوزهم المحقق، فانطلق التيار متدفقاً، بما له دلالة واضحة على أن العقائد والأفكار وما يرتبط بها من مشاريع مجتمعية تنافح على العدل والحرية، هي أصلب من هراوات الطغاة ومخابراتهم وجملة مكايداتهم مهما تلقت من دعم خارجي.
فقد عجزت بعد اكثر من نصف قرن من كيد الدولة الحديثة عن اقتلاع تونس من تربتها الطبيعية العربية الإسلامية لمصلحة استبدالها بتربة غريبة عنها, وأثبت شعب تونس تمسكه المطلق بهويته وتأبِّيه عن محاولات السلخ والتفكيك والتدمير.
ومشهد المساجد المزدحمة حتى درجة الفيضان في الشوارع والساحات، وتزايد الإقبال على البرامج الدينية والأزياء الإسلامية.. والتضخم الكبير للقاءات التي تعقدها «النهضة» على امتداد البلاد.. شواهد على شدة ارتباط المجتمع التونسي بهويته وما ارتبط بها من مشروع مجتمعي تحرري، فماذا جنت الحملات المتلاحقة على الحركة، غير الخيبة وسوء السمعة بل والدمار الشامل؟ فهل يعي ورثتهم هذه الحقائق، ويكفون عن عقلية الوصاية والقمع والتسلط ووسوسة الانقلاب على إرادة الشعب بدل الاحتكام إليها والقبول بتونس للجميع على حد سواء؟
2- دعوة إلى الالتزام بنهج الوفاق
على مشارف انتخابات المجلس التأسيسي اندفعت قوى سياسية وأيديولوجية منافسة للنهضة إلى انتهاج سبيل الكيد للمنافسين والسعي إلى تهميشهم، ولو بالتنكر عن نهج الوفاق (المصدر الأساسي للشرعية في هذه المرحلة), ومن ذلك تعمّد إغراق الهيئة الوطنية لحماية الثورة بكتلة ضخمة من الأعضاء تحت مسمَى «شخصيات وطنية» بما يشبه عملية إنزال عسكري انقلابي على الثورة, مما قاد إلى اختلال التوازن داخل الهيئة, وما أفرزته من لجنة عليا للانتخابات ذات لون أيديولوجي واحد كاسح، فلم تتردد في النكوص بشكل مفاجئ ودون تشاور مع مصدر شرعية اللجنة ولا مع الحكومة على الوعد بإجراء الانتخابات في الأجل الذي حدد بوفاق، وهو ما فجر قنبلة زلزلت التوازنات السياسية والأمنية الهشة بما لم يبق أمام عدة قوى سياسية وشخصيات غير التعبير عن غضبها ورفضها لهذا النهج المتعالي من الهيئة واللجنة الذي انتهجته في تنكب سافر عن نهج الوفاق الأساس الوحيد للشرعية وللقرار في غياب الشرعية الانتخابية.
ورغم القرار المنفرد بتأخير الانتخابات مع ما يفتحه ذلك من احتمالات الانخرام، ورغم التذرع بالصعوبات الفنية لتسويغ التأخير، فالأمل المتبقي ألا يقع النكوص مرة أخرى على الموعد الجديد لانتخاب مجلس تأسيسي، ظل الشعب يوالي التضحيات منذ ثلاثة أرباع قرن من أجل إرسائه.
3- استمرار الفزاعة الإسلامية
من المفارقات أن ترث بعض الأطراف السياسية والإعلامية، الصناعة التي أدمنها المخلوع، أعني الاستخدام المكثف والدؤوب للفزاعة الإسلامية، مستخدمين سلاح التخويف والتهويل والتلويح ليل نهار بهذه الفزاعة.
لماذا يستمرون في الحملات الإعلامية ربطاً للإسلام حيناً وللنهضة غالباً بالخطر على الحرية وحقوق الإنسان، وعلى الفنون وعلى الاقتصاد ولا سيما على المرأة؟ هل قدَر النخبة السياسية التونسية أن تجعل رزقها محاولات متكررة يائسة لإغراق الشعب في ما يشبه أجواء الحرب الباردة؟
لقد أكدت «النهضة» وتؤكد مجدداً في ما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين التزامها بمقوّمات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها غير ما تستمده من قبول شعبي تفصح عنه صناديق الاقتراع عبر انتخابات تعددية نزيهة.
كما أكدت قاعدة المواطنة والمساواة بين الجنسين أساساً لتوزيع الحقوق والواجبات، كتأكيدها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. أكدت النهضة ذلك منذ سنة 1988 في الميثاق الوطني وتوسعت في تأكيده في الوثائق التي توصلت اليها مع شركائها في حركة 18 تشرين الأول، وأكدته في ما لا يكاد يحصى من تصريحات. ولم تعترض بل وافقت على قاعدة المناصفة في المجلس التأسيسي.
إن مما يبعث على التفاؤل بمستقبل تونس وجود أرضيّة واسعة وصلبة مشتركة بين أوسع التكوينات السياسية التونسية إقراراً بالهوية العربية الإسلامية وبمقومات النظام الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، بما يوفر حظوظاً كبيرة للنجاح وللمشاركة في صناعة المستقبل.
في الأخير، إذ نحيّي شهداء ثورتنا المباركة، وأجيال الشهداء الذين عبَّدوا الطريق أمامها من كل الاتجاهات وبالخصوص شهداء الحركة الإسلامية وعوائلهم القلاع الصامدة، نحيّي حراس الثورة المباركة بكل اتجاهاتهم، ونحن واثقون من أن الله سبحانه الذي حفظ بلادنا وحركتنا مما كاد الكائدون.. فكانت هذه الثورة المباركة.. وأشرقت الشمس, سيحفظ بفضله ثم بجهد عباده الصالحين دماء شهدائها حتى تهتز أرضها الخضراء عدلاً وكرامة وحرية ونماء {واللهُ غالب على أمرِه ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون}.

وثيقة "إعلان مبادئ وطنية" لرؤية مستقبل سورية

خضعت سوريا إلى نظام استبدادي، شمولي، قمعي منذ ما يقرب من خمسين عاماً، فأوقع البلاد في فساد وإفساد كبيرين من غير رادع من قانون أو تشريع، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الثورة الشبابية السورية رداً على ما قام ويقوم به النظام من قمع واضطهاد، واستباحة للحريات والكرامات وتم تغييب الشعب عن صنع مصيره وإقامة دولته المدنية التي تحفظ للمواطنين حقوقهم وكرامتهم، وتصون أمنهم في ظل نظام يؤسس لحقوق الإنسان في الحرية والحياة الكريمة.
وقد أدى الحراك الشعبي الذي انطلق في كافة أرجاء الوطن إلى صدور العديد من المبادرات الوطنية، التي تبحث كلها عن حل لأزمة البلاد التي أدخلتها في نفق لا يعلم أحد ما نتائجه، في ظل نظام لا يقبل سوى الحلول الأمنية والعسكرية لإنهاء الثورة. ومن دراسة جميع هذه المبادرات فقد رأى الموقعون على هذه الوثيقة استنتاج خلاصة من هذه الطروحات، التي انتشرت في الشارع السوري، تحدِّد رؤية مستقبل البلاد في ضوء ما يجري على الساحة السورية. تهدف هذه الوثيقة إلى وضع المبادئ العامة لرؤية مستقبلية للخروج من الأزمة الراهنة، عبر مرحلة انتقالية، يتوافق عليها السوريون، ويفرضها الحراك الشعبي، تقودها حكومة إنقاذ وطني تؤسس لدستور جديد، لتشكيل الدولة المدنية العصرية، وسنِّ القوانين اللازمة لذلك، وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية، خلال فترة محددة وفق ما يأتي:
1- تكمن رؤيتنا لسورية المستقبل في دولة مدنية تعددية ديمقراطية يتشارك فيها السوريون على قدم المساواة ضمن مفهوم المواطنة المدنية، ودولة الحق والقانون والمؤسسات.
2- يحرص الموقعون على هذه الوثيقة على حماية السلم الأهلي، وتعزيز ثقافة التسامح والعيش المشترك، واحترام خصوصيات كل مكونات المجتمع السوري وثقافاتهم وحقوقهم، في إطار المواطنة المدنية، وقيم العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان.
3- يدعو الموقعون على هذه الوثيقة إلى تشكيل سلطة تنفيذية منتخبة ديمقراطياً، تهدف إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني تضم وزراء (مستقلين) يمثلون كافة مكونات المجتمع السوري والقادة الشباب الذين يقودون الثورة السورية؛ من أجل الانتقال بالبلاد من الدولة الأمنية إلى الدولة المدنية، وتؤسس لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية، وتحديد مسؤولياتها، وبنائها على أساس احترام المواطن وحقوق الإنسان، وأن تخضع للمساءلة أمام السلطة القضائية، وكذلك إنهاء اختطاف الدولة من السلطة القائمة، من أجل التأسيس لدولة ديمقراطية مدنية حديثة تصون وتحترم الشرائع والمواثيق الدولية، وتؤسس لعلاقات متوازنة على قاعدة الاحترام المتبادل مع جميع الدول في المجتمعين الإقليمي والدولي .
ملاحظة : الوثيقة معروضة لانضمام وتأييد كل الفعاليات والأطر الوطنية والشخصيات العامة حتى لحظة المؤتمر، وهي مطروحة للنقاش في المؤتمر، وسيتم تحديد زمان ومكان انعقاد المؤتمر خلال اليومين القادمين.
الموقعون:
الأستاذ هيثم المالح 2- السيدة منتهى سلطان باشا الأطرش 3- الأستاذ جودت سعيد 4- الدكتور عارف دليلة 5- الشيح نواف راغب البشير 6- المهندس غسان النجار 7- الأستاذ مشعل التمو 8- الدكتور وليد البني 9- الدكتور عماد الدين الرشيد 10- الدكتور رضوان زيادة 11- الدكتور نجيب الغضبان 12- الدكتور فداء المجذوب 13- الدكتور حسان الشلبي 14-الدكتور سامي الحمصي 15-الدكتور أسامة الشربجي 16-المهندس بشار حسن 17-المهندس مطيع البطين 18-بسام سعيد إسحق 19-جمال الوادي 20-خالد زين العابدين 21-بسام الناصر 22-عبد الله تلاوي 23-هرفين أوسي 24-الدكتور محمد العمار 25-نجيب أبو الفخر 26-عبدالرحمن خطاب 27-المهندس عماد أبو زيتون 28-عبدالله خليل 29-عدنان محاميد 30-ناصر رفاعي 31-المهندس إياد قرقور 32-دعد جوزيف 33-الدكتور كمال اللبواني 34-الدكتور محمد القداح 35-نزار حسن الحراكي 36-خالد نوري الطلاع 37-محمد العبدالله 38-حبيب عيسى 39-ميس كريدي 40-محمد شبيب 41-نظمي عبدالحنان محمد 42-مروان الخطيب 43-نجدت نصرالله 44-محمد محمد 45-عبدالوهاب كزكز 46.المهندس أحمد المصري 47.إياد صالح 48.ياسر عبد الفتاح (حزب الغد السوري) 49.مرهج زيدان (حزب الغد السوري) 50.حسام أبو طوق 51.مصطفى ادريس (تجمع الأحرار السوريين) 52.عمرو دندشي 53.ياسر الوالي 54.نوار بركات 55.وسيم أبازيد 56.ابراهيم البيطار 57.ريم محمد 58.جمال هلال 59.جان دوست (كاتب كردي سوري) 60.محمد رشاد دعبول 61.عبد السلام موسى 62.ريم مصطفى 63.حسام بركات 64.الدكتور أيمن السايح 65.ادريس الرعد 66.هيثم سليمان 67.الصحفي محمود كيلاني 68.الدكتور فراس المصري 69.فيصل محسن الأعور 70.المحامي قصي مسلماني 71.المحامي مروان أحمد حجو 72.عبد السلام البيطار 73.شادي الأشقر 74.مظهرالناطور 75.حنيفة عون 76.فراس غنام 77.مهدي أكرم 78.شادي البيك 79.مهدي الأحمد 80.حسن جيلو 81.رضوان قصيراوي 82.سامر مقداد 83.أحمد عز الدين 84.خالد الفيومي 85.المهندس محمد حسن 86.الدكتور عمار قحف 87.رجاء التلي 88.عمر الجبين 89.أسعد أبو صالح 90.سندس سليمان 91.محمد قصاب باشي (دمشق-سوريا) 92.علاء الدين قطرميز (لندن) 93.نضال درويش (سويسرا) 94.الدكتور محمد شادي كسكين ( السويد) 95.صفاء علي (سوريا) 96.نوال السباعي (مدريد / اسبانيا)

بالإضافة إلى عدد من شباب الحراك الشعبي من جميع المحافظات ارتأينا عدم ذكر أسمائهم الآن.

عن الدولة والدين في الفكر الاسلامي المعاصر

في كلام خطير للامام الراحل محمد مهدي شمس الدين أن "الدولة كلها غير مقدّسة ، ولا يوجد فيها مقدَّس على الإطلاق..ونحن نعني بالمقدّس المطلق أو العبادي ، أو ما يتصل بالشأن الديني المحض، وغير المقدّس هو السياسي ، هو النسبي والزمني (...) مشروع الدولة غير مقدّس. إنه مشروع ناشىء من طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة". لماذا خُيّل للاسلاميين إذن أن فكرة الدولة مقدّسة؟ من بين الفروض التي اقترحها الشيخ لتفسير هذه الظاهرة، هو أن الخطاب الاسلامي المعاصر "خطاب تجريدي في سمته العامة". ويقصد بصفة التجريد في سياق كلامه ان الفكر الذي حمل هذه الفكرة كان غير عملي وغير واقعي. ومنشأ ذلك كما يقول "ان هذا الفكر ، خصوصاً في مسائل الاجتماع السياسي، كمشروع الدولة والنظام السياسي والحكم (..) ارتكز الى خلفية كلامية لم تعد موجودة مطلقاً، فلم يبق له مرتكز في الواقع المعيشي"... ويضيف مفسراً "ففي الإطار السني ، ارتكز الخطاب الاسلامي في مفهوم الدولة والسلطة الى نظرية الخلافة أي استند الى الموروث النظري الفكري والفقهي والتنظيمي الذي صيغت به نصوص ما يعرف بالأحكام السلطانية..(الماوردي مثلاً)...وفي الإطار الشيعي ، ارتكز الخطاب الى نظرية الامامة . وهذه النظرية هي نظرية أصيلة في التكوين المعتقدي للشيعة، ولكنها نظرية استثنائية، كما يقول، وهي ليست دائمة في الحضور اليومي والعملي". لذا "فانه لا يمكن في عصرنا الاتكاء على كلا النظريتين ( الخلافة والامامة) ، بل لا بد من الاتكاء على نظرية سياسية عامة من خلال الاجتهاد في الفقه الاسلامي، ومن خلال التعلم من تجارب التاريخ العالمي والواقع الحاضر". ويقترح الشيخ أن نتعلّم "من الناحية التقنية صياغة الأفكار ، كما تصيغها الليبرالية الديمقراطية، وهي كما يقول ناجحة جداً لأنها تقوم على النسبية والنقد والتعلم من تجارب الواقع...
وبحسب شمس الدين "فإن كل شعب مسلم على المستوى الوطني أو القومي يحب بالضرورة ان يكون له نظام حكم وحكومة يحفظانه، ويضمنان سلامته وتقدمه. أما ان يكون هذا النظام وهذه الحكومة اسلاميين، فقضية غير مسلّمة ، وغير بديهية، كما هو الشأن في أي مجتمع سياسي معاصر، خارج العالم الاسلامي.فكما ان المجتمع السياسي البريطاني ، أو الامريكي مثلاً، أو غيرهما، لا بد أن يكون له نظام حكم وحكومة، يُمكن ان تكون تارة اشتراكية عمالية، وأخرى رأسمالية محافظة ، مع التزام المجتمع في تكوينه ومنهجه العام بالديمقراطية التي تلزم باحترام قواعدها وأصولها كل حكومة تتولى السلطة ، فكذلك المجتمع السياسي الاسلامي يمكن ان يستمر في تكوينه ومنهجه العام ، ويكون قابلاً لأي نظام لا يتنافى مع الاسلام باعتباره عقيدة المجتمع ، دون ان يكون نظام الحكم اسلامياً، فالمهم هو استمرار الاسلام في الامة واستمرار الأمة مسلمة موحّدة". ويلاحظ الشيخ ان الفقهاء القدامى "لم يلحظوا في أبحاثهم عند ما كانت الأمة لا تزال موحّدة من الناحية السياسية التنظيمية في دولة واحدة، امكان انقسام الأمة الى (دول) وانقسام «دار الاسلام» الى أراضٍ لهذه الدول.... ولكنهم حين بدأت تشكل الأمة نفسها في صيغ تنظيمية سياسية متعددة بحثوا عن مشروعية ( تعدد الأئمة) وأجازه المشهور أي أغلب الفقهاء المعروفين.
وقد حاول الشيخ أن يستنبط من داخل أصول الفقه الاسلامي، نظرية سياسية عامة للدولة. يتوخى منها تحقيق الهدف الذي يُعبر عنه بالقول : "إن المفاهيم والقيم الانسانية والأخلاقية التي قامت عليها ، وتكونت منها فكرة الدولة في الاسلام، هي القيم التي يتجه اليها طموح البشر في العصر الحديث على مستوى الدولة الوطنية والقومية وعلى مستوى النظام الدولي المرتجى، وهي قيم العدالة، والحرية الواعية، وكرامة الانسان، وتيسير سبل التكامل الروحي والمادي لبني البشر".

أساس الدولة الغربية أو المعاصرة

في أحد كتبه يعقد المفكر العراقي عادل عبد المهدي مقارنة بين أسس الدولة الغربية والدولة العربية فيرى أنه عـدا الأساس المعروف للدولة حسب جـان جاك روسو باعتبارها نتاج عقد اجتماعي يطرح "انغلز" منظوراً محدداً يحمل في آن واحد معنى الاتفاق والصراع وكيف يفرز المجتمع هذا التنظيم الرئيسي بقوله: "جاءت الدولة كنتاج للصراع الطبقي بعد ان يصل المجتمع الى تناقض غير قابل للحل .. ولكي لا يستهلك المجتمع نفسه في صراعات لا فائدة منها، كان لا بد من إيجاد قوة يبدو إنها تقف فوق المجتمع من أجل تهدئة النزاع والحفاظ عليه في حدود " النظام" وان هذه السلطة أو القدرة المتنامية ولكن الواضعة نفسها فوق المجتمع والمبتعدة عنه أكثر فأكثر هي الدولة" .
وانطلاقاً من مفهوم " العقد الاجتماعي" (اليميني) أو "الصراع الاجتماعي" (اليساري) رأى الغربيون " الدولة" من خلال المعايير التي اعتادوا عليها حسب خط التطور الأوروبي بكل المفاهيم التي حملها هذا الخط. لذلك حملت الدولة سمات محددة يلخصها "انغلز" بسمتين رئيسيتين يقول انهما تسمان كل دولة وهما قيامها على رابطة الموقع وتأسيسها السلطة العامة.. وانه للحفاظ على هذه السلطة العامة فإن مساهمة المواطنين تصبح ضرورية: الضرائب.
وهكذا تشكل مفهوم "الدولة" باعتبارها تقوم على رابطة الإقليم وتقيم سلطة عامة لا تتطابق مع التنظيمات العفوية والطبيعية للجماعات وتأخذ الضرائب للحفاظ على هذه السلطة التي تقوم على مفهوم " المواطنين.
عبر هذا المفهوم للدولة درس البعض التنظيمات الاجتماعية في التجربة الاسلامية دون ان تغطي هذه التجربة وخط تطورها أي أساس من ذلك. حيث رابطة الدم أو صلة الرحم لم تدمر (قبل الفترة الاستعمارية المعاصرة) لمصلحة رابطة الاقليم، وحيث المفهوم الرئيسي للانسان لم ينظمه الانتماء لطبقة أو أقليم، أو مفهوم "المواطنة" بل تنظمه أساساً روابط العقيدة ( الدين والمذهب) أو روابط الولاء لجماعة (طائفة أو عشيرة أو منطقة) وذلك بغض النظر عن الثروة والموقع الاجتماعي. لهذا حملت الدولة بالمفهوم الذي تشكلت عليه في التجرية الاسلامية مظاهر مخالفة تماماً تشير الى خلاف في الاسس التي قامت عليها.
- فالدولة بالمفهوم الغربي تحمل معني الثبات state أو Etat عن اللاتينية Status .. اما في المفهوم اللغوي العربي فهي "الانتقال من حال الى حال"، "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ، وقالوا: "دواليك أي مداولة على الامر .. ودوالت الأيام أي دارت.. والله يداولها بين الناس.. (وتداولته الايدي) أخذته هذه مرة وهذه مرة".. الخ.
- أما الدولة حسب خط التطور الاوروبي فهي سلطة الاغنياء أو المالكين.. أي هي ثمرة تنظيمهم.. فهي اداتهم ضد الطبقات غير المالكة. فالدولة لاحقة للغنى لهذا جاء تاريخها مع تاريخ الطبقات المالكة. اما في التجربة الاسلامية فتبدو الدولة مستقلة أولاً عن الغنى والجاه وسابقة لهما، أي ان الدولة هي مصدر لهما. فمن يسعى للغنى والجاه – فرداً أو جماعة- سيسعى للاستيلاء على " الدولة" لأنها تحمل كثمرة لاحدى اشكال التنظيمات الاجتماعية استقلالية لذاتها في املاكها وأموالها وحقوقها ودوافعها... فهي اذا شاء البعض أقدر على صنع الطبقات من قدرة الطبقات على صنع الدولة . من هنا نفهم معنى الثبات في الدولة الغربية لأنه مرتبط بثبات الطبقات المالكة وتأسيس شرعية وايديولوجية وانظمة المجتمع (أي بنيته الفوقية) من خلال مبادراتهم والدفاع عن "حقوقهم" بينما هي في العالم العربي بمعنى التدوال والانتقال لأن حقوق ومنصب "الدولة" تتداولها الايدي عن حقٍِ أو باطل بين الافراد أو الكتل والجماعات لأسباب ودوافع عديدة.