الجمعة 6/1/2012
أجرت الحوار إذاعة الشرق في باريس
* بعد 10 أشهر على انطلاقة الثورة السورية بوجه النظام، ماذا عن معنويات الداخل ومعنويات المجلس الوطني السوري وماذا عن الوسائل والعناصر التي تملكونها؟
*** نحن معنوياتنا عالية ومرتبطة بمعنويات الثوار في الداخل وهي ثورة حقيقية، ثورة الحرية والكرامة والديموقراطية ومعنوياتنا في الداخل نأخذها من حجم التأييد الشعبي الذي نمثل ومن التظاهرات التي خرجت الجمعة الماضية وتجاوز فيها عدد المتظاهرين الأربعة ملايين سوري وبعض الأرقام تتحدث في الداخل عن ستة ملايين متظاهر. هذه التظاهرات تعبر أن الشعب السوري وبعد 10 أشهر ما زال مصمماً وبتصميم لا حدود له على إسقاط النظام وبأي ثمن كان. ونحن لا يمكن أن تكون معنوياتنا مرتبطة إلا بمعنويات الشعب ونحن مؤمنون بالسقوط الحتمي لهذا النظام وبأن هذا السقوط قريب إن شاء الله. في المقابل يعيش النظام حالة من فقدان السيطرة وتعاني أجهزته الأمنية من الإرهاق وحتى عدم القدرة على تنظيم التظاهرات المؤيدة له. وهي بالمناسبة تظاهرات محدودة وبالإكراه وجاءتني أخبار من الداخل لتؤكد لي أن هذه التظاهرات التي ينظمها النظام كلها بالإكراه ولا أحد خرج ليدعم رئيساً من القتلة وهو فعلاً قاتل محترف. أصبح النظام السوري متهالكاً وانتهى. وهو انتهى بالفعل وأؤكد على ذلك. لذلك هو يعتمد على أجهزة القتل حتى ان المراقبين ومع وجودهم وحتى أنهم لم يستطيعوا أداء واجبهم كما يجب فهم يشعرون أن النظام متهالك ولم يعد لديه القدرة على السيطرة وأخذ يتخبّط اكثر من قبل. أعتقد أن النظام فقد معنوياته وفقد السيطرة على الأرض في مناطق كثيرة. كما وأنه فقد سيطرته على نفسه ولم يعد له هامش المناورة السياسية الكبيرة ولا على المستوى الاقتصادي فقد ضعف كثيراً بسبب العقوبات، كما ضعف على المستوى الاجتماعي وكل القطاعات الاجتماعية وعلى رأسها رجال الأعمال الذين كانوا يراهنون على بقائه من اجل الاستقرار، أصبح هؤلاء يعتقدون اليوم أنه مصدر للفوضى وعدم الاستقرار والخراب وربما النزاعات والحروب الداخلية بالبلاد. لذلك هو مدرك تماماً أنه ليس له أي أمل بالبقاء وآمل أن يبدأ أن يفاوض على خروجه بأسرع وقت.
* ليست مفهومة تماماً الحملة على وفد الجامعة العربية بتلك الحدة الى درجة مطالبتها بالمغادرة وهذه البعثة سمحت بتظاهرات في المدن الكبرى وكسرت حلقة توازن مهمة مع قوى النظام الأمنية، وصرنا نسمع بتظاهرات نسائية في حلب تفرج عن معتقلات وإضراب في السجون عن الطعام؟
***نحن نؤكد أن حركات رفض النظام في حلب ودمشق لا تقل عن المدن الأخرى. التي شهدنا مظاهرات مليونية فيها. ولكن هذه المدن الكبرى فيها حجم من القهر والاحتلال الأمني للشوارع والساحات والأحياء وربما المساجد أيضاً بشكل كثيف لدرجة ردعت الكثيرين من الخروج. ولكن مع وجود بعض المراقبين ولو أن أداءهم لم يكن على المستوى بدأت الأمور تتحرك بشكل كبير ونحن مقبلون على فترة تخرج فيها دمشق كاملة وهي خرجت طبعاً في مراحل سابقة، دمشق إحدى بؤر الثورة السورية والشرارة الأولى للثورة قبل أن تبدأ في درعا بدأت فيها، عبر تظاهرة صغيرة في سوق الحميدية قام بها التجار. نحن ليس لدينا شكوك حول موقف الجمهور في دمشق وحلب من الثورة. وأنا أعتقد أن الأمور ستتطور بسرعة في الأسابيع المقبلة ونحن ننتظر تقرير البعثة العربية ليدق المسمار الأخير في نعش هذا النظام ويؤكد الحقائق التي أراد أن يخفيها النظام عن طريق إعلام خاطئ وعلى طول الخط.
* وماذا تتوقعون من التقرير الأولي الذي سيرفع الى اللجنة الوزارية العربية الأحد المقبل؟
*** أنا أتوقع أن يكون التقرير الأولي موضوعياً ويكشف أن النظام يقوم بقتل مواطنيه بشكل متعمّد ويقوم بإهانتهم والتنكيل بالنساء والأطفال. هذا ما ننتظره. كما ننتظر أن يعلن التقرير أن النظام لم يلتزم بوعوده لجهة سحب الجيش الى الثكنات وغير صحيح أن الدبابات انسحبت من المدن فهي تقف على أطراف المدن. في وقت المطلوب هو سحب الجيش الى ثكناته وسحب القوى الأمنية والشبيحة من المدن والأحياء ووقف إطلاق الرصاص على السكان. ثم لم يحصل إطلاق المعتقلين إلا بشكل جزئي وإعلاني وإعلامي وهناك عشرات الآلاف موجودون في السجون. وهناك مخاطر من نقلهم الى ثكنات عسكرية أو ربما القيام بعمليات إجرامية جداً وهذه مهمة جداً. الغريب أن النظام يستخدم في مسألة إطلاق المعتقلين نفس تعبيرات إسرائيل لدى إطلاقها معتقلين فلسطينيين من السجون "إطلاق الأسرى غير الملطخة أيديهم بالدماء". وهو يتصرف تجاه مواطنيه كما تتصرف إسرائيل بالقتل والتنكيل، لا بل أسوأ من تصرفات العدو الإسرائيلي.
* ولكن سمعنا الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي وتصريحاته جاءت مطمئنة وبلغة تختصر المبادرة العربية كما لو أنها تحولت الى موضوع لجنة مراقبين فقط؟
*** أعتقد أن الأمين العام للجامعة العربية أخطأ كثيراً بتصريحات لا علاقة لها إطلاقاً بالارض وقد سمعت أنا شخصياً من رئيس لجنة المراقبين أن المعتقلين لم يفرج عنهم وبأن القوات الأمنية لم تنسحب وبأن الصحافة والإعلام، الصحافة الحرة والعالمية لم تنتشر في سوريا ولا تتحرك ولا تأخذ حق الإذن بالدخول.
* عن أي إعلام يتحدث النظام السوري حين لا يسمح بدخول محطات مهمة مثل "العربية" و"الجزيرة" و"فرانس24"؟
*** أنا أستغرب تصريحات الأمين العام، ولا أدري ما الذي يريده فعلاً، هل يطمئن النظام، أم يطمئن بعض الدول العربية التي لا تزال تقف بوجه طموحات الشعب السوري أو تشكك بهذه الطموحات وينبغي حقيقة اللقاء وضروري اللقاء به من أجل توضيح هذه الآراء، وعلى الأمين العام التراجع عما قاله وأن يلتزم بالتقارير التي تقدمها بعثة المراقبين. فالنظام يريد أن يجهض المبادرة وأن يفقد الجامعة العربية مصداقيتها وعلى الجامعة العربية أن ترد بقوة وأن تؤكد التزامها بوعودها تجاه الشعب السوري، وهي التي وعدت الشعب السوري بمبادرة كاملة تقدم حلولاً للمعاناة التي يعيشها منذ عشرة أشهر. نحن ننتظر من الجامعة العربية موقفاً آخر. وقد سكتنا الآن نسبياً حتى نعطي المراقبين الفرصة لتقديم تقريرهم. وقد فوجئنا بتصريحات الأمين العام المناقضة كلياً للواقع.
* وماذا بشأن زيادة عدد المراقبين وهذه ليست مسألة شكلية؟
*** نحن على اتصال دائم مع الجامعة ووجهنا عدة احتجاجات بأن العدد لا زال غير كاف لإنجاز عمليات التفتيش والبقاء والخبرات قليلة واتصلنا بوزراء في مجلس الجامعة وقيل لي أن الميزانية قليلة جداً وأقروا بذلك ورفعوا الميزانية 4 مرات، ولا شك هناك مشكلة في أداء لجنة المراقبين. ربما هناك إرادة للمساومة والمسايرة وهي ستكون مدانة بالتأكيد. وكان على الجامعة العربية أن تستفيد من قدرات وخبرات دولية لها باعٌ طويل بهذا الموضوع ولها خبرة كبيرة في الأداء. ولكن أنا أخشى وأخاف حقيقة من أن يكون هناك موقف سياسي وراء ذلك. موقف لا يعطي أهمية كافية للتقرير الذي سيصدر عن اللجنة. ونحن نريد تقريراً موضوعياً يقر بالحقائق كما هي على الارض ويكشف كذب النظام فالمسألة لا تتعلق بمؤامرة ولا مسلحين ولا منشقين المسألة تتعلق بكفاح شعب داخلي ينزل يومياً بعشرات الآلاف من رجال ونساء ومن كل المذاهب والطوائف والاديان والاعراق ويقول هذا الشعب للأسد: "تنح نهائياً". وعلى بشار الاسد القاتل المحترف ان يخرج نهائياً ويتنحى عن السلطة.
* البعض يقول ان الموقف المصري، والذي يعبر عنه الامين العام للجامعة العربية، وهو موقف المجلس العسكري، وبعض الاطراف العربية يبدو متحمساً لمشروع حل وسط اكثر مرونة من الحل اليمني يسمح ببقاء الاسد ما هو موقفكم؟
*** تقد ان اي دولة عربية تعتقد ان ابقاء الرئيس الاسد لعدة اشهر او عدة اسابيع ولا اقول عدة سنوات، تكون هذه الدولة حقيقة مخطئة بحق الشعب السوري، حتى لا اقول مجرمة بحق الشعب السوري. فنحن نتحدث عن مذبحة يومية. ومعنى ذلك ان هذا البلد العربي الذي يريد ان يخفف عن الاسد جريمته ويتواطأ مع نظامه يكون متواطئاً مع الجريمة شريكاً فيها وهي ترتكب يومياً ليلاً ونهاراً في سوريا منذ عشرة اشهر. هذا كاف برأيي لادانة اي طرف عربي او غير عربي لا يزال يعتقد او لا يزال يراهن على ابقاء الاسد لفترة مقبلة او يراهن على التفاهم مع الاسد او ان من الممكن ايجاد حل للازمة مع الابقاء على الاسد. لا يمكن اليوم الخروج من الازمة التي يعيشها الشعب السوري ومن المخاطر الكبرى التي يمكن ان تعرض لها سوريا اذا ما استمر الوضع فترة اطول ولا يمكن الوصول الى حل الا مع القطع النهائي مع هذا النظام. وينبغي على الدول ان تعترف ان نظام الاسد لم يعد موجوداً الا عبر استخدام العنف والقتل تجاه الشعب والسكان. ولكن الشعب لفظه نهائياً والاعتراف بحق الشعب السوري بالحرية والكرامة حق على الجميع مثله مثل اي شعب سواه يكافح من اجل حريته وكرامته.
* ماذا عن تعدد المعارضة والخلاف على مسألة التدخل والتدخل لم يحدث للآن، واذا حدث فرضياً من حق البعض ان يكون له تعبيرات معارضة مختلفة؟
*** لا احد يتحدث عن مشكلة التدخل او لا تدخل. التدخل العسكري هو وسيلة للعمل. الهدف المهم هو اسقاط النظام واسقاط رأس النظام وكما تقول بعض الشعارات: اعدامه. الهدف الاول اذاً هو اسقاط النظام والمكسب الحقيقي الذي توصلنا اليه الشهر الماضي وبعد مناقشات ان الجميع يعترف بأن لا "ذرة امل" في الرهان على الحوار مع الاسد. فالجميع متفق على اسقاط النظام وعدم الحوار معه واسقاط رئيسه. والجميع متفق على وقف القتل اليومي والاجرامي للمدنيين. وهذا الامر هو المطلب الوطني الاول ولا يمكن وقف القتل الا عبر حماية المدنيين وايجاد عمليات وآليات عملية لحماية هؤلاء. ونحن قبلنا بالمبادرة العربية في هذا الاطار باعتبارها بداية وضع آلية لحماية المدنيين ولوقف القتل اليومي وسحب القوى الامنية من المدن والشوارع واطلاق لمعتقلين كهدف ثان رئيس ايضاً ومسألة المعتقلين مهمة جداً وقضية سياسية كبرى.
هذان الهدفان صارا محل اجماع للشعب السوري ولكافة اطياف المعارضة ولا خلاف حول الموضوع.
* وماذا عن التعبيرات المتمايزة عند لجان التنسيق؟
*** لجنة التنسيق كانت ترفض الحديث عن اسقاط النظام وكانت ترفض الحديث عن اسقاط بشار الاسد بشكل خاص تغير موقفها نسبياً الآن. لكن الخلاف ليس حول هذا. ما حصل ان المكتب التنفيذي في المجلس الوطني والذي راجع الوثيقة مع لجنة التنسيق وهي وثيقة لم يكن مطلوباً ان تخرج الى الاعلان وانها هي ورقة للنقاش امام المؤتمر الوطني العام المزمع انعقاده في اطار الجامعة العربية. وعندما خرجت هذه الورقة من سياقها قرر المجلس التنفيذي للمجلس الوطني عدم المصادقة عليها هو سيطرح ورقة جديدة من اجل اعادة التفاوض مع جميع الاطراف الاخرى. وليس هناك سبب ليكون طرف مقدماً على طرف آخر. حصلت اخطاء ينبغي تداركها وما زال هدفنا في المجلس الوطني جمع كل اطياف المعارضة حول الثورة الشعبية السورية الديموقراطية.
* من هو الداعم السياسي لكم اليوم؟
*** انا باعتقادي هناك دعم اساسي مهم وجزء كبير مهم من البلدان العربية اذا لم يكن جميع البلدان العربية. قسم كبير منها يدعم الشعب السوري بمطالبته بتنحي الرئيس عن السلطة وهؤلاء قدموا طلباً للجامعة لحماية المدنيين. لدينا تعاطف لدى الرأي العام العربي والعالمي ودعم سياسي مباشر من الاتحاد الاوروبي ومن الولايات المتحدة الاميركية وتركيا ودول اخرى وآسيا وافريقيا. لسنا اسرى الدول الكبرى. والاهم ان بطولات الشعب السوري وتصميمه على الاستمرار بثورته وجهت انظار العالم كلها اليه وصارت تنظر اليه كشعب بطل، في ملحمة قائقة الوصف. وحجم التعاطف الذي نلقاه من كل الناس في الدول التي نزورها نعتز به وهو يقول لنا ما يقوم به الشعب السوري هو ملحمة وهي ملحمة الحرية فعلاًُ. لا مشكلة في الدعم السياسي. هناك بعض العقبات من مثل العقبة الروسية والروس يصرون على استخدام الفيتو في مجلس الامن حتى هذه العقبة يمكن ان تذلل اذا قمنا باطار المجموعة العربية والاوروبية مع اميركا وتركيا واميركا اللاتينية. يمكن ان نذلل هذه العقبة في مبادرة يدعمها ميثاق الامم المتحدة لحقوق الانسان وحماية المدنين ولوقف القتل المنهجي لابناء شعبنا السوري.
* اذا لم تتحرك تركيا فمن الواضح انه لن يحصل شيء، كيف تعملون على مسألة التدخل التركي؟
*** نحن لا نتحدث عن التدخل. نحن نتحدث عن حماية المدنيين وربما نحتاج الى استخدام القوة، حتى الاتراك حين يتحدثون عن التدخل بالقوة فذلك لفرض احترام حقوق الانسان وحماية المدنيين. والاتراك مثلهم مثل بقية البلدان يقولون انهم لن يتدخلوا الا في اطار تنفيذ قرار للامم المتحدة، ونحن نعمل معهم لتذليل العقبات داخل اطار الامم المتحدة والوصول لى تفاهم لحماية المدنيين بوسائل تدخل مختلفة تناقش بين الدول والاطراف ويكون للعرب مكاناً فيها.
* بالاستراتيجية المطروحة راهنا، اما الاصلاح او وضع سكاتيكو، او حرب أهلية، ما هو مشروع المجلس الوطني السوري وعلى ماذا تعملون وما هي الوسائل التي تملكون كمعارضة سورية؟
*** لا هذا، ولا ذاك ولا تلك، نحن سنكمل مسيرة الثورة الشعيية والرهان أولا في الاستراتيجية على استمرار الثورة ودعمها المادي والمنوي. هذا عنصر اول في الاستمرار ويبقى ان يستمر وتتوسع. والعنصر الثاني هو استمرار عمل الجيش السوري الحر وان يقوي ويدعم ويقدم يد المساعدة للشعب ويحمي المتظاهرين وهذا عنصر أساس في أي استراتيجية.
والعنصران يسيران معاً والثورة السورية الشعبية تتوسع والجيش الحر يقوم بعمله وبقي ان يتعزز ليقدم يد المساعدة للمسيرات الشعبية.
* من الأهمية بمكان علاقة الفعل السياسي للمعارضة مع الجيش الحر، كيف يتصرف الجيش الحر بالعلاقة معكم وهو يقوم العمليات عسكرية جريئة جداً ومدعومة من الشعب؟
*** هو ينسق خطواته معنا عبر لجنة تنسيق وذلك بشكل دائم وعبر اتصالات يومية والجيش الحر يعترف بالقيادة السياسية للمجلس الوطني ونحن ندعمه ولا يوجد تناقض مطلقا بين ما يعمله على الارض لحماية المدنيين والتظاهرات الشعبية وبين عملنا كقيادة سياسية. ونحن على اتصال مباشر ويداً بيد مع الجيش الحر لانتصار الثورة الشعبية السورية.
* من لديكم في لبنان، ولبنان جزء اساسي من المحيط الجغرافي لسوريا، كيف تشتغلون على المسألة اللبنانية وماذا عن موقفكم من الأطراف وما معنى قطع العلاقة مع حزب الله في حين الدولة اللبنانية تتبنى حزب الله؟
*** نحن في المجلس الوطني السوري ليس لدينا اجندا خاصة بلبنان، نحن نترك للبنانيين ان يقرروا بأنفسهم مصيرهم كما نطلب من الجميع ان يتركوا الشعب السوري ان يقرر مصيره. وأنا أعتقد كما ذكر لي أكثر من مصدر ان الشعب اللبناني بكامل طوائفه ومذاهبه مع ثورة الشعب السوري وورافض معاناة المواطن، اما لجهة علاقتنا بالأطراف اللبنانية فلا يمكن المطابقة ككل بين الشعب اللبناني المتعاطف معنا ومع بعض الأطراف الحزبية هنا وهناك والحليفة للنظام السوري. اعود واكرر الشعب اللبناني ككل متعاطف مع شقيقه الشعب السوري وكما هو الحال في جميع البلدان العربية، التعاطف مع الشعب السوري قوي وكبير جداً وأعتقد ان سقوط النظام الأسدي سيفتح مجالا اوسع للتفاعل والتواصل والتفاهم بين الشعبين ونحن ننظر الى هذه الفرصة بفارغ الصبر ابعد وهذا هو رهاننا.
* هل على جدول أعمالكم امكانية اللقاء مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اثناء زيارته العاصمة باريس في الفترة المقبلة؟
*** أعتقد انه هو لم يطلب ذلك، ونحن لم نتحدث عن ذلك، وهو أمر مستبعد لجهة العلاقات السياسية المعروفة مع النظام السوري ونحن نتفهم ذلك.
[ وكيف تنظرون الى تصريح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي ودعوته بني معروف للنزوع عن الانخراط في صفوف قتلة النظام؟
*** نحن لا ننتظر من اخواننا اللبنانيين ومن اصدقائنا ومن الناس الذين كانوا بصف الصراع الوطني في لبنان ان يكون موقفهم اقل من ذلك.نحن نعتقد ان الجميع مؤيد لكفاح الشعب ولو كان بعضهم غير قادر على التعبير عن نفسه ونحن نحيي الذين يأخذون المبادرة بتاييد مطالب الشعب السوري وعلى رأسهم وليد جنبلاط وهذا ثاني تصريح له في دعم الشعب السوري من أجل العدالة والحرية.
* سؤال آخير وعلى ماذا تعملون في المرحلة المقبلة؟
*** لدينا كل الخيارات، اذا فشلت مهمة الجامعة العربية سوف نذهب الى مجلس الامن اذا كان هناك امكانية لصوغ قرار يضمن الحد الأدنى من حماية المدنيين سندعم هذا القرار بالتواصل مع بقية الدول التي تؤيدنا وتساعدنا وإذا فشل مجلس الأمن سنفكر ببديل آخر كمؤتمر دولي حول الوضع السوري لاشراك جميع البلدان التي تريد تقديم المساعدة للشعب السوري في كفاحه الراهن وكل الخيارات مفتوحة لدينا.
الثلاثاء، 10 يناير 2012
مكونات الثورة السورية وسياستها
ياسين الحاج صالح
الوجه الأبرز للثورة السورية هو التظاهرة: خروج مجموعات تتراوح بين عشرات الأفراد ومئات ألوفهم إلى الفضاء العام ومحاولة احتلال حيّزات منه لبعض الوقت، مع إطلاق الهتافات ورفع اللافتات المناهضة للنظام والداعية إلى سقوطه. تحيل التظاهرة إلى المكون الميداني للثورة الذي عرفه العالم، وشكّل ولا يزال منبع كرامة السوريين والبرهان على شجاعتهم وجدارتهم بالحرية. ويشمل هذا المكون كل الأفعال الاحتجاجية الإيجابية والسلبية، بما في هذه الإضراب.
للثورة السورية مكونات أخرى. أولها المكون الاجتماعي الداعم للنشاط الميداني. أعني البيئات الاجتماعية المتنوعة التي تحتضن الثورة وتؤمّن الحماية والدعم للثائرين. وهذا المكون متنوع جداً، يشمل أحياناً مناطق وأحياء بأكملها في بعض الحالات، لكنه متشكل في صورة شبكات مساندة في حالات أخرى، مع المشاركة في النشاط الميداني، وإن ليس دوماً بالتواتر المشهود في درعا وحول دمشق، وفي حمص وإدلب ودير الزور وبعض مناطق حلب. الرابط الجامع لهذا المكون الاجتماعي هو التماهي بالثورة كقضية وكفاعلية يومية من جهة، والقطيعة التامة مع النظام. هذا الشيء ربما لا يلحظه سياسيون ومثقفون معارضون للنظام، يفوتهم أن الأمر اليوم لا يتعلق بمعارضة النظام، بل بالانفصال الكلي عنه، وبالاستناد إلى الثورة كحدث مؤسس ومنتج لشرعية جديدة.
ثالث مكونات الثورة هو المكون العسكري. يتعلق الأمر هنا بألوف من الجنود والضباط الذين «انشقوا» عن الجيش النظامي، وفي حالات أقل عن أجهزة أمنية، وتجمعهم مظلة عامة هي «الجيش السوري الحر». وعلى رغم سوء تسليحهم وقلة عددهم، فقد نجح جنود الجيش الحر في فرض درجة من الردع في بعض المناطق، تحول دون مهاجمة قوى النظام التظاهرات السلمية. والواقع أن كثيراً من التظاهرات التي يراها العالم تنال هذه الفسحة من المكان ومن الوقت بفضل هذه الحماية بالذات. وهو ما يوجب تحليلاً أكثر تعقيداً من ذلك الكلام الصوري الذي يقيم تقابلاً بين التظاهرات السلمية والتسلح. في الشروط العيانية السورية اليوم، ليست العلاقة بين الأمرين علاقة تنافٍ، بل هي أقرب إلى علاقة تكامل.
ودور الحماية هذا من جهة، وملابسات انشقاق عناصر الجيش الحر من جهة ثانية، وكون هؤلاء العسكريين هم التجسيد الأقصى للقطيعة مع النظام من جهة ثالثة، تسوّغ اعتبارهم مكوّناً أصيلاً للثورة السورية. لذلك كانوا يستحقون ما هو أكثر من اعتزاز بأفرادهم في تلك الورقة التعيسة الموقّعة بين المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطني في اليوم الأخير من العام المنقضي.
المكون الرابع للثورة السورية هو السياسي. ويشمل هذا المكون السياسي التنظيمات والكتل التي تعتنق قضية الثورة وتعمل على دعمها. كان المجلس الوطني السوري نال شرعية شعبية مهمة، لكنها ليست مضمونة له على الدوام. ويبدو أنها اليوم في تراجع بسبب عدم تمكنه من إعطاء انطباع إيجابي عن نفسه وعمله بعد مؤتمر تونس قبل أسابيع، ثم بخاصة بعد ما تسببت به الورقة المومأ إليها من مشكلات داخلية أضعفته.
لهذا المكون السياسي سمتان ظاهرتان. أولاهما أنه تهيمن عليه المعارضة التقليدية، وهذه في عمومها معارضة قبل ثورية وغير ثورية، لم تغير في نفسها شيئاً بعد الثورة، فلم يغير الله شيئاً مما بها. والسمة الثانية أنها منقسمة، وأن انقسامها متأصل في تكوينها، وأن صراعاتها تحتدّ بدرجة تتناسب طرداً مع حدة الصراع مع النظام، الأمر الذي وفر على الدوام هامش مناورة مريحاً للنظام. ولانقسام المعارضة التقليدية نسق قديم يكاد يكون ثابتاً، لا يشكل التقابل بين المجلس الوطني وهيئة التنسيق غير آخر حلقة من حلقاته.
للثورة السورية مكون ثقافي يضم فنانين وكتاباً واكبوا الثورة بوسائلهم المتنوعة. ولعل في ما أعلن أخيراً من تشكل رابطة للكتّاب السوريين ما قد يكون مأسسة لانشقاق الكتّاب عن النظام. ليس واضحاً بعد كيف ستسير الرابطة، ولا إن كانت ستشكل إطاراً ديموقراطياً فعلياً لتفاعل أو عمل أولئك الذين يتكلمون على الديموقراطية أكثر من غيرهم. يفترض أن تجرى خلال أيام هيكلة الرابطة وانتخاب من يديرونها، وسيكون هذا أول امتحان لـ «أول مولود ديموقراطي للثورة السورية»، على ما قال أحد مؤسسيها.
ومن الخصائص البارزة للثورة السورية أن مكونها الإعلامي مندمج بقوة بالمكون الميداني، وأن المتظاهرين أنفسهم هم من يقومون بتصوير أنشطتهم. وهذا ليس من دون حماية فقط، بل مع استهداف خاص لهؤلاء «الإعلاميين» غير المحترفين. من المحتمل أنه يتمايز ضمن المتظاهرين من يختصون بالتصوير والتسجيل وبث المعلومات، لكن لا يكاد يكون أحد من هؤلاء مختصاً بالإعلام في الأصل.
لكن ينبغي أن تُدرج ضمن المكون الإعلامي للثورة السورية فضائيات عربية، «الجزيرة» و «العربية» بخاصة، وفرت للثورة منابر بث واسعة الانتشار، وساهمت في إبطال مساعي النظام لعزلها وخنقها.
وللثورة مكون اقتصادي أيضاً. وهو يشمل «ناشطين اقتصاديين»، يساهمون في دعم الثورة مادياً. ويتوافر انطباع بأن مساهمة هذا القطاع مهمة ومتزايدة. وهذا شيء غير مسبوق، بالنظر إلى أن أصحاب الأعمال هم الأكثر حذراً، وهم أنفسهم من يقولون عن قطاعهم إنه الأجبن. ويقع على عاتق هذا القطاع جانب من العبء الإغاثي الكبير الذي تتحسن سبل النهوض به، وقد ساعد في صون كرامة أسر وأفراد من الأكثر تماهياً بالثورة.
فهم الثورة السورية يقتضي النظر بتفصيل في كل من هذه المكونات. لكن تحديد مكونات الثورة أمر مهم عملياً، ومن شأنه أن يساعد على وضع السياسة الملائمة لسير الثورة نحو غاياتها المرجوة. يلزم قبل كل شيء ضمان استمرارية النشاط الميداني واتساعه، فهو أساس الثورة ومبدأ استمراريتها، وكل المكونات الأخرى تعتمد عليه، ولا قوام لها من دونه. يلزم بالقدر نفسه توفير الدعم المادي والسياسي للمكون الاجتماعي، والرعاية المادية والسياسية أيضاً للجيش الحر، وتطوير العمل الإغاثي ليشمل أوسع المحتاجين. ويتعين بناء الهياكل السياسية الداعمة للثورة حول هذه المهمات. الثورة هي الداخل السوري الجديد، وبناء السياسة حولها هو ما يعيد السياسة إلى الداخل الوطني، خلافاً لنهج النظام الثابت، وخلافاً لما تقوم به حتى اليوم تشكيلات المعارضة.
الوجه الأبرز للثورة السورية هو التظاهرة: خروج مجموعات تتراوح بين عشرات الأفراد ومئات ألوفهم إلى الفضاء العام ومحاولة احتلال حيّزات منه لبعض الوقت، مع إطلاق الهتافات ورفع اللافتات المناهضة للنظام والداعية إلى سقوطه. تحيل التظاهرة إلى المكون الميداني للثورة الذي عرفه العالم، وشكّل ولا يزال منبع كرامة السوريين والبرهان على شجاعتهم وجدارتهم بالحرية. ويشمل هذا المكون كل الأفعال الاحتجاجية الإيجابية والسلبية، بما في هذه الإضراب.
للثورة السورية مكونات أخرى. أولها المكون الاجتماعي الداعم للنشاط الميداني. أعني البيئات الاجتماعية المتنوعة التي تحتضن الثورة وتؤمّن الحماية والدعم للثائرين. وهذا المكون متنوع جداً، يشمل أحياناً مناطق وأحياء بأكملها في بعض الحالات، لكنه متشكل في صورة شبكات مساندة في حالات أخرى، مع المشاركة في النشاط الميداني، وإن ليس دوماً بالتواتر المشهود في درعا وحول دمشق، وفي حمص وإدلب ودير الزور وبعض مناطق حلب. الرابط الجامع لهذا المكون الاجتماعي هو التماهي بالثورة كقضية وكفاعلية يومية من جهة، والقطيعة التامة مع النظام. هذا الشيء ربما لا يلحظه سياسيون ومثقفون معارضون للنظام، يفوتهم أن الأمر اليوم لا يتعلق بمعارضة النظام، بل بالانفصال الكلي عنه، وبالاستناد إلى الثورة كحدث مؤسس ومنتج لشرعية جديدة.
ثالث مكونات الثورة هو المكون العسكري. يتعلق الأمر هنا بألوف من الجنود والضباط الذين «انشقوا» عن الجيش النظامي، وفي حالات أقل عن أجهزة أمنية، وتجمعهم مظلة عامة هي «الجيش السوري الحر». وعلى رغم سوء تسليحهم وقلة عددهم، فقد نجح جنود الجيش الحر في فرض درجة من الردع في بعض المناطق، تحول دون مهاجمة قوى النظام التظاهرات السلمية. والواقع أن كثيراً من التظاهرات التي يراها العالم تنال هذه الفسحة من المكان ومن الوقت بفضل هذه الحماية بالذات. وهو ما يوجب تحليلاً أكثر تعقيداً من ذلك الكلام الصوري الذي يقيم تقابلاً بين التظاهرات السلمية والتسلح. في الشروط العيانية السورية اليوم، ليست العلاقة بين الأمرين علاقة تنافٍ، بل هي أقرب إلى علاقة تكامل.
ودور الحماية هذا من جهة، وملابسات انشقاق عناصر الجيش الحر من جهة ثانية، وكون هؤلاء العسكريين هم التجسيد الأقصى للقطيعة مع النظام من جهة ثالثة، تسوّغ اعتبارهم مكوّناً أصيلاً للثورة السورية. لذلك كانوا يستحقون ما هو أكثر من اعتزاز بأفرادهم في تلك الورقة التعيسة الموقّعة بين المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطني في اليوم الأخير من العام المنقضي.
المكون الرابع للثورة السورية هو السياسي. ويشمل هذا المكون السياسي التنظيمات والكتل التي تعتنق قضية الثورة وتعمل على دعمها. كان المجلس الوطني السوري نال شرعية شعبية مهمة، لكنها ليست مضمونة له على الدوام. ويبدو أنها اليوم في تراجع بسبب عدم تمكنه من إعطاء انطباع إيجابي عن نفسه وعمله بعد مؤتمر تونس قبل أسابيع، ثم بخاصة بعد ما تسببت به الورقة المومأ إليها من مشكلات داخلية أضعفته.
لهذا المكون السياسي سمتان ظاهرتان. أولاهما أنه تهيمن عليه المعارضة التقليدية، وهذه في عمومها معارضة قبل ثورية وغير ثورية، لم تغير في نفسها شيئاً بعد الثورة، فلم يغير الله شيئاً مما بها. والسمة الثانية أنها منقسمة، وأن انقسامها متأصل في تكوينها، وأن صراعاتها تحتدّ بدرجة تتناسب طرداً مع حدة الصراع مع النظام، الأمر الذي وفر على الدوام هامش مناورة مريحاً للنظام. ولانقسام المعارضة التقليدية نسق قديم يكاد يكون ثابتاً، لا يشكل التقابل بين المجلس الوطني وهيئة التنسيق غير آخر حلقة من حلقاته.
للثورة السورية مكون ثقافي يضم فنانين وكتاباً واكبوا الثورة بوسائلهم المتنوعة. ولعل في ما أعلن أخيراً من تشكل رابطة للكتّاب السوريين ما قد يكون مأسسة لانشقاق الكتّاب عن النظام. ليس واضحاً بعد كيف ستسير الرابطة، ولا إن كانت ستشكل إطاراً ديموقراطياً فعلياً لتفاعل أو عمل أولئك الذين يتكلمون على الديموقراطية أكثر من غيرهم. يفترض أن تجرى خلال أيام هيكلة الرابطة وانتخاب من يديرونها، وسيكون هذا أول امتحان لـ «أول مولود ديموقراطي للثورة السورية»، على ما قال أحد مؤسسيها.
ومن الخصائص البارزة للثورة السورية أن مكونها الإعلامي مندمج بقوة بالمكون الميداني، وأن المتظاهرين أنفسهم هم من يقومون بتصوير أنشطتهم. وهذا ليس من دون حماية فقط، بل مع استهداف خاص لهؤلاء «الإعلاميين» غير المحترفين. من المحتمل أنه يتمايز ضمن المتظاهرين من يختصون بالتصوير والتسجيل وبث المعلومات، لكن لا يكاد يكون أحد من هؤلاء مختصاً بالإعلام في الأصل.
لكن ينبغي أن تُدرج ضمن المكون الإعلامي للثورة السورية فضائيات عربية، «الجزيرة» و «العربية» بخاصة، وفرت للثورة منابر بث واسعة الانتشار، وساهمت في إبطال مساعي النظام لعزلها وخنقها.
وللثورة مكون اقتصادي أيضاً. وهو يشمل «ناشطين اقتصاديين»، يساهمون في دعم الثورة مادياً. ويتوافر انطباع بأن مساهمة هذا القطاع مهمة ومتزايدة. وهذا شيء غير مسبوق، بالنظر إلى أن أصحاب الأعمال هم الأكثر حذراً، وهم أنفسهم من يقولون عن قطاعهم إنه الأجبن. ويقع على عاتق هذا القطاع جانب من العبء الإغاثي الكبير الذي تتحسن سبل النهوض به، وقد ساعد في صون كرامة أسر وأفراد من الأكثر تماهياً بالثورة.
فهم الثورة السورية يقتضي النظر بتفصيل في كل من هذه المكونات. لكن تحديد مكونات الثورة أمر مهم عملياً، ومن شأنه أن يساعد على وضع السياسة الملائمة لسير الثورة نحو غاياتها المرجوة. يلزم قبل كل شيء ضمان استمرارية النشاط الميداني واتساعه، فهو أساس الثورة ومبدأ استمراريتها، وكل المكونات الأخرى تعتمد عليه، ولا قوام لها من دونه. يلزم بالقدر نفسه توفير الدعم المادي والسياسي للمكون الاجتماعي، والرعاية المادية والسياسية أيضاً للجيش الحر، وتطوير العمل الإغاثي ليشمل أوسع المحتاجين. ويتعين بناء الهياكل السياسية الداعمة للثورة حول هذه المهمات. الثورة هي الداخل السوري الجديد، وبناء السياسة حولها هو ما يعيد السياسة إلى الداخل الوطني، خلافاً لنهج النظام الثابت، وخلافاً لما تقوم به حتى اليوم تشكيلات المعارضة.
الانتفاضة وتحول العلاقات الداخلية في سورية
فايز سارة
يميل بعض السوريين للقول إن ما يحدث في سورية يعكس في أحد جوانبه تحولاً في طبيعة العلاقات الداخلية القائمة بين السوريين، وأساسها علاقات الإخضاع والسيطرة التي ترسخت في نحو خمسة عقود من حكم حزب البعث، والتي تتواصل محاولات سورية جدية ومستمرة لاستبدالها بأخرى، حيث يتجه سوريون اليوم إلى إعادة ترتيب علاقاتهم الداخلية وفق سياق جديد، ينبذ السيطرة والإخضاع، ويوفر قواعد للتضامن والمساعدة في تعبيرات، أخذت تتزايد منذ انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر في آذار (مارس) الماضي.
وبطبيعة الحال، فإن الكلام عن علاقات الإخضاع والسيطرة يقودنا إلى قول إن تلك العلاقات لم تكن فقط نتيجة استخدام المؤسستين العسكرية والأمنية، بل من خلال استخدام أدوات وهيئات استخدمت الأيديولوجيا والسياسة والدعاية والتنظيم لإحكام قبضة السلطة على المجتمع كله، بالتزامن مع تكثيف عمليات إخضاع قطاعية موجهة إلى فئات المجتمع المختلفة.
وجاء حزب البعث الذي اعتبره الدستور السوري قائداً للدولة والمجتمع في مقدم أدوات الإخضاع بإعطائه دوراً واسع الطيف في رسم مسارات الحياة العامة كما حياة الأفراد. إذ بالاستناد إلى القرب منه أو البعد عنه تتحدد السياسات والمصائر في مجالات مهمة كالدراسة والعمل وخيارات أخرى، وحيث لم يحضر تأثير البعث حضرت الجبهة الوطنية التقدمية بأحزابها وتكويناتها الحليفة للبعث في فرض تأثيراتها الإخضاعية.
ولا تقتصر أدوات الإخضاع العامة على البعث وجبهته، بل تشمل أطراً عامة من الاتحادات التي تدخلت على نطاق واسع في حياة السوريين، والتي تبدأ أولى حلقاتها في منظمة طلائع البعث الخاصة بالأطفال، وبدء إخضاعهم من المدارس الابتدائية، ليتم بعدها الانتقال إلى مرحلة أخرى تتواصل عبر تنظيمهم في اتحاد شبيبة الثورة، وهو هيئة شبابية لا يقتصر وجودها على المؤسسات التعليمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، بل يشمل تنظيمها الشباب في أماكن العمل والسكن أيضاً، وذلك قبل أن يظهر دور الاتحادات القطاعية، كاتحاد الطلاب الذي يفرض حضوره في الجامعات والمعاهد السورية، ويمد نفوذه إلى الطلاب في الخارج، واتحاد العمال الذي ينظم السيطرة والإخضاع على العاملين في القطاعات العامة والخاصة والمشتركة، والاتحاد العام النسائي، ومن خلاله تتم عملية ضبط السوريات في إطار إخضاعهن للقيم والسياسات المطروحة.
وعملية الإخضاع العامة تجد لها سنداً ودعماً كبيرين في حلقات أضيق، تكون العضوية فيها محدودة، وإن كانت أكثر فاعلية في مستوى المجتمع. وهو ما يمكن ملاحظته في مضامين أنشطة اتحادات قطاعية نوعية كاتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة، واتحادي الكتّاب والصحافيين، والأمر يتكرر في نقابات مهنية بينها نقابة المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين والمعلمين وغيرها من اتحادات ونقابات تغطي كل أنشطة السوريين، لدرجة يصعب معها القول إن هناك فئة قطاعية غير منظمة، بحيث لا تتوافر لها آلية ضبط وإخضاع. وهكذا صار بالإمكان وجود مستويين: مستوى إخضاع المجموع العام بمواصفاته المحددة، ومستوى إخضاع الفئات المختصة من النخبة الموزعة على الاختصاصات كافة.
والنتائج العملية لسياسة الإخضاع، لم تتجسد فقط في تكريس النظام السياسي القائم، وهو الهدف الأساس من العملية، بل تجاوزتها إلى تهميش النخبة وتدمير وظائفها النقدية في الحياة والمجتمع، ودفعها على طريق تلبية احتياجاتها المادية بكل الطرق والأشكال والأساليب. ولعل المثال الأبرز على الخراب الذي أصاب النخبة يتمثل في موقفها السلبي مما شهدته سورية في الأشهر العشرة الماضية، والذي هو بصرف النظر عن صحة أو خطأ مواقف الموالين والمعارضين، يمثل أهم تحد تعيشه سورية منذ ولادة كيانها السياسي الحديث.
لقد خلقت تلك المستويات من السيطرة حافزاً هائلاً لدى الحراك الشعبي للانعتاق من السيطرة والخروج نحو فضاءات الحرية. ولعل التعبير الأبرز عن التحول الرافض أن اياً من أدوات السيطرة والإخضاع وتنظيماتها لم تظهر أو تثبت وجودها وتأثيرها في صفوف الحراك الشعبي، بل غابت بصورة كلية، وكأنها لم تكن، وجاءت مبادرات تجاوزت الحالة بتفاصيلها إلى محاولة خلق أطر بديلة لها خلفيات سياسية واجتماعية وبنى تنظيمية، لم يقتصر وجودها على منطقة سورية واحدة، بل امتد في مختلف أنحاء البلاد، ليصل إلى أوساط الجاليات في المهجر.
لقد رسم الحراك الشعبي تعبيراته الأولى في لجان ذات طابع محلي هدفها إعادة ترتيب العلاقات في المناطق المحددة، وهو أمر يعني تجاوز علاقات الإخضاع والسيطرة، التي كانوا منظمين في إطارها، والتوجه نحو خلق أسس لعلاقات جديدة. ومن هذه النقطة ظهرت أشكال مختلفة من الهيئات والتنظيمات والاتحادات. بل إن كل واحدة من التجارب، وإن تشابهت بالأسماء، اختلفت في بعض الملامح طبقاً لوعي ومعرفة واحتياجات الذين نظموها، ومنها تنسيقيات المدن والأحياء والقرى، التي تهتم بصورة أساسية بمتابعة الحراك الشعبي وفاعلياته وبخاصة حركة التظاهر.
وأضاف الحراك الشعبي وحواضنه الاجتماعية إلى اهتمامه بالتظاهرات، باعتبارها الأهم في فاعلياته، توجهه نحو إعادة ترتيب أوضاعه وعلاقاته بصورة منفصلة عما كان قائماً من قبل، وجرى إطلاق تحالفات وجماعات سياسية، وتنظيمات أهلية ومدنية، وتنظيمات قطاعية، ولعل بين آخر تلك التشكيلات تأسيس لجان المواطنة والسلم الأهلي، التي ضمت ناشطين وفاعليات اجتماعية واقتصادية بهدف تعزيز السلم الأهلي ومعالجة المشاكل الموروثة، والتصدي للمشكلات التي تظهر على خلفية الأحداث الجارية نتيجة تواصل الحل الأمني/ العسكري. كما أن بين التشكيلات الأخيرة ظهور رابطة الكتاب السوريين، والتي يفترض أن تحل مكان اتحاد الكتاب العرب، وقد أثبت ككل الاتحادات الأخرى أنه بعيد عن هموم السوريين، وما تواجهه البلاد من تحديات كبرى.
والأساس الذي يحكم تشكيل ما سبق من كيانات وهيئات، إنما هو رغبة المشاركين فيها وخياراتهم واحتياجاتهم ومستويات وعيهم. فما تمت إقامته يقع في إطار العلاقات الحرة والمنفتحة والمتعددة، التي لا تقوم فقط بين الأفراد المنخرطين في تلك التجارب، بل أيضاً بين تلك التجارب نفسها.
إن هتافات المتظاهرين ودعم الحواضن الاجتماعية لحركات الاحتجاج والتظاهر، تبين على نحو واضح حقيقة التغييرات الجارية في علاقات السوريين الداخلية.
ففي مختلف الأنحاء، تجرى عمليات واسعة للدعم المادي للمناطق المتضررة بالأحداث، وهو دعم لا يقتصر على المواد الغذائية والألبسة والتجهيزات والأدوية وغيرها. بل يشمل تبادل عبوات الدم في دلالة على توحد السوريين ودمهم في مواجهة المحنة وتحدياتها، وهو توجه تكرسه لأول مرة هتافات المتظاهرين الداعين إلى الحرية والكرامة ووحدة السوريين وتضامنهم مع بعضهم بعضاً، وكلها هتافات لم تكن موجودة من قبل، بل هي ولدت في إطار ثورة السوريين، لتكون التعبير العلني عن التغييرات التي يسعى إليها السوريون في علاقاتهم الداخلية..
يميل بعض السوريين للقول إن ما يحدث في سورية يعكس في أحد جوانبه تحولاً في طبيعة العلاقات الداخلية القائمة بين السوريين، وأساسها علاقات الإخضاع والسيطرة التي ترسخت في نحو خمسة عقود من حكم حزب البعث، والتي تتواصل محاولات سورية جدية ومستمرة لاستبدالها بأخرى، حيث يتجه سوريون اليوم إلى إعادة ترتيب علاقاتهم الداخلية وفق سياق جديد، ينبذ السيطرة والإخضاع، ويوفر قواعد للتضامن والمساعدة في تعبيرات، أخذت تتزايد منذ انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر في آذار (مارس) الماضي.
وبطبيعة الحال، فإن الكلام عن علاقات الإخضاع والسيطرة يقودنا إلى قول إن تلك العلاقات لم تكن فقط نتيجة استخدام المؤسستين العسكرية والأمنية، بل من خلال استخدام أدوات وهيئات استخدمت الأيديولوجيا والسياسة والدعاية والتنظيم لإحكام قبضة السلطة على المجتمع كله، بالتزامن مع تكثيف عمليات إخضاع قطاعية موجهة إلى فئات المجتمع المختلفة.
وجاء حزب البعث الذي اعتبره الدستور السوري قائداً للدولة والمجتمع في مقدم أدوات الإخضاع بإعطائه دوراً واسع الطيف في رسم مسارات الحياة العامة كما حياة الأفراد. إذ بالاستناد إلى القرب منه أو البعد عنه تتحدد السياسات والمصائر في مجالات مهمة كالدراسة والعمل وخيارات أخرى، وحيث لم يحضر تأثير البعث حضرت الجبهة الوطنية التقدمية بأحزابها وتكويناتها الحليفة للبعث في فرض تأثيراتها الإخضاعية.
ولا تقتصر أدوات الإخضاع العامة على البعث وجبهته، بل تشمل أطراً عامة من الاتحادات التي تدخلت على نطاق واسع في حياة السوريين، والتي تبدأ أولى حلقاتها في منظمة طلائع البعث الخاصة بالأطفال، وبدء إخضاعهم من المدارس الابتدائية، ليتم بعدها الانتقال إلى مرحلة أخرى تتواصل عبر تنظيمهم في اتحاد شبيبة الثورة، وهو هيئة شبابية لا يقتصر وجودها على المؤسسات التعليمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، بل يشمل تنظيمها الشباب في أماكن العمل والسكن أيضاً، وذلك قبل أن يظهر دور الاتحادات القطاعية، كاتحاد الطلاب الذي يفرض حضوره في الجامعات والمعاهد السورية، ويمد نفوذه إلى الطلاب في الخارج، واتحاد العمال الذي ينظم السيطرة والإخضاع على العاملين في القطاعات العامة والخاصة والمشتركة، والاتحاد العام النسائي، ومن خلاله تتم عملية ضبط السوريات في إطار إخضاعهن للقيم والسياسات المطروحة.
وعملية الإخضاع العامة تجد لها سنداً ودعماً كبيرين في حلقات أضيق، تكون العضوية فيها محدودة، وإن كانت أكثر فاعلية في مستوى المجتمع. وهو ما يمكن ملاحظته في مضامين أنشطة اتحادات قطاعية نوعية كاتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة، واتحادي الكتّاب والصحافيين، والأمر يتكرر في نقابات مهنية بينها نقابة المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين والمعلمين وغيرها من اتحادات ونقابات تغطي كل أنشطة السوريين، لدرجة يصعب معها القول إن هناك فئة قطاعية غير منظمة، بحيث لا تتوافر لها آلية ضبط وإخضاع. وهكذا صار بالإمكان وجود مستويين: مستوى إخضاع المجموع العام بمواصفاته المحددة، ومستوى إخضاع الفئات المختصة من النخبة الموزعة على الاختصاصات كافة.
والنتائج العملية لسياسة الإخضاع، لم تتجسد فقط في تكريس النظام السياسي القائم، وهو الهدف الأساس من العملية، بل تجاوزتها إلى تهميش النخبة وتدمير وظائفها النقدية في الحياة والمجتمع، ودفعها على طريق تلبية احتياجاتها المادية بكل الطرق والأشكال والأساليب. ولعل المثال الأبرز على الخراب الذي أصاب النخبة يتمثل في موقفها السلبي مما شهدته سورية في الأشهر العشرة الماضية، والذي هو بصرف النظر عن صحة أو خطأ مواقف الموالين والمعارضين، يمثل أهم تحد تعيشه سورية منذ ولادة كيانها السياسي الحديث.
لقد خلقت تلك المستويات من السيطرة حافزاً هائلاً لدى الحراك الشعبي للانعتاق من السيطرة والخروج نحو فضاءات الحرية. ولعل التعبير الأبرز عن التحول الرافض أن اياً من أدوات السيطرة والإخضاع وتنظيماتها لم تظهر أو تثبت وجودها وتأثيرها في صفوف الحراك الشعبي، بل غابت بصورة كلية، وكأنها لم تكن، وجاءت مبادرات تجاوزت الحالة بتفاصيلها إلى محاولة خلق أطر بديلة لها خلفيات سياسية واجتماعية وبنى تنظيمية، لم يقتصر وجودها على منطقة سورية واحدة، بل امتد في مختلف أنحاء البلاد، ليصل إلى أوساط الجاليات في المهجر.
لقد رسم الحراك الشعبي تعبيراته الأولى في لجان ذات طابع محلي هدفها إعادة ترتيب العلاقات في المناطق المحددة، وهو أمر يعني تجاوز علاقات الإخضاع والسيطرة، التي كانوا منظمين في إطارها، والتوجه نحو خلق أسس لعلاقات جديدة. ومن هذه النقطة ظهرت أشكال مختلفة من الهيئات والتنظيمات والاتحادات. بل إن كل واحدة من التجارب، وإن تشابهت بالأسماء، اختلفت في بعض الملامح طبقاً لوعي ومعرفة واحتياجات الذين نظموها، ومنها تنسيقيات المدن والأحياء والقرى، التي تهتم بصورة أساسية بمتابعة الحراك الشعبي وفاعلياته وبخاصة حركة التظاهر.
وأضاف الحراك الشعبي وحواضنه الاجتماعية إلى اهتمامه بالتظاهرات، باعتبارها الأهم في فاعلياته، توجهه نحو إعادة ترتيب أوضاعه وعلاقاته بصورة منفصلة عما كان قائماً من قبل، وجرى إطلاق تحالفات وجماعات سياسية، وتنظيمات أهلية ومدنية، وتنظيمات قطاعية، ولعل بين آخر تلك التشكيلات تأسيس لجان المواطنة والسلم الأهلي، التي ضمت ناشطين وفاعليات اجتماعية واقتصادية بهدف تعزيز السلم الأهلي ومعالجة المشاكل الموروثة، والتصدي للمشكلات التي تظهر على خلفية الأحداث الجارية نتيجة تواصل الحل الأمني/ العسكري. كما أن بين التشكيلات الأخيرة ظهور رابطة الكتاب السوريين، والتي يفترض أن تحل مكان اتحاد الكتاب العرب، وقد أثبت ككل الاتحادات الأخرى أنه بعيد عن هموم السوريين، وما تواجهه البلاد من تحديات كبرى.
والأساس الذي يحكم تشكيل ما سبق من كيانات وهيئات، إنما هو رغبة المشاركين فيها وخياراتهم واحتياجاتهم ومستويات وعيهم. فما تمت إقامته يقع في إطار العلاقات الحرة والمنفتحة والمتعددة، التي لا تقوم فقط بين الأفراد المنخرطين في تلك التجارب، بل أيضاً بين تلك التجارب نفسها.
إن هتافات المتظاهرين ودعم الحواضن الاجتماعية لحركات الاحتجاج والتظاهر، تبين على نحو واضح حقيقة التغييرات الجارية في علاقات السوريين الداخلية.
ففي مختلف الأنحاء، تجرى عمليات واسعة للدعم المادي للمناطق المتضررة بالأحداث، وهو دعم لا يقتصر على المواد الغذائية والألبسة والتجهيزات والأدوية وغيرها. بل يشمل تبادل عبوات الدم في دلالة على توحد السوريين ودمهم في مواجهة المحنة وتحدياتها، وهو توجه تكرسه لأول مرة هتافات المتظاهرين الداعين إلى الحرية والكرامة ووحدة السوريين وتضامنهم مع بعضهم بعضاً، وكلها هتافات لم تكن موجودة من قبل، بل هي ولدت في إطار ثورة السوريين، لتكون التعبير العلني عن التغييرات التي يسعى إليها السوريون في علاقاتهم الداخلية..
قراءة من بكين للموقف الصيني من الربيع العربي
شوي تشينغ قوه (بسام
تلقيت قبل أيام رسالة إلكترونية من عنوان مجهول تحمل «بيان اتحاد المثقفين العرب بشأن الموقف الصيني غير الأخلاقي تجاه الشعب السوري»، وعلى رغم أني لم آخذه مأخذ الجد لأنه صادر من جهة لم أسمع بها ولم أجد معلومات ذات قيمة عنها في الإنترنت، إلا أنه جاء ضمن ما قرأت في الأشهر الماضية من الآراء والتعليقات المماثلة حول الموقف الصيني من الربيع العربي ومن الأحداث السورية خصوصاً، وبالتالي عزز انطباعي بأن هذا الموقف قد أسيء فهمه عربياً إلى حد كبير. لذا، سأحاول في هذه المقالة أن أضع بين أيدي القراء العرب قراءتي الشخصية لهذا الموقف بصفتي مثقفاً أكاديمياً تابع أحداث الربيع العربي وردود الفعل عليها، عربياً وصينياً، منذ اندلاعه حتى اليوم.
ما هي حقيقة الموقف الصيني من الربيع العربي؟
ألخصه بالنقاط الآتية:
أولاً، تدعم الصين جهود الحكومات العربية للحفاظ على السلام والاستقرار في بلدانها، على أن تلجأ هذه الجهود إلى وسائل شرعية وسلمية.
ثانياً، تطالب الصين هذه الحكومات في الوقت نفسه، باحترام المطالب الشرعية للشعوب العربية التي تنادي بالحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان، والاستجابة لها. من هنا نتبين أن الصين تحرص على إيجاد نوع من التوازن بين موقفها من الحكومات وموقفها من المعارضات.
ثالثاً، تدعو الصين إلى حل الأزمات بالحوار وبالوسائل السلمية وفي إطار جامعة الدول العربية، وترفض بشدة التدخل الغربي في الشؤون العربية، خصوصاً إذا كان هذا التدخل ينبئ باستخدام القوة العسكرية.
رابعاً، تبذل الصين ما وفي وسعها للتوسط بين الأطراف المتنازعة، في الساحة السورية بالتحديد، بغية تحقيق المصالحة بينها وتفادي الصراع العسكري والحرب الأهلية.
ترقب وقلق
خامساً، لم تتعود الصين بعدُ على ظاهرة جديدة في الشرق الأوسط، تتمثل في ظهور هوة كبيرة وفي شكل جلي بين الحكومات والشعوب، بل بين صفوف أبناء الشعب الواحد، في الحالة السورية مثلاً. لذا، يتخلل الموقف الصيني شيء من الترقب الحذر، بل الحيرة والقلق أيضاً، خصوصاً أن الغموض ما زال يلف الأوضاع الراهنة والآفاق المستقبلية في الكثير من الدول العربية.
سادساً، يتحلى الموقف الصيني بحدّ من المرونة ما يوفّر لبكين المجال لتعديل سياساتها في المستقبل ومواجهة أية سيناريوات محتملة.
وفي رأيي أن هذا الموقف الصيني يأتي نتيجة طبيعية للواقع الصيني الراهن ووليداً للثقافة الصينية. أقول ذلك للأسباب الآتية:
1- هو موقف مبدئي ينسجم مع المرجعيات والمبادئ التي تحرص الصين عليها في وضع سياساتها الخارجية: تسوية الخلافات عبر الحوار والتفاوض، رفض الحرب كأسلوب لحل النزاعات مهما كانت الذرائع، رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلدان، والاحترام للوحدة والسيادة الوطنية. وعلى رغم أن هذه المبادئ أصبحت منذ فترة موضع خلافات عميقة لدى بعض الناس، إلا أن الطروحات البديلة لها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة وخطرة.
2- هذا الموقف يخدم مصلحة الصين التي ترى أن الاستقرار في المنطقة مفيد لها وللعالم أجمع، وبخاصة في ظل الأرمة الاقتصادية التي تضرب العالم كله اليوم. فلا شك في أن الاضطرابات العربية، إذا انفلت الأمر، ستزيد الطين بلة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي والاقتصاد الصيني، لما تمثله المنطقة من أهمية قصوى في الإمداد النفطي والسوق الكبيرة.
أسباب الفيتو
3- يستند الموقف الصيني إلى خبرات وتجارب في التاريخ المعاصر، فالتدخل الغربي في الشؤون العربية طوال العقود الماضية لم يفلح في حل أي من القضايا العربية، بل زاد الأمور تعقيداً وصعوبة. فالتدخل الغربي خلق دولة إسرائيل في عمق العالم العربي وخلق معها صراعات ومآسيَ استمرت لأكثر من ستين عاماً ولا أحد يعلم كم من السنين ستستمر في المستقبل. وفي العراق، أدى التدخل الأميركي إلى تدمير بلد عربي عريق وغني ومتماسك، بعد ثماني سنوات من حرب كلفت أميركا أثماناً باهظة، أرواحاً وأموالاً، وأوقعت العراق في انقسامات وأزمات عميقة، إضافة إلى قتلها مئات الآلاف من شعبه. وفي السودان، أدى التدخل الغربي إلى تقسيم هذا البلد الغني بالنفط، وإلى ظهور بوادر صراعات جديدة في الجنوب وفي الشمال.
كما أن التاريخ المعاصر أثبت أن الحصار المفروض على بلد ما لا يؤثر في السلطة بقدر ما يؤثر في الشعب، فالسلطة تستطيع دائماً إيجاد الحيل والسبل لتظل باقية رغم الحصار، كما الحال في العراق وإيران وكوبا وكوريا الشمالية، أما الشعب فهو الذي يعاني مرارة الانعكاسات السلبية للحصار.
وبناء على هذه الخبرات التاريخية استخدمت الصين (مع روسيا) حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لما يحتويه هذا المشروع من فرض حصار على سورية وتمهيد الطريق للتدخل العسكري فيها. إذًا، فالنقض الصيني كان ضد الحصار وضد التدخل، ومن الخطأ أن يُفهم على أنه ضد الثورة وضد الشعب.
4- يأتي الموقف الصيني منسجماً مع طبيعة الثقافة الصينية ونمط التفكير الصيني، لأن الثقافة الصينية تقوم على منظومة القيم التي صاغت الهوية الصينية الحالية: منها الاعتدال، فالحكيم كونفوشيوس يعتبر أن «الاعتدال هو المثل الأعلى للفضائل»، وأن «الإفراط كالتفريط». ومنها الحرص على السلام وتجنب الحرب بقدر المستطاع، فيقول المعلم التاوي لاو تسي: «السلاح أداة الشؤم لا أداة إنسان كريم، وإذا كان مضطراً إلى استخدامه استخدمه في حدود». كما يقول سون تسي صاحب الكتاب الشهير «فن الحرب»: «إن الحرب من جلائل أمور الدولة، حيث يكمن الموت والحياة، إنها طريق يؤدي إلى الوجود بقدر ما يؤدي إلى الهلاك، فلا يمكن إلا النظر فيها بعناية وتأنّ.» ومنها احترام الصداقة التقليدية، فالإنسان الصيني يشعر بشيء من الدهشة عندما يرى أن زعيماً غربياً مثل ساركوزي أو برلوسكوني كان في الأمس القريب يعانق معمر القذافي بحرارة يهاجمه بعد فترة وجيزة بغارات جوية عليه، ومن الصعب تصورُ فعل مماثل يأتي من زعيم صيني مع أي زعيم عربي صديق.
رؤية صينية للثورة
5- قد لا أجانب الصواب إذا قلت إن الرؤية الصينية للثورة تختلف عن الرؤية العربية ذات المسحة الرومانسية، فالشعب الصيني عانى بما فيه الكفاية من الثورات وأشباهها طوال القرن الماضي، وخصوصاً من «الثورة الثقافية» التي أطلقها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، والتي أوقعت الصين في تهلكة شاملة اقتصادياً وثقافياً وديبلوماسياً. لذا، نرى الصينيين ينظرون إلى الثورة بشيء من الشك والريبة، إلى حد أن تعبيراً مثل «فلان هو ثوري» في اللغة الصينية اليوم لا يحمل إلا دلالات سلبية تعني الجمود حيناً والتطرف حيناً آخر.
ومن أحاديث الساعة في الأوساط الثقافية الصينية الجدال الساخن الذي أثارته ثلاث مقالات نشرها الكاتب الصيني الشاب هان هان في مدونته على الإنترنت، حول الثورة والديموقراطية والحرية، وقد شارك في هذا الجدال العلني الليبراليون والمحافظون وعامة زوار الإنترنت ووسائل الإعلام الرسمية أيضاً، والكاتب هان هان يقيم حالياً في شنغهاي ويحظى بشعبية واسعة للغاية بين عشرات الملايين من قرائه ومحبيه في المدن الصنيية، وهو معروف بانتقاداته اللاذعة للحكومة الصينية. وأحب أن أقتبس من هذه المقالات الفقرات الآتية:
- «في دول ذات بنى اجتماعية معقدة، لا سيما في الدول الشرقية، لا يحصد ثمار الثورة في النهاية إلا أصحاب المكر والقسوة. وبكل صراحة أقول: على رغم أن الثورة كلمة رنانة جذابة قد يخيل للبعض أنها تجلب فوائد سريعة، إلا أنها ليست خياراً سليماً للصين، إنما الخيار الأكيد للصين هو الإصلاح الحقيقي».
- «يربط المثقفون عادة بين الديموقراطية والحرية، لكن نتيجة الديموقراطية هي انعدام الحرية في كثير من الأحيان».
- «تتطلب الثورة الوقت الكافي لتتبلور نتائجها. وفي بلاد مترامية الأطراف مثل الصين، كثيراً ما تقترن الثورة بشيوع الفوضى والفراغ السياسي والصراعات بين أمراء الحرب، وإذا استمرت الفوضى لخمس سنوات أو عشر، فسيعود الشعب ليتطلع إلى ظهور قائد مستبد لترتيب أوراق البلاد حتى يستتب الأمن ويتحقق الاستقرار».
- «غالباً ما تكون عيوب الحزب الشيوعي الصيني هي عيوب الشعب نفسه، وليس الحزب إلا تسمية، كذلك النظام أو السلطة. أما التغيير الحقيقي فلن يحدث إلا إذا تغير الشعب. وهنا تكمن أهمية الإصلاح. ينبغي التركيز على الأمور الجذرية مثل سيادة القانون والتعليم والثقافة».
نجيب محفوظ وأدونيس
أقتبس هذه الفقرات لأنها في رأيي ليست مفيدة فقط لفهم أوضاع الصين، بل مفيدة لقراءة الربيع العربي أيضاً، كما أنها تذكرني بآراء مماثلة أبداها بعض المثقفين العرب الكبار حول الثورات العربية، فقد سبق أن قال نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش: «من خلال قراءتي في التاريخ، وبخاصة تاريخ الثورات الكبرى، وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً، وهي أن الثورة يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ويفوز بها الجبناء». (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. ص 216)، ويكتب أدونيس ضمن ما يكتبه عن الربيع العربي: «لا يتم تغيير المجتمع بمجرد تغيير حكّامه. قد ينجح هذا التغيير في إحلال حكّام أقل تعنفاً أو أكثر ذكاء، ولكنه لا يحل المشكلات الأساسية التي تنتج الفساد والتخلف. إذاً، لا بد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكام، أعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية». (في ضوء اللحظة السورية، 31 آذار/ مارس 2011، جريدة «الحياة»).
والملفت للنظر في التجربة الصينية أنه في مناسبة الذكرى المئوية للثورة الصينية عام 1911 التي أطاحت النظام الملكي وأنشأت أول جمهورية في الصين، توصل بعض المؤرخين من خلال دراستهم الجادة إلى نتيجة مفادها أن الثورات الصينية في المئة سنة الماضية أضرّت بالبلاد أكثر مما أفادتها، وأن الإصلاح والتنمية والبناء هي التي حققت للصين نهضتها الحالية، والتي بوأتها عرش ثاني أكبر اقتصاد في العالم اعتباراً من الفصل الأول لعام 2011، في حين أن البلاد كانت تندرج ضمن أفقر دول العالم في أعقاب الثورة الثقافية في سبعينات القرن الماضي.
ولم أقصد بهذه السطور التقليل من أهمية الثورة في تقدم الشعوب، إنما أقصد، استلهاماً من تجربتنا في الصين، أن الثورة ليست الخيار الوحيد لتغيير الوضع، وأن الثورة تحمل في طياتها سلبيات هائلة قد لا يدركها الثوار، إضافة إلى أن الثورة وحدها لا تصنع التقدم، بل لا بد من العمل الدؤوب في الإصلاح والتنمية من أجل كسب التقدم الحقيقي.
خلاصة القول، إن الموقف الصيني من الربيع العربي هو موقف متوازن، عقلاني، منسجم مع الثقافة الصينية، ونابع من التجربة الصينية الخاصة. وهو موقف قد لا يلقى استحساناً آنياً لدى بعض الأصدقاء العرب، ولكنه لا يتناقض مع المصلحة العليا والبعيدة المدى للشعوب العربية.
أخيراً، أحب أن أشير إلى أن الصين تحتاج إلى بذل جهود أكبر من أجل كسب التفاهم والثقة من الشعوب العربية، وعليها أن تعزز ما يعرف بـ «الديبلوماسية العامة» أو «بناء القوة الناعمة»، حيث ينبغي أن تشرح سياساتها للجمهور العربي بمنطق مقنع ولغة مفهومة مع مراعاة الخلفيات والنفسيات العربية، وأهم من ذلك، ينبغي عليها أن تخطو خطوات أكبر في الإصلاح السياسي، حتى تكون قدوة للعالم الثالث، ليس في مجال الاقتصاد فقط، بل في نشر الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم الكونية أيضاً.
إنه لأمر لا بد للصين منه، إذ إن صديقها في العالم العربي كان وما زال وسيظل الشعوب العربية، التي أيقظ الربيع العربي وعيها بضرورة الانعتاق من قيم الاستبداد لتحتضن قيم التحرر والتقدم والإنسانية.
* باحث في الأدب العربي والشؤون العربية، أستاذ في «جامعة الدراسات الأجنبية» - بكين
تلقيت قبل أيام رسالة إلكترونية من عنوان مجهول تحمل «بيان اتحاد المثقفين العرب بشأن الموقف الصيني غير الأخلاقي تجاه الشعب السوري»، وعلى رغم أني لم آخذه مأخذ الجد لأنه صادر من جهة لم أسمع بها ولم أجد معلومات ذات قيمة عنها في الإنترنت، إلا أنه جاء ضمن ما قرأت في الأشهر الماضية من الآراء والتعليقات المماثلة حول الموقف الصيني من الربيع العربي ومن الأحداث السورية خصوصاً، وبالتالي عزز انطباعي بأن هذا الموقف قد أسيء فهمه عربياً إلى حد كبير. لذا، سأحاول في هذه المقالة أن أضع بين أيدي القراء العرب قراءتي الشخصية لهذا الموقف بصفتي مثقفاً أكاديمياً تابع أحداث الربيع العربي وردود الفعل عليها، عربياً وصينياً، منذ اندلاعه حتى اليوم.
ما هي حقيقة الموقف الصيني من الربيع العربي؟
ألخصه بالنقاط الآتية:
أولاً، تدعم الصين جهود الحكومات العربية للحفاظ على السلام والاستقرار في بلدانها، على أن تلجأ هذه الجهود إلى وسائل شرعية وسلمية.
ثانياً، تطالب الصين هذه الحكومات في الوقت نفسه، باحترام المطالب الشرعية للشعوب العربية التي تنادي بالحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان، والاستجابة لها. من هنا نتبين أن الصين تحرص على إيجاد نوع من التوازن بين موقفها من الحكومات وموقفها من المعارضات.
ثالثاً، تدعو الصين إلى حل الأزمات بالحوار وبالوسائل السلمية وفي إطار جامعة الدول العربية، وترفض بشدة التدخل الغربي في الشؤون العربية، خصوصاً إذا كان هذا التدخل ينبئ باستخدام القوة العسكرية.
رابعاً، تبذل الصين ما وفي وسعها للتوسط بين الأطراف المتنازعة، في الساحة السورية بالتحديد، بغية تحقيق المصالحة بينها وتفادي الصراع العسكري والحرب الأهلية.
ترقب وقلق
خامساً، لم تتعود الصين بعدُ على ظاهرة جديدة في الشرق الأوسط، تتمثل في ظهور هوة كبيرة وفي شكل جلي بين الحكومات والشعوب، بل بين صفوف أبناء الشعب الواحد، في الحالة السورية مثلاً. لذا، يتخلل الموقف الصيني شيء من الترقب الحذر، بل الحيرة والقلق أيضاً، خصوصاً أن الغموض ما زال يلف الأوضاع الراهنة والآفاق المستقبلية في الكثير من الدول العربية.
سادساً، يتحلى الموقف الصيني بحدّ من المرونة ما يوفّر لبكين المجال لتعديل سياساتها في المستقبل ومواجهة أية سيناريوات محتملة.
وفي رأيي أن هذا الموقف الصيني يأتي نتيجة طبيعية للواقع الصيني الراهن ووليداً للثقافة الصينية. أقول ذلك للأسباب الآتية:
1- هو موقف مبدئي ينسجم مع المرجعيات والمبادئ التي تحرص الصين عليها في وضع سياساتها الخارجية: تسوية الخلافات عبر الحوار والتفاوض، رفض الحرب كأسلوب لحل النزاعات مهما كانت الذرائع، رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلدان، والاحترام للوحدة والسيادة الوطنية. وعلى رغم أن هذه المبادئ أصبحت منذ فترة موضع خلافات عميقة لدى بعض الناس، إلا أن الطروحات البديلة لها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة وخطرة.
2- هذا الموقف يخدم مصلحة الصين التي ترى أن الاستقرار في المنطقة مفيد لها وللعالم أجمع، وبخاصة في ظل الأرمة الاقتصادية التي تضرب العالم كله اليوم. فلا شك في أن الاضطرابات العربية، إذا انفلت الأمر، ستزيد الطين بلة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي والاقتصاد الصيني، لما تمثله المنطقة من أهمية قصوى في الإمداد النفطي والسوق الكبيرة.
أسباب الفيتو
3- يستند الموقف الصيني إلى خبرات وتجارب في التاريخ المعاصر، فالتدخل الغربي في الشؤون العربية طوال العقود الماضية لم يفلح في حل أي من القضايا العربية، بل زاد الأمور تعقيداً وصعوبة. فالتدخل الغربي خلق دولة إسرائيل في عمق العالم العربي وخلق معها صراعات ومآسيَ استمرت لأكثر من ستين عاماً ولا أحد يعلم كم من السنين ستستمر في المستقبل. وفي العراق، أدى التدخل الأميركي إلى تدمير بلد عربي عريق وغني ومتماسك، بعد ثماني سنوات من حرب كلفت أميركا أثماناً باهظة، أرواحاً وأموالاً، وأوقعت العراق في انقسامات وأزمات عميقة، إضافة إلى قتلها مئات الآلاف من شعبه. وفي السودان، أدى التدخل الغربي إلى تقسيم هذا البلد الغني بالنفط، وإلى ظهور بوادر صراعات جديدة في الجنوب وفي الشمال.
كما أن التاريخ المعاصر أثبت أن الحصار المفروض على بلد ما لا يؤثر في السلطة بقدر ما يؤثر في الشعب، فالسلطة تستطيع دائماً إيجاد الحيل والسبل لتظل باقية رغم الحصار، كما الحال في العراق وإيران وكوبا وكوريا الشمالية، أما الشعب فهو الذي يعاني مرارة الانعكاسات السلبية للحصار.
وبناء على هذه الخبرات التاريخية استخدمت الصين (مع روسيا) حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لما يحتويه هذا المشروع من فرض حصار على سورية وتمهيد الطريق للتدخل العسكري فيها. إذًا، فالنقض الصيني كان ضد الحصار وضد التدخل، ومن الخطأ أن يُفهم على أنه ضد الثورة وضد الشعب.
4- يأتي الموقف الصيني منسجماً مع طبيعة الثقافة الصينية ونمط التفكير الصيني، لأن الثقافة الصينية تقوم على منظومة القيم التي صاغت الهوية الصينية الحالية: منها الاعتدال، فالحكيم كونفوشيوس يعتبر أن «الاعتدال هو المثل الأعلى للفضائل»، وأن «الإفراط كالتفريط». ومنها الحرص على السلام وتجنب الحرب بقدر المستطاع، فيقول المعلم التاوي لاو تسي: «السلاح أداة الشؤم لا أداة إنسان كريم، وإذا كان مضطراً إلى استخدامه استخدمه في حدود». كما يقول سون تسي صاحب الكتاب الشهير «فن الحرب»: «إن الحرب من جلائل أمور الدولة، حيث يكمن الموت والحياة، إنها طريق يؤدي إلى الوجود بقدر ما يؤدي إلى الهلاك، فلا يمكن إلا النظر فيها بعناية وتأنّ.» ومنها احترام الصداقة التقليدية، فالإنسان الصيني يشعر بشيء من الدهشة عندما يرى أن زعيماً غربياً مثل ساركوزي أو برلوسكوني كان في الأمس القريب يعانق معمر القذافي بحرارة يهاجمه بعد فترة وجيزة بغارات جوية عليه، ومن الصعب تصورُ فعل مماثل يأتي من زعيم صيني مع أي زعيم عربي صديق.
رؤية صينية للثورة
5- قد لا أجانب الصواب إذا قلت إن الرؤية الصينية للثورة تختلف عن الرؤية العربية ذات المسحة الرومانسية، فالشعب الصيني عانى بما فيه الكفاية من الثورات وأشباهها طوال القرن الماضي، وخصوصاً من «الثورة الثقافية» التي أطلقها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، والتي أوقعت الصين في تهلكة شاملة اقتصادياً وثقافياً وديبلوماسياً. لذا، نرى الصينيين ينظرون إلى الثورة بشيء من الشك والريبة، إلى حد أن تعبيراً مثل «فلان هو ثوري» في اللغة الصينية اليوم لا يحمل إلا دلالات سلبية تعني الجمود حيناً والتطرف حيناً آخر.
ومن أحاديث الساعة في الأوساط الثقافية الصينية الجدال الساخن الذي أثارته ثلاث مقالات نشرها الكاتب الصيني الشاب هان هان في مدونته على الإنترنت، حول الثورة والديموقراطية والحرية، وقد شارك في هذا الجدال العلني الليبراليون والمحافظون وعامة زوار الإنترنت ووسائل الإعلام الرسمية أيضاً، والكاتب هان هان يقيم حالياً في شنغهاي ويحظى بشعبية واسعة للغاية بين عشرات الملايين من قرائه ومحبيه في المدن الصنيية، وهو معروف بانتقاداته اللاذعة للحكومة الصينية. وأحب أن أقتبس من هذه المقالات الفقرات الآتية:
- «في دول ذات بنى اجتماعية معقدة، لا سيما في الدول الشرقية، لا يحصد ثمار الثورة في النهاية إلا أصحاب المكر والقسوة. وبكل صراحة أقول: على رغم أن الثورة كلمة رنانة جذابة قد يخيل للبعض أنها تجلب فوائد سريعة، إلا أنها ليست خياراً سليماً للصين، إنما الخيار الأكيد للصين هو الإصلاح الحقيقي».
- «يربط المثقفون عادة بين الديموقراطية والحرية، لكن نتيجة الديموقراطية هي انعدام الحرية في كثير من الأحيان».
- «تتطلب الثورة الوقت الكافي لتتبلور نتائجها. وفي بلاد مترامية الأطراف مثل الصين، كثيراً ما تقترن الثورة بشيوع الفوضى والفراغ السياسي والصراعات بين أمراء الحرب، وإذا استمرت الفوضى لخمس سنوات أو عشر، فسيعود الشعب ليتطلع إلى ظهور قائد مستبد لترتيب أوراق البلاد حتى يستتب الأمن ويتحقق الاستقرار».
- «غالباً ما تكون عيوب الحزب الشيوعي الصيني هي عيوب الشعب نفسه، وليس الحزب إلا تسمية، كذلك النظام أو السلطة. أما التغيير الحقيقي فلن يحدث إلا إذا تغير الشعب. وهنا تكمن أهمية الإصلاح. ينبغي التركيز على الأمور الجذرية مثل سيادة القانون والتعليم والثقافة».
نجيب محفوظ وأدونيس
أقتبس هذه الفقرات لأنها في رأيي ليست مفيدة فقط لفهم أوضاع الصين، بل مفيدة لقراءة الربيع العربي أيضاً، كما أنها تذكرني بآراء مماثلة أبداها بعض المثقفين العرب الكبار حول الثورات العربية، فقد سبق أن قال نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش: «من خلال قراءتي في التاريخ، وبخاصة تاريخ الثورات الكبرى، وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً، وهي أن الثورة يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ويفوز بها الجبناء». (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. ص 216)، ويكتب أدونيس ضمن ما يكتبه عن الربيع العربي: «لا يتم تغيير المجتمع بمجرد تغيير حكّامه. قد ينجح هذا التغيير في إحلال حكّام أقل تعنفاً أو أكثر ذكاء، ولكنه لا يحل المشكلات الأساسية التي تنتج الفساد والتخلف. إذاً، لا بد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكام، أعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية». (في ضوء اللحظة السورية، 31 آذار/ مارس 2011، جريدة «الحياة»).
والملفت للنظر في التجربة الصينية أنه في مناسبة الذكرى المئوية للثورة الصينية عام 1911 التي أطاحت النظام الملكي وأنشأت أول جمهورية في الصين، توصل بعض المؤرخين من خلال دراستهم الجادة إلى نتيجة مفادها أن الثورات الصينية في المئة سنة الماضية أضرّت بالبلاد أكثر مما أفادتها، وأن الإصلاح والتنمية والبناء هي التي حققت للصين نهضتها الحالية، والتي بوأتها عرش ثاني أكبر اقتصاد في العالم اعتباراً من الفصل الأول لعام 2011، في حين أن البلاد كانت تندرج ضمن أفقر دول العالم في أعقاب الثورة الثقافية في سبعينات القرن الماضي.
ولم أقصد بهذه السطور التقليل من أهمية الثورة في تقدم الشعوب، إنما أقصد، استلهاماً من تجربتنا في الصين، أن الثورة ليست الخيار الوحيد لتغيير الوضع، وأن الثورة تحمل في طياتها سلبيات هائلة قد لا يدركها الثوار، إضافة إلى أن الثورة وحدها لا تصنع التقدم، بل لا بد من العمل الدؤوب في الإصلاح والتنمية من أجل كسب التقدم الحقيقي.
خلاصة القول، إن الموقف الصيني من الربيع العربي هو موقف متوازن، عقلاني، منسجم مع الثقافة الصينية، ونابع من التجربة الصينية الخاصة. وهو موقف قد لا يلقى استحساناً آنياً لدى بعض الأصدقاء العرب، ولكنه لا يتناقض مع المصلحة العليا والبعيدة المدى للشعوب العربية.
أخيراً، أحب أن أشير إلى أن الصين تحتاج إلى بذل جهود أكبر من أجل كسب التفاهم والثقة من الشعوب العربية، وعليها أن تعزز ما يعرف بـ «الديبلوماسية العامة» أو «بناء القوة الناعمة»، حيث ينبغي أن تشرح سياساتها للجمهور العربي بمنطق مقنع ولغة مفهومة مع مراعاة الخلفيات والنفسيات العربية، وأهم من ذلك، ينبغي عليها أن تخطو خطوات أكبر في الإصلاح السياسي، حتى تكون قدوة للعالم الثالث، ليس في مجال الاقتصاد فقط، بل في نشر الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم الكونية أيضاً.
إنه لأمر لا بد للصين منه، إذ إن صديقها في العالم العربي كان وما زال وسيظل الشعوب العربية، التي أيقظ الربيع العربي وعيها بضرورة الانعتاق من قيم الاستبداد لتحتضن قيم التحرر والتقدم والإنسانية.
* باحث في الأدب العربي والشؤون العربية، أستاذ في «جامعة الدراسات الأجنبية» - بكين
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)