فايز سارة
يميل بعض السوريين للقول إن ما يحدث في سورية يعكس في أحد جوانبه تحولاً في طبيعة العلاقات الداخلية القائمة بين السوريين، وأساسها علاقات الإخضاع والسيطرة التي ترسخت في نحو خمسة عقود من حكم حزب البعث، والتي تتواصل محاولات سورية جدية ومستمرة لاستبدالها بأخرى، حيث يتجه سوريون اليوم إلى إعادة ترتيب علاقاتهم الداخلية وفق سياق جديد، ينبذ السيطرة والإخضاع، ويوفر قواعد للتضامن والمساعدة في تعبيرات، أخذت تتزايد منذ انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر في آذار (مارس) الماضي.
وبطبيعة الحال، فإن الكلام عن علاقات الإخضاع والسيطرة يقودنا إلى قول إن تلك العلاقات لم تكن فقط نتيجة استخدام المؤسستين العسكرية والأمنية، بل من خلال استخدام أدوات وهيئات استخدمت الأيديولوجيا والسياسة والدعاية والتنظيم لإحكام قبضة السلطة على المجتمع كله، بالتزامن مع تكثيف عمليات إخضاع قطاعية موجهة إلى فئات المجتمع المختلفة.
وجاء حزب البعث الذي اعتبره الدستور السوري قائداً للدولة والمجتمع في مقدم أدوات الإخضاع بإعطائه دوراً واسع الطيف في رسم مسارات الحياة العامة كما حياة الأفراد. إذ بالاستناد إلى القرب منه أو البعد عنه تتحدد السياسات والمصائر في مجالات مهمة كالدراسة والعمل وخيارات أخرى، وحيث لم يحضر تأثير البعث حضرت الجبهة الوطنية التقدمية بأحزابها وتكويناتها الحليفة للبعث في فرض تأثيراتها الإخضاعية.
ولا تقتصر أدوات الإخضاع العامة على البعث وجبهته، بل تشمل أطراً عامة من الاتحادات التي تدخلت على نطاق واسع في حياة السوريين، والتي تبدأ أولى حلقاتها في منظمة طلائع البعث الخاصة بالأطفال، وبدء إخضاعهم من المدارس الابتدائية، ليتم بعدها الانتقال إلى مرحلة أخرى تتواصل عبر تنظيمهم في اتحاد شبيبة الثورة، وهو هيئة شبابية لا يقتصر وجودها على المؤسسات التعليمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، بل يشمل تنظيمها الشباب في أماكن العمل والسكن أيضاً، وذلك قبل أن يظهر دور الاتحادات القطاعية، كاتحاد الطلاب الذي يفرض حضوره في الجامعات والمعاهد السورية، ويمد نفوذه إلى الطلاب في الخارج، واتحاد العمال الذي ينظم السيطرة والإخضاع على العاملين في القطاعات العامة والخاصة والمشتركة، والاتحاد العام النسائي، ومن خلاله تتم عملية ضبط السوريات في إطار إخضاعهن للقيم والسياسات المطروحة.
وعملية الإخضاع العامة تجد لها سنداً ودعماً كبيرين في حلقات أضيق، تكون العضوية فيها محدودة، وإن كانت أكثر فاعلية في مستوى المجتمع. وهو ما يمكن ملاحظته في مضامين أنشطة اتحادات قطاعية نوعية كاتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة، واتحادي الكتّاب والصحافيين، والأمر يتكرر في نقابات مهنية بينها نقابة المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين والمعلمين وغيرها من اتحادات ونقابات تغطي كل أنشطة السوريين، لدرجة يصعب معها القول إن هناك فئة قطاعية غير منظمة، بحيث لا تتوافر لها آلية ضبط وإخضاع. وهكذا صار بالإمكان وجود مستويين: مستوى إخضاع المجموع العام بمواصفاته المحددة، ومستوى إخضاع الفئات المختصة من النخبة الموزعة على الاختصاصات كافة.
والنتائج العملية لسياسة الإخضاع، لم تتجسد فقط في تكريس النظام السياسي القائم، وهو الهدف الأساس من العملية، بل تجاوزتها إلى تهميش النخبة وتدمير وظائفها النقدية في الحياة والمجتمع، ودفعها على طريق تلبية احتياجاتها المادية بكل الطرق والأشكال والأساليب. ولعل المثال الأبرز على الخراب الذي أصاب النخبة يتمثل في موقفها السلبي مما شهدته سورية في الأشهر العشرة الماضية، والذي هو بصرف النظر عن صحة أو خطأ مواقف الموالين والمعارضين، يمثل أهم تحد تعيشه سورية منذ ولادة كيانها السياسي الحديث.
لقد خلقت تلك المستويات من السيطرة حافزاً هائلاً لدى الحراك الشعبي للانعتاق من السيطرة والخروج نحو فضاءات الحرية. ولعل التعبير الأبرز عن التحول الرافض أن اياً من أدوات السيطرة والإخضاع وتنظيماتها لم تظهر أو تثبت وجودها وتأثيرها في صفوف الحراك الشعبي، بل غابت بصورة كلية، وكأنها لم تكن، وجاءت مبادرات تجاوزت الحالة بتفاصيلها إلى محاولة خلق أطر بديلة لها خلفيات سياسية واجتماعية وبنى تنظيمية، لم يقتصر وجودها على منطقة سورية واحدة، بل امتد في مختلف أنحاء البلاد، ليصل إلى أوساط الجاليات في المهجر.
لقد رسم الحراك الشعبي تعبيراته الأولى في لجان ذات طابع محلي هدفها إعادة ترتيب العلاقات في المناطق المحددة، وهو أمر يعني تجاوز علاقات الإخضاع والسيطرة، التي كانوا منظمين في إطارها، والتوجه نحو خلق أسس لعلاقات جديدة. ومن هذه النقطة ظهرت أشكال مختلفة من الهيئات والتنظيمات والاتحادات. بل إن كل واحدة من التجارب، وإن تشابهت بالأسماء، اختلفت في بعض الملامح طبقاً لوعي ومعرفة واحتياجات الذين نظموها، ومنها تنسيقيات المدن والأحياء والقرى، التي تهتم بصورة أساسية بمتابعة الحراك الشعبي وفاعلياته وبخاصة حركة التظاهر.
وأضاف الحراك الشعبي وحواضنه الاجتماعية إلى اهتمامه بالتظاهرات، باعتبارها الأهم في فاعلياته، توجهه نحو إعادة ترتيب أوضاعه وعلاقاته بصورة منفصلة عما كان قائماً من قبل، وجرى إطلاق تحالفات وجماعات سياسية، وتنظيمات أهلية ومدنية، وتنظيمات قطاعية، ولعل بين آخر تلك التشكيلات تأسيس لجان المواطنة والسلم الأهلي، التي ضمت ناشطين وفاعليات اجتماعية واقتصادية بهدف تعزيز السلم الأهلي ومعالجة المشاكل الموروثة، والتصدي للمشكلات التي تظهر على خلفية الأحداث الجارية نتيجة تواصل الحل الأمني/ العسكري. كما أن بين التشكيلات الأخيرة ظهور رابطة الكتاب السوريين، والتي يفترض أن تحل مكان اتحاد الكتاب العرب، وقد أثبت ككل الاتحادات الأخرى أنه بعيد عن هموم السوريين، وما تواجهه البلاد من تحديات كبرى.
والأساس الذي يحكم تشكيل ما سبق من كيانات وهيئات، إنما هو رغبة المشاركين فيها وخياراتهم واحتياجاتهم ومستويات وعيهم. فما تمت إقامته يقع في إطار العلاقات الحرة والمنفتحة والمتعددة، التي لا تقوم فقط بين الأفراد المنخرطين في تلك التجارب، بل أيضاً بين تلك التجارب نفسها.
إن هتافات المتظاهرين ودعم الحواضن الاجتماعية لحركات الاحتجاج والتظاهر، تبين على نحو واضح حقيقة التغييرات الجارية في علاقات السوريين الداخلية.
ففي مختلف الأنحاء، تجرى عمليات واسعة للدعم المادي للمناطق المتضررة بالأحداث، وهو دعم لا يقتصر على المواد الغذائية والألبسة والتجهيزات والأدوية وغيرها. بل يشمل تبادل عبوات الدم في دلالة على توحد السوريين ودمهم في مواجهة المحنة وتحدياتها، وهو توجه تكرسه لأول مرة هتافات المتظاهرين الداعين إلى الحرية والكرامة ووحدة السوريين وتضامنهم مع بعضهم بعضاً، وكلها هتافات لم تكن موجودة من قبل، بل هي ولدت في إطار ثورة السوريين، لتكون التعبير العلني عن التغييرات التي يسعى إليها السوريون في علاقاتهم الداخلية..