الجمعة، 30 يوليو 2010

تحية إلى عباس بيضون

عباس بيضون نهر الإبداع الباحث عن مصب
بقلم: طلال سلمان
بين عباس بيضون وبيني ذلك الود العميق الذي يربط بين مختلفين.
فأنا، بداية، أحبه كإنسان رقيق، عنيد، متدفق موهبة، مشاكس حتى التصادم إذا ما اقتضى الأمر، مبدع، مجدد، صريح في رأيه حتى القسوة دون تخوّف من الإحراج، ودود ولكنه لا ينافق ولا يقبل النفاق من غيره.
إنه هو عباس بيضون. لقد تعب مع زمانه حتى بنى نفسه بنفسه، كتاباً كتاباً، في الدين كما في التراث، في الثقافة كما في السياسة، في الأدب شعراً ونثراً، في حياته الاستثنائية التي تحس في لحظات أنه قد أقام بناءها بيديه، باندفاعاتها وتدرجاتها، بالرغبة والمزاج الخاص كما بالانتقاء الذي يملك التبرير المقنع لخياراته فيه.
قرأ كثيراً كثيراً وهو ابن البيئة الثقافية العاملية حيث تقرر مجرى الحياة الأمهات قبل الآباء، ومجالس النجفيين قبل المدارس، ومناخ التحدي الذي فرضته الهزيمة في فلسطين بكل ارتداداتها على الوطن العربي عموماً، وعلى لبنان مجتمعاً وإن كان لجنوبه حصة إضافية لها نكهتها الخاصة حيث تختلط المرارة بالتصميم، وحيث تعنف روح الثورة على الواقع المهين، بالموروث العاقر فيه وإرادة التغيير ولو بالسلاح إلى جانب الفكر الذي يملك مفاتيح باب المستقبل.
لقد أمضى عمره الأول يقرأ، وأمضى عمره الثاني يقرأ، وأمضى عمره الثالث يقرأ، ومع أنه كان يكتب على هامش قراءاته، إلا أنه كان دائماً يسعى لأن يمتلك لغته الخاصة، أسلوبه الخاص، منهجه الخاص.
سافر في التراث إلى ما خلف الجاهلية، وأقام زمناً في القرآن والحديث وكتب التفسير ومناقشات العامليين الذين عادوا من النجف بعدما علموها الشعر والجدل الفكري انتفاعاً بباب الاجتهاد المفتوح. ثم اندفع مع حركة التجديد والتجدد حتى صار منها وفيها.
وكما الغاوون فقد اتبع الشعراء. جلس بينهم يتعلم. ووقف بينهم يجادل. أطلق شعره نهراً. هزوا رؤوسهم إعجاباً، وعندما أرادوا أن يمتحنوه صفق الباب خلفه ومضى يبني نفسه مجدداً وقد أخذ عنهم أكثر مما أخذ منهم، ثم عكف على نحت لغته الخاصة.
ومنذ أن جاء إلى «السفير» كاتباً ـ شاعراً ـ ناقداً وصاحب رأي أثار عواصف كثيرة وهو يكتب قناعاته التي كثيراً ما كانت تتعارض بل تتصادم مع قناعات زملائه و«المسؤولين» عن صفحات الثقافة التي كان يريدها مفتوحة على الاختلاف، لا تحبس نفسها في نمطية معينة، ولا تمنع عنها من تعتبره خارجاً على خطها.
ولأنه عنيد، ومتميز، وصاحب موهبة فقد استحق موقعه كمدير للتحرير ـ مسؤول عن الثقافة في «السفير»، وبخاصة الملحق الثقافي الذي رعاه بنور عينيه.
ولأن لكل منا رأيه وقناعاته واجتهاداته السياسية فقد كنا نختلف كثيراً، ولا نكاد نتلاقى إلا على البديهيات. وكنت أستمتع (ولعله هو أيضاً كان يستمتع) بالجدل وبتدفق عباس بشروحاته وبيناته الدالة على صحة موقفه. وأظنه كان يستمتع باستعراض حججه التي يراها منطقية قبل أن ينصرف وقد امتلأت الأرض بجثث «ناقصي الموهبة» أو «سارقي إبداعات غيرهم» أو «خطباء المناسبات بالسجع السياسي».
كنت أخرج من معظم المواجهات مهزوماً.. فهو موسوعي المعرفة، متعمق في التراث العربي، شعراً ونثراً وتفسيراً وسيرة، ومتابع لينابيع الثقافة الغربية وحركة تحولاتها التي تجاوزت الكلاسيكيات وأبدعت جديداً لم يقطع مع الموروث تماماً ولكنه لم يصنمه ولم يقف عنده تائهاً، وإن كان قد تخطاه مفيداً من حركة التطور الإنساني وتدفقاتها العلمية الهائلة التي غيّرت الكون فصغّرت العالم وربطت بين أنحائه فارضة عليه لغتها الجديدة ومفاهيمها الثورية التي يلهث أبناء العالم القديم خلفها محاولين استدراك ما فاتهم، ولو بكلفة عالية قد تدفعهم أحياناً إلى التنكر لحقائق تكوينهم.
في غيابه المؤقت الآن والذي أرجو ألا يطول اكتشفت كم أحب هذا الصعلوك الملكي في مواقفه، وكم أقدّر هذا النهر من الثقافة الذي يتدفق غزيراً، لا توقفه «عصمة» الموروث، ولا تحد من اندفاعاته مجاملات الأصدقاء والزملاء كتاباً وشعراء وروائيين. لقد اختار خطه وانتهى الأمر.
من باب «الاستغابة» التي لن يعاتبني عليها بعد خروجه من المستشفى سليماً معافى، بإذن الله، يمكنني هنا أن أكشف واحداً من أسرار عباس بيضون الذي صمد رأسه أمام الصدمة لكثافة ما يحويه من ضروب الثقافة ومن دواوين شعر لا تنتظر غير إملائها.
السر يتلخص في واقعة يعرف القراء ظاهرها فقط، أي أن «السفير» قد نشرت حتى تاريخه نحو مئة وخمسة وعشرين كتاباً، في سلسلة «كتاب للجميع»، وهي الهدية التي توزعها «السفير» بالاشتراك مع «دار المدى»، ومعها وبعض الصحف العربية الأخرى في الأسبوع الثاني من كل شهر.
أما ما لا يعرفه القراء فهو أن عباس بيضون قد كتب المقدمات التعريفية بالكتب والكتاب جميعاً، من ذاكرته ذات التلافيف التي تحوي مكتبات كاملة، فيها بعض كلاسيكيات التراث (العربي والأجنبي)، كما فيها رفوف عديدة لإبداعات كتاب غادرونا قبل عقود قليلة.
أظن أن عباس بيضون النائم الآن في العناية الفائقة، حاضراً غائباً، يعي بعض من وما حوله ويستغرب استمراره نائماً ولا قلم في يمناه يسرح به على الورق بسطور غير منتظمة وبخط لا يقرأه إلا الراسخون في علم اللغة البيضونية، سيخرج من «الصدمة» بملحمة قد يقطعها مجموعة من الدواوين (مسايرة للعصر.. وتسهيلاً للترجمة!).
وأظن أن أول ما سوف يفعله حين يعود إلى مكتبه معافى أنه سيبدع فناً جديداً تحت عنوان الإبحار شعراً في قلب الغياب.
نفتقد حضورك المشاغب، يا عباس، وننتظر عودتك إلى قرائك وإلى زملائك وأساساً إلى المختلفين معك، وهم أكثر من افتقدك.
... ولسوف أقتحم دواوينك المرصوفة على رفوف مكتبتي والتي خفت أن تغويني فتخرجني من «الكلاسيكية» وعليها، فأقرأها لأتأكد من أن ما قلته فيك أقل مما تستحق... حتى لو لم أفهم تماماً ما أردت أن تقوله شعراً بعدما أعياك قوله نثراً.

الاثنين، 26 يوليو 2010

أبو داوود ودرس الوحدة الثوري

بقلم سعود المولى
كان ذلك في أواخر صيف 1972...كنت قد خرجت من منظمة العمل الشيوعي على رأس إنشقاق صغير في القطاع الطلابي إبتدأ لحظة عملية ميونيخ التي قادها أبو داوود...وقررنا بعدها الإنضمام إلى حركة فتح من خلال تيارها الثوري اليساري الذي كنا نعرف من رموزه منير شفيق.. تعرّفنا من خلال أبو فادي (منير) على رفيقيه أبو ابراهيم (ناجي علوش) وأبو داوود (محمد داوود عودة)، كما تعرّفنا أيضاً على صبري البنا أبو نضال وذلك في زيارة خاصة قمنا بها إلى بغداد يومها...وفهمنا أننا جزء من تنظيم يساري عربي يختلف عن الأحزاب الموسكوبية في تشديده على محورية القضية الفلسطينية كرأس حربة للثورة العربية الشاملة، وعلى دور الجماهير من خلال الكفاح المسلح وحرب الشعب... كانت ماوية منير شفيق تستهوينا وهو الخارج من تجربة الحزب الشيوعي الأردني..في حين إكتشفنا أن قومية ناجي علوش وصبري البنا ومحمد عودة تعود إلى ماضيهم البعثي المشترك...ولعلهم مروا بتجربة مع علي صالح السعدي والحرس القومي ثم مع ما سمي بيسار البعث، ولم تعجبهم نخبوية وثقافوية تيار حزب العمال العربي الثوري اللاحق ، فاختاروا كما غيرهم نضالية وثوروية وجماهيرية حركة فتح يومذاك...ومن خلال هذا الرباعي الفتحاوي الثوري تعرفنا أيضاً على كل التشكيلة اليسارية الفتحاوية المتنوعة التي جاءت من الأردن بعد أيلول ال70 حاملة معها شحناً ثورياً عالياً وتناقضات فكرية وخلافات شخصية كان لها الدور الأبرز في خياراتها.. جاء يساريو فتح من عمان وهم يحلمون بتجربة ثورية أفضل لا تكرر أخطاء اليسار المتطرف في الأردن (شعارات كل السلطة للمقاومة ولا سلطة فوق سلطة المقاومة...وكل السلطة لمجالس العمال والفلاحين..الخ..)..ولكنهم كانوا أيضاً ناقمين على قياداتهم الفتحاوية التي فرطت بالجماهير الأردنية وتركتها وغادرت المدن إلى أحراش جرش وعجلون حيث سهل تصفيتها في تموز 1971..أذكر هنا من الأصدقاء اليساريين جماعة لجنة الأردن في سوريا: قدري وكفاح وجمعة، والشهيد الدكتور حنا ميخائيل (أبو عمر) وزوجته جيهان الحلو وشقيقتها شادية، ونزيه أبو نضال، وأبو حاتم، وأبو نائل، وأبو خالد الصين، والمرحوم صخر، ويحيى يخلف وأحمد عبد الرحمن ونبيل عبد الرحمن..الخ...وذلك قبل أن ينضم إليهم عضو اللجنة المركزية المرحوم أبو صالح ومعه الظباط القادمين من لواء اليرموك (أبو خالد العملة وأبو موسى)..
كان أبو داوود نخلة عمان وقائد الميليشيا فيها، الذي لم يقبل بما جرى بعد أيلول من حل للميليشيا ونزع سلاحها، وكان موقفه هو نفس موقف معظم اليسار الفتحاوي يومذاك.. إلا أن ردود هذا اليسار تفاوتت ما بين " التناقض والممارسة" لمنير شفيق و"نحو ثورة جديدة" لناجي علوش، وما بين دعوة إلى تحالف يسراوي واسع يتغطى بالإتحاد السوفياتي، وأخرى ماوية صينية تريد حرب الشعب طويلة الأمد ، وتيار ثالث يدعو للخط الفيتنامي..الخ.. وصولاً إلى إنحياز أبو نضال لصف الإرهاب الثوري مدعوماً بعلاقته بالنظام العراقي يومذاك.. إختار أبو داوود العمل مع أيلول الأسود ليرتبط بعلاقة خاصة مع أبو أياد استمرت حتى وفاة الأخير..وبعد عملية ميونيخ الشهيرة (أيلول 1972)، مارس أبو داوود ورفاقه طريق المغامرات العسكرية في الأردن إنطلاقاً من تقدير مفاده أن الجرح لا يزال طرياً والجماهير لا تزال معبأة ما يجعل أية عملية عسكرية ولو إنقلابية تحظى بإحتضان جماهيري وتعيد الثورة إلى موقع تفاوضي قوي مع النظام الأردني...يومها فشلت محاولة أبوداوود الجريئة أو لعله تم إفشالها من داخل حركة فتح ..وتم إعتقاله مع مجموعته قبل تنفيذ العملية...أذكر أنني هتفت في مظاهرة إنطلقت من جامعة بيروت العربية : "أبو داوود لعيونك والكوفية.. شعبي بعمان صار كله فدائية".. ثم خرج أبو داوود من سجون الأردن ليمارس دوره مسؤولاً عن جهاز خاص بفتح (جهاز الحركة الوطنية اللبنانية)، كانت مهمته تدريب وتأطير وإعداد مناضلي الأحزاب اليسارية للحرب..وكنت ورفاقي الخارجين من الأحزاب أول من عمل معه على تدعيم وتقوية هذا الجهاز... وقد كتب أبو داوود في مذكراته عن تلك التجربة التي قادته وقادتنا إلى زواريب البرجاوي ورأس النبع وخندق الغميق والشياح...وصولاً إلى قمم صنين..
كانت تلك السنوات سنوات كل التناقضات والصراعات داخل الثورة الفلسطينية.. إختلف اليسار الفتحاوي حول الموقف من حرب تشرين ومن طبيعة نظام السادات.. وبعد طرح برنامج النقاط العشرة إنقسم اليسار الفلسطيني حول مسألة الدولة الفلسطينية وطرق النضال لتحقيقها...إلا أن الإنقسام الحقيقي جاء لاحقاً مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية...إختلف منير شفيق ورفاقه أبو إبراهيم وأبو داوود وأبو نضال، وتكرّس الإنشقاق بينهم بكراسات كتبها ناجي علوش يشرح أسباب الخلاف.. ثم أسس ناجي حركة باسم الثورة العربية الديمقراطية الشعبية تحوّلت إلى منظمة عربية ضمت خصوصاً توانسة خارجين من تجربة العامل التونسي...ولمع نجم أبو نضال في الحرب ضد حركة فتح وقياداتها.. وصرنا نحن ما عرف باسم السرية ثم الكتيبة الطلابية...
في كل هذه المحطات كما في ما تلاها لم يتخل أبو داوود عن ثوريته ضد الأنظمة العربية وعن قوميته الشعبية التي كان يرى أنها حصن فتح والثورة.. لم ينضم إلى تيار القرار الوطني المستقل ولا إلى تيار الماوية الحالمة المقاتلة من أجل الثورة العالمية... إكتفى بالتموضع الفتحاوي الداخلي على أمل تعديل موازين القوى الداخلية من خلال عمل خارجي..ولعله شارك أبو إبراهيم وأبو نضال في محاولة الإنقلاب التي جرت ربيع 1978 ولا نعلم صحة إتهام ابو نضال له بأنه هو وناجي أفشلا المحاولة وباعاها إلى أبو اياد...انتهت علاقة الثلاثي بقسوة...أصدر أبو نضال حكمه بالإعدام على رفاق الأمس وتمكن من إغتيال عدد من كوادر تنظيم ناجي علوش فيما هرب الباقون وتشتت شملهم في منافي الأرض...وعاد أبو داوود إلى حضن فتح وذراع أبو أياد... واستمر وفياً للحركة ولفلسطين يقدم الوحدة الوطنية والنصيحة والرأي والمشورة دون أن يكون فاعلاً في الصراعات الداخلية..لا بل أنه إختار المصالحة والمهادنة الداخلية والحوار حتى في أقسى لحظات الإنقسام مثل إنشقاق فتح الإنتفاضة عام 1983 أو الصراع حول أوسلو وحول ما بعد أوسلو...
عن هذه الروح الفتحاوية التي لم تعد موجودة اليوم أذكر أنني كنت أراجع يوماً الشهيد أبو جهاد في موضوع يتعلق بالداخل فطلب مني الرجوع إلى الشهيد ماجد أبو شرار..فدهشت لمعرفتي أن ماجد كان محسوباً على التيار اليساري السوفياتي المعارض لتيار أبو جهاد..يومها قال لي أبو جهاد لا تندهش المهم أن تعرف أن ما يجمعنا هو فلسطين.. وكلنا وطنيون في خدمة فلسطين..وحين تعرض أبو السعيد (خالد الحسن) لأزمة صحية كبيرة (منتصف الثمانينيات) طلب مني أبو جهاد (وكنت في فرنسا يومها) أن أسهر قربه في المستشفى الفرنسي الذي نقل إليه..وكنت وأنا قرب سريره في المستشفى أتحاور معه في حين كان هو يتلقى إتصالات يومية من أبو جهاد وأبو عمار و... أبو صالح .. وكنت أمازحه قائلاً "يا أبو السعيد يبدو أنكم ضحكتم علينا فلا يمين ولا يسار عندكم بل أنتم ماسونية... يومها رد قائلاً نعم نحن ماسونية من أجل فلسطين.. وكان ابو السعيد من إسلاميي حزب التحرير قبل إلتحاقه بفتح، وكان هو وأبو صالح على طرفي نقيض في كل شيء باستثناء موقفهما من عرفات وقيادته للحركة... هكذا كان الإختلاف السياسي يومها لا يفسد وداً بين الناس..ولا يورث أحقاداً وعداوة..
وكان هذا نفس موقف معظم قادة حركة الانتفاضة الذين ما تركوا علاقتهم بحركتهم الأم وظلوا يحاورون ويحاولون رأب الصدع رغم بعد الشقة وكان أبو داوود وسيطهم في ذلك..وقد رجع الكثيرون منهم إلى تونس ومنها إلى غزة وصاروا اليوم من قادة الداخل الفلسطيني والمجلس الثوري..
لم يغفر الصهاينة لنخلة عمان دوره في أيلول الأسود وخصوصاً في ميونيخ.. وحاولوا إغتياله مراراً ما اضطره للاختفاء في بلدان شرقية حتى إنهيار المنظومة السوفياتية التي تزامن معها إغتيال صديقه ورفيق دربه ابو أياد في تونس قبل بدء عملية "تحرير الكويت".....
رحم الله أبو داوود وكل شهداء الثورة الفلسطينية... نتعلم منهم دروس الوحدة مع الخلاف، وممارسة الوحدة في ذروة الصراعات الداخلية...وكلهم كانوا يحفظون مقولة تقديم التناقض الرئيسي على كل التناقضات الثانوية حتى الأساسية منها.. إلى حين تحرير فلسطين... فقد كانوا جميعاً أبناء ذلك الجيل الذي وعى التجربة الجزائرية وعاشها وعاش التجربة الفيتنامية ودرس ووعى التجربة الصينية...وصولاً إلى تجربة الثورة الفلسطينية نفسها منذ ثورة البراق 1929... كم نحن اليوم بحاجة إلى أمثال أبو داوود وأبو أياد وأبو جهاد وأبو عمار وجورج حبش والشيخ أحمد ياسين، لكي تتحقق الوحدة الوطنية على ثوابت الشعب الفلسطيني التاريخية ولكي تتحقق إنطلاقة جديدة للنضال الوطني الفلسطيني...

محمد حسين فضل الله: أحب فلسطين وثورتها.. وبادلته حباً ووفاء

بقلم: سعود المولى
برحيل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله تقفل دائرة المرجعيات الفكرية والحركية للإسلام الشيعي المعاصر.. كما تفقد حركة التحرر الوطني العربية والحركة الإسلامية العربية برحيله علماً من أعلام الثورة والمقاومة والتغيير.. وينطوي معه جيل من العظماء الخالدين كما تنطوي صفحة مجيدة من تاريخ الفكر الشيعي المستنير في هذا العصر..
غير أن الخسارة الأكبر والأبرز هي خسارة فلسطين وشعبها وثورتها لرجل نذر حياته في سبيل أعدل وأعظم قضية إنسانية عربية إسلامية.

فضل الله بين قم والنجف وتياراتهما
كانوا مجموعة خماسية ذهبية جمعتهم النجف في منتصف القرن العشرين: محمد باقر الصدر (استشهد 1980)، محمد مهدي الحكيم (استشهد 1988)، محمد مهدي شمس الدين (توفي 2001)، محمد باقر الحكيم (استشهد 2003)..وآخر العنقود السيد محمد حسين فضل الله..
لم يكن معظمهم قد تجاوز العشرينات من عمره...ولم يكن موسى الصدر واحداً منهم في ذلك الوقت.. وهو تركهم على كل حال في العام 1959 ليعود إلى لبنان وينخرط في تثبيت ركائز خطه الوطني الليبرالي الإصلاحي.. فيما بقي الخمسة في النجف يؤسسون معاً حزب الدعوة في العام 1957 وجماعة العلماء في العام 1959 ومجلة الأضواء في العام 1960... وكان هؤلاء الخمسة يعملون معاً تحت جناح مرجعية السيد محسن الحكيم ومدرسة النجف التقليدية في حين إنتمى موسى الصدر إلى التيار الإصلاحي المجدد في إيران.. فهو رافق وزامل رموز الحركة الإسلامية الإيرانية المدنية ( حركة تحرير إيران وقادتها: آية الله طالقاني، مهدي بازركان، مصطفى شمران، علي شريعتي، إبراهيم يزدي..وهي حركة إصلاحية تنويرية كانت استمراراً وتطويراً لحركة الرئيس مصدق وتيارها المسمى الجبهة الوطنية) ..كما أنه كان على صلة أيضاً بالمرجع الكبير المعتدل والليبرالي آية الله كاظم شريعتمداري.. ولم يكن موسى الصدر من نفس جيل شمس الدين وفضل الله ومحمد باقر الصدر (ثلاثتهم من مواليد عام 1935 أو 1936).. وهو حين جاء النجف عام 1953 فإنما جاء لتثبيت إجتهاده ومرجعيته وقت كان الخمسة يتتلمذون على محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي والمشايخ من آل ياسين (أخوال محمد باقر الصدر وهو إبن عم السيد موسى وزوج شقيقته)... وفي حين أن شمس الدين وفضل الله ولدا ودرسا في النجف واكتسبا عاداتها الفقهية والأدبية واللغوية، وحملا مزاج النجف التقليدي الحوزوي من جهة والأدبي العربي الشاعري من جهة ثانية والشيعي العربي الثوري من جهة ثالثة، حمل موسى الصدر مزاجاً إيرانياً حداثوياً إصلاحياً ليبرالياً وطنياً دولتياً...وفي حين كان شمس الدين فلاحاً فقيراً لا يجد ثمن الرغيف في النجف التي تركه فيها والده وعاد إلى جبل عامل لمواكبة التطورات الناجمة عن نكبة فلسطين (1948).. كان فضل الله سليل أسرة دينية ذات وجاهة إجتماعية في منطقة بنت جبيل (والده علامة كبير وخاله النائب والوزير الشهير علي بزي، كما أن المرجع السيد محسن الحكيم هو في الوقت نفسه زوج خالته)..
في ذلك المفصل التاريخي الخطير الذي شكلته سنوات 1953-1959 (سنوات تزامل موسى الصدر مع الخماسي الذهبي في النجف)، كانت البلاد العربية تغلي بالتطورات المتلاحقة التي حملت اسم فلسطين وعنوان التحرر والوحدة.. وكانت إنقلابات سوريا(1949) ومصر(1952) ومعركة الأحلاف، وخصوصاً حلف بغداد (1953-1955) وانطلاق الثورة الجزائرية (1954) ثم العدوان الثلاثي على مصر (1956) فالوحدة المصرية السورية (1958) وثورة 14 تموز في العراق ونزول القوات الأجنبية في لبنان والأردن (1958)، قد جعلت لبنان ومحيطه موقعاً لصراع دولي من جهة أولى (روسي-أميركي أو شرقي-غربي) ولصراع عربي من ناحية أخرى (سعودي- ناصري- هاشمي)...فالتيار القومي العربي (الناصري والبعثي) كان يواجه التيار السعودي من جهة والتيار الهاشمي من جهة أخرى، كما كان يواجه التيارات الشيوعية والإسلامية الناهضة والمندفعة..وقد عمل شاه إيران في تلك الأيام على ربط الشيعة به ومن ثم بالأحلاف الغربية، يعاونه مسعى هاشمي (أردني-عراقي) وسياسة لبنانية رسمية (الرئيس كميل شمعون وحليفه الحزب القومي السوري)...وقد انقسم شيعة لبنان بين هذين التيارين العربيين الكبيرين وممثليهم المحليين (ثورة 1958 تقدم لنا إشارات واضحة حول الانقسام الشيعي رغم النفوذ الجماهيري للناصرية في الشارع)...وفي خضم هذه التيارات والتحركات شهد العراق نهضة ثقافية وسياسية هائلة كان النجف مركزها والمراجع الكبار محورها... فمع السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وولديه مهدي ومحمد باقر، ومع الشيخين الأخوين محمد رضا ومرتضى آل ياسين، والسيد محمد صادق الصدر (ابن عم السيد موسى وجد السيد مقتدى)، تشكلت حلقات الدراسة والتفكير ووضعت برامج الحركة والعمل بدءاً بجمعية منتدى النشر المبكرة ، ومن ثم جماعة العلماء ومجلتها الأضواء التي كتب أولى إفتتاحياتها باقر الصدر ثم شمس الدين ثم تولاها فضل الله لوحده حتى توقفها؛ ووصولاً إلى حزب الدعوة أهم وأكبر حزب شيعي عربي... وكانت الأجواء العربية الملتهبة حافزاً للطلبة والعلماء في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء إلى البحث عن أطر مناسبة للتحرك الإسلامي الجاد يلبي إحتياجات الشيعة العراقيين من جهة (وهم كانوا حرموا أية مشاركة في الحكم رغم ثوراتهم التاريخية ضد الاحتلال البريطاني)، ويواجه الإتجاهات الحديثة التي كانت تغزو بسرعة عقول وقلوب الشباب في مواجهة الملكية والاستعمار (المقصود الإتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية، والماركسية منها تحديداً)... وكانت مرحلة النجف مليئة أيضاً بالتحولات الفكرية التي كانت تعيشها النخب الدينية الشيعية وأهمها ذلك الحراك السياسي الإصلاحي الإيراني الذي كان السيد موسى الصدر مرتبطاً به منذ مرحلة الرئيس مصدق.. فالمعروف أن القيادات الدينية الشيعية وقفت مع مصدق ضد الشاه الذي انتصر بدعم أميركي كبير وعاد إلى الحكم في 19 آب 1953.وقد أدى انهيار حركة مصدق الوطنية إلى نشوب صراعات بين قوى الجبهة الوطنية وقوى علماء الدين وعلى رأسهم آية الله كاشاني وحركة فدائيي إسلام (نواب صفوي).. دعم آية الله كاشاني وصدر الدين الصدر (والد السيد موسى) وآية الله الخوانساري حركة نواب صفوي إنما بتحفظ بسبب تطرف الفدائيين، في حين كان المرجع الكبير حسين البروجردي يعلن عن عدم رضاه عن تصرفاتهم. وبعد وفاة كبار المراجع في قم (البروجردي والخوانساري وصدر الدين الصدر) برز العلماء شريعتمداري والحكيم والكلبايكاني ومرعشي نجفي والخوئي.. إلا أن السيد محسن الحكيم أخذ محل البروجردي كمرجع أوحد في عصره.. وعن ذلك يكتب الشيخ هاشمي رفسنجاني صراحة أنه "حدثت بعض المشكلات بين السيد الخميني وآية الله البروجردي... وقامت منافسة بين نشرتنا "مكتب تشيع" وبين نشرة "مكتب إسلام" التي كان يديرها متقدمون علينا حوزوياً ومن أنصار شريعتمداري... لو أن الإمام الخميني في عصر السيد البروجردي تدخل في الصراعات السياسية لما نجح، لعدم الانسجام بينهما...في عصر البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له...وكان هو المرجع المطلق في باكستان وأفغانستان والعراق والخليج.. وأسس دار التقريب بين المذاهب ومركز هامبورغ الاسلامي...الخ..." (كتاب رفسنجاني: حياتي.دار الساقي،بيروت،2005،ص32-33-36-38-39).والجدير ذكره هنا أن الإمام الخميني تجنب الإعلان عن إقامة مجالس عزاء للبروجردي(على مقتضى ما جرت به العادات) "خوفاً من ظهور شائبة من الشوائب ولم يكن راغباً حتى في كتابة رسالة"(( رفسنجاني: حياتي، ص49).إن هذا الأمر يكشف لنا عن حقيقة الصراعات في قم وأطرافها ومواقعهم وأدوارهم. ومن رحم هذه الصراعات ولدت حركة نهضت آزادي (حركة تحرير إيران-1960) وقائدها مهدي بازركان وآية الله طالقاني والدكتور ابراهيم يزدي والدكتور علي شريعتي، "وهم كانوا يعطون أهمية كبيرة للإنفتاح الفكري ولإرضاء المثقفين المتنورين.. والعلماء وتجار البازار المتدينين"..(رفسنجاني، ص60). وأسس آية الله شريعتمداري دار التبليغ وهدفه "إيجاد مراكز تعليم أكثر تنظيماً متعددة البرامج داخل الحوزات التقليدية... وكان قانعاً بإلقاء الدروس والأبحاث والتبليغ والمهام الدينية.."(رفسنجاني، ص106-107). وكان السيد الحكيم يؤسس في العراق المكتبات العامة ويقوم بتحديث التدريس الحوزوي والإحتفالات بمناسبة عاشوراء يساعده ولداه مهدي ومحمد باقر، ومعهما السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله....

فضل الله وحزب الدعوة
والى تأثير هذا الحراك الفكري العلمائي في النجف، وتأثير حركة مصدق في إيران والتي أسقطتها المخابرات الأميركية، جاءت تجارب لبنان (ثورة 1958) والجزائر (إنطلاق جبهة التحرير الوطني) وفلسطين (حركة التحرير الوطني-فتح) لتضيف وعياً كبيراً إلى تحرك شباب الحوزات والطلبة والعلماء في النجف الذين كانوا في وعيهم كما في ممارستهم شهداء على قوة تأثر النجفيين بالتجربة الإيرانية الشديدة الوطنية كما بالتجربة الجزائرية والتجربة الفلسطينية الوليدة، وهما تجربتان وطنيتان صافيتان لا بل أنهما تشكلتا من رحم الإعتماد على الذات الوطنية (تجربة الجزائر المتميزة بمزيج إسلامي – جزائري شديد الخصوصية و تجربة حركة فتح التي خرجت قياداتها من رحم الإخوان المسلمين وعلى أساس الوطنية الفلسطينية).. وقد عرف عن الإمام موسى الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بفرانز فانون وعلي شريعتي وبثوار الجزائر وفتح بقدر تأثره بالدراسة الحوزوية (وأساتذته فيها) وبالتجربة الإيرانية الوطنية-الإسلامية...في مثل هذه الأجواء ولدت فكرة تشكيل حزب إسلامي شيعي في العراق أسوة بالإخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة فتح وجبهة التحرير الجزائرية وحركة تحرير إيران ومنظمة فدائيان إسلام الإيرانية (وقائدها نواب صفوي المتأثر بحسن البنا)... وقد رأى الداعون إلى هذا العمل ضرورة النهوض بأعباء المرحلة وفي مقدمتها طرح الإسلام كعلاج للأزمات الاجتماعية السياسية في مقابل التيارات الفكرية الأخرى التي كانت تستقطب شباب العراق، ومواجهة هذه التيارات بنفس الأسلوب الحركي التنظيمي الهادف إلى إيجاد وسائل للوصول إلى قطاعات في المجتمع كان يصعب الوصول إليها من خلال العلماء والطلبة الحوزويين في ذلك الوقت (مثل قطاعات الموظفين الحكوميين والطلبة الجامعيين في المدن الكبرى وأصحاب المهن الحرة وظباط وجنود الجيش)... وفي تلك المرحلة بالضبط بدأ المشروع الإصلاحي اللبناني للإمام الصدر بالتبلور... فهو عايش معايشة وثيقة الحلقة الضيقة المؤسسة والقائدة لما أصبح فيما بعد حزب الدعوة... إذ في منزل السيد محسن الحكيم أو ولديه مهدي ومحمد باقر، أو في منزل السيد الخوئي نفسه، أو الشيخ مرتضى والشيخ محمد رضا آل ياسين، كانت تعقد الإجتماعات التأسيسية وبحضور أبناء السيد محسن ووكلائه الأساسيين (محمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الصدر ومرتضى العسكري ومحمد صادق الصدر ومحمد حسين فضل الله وعبد الهادي الفضلي ومحمد بحر العلوم وطالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل ومحمد صادق القاموسي ومحمد صالح الأديب.. ومن حلقة أخرى أحدث: عارف البصري ومحمد هادي السبيتي ومحمد مهدي الآصفي وكاظم الحائري وعلي الكوراني). غير أن السيد موسى الصدر لم يكن مرتاحاً للعمل وفق النمط الحزبي الإسلامي الحركي للإخوان المسلمين أو حزب التحرير...خاصة وأن بعض كبار مؤسسي حزب الدعوة كانوا ينتمون في البداية إلى هذين الحزبين (عارف البصري ومحمد هادي السبيتي وطالب الرفاعي على وجه الخصوص).. كما أن التوجهات الفكرية والتنظيمية الأساسية للحزب الجديد جرت صياغتها إستناداً إلى كتابات الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمصري سيد قطب والفلسطيني تقي الدين النبهاني.. وكان السيد الشهيد محمد باقر الصدر متأثراً بكتاباتهم إلى حد كبير وكذلك السيد فضل الله (لاحظ كتابه منطق القوة في الإسلام، وكذلك كتاباته الحركية في مجلة المنطلق).. وهذه حقيقة أكدها لي مراراً الإمام شمس الدين كما أشار إلى دور المجلات المصرية التي كانت تصل إلى النجف في تلك الأيام (خصوصاً مجلة الرسالة التي كانت تنشر رسائل سيد قطب من أميركا)...كما أن الإمام الكبير آية الله حسين منتظري أكد لي في أحاديث كثيرة تأثير سيد قطب عليهم في قم والنجف ومحاولتهم التوفيق بينه وبين عبد الناصر.. وقال منتظري انه يوم إعدام سيد قطب (29 آب 1966) بكى بحرقة وهو في السجن في طهران...وقد روى أكثر من مرجع إيراني وعراقي تأثرهم بالثورة الجزائرية وبتجربة جبهة التحرير الوطني (وقد ظلت العلاقة المميزة بين حركة أمل والجزائر إلى يومنا هذا تأسيساً على ما بدأه الإمام الصدر في باريس مع علي شريعتي وفرانز فانون)....
وحين قرر السيد موسى الصدر الرجوع إلى لبنان كانت قد نضجت في رأسه واختمرت فكرة العمل الذي كان ينوي القيام به... وقد أخبرنا الإمام شمس الدين أن الفكرة نضجت بالتشاور مع السيد محسن الحكيم الذي أعطى الإمام الصدر وكالة عامة وتفويضاً كاملاً.. ولم تمض فترة على عودة الصدر إلى لبنان (1959) حتى اندلعت الخلافات والصراعات داخل حزب الدعوة الأمر الذي أدى إلى طلب السيد محسن الحكيم من أبنائه والمخلصين له الإنسحاب من الحزب.. فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (إثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد موسى الصدر)، ثم انسحب الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعهم آخرون.. إلى أن أعلن السيد الشهيد محمد باقر الصدر فتواه التاريخية بعدم جواز إنتساب علماء الدين وطلبة العلوم الدينية إلى أي حزب كان إذ هم يعملون للإسلام أي لكل الناس... وما زالت هذه الوقائع في أساس السجالات والخلافات بين أجنحة حزب الدعوة والمجلس الاسلامي الأعلى في العراق وما بينهما إلى يومنا هذا.. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام موسى الصدر ومنذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف وأوضاع الشيعة ولحاجات التنظيم والاستنهاض التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية. هكذا إذن تبلور تيار حزب الدعوة الذي بدأ يعمل في لبنان ، وفي مقابله تيار العمل الإصلاحي الذي مثله موسى الصدر بداية، ثم محمد مهدي شمس الدين.. على فروقات بينهما.. فالأول ظل وفياً للتيار الليبرالي الإصلاحي الإيراني ورموزه التي سلّم أحدها (الشهيد الدكتور مصطفى شمران) مقاليد تنظيم وعسكر حركة المحرومين...في حين إنتقل الثاني من مرجعية السيد محسن الحكيم إلى العمل مع الصدر في لبنان (المجلس الشيعي)، مع البقاء على صلة بحزب الدعوة، حتى كان الفراق بين شمس الدين وفضل الله بعد العام 1983 إثر دخول العامل الإيراني وتشكيل حزب الله بصلة وثيقة مع حزب الدعوة...
إذن: جمعتهم النجف وفرقتهم السياسات الحزبية والوضع المفتوح في لبنان..
حين عاد فضل الله إلى لبنان (1966) باشر بتأسيس حيزه الحركي الخاص من خلال العمل على مستويين: مستوى بناء كوادر الدعوة، ومستوى بناء المؤسسات.. فكان مميزاً في المستويين.. وحين عاد شمس الدين في العام 1969 باشر هو أيضاً بتأسيس حيّزه المستقل (الجمعية الخيرية الثقافية)، إلا أنه شارك في البداية فضل الله عمله الدعوي والمؤسساتي بتوجيه من المرجع الحكيم ثم الخوئي (1969-1983)، ثم حاول الجمع بين فضل الله وموسى الصدر (1975-1978)، ليفترق نهائياً عن فضل الله بعد تشكيل حزب الله (1983) برعاية إيرانية مباشرة، ولتتوسع الشقة بينهما بعد حرب أمل- حزب الله (1988-1991)....وبين العامين 1978-1983 كان شمس الدين وفضل الله معاً في طليعة الذود عن الثورة الفلسطينية ثم عن الثورة الإيرانية.. وقد أطلقا معاً دعوة المقاومة والجهاد بعد إجتياح صيف 1982 في إحتفال عاشوراء في الكلية العاملية ببيروت تحت إسم المقاومة المدنية الشاملة التي كان أحد قادتها الشيخ الشهيد راغب حرب.


فضل الله بين فلسطين وإيران
يّذكر للسيد فضل الله في مرحلة 1966-1988 وقوفه إلى جانب الثورة الفلسطينية في وجه كل محاولات ترويضها وضربها..ولا ينسى الفلسطينيون موقفه إبان حرب المخيمات في لبنان (1985-1987) وفتاويه التي إستهدفت إثارة الرأي العام وتنويره وتوجيه الإنتباه إلى لا إنسانية الحرب على المخيمات..وموقف فضل الله هذا هو في الحقيقة إستمرار تاريخي مع موقف المرجع الكبير محسن الحكيم (توفي 1970) الذي أفتى بجواز دفع الخمس لمجاهدي الثورة الفلسطينية وبجواز التطوع في صفوف حركة فتح وذلك خلال المظاهرات المليونية التي جابت شوارع بغداد والنجف وكربلاء إثر معركة الكرامة الخالدة (21 آذار 1968). وموقف فضل الله تكامل من جهة أخرى مع موقف رفيق دربه محمد مهدي شمس الدين الذي ألقى كلمة السيد محسن الحكيم في جموع المتظاهرين وخطب وتكلم في طول العراق وعرضه ثم في جنوب لبنان خلال سنتي 1968-1969 داعياً إلى دعم الثورة الفلسطينية وحركة فتح وإلى إطلاق حرب تحرير شعبية هي الطريق الوحيد لفلسطين والوحدة العربية..وهذه المواقف الشيعية العربية كانت تدعو في الواقع إلى مناهضة شاه إيران حليف اميركا وإسرائيل وإلى دعم حركات التحرير الإيرانية التي ارتبطت دائماً بالقضية الفلسطينية : من نواب صفوي وفدائيان إسلام إلى جبهة مصدق الوطنية إلى حركة تحرير إيران وعلي شريعتي إلى جماعة الإمام الخميني وعلى رأسهم الشيخ رفسنجاني والسيد خامنئي (وقد ترجما كتب فتح وعرفات)..والسيد مير حسين موسوي والسيد علي أكبر محتشمي بور، إلى الدور التاريخي الكبير للشيخ حسين علي منتظري صديق فلسطين وثورتها..وصولاً إلى مواقف السيد موسى الصدر الذي أقام إفطاراً رمضانياً على شرف حركة فتح في كانون الأول 1968 والذي طرح شعار "إسرائيل شر مطلق" وأطلق حركة مقاومة لبنانية لتقف إلى جانب حركة الشعب الفلسطيني.. وهو صاحب القول الشهير الموجه إلى ياسر عرفات في مهرجان اليونسكو الشهير "إني أرى وجه الحسين في عينيك"...
ويوم انتصرت الثورة الإيرانية رفع الفلسطينيون شعار: اليوم إيران وغداً فلسطين...
إلا أن رياح التاريخ جرت في سياقات أخرى وصبت في مجرى آخر..
مع الثورة الإسلامية الإيرانية جرت تحولات كبرى في الوضع الشيعي نتج عنها الإعلان عن حل حزب الدعوة اللبناني (1981) ثم البدء بالعمل على تأسيس حزب الله والمقاومة الإسلامية... وهنا كان فضل الله على موعد مع التاريخ الذي سطع فيه نجمه وجعله يبرز كمرشد روحي للحزب وكفقيه داعم للثورة الإيرانية من جهة وللمقاومة الإسلامية في لبنان من جهة أخرى..
وقد كلفه موقفه المتماهي مع إيران والحاضن للحزب والمقاومة محاولات إغتيال كانت أشهرها وأعنفها تلك التي جرت في بئر العبد في آذار 1985 والتي سقط ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين...وقد كتب الصحفي الأميركي بوب وودوارد يومها في كتابه (الحجاب) عن دور المخابرات الأميركية في تمويل تلك العملية.. ومع ذلك إستمر فضل الله في موقفه العنيف والعنيد المعارض للسياسات الأميركية في المنطقة والمجاهر باحتضانه لكل أشكال المقاومة والممانعة مع التركيز على الوحدة الإسلامية في زمن الفتن الطائفية والمذهبية التي إبتدأت مع حروب زواريب بيروت ثم حرب المخيمات ثم حرب أمل-حزب الله ..لتتواصل في غيرها من الحروب الأهلية الداخلية اللبنانية والعربية على السواء، إلى يومنا هذا..
إلا أن منعطفات وتحولات جديدة جعلت السيد فضل الله يفترق لاحقاً عن إيران وعن الحزب وذلك حين طرح رسالته العملية ومرجعيته الفقهية في ظرف كان فيه الإيرانيون يجمعون الدعم والتأييد لمرجعية السيد خامنئي... فبعد وفاة الإمام الخميني (3 حزيران 1989) أُنتخب السيد علي خامنئي كقائد ومرشد للثورة في حين أنه لم يكن مرجعاً للتقليد بعد (جرى تعديل الدستور من أجل إنتخابه بحيث صارت المادة لا تنص على وجوب كون القائد الولي الفقيه مرجعاً للتقليد أي الأعلم بين علماء زمانه)..وقَبِل السيد فضل الله هذا الحل واستمرعلى علاقته بإيران وبالولي الفقيه الذي طلب من حزب الله الصلاة خلف فضل الله في صلاة الجمعة عند إفتتاحه مسجد الحسنين في حارة حريك..ولكن الأمور تغيرت بعد وفاة المراجع الكبار في قم والنجف.. ففي العام 1992 توفي المرجع الخوئي فقرر الخامنئي طرح نفسه كمرجع إلا أنه لم يستطع فرض نفسه إلا بعد وفاة الآراكي (1994)...وتوفي خلال ذلك وبعده المرجع الكلبايكاني ثم المرجع السبزواري...وللتمهيد لمرجعية الخامنئي عيّنت جمعية مدرسي حوزة قم سبعة مراجع للتقليد بينهم الخامنئي دون فضل الله (الدعوة لمرجعية الخامنئي انطلقت على يد علماء لبنانيين أبرزهم الشيخ محمد يزبك )..وفي حين أعلن حزب الله وقسم كبير من حزب الدعوة إلتزام قيادة الخامنئي وولايته ، أعلن فضل الله تصديه لمنصب المرجعية..واختاره حزب الدعوة مرجعاً له وفقيهاً معتمداً..ثم قرر الحزب تبني رأي فضل الله حول تعدد الولاية : "فكما يمكن أن يكون للإمام (المهدي المنتظر) في حال حضوره أن يحكم عدة أقاليم وله في كل منها نائب فإنه يمكن كذلك أن يكون له في حال غيبته عدة نواب أيضاً...فالأصل في الولاية النائبة عن الإمام (المهدي) تعدد الولي إلا إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عليا تفرض وحدته وكانت الوحدة واقعية" (صدرت الفتوى في 13-9-1998)..
وكان فضل الله يحظى بمقلدين وبسمعة كبيرة لم تكن كافية لدى علماء قم والنجف لتثبيته كمرجع معترف به...يومها شنت عليه حملات تجريح قاسية (1997-1998) ولم تنصلح العلاقات بينه وبين الحزب وإيران حتى العام 2005-2006..


فضل الله الإنسان والمناضل
تختلف معه (وأنا كنت من الذين اختلفوا معه وفارقته بعد عمل دام سنوات وانتقلت للعمل مع رفيق دربه السابق الشيخ شمس الدين)...إلا أنك لا تستطيع إلا ان ترفع آيات التقدير والمحبة لهذا الإنسان الكبير في إنسانيته..والمناضل المرّ دفاعاً عن إلتزاماته.. فهو، في لحظات الخلاف كما في حالات الوفاق، لا يشعرك بأي سلبية أو إمتعاض،لا بل وحتى في أشد لحظات الخلاف والصراع حراجة وقساوة (وما أكثرها تلك التي باعدت بينه وبين شمس الدين، وبيني وبينه بالتالي)...
مع السيد فضل الله ومع الشيخ شمس الدين، كنت تشعر وكأنك تجالس وتحاور أحد كبار علماء بغداد والبصرة والكوفة والنجف القدامى التاريخيين الطالعين من بطون الكتب وعبق السماحة..
من إنجازات السيد فضل الله المهمة تلك المؤسسات التي تشهد له بالكفاءة التنظيمية والمقدرة القيادية والإدارية التي قل مثيلها في عالمنا العربي...ومؤسساته صارت مضرب المثل في كل البلدان وفي مختلف القطاعات...
ومن إنجازاته أيضاً فكره السياسي المتوثب أبداً نحو مواجهة الإشكاليات والتحديات..بحيث كان له الأثر الأكبر في تفكير ووعي وممارسة الدعاة الحزبيين الإسلاميين في الوسط الشيعي لا بل وحتى السني العربي..وهو تأثر في شبابه النجفي، (مثل رفيق دربه باقر الصدر)، بكتابات سيد قطب والمودودي كما بتجربة الإخوان وحزب التحرير..إلا أن فضل الله كان من الذين فلسفوا وعمقوا فكر العمل الحزبي الإسلامي الشيعي في مقالاته الشهيرة في مجلة المنطلق مطلع الثمانينيات كما في كتبه الكثيرة ومؤلفاته الفقهية والسياسية التي كانت تستجيب لقضايا المرحلة التاريخية..ولعله حافظ على صلة ما بحزب الدعوة كما يبدو من إستمرار أطراف حزب الدعوة المتصارعين والمنشقين في الرجوع إليه ونشدان تحكيمه..
ومن إنجازاته أيضاً تحديه الجريء للممنوعات والمحظورات الفقهية الشيعية.. ولم يسبقه في ذلك أحد من كبار العلماء.. حتى أنه واجه معارضات تقليدية شرسة وصلت حد تكفيره أو الحكم بضلاله وابتداعه أموراً ليست من الدين...وأنا لا أقصد هنا مواقفه من مسألة إسالة الدماء في مواكب عاشوراء وهو موقف سبقه إليه معظم مراجع الشيعة الكبار وأشهرهم السيد محسن الأمين مطلع القرن العشرين.وإنما أقصد جرأته على مواجهة قضايا عقيدية تشكل الأساس الأيديولوجي للهوية الشيعية ولحمتها ومركز إستقطاب مشاعرها وعواطفها.. وهو يذكرك في ذلك بكبار عصر التنوير الأوروبي وفلاسفة الموسوعة الفرنسية...
ولعل السمة الأبرز من سمات المرجع فضل الله بقاء مرجعيته قريبة من الناس ومن الكوادر الحزبية ومن شباب المقاومة..وهو في ذلك لم يكن كغيره من العلماء والمراجع وقد شذ عن خصوصيات المرجعية التقليدية في النجف كما عن خصوصيات القيادة السياسية اللبنانية..
رحم الله العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله...
سنفتقده علماً من أعلام الفكر الإسلامي الحركي المقاتل ضد الظلم والإستغلال وضد الإستعمار والصهيونية..
سنفتقده صديقاً صدوقاً لفلسطين ملتزماً حتى النهاية ثورتها وشعبها وقضيتها..
رائداً من رواد الحوار والتفاهم بين الناس بالتي هي أحسن، وداعية إلى الكلمة السواء بالنصيحة والموعظة والكلمة الطيبة...وعاملاً على التقريب بين المذاهب والفرق وبين الطوائف والديان، ومن أجل الإنسان... حيث جعله منطلق فقهه وكلامه وعمله..
سنفتقد جرأته وصبره وعناده في تقديم الجديد ومقارعة التقليد والجمود..وكم نحن بحاجة إلى علماء ومثقفين لا يخجلون من الحلم بالتغيير ومن الحلم بالمستحيل...
سنفتقد ذائقته الأدبية واللغوية، وشاعريته المرهفة، وحساسيته النبيلة، وهذه تُذكرني بشاعرية وحساسية وذائقة رفاقه في النجف السيدين محمد حسن الأمين وهاني فحص وقد نظم أولهما الشعر مثله وشارك الثاني في تذوقه ونقده، واعترفا له معاً بالسبق وبالتميّز..
سنفتقد صلابته التي تشبه صلابة كبار المناضلين الماركسيين واليساريين والأمميين من الجيل الثوري الذي حمل أحلام الثورة والتغيير والمستحيل...
سنفتقد موقفه الممانع للإستكبار والطاغوت والمقاوم لتجسداتهما المادية العيانية في الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين وفي العولمة الإمبريالية الجائرة..
سنفتقد وعيه وإدراكه لضرورة صياغة مشروع نهضوي حضاري تاريخي يشارك فيه الجميع ومن مواقعهم المختلفة،وعلى الأسس التي طرحها هو والتزم بها في مسيرته، ومن أجل الحرية والكرامة والوحدة لفلسطين والعرب ولكل الناس...

الجمعة، 16 يوليو 2010

Turkey, America, and Empire's Twilight

by Conn Hallinan
Foreign Policy in Focus
June 25, 2010
http://www.commondreams.org/view/2010/06/25-8

When U.S. forces found themselves beset by a growing
insurgency in Iraq following their lighting overthrow of
Saddam Hussein, the most obvious parallel that came to
mind was Vietnam: an occupying army, far from home,
besieged by a shadowy foe. But Patrick Cockburn, the
Independent's (UK) ace Middle East reporter, suggested
that the escalating chaos was more like the Boer War
than the conflict in Southeast Asia.
It was a parallel that was lost on most Americans, very
few of whom know anything about the short, savage, turn-
of-the-century war between Dutch settlers and the
British Empire in South Africa.
But the analogy explains a great deal about the growing
influence of a country like Turkey, and why Washington,
despite its military power and economic clout, can no
longer dominate regional and global politics. Turkey's
Rise
The most common U.S. interpretation of the joint
Turkish-Brazilian peace plan for Iran, as well as
Ankara's falling out with Israel over the latter's
assault on the Gaza flotilla, is that Turkey is "looking
East." Rationales run the gamut from rising Islamism to
U.S. Defense Secretary Robert Gates' explanation that
the West alienated Turkey when it blocked Ankara from
joining the European Union (EU).
While Turkey's rise does indeed reflect internal
developments in that country, its growing influence
mirrors the ebb of American power, a consequence of the
catastrophic policies Washington has followed in the
Middle East and Central Asia.
From Ankara's point of view, it is picking up the tab
for the chaos in Iraq, the aggressive policies of the
Israeli government, and the growing tensions around the
Iranian nuclear program. As Sedat Laciner, director of
the International Strategic Resource Center in Ankara,
told The New York Times, "The Western countries do
things and Turkey pays the bill."
While the Cold War is over, argues Turkish Foreign
Minister Ahmet Davutoglu, "a new global" order has yet
to emerge. Until those "mechanisms" are in place, "It
will therefore fall largely to nation-states to meet and
create solutions for the global political, cultural, and
economic turmoil."
Davutoglu's observation about "a new global" order is an
implicit critique of a UN Security Council dominated by
the veto power of the "Big Five": the United States,
Britain, France, Russia, and China. Increasingly
countries like Turkey, Brazil, and India are unhappy
with the current setup. They either want a place at the
table or a reduction of the Council's power. The latest
Iran sanctions passed 12 to 2 (with one abstention) in
the Council. The sanctions would have failed a vote in
the General Assembly. New Turkish Foreign Policy
Internally, Turkey is putting its house in order. It has
returned the once all-powerful army - four coups in as
many decades - to the barracks, shifted power away from
Istanbul elites to central and eastern Turkey, eased up
on domestic repression, and even begun coming to terms
with its large Kurdish minority. Legislation before the
parliament would establish a commission to fight
discrimination.
Externally, Turkey is following what Davutoglu calls a
"zero problems with neighbors" foreign policy. It has
buried the hatchet with Syria and reached out to Iraq's
Kurds. Of the 1,200 companies working in Iraq's
Kurdistan, half are Turkish, and cross-border trade is
projected to reach $20 billion this year. And the Kurds
have something Ankara wants: 45 billion barrels in oil
reserves and plentiful natural gas.
Turkey has expanded ties with Iran and worked closely
with Russia on energy and trade. It has even tried to
thaw relations with Armenia. It has mediated between
Damascus and Tel Aviv, brokered peace talks between
Sunnis and Shiites in Iraq, and Serbians and Bosnians in
the Balkans, and tried to reduce tension in the
Caucasus. It has also opened 15 embassies in Africa and
two in Latin America.
Its foreign policy is "multi-dimensional," says
Davutoglu, which "means that good relations with Russia
are not an alternative to relations with the EU," an
explicit repudiation of the zero-sum game diplomacy that
characterized the Cold War. Vacuum in Middle East
Turkey's ascendancy is partly a reflection of a
political vacuum in the Middle East. The U.S.'s
traditional allies in the region, like Egypt, Jordan and
Saudi Arabia, are increasingly isolated, distracted by
economic troubles, paranoid about internal opposition,
and nervous about Iran.
This growing influence has not been well received by the
United States, particularly the recent deal to enrich
Iran's nuclear fuel. But from the Turks' point of view,
the nuclear compromise was an effort to ratchet down
tensions in a volatile neighborhood. Turkey is no more
in favor of Iran acquiring nuclear weapons than is the
United States, but as Laciner says, it also doesn't
"want another Iraq."
Of course there is an element of self-interest here.
Turkey gets 20 percent of its gas and oil from Iran, and
Tehran is increasingly a valuable trading partner.
Indeed, Turkey, Iran, and Syria are considering forming
a trade group that would also include Iraq.
Islamicism, Turkey's anger at Israel is over policy, not
religion. The current Israeli government has no interest
in resolving its dispute with the Palestinians, and
leading members of the Netanyahu coalition have
threatened war with Iran, Syria, and Lebanon.
A war with any of those countries might go regional, and
could even turn nuclear if the Israelis find their
conventional weapons are not up to the job of knocking
out their opponents.
Ankara has much to lose from war and everything to gain
from nurturing regional trade agreements and building
political stability. Turkey has the 16th largest economy
in the world and seventh largest in Europe. Working with
Brazil
Turkey has begun working closely with other nations who
would also benefit from a reduction in international
tension. Ankara's partnership with Brazil is no
accident. Like Turkey, Brazil's economy is humming and
it has been key in knitting together Mercosur, the
third-largest trade organization in the world. It has
also played no small part in helping South America to
become one of the most peaceful regions in the world.
The United States, on the other hand, has drawn
widespread anger for its support of the Honduran
government, expanding its military bases in Colombia,
and its increasingly unpopular war on drugs. No wonder
that much of the world concludes that regional powers
like Turkey and Brazil are centers of stability while
the United States has become increasingly ham-fisted or
ineffectual.
The British eventually triumphed in the 1899-1902 Boer
War. But what was predicted to be a cakewalk for the
most powerful military in the world turned into the
longest and most expensive of Britain's colonial wars.
In the end, the British won only by herding Boer women
and children into concentration camps, where 28,000 of
them died of starvation and disease.
All over the colonial world people took notice: a ragtag
guerrilla force had fought the mighty British army to a
stalemate. The Boer War exposed the underlying weakness
of the British Empire, just as Iraq and Afghanistan have
signaled the end of an era in which powerful countries
could use force to dominate a region or the globe.
"The world is not going to take the diktats of the
powers that have run it for the past two or three
hundred years," political scientist Soli Ozel of Bilgi
University in Istanbul told the Financial Times.

الحجة مفحمة

عباس بيضون
السفير- الخميس 15تموز 2010
قبل أن تطالبوا بحقوق الفلسطينيين أعطوا اللبنانيين حقوقهم. أعطوا اللبنانيين كهرباء 24 على 24 ساعة. طبقوا الضمان الصحي عليهم جميعاً، وفروا لكل منهم مسكناً، جنسوا لبنانيي المهجر. وبعد ذلك، بعد ذلك كله، عودوا للنظر في مطالب الفلسطينيين. الحجة مفحمة وتواطأ عليها كل من عارض إعطاء أي شيء للفلسطينيين، ينبغي الاعتراف بأنها تلمس عرقا لدى كل لبناني. سيقول ببراءة كبراءة هذه الحجة وبتجرد كتجردها: أعطوني حقوقي وبعد ذلك أعطوا الآخرين. إذا أخذنا في الاعتبار البارانويا اللبنانية، أو أخذنا في الاعتبار الشكاوى اللبنانية المتأرثة نعلم أن ما من لبناني واحد يقر بأنه حصل على حقوقه كاملة، بمن في ذلك الذين يأكلون حقوق الآخرين. الحجة مفحمة ولا يستطيع أحد أن يقارعها، مع ذلك فإن حال الفلسطينيين لا تطاق وظروفهم ليست للبشر لكن ماذا في اليد لنفعل لهم، قلوبنا معهم لكننا لا نملك ما نعطيهم. ما عندنا لا يكفينا فماذا نجد لغيرنا، هل تظنون أن لوبان الفرنسي بلا حجة. هل تحسبون أن موسوليني كان بلا حجة او حتى ستالين او هتلر. جميعهم كانت لهم حجج مفحمة ولا تزال لهم حجج مفحمة. إذا سمع اللبناني ما يقال فهل سيفكر أن أحداً ما لا يطالب بـ24 ساعة كهرباء للفلسطينيين بل أن يكون لهم الحق في الكهرباء وبسعرها بالطبع. ان أحداً لا يطالب بتطبيق الضمان على كل الفلسطينيين بل على هؤلاء الذين يدفع أرباب عملهم عنهم للضمان. ان أحداً لا يطالب بتوفير مسكن للفلسطيني بل الحق بأن يكون له مسكن. ان أحداً بالطبع لا يطالب بتجنيس الفلسطينيين حتى نتذكر هنا تجنيس لبنانيي المهجر الذين لا يجادل أحد في حق من يريد أن يتجنس (أو تستعيد جنسيته) منهم.
حجة مفحمة تليها أيضاً حجج مفحمة. لكن النتيجة ستكون أن الفلسطيني لن يحصل على شيء بقدر ما سيمر بحمام كراهية عامة، سيعاد ذكره كمغتصب محتمل وسارق محتمل للأرض، والهوية، سيعاد التذكير، ولو بالإيماء، بالحرب وحزازاتها وإضغانها. سيجد الفلسطيني نفسه مجدداً نفسه الموضوع الوحيد للمتاجرة الوطنية، لن يهتم أحد من المحرضين الوطنيين بأن مبادلة السلاح بالحقوق قد تكون الخطوة الأولى لحل المسألة الوطنية. سيفضلون على هذا كلاماً نهايته بالطبع «الترانسفير». ستكون مناسبة لا للكلام عن مستقبل الفلسطيني بل عن حاضره، سيقال ماذا يفعل هنا الآن ليخرج، أرضنا لا تسعه، إمكانياتنا لا تسعه. لا اعرف ما هي الفحوى الاقتصادية لهذا الكلام لكني أجد اننا نفتح بهذا النقاش مدرسة للفاشية. عندئذ أفهم أكثر ما يقال عن أن لبنانيي فرنسا يصوت أكثرهم للوبان.....

فلسطين في موسوعة غينيس

فلسطين في موسوعة غينيس

بين قضبان سجون الاحتلال يعيش الأسير الفلسطيني"سعيد العتبة" الذي بلغ عامه الواحد والثلاثين في الأسر ، فهو أقدم أسير في العالم ، ولم يسبق لأي أسير أو معتقل سياسي أن أمضى مثل هذه الفترة ، فحتى نلسون مانديلا لم يمض سوى 26 عاماً ، وقاتل الرئيس الأميركي جون كينيدي أمضى 28 عاماً..ومع نهاية عام 2007م بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين الذين أمضوا أكثر من خمسة عشر عاماً 232 أسيراً ، ومن أمضى منهم أكثر من عشرين عاماً وصل إلى 73 أسيراً ، أما من أمضوا أكثر من ربع قرن فارتفع عددهم إلى 10 أسرى ... وهؤلاء جميعاً مرشحون لتسجيل أسمائهم فردياً وجماعياً في موسوعة غينيس العالمية!!
غزة والقطاع وبعد أن سُوِرَا بالجدار العازل أصبحا أكبر سجن في العالم مساحةً ، ويضم أكبر عدد من السجناء في التاريخ المعاصر ! أسواره أطول بثلاثة أضعاف من جدار برلين ، وأعلى منه بمرتين ، ومصنوعة من خرسانة مسلحة بارتفاع 8 إلى 9 متر على امتداد 750 كيلو متر!! .
وبين جدران الجدار العازل في فلسطين ما يقارب الثلاثة ملايين من البشر يتوزعون على عشرات المدن ومئات القرى التي أحاطتها أسوار عالية !!
7 وزراء و40 نائباً من المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب هم في سجون الاحتلال !!
عدد المعتقلين الفلسطينيين يصل إلى 700 ألف حالة اعتقال أي أنه منذ بداية الاحتلال للضفة والقطاع عام 1967 إلى الآن تم إعتقال واحد من كل أربعة فلسطينيين داخل فلسطين .
وتضم سجون الاحتلال أصغر أسير في العالم لطفل لا يتجاوز عمره الـ 13 عاما .
في معتقلات الاحتلال 1175 طالباً وطالبة ، منهم 330 من الأطفال دون سن الثامنة عشر .
وصل عدد الطلاب الذين استشهدوا برصاص جيش الاحتلال إلى 848 طالباً من طلبة المدارس والكليات. ووصل عدد الطلبة والطالبات والموظفين الذين أصيبوا برصاص الاحتلال إلى 4792 طالباً وطالبة وموظفاً.
نصبت قوات الاحتلال 5001 حاجزاً عسكرياً ونقطة تفتيش في الأراضي المحتلة وأكثرها متنقل ، ويبلغ الثابت منها حوالي 763 حاجز .
فلسطين المحتلة أكثر بقعة يكرس فيها نظام الفصل العنصري حيث يسمح للفلسطيني باستخدام ما لا يزيد عن 50 متر مكعب من المياه سنوياً، بينما يسمح للمحتل باستخدام 2400 متر مكعب من المياه سنوياً من مياه الضفة الغربية، أي 42 ضعف الفلسطيني . ودخل الفرد الاسرائيلي في الكيان الصهيوني يصل إلى 30 ضعف دخل الفرد الفلسطيني ، ومع ذلك يُجبر الفلسطينيون على شراء البضائع بسعر السوق للكيان المحتل .
ولا تقتصر الأرقام القياسية على ذلك .. فقضية فلسطين أكثر قضية ألفت فيها الكتب ، وأكثر قضية صدر بها قرارات دولية ، وأكثر قضية حضوراً في وسائل الإعلام ونشرات الأخبار ، وأكثر قضية جعل على هامشها جلسات حوارية ومؤتمرات ومنتديات ومظاهرات وتنديدات وتهديدات ، و أكبر قضية زيفت بها الحقائق وأثيرت حولها الشكوك والشائعات والأكاذيب ، وأكبر كثافة سكانية في قطاع غزة ، وأكثر منطقة في العالم تقتلع فيها الأشجار المثمرة ، وأكثر مناطق العالم منعاً لحريات التنقل ، وأكثر مناطق العالم تُعطّل فيها الدراسة ، وأصعب تنقل لطلاب المدارس في العالم أجمع ، وأكثر حواجز عسكرية لمساحة من الأرض في العالم ، وأكثر جمعيات خيرية تغلق ففي عام 2007 أغلق الكيان الصهيوني أكثر من 70 جمعية خيرية ، بعد أن جمدت وسرقت أرصدتها المالية ...
لنسجل في غينيس وبدون منافس تلك العناوين لأقدم سجين ، وأكبر سجن ، وأكثر مساجين ، وأظلم سجان ، وأكثف قرارات ، وأطول مؤتمرات، وأسخف مواثيق .وأكثر مقدسات لهواة التدنيس ... مع أعدل قضية !!

نحو برنامج عمل سياسي فلسطيني

بقلم: سلمان أبو ستة

لا يخفى على أحد الوضع المتدهور للقضية الفلسطينية سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي. ولذلك هناك حاجة ماسة لمراجعة هذا الوضع والخروج ببرنامج عمل سياسي قابل للتطبيق. ولا نقول هنا إن هناك حاجة إلى برنامج وطني، فهو ما زال الميثاق الوطني لعام 1969 وخلاصته أن فلسطين عربية وأن المقاومة (بكل أشكالها) هي وسيلة العمل.
الساحة الفلسطينية
كانت أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية بعد النكبة واضحة كل الوضوح. الوطن معروف والعدو معروف. في الخمسينيات والستينيات نشأت حركة الفدائيين والجمعيات السرية (في قطاع غزة أولاً) ثم تكونت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 ووصلت إلى قمت بروزها عام 1974، وبعدها بدأ الانحدار. وفي المجلس الوطني الأخير في الجزائر عام 1988، وافق المجلس على مضض بأغلبية الثلثين على دولة فلسطينية على خط الهدنة 1949 مع التمسك بحق العودة. ثم جاءت كارثة اوسلو عام 1993 التي شكلت عقد إذعان للشعب الواقع تحت الاحتلال دون الاشارة إلى القانون الدولي أو الحقوق الفلسطينية. ولا نزال إلى اليوم تحت تأثير هذه الكارثة.
ومثلما انشق السادات عن سلفه عبد الناصر، انشق محمود عباس عن سلفه عرفات، فقد تخلى عن المقاومة واعتبر أداتها «حقيرة» ولجأ إلى «حياة» من المفاوضات، وتخلى عن القرار الفلسطيني المستقل واحتمى برضاء الدول الغربية والعربية، وتخلى عن فلسطين عربية واكتفى بالسعي وراء دويلة من بقايا الضفة، واختزل قضية فلسطين كلها إلى كيان معيشي للضفة، وتخلى، إلا بالاسم، عن حق العودة، وتخلى عن منظمة التحرير كصوت الشعب الفلسطيني، إلا كخاتم شرعي للمفاوضات، واكتفى بالسلطة في رام الله، كصورة محسنة من «رابطة القرى»، تجلب الاموال من الغرب وتشتري المؤيدين. واستسلم عالماً أو غير عالم، إلى خدعة بلير التي يقول فيها: على الفلسطينيين أن يقبلوا بشروط الرباعية (الاعتراف بإسرائيل ... الخ) وإلا فلن يحصلوا على المساعدات، ولن تحصل غزة المحاصرة على 4,8 مليار دولار التي وعد بها الغرب في شرم الشيخ لإعمار غزة التي دمرتها إسرائيل.
ومن واجب الرئيس الفلسطيني أن يعلم أن بلير كذاب (وهو الذي خدع العالم لشن الحرب على العراق). بلير كذاب لان الرباعية لم تضع شروطاً إطلاقاً على الفلسطينيين. يقول الفارو دي سوتو الوسيط الدولي لفلسطين (خليفة برنادوت) في تقريره النهائي في مايو 2007 في الفقرة 79:
«وهناك سوء فهم عام بالقول أن الرباعية وضعت «شروطاً» إذا لم تنفذ، فإن ذلك سيكون عقبة في المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية والتواصل معها. لقد حاولتُ المرة بعد الأخرى الايضاح للصحافة أن الرباعية لم تفرض ولو مرة واحدة شروطاً تدعو الفلسطينيين إلى الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف ... (الخ). وإذا كان هذا يبدو كأنه «شروط» الرباعية، فالواقع أن هذه الشروط هي سياسات أميركا والاتحاد الأوروبي وحدها.. وحقيقة الأمر أنهما تتخذان من روسيا والأمم المتحدة غطاء تحت اسم الرباعية لتنفيذ سياستهما».
وفي هذا الجو البائس، أصبح الشعب الفلسطيني شعوباً مختلفة. شعب غزة (12% من الفلسطينيين) محاصر من إسرائيل والغرب والدول العربية الموالية. وهذا الحصار يشكل جرائم حرب وجرائم إبادة بحسب ابسط قواعد القانون الدولي. وشعب في الضفة (18%) قيدت السلطة يديه ومنعته من المقاومة ومنعته في كثير من الاحيان من مجرد التعبير عن تضامنه مع ابناء شعبه في غزة، وزينت له أن غاية امنياته هو «بناء مؤسساته» تحت ظل الاحتلال، وأهله معزولون عن بعضهم في مناطق أ، ب، ج ومن بينهم أهل القدس المحاصرون والمهجّرون من ديارهم بالنسف والإبعاد، ومجموع كل هؤلاء (30%) هم الذين شاركوا في الانتخابات الاخيرة. وشعب فلسطيني عاش على أرض الوطن تحت حكم إسرائيل لستة عقود يبلغ تعداده 1,250,000 فلسطيني في الداخل (1948)، وهم الآن الذين يحملون راية الوطنية داخل إسرائيل. وشعب الشتات: اللاجئون في البلاد العربية، بين خوف من طردهم من أماكن اللجوء إلى المجهول بعيداً عن الوطن الأم وخوف الدول المضيفة من احتمال توطينهم فيحرمون من أبسط الحقوق المدنية كاجراء وقائي. ولعل الخوف من التوطين هو الذي يضع الدول العربية المضيفة بين نارين: تشجيع اللاجئين على المطالبة بحق العودة كي يغادروا البلاد، والخشية من انشائهم كيانات وتجمعات سياسية للمحاربة من أجل العودة. أما شعب الشتات في أوروبا وأميركا الذين يتجاوز عددهم 500,000 فهم من أنشط الفئات سياسياً وإعلامياً وقانونياً، لانهم يعيشون في مجتمعات ديموقراطية تسمح بالتجمع، وإن كانت سياساتها لا تزال موالية لإسرائيل، وهم يحتاجون فقط إلى تجميع قواهم وتوحيد صفوفهم.
في هذا المناخ الفلسطيني يبدو بديهياً أن يكون الواجب الأول لأي رئيس فلسطيني تجميع الصفوف، والعودة إلى كامل الشعب الفلسطيني، تحت إطار مجلس وطني جديد منتخب يمثل 11 مليون فلسطيني، من بينهم 70%، ليس لهم اليوم تمثيل ولا رأي في مصيرهم منذ عام 1988 على الأقل. ولكن محمود عباس رفض أي محاولات للقيام بذلك، رغم أن اتفاقاً مكتوبا في القاهرة في مارس 2005 قد تمت الموافقة عليه من جميع الفصائل، ورغم أن ممثلين لقطاعات واسعة من المستقلين، (والمستقلون هم أغلبية الشعب الفلسطيني، أكثر من 95%)، قد قابلته لهذا الغرض. ولكنه رفض الاستجابة لهذا المطلب الجوهري تحت أعذار مختلفة.
أما المصالحة بين فريقين فصيلين فقد شغلت الناس أكثر مما ينبغي، فهي في أحسن الاحوال خلاف على برنامج سياسي وفي اسوئها خلاف على مراكز السلطة مع اختلاف تاريخ كل منهما في النزاهة. ومكان المصالحة ليس في العواصم العربية ولا أمام أجهزتها الأمنية، وإنما في مجلس وطني منتخب هو الذي يحسم الخلاف على البرامج والاداء. ولو كان هذا المجلس موجوداً، لكفانا مؤونة التنقل بين العواصم العربية والفضائيات.
والخلاصة انه يجب على الشعب الفلسطيني اتخاذ اجراء جديد لوضع البرنامج السياسي المطلوب لتحقيق وحدة الشعب الفلسطيني وتمثيله.
إسرائيل
على الطرف الآخر من المعادلة، تقع إسرائيل. ما هو وضعها اليوم؟ إسرائيل صهيونية. ولو تخلت عن الصهيونية لما أصبحت إسرائيل، وأصبحت فلسطين بها جالية يهودية مهما كبرت. ولذلك لا فائدة من البحث في الركام عن قائد إسرائيلي يؤمن بالحقوق الفلسطينية، وأما تصنيف هذا القائد أو ذاك كيميني أو يساري فلا قيمة فعلية له.
إسرائيل لا تزال متمسكة بخريطة حدود إسرائيل التي قدمتها المنظمة الصهيونية لمؤتمر السلام في فرساي عام 1919. وكل الاحداث التي وقعت من ذلك الحين إلى اليوم تؤيد ذلك. قالت المنظمة الصهيونية إن حدود إسرائيل الغربية تكون «بالاتفاق مع مصر». وهذا ما هو واقع اليوم. وإن الجولان جزء من إسرائيل وهذا ما تم منذ احتلاله عام 1967. وإن جنوب لبنان حتى الليطاني جزء من إسرائيل، وهذا ما فشلت في تحقيقه إسرائيل ولكنها لا تزال تحاول. أما الحدود الشرقية التي تطالب بها المنظمة الصهيونية فهي خط سكة حديد الحجاز، أي خط درعا ـ عمان ـ معان ـ العقبة. وهذا ما تحاول إسرائيل تطبيقه الآن، بوضع برنامج لطرد الفلسطينيين من الضفة بادعاء أن كل فلسطيني في الضفة متسلل يتوجب طرده، والاستمرار في بناء المستوطنات، وسحب هويات القدس، وتجريد أهالي الضفة من 90% من مياه الضفة، وإقامة 600 حاجز على الطرق، والاعتقالات والاغتيالات وغير ذلك.
لم يعد استيلاء إسرائيل الكامل على الضفة سراً حتى في الاوساط الإسرائيلية والغربية. فقد كتب عنه اسرائيليون مثل اكيفا ايلدار وعميرة هاس، وإيال وايزمان، وجيرشون غورنبرغ منذ عدة سنوات. كذلك يوثقه بشكل دوري مكتب الامم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية (OCHAOPT).
وقد أوضح هذا الأمر البروفسور جون ميرز هايمر، الاستاذ المشهور، صاحب تقرير «اللوبي الإسرائيلي» مع زميله البروفسور ستيفن والت، في محاضرته لدى مركز فلسطين في واشنطن ابريل الماضي. وهو أميركي قح يخدم مصالح بلاده فقط.
لقد بيّن بتحليل دقيق للسياسات الإسرائيلية، أن الضفة مقبلة على التهويد الكامل مع بقاء بقع عربية، مما يجعل إسرائيل دولة فصل عنصري على كامل فلسطين التاريخية، ويفتح الباب أمام تهجير جماعي للفلسطينيين، لان البديل في حال زيادة عدد الفلسطينيين إلى حد الاغلبية الا تكون إسرائيل دولة صهيونية، بل دولة ديموقراطية لجميع السكان، وهذا لن تسمح به إسرائيل حتى لو اقترفت هولوكوست ضد الفلسطينيين.
ولنلق نظرة على التركيبة السكانية لإسرائيل.
في عام 2009، بلغ عدد السكان اليهود في إسرائيل 5,500,000 إذا اعتبرنا أن كل الروس البالغ عددهم مليون نسمة يهود، (والواقع أن 40 - 60% منهم غير يهود). حوالى نصف اليهود مهاجرون ولدوا خارج فلسطين، والنصف الآخر ولدوا فيها، ولذلك فإن فئاتهم العمرية صغيرة. ومن حيث الأصل، فإن 37% من اليهود جاءوا من أميركا وأوروبا و29% من آسيا وأفريقيا. وهذه النسبة الأخيرة في تزايد بسبب ارتفاع نسبة المواليد لديهم.
هذه الارقام والنسب معرضة لتغير كبير في حال انتفاضة كبيرة أو اضطرابات خطيرة في المنطقة أو حروب تصاب فيها إسرائيل بضربة موجعة. والتحول في التركيبة السكانية سيكون هائلا لو تحولت إسرائيل من دولة صهيونية إلى دولة ديموقراطية لكل مواطنيها عرباً ويهوداً. يقول البروفسور الأميركي اليهودي Ian Lustic، انه بعد انتفاضة الأقصى عام 2000 تضاعف عدد الذين تركوا إسرائيل، وزادت نسبة الذين استرجعوا جنسياتهم الأوروبية بمقدار 40%. ومن الملاحظ من تقارير الاحصاء الإسرائيلية أن ثلاثة أرباع الإسرائيليين يسافرون خارج البلاد على الاقل مرة في السنة وأن حوالى ثلاثة أرباع مليون يهودي يحملون الجنسية الإسرائيلية يقيمون خارج إسرائيل بصفة شبه دائمة. وأن كل يهودي في إسرائيل لديه جنسية أخرى، صالحة للاستعمال أو ممكن استرجاعها من بلد الموطن.
وكما يستنتج البروفسور ميرزهايمر، فإن إسرائيل ستقاوم مقاومة عنيفة انخفاض عدد اليهود أو نسبتهم، إما عن طريق تشجيع هجرة جديدة، وهذا صعب جداً في الوقت الحالي لنضوب المصادر المفيدة لإسرائيل، أو عن طريق طرد الفلسطينيين الموجودين على أرض فلسطين التاريخية الذين يتكاثرون بسرعة أكثر من اليهود (عدا الحاريديم)، وستستعمل إسرائيل كل الوسائل، ولو إلى حد استخدام «سياسات إجرامية» كما يقول، مثل التهجير العرقي أو أسوأ من ذلك. وقد تستخدم هذه السياسة دون تردد تحت غطاء حرب إقليمية، أو محاربة الإرهاب.
ولذلك فإن الطريق الوحيد المفتوح لإسرائيل هو أن تصبح علناً وبشكل مفضوح دولة فصل عنصري، اسوأ من جنوب افريقيا. ولذلك فإنه لا أمل في قيام دولتين مستقلتين بالمعنى الدولي المتعارف عليه على أرض فلسطين، مع أن هذا الخيار في مصلحة إسرائيل لانه يختزل قضية فلسطين في حكم ذاتي محدود على خُمس مساحة فلسطين. ولذلك تدعمه أميركا والاتحاد الأوروبي وتحث محمود عباس على الدخول في مفاوضات «حياتية» عقيمة يعلم الكل أنها لن تأتى بنتيجة مقبولة، لان أعلى ما ستوافق عليه إسرائيل سيكون أقل كثيراً مما يقبله حتى المؤمنون بتلك المفاوضات.
والخيار المنطقي الآخر إذا استمرت إسرائيل في أسلوبها الحالي هو قيام دولة ديموقراطية لجميع السكان على أرض فلسطين التاريخية. وهذا لن توافق عليه إسرائيل طوعاً أو اختياراً. ولو حدث فإنه، كما يقول اوري أفنيري، «داعية السلام»، لن يبقى في فلسطين اشكنازي واحد، فالاشكناز هم جنود الصهيونية.
إذاً، الصدام محتوم. فإما أن تكون فلسطين دولة صهيونية بالكامل يهجّر أهلها الفلسطينيون إلى شرق الأردن، وهذه هي الخطة الحالية، أو دولة ديموقراطية للعرب واليهود، وهذا هو الحل الوحيد على المدى البعيد. وهذا بالطبع يستثنى ظروفاً فجائية غير متوقعة في المنطقة، وما أكثرها، تسارع في حدوث هذا الأمر أو ذاك.
إذن لم يعد طرد أهالي الضفة موضع خلاف في السياسة الإسرائيلية، ولكن الخلاف هو على الاسلوب والتوقيت وطريقة التقسيط، بحيث لا تثير العالم الغربي، هذا لو أبدى غضبه. ولكن إلى أين يطردون؟
لم يعد الوطن البديل في الأردن خرافة في الفكر الإسرائيلي. لقد وقع الملك حسين المعاهدة مع إسرائيل تحسباً لذلك أي كي تعترف إسرائيل بالأردن كدولة مستقلة شرقي النهر، وليس العكس. أي ليس المهم اعتراف الأردن بإسرائيل. وهذا ما أكده له شارون شخصياً. فجنرالات إسرائيل يفضحون السر بين آونة وأخرى.
ليست المسألة تحويل الأردن إلى وطن بديل فقط، بل قد تصبح المشكلة أعمق من ذلك: باستيلاء اسرائيل على شريط من دولة الأردن يوازى نهر الأردن شرقاً حتى خط سكة حديد الحجاز (تقريباً 30 - 50 كم شرقي نهر الأردن) كما دعت إليه المنظمة الصهيونية عام 1919. ويطرد الفلسطينيون في الضفة إلى شرقي هذا الخط. وبذلك لا تحتاج إسرائيل إلى حاجز عسكري على نهر الأردن الذي تحتله الآن. وخط السكة الحديد هو أفضل عسكرياً لإسرائيل من مواقع على ضفة النهر الغربية لانه يحتوى على مرتفعات تقام عليها محطات انذار في عجلون مثل جبل الشيخ في الجولان.
ولكن رغم قوة إسرائيل العسكرية وخضوع العرب المجاورين لها، فإنها هشة في كثير من النواحي خصوصاً الجغرافية والسكانية. ومن حيث التوزيع الجغرافي فإن 84% من اليهود يعيشون في 17% من مساحة إسرائيل وتقع مناطق سكناهم العمرانية في منطقة صغيرة لا تتجاوز 5% من مساحة إسرائيل. وباقي الأرض في إسرائيل بها أقلية من السكان وتستعمل اساساً للقواعد والمنشآت العسكرية.
وإذا أخذنا شريطاً بعرض 50 كم يمتد من قطاع غزة حتى الخليل، فإننا لا نجد فيه يهوداً يتجاوز عددهم مخيم لاجئين واحد (عدا سكان المدن). وهؤلاء هم سكان الكيبوتز الذي أفلس مالياً وايديولوجياً ولم يبق فيه إلا العجزة. ولو أخذنا شريطاً بعرض نصف حدود لبنان الجنوبية يمتد من تلك الحدود حتى جنين فإننا نجد مثل هذا العدد من اليهود سكان الأرض المحتلة، (باستثناء سكان المدن وأهل الجليل الفلسطينيين).
أما الاقتصاد في إسرائيل فهو قوي جداً من جهة وهش من نواح أخرى. يبلغ الناتج المحلى الاجمالي لإسرائيل 207 مليارات دولار لعام 2009، مصدره 32% من الصناعة، 65% من الخدمات، 3% من الزراعة فقط. ومصادر الناتج القومي الاجمالي تأتى كالآتي: 74% من التصدير الصناعي و24% من تصدير الخدمات. أي أن اعتماد اقتصاد إسرائيل الاساسي على (1) على الصناعة ذات التقنية العالية و(2) على التصدير لأوروبا وأميركا.
وليس من العجب أن يقال ان إسرائيل ربيبة الغرب. ذلك لأن إسرائيل مصنع كبير محصور في عدة مناطق جغرافية حول حيفا وتل أبيب، يسّوق له اليهود في أميركا وغرب أوروبا بما لهم من التأثير المالي والسياسي في تلك البلاد. فإسرائيل إذن «منطقة تجارية حرة» ليهود الغرب. وهي أيضاً ملجأ للهاربين من وجه العدالة، وأكبر مكان لغسل الاموال التي يجنيها اليهود في الغرب.
وقد أجمع 250 خبيراً إسرائيليا في دراستهم لمستقبل إسرائيل حتى عام 2020 على أن الاهتمام بالارتباط الصناعي مع الغرب هو أساسي، وان هدف إسرائيل الأول أن تكون من مصاف الدول الصناعية الستة إلى الثمانية في العالم. ولهذا عقدت إسرائيل عشرات الاتفاقيات الصناعية والعلمية مع الدول الغربية لهذا الغرض، وتبيع منتجاتها لهم بعقود طويلة الأجل، بل تدفع تلك الدول نفقات الأبحاث والتطوير.
ويقول مخطط إسرائيل لعام 2020 ان غرض إسرائيل من السلام مع العرب، ليس خشية من قوتهم العسكرية، وليس رغبة في تسويق منتجاتهم في الاسواق العربية فهي عالية التقنية لا يحتاج اليها العرب، وإنما لان «السلام»، والمقصود به اعتراف العرب بشرعية إسرائيل، يهدئ مخاوف الغرب على استثماراته في إسرائيل. وإسرائيل تحتاج إلى تدفق هذه الاموال. وأي خطر يهدد إسرائيل حتى لو كان انتفاضة، أو انفجارات هنا أو هناك، أو تخريب لاستثمارات الغرب الصناعية مهما كان صغيراً، سيكون له تأثير سلبي كبير على اقتصاد إسرائيل، وعلى اقتصاد الغرب الداعم لها.
وهذا يفسر سعي إسرائيل الدائم إلى عرض واجهة سلام مزيفة والدخول في مفاوضات أبدية غرضها إعطاء الغرب وبعض العرب الانطباع بأن السلام قادم لا محالة، وانه لا خوف على استثمارات الغرب، لا من ناحية فعلية من حيث الخوف من تدميرها، ولا من ناحية قانونية دولية، أي عزلها دولياً، وتقديم قادتها لمحكمة جرائم الحرب. في العام 1948 دخلت بعض الدول العربية فلسطين بعد خروج الانجليز للدفاع عن أهلها تحت ضغط المظاهرات التي عمت شوارع عواصمها احتجاجاً على مذابح دير ياسين وغيرها. ولم تكن مستعدة لتحرير فلسطين لا بالفعل ولا بالنية. وعندما دخلت القوات العربية فلسطين كان اليهود يسيطرون على مساحة 5,5% من فلسطين وخرجت منها بالهزيمة واحتلال إسرائيل لما يساوى 78% من فلسطين.
ولم تدخل أي دولة عربية حرباً بعد ذلك لتحرير فلسطين. والحروب الحدودية كانت لرد اعتداء إسرائيل على تلك الدول. وبعد هزيمة 1967 أصبحت تلك الدول تدعم حركة التحرير الفلسطينية بالمال والسياسة. وبعد معاهدتي السلام مع إسرائيل واتفاقية المبادئ في اوسلو، تخلت عن هذا أيضاً. ودعمت التيار الذي يدعو الفلسطينيين إلى القبول بما يأتي به الامر الواقع من فتات، ووقفت ضد البرنامج السياسي الذي يدعو إلى تحرير فلسطين.
ولكن الشعوب العربية، ومعها الشعوب الإسلامية، وقفت موقفاً وطنياً مشرفاً إلى جانب الحقوق الفلسطينية. وعلى الرغم من ذلك، هناك تطابق عرضي في بعض وجهات النظر الرسمية. لبنان والأردن والفلسطينيون لديهم رغبة مشتركة في رفض مشاريع التوطين لاسباب مختلفة. ولذلك فإن من مصلحة لبنان والأردن الوقوف إلى جانب حق العودة. وهو أمر يجب الاستفادة منه إلى أقصى الحدود بتقوية حركة حق العودة في تلك البلاد، والسماح للاجئين بإنشاء مؤسساتهم الوطنية التي تمثلهم، ومنحهم الحقوق المدنية التي يتمتع بها اللاجئ الفلسطيني المقيم في بلد أوربي، وهو الذي يكوّن الآن أهم القوى الشعبية المطالبة بحق العودة.
ما العمل؟
في غياب منظمة التحرير الفلسطينية وعجز القائمين عليها عن القيام بعمل فعال للدفاع عن الحقوق الفلسطينية، يجب على الشعب الفلسطيني، أفراداً وهيئات ولجانا، القيام بواجباتهم في ميادين كثيرة متاحة له، ولا تحتاج إلى إذن من أحد، ولكنها تحتاج إلى كثير من الجهد والتنظيم وقليل من المال، أقل بكثير من ثمن دبابة عربية يعلوها الصدأ في المخازن.
الميادين المتاحة كثيرة جداً. لقد تدهورت صورة إسرائيل في الغرب الذي يمدها بالسلاح والمال. وهذا بجهد الجمعيات الأهلية الأجنبية المدافعة عن حقوق الانسان في أوروبا وأميركا مع مساهمة هامة من الفلسطينيين في تلك البلاد. هذا الجهد يجب أن يضاعف ويتوسع ويشترك فيه عدد أكبر من الفلسطينيين في الشتات. ومن باب أولى يجب أن ينتشر هذا الجهد في اوساط الشعوب العربية. ومن العيب أن يأتي الايرلندي والبريطاني، ثم المسلم التركي لكسر الحصار على غزة ولا نجد مثل هذا النشاط في الاوساط العربية.
ثم هناك الميدان القانوني المفتوح على مصراعيه. بعد تقارير دوجارد وفالك وأخيراً جولد ستون، بالإضافة إلى تقارير هيومان رايتس ووتش وجمعية العفو الدولية، هناك رصيد كبير من توثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، يجّرم بموجبه قادة إسرائيل في كثير من الدول. ورغم أن كثيراً من الجهات العربية الرسمية والشعبية لديها لجان جرائم حرب، إلا أن إنجازاتها ضعيفة أو معدومة ومتفرقة. وهناك حاجة إلى اختيار الصالح منها وتجميع القوى الأخرى تحت إدارتها. ومن الجدير بالذكر أن اوامر القبض على بعض قادة إسرائيل في بريطانيا قد تمت على يد مكاتب محاماة بريطانية متعاطفة مع فلسطين ومتحالفة مع جمعيات قانونية فلسطينية.
والنجاح في هذه المهمة يكفل ثلاثة أمور هامة: محاكمة مجرمي الحرب والقصاص منهم، ومنعهم من التنقل والسفر، وفضح جرائم إسرائيل أمام العالم.
وفي هذا الميدان تبرز أهمية كسر الحصار عن غزة الذي أصبح يمثل أبشع مثال على الجرائم التي ترتكب في وضح النهار وعلى شاشات التلفزيون، دون أن يتحرك أحد إلا القليل من أصحاب الضمائر.
وفي هذا الميدان، يجب إبراز قضية أكثر من عشرة آلاف فلسطيني أسير لدى إسرائيل، دون مسوغات قانونية، ولا أخلاقية. وهذه أكبر نسبة في تاريخ أي احتلال لان 40% من الشباب الذكور في الضفة وغزة اعتقلتهم إسرائيل على الاقل مرة واحدة في حياتهم منذ احتلالها عام 1967.
ومع تطور الاتصالات الإلكترونية والفضائيات، لم تعد المسافات ذات أهمية. ولذلك فإن الفلسطينيين والمتضامنين معهم في العالم يستطيعون شن حملات إعلامية بالرد على مزاعم إسرائيل وكشف جرائم إسرائيل السابقة والحالية. ولقد حدث تطور كبير في هذا الميدان عن طريق نجاح حملة المقاطعة (BDS) التي انضمت عليها عدة نقابات وجامعات في العالم، وهي لا تزال في نمو كبير.
كل هذه النشاطات، على تواضعها، أزعجت إسرائيل، وجندت لها آلافاً من أنصارها في العالم في حملة تسمى (هزبرا)، وتستثير لها الاعوان تحت شعار الحملة ضد نزع الشرعية عن إسرائيل.
وهناك ايضاً الميدان المفتوح للتواصل مع برلمانات العالم والمحافل الدولية ووكالات الأمم المتحدة بما فيها اليونسكو، وذلك عن طريق زيارات وفود شعبية من المخيمات والجاليات والأسرى المحررين وغيرهم. وهنا يبرز دور الجمعيات الأهلية (NGO) في البلاد المختلفة التي تستطيع ترتيب هذا التواصل وتفعيله.
وهناك أيضاً أهم ميدان يؤثر على إسرائيل وهو الميدان الاقتصادي. وكما سبق ذكره فإن التأثير على اقتصاد إسرائيل أوجع من حرب الدبابات الفاشلة. وعلى الرغم من عفوية حركة مقاطعة إسرائيل الشعبية (BDS) وانتشارها في أوربا وإلى حد ما في أميركا فإنها تقلق إسرائيل من ناحيتين، الإعلامية والاقتصادية.
لكن الضربة الحقيقية تأتي من مقاطعة العرب الاقتصادية للشركات التي تتعامل مع إسرائيل والتي كانت سارية إلى أن وقعت معاهدات (السلام) مع الأردن ومصر. وبحساب بسيط نجد أن الدول العربية إما شعبياً أو رسمياً تستطيع بمقاطعة البضائع من أميركا وهولندا وألمانيا وبريطانيا فقط، اعتماداً على أن إسرائيل خارجة عن القانون الدولي الذي يعاقب الاحتلال والفصل العنصري، واستناداًَ إلى القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 9 يوليو 2004 والذي أقرته الأمم المتحدة، أن تجبر هذه الدول على إعادة حساباتها حول التحيز لإسرائيل. وإذا توقفت مبيعات المرسيدس ومنتجات سيمنز مثلا فإن المانيا تفكر مرتين قبل تصنيع غواصات نووية لإسرائيل والمشاركة في تصنيع أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية التي تقوم بها الآن، لصالح إسرائيل. والمقاطعة سلاح معروف ومعترف به. وها نحن نجد أميركا تطبقه بدون مسوغات قانونية. فكيف لو كانت المقاطعة بناء على القانون الدولي؟ الدول العربية لديها هذا المسوغ القانوني. وليست في حاجة إلى إعلان الحرب على إسرائيل أو إخراج دباباتها وطياراتها من المخازن. ولا تحتاج فقط إلا إلى «الترشيد» في الانفاق الاستهلاكي او الترفيهي في الاستيراد من الدول التي لا تساعد إسرائيل على قتل الفلسطينيين.
ثم هناك ميدان الإعلام الخارجي. وقد توسعت دائرة تأثيره فوق كل وصف باستعمال الانترنت وانتشار الفضائيات. وهو ما أدى مباشرة إلى مظاهرات في عدة دول أوروبية استنكاراً لمحرقة غزة، وأدى كذلك إلى المظاهرات الاسبوعية ضد جدار الفصل العنصري في بلعين.
وفي المجتمع الفلسطيني، لا تزال الكلمة الجامعة هي «حق العودة»، فهي تتعدى حدود الفصائل والاحزاب والمطامع الشخصية. وقد تطورت حركة حق العودة منذ كارثة أوسلو، وأصبح التنوير لها ناجحاً في كل مناطق الشتات، ولكنها لا زالت مبعثرة، لاختلافها في التوجه والأهمية والفعالية. ولذلك لا بد من مؤتمر دولي يجمع كل هؤلاء تحت مظلة واحدة إن لم يكن بالدمج فليكن بالتنسيق.
ميدان التربية الوطنية للشباب هو المعركة الحقيقية، فشبابنا يتجاوز عدده خمسة ملايين، لم يعاصر الثورة الفلسطينية، ولم ينضم للفدائيين، وولد في عصر الاحباط، ولذلك فإن اليأس وعدم المبالاة والرغبة في الهجرة تسيطر على معظم فئاته، إلا من اعتصم بالعقيدة والوطنية.
المعركة طويلة جداً ولكن لا بد من الثبات على المسيرة واستدامة الفعاليات ونقل المسؤوليات من جيل إلى جيل. الحرب طويلة. إسرائيل لن تنهزم اليوم أو غداً لكنها تراهن على أن «الكبار يموتون والصغار ينسون» ويدب الوهن في الشعب ويتنازل عن حقوقه حقاً بعد حق، وتكسب إسرائيل شرعيتها بتوقيع الضحية.
وهناك معطيات يجب أخذها في الحسبان:
المعطى الأول: إسرائيل ستستمر في عنصريتها وإجرامها، ومن رضي بها لن ترضى به. كما أنها رغم قوتها العسكرية ضد الجيوش النظامية فإنها هشة جداً جغرافياً وسكانياً. ولا بد من الاستفادة من هذه الهشاشة.
المعطى الثاني: ان العالم الذي دعم إسرائيل قد بدأ بالتحول عنها، وسيأتي وقت يراها عبئاً وليس ميزة.
المعطى الثالث: ان الشعب الفلسطيني يتطلع إلى القيام بواجبه في الدفاع عن حقوقه، تسانده في ذلك الشعوب العربية والإسلامية والقوى الشريفة في العالم. ولكنه يحتاج إلى هيكلية عمل وقيادة كفؤة تتولى تفعيل هذه القوى كلها.
والمسعى الأول المطلوب هو إعادة انتخاب مجلس وطني جديد يمثل 11 مليون فلسطيني نصفهم ولد منذ انتفاضة الحجارة. ولا شك أن المعارضة الحالية لانتخاب مجلس وطني ستنهار قريباً، لان القائمين على الوضع الحالي لا يملكون ثقة الشعب ولم ينتخبهم 70% منه ولم يقدموا أي إنجاز للشعب الفلسطيني.
وأول واجباته هو ملء الفراغ الناجم عن غياب أجهزة منظمة التحرير. ومن أهمها الدفاع عن حقوق اللاجئين الذين تبلغ نسبتهم ثلثا الشعب الفلسطيني (أو ثلاثة أرباعه لو حسبنا النازحين عام 1967). وذلك بتفعيل كل مخيمات اللاجئين في الوطن العربي، وبتفعيل قدرات الجاليات في الخارج حول الدفاع عن حق العودة.
وكخطوة عملية أولى لتفعيل الشعب الفلسطيني وتمثيله، نقترح أولاً اجتماع نخبة من الفلسطينيين، ذوي المصداقية العالية العارفين بكل هذه الميادين لوضع برنامج سياسي فلسطيني ذي طابع عملي قابل للتطبيق. ومنه ينبثق مؤتمر موسع يشمل ممثلي الجاليات والنقابات والفعاليات. وهذا المؤتمر تمثيلي شعبي يعبر عن المجتمع المدني، ويكون رديفاً لمنظمة التحرير الفلسطينية عندما يعاد بناؤها على نسق قديم. وليس في هذا أي غرابة، فالصهيونية لديها مؤسسات كثيرة منها الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي والمؤتمر العالمي اليهودي وغيرها كثير بجانب دولة إسرائيل. والهدف الأول هو تجنيد كافة فئات الشعب الفلسطيني والسعي الحثيث نحو انتخاب مجلس وطني جديد وبناء منظمة التحرير الجديدة، التي تتكون من الفئات الفاعلة على الساحة الفلسطينية على أساس الميثاق الوطني لعام 1969.
خطة أم حلم
قد يقال انه في الجو العربي البائس، تبدو هذه الاقتراحات ضرباً من الاحلام. هي ليست كذلك. لقد خاض الشعب الفلسطيني أطول معركة في التاريخ ضد شعب أعزل. ولم تعُزه التضحية ولا الصمود ولا الثبات على المبدأ. وإنما افتقد القيادة الحكيمة، وافتقد ايضاً الكفاءة في العمل والتنظيم. لكن هناك جيلا جديدا يختلف عن سابقه، قادرا على العطاء وراغبا فيه.
نحن لا نحتاج إلى قيادة كاريزمية انفرادية، بل نحتاج إلى مؤسسات تتبدل فيها القيادات بحسب الاداء وبحسب المتطلبات. فالمؤسسات لا تموت وهي قابلة للإصلاح. والأكيد أن الشباب قادرون على انشاء وتطوير هذه المؤسسات، فقد ولدوا في المنافي وتسلحوا بالعلم والمعرفة والثقافة التي تخاطب العالم، وهذه كلها صفات أعوزت أبائهم وقادتهم. وفيهم يكمن أمل الشعب الفلسطيني، الذي عانى الكثير، لكنه لم ولن يستسلم أبداً.

الثلاثاء، 13 يوليو 2010

في الذكرى الـ29 لحركة الإتجاه الإسلامي

بقلم راشد الغنوشي
تمر هذه الأيام الذكرى التاسعة والعشرون لتأسيس حركة الاتجاه الإسلامي (6-6-1981) سلف "حركة النهضة"، فيتساءل مراقب عن حالها ومستقبلها؟ وماذا قدمت لمجتمعها؟.
1- ولدت الحركة الإسلامية في تونس ممثلة في خطها العريض في السبعينيات بـ"الجماعة الإسلامية" وفي الثمانينيات بـ"حركة الاتجاه الإسلامي" ثم "حركة النهضة" منذ نهاية الثمانينيات، ولدت من رحم المجتمع التونسي لتلبيّ طلبا ملحا للهوية، تولّد لديه جراء تجربة تحديثية علمانية متطرفة بل مغشوشة قادتها دولة الاستقلال، بزعامة متولّهة بنموذج فرنسي يعقوبي علماني متطرف، استهدف بالتفكيك والتقويض المجتمع الإسلامي العربي الموروث، عقائد وشعائر وقيما ومؤسسات، بلا تمييز بين صالح وفاسد وبين إسلام وتقاليد بالية، مسخّرا من أجل فرض نموذجه أدوات الدولة الحديثة عبر التعليم والإعلام والقانون والثقافة والاقتصاد..، فكان من ذلك شطب المؤسسة الزيتونية العتيدة حارسة العروبة والإسلام في البلاد والمنطقة، والمنتجة لأجيال من العلماء والأدباء والقضاة.. ونسف القضاء الشرعي وتفكيك مؤسسة الوقف العتيدة التي كانت تستوعب حوالي ثلث الملكية في البلاد لخدمة المجتمع وسندا لمؤسساته ولقوته، مما جرده من كل نفوذ مقابل تغول الدولة متحكما وحيدا في مستقبله، وبلغ الهجوم حد الدعوة لانتهاك حرمة الصوم.. واستباحة الزنا والخمور والقمار، وتجريم زيّ الحشمة والتقوى، والتصدي بقوة الدولة والحزب الواحد المتماهييْن مع الزعيم المتأله، لكل صوت معارض.
3- تفاعل التيار الإسلامي الحديث -الذي ولد متتلمذا أساسا على تيارات الحركة الإسلامية المشرقية- مع رياح الأحداث العاصفة داخل البلاد وخارجها، مثل أحداث المواجهة العاصفة بين الدولة وبين الحركة النقابية، كما تفاعل مع بدايات ظهور الحركة الديمقراطية وحركة حقوق الإنسان، وتفاعل خارجيا مع بعض التجارب الإسلامية التجديدية مثل التجربة السودانية بصدد مشاركة المرأة ودورها الفاعل، والتجربة الإيرانية في أبعادها الثورية المنتصرة للمستضعفين.. ومع الفكر الاجتماعي لمالك بن نبي وعلي شريعتي.. أثمر كل ذلك مراجعة مهمة جدا لفكر النشأة الأولى المحافظ، في اتجاه استيعاب إسلامي لبعض منجزات الحداثة على صعيد حقوق المرأة والإنسان والمواطن وتأصيل الفكر الديمقراطي والانحياز إلى قضايا العمال والمستضعفين.
4- دفعت الظروف التي عصفت بالبلاد دولة الحزب الواحد -التي وهن عظمها بوهن زعيمها الذي فتّت في عضده أمراض الشيخوخة- إلى الإقدام على اتخاذ سياسات، بدت وكأنها تحولات ديمقراطية تعددية، إذ أعلن قبوله بأحزاب معارضة... فسارع التيار الإسلامي بتاريخ 6/6/1981 معلنا نفسه حزبا سياسيا، وتقدم بطلب في ذلك إلى مؤسسة الداخلية، متضمّن لمؤسسات الحزب ومسؤوليه وأهدافه ووسائله، وعقد ندوة صحفية للغرض، للتعريف ببرنامجه، مما اعتبره الدارسون سبقا مهما جدا في سياق الحركة الإسلامية العالمية، بما عبر عنه من تبنّ لا لبس فيه للخيار الديمقراطي ولحقوق الإنسان وللمرأة، وانحياز للعمال ولقضايا التحرر في العالم.
5- غير أنه سرعان ما تبين أن ما أقدم عليه النظام مجرد إجراءات شكلية لتلميع نفس البضاعة الفاسدة، بضاعة الحزب الواحد والزعيم المتأله، فلم يلاق إعلان التيار الإسلامي نفسه حزبا يعمل في إطار القانون بما كان يجب من ترحيب تقتضيه مصلحة البلاد، فلم تتأخر الدولة المتألّهة في التعبير عن الاسترابة والتوجس والنقمة من إسلام انبعث من القبور وقد ظن أنه هلك إلى الأبد، فأخذت -وقد كانت منشغلة بالصراع مع اليسار- تنتبه إلى خطورة الأمر وتعدّل من تصويب أسلحتها، مثيرة هواجس الخوف على "مكاسب الحداثة" في البلاد، لدى نخب الحداثة من أجل تعبئة خبراتهم وطاقاتهم وتوظيفها في حربها الصليبية الشاملة والممتدة التي شنتها على التيار الإسلامي فكرا وبشرا وقيما، ومنذ بداية الثمانينيات تم إطلاق آخر مجموعة يسارية ليحل محلهم الإسلاميون، وحتى يومنا لم تتوقف مسالخ الداخلية ومحاكمها ومعتقلاتها عن قمع التيار الإسلامي، إلا لاستراحة قصيرة، فبدت في انتخابات 1989 وكأنها تحاول استيعابه، إلا أنه ظهر في حجم أكبر من أن تتسع له الأوعية، متزعما المعارضة، فعادت إلى سياسة القمع بأشد مما سبق، حتى بلغ عدد المعتقلين في بداية التسعينيات حوالي ثلاثين ألفا، قضى منهم العشرات نحبهم، نحسبهم شهداء، ومن كتبت له الحياة وقضى محكوميته موتا بالتقسيط، غادر مسالخ الغولاغ يجر جسما منهكا، لكن تحلّق به روح شفافة زادتها المحنة يقينا في مشروعها الإسلامي منقذا للبلاد والعباد.
6- شهدت السنة المنصرمة خروج آخر دفعة من النهضويين عدا الرئيس السابق للحركة البروفيسور الشيخ الصادق شورو فرج الله كربه، إلا أن ذلك لم يندرج ضمن مسار انفراجي، وإنما مجرد تنفيسات للضغوط، وظلت مطالبات الحركة المتكررة للنظام بالانفتاح عليها وعلى التيارات الأخرى، والتعامل معها التعامل السياسي باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات الحياة السياسة، والكف كل عن نهج أمني أدمنته دولة الاستقلال وتفاقم وتضاعف مع الرئيس الحالي، بلا جواب، غير استمرار القمع وتنويعه، مما جعل خروج الآلاف من السجن على إيجابيته في حد ذاته لم يغير من حالهم شيئا إلا أنه نقلهم من سجن مضيق إلى سجن موسع، ولك أن تقول من سجن على حساب الدولة إلى سجن على حسابهم الخاص، محرومين من كل حقوقهم في الشغل والتنقل والتداوي المجاني، فضلا عن الحقوق السياسية.
7- المؤكد أن السجون لم تشك البطالة في دولة الاستقلال، فقد تداولت التيارات السياسية الجادة متعة الضيافة فيها. وحل السنوات الأخيرة محل النهضويين جيل جديد من شباب الصحوة الإسلامية يعدّون بالآلاف، شاهدين على فشل ذريع لخطة تجفيف منابع الإسلام التي سخرت لها الدولة -مستقوية بالخارج- كل إمكاناتها، مما له دلالة واضحة على عمق التدين وما زرعته الدعوة الإسلامية المعاصرة وباركه الله سبحانه "ألم ترى كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" (إبراهيم/الآية 23).
ولذلك نستطيع بكل اطمئنان التأكيد أن معركة الهوية -وهي المعركة الأولى التي استثمرت فيها الحركة أغلب جهدها وأرصدتها- قد حسمت لصالح عروبة تونس وإسلامها، بينما كان رهان دولة الاستقلال على تفكيك مقومات تلك الهوية وإلحاق البلاد بما وراء البحار.
9- غير أن الدولة مهما عتت لا تستطيع أن تجدّف إلى الأبد ضد التيار الشعبي، ولذلك بدأنا نرى قدرا ولو طفيفا محتشما من التراجع عن سياسة "تجفيف منابع الإسلام" التي ورطت فيها الدولة تيارات علمانية وماسونية متطرفة. أفرجت الدولة عن "إذاعة القرآن الكريم" فأخذ القرآن يذاع في الأسواق، وتلقى منه على الجمهور مواعظ، بعد أن كان شريط منه كفيلا بسحب ترخيص سائق سيارة أجرة، أو رميه بالتطرف واعتقاله، مع أن "الحجاب" المنصوص عليه في القرآن لا يزال محظورا، ويفتي وزير الشؤون الدينية بغربته عن الإسلام، فأيهما الغريب عن الإسلام؟ إنها فضيحة "الحداثة التونسية".
10- ومع ما تعرض له دعاة الإسلام والحرية منذ زهاء ثلاثة عقود -وخاصة العقدين الأخيرين- من أهوال لم يعرف لها تاريخ البلاد مثيلا، إذ لم يقتصر القمع على المنتمين بل تعدى إلى كل من له بهم صلة بما في ذلك أسرهم، إذ أخضعت لخطة تجويع وعزل وحملت العديد من الزوجات على تطليق أزواجهن، إلا أن الله ثبّت عباده المؤمنين، فما نجح القمع لا في استدراجهم إلى مستنقع العنف ردَّ فعل على عنف السلطة، فهذه حركة إسلامية إصلاحية ديمقراطية أصّلت لمناهج العمل المدني السلمي، ولا نجح في عزلها عن المنتظم السياسي التونسي فقد عادت جزءا منه.
وبكل اطمئنان نقول: إن الحركة بفضل الله قد اجتازت بنجاح امتحان البقاء الذي أخضعت له، وهي اليوم بصدد التعافي وإعداد نفسها لاستثمار ما زرعته في مجتمعها من قيم ونماذج نضالية مشرّفة لا تكاد تخلو منها أسرة تونسية. الحركة واقعة ضمن تيار الصحوة الإسلامية الصاعد في البلاد حاملة مشروع الهوية والحرية والعدالة وتحرير فلسطين والوحدة المغاربية والعربية والإسلامية والتحرر من تيارات الهيمنة الدولية، جزء من التيار الإسلامي الصاعد في العالم المتحالف مع كل التيارات التحررية المناهضة للعولمة المهيمنة.
11- المؤكد أن الحركة في حالة صعود، وليس أمام السلطة أي سلطة تريد أن تحكم البلاد بقدر معقول من العدل والحرية إلا التعامل معها ضمانا للاستقرار الضروري لكل مشروع تنموي جاد. ففي تونس -وضمن عالم يتصاعد فعل الإسلام فيه حتى لتكاد ترتبط به أهم القضايا الدولية- لم يعد هناك متسع كبير لحكم معقول وتنمية مأمولة دون استيعاب للتيار الإسلامي ضمن المنتظم السياسي، دون غش ولا تحكم.
وإذا كانت بلاد الغرب ذاتها قد أخذت تتهيأ لعملية إدماج التيار الإسلامي بعد جفوة وعداء طويلين، فهل سيبقى الإسلام غريبا في دياره الأصلية؟، الحقيقة أن فرص سياسات الإقصاء والقمع والخداع ودولة الحزب الواحد دولة البوليس في الاستمرار آخذة في النفاد وتجدف خارج المستقبل. الحركة الإسلامية قوة تغيير وإصلاح قد تكون الرياح مواتية لها حينا فتزدهر وقد تهب في الاتجاه الآخر فتمتحن، وعندما يكون الحق في واد والظروف القائمة في الاتجاه المضاد، فعلى أبناء حركة الإسلام ألا يستسلموا معترفين بمشروعية الغالب في تقرير مصائر الأمور، بل عليهم أن يصمدوا ويثبتوا قابضين على جمر الحق حتى يأخذ اتجاه الرياح في التبدل.
إن الصمود والعض على جمر الحق بالنواجذ في ظل ميزان قوة مائل إلى جانب العدو هو بحد ذاته نصر، وهو ما تحقق للنهضة ولحلفائها خلال عشرية الجمر عشرية التسعينيات الرهيبة، وقد أخذت اتجاهات الريح تتبدل وموجة الهجوم تنكسر وشوكة الباطل تخضّد وأصوات الحق تعلو، بينما موجة الهيمنة الدولية التي انطلقت في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي وفي سياقها حدثت حروب الخليج وصعد نجم التسويات والتبشير بجنة اقتصاد السوق والتطبيع.. في سياقات تلك الأمواج التي ركبتها حكوماتنا تحت شعار الحرب العالمية على الإرهاب.. طحنت حركات الإسلام في تونس والجزائر وفي أقطار كثيرة "وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق" (غافر/الآية 4). واضح اليوم أن تلك الموجة في حالة انكسار وتأزم: في المستوى الاقتصادي جنة السوق لم يعد يبشر بها أحد. التأميم على قدم وساق في قلب الرأسمالية.. والحرائق تتوسع، وبدأ العقلاء يتذكرون حكمة الإسلام في تجريم الربا والمرابين.
لقد أخذ الخطب يتسع أمام توحّل الآلة العسكرية الغربية في أرض الإسلام الوعرة.. وإذا كان رأس القاطرة يحترق فلا تسل عن العربات الخلفية، لا تكاد تسمع هذه الأيام غير صراخها، معلنة بلوغ مضاعفات الزلزال الأميركي هذا البلد الرأسمالي التابع، أو ذاك، فما يكون حال أتباع الأتباع ؟ لم تعد إستراتيجية استبعاد الإسلام شريكا في السياسة الدولية أمامها وقت طويل للعمل رغم العناد الصهيوني، العقبة الأشد والعدو الألد.
12- "النهضة" في البلاد تنتعش بعد أن نجحت بفضل الله في استيعاب الضربة القاصمة التي وجهت إليها، في زمن مناسب جدا لعدوها، وكما يقال الضربة التي لا تكسر ظهرك تقويك، إنها تنتعش في سياق انتعاش صحوة الإسلام وصحوة الحراك السياسي والمجتمعي: بؤر الانتفاض تتنقل في أطراف البلاد (في الحوض المنجمي وفي فوسانة وجبنيانة وفريانة.. ولن تلبث أن تبلغ مستقرها في مراكز المدن.. يحملها الشباب الطلابي والتلميذي والنقابيون والنخب المثقفة.. في اتجاه فرض التغيير الديمقراطي المتعثر..).
13- أما "النهضة" المهاجرة فقد توفقت بفضل الله في الذب عن الكيان، عن هويتها، حركة إسلامية وسطية ديمقراطية، بما أفضى بخطة العدو في إلقائها تحت بلدوزر الإرهاب إلى الخيبة المريرة، ذبت عن فكرتها ووحدتها منتصرة لمظلومية شعبها ومساجينها وتجميع الضغوط لإطلاق سراحهم على دفعات، وبذل الرعاية الممكنة لعوائلهم التي أخضعت لخطة عزل وتجويع رهيبة، كما مدت خيوط التواصل مع المعارضة الديمقراطية الجادة. وكان لها إسهام معتبر على الصعيد الدولي في تطوير الفكر الإسلامي الوسطي الديمقراطي، وفي الدعوة للإسلام وتوطينه في الغرب، وفي اكتساب خبرات هائلة في مهاجر ممتدة على أزيد من خمسين دولة.
"
14- ولأن نظام القمع قد فشل في استئصالها أو تجريمها أو تركيعها -كما فعل مع الكثير- فهو اليوم يحاول عبر مراكزه الأمنية في السفارات استدراج عدد من أبنائها صوب الحلول الفردية، متخذا من جواز السفر سبيلا للابتزاز وانتزاع إدانات للقيادة، ولكنها محاولات يائسة بائسة، لم تنجح حتى زمن الصدمة الأولى، فكيف وأضواء الفجر تتلألأ في الآفاق.
إن مخططيه الأمنيين يجهلون ما تتوفر عليه الشخصية الإسلامية من طاقات إيمان ومقاومة، تكسّر على صخرتها كل ما تفتقت عنه حيل وأسلحة شياطين الإنس والجان. قد ينفرد الذئب بشاة قاصية شاردة، هنا أو هناك، فيفترسها. أما الصف، فقد عركته المحن وشب عن الطوق وتجاوز بفضل الله مرحلة الخطر، إلا أن سنة الله في التمحيص ماضية.
التحية موصولة إلى القابضين على جمر الإسلام والحرية وأنصارهم وأزواجهم وذرياتهم، في انتظار موعودات الله ."وبشّر المومنين" (التوبة/الآية 112).
:

الأحد، 4 يوليو 2010

بوغوص وعلي والمال العام

بوغوص وعلي والمال العام
سعود المولى
بوغوص بك يوسفيان، أو الخواجه بوغوص، كما كانوا يسمونه في مصر زمن محمد علي باشا الكبير، أرمني عثماني تولى قيادة فرقة من الأرناؤوط في مصر...ولما برهنت تجارب الأيام وسنوات الانتصارات والهزائم، عن مدى صدقه ونزاهته وإخلاصه لمصر وواليها ، أبقاه محمد علي باشا موضع ثقته وكاتم أسراره..وكان يتولى الإشراف على أعمال الصناعة والتجارة وحتى العلاقات الخارجية لوالي مصر...واستمر في ذلك زمناً حتى أن كل دخل الموارد المصرية كان يُعرض عليه..
ولما تدهورت حالة محمد علي باشا الصحية وداهمته الشيخوخة والعجز ولم يعد قادراً على إدارة الأمور، بدأ بوغوص بك يعاني من المضايقات...وما أكثر الحاسدين والمتآمرين حين تتغيّر الأحوال..ولفرط حساسيته وشدة نبله انقطع بوغوص عن المأكل والمشرب حتى مات من الضعف والهزال في الإسكندرية في كانون الثاني 1844 وعمره 72 سنة..
ولما فحصوا تركته اتضح أنه لا يملك شيئاً من المال سوى تسعة عشر شلناً رغم أنه كان مطلق اليد واسع السلطة في المالية ، ورغم أن أوامر محمد علي باشا كانت صريحة في أن يأخذ بوغوص كل ما يحتاج إليه من غير حساب..
ولما علم محمد علي باشا أن بوغوص لم يترك وراءه ثروة فوجىء وظن أن الرجل تعرض لسرقة ما، ذلك ان الباشا كان قد أودع عنده سبعة عشر قيراطاً من الماس!!
وأمر محمد علي باشا بتفتيش منزل بوغوص فوجدوا السبعة عشر قيراطاً من الماس في صندوق الفقيد ومعها ستة أوراق بيضاء موقع عليها بختم محمد علي باشا نفسه ..وكان الباشا قد أعطاها قبل سفره إلى السودان لبوغوص بك ليتصرف بها كما يشاء طبقاً لمصلحة البلاد...فبقيت الأوراق (شيكات على بياض) كما هي بلا استخدام ومعها الماسات... وكلها من المال العام!!.

تذكرت هذه الحكاية وأنا أقرأ في نهج البلاغة كلاماً للإمام علي (ع):"لا ينبغي أن يكون الوالي على الناس البخيل ، فتكون في أموالهم نهمته ، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع"....تذكرت علياً وأنا أنظر من حولي : نحن يا قوم نعيش في زمن صار فيه الوالي ليس البخيل النهم فقط بل الجشع الشره الفاسد..وصار فيه الفساد سمعة حسنة ، والرشوة رتبة معتبرة ، والمحسوبية عزوة مقدّرة... وصارت فيه مصالح الناس تتناهشها اللئام ويضيعها معسول الكلام... نعم: ضاق العدل واستبد الجور، وضعف المنصف وقوي الفاجر حتى أكل مال التاجر...هاجر الشباب وماتت المدن والقرى وافتقر الشرفاء.. حتى رددنا قول الإمام علي: "الفقر هو الموت الأكبر"..وأيضاً: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"...
وقديماً كان يُقال إن الفقر شعار الأنبياء والصالحين ومنه قول البحتري:
فقرٌ كفقر الأنبياء وغربةٌ وصبابةٌ ليس البلاء بواحد
وقال بعض الحكماء: الفقيرمخف آمن ولا عدو له، والغني مثقل خائف ولا تحصي أعداؤه..
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبو العتاهية:
ألم تر أن الفقر يُرجى له الغنى وأن الغنى يُخشى عليه من الفقر
أما علي فهو القائل أيضاً في صورة من أروع التوصيفات الإجتماعية-النفسية: "الغنى في الغربة وطن ، والفقر في الوطن غربة"..
ولكن ما بالنا وعلي!! ليس هو من النوع العادي من البشر.. حتى ليكاد القائل يقول "لن نقدر على التحلي بفضائله وخصاله"...طيب فليكن! ولكن ماذا عن بوغوص يا قوم ؟؟؟ بوغوص الموظف الأرمني المصري؟؟ ألا يوجد في كل هذا الزمن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج أمثال بوغوص؟؟