الجمعة، 16 يوليو 2010

نحو برنامج عمل سياسي فلسطيني

بقلم: سلمان أبو ستة

لا يخفى على أحد الوضع المتدهور للقضية الفلسطينية سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي. ولذلك هناك حاجة ماسة لمراجعة هذا الوضع والخروج ببرنامج عمل سياسي قابل للتطبيق. ولا نقول هنا إن هناك حاجة إلى برنامج وطني، فهو ما زال الميثاق الوطني لعام 1969 وخلاصته أن فلسطين عربية وأن المقاومة (بكل أشكالها) هي وسيلة العمل.
الساحة الفلسطينية
كانت أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية بعد النكبة واضحة كل الوضوح. الوطن معروف والعدو معروف. في الخمسينيات والستينيات نشأت حركة الفدائيين والجمعيات السرية (في قطاع غزة أولاً) ثم تكونت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 ووصلت إلى قمت بروزها عام 1974، وبعدها بدأ الانحدار. وفي المجلس الوطني الأخير في الجزائر عام 1988، وافق المجلس على مضض بأغلبية الثلثين على دولة فلسطينية على خط الهدنة 1949 مع التمسك بحق العودة. ثم جاءت كارثة اوسلو عام 1993 التي شكلت عقد إذعان للشعب الواقع تحت الاحتلال دون الاشارة إلى القانون الدولي أو الحقوق الفلسطينية. ولا نزال إلى اليوم تحت تأثير هذه الكارثة.
ومثلما انشق السادات عن سلفه عبد الناصر، انشق محمود عباس عن سلفه عرفات، فقد تخلى عن المقاومة واعتبر أداتها «حقيرة» ولجأ إلى «حياة» من المفاوضات، وتخلى عن القرار الفلسطيني المستقل واحتمى برضاء الدول الغربية والعربية، وتخلى عن فلسطين عربية واكتفى بالسعي وراء دويلة من بقايا الضفة، واختزل قضية فلسطين كلها إلى كيان معيشي للضفة، وتخلى، إلا بالاسم، عن حق العودة، وتخلى عن منظمة التحرير كصوت الشعب الفلسطيني، إلا كخاتم شرعي للمفاوضات، واكتفى بالسلطة في رام الله، كصورة محسنة من «رابطة القرى»، تجلب الاموال من الغرب وتشتري المؤيدين. واستسلم عالماً أو غير عالم، إلى خدعة بلير التي يقول فيها: على الفلسطينيين أن يقبلوا بشروط الرباعية (الاعتراف بإسرائيل ... الخ) وإلا فلن يحصلوا على المساعدات، ولن تحصل غزة المحاصرة على 4,8 مليار دولار التي وعد بها الغرب في شرم الشيخ لإعمار غزة التي دمرتها إسرائيل.
ومن واجب الرئيس الفلسطيني أن يعلم أن بلير كذاب (وهو الذي خدع العالم لشن الحرب على العراق). بلير كذاب لان الرباعية لم تضع شروطاً إطلاقاً على الفلسطينيين. يقول الفارو دي سوتو الوسيط الدولي لفلسطين (خليفة برنادوت) في تقريره النهائي في مايو 2007 في الفقرة 79:
«وهناك سوء فهم عام بالقول أن الرباعية وضعت «شروطاً» إذا لم تنفذ، فإن ذلك سيكون عقبة في المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية والتواصل معها. لقد حاولتُ المرة بعد الأخرى الايضاح للصحافة أن الرباعية لم تفرض ولو مرة واحدة شروطاً تدعو الفلسطينيين إلى الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف ... (الخ). وإذا كان هذا يبدو كأنه «شروط» الرباعية، فالواقع أن هذه الشروط هي سياسات أميركا والاتحاد الأوروبي وحدها.. وحقيقة الأمر أنهما تتخذان من روسيا والأمم المتحدة غطاء تحت اسم الرباعية لتنفيذ سياستهما».
وفي هذا الجو البائس، أصبح الشعب الفلسطيني شعوباً مختلفة. شعب غزة (12% من الفلسطينيين) محاصر من إسرائيل والغرب والدول العربية الموالية. وهذا الحصار يشكل جرائم حرب وجرائم إبادة بحسب ابسط قواعد القانون الدولي. وشعب في الضفة (18%) قيدت السلطة يديه ومنعته من المقاومة ومنعته في كثير من الاحيان من مجرد التعبير عن تضامنه مع ابناء شعبه في غزة، وزينت له أن غاية امنياته هو «بناء مؤسساته» تحت ظل الاحتلال، وأهله معزولون عن بعضهم في مناطق أ، ب، ج ومن بينهم أهل القدس المحاصرون والمهجّرون من ديارهم بالنسف والإبعاد، ومجموع كل هؤلاء (30%) هم الذين شاركوا في الانتخابات الاخيرة. وشعب فلسطيني عاش على أرض الوطن تحت حكم إسرائيل لستة عقود يبلغ تعداده 1,250,000 فلسطيني في الداخل (1948)، وهم الآن الذين يحملون راية الوطنية داخل إسرائيل. وشعب الشتات: اللاجئون في البلاد العربية، بين خوف من طردهم من أماكن اللجوء إلى المجهول بعيداً عن الوطن الأم وخوف الدول المضيفة من احتمال توطينهم فيحرمون من أبسط الحقوق المدنية كاجراء وقائي. ولعل الخوف من التوطين هو الذي يضع الدول العربية المضيفة بين نارين: تشجيع اللاجئين على المطالبة بحق العودة كي يغادروا البلاد، والخشية من انشائهم كيانات وتجمعات سياسية للمحاربة من أجل العودة. أما شعب الشتات في أوروبا وأميركا الذين يتجاوز عددهم 500,000 فهم من أنشط الفئات سياسياً وإعلامياً وقانونياً، لانهم يعيشون في مجتمعات ديموقراطية تسمح بالتجمع، وإن كانت سياساتها لا تزال موالية لإسرائيل، وهم يحتاجون فقط إلى تجميع قواهم وتوحيد صفوفهم.
في هذا المناخ الفلسطيني يبدو بديهياً أن يكون الواجب الأول لأي رئيس فلسطيني تجميع الصفوف، والعودة إلى كامل الشعب الفلسطيني، تحت إطار مجلس وطني جديد منتخب يمثل 11 مليون فلسطيني، من بينهم 70%، ليس لهم اليوم تمثيل ولا رأي في مصيرهم منذ عام 1988 على الأقل. ولكن محمود عباس رفض أي محاولات للقيام بذلك، رغم أن اتفاقاً مكتوبا في القاهرة في مارس 2005 قد تمت الموافقة عليه من جميع الفصائل، ورغم أن ممثلين لقطاعات واسعة من المستقلين، (والمستقلون هم أغلبية الشعب الفلسطيني، أكثر من 95%)، قد قابلته لهذا الغرض. ولكنه رفض الاستجابة لهذا المطلب الجوهري تحت أعذار مختلفة.
أما المصالحة بين فريقين فصيلين فقد شغلت الناس أكثر مما ينبغي، فهي في أحسن الاحوال خلاف على برنامج سياسي وفي اسوئها خلاف على مراكز السلطة مع اختلاف تاريخ كل منهما في النزاهة. ومكان المصالحة ليس في العواصم العربية ولا أمام أجهزتها الأمنية، وإنما في مجلس وطني منتخب هو الذي يحسم الخلاف على البرامج والاداء. ولو كان هذا المجلس موجوداً، لكفانا مؤونة التنقل بين العواصم العربية والفضائيات.
والخلاصة انه يجب على الشعب الفلسطيني اتخاذ اجراء جديد لوضع البرنامج السياسي المطلوب لتحقيق وحدة الشعب الفلسطيني وتمثيله.
إسرائيل
على الطرف الآخر من المعادلة، تقع إسرائيل. ما هو وضعها اليوم؟ إسرائيل صهيونية. ولو تخلت عن الصهيونية لما أصبحت إسرائيل، وأصبحت فلسطين بها جالية يهودية مهما كبرت. ولذلك لا فائدة من البحث في الركام عن قائد إسرائيلي يؤمن بالحقوق الفلسطينية، وأما تصنيف هذا القائد أو ذاك كيميني أو يساري فلا قيمة فعلية له.
إسرائيل لا تزال متمسكة بخريطة حدود إسرائيل التي قدمتها المنظمة الصهيونية لمؤتمر السلام في فرساي عام 1919. وكل الاحداث التي وقعت من ذلك الحين إلى اليوم تؤيد ذلك. قالت المنظمة الصهيونية إن حدود إسرائيل الغربية تكون «بالاتفاق مع مصر». وهذا ما هو واقع اليوم. وإن الجولان جزء من إسرائيل وهذا ما تم منذ احتلاله عام 1967. وإن جنوب لبنان حتى الليطاني جزء من إسرائيل، وهذا ما فشلت في تحقيقه إسرائيل ولكنها لا تزال تحاول. أما الحدود الشرقية التي تطالب بها المنظمة الصهيونية فهي خط سكة حديد الحجاز، أي خط درعا ـ عمان ـ معان ـ العقبة. وهذا ما تحاول إسرائيل تطبيقه الآن، بوضع برنامج لطرد الفلسطينيين من الضفة بادعاء أن كل فلسطيني في الضفة متسلل يتوجب طرده، والاستمرار في بناء المستوطنات، وسحب هويات القدس، وتجريد أهالي الضفة من 90% من مياه الضفة، وإقامة 600 حاجز على الطرق، والاعتقالات والاغتيالات وغير ذلك.
لم يعد استيلاء إسرائيل الكامل على الضفة سراً حتى في الاوساط الإسرائيلية والغربية. فقد كتب عنه اسرائيليون مثل اكيفا ايلدار وعميرة هاس، وإيال وايزمان، وجيرشون غورنبرغ منذ عدة سنوات. كذلك يوثقه بشكل دوري مكتب الامم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية (OCHAOPT).
وقد أوضح هذا الأمر البروفسور جون ميرز هايمر، الاستاذ المشهور، صاحب تقرير «اللوبي الإسرائيلي» مع زميله البروفسور ستيفن والت، في محاضرته لدى مركز فلسطين في واشنطن ابريل الماضي. وهو أميركي قح يخدم مصالح بلاده فقط.
لقد بيّن بتحليل دقيق للسياسات الإسرائيلية، أن الضفة مقبلة على التهويد الكامل مع بقاء بقع عربية، مما يجعل إسرائيل دولة فصل عنصري على كامل فلسطين التاريخية، ويفتح الباب أمام تهجير جماعي للفلسطينيين، لان البديل في حال زيادة عدد الفلسطينيين إلى حد الاغلبية الا تكون إسرائيل دولة صهيونية، بل دولة ديموقراطية لجميع السكان، وهذا لن تسمح به إسرائيل حتى لو اقترفت هولوكوست ضد الفلسطينيين.
ولنلق نظرة على التركيبة السكانية لإسرائيل.
في عام 2009، بلغ عدد السكان اليهود في إسرائيل 5,500,000 إذا اعتبرنا أن كل الروس البالغ عددهم مليون نسمة يهود، (والواقع أن 40 - 60% منهم غير يهود). حوالى نصف اليهود مهاجرون ولدوا خارج فلسطين، والنصف الآخر ولدوا فيها، ولذلك فإن فئاتهم العمرية صغيرة. ومن حيث الأصل، فإن 37% من اليهود جاءوا من أميركا وأوروبا و29% من آسيا وأفريقيا. وهذه النسبة الأخيرة في تزايد بسبب ارتفاع نسبة المواليد لديهم.
هذه الارقام والنسب معرضة لتغير كبير في حال انتفاضة كبيرة أو اضطرابات خطيرة في المنطقة أو حروب تصاب فيها إسرائيل بضربة موجعة. والتحول في التركيبة السكانية سيكون هائلا لو تحولت إسرائيل من دولة صهيونية إلى دولة ديموقراطية لكل مواطنيها عرباً ويهوداً. يقول البروفسور الأميركي اليهودي Ian Lustic، انه بعد انتفاضة الأقصى عام 2000 تضاعف عدد الذين تركوا إسرائيل، وزادت نسبة الذين استرجعوا جنسياتهم الأوروبية بمقدار 40%. ومن الملاحظ من تقارير الاحصاء الإسرائيلية أن ثلاثة أرباع الإسرائيليين يسافرون خارج البلاد على الاقل مرة في السنة وأن حوالى ثلاثة أرباع مليون يهودي يحملون الجنسية الإسرائيلية يقيمون خارج إسرائيل بصفة شبه دائمة. وأن كل يهودي في إسرائيل لديه جنسية أخرى، صالحة للاستعمال أو ممكن استرجاعها من بلد الموطن.
وكما يستنتج البروفسور ميرزهايمر، فإن إسرائيل ستقاوم مقاومة عنيفة انخفاض عدد اليهود أو نسبتهم، إما عن طريق تشجيع هجرة جديدة، وهذا صعب جداً في الوقت الحالي لنضوب المصادر المفيدة لإسرائيل، أو عن طريق طرد الفلسطينيين الموجودين على أرض فلسطين التاريخية الذين يتكاثرون بسرعة أكثر من اليهود (عدا الحاريديم)، وستستعمل إسرائيل كل الوسائل، ولو إلى حد استخدام «سياسات إجرامية» كما يقول، مثل التهجير العرقي أو أسوأ من ذلك. وقد تستخدم هذه السياسة دون تردد تحت غطاء حرب إقليمية، أو محاربة الإرهاب.
ولذلك فإن الطريق الوحيد المفتوح لإسرائيل هو أن تصبح علناً وبشكل مفضوح دولة فصل عنصري، اسوأ من جنوب افريقيا. ولذلك فإنه لا أمل في قيام دولتين مستقلتين بالمعنى الدولي المتعارف عليه على أرض فلسطين، مع أن هذا الخيار في مصلحة إسرائيل لانه يختزل قضية فلسطين في حكم ذاتي محدود على خُمس مساحة فلسطين. ولذلك تدعمه أميركا والاتحاد الأوروبي وتحث محمود عباس على الدخول في مفاوضات «حياتية» عقيمة يعلم الكل أنها لن تأتى بنتيجة مقبولة، لان أعلى ما ستوافق عليه إسرائيل سيكون أقل كثيراً مما يقبله حتى المؤمنون بتلك المفاوضات.
والخيار المنطقي الآخر إذا استمرت إسرائيل في أسلوبها الحالي هو قيام دولة ديموقراطية لجميع السكان على أرض فلسطين التاريخية. وهذا لن توافق عليه إسرائيل طوعاً أو اختياراً. ولو حدث فإنه، كما يقول اوري أفنيري، «داعية السلام»، لن يبقى في فلسطين اشكنازي واحد، فالاشكناز هم جنود الصهيونية.
إذاً، الصدام محتوم. فإما أن تكون فلسطين دولة صهيونية بالكامل يهجّر أهلها الفلسطينيون إلى شرق الأردن، وهذه هي الخطة الحالية، أو دولة ديموقراطية للعرب واليهود، وهذا هو الحل الوحيد على المدى البعيد. وهذا بالطبع يستثنى ظروفاً فجائية غير متوقعة في المنطقة، وما أكثرها، تسارع في حدوث هذا الأمر أو ذاك.
إذن لم يعد طرد أهالي الضفة موضع خلاف في السياسة الإسرائيلية، ولكن الخلاف هو على الاسلوب والتوقيت وطريقة التقسيط، بحيث لا تثير العالم الغربي، هذا لو أبدى غضبه. ولكن إلى أين يطردون؟
لم يعد الوطن البديل في الأردن خرافة في الفكر الإسرائيلي. لقد وقع الملك حسين المعاهدة مع إسرائيل تحسباً لذلك أي كي تعترف إسرائيل بالأردن كدولة مستقلة شرقي النهر، وليس العكس. أي ليس المهم اعتراف الأردن بإسرائيل. وهذا ما أكده له شارون شخصياً. فجنرالات إسرائيل يفضحون السر بين آونة وأخرى.
ليست المسألة تحويل الأردن إلى وطن بديل فقط، بل قد تصبح المشكلة أعمق من ذلك: باستيلاء اسرائيل على شريط من دولة الأردن يوازى نهر الأردن شرقاً حتى خط سكة حديد الحجاز (تقريباً 30 - 50 كم شرقي نهر الأردن) كما دعت إليه المنظمة الصهيونية عام 1919. ويطرد الفلسطينيون في الضفة إلى شرقي هذا الخط. وبذلك لا تحتاج إسرائيل إلى حاجز عسكري على نهر الأردن الذي تحتله الآن. وخط السكة الحديد هو أفضل عسكرياً لإسرائيل من مواقع على ضفة النهر الغربية لانه يحتوى على مرتفعات تقام عليها محطات انذار في عجلون مثل جبل الشيخ في الجولان.
ولكن رغم قوة إسرائيل العسكرية وخضوع العرب المجاورين لها، فإنها هشة في كثير من النواحي خصوصاً الجغرافية والسكانية. ومن حيث التوزيع الجغرافي فإن 84% من اليهود يعيشون في 17% من مساحة إسرائيل وتقع مناطق سكناهم العمرانية في منطقة صغيرة لا تتجاوز 5% من مساحة إسرائيل. وباقي الأرض في إسرائيل بها أقلية من السكان وتستعمل اساساً للقواعد والمنشآت العسكرية.
وإذا أخذنا شريطاً بعرض 50 كم يمتد من قطاع غزة حتى الخليل، فإننا لا نجد فيه يهوداً يتجاوز عددهم مخيم لاجئين واحد (عدا سكان المدن). وهؤلاء هم سكان الكيبوتز الذي أفلس مالياً وايديولوجياً ولم يبق فيه إلا العجزة. ولو أخذنا شريطاً بعرض نصف حدود لبنان الجنوبية يمتد من تلك الحدود حتى جنين فإننا نجد مثل هذا العدد من اليهود سكان الأرض المحتلة، (باستثناء سكان المدن وأهل الجليل الفلسطينيين).
أما الاقتصاد في إسرائيل فهو قوي جداً من جهة وهش من نواح أخرى. يبلغ الناتج المحلى الاجمالي لإسرائيل 207 مليارات دولار لعام 2009، مصدره 32% من الصناعة، 65% من الخدمات، 3% من الزراعة فقط. ومصادر الناتج القومي الاجمالي تأتى كالآتي: 74% من التصدير الصناعي و24% من تصدير الخدمات. أي أن اعتماد اقتصاد إسرائيل الاساسي على (1) على الصناعة ذات التقنية العالية و(2) على التصدير لأوروبا وأميركا.
وليس من العجب أن يقال ان إسرائيل ربيبة الغرب. ذلك لأن إسرائيل مصنع كبير محصور في عدة مناطق جغرافية حول حيفا وتل أبيب، يسّوق له اليهود في أميركا وغرب أوروبا بما لهم من التأثير المالي والسياسي في تلك البلاد. فإسرائيل إذن «منطقة تجارية حرة» ليهود الغرب. وهي أيضاً ملجأ للهاربين من وجه العدالة، وأكبر مكان لغسل الاموال التي يجنيها اليهود في الغرب.
وقد أجمع 250 خبيراً إسرائيليا في دراستهم لمستقبل إسرائيل حتى عام 2020 على أن الاهتمام بالارتباط الصناعي مع الغرب هو أساسي، وان هدف إسرائيل الأول أن تكون من مصاف الدول الصناعية الستة إلى الثمانية في العالم. ولهذا عقدت إسرائيل عشرات الاتفاقيات الصناعية والعلمية مع الدول الغربية لهذا الغرض، وتبيع منتجاتها لهم بعقود طويلة الأجل، بل تدفع تلك الدول نفقات الأبحاث والتطوير.
ويقول مخطط إسرائيل لعام 2020 ان غرض إسرائيل من السلام مع العرب، ليس خشية من قوتهم العسكرية، وليس رغبة في تسويق منتجاتهم في الاسواق العربية فهي عالية التقنية لا يحتاج اليها العرب، وإنما لان «السلام»، والمقصود به اعتراف العرب بشرعية إسرائيل، يهدئ مخاوف الغرب على استثماراته في إسرائيل. وإسرائيل تحتاج إلى تدفق هذه الاموال. وأي خطر يهدد إسرائيل حتى لو كان انتفاضة، أو انفجارات هنا أو هناك، أو تخريب لاستثمارات الغرب الصناعية مهما كان صغيراً، سيكون له تأثير سلبي كبير على اقتصاد إسرائيل، وعلى اقتصاد الغرب الداعم لها.
وهذا يفسر سعي إسرائيل الدائم إلى عرض واجهة سلام مزيفة والدخول في مفاوضات أبدية غرضها إعطاء الغرب وبعض العرب الانطباع بأن السلام قادم لا محالة، وانه لا خوف على استثمارات الغرب، لا من ناحية فعلية من حيث الخوف من تدميرها، ولا من ناحية قانونية دولية، أي عزلها دولياً، وتقديم قادتها لمحكمة جرائم الحرب. في العام 1948 دخلت بعض الدول العربية فلسطين بعد خروج الانجليز للدفاع عن أهلها تحت ضغط المظاهرات التي عمت شوارع عواصمها احتجاجاً على مذابح دير ياسين وغيرها. ولم تكن مستعدة لتحرير فلسطين لا بالفعل ولا بالنية. وعندما دخلت القوات العربية فلسطين كان اليهود يسيطرون على مساحة 5,5% من فلسطين وخرجت منها بالهزيمة واحتلال إسرائيل لما يساوى 78% من فلسطين.
ولم تدخل أي دولة عربية حرباً بعد ذلك لتحرير فلسطين. والحروب الحدودية كانت لرد اعتداء إسرائيل على تلك الدول. وبعد هزيمة 1967 أصبحت تلك الدول تدعم حركة التحرير الفلسطينية بالمال والسياسة. وبعد معاهدتي السلام مع إسرائيل واتفاقية المبادئ في اوسلو، تخلت عن هذا أيضاً. ودعمت التيار الذي يدعو الفلسطينيين إلى القبول بما يأتي به الامر الواقع من فتات، ووقفت ضد البرنامج السياسي الذي يدعو إلى تحرير فلسطين.
ولكن الشعوب العربية، ومعها الشعوب الإسلامية، وقفت موقفاً وطنياً مشرفاً إلى جانب الحقوق الفلسطينية. وعلى الرغم من ذلك، هناك تطابق عرضي في بعض وجهات النظر الرسمية. لبنان والأردن والفلسطينيون لديهم رغبة مشتركة في رفض مشاريع التوطين لاسباب مختلفة. ولذلك فإن من مصلحة لبنان والأردن الوقوف إلى جانب حق العودة. وهو أمر يجب الاستفادة منه إلى أقصى الحدود بتقوية حركة حق العودة في تلك البلاد، والسماح للاجئين بإنشاء مؤسساتهم الوطنية التي تمثلهم، ومنحهم الحقوق المدنية التي يتمتع بها اللاجئ الفلسطيني المقيم في بلد أوربي، وهو الذي يكوّن الآن أهم القوى الشعبية المطالبة بحق العودة.
ما العمل؟
في غياب منظمة التحرير الفلسطينية وعجز القائمين عليها عن القيام بعمل فعال للدفاع عن الحقوق الفلسطينية، يجب على الشعب الفلسطيني، أفراداً وهيئات ولجانا، القيام بواجباتهم في ميادين كثيرة متاحة له، ولا تحتاج إلى إذن من أحد، ولكنها تحتاج إلى كثير من الجهد والتنظيم وقليل من المال، أقل بكثير من ثمن دبابة عربية يعلوها الصدأ في المخازن.
الميادين المتاحة كثيرة جداً. لقد تدهورت صورة إسرائيل في الغرب الذي يمدها بالسلاح والمال. وهذا بجهد الجمعيات الأهلية الأجنبية المدافعة عن حقوق الانسان في أوروبا وأميركا مع مساهمة هامة من الفلسطينيين في تلك البلاد. هذا الجهد يجب أن يضاعف ويتوسع ويشترك فيه عدد أكبر من الفلسطينيين في الشتات. ومن باب أولى يجب أن ينتشر هذا الجهد في اوساط الشعوب العربية. ومن العيب أن يأتي الايرلندي والبريطاني، ثم المسلم التركي لكسر الحصار على غزة ولا نجد مثل هذا النشاط في الاوساط العربية.
ثم هناك الميدان القانوني المفتوح على مصراعيه. بعد تقارير دوجارد وفالك وأخيراً جولد ستون، بالإضافة إلى تقارير هيومان رايتس ووتش وجمعية العفو الدولية، هناك رصيد كبير من توثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، يجّرم بموجبه قادة إسرائيل في كثير من الدول. ورغم أن كثيراً من الجهات العربية الرسمية والشعبية لديها لجان جرائم حرب، إلا أن إنجازاتها ضعيفة أو معدومة ومتفرقة. وهناك حاجة إلى اختيار الصالح منها وتجميع القوى الأخرى تحت إدارتها. ومن الجدير بالذكر أن اوامر القبض على بعض قادة إسرائيل في بريطانيا قد تمت على يد مكاتب محاماة بريطانية متعاطفة مع فلسطين ومتحالفة مع جمعيات قانونية فلسطينية.
والنجاح في هذه المهمة يكفل ثلاثة أمور هامة: محاكمة مجرمي الحرب والقصاص منهم، ومنعهم من التنقل والسفر، وفضح جرائم إسرائيل أمام العالم.
وفي هذا الميدان تبرز أهمية كسر الحصار عن غزة الذي أصبح يمثل أبشع مثال على الجرائم التي ترتكب في وضح النهار وعلى شاشات التلفزيون، دون أن يتحرك أحد إلا القليل من أصحاب الضمائر.
وفي هذا الميدان، يجب إبراز قضية أكثر من عشرة آلاف فلسطيني أسير لدى إسرائيل، دون مسوغات قانونية، ولا أخلاقية. وهذه أكبر نسبة في تاريخ أي احتلال لان 40% من الشباب الذكور في الضفة وغزة اعتقلتهم إسرائيل على الاقل مرة واحدة في حياتهم منذ احتلالها عام 1967.
ومع تطور الاتصالات الإلكترونية والفضائيات، لم تعد المسافات ذات أهمية. ولذلك فإن الفلسطينيين والمتضامنين معهم في العالم يستطيعون شن حملات إعلامية بالرد على مزاعم إسرائيل وكشف جرائم إسرائيل السابقة والحالية. ولقد حدث تطور كبير في هذا الميدان عن طريق نجاح حملة المقاطعة (BDS) التي انضمت عليها عدة نقابات وجامعات في العالم، وهي لا تزال في نمو كبير.
كل هذه النشاطات، على تواضعها، أزعجت إسرائيل، وجندت لها آلافاً من أنصارها في العالم في حملة تسمى (هزبرا)، وتستثير لها الاعوان تحت شعار الحملة ضد نزع الشرعية عن إسرائيل.
وهناك ايضاً الميدان المفتوح للتواصل مع برلمانات العالم والمحافل الدولية ووكالات الأمم المتحدة بما فيها اليونسكو، وذلك عن طريق زيارات وفود شعبية من المخيمات والجاليات والأسرى المحررين وغيرهم. وهنا يبرز دور الجمعيات الأهلية (NGO) في البلاد المختلفة التي تستطيع ترتيب هذا التواصل وتفعيله.
وهناك أيضاً أهم ميدان يؤثر على إسرائيل وهو الميدان الاقتصادي. وكما سبق ذكره فإن التأثير على اقتصاد إسرائيل أوجع من حرب الدبابات الفاشلة. وعلى الرغم من عفوية حركة مقاطعة إسرائيل الشعبية (BDS) وانتشارها في أوربا وإلى حد ما في أميركا فإنها تقلق إسرائيل من ناحيتين، الإعلامية والاقتصادية.
لكن الضربة الحقيقية تأتي من مقاطعة العرب الاقتصادية للشركات التي تتعامل مع إسرائيل والتي كانت سارية إلى أن وقعت معاهدات (السلام) مع الأردن ومصر. وبحساب بسيط نجد أن الدول العربية إما شعبياً أو رسمياً تستطيع بمقاطعة البضائع من أميركا وهولندا وألمانيا وبريطانيا فقط، اعتماداً على أن إسرائيل خارجة عن القانون الدولي الذي يعاقب الاحتلال والفصل العنصري، واستناداًَ إلى القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 9 يوليو 2004 والذي أقرته الأمم المتحدة، أن تجبر هذه الدول على إعادة حساباتها حول التحيز لإسرائيل. وإذا توقفت مبيعات المرسيدس ومنتجات سيمنز مثلا فإن المانيا تفكر مرتين قبل تصنيع غواصات نووية لإسرائيل والمشاركة في تصنيع أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية التي تقوم بها الآن، لصالح إسرائيل. والمقاطعة سلاح معروف ومعترف به. وها نحن نجد أميركا تطبقه بدون مسوغات قانونية. فكيف لو كانت المقاطعة بناء على القانون الدولي؟ الدول العربية لديها هذا المسوغ القانوني. وليست في حاجة إلى إعلان الحرب على إسرائيل أو إخراج دباباتها وطياراتها من المخازن. ولا تحتاج فقط إلا إلى «الترشيد» في الانفاق الاستهلاكي او الترفيهي في الاستيراد من الدول التي لا تساعد إسرائيل على قتل الفلسطينيين.
ثم هناك ميدان الإعلام الخارجي. وقد توسعت دائرة تأثيره فوق كل وصف باستعمال الانترنت وانتشار الفضائيات. وهو ما أدى مباشرة إلى مظاهرات في عدة دول أوروبية استنكاراً لمحرقة غزة، وأدى كذلك إلى المظاهرات الاسبوعية ضد جدار الفصل العنصري في بلعين.
وفي المجتمع الفلسطيني، لا تزال الكلمة الجامعة هي «حق العودة»، فهي تتعدى حدود الفصائل والاحزاب والمطامع الشخصية. وقد تطورت حركة حق العودة منذ كارثة أوسلو، وأصبح التنوير لها ناجحاً في كل مناطق الشتات، ولكنها لا زالت مبعثرة، لاختلافها في التوجه والأهمية والفعالية. ولذلك لا بد من مؤتمر دولي يجمع كل هؤلاء تحت مظلة واحدة إن لم يكن بالدمج فليكن بالتنسيق.
ميدان التربية الوطنية للشباب هو المعركة الحقيقية، فشبابنا يتجاوز عدده خمسة ملايين، لم يعاصر الثورة الفلسطينية، ولم ينضم للفدائيين، وولد في عصر الاحباط، ولذلك فإن اليأس وعدم المبالاة والرغبة في الهجرة تسيطر على معظم فئاته، إلا من اعتصم بالعقيدة والوطنية.
المعركة طويلة جداً ولكن لا بد من الثبات على المسيرة واستدامة الفعاليات ونقل المسؤوليات من جيل إلى جيل. الحرب طويلة. إسرائيل لن تنهزم اليوم أو غداً لكنها تراهن على أن «الكبار يموتون والصغار ينسون» ويدب الوهن في الشعب ويتنازل عن حقوقه حقاً بعد حق، وتكسب إسرائيل شرعيتها بتوقيع الضحية.
وهناك معطيات يجب أخذها في الحسبان:
المعطى الأول: إسرائيل ستستمر في عنصريتها وإجرامها، ومن رضي بها لن ترضى به. كما أنها رغم قوتها العسكرية ضد الجيوش النظامية فإنها هشة جداً جغرافياً وسكانياً. ولا بد من الاستفادة من هذه الهشاشة.
المعطى الثاني: ان العالم الذي دعم إسرائيل قد بدأ بالتحول عنها، وسيأتي وقت يراها عبئاً وليس ميزة.
المعطى الثالث: ان الشعب الفلسطيني يتطلع إلى القيام بواجبه في الدفاع عن حقوقه، تسانده في ذلك الشعوب العربية والإسلامية والقوى الشريفة في العالم. ولكنه يحتاج إلى هيكلية عمل وقيادة كفؤة تتولى تفعيل هذه القوى كلها.
والمسعى الأول المطلوب هو إعادة انتخاب مجلس وطني جديد يمثل 11 مليون فلسطيني نصفهم ولد منذ انتفاضة الحجارة. ولا شك أن المعارضة الحالية لانتخاب مجلس وطني ستنهار قريباً، لان القائمين على الوضع الحالي لا يملكون ثقة الشعب ولم ينتخبهم 70% منه ولم يقدموا أي إنجاز للشعب الفلسطيني.
وأول واجباته هو ملء الفراغ الناجم عن غياب أجهزة منظمة التحرير. ومن أهمها الدفاع عن حقوق اللاجئين الذين تبلغ نسبتهم ثلثا الشعب الفلسطيني (أو ثلاثة أرباعه لو حسبنا النازحين عام 1967). وذلك بتفعيل كل مخيمات اللاجئين في الوطن العربي، وبتفعيل قدرات الجاليات في الخارج حول الدفاع عن حق العودة.
وكخطوة عملية أولى لتفعيل الشعب الفلسطيني وتمثيله، نقترح أولاً اجتماع نخبة من الفلسطينيين، ذوي المصداقية العالية العارفين بكل هذه الميادين لوضع برنامج سياسي فلسطيني ذي طابع عملي قابل للتطبيق. ومنه ينبثق مؤتمر موسع يشمل ممثلي الجاليات والنقابات والفعاليات. وهذا المؤتمر تمثيلي شعبي يعبر عن المجتمع المدني، ويكون رديفاً لمنظمة التحرير الفلسطينية عندما يعاد بناؤها على نسق قديم. وليس في هذا أي غرابة، فالصهيونية لديها مؤسسات كثيرة منها الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي والمؤتمر العالمي اليهودي وغيرها كثير بجانب دولة إسرائيل. والهدف الأول هو تجنيد كافة فئات الشعب الفلسطيني والسعي الحثيث نحو انتخاب مجلس وطني جديد وبناء منظمة التحرير الجديدة، التي تتكون من الفئات الفاعلة على الساحة الفلسطينية على أساس الميثاق الوطني لعام 1969.
خطة أم حلم
قد يقال انه في الجو العربي البائس، تبدو هذه الاقتراحات ضرباً من الاحلام. هي ليست كذلك. لقد خاض الشعب الفلسطيني أطول معركة في التاريخ ضد شعب أعزل. ولم تعُزه التضحية ولا الصمود ولا الثبات على المبدأ. وإنما افتقد القيادة الحكيمة، وافتقد ايضاً الكفاءة في العمل والتنظيم. لكن هناك جيلا جديدا يختلف عن سابقه، قادرا على العطاء وراغبا فيه.
نحن لا نحتاج إلى قيادة كاريزمية انفرادية، بل نحتاج إلى مؤسسات تتبدل فيها القيادات بحسب الاداء وبحسب المتطلبات. فالمؤسسات لا تموت وهي قابلة للإصلاح. والأكيد أن الشباب قادرون على انشاء وتطوير هذه المؤسسات، فقد ولدوا في المنافي وتسلحوا بالعلم والمعرفة والثقافة التي تخاطب العالم، وهذه كلها صفات أعوزت أبائهم وقادتهم. وفيهم يكمن أمل الشعب الفلسطيني، الذي عانى الكثير، لكنه لم ولن يستسلم أبداً.