‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحوار والعدالة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحوار والعدالة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 2 فبراير 2013

عفيف أبي فراج : في ذكراه يضيء قنديل المعرفة كلمة الدكتور سعود المولى في ندوة تكريم المرحوم الدكتور عفيف فراج- بعلشميه 25/11/2012


التحية الأولى أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى السيدة عائدة وإلى عائلة عفيف الذين لولاهم لما كان هذا اللقاء حول كتاب جديد هو السادس منذ وفاته التي كانت مؤلمة لنا جميعاً. والتحية الثانية أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى أصدقاء وزملاء ورفاق عفيف الذين يلتقون هنا اليوم حول كتابه كما كانوا يلتقون في السنوات الثماني الماضية منذ وفاته. في الحديث النبوي الشريف أنه "إذا مات الانسان ينقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية (وهي الوقف بحسب أغلب المفسرين) وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له"... وقد حقق عفيف هذه الثلاث من خلال السيدة عائدة خداج أبي فراج، وأولادهما، وقد وقفوا أنفسهم ومالهم ووقتهم وعلاقاتهم على نشر وتعميم علمه النافع ما جعلنا جميعاً ندعو له بالحسنى والثواب وندعو لهم بطول البقاء.. واليوم يتجدد هذا العطاء صدقة جارية وعلماً نافعاً ودعاء له وللعائلة، يتجدد بكتاب جديد (القمع السياسي، دار الآداب، بيروت، 2012) هو بحد ذاته مَعلم من معالم وعينا وفكرنا ونضالنا ولو أنه جاء بعد 30 سنة على كتابته...والكتاب هو أطروحته لنيل الدكتوراه عام 1982 وقد قامت السيدة عائدة وابنهما طارق بترجمتها الى العربية.. وأنا سأحاول في هذه العجالة أن أموضع الكتاب الجديد في سياقه التاريخي الذي حمل تحولات وتطلعات عاشها عفيف وعشناها معه وواكبناها سوية وشكلت زاداً له ولنا في فهمه وفهمنا المتجدد للواقع وفي جهاده وجهادنا الدائم من أجل المستضعفين والفقراء الكادحين، ومن أجل المعرفة المفيدة والعلم النافع، وهذا ما ميزه كمثقف مناضل ملتزم، أي كمجاهد، شاهد وشهيد... عفيف الزميل والصديق والأخ والزوج والأب ورفيق النضال والمعاناة في سبيل الحق والعدل، هو مجاهد حر، بالعلم والعمل، من أجل وطن أفضل، من أجل لقمة عيش حلال، من أجل حرية وكرامة، ومواطنة ومساواة.. وهو شاهد على عصره، وشهيد على ما قاله وكتبه.. وهذا أيضاً من الحديث النبوي الشريف: من مات دون أهله فهو شهيد، من مات دون أرضه فهو شهيد... ومن الحديث النبوي أيضاً: أن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء.. وعفيف الشاهد الشهيد كان أولنا وأسبقنا في كل شيء.. بعد نكسة حزيران 67 وكان يومها في مصر ومنتمياً الى حركة القوميين العرب ذات الهوى الناصري الاشتراكي، كان عفيف من الذين شاركوا في نقد التجربة المريرة وفي بلورة طروحات التحول اليساري لحركة القوميين العرب الى جانب محسن ابراهيم ومحمد كشلي ورفاقهما.. وكان كتاب لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (دار الطليعة، بيروت، 1970) باكورة انتاج هذا التطور اليساري في الحركة القومية العريقة... وأولى ثمار تحول عفيف كانت كتابه الأول ( دراسات يسارية في الفكر اليميني) (دار الطليعة 1970)، وفيه انتقد الفكر اليميني اللبناني بتجلياته المارونية الكتائبية كما القومية السورية، وصولاً الى التحريفية الماركسية للحزب الشيوعي اللبناني الموسكوبي، الى مثالية المعلم كمال جنبلاط، "ذات الفكر العتيق" (على حد وصفه لها)... كان سلاح النقد الثوري الجذري هو زاده الأول في تمّيزه بين اقرانه ، وهو سلاح ماركسي أساسي ولكننا امتطيناه على صهوة ربيع طلاب أوروبا الغربية في أيار 1968، وربيع براغ التي دمرتها الدبابات الروسية في آب 1968، الى ربيع الثورة الفيتنامية (هجوم الربيع 1968) ، فربيع الثورة الثقافية الصينية... وقد أسهم كتابه الأول ذاك في استثارة الحوارات والنقاشات داخل يسار الحزب القومي السوري الخارج من السجون، وأثمر انشقاق عشرات الشباب المتمركس من الحزب العتيق.. كما كان للكتاب دور كبير في النقاش الماركسي بين منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (وريثة حركة القوميين العرب) وجماعة لبنان الاشتراكي (وضاح شرارة، أحمد بيضون، حسن قبيسي، وجيه كوثراني، محمود سويد، فواز طرابلسي).. ولكن الأثر الأكبر كان في الوسط الطلابي حيث أنه ساعدنا على بلورة صيغة (لجان العمل الطلابي) في المدارس والجامعات، كصيغة نضال مشترك تجمع قوى اليسار الجديد غير المتشكل بعد في إطار تنظيمي محدد.. الا ان الأهم في ذلك الكتاب أنه حمل مبكراً مقاربتين لم يسبقه اليهما أحد من ابناء جيله ورفاقه في اليسار.. المقاربة الأولى تتمثل في تشخيصه البنيوي لتمزق المواطن اللبناني والمجتمع اللبناني ما بين ثقافتين وهويتين ، ما بين "جذوره الحضارية والطبقية وحمى احتراق الحضارة الغربية الأخلاقي والمعنوي"، ما بين مجتمعه والمجتمعات العصرية، وما بين الطائفية السياسية والمواطنة المتساوية، وما بين مناهج التعليم المتعددة وضرورات الوحدة الثقافية الوطنية، وما بين كلنا للوطن وكلنا للطائفة والعائلة والطبقة الحاكمة... وقد أشار عفيف بعمق يومها الى ذلك الاغتراب والاقتلاع الذي يعانيه المواطن اللبناني.. ولكن الشيء الجديد يومها، بالنسبة ليساري ماركسي، لم يكن فقط في فهمه لمعنى المواطنة والدولة المدنية، وانما فهمه للتناقض الحضاري بين شرق وغرب، وللمسألة الثقافية تحديداً، ومسألة الهوية بالتالي، وهو الموضوع الذي سيستأثر بتفكيره وأبحائه وعناوين كتبه اللاحقة.. أما المقاربة الثانية المبدعة والمبكرة لعفيف فتمثلت في فهمه الماركسي الجديد للمسألة الدينية في بلادنا. وبرغم أنه لم يكن قد قرأ غرامشي يومها (على ما يبدو) إلا أنه استطاع مبكراً أن يقدم قراءة جديدة نراها تتكرر وتتطور لاحقاً في فهمه للشرق وللاسلام، ثم في فهمه للمسألة اليهودية وللصهيونية وحاضنتهما الحضارية والثقافية، على ما نراه في إثنين من كتبه اللاحقة على الأقل (اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية) و (رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود).. ناهيك عن حضور هذه المقاربة في كتابيه (ثنائية شرق غرب) و(إشكالية النهضة). وقد استخدم عفيف في مقاربته للمسألة الدينية عدة نظرية وثقافية وفكرية كانت جديدة بالنسبة الى أبناء جيله وتياره السياسي والفكري تمثلت بكتابات ماكس فيبر واللاهوتي بولتمان (وهما غير ماركسيين بل ملعونان عند الماركسيين) إضافة الى كتاب كارل ماركس الرائع حول المسألة اليهودية (وهو كتاب يتم تجهيله ونفيه من تراث ماركس)، وكتابات الماركسيين اليهود أمثال أبراهام ليون ومكسيم رودنسون..ناهيك عن استشهاده بكتاب لكاوتسكي (الأمر الخطير يومها لأننا درجنا على تجاهل "المرتد كاوتسكي"، بحسب تصنيف لينين له). وقد عالج عفيف المسألة الدينية من زاوية المادية الجدلية الفلسفية (علاقة الفكر بالكائن، الإنسان بالطبيعة، وأيهما الأسبق)، كما من زاوية المادية التاريخية والسوسيولوجيا الماركسية الجديدة (لويس آلتوسير كمثال، وكان في بداية اكتشاف الماركسيين العرب له) .. فتكشّف عفيف فراج منذ ذلك التاريخ المبكر عن عالِم موسوعي مفكر مثقف مطلع وعن باحث سوسيولوجي واعد.. وفي كتابه الثاني (كمال جنبلاط المثالي الواقعي 1976) تميّز عفيف أيضاً عنا جميعاً وقد سبقنا الى التقاط خصوصية المسألة اللبنانية، والى فهم الأشخاص والأدوار خارج إطار التنصيف الطبقي الماركسوي التبسيطي .. عفيف الذي كان انتقد بشدة كمال جنبلاط ( في الكتاب الأول فصل بعنوان: الأستاذ جنبلاط مثالي يتجاوز الماركسية بفكر عتيق)، أجرى مراجعة نقدية شجاعة (أشبه بنقد ذاتي لفكرنا اليساري الراديكالي "الطفولي" آنذاك) شفافة وأخلاقية في آن، ولكن أيضاً وأساساً علمية وبحثية عميقة... وكنا جميعاً نترنح يومذاك تحت وطأة هول الواقع الذي اكتشفناه بصدمة 13 نيسان 1975 ، وكنا جميعاً من ضحاياه... في مقال له بعنوان "عمومية المثال الثقافي النضهوي، خصوصية الواقع اللبناني الطائفي" (منشور في كتابه إشكالية النهضة 2006) يستعيد عفيف فراج جملة كتبها الياس خوري في روايته (رحلة غاندي الصغير): "الرجال الحقيقيون باتوا أول من مات ، ليبقى الأنذال سرّاق الثورات، وهي ستقتل أول من تقتل، كل الذين يتفلسفون ويتحدثون عن حرب الشعب والجماهير، والحرب ستستمر من دونهم"... وقد استمرت الحرب من دوننا... وهي لم تكن طبعاً حرب تحرير شعبية... بل حرباً أهلية مدمّرة ... في لحظة الحرب الأهلية تلك، فارق عفيف فراج تراث "الجماهيرية" أو "الشعبوية اليسارية"، وانكفأ الى موقعه ووضعه كمثقف شاهد وشهيد.. ولعل في انتمائه الأصلي (الأهلي الدرزي، ولو العلماني الماركسي مدنياً) واضطراره للانقطاع الى الجبل في حياة عائلية واجتماعية وتعليمية وثقافية، بسبب الحرب وابان الحرب، ما يفسر تلك العزلة الثقافية، القدَرية، التي تظهر لنا بوضوح اذا عرفنا أنه لم ينشر أي كتاب بعد العام 1976 وحتى العام 2002 حيث كان كتاباه السابق ذكرهما: (اليهودية بين حضارة الشرق الثقافية وحضارية الغرب السياسية)، و (رؤية آينشاتن لليهودية ودولة اليهود)... وما ينبغي قوله هنا أنه بين 1976 (كتابه عن جنبلاط) و2002 (عودته للكتابة) كانت أطروحته/المرجع التي أنجزها إبان الإجتياح الاسرائيلي 1982 (وهي هذا الكتاب الذي بين أيدينا).. وبالتالي فان كتاب القمع السياسي هو المحطة الثالثة في تطور فكر وأدب عفيف السياسي ولو أنه التاسع إصداراً ونشراً.. واسمحوا لي هنا بالعودة والتوقف عند كمال جنبلاط.. عام 76 اذن عاد عفيف ليطل اطلالة جديدة، أكثر عمقاً وأكثر تسامحاً على شخصية وفكر كمال جنبلاط ، المثالي الواقعي.. يبدأ عفيف كتابه بجملة لجنبلاط تقول "واعلمي أن الانسان لم يخلق لمعنى من المعاني ألا للعلم والعمل به".. وبجملة أخرى : "الكشف عن الحقيقة وتحقيقها هو الهدف الذي يستحق وحده أن نعيش له ونسعى اليه في هذا الوجود".. ولم يكن عفيف ليكتب أو ينطق علماً الا ليعمل به ويطبقه على نفسه وفي حياته أولاً... وفي بحثه عن الحقيقة لا يخجل عفيف من تقديم نص جديد فيه تقويم عميق وسياسي وسوسيولوجي لفكر وممارسة كمال جنبلاط، ينطلق من موقف فلسفي وفكري جديد نجده مبثوثاً بقوة في هذا الكتاب، ومن نقد ذاتي جذري لمسلماتنا "وأساطيرنا" المؤسِّسَة حول المسألة الطائفية والطوائف والواقع اللبناني... في العام 75 كان اليسار الجديد قد توزع اتجاهات عدة ما بين ملتحق بالثورة الفلسطينية أو مشارك معها، وما بين ملتحق بالخط السوفياتي التحريفي الدولي، أو بالتيارات اليسارية الثورية العالمية (ماوية- تروتسكية- فوضوية- مجالسية)... أما نحن فكنا نخوض تجربة مميزة من داخل العلاقة المتوترة بين 3 مكونات رئيسة: موسى الصدر وكمال جنبلاط وحركة فتح... فقد قادتنا ماويتنا الى الارتباط مبكراً بالإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين من جهة، وتمتين العلاقة مع الشهيدين الكبيرين كمال جنبلاط وأبو جهاد خليل الوزير من جهة ثانية... وهكذا بدأنا نقاشات مطولة حول الماركسية والدين، والاشتراكية والانسان، انطلاقاً من كتابات كمال جنبلاط وعلي شريعتي ومالك بن نبي وروجيه غارودي ومن محاوراتنا مع موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين.. وكان عفيف أبرز من اشتغلوا خلال تلك السنوات 1975-1977 على اكتشاف العلاقة ما بين الفلسفة والسياسة، بين المثال والواقع، بين الماركسية والصوفية، وذلك على قاعدة اكتشافه لأولوية ومحورية الانسان، حياته، وحريته، وكرامته، وحقوقه، قبل أي شيء وفوق كل شيء... وقد صاغ عفيف فهمه الفلسفي الجديد بقوله إن الفلسفة هي الإمكان، والسياسة هي وسيلة تحقيقة، والانسان هو الغاية، والحزب هو هيئة معنوية توحد غايتها مع غايات التحقق المعنوي للانسان ... وهنا اكتشف عفيف أهمية كمال جنبلاط والاشتراكية الانسانية، ناقداً بقوة لا انسانية الماركسية وقد تكشفت وانهار اندهاشنا بها منذ اندلاع الحرب الأهلية... أعاد عفيف اكتشاف كمال جنبلاط في السياسة والاقتصاد، في الفلسفة والدين، في التصوف والأخلاق، فأعاد اكتشاف ذاته وهدفه في هذه الحياة... ولعل أهم ما اكتشفه عفيف في ذاته وهو المثالي الأخلاقي الانساني، هو أن وسائل بلوغ الأهداف السياسية يجب أن تكون موصولة بالغايات الأخلاقية، وأن النضال في الدنيا يهدف الى تحقيق غايات الدين ومضمونه الأخلاقي بوسائل لا تجافي تلك الغايات.. فالطريق هو ذاته الهدف.. واذا كان الطريق ملتوياً فإن الهدف نفسه يفسد... وما قيمة أن تربح الدنيا وتخسر روحك، معناك، ذاتك... وفي هذه المقدمات الفلسفية الأخلاقية صاغ عفيف فهمه لجنبلاط السياسي (المثالي الذي يخاطب الواقع الطائفي).. فأمام ما يبدو للناس انه مساومات وصفقات وتنازلات وقفزات جعلت الكثير من المثقفين والمفكرين يقولون بأن جنبلاط براغماتي في ألأصل والمتن فيلسوف وصوفي على الهامش، وبأنه توقف عند المنحى السكوني المحافظ من معادلة هيفل: كل ما هو واقعي، معقول.. اكتشف عفيف الوجه الآخر وهو أن جنبلاط كان يقف على الضفة التقدمية من معادلة هيغل: كل ما هو معقول، يجب أن يصبح واقعاً... وبحسب عفيف فإن جنبلاط كان يجيد التقاط علامات واشارات ومعطيات الواقع، ويحسن التعامل معه، واصطياد الفرص فيه، أو اللحظة المناسبة، لا لغاية ذاتية مادية او كسب مادي شخصي، (ومعلوم كم كان جنبلاط زاهداً عفيف النفس ما أشاد له سماء لا يطالها متطاول ، ويشهد لها، العدو قبل الصديق) ولكن هذا الاستغلال او الانتهاز للفرص والذي كان واقعهن الطائفي يتيحها كان دائماً لدفع قضية التقدم على شتى الأصعدة والمستويات... كان جنبلاط على حد وصف عفيف ينساب بليونة بين تعاريج مجرى الواقع الخدماتي المفسد، والواقع الطائفي المعطل، ليُحول الزيادة الكمية في عدد الانجازات البسيطة الى وعي اجتماعي نوعي جديد.. ومن ثىائية المثال والواقع، عالج عفيف عدة تنائيات تشطر وعينا الوطني وفكرنا السياسي : ثنائية العنف الثوري التغييري والسلم الأهلي المحافظ، ثنائية الطائفية السياسية واللاوعي الطائفي (ويسميها جوزيف مغيزل الحاسة السادسة عند اللبنانيين)، ثنائية التنافي والتدمير المتبادل في صيغة الكيان اللبناني (ويسميها عفيف الصليبية الهلالية)، ثنائية العلمانية والاسلام (وهنا ابتدأ أو عاد اهتمام عفيف بدراسة الاسلام الحضاري والثقافي والسياسي) ثنائية الوطنية اللبنانية والعروبة.. ومن خلال غوصه في عمق فكر وممارسة كمال جنبلاط أطل عفيف على القضايا التي ستشكل مفاتيح وعيه ونقده اللاحق للفكر السائد.. فقد عالج مسألة القومية بحسب الفهم الجنبلاطي الانساني وقارن بين القوميات المختلفة (بما فيها المارونية والسورية والعربية) وبين الصهيونية، متوقفاً عند خلو مساهمة جنبلاط في تعريف القومية من أي كلام عن التكوّن الطبقي والمصلحة الاقتصادية الخاصة بالفئات الحاكمة.. وقارن بينه وبين كلام فرانز فانون عن تخلف بورجوازية العالم الثالث دوراً وفكراً وامكانات، أي تشديد جنبلاط على الجانب المعنوي على حساب الجانب الاقتصادي... وهو في تلك المرحلة المبكرة كان يناقش المفكر الفلسطيني منير شفيق المسيحي الماركسي الماوي (المتحول لاحقاً الى الاسلام) الذي كان يومها يحاول بلورة أطروحة ماركسية قومية عربية جديدة لقيت رواجاً في أوساطنا التقى مع تيار درزي سوري تمثل بالحزب الشيوعي العربي ومؤسسه المرحوم هلال رسلان.. وقد تحدث عفيف في كتابه عن جنبلاط، عن القمع السياسي الناصري كسبب إضافي داخلي لفشل الوحدة العربية وفشل المواجهة مع الصهيونية.. فبذور فهمه لمركزية مسألة القمع في تطور النظام السياسي العربي بدأت مع فهمه المتجدد لكمال جنبلاط. في تلك المرحلة 1975-1977 كنا نخوض جدالات ونقاشات وحوارات واسعة وعميقة حول حركة التحرر الوطني العربية، وحول النموذج الفيتنامي والكمبودي في حرب الشعب القومية بقيادة ماركسية، وحول الوحدة العربية والتجزئة الاستعمارية والتخلف ومركزية القضية الفلسطينية في حركة التحرر الوطني العربية ، وحول الماركسيات السوفياتية والصينية في بناء الاشتراكية... وحول تجارب كوبا وفيتنام وكمبوديا وحركات المقاومة في فلسطين وافريقيا الخ..وانضاف الى نقاشاتنا التاريخية تلك حضور الاسلام الثقافي والسياسي... وكانت المناقشات تدور حول اشكاليتين: الاولى هي الهوية الحضارية الخاصة وهل تشكل قاعدة لصياغة وبلورة نظريات ثورية وفكر سياسي خاص مستقل عن الماركسيات التقليدية التي كنا نتبناها؟. وفي هذا الاطار كانت الماوية قد شكلت لفترة ما منقذاً لنا سرعان ما انهار في أعوام 76-77 بعد وفاة ماو ونشوب الصراع على السلطة في الصين ، ثم اندلاع الحروب بين فيتنام وكمبوديا، وبين الصين وفيتنام ... فكان بحثنا عن أدوات وأطر نظرية جديدة على قاعدة التجربة الفلسطينية من جهة، وتجربة الحركة الوطنية الللبنانية بقيادة كمال جنبلاط من جهة ثانية، هو ما ميّز فكرنا وممارستنا، حتى كان استشهاد كمال جنبلاط في آذار 77، ثم انهيار التضامن العربي وبدء الانقسام بعد زيارة السادات للقدس وكمب دايفيد، ثم انطلاق الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني... وبين هذه وتلك كانت عملية الاجتياح الكبير لجنوب لبنان في آذار 1978 (وكنا يومها في خندق القتال الأول في منطقة بنت جبيل وتلالها وسقط لنا كوكبة من الشهداء كانوا من كل طوائف لبنان). والاشكالية الثانية تعلقت بمسألة النهضة ، والوعي الحضاري، وبناء الذات الحضارية، والاستقلال السياسي والاقتصادي، ومواجهة الآخر.. وكنا قد بدأنا نقرأ مالك بن نبي وفرانر فانون وعلي شريعتي وأنور عبد الملك ونتفاعل مع موسى الصدر وأحمد بن بللا، ونعيد النظر في الاطروحات الماركسية اللينينية، التروتسكية والماوية والفيتنامية على حد سواء، باتجاه البحث عن ماركسية عربية جديدة.. وهنا أيضاً كان كمال جنبلاط مفيداً لنا الى جانب أنور عبد الملك في اكتشاف رؤية حضارية بديلة لا تكون مقلدة للغرب ولا تكون خاضعة للشيوعية المادية، وانما تنبني على تراثات حضارات الشرق الغنية، كالصين والهند والاسلام.. وقد أعاد عفيف فراج موضعة فكر جنبلاط الانساني هذا في إطار الموقف من الماركسية من جهة، ومن العرفان الصوفي من جهة ثانية، وصولاً الى صياغة تجمع بين الحكمة القديمة والعلم الحديث، وتجعل الحدس الصوفي يستكمل نظرية المعرفة الماركسية... في تلك السنوات المفصلية كانت الصين وروسيا وفيتنام وكمبوديا وكوبا ( وكل الدول الاشتراكية) قد تحولت بالنسبة الينا الى دول قمعية سلطوية استبدادية يموت فيها الانسان ويذبل فيها الضمير الحر والوجدان... لا بل أننا كنا نتبنى التسمية الماوية للاتحاد السوفياتي على أنه "امبريالية اشتراكية" وليس فقط مجرد "تحريفية"... وحين انطلقت ثورة ايران الاسلامية (آخر عام 77- مطلع عام 78) كنا نعيش جدالات وحوارات ونقاشات أفضت بالكثيرين منا الى الالتحاق بالاسلام الصاعد يومذاك كتعبير عن حالة حضارية نهضوية مقاومة وممانعة.. ويمكن القول هنا ان كتابات أنور عبد الملك ومنير شفيق ومحجوب عمر ومحمد عمارة وعادل حسين وطارق البشري وعادل عبد المهدي وفاضل رسول وحسن حنفي وأحمد عباس صالح (وهم من الماركسيين اللينينيين والماويين الذين انتقلوا الى أرض الاسلام انطلاقاً من مقولة تأسيس يسار اسلامي أو وجود يسار في الاسلام)، ثم كتاب ادوارد سعيد (الاستشراق) قد لعبت الدور الأهم في تحديد سياقات وأطر التحولات التي عصفت بجيلنا وجيل عفيف اليساري المناضل.. وفي كتاب (القمع السياسي) يبدو واضحاً كم كان لهذه الكتابات من وزن ومن دور في صياغة توجهات ومحاججات عفيف.. تلازم صعود الثورة الاسلامية الايرانية وعودة الاسلام السياسي الى ساحة الفعل العربي، مع تصاعد حدة الصراع العربي الاسرائيلي، وتصاعد حدة الأحادية الثقافية الامبريالية الغربية في شيطنتها للآخر، المسلم أو الشرقي، مع تصاعد الأزمة العميقة التي ضربت الماركسية وأقعدتها عن أن تكون أداة نظرية لفهم الواقع وممارسة التغيير ، وذلك قبل سقوطها الأخير مع سقوط الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة الاشتراكية... في تلك الفترة كنت من بين الذين أعادوا اكتشاف الأمير شكيب أرسلان، ومن خلاله كل فكر النهضة الاسلامية وخصوصاً محمد عبده وجمال الدين الافغاني ورفاعة رافع الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي.. وشهدت تلك الفترة كتابات لوجيه كوثراني (الاتجاهات السياسية الاجتماعية في جبل لبنان) وسهيل القش (في البدء كانت الممانعة) ومنير شفيق (الاسلام في معركة الحضارة) وادوارد سعيد ( الاستشراق، و: تغطية الاسلام) وحسن الضيقة ( في نقد الماركسية ، ونقد سمير أمين) ونظير جاهل (في انتروبولوجيا الاسلام) ورضوان السيد (في الجماعة والسلطة والأمة) والياس خوري وحازم صاغية ووليد نويهض (في نقد التجارب اليسارية، وفي مسألة المثقف والسلطة، ومسألة الدولة والحزب الخ..).. وقد صدرت مجلة الوحدة (1980-1981) تحمل هذه الكتابات وغيرها، ومنها مقالة لعفيف في العدد الأول من المجلة (15 كانون الثاني 1980) بعنوان (جنبلاط: حين نتكلم عنه يضيء قنديل المعرفة ). فتحت مجلة الوحدة نقاشات وجدالات كان لها أثر كبير في فكر ووعي عفيف فراج كما يظهر من استشهاده بها في كتابيه: القمع السياسي، واشكالية النهضة.. ناهيك عن استشهاده بأنور عبد الملك ومحمد عابد الجابري ومحمد عمارة وهشام جعيط وكمال عبد اللطيف وغالي شكري وعبد الله العروي وادوارد سعيد ومنير شفيق.. لكن المهم في مقاربة عفيف لهذه الإشكاليات هو إطلالاته النقدية التي تربط ماضي هذا الفكر الاسلامي التجديدي بحاضره.. فيقارن ما بين عبده والطهطاوي والعقاد وطه حسين والرافعي والزيات من جهة وما بين ادوارد سعيد ومنير شفيق وأنور عبد الملك وبقية مؤسسي ما سماه عفيف (الاستشراق معكوساً) من جهة أخرى.. ولا ينسى أن يتوقف وقفة خاصة عند أدونيس الذي كتب في مدح الخميني مقالته الشهيرة: "شمس الحقيقة وسيف الغضب" (وهي عبارة يستخدمها بعض الشيعة لوصف الامام المهدي)، وقد استشهد عفيف بما كتب أدونيس في مجلته مواقف ( العدد 34-1979) من أنه " وفي المجتمع العربي القائم كلياً على الدين والذي لم تتطور فيه وسائل وأشكال الانتاج لتشكل وعياً طبقياً، يبقى الدين المرتكز الأساس".... تلك هي الأطر والسياقات التي واكبت اشتغال عفيف على أطروحته للدكتوراه (القمع السياسي) والتي انطلقت من ظاهرة (النظرة الغربية الاستعمارية الانتقاصية للشرق) ، وهي ظاهرة جرى لفت الانتباه اليها مع كتابات المفكرين المشار اليهم سابقاً والذين قدموا قراءة اعتبرها عفيف فراج اسشتراقاً معكوساً حين اعترف أمثال ادوارد سعيد وأنور عبد الملك ومنير شفيف (وحتى أدونيس الذي كتب أن انقسام العالم الى قطبين شرق/غرب هو حقيقة قائمة وأن الغرب تميّز بالتكنولوجيا وليس بالابداع، وأن الشرق ابداعي خيالي، الخ.).. وبحسب عفيف فإن هؤلاء المفكرين الذين اندفعوا يومها في تبني الخيار الحضاري الاسلامي اعترفوا فعلياً بالثنائية العرقية القومية وأقروا بها "فتساوى القامع والمقموع مع تعديل وهو أن المقموع قد عكس هوية من هو الأرفع ومن هو الأدنى فيدعي المسلم تفوقه الروحي على الغرب الطامع بالسلطة والربح المادي ويصبح الاسلام شعاراً للتحرير"... وهنا تبرز استثائية عفيف وسبقه لنا في مضمار استخلاص الدروس والتنائج من ذلك التحول الفكري والنظري الذي دخلنا فيه بعد عام 1980... فهو قد ماهى بيننا نحن (أي هذا الجيل من المثقفين اليساريين العرب المنفتحين على الاسلام الحضاري والسياسي) وبين فرانز فانون من حيث الكلام عن (ردة فعل) وعن انقسام العالم الى جنسين مختلفين (أبيض مستوطن وأسمر ملون) يقطنان في مدينتين مختلفتين .. الخ؟.. هذا التقسيم الى عالمين، شرق وغرب ، نحن وهم، هو أساس التقسيم اللاحق الذي أجراه بن لادن الى فسطاطين ، وأسماه جورج دبليوبوش محور الشر ومحور الخير، وهو ينطلق من نظرية توينبي في أن التاريخ هو (تحدي وردّ على التحدي)... ولكن عفيف يتميز أيضاً في قراءته لتلك المرحلة ومفكريها عن الموقف الأصولي العلماني الذي عبرّ عنه أفضل تعبير كتاب مهدي عامل (نقد الفكر اليومي) والذي تناول نفس المفكرين والأفكار وانما بنظرة احتقارية تدميرية نزقة، على عكس عفيف فراج الذي تناولهم بنظرة مُحِبّة ونقدية في آن مع الاعتراف لهم بفضل في أمور كثيرة خصوصاً تقديره لدور هذه الكتابات وهؤلاء المفكرين في إغناء عملية الانبعاث الاسلامي الجديد بمعطيات تنويرية هائلة.. وعلى الرغم من كون هذه الحركة الاستشراقية المعكوسة متطرفة في عدائها للغرب "بحيث تقفز فوق حقيقة أن الغرب في موقفه من الاسلام ليس واحداً متجانساً وان الثقافة الغربية ليست كلها متهمة بالمشاركة في العداء للاسلام والشرق"، إلا أن هذه الحركة "تبقى في المحصلة النهائية ردة فعل مناهضة للغزو البورحوازي الغريب لبلاد وعقول المسلمين"... ويحاول عفيف فراج أن يأخذ موقفاً وسطياً ما بين هؤلاء ومنتقديهم من غلاة العلمانيين الذين يتهمهم عفيف بتغربهم عن الثقافة الوطنية وعجزهم عن الانخراط مع الجماهير العريضة واغترابهم الاجتماعي الثقافي وعجز الماركسيين من بينهم عن انجاز أيديولوجية ثورية تتلاءم مع العصر دون القطع مع الماضي، أي دون التضحية بالاستمراية الثقافية التاريخية... وبرغم الاعتراف بصحة وعمق النقاشات التقدمية التي طرحها ماركسيون وعلمانيون تقدميون (صادق جلال العظم مثالاً) إلا أن عفيف لا ينسى أن يختم باستعارة مقولة غالي شكري: "يجب أن نهدم ثم نعيد بناء تراثنا الثقافي من منظور ثوري مقتبسين من تراثنا ومن الغرب ما يتناسب وحاجتنا الموضوعية"... وهذا الاستنتاج الخلاصة هو الذي جمع بيني وبين عفيف في المرحلة الأخيرة من حياته حين كنت أعمل مع سماحة الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين على مقولة استنباط وصياغة حداتثنا الخاصة بنا وعلمانيتنا النابعة من سياقاتنا التاريخية والحضارية الخاصة، وهو ما أسماه عفيف في مقولة أتبناها بالكامل وأدعو الى تعميمها والعمل بموجبها حين يقول: "إننا نحتاج الى فلسفة جديدة للنهضة.. وهذه قضية ملحة دائماً".. نعم فلسفة جديدة لنهضتنا المعوقة والناقصة..تستعيد تراثنا الحضاري ولا تموت غرقاً فيه، وتأخذ من الحضارة الغربية ولا تكون تابعة ذيلية لها..إنها اليوم (وكما كانت بالأمس) أكثر من قضية ملحة.. إنها هي القضية! وبعد فإن عفيف فراج أعطى في أطروحته عن القمع السياسي بين الشرق والغرب، قراءة علمية ناقدة حول المصادر المعرفية لتلك النظرة الغربية الاستعمارية للشرق والتي لخصها في مقولتي: الهمجية الشرقية والاستبداد الشرقي، دون أن يقع في فخ المصادرة والتعميم ... وقد حاول الدفاع عن بعض المواقف الماركسية واللينينية تجاه الشرق وتمييزها عن المنحى الانتقاصي والاحتقاري للغرب البورجوازي، وكان ذلك منه آخر سهام محاولة الجمع بين الاسلام والماركسية، وهي المحاولة التي عشنا تجربتها معاً خلال تلك المرحلة (1977-1980) قبل أن تطغى علينا فكرة المفاصلة الكاملة مع الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي، والتي كانت على ما يبدو من منبع ماوي صيني وليس من منبع إسلامي تقليدي.. ذلك أن الاسلاميين من جيل عبده والافغاني والطهطاوي وأرسلان، ثم من جيل العقاد والرافعي وطه حسين، كانوا قد حاولوا الجمع والتأليف ما بين شرق وغرب على قاعدة الخصوصية الحضارية السمحة المنفتحة التي تأخذ الحكمة والعلم أنى وجدتهما... غير أن الإشكالية في عصرنا الراهن وفي حاضرنا المعيش هي أعمق وأبعد من ذلك... وعفيف حاول مقاربتها من خلال استعادة أسئلة عبد الله العروي دون أصولية العلمانيين اليساريين، وخارج أصولية الاسلاميين الجدد المبهورين بالصعود النضالي للحركة الاسلامية الجديدة بعد 1980.. فقدّم عفيف قراءة مميّزة في الفكر الغربي القديم والحديث من منظار (فكرة وممارسة القمع السياسي) وأعاد سبب تخلفّنا وتراجعنا أو عدم تقدمنا الى قوة الاستبداد والقمع السياسي في حضارتنا وثقافتنا وسياستنا.. فاستعاد بذلك موقف الافغاني التاريخي الذي وجد أن الاستبداد هو علة هذا الشرق، دون أن يغرق في التأبيد الذي اصطنعه الغرب والذي جعل من الاستبداد الشرقي جوهراً أزلياً ثابتاً يسم الشرق ، ودون أن يغرق في الاستشراق المعكوس الذي يجعل الاحتقار والانتقاص الغربي جوهراً أزلياً ثابتاً.. إن محاولة عفيف فراج بناء أسس فلسفة جديدة للنهضة العربية كانت المدماك الأول في ما صار لاحقاً يعرف باسم حوار الحضارات والتعددية الثقافية.. فعلاً كان عفيف هنا أيضاً سباقاً ومبكراً في استشراف ما ستصل اليه تجربتنا الفكرية والسياسية، وما سيتكشف عنه الاسلام السياسي: الثوري في كفاحه ضد الاستعمار، والقمعي حين وصوله الى السلطة.. وهذا من أبلغ دورس تجربتنا الثورية الماضية، ومن أوضح وصايا الربيع العربي الراهن..

محمد مهدي شمس الدين: حول الخدمة المنزلية


إن قصة الخدمة المنزلية ذات أهميةقصوى في الحياة الزوجية للغالبية الكبرى من الأزواج والزوجات (الأسر) عند المسلمين وغيرهم من البشر. ومثل ذلك في الأهمية رعاية الأطفال والعناية بهم مادياً ومعنوياً. وفي بعض الفئات الاجتماعية تحتل قضية العمل في مجال الكسب الاقتصادي في الزراعةوالحرف الأخرى، أهمية كبيرة في العلاقات الزوجية عند إرادة تكوين الأسرة. وقدجرى عرف أغلب البشر على قيام الزوجة بالأعمال المنزلية المألوفة من إعداد الطعام،وترتيب المنزل، ورعاية الأطفال، وغير ذلك مما يتصل به ويناسبه. كما جرى عرف كثيرمن البشر ـ في بعض الفئات الاجتماعية (الفلاحين مثالاً) ـ على مشاركة الزوجة لزوجهافي العمل لكسب المال والثروة، كالعمل الزراعي في الحقول، أو تولى بيع السلع فيالدكان، أو القيام بأعمال مأجورة في المنزل الزوجي، من قبيل الغزل والنسج والخياطةوالتطريز وغيرها من الأعمال الحرفية، وذلك لأجل المساهمة في نفقة الأسرة. ولدىغالبية الناس ارتكاز ذهني بأن هذه الأمور من واجبات الزوجة (خاصة العمل المنزلي) ومن حقوق الزوج عليها، بحيث لو طرحت قضية أن الزوجة لا تجب عليها الخدمة في بيتالزوجية، ولا رضاعة الأطفال ولا خدمتهم وحضانتهم، لامتنع كثير من الرجال ـ بل لعلأكثرهم ـ من الزواج بامرأة لن تقوم بهذه المهمات (وخاصة الخدمة المنزلية ورعايةالأطفال) أو يشكون بذلك منها. ولصرحوا ـ في حالة زواجهم ـ بها باشتراط قيام الزوجةطوعاً ومجاناً. ولو علمت النساء بأنه ليس عليهن مسؤوليات من هذا القبيل لفاجئهن ذلكواعترتهن الدهشة والتعجب منه. ولعل روايتي تقسيم العلم بين الإمام علي (ع) والسيدة فاطمة (ع) تعبران عن هذا الارتكاز العرفي عند الناس، بقطع النظر عن صحةوعدم صحة سندهما، فهذا يتوقف عليه حجيتهما في الدلالة على الحكم الشرعي، ولسنا بصدداستفادة ذلك منهما هنا، بل بصدد استفادة وجود هذا الارتكاز، وهما تدلان عليه وإنكانتا موضوعتين، إذ إنهما تعبران عن واقع حياتي موجود وراسخ في حياة الناس العائليةوالاجتماعية، وإلا فمن غير الممكن أن يخترع الواضع أمراً غير مألوف عند الناس ويدعيحكماً شرعياً له، لأنه سيبين كذبه بوضوح، فلا بد أن يكون المورد من الأمور المألوففي حياة الناس في المجال المدعى ورود الحكم الشرعي فيه. وقد بينا أن الرواياتغير الواجدة لشرائط الحجية يمكن الاستفادة منها في مقام الاستنباط في باب السيرةالمتشرعية والعرف العام والأعراف الخاصة. وهذا الارتكاز لا يتنافى مع حصر حق الزوج في الاستمتاع والمساكنة على النحو الذي تقدم بيانه، حيث أن ذلك لا يقتضي حصرالمشروعية به، وعدم مشروعية قيام الزوجة بأية خدمة لزوجها ولأسرتها، بل غاية مايقتضي عدم إلزامها بذلك بدعوى أنه من مقتضيات عقد الزوجية بمقتضى طبعه وأصل تشريعه،وهذا لا ينافي قيامها بذلك أو ببعضه تبرعاً أو لسبب من عقد أو شرط. إن هذاالواقع الحياتي العرفي المرتكز في الأذهان على نحو ارتكاز البديهيات والمسلمات التيلا يلتفت العرف إلى لزوم ذكرها في العقود، يجعل من (الخدمة المنزلية ـ في الجملة ـورعاية الأطفال ـ في الجملة ـ ) من الشروط الارتكازية الضمنية التي يبنى عليهاالعقد، من قبيل الصحة في المبيع، والتسليم في بلد العقد، كون الثمن بنقد البلد، وماإلى ذلك. ولكن متعلق هذا الارتكاز مجهول المقدار من حيث الكثرة، ولذا فلا بد منالاقتصار في مقام استيفائه على القدر المتيقن، وهو الحد الأدنى الذي ليس منه رضاعةالأطفال وحضانتهم الذي نصّ القرآن على أنه عمل تستحق الزوجة ـ الأم عليهالأجرة. ولذا فإنه في حالة وجود هذا الارتكاز، واعتبار العقد مبنياً عليه عندالالتفات إلى قضية الخدمة، لا يجوز للزوج أن يطلب أية خدمة يشك كفي كونها داخلة فيالقدر المتيقن، وللزوجة الامتناع عن القيام بها أو المطالبة بالعوض عليها. هذا،ولكن المعروف السائد في المجتمعات الإسلامية هو غلو الأزواج في استيفاء الخدمةالمنزلية ورعاية الأطفال من الزوجة، بل يتعدى بعضهم ـ جهلاً وظلماً ـ في الأرياف والبيئات الجاهلة، إلى مطالبة الزوجة أن تشارك في أعباء العمل الزراعي والحرفي الذييقوم به الزوج، إضافة إلى الأعمال المنزلية ولوم الزوجة وتعنيفها إذا تراخت في ذلكأو امتنعت من القيام به. وهذا واقع في الأسرة المسلمة لا يقره الشارع الإسلاميتكابد منه الزوجة قساوة أوضاع مفروضة عليها في حياتها الزوجية العائلية تحولها إلىخادم بلا كرامة ولا حقوق. وهذا وضع يجب على المهتمين بتصحيح حياة المسلمين وترشيدها على هدى الإسلام، أن يولوه اهتمامهم على مستوى التعلم والإرشاد والتثقيفمن جهة، وعلى مستوى تنظيم تشريع عقود الزواج وتفصيلها على نحو حفظ الزوجة من أنتكون ضحية استغلال ناشئ من جهل الزوج أو ظلمه استناداً إلى أعراف وعادات مخالفة لنصالشريعة، وأخلاقيات الإسلام، وحقوق الإنسان في الإسلام.

سمير فرنجية: القانون الأرثوذكسي يلغي كل تجربة لبنان منذ العام 1920 حتى اليوم


الأربعاء 09 كانون الثاني 2013 اعتبر عضو الأمانة العامة لقوى "14 آذار" النائب السابق سمير فرنجية لـصحيفة "المستقبل" إن القانون الأرثوذكسي "يلغي كل تجربة لبنان منذ العام 1920 حتى اليوم، أي تجربة العيش المشترك، هذا الإنجاز المسيحي الكبير والأساسي في قيام لبنان. هذا القانون يلغي العيش المشترك ويرد البلد إلى ما قبل لبنان الكبير". أضاف "أما من جهة ثانية، فهذا القانون ينهي الإنجاز الأساسي الذي حققته 14 آذار وهو الوحدة الإسلامية- المسيحية، وثالثاً، يهمّش المسيحيين في اللحظة التاريخية التي يتجه فيها العالم العربي مع الربيع، نحو الديموقراطية والدولة المدنية، ونحن كنا ندّعي أننا طليعيون في هذا المجال، فنظهر أنفسنا اليوم اننا أكثر تخلّفاً من الآخرين". وشدّد فرنجية "انا ضد هذا القانون، وإذا أقرّ فلن انتخب، لأني كمواطن يحقّ لي انتخاب من أريد بمعزل عن طائفته. وإذا اقّر القانون، سأعلن الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات وسنقود معركة شرسة ضده، وأدعو المواطنين لكي يشكّلوا مجلساً للشيوخ محرّراً من القيد الطائفي لأن المجلس النيابي سيتحوّل إلى مجلس طوائف". وختم "أستغرب كيف أن كل الذين طالبوا بإلغاء الطائفية السياسية في أيام الوصاية، وأعني بذلك تحديداً حزب الله وحركة أمل، يوافقون اليوم على هذا القانون، فهذا دليل على إفلاسهم".

Syrie : le silence des intellectuels français


Jean-Pierre Filiu Universitaire Publié le 23/01/2013 http://blogs.rue89.com/jean-pierre-filiu/2011/12/04/la-poussee-islamiste-dans-les-urnes-nannonce-pas-un-automne-integrist-0 Les mouvements révolutionnaires dans le monde arabe n’ont jamais suscité un enthousiasme débordant dans les milieux intellectuels de France. L’ombre de Michel Foucault, succombant en 1979 aux mirages khomeynistes, a pu inhiber bien des élans de solidarité. Mais qu’on était loin du lyrisme suscité par la chute du mur de Berlin. Une révolution dépréciée On s’enflammait alors pour nos « frères » européens, tandis que les Arabes étaient irrémédiablement « autres ». Il ne restait qu’à réduire leur combat collectif aux variations saisonnières d’un « printemps » pour déjà anticiper « l’automne » islamiste et « l’hiver » intégriste. Et leur « thawra », leur « révolution » dans tous les sens du terme, était ravalée au rang de « révolte » sans lendemain, de « contestation » condamnée à la récupération. La manipulation s’aggrava, dans la cas syrien, de la conjonction de courants disparates : • les « experts » en (contre) terrorisme, pour qui Al Qaeda représente moins une réalité physique que la garantie d’une rémunération stable de leur « expertise » ; • les tenants de la « protection » des chrétiens d’Orient (mission censée être historiquement assignée à notre pays), aveugles au point de lier le sort de ces minorités au destin des despotes ; • les « anti-impérialistes », égarés dans un Orient trop complexe pour leur bipolarisme ravageur. Si on ajoute à cela le très tricolore « on nous cache tout, on nous dit rien », les ingrédients étaient réunis pour une querelle bien française, où la Syrie n’était que prétexte à vider nos rancœurs nationales. Le fait que la dictature syrienne traque avec constance toute forme d’information indépendante aboutissait à jeter le doute sur les sources alternatives et engagées. Cette censure, passive ou active, permet de renvoyer dos à dos les protagonistes d’une « guerre civile » culturalisée, voire folklorisée. Silence médiatique Durant un dimanche d’août 2012, le silence médiatique sur le massacre de Daraya m’amena à lancer un cri d’alarme sur le carnage en cours depuis plusieurs jours. Je me gardais bien de diffuser les images (atroces) des charniers découverts et je précisais que les chiffres avancés par l’opposition (de 320 à 633 victimes) étaient « absolument invérifiables ». Mais ces précautions de forme comme de fond ne m’épargnèrent pas une rafale de réactions d’une agressivité inouïe. Je passe sur les amabilités du genre « BHL au petit pied », « porte-parole de l’Otan » et « agent du Qatar ». Le commentaire au fond le plus révélateur m’accusait de mettre en scène « les cow-boys et les Indiens ». Alors que je n’ai cessé de rapporter et de dénoncer les exactions perpétrées par la guérilla syrienne, j’étais suspecté de travestir les faits, pourtant aussi têtus en Syrie qu’ailleurs. Comme si la dégradation de la réflexion critique conduisait fatalement à idéaliser des « gentils » révolutionnaires contre des « méchants » agents de la dictature. De tels procès d’intention sont une insulte à la pensée libre. En ce sens, la tragédie syrienne révèle le degré de provincialisation d’une partie de notre classe intellectuelle, accaparée par ses polémiques hexagonales. Le peuple syrien saura se libérer par ses propres forces et c’est bien là toute sa grandeur. La révolution vaincra, à Damas et à Alep, non pas contre ses détracteurs français, mais sans eux. Espérons qu’ils émergeront de leur impasse narcissique avant la prochaine révolution arabe.

La poussée islamiste dans les urnes n'annonce pas un « automne intégriste »


Jean-Pierre Filiu Universitaire Publié le 04/12/2011 http://blogs.rue89.com/jean-pierre-filiu/2011/12/04/la-poussee-islamiste-dans-les-urnes-nannonce-pas-un-automne-integrist-0 La Révolution arabe ne fait que commencer et elle va encore se déployer durant de longues années d’un bout à l’autre de cette région. Les succès électoraux remportés par les formations islamistes en Tunisie, au Maroc et en Egypte amènent pourtant certains à considérer que cet épisode est clos et qu’un automne islamiste a déjà succédé au printemps arabe. Rien ne serait plus erroné que de tomber dans ce piège intellectuel, car le soulèvement démocratique a enterré l’alternative entre dictature et islamisme, après des décennies où Ben Ali et Moubarak l’ont martelée pour justifier leur despotisme. Quant aux islamistes, ils savent qu’ils disposent d’une fenêtre d’opportunité, et ils vont tenter d’en tirer le maximum de bénéfices, avant que cette conjoncture favorable n’évolue, peut-être à leur détriment. Ennahda en Tunisie a remporté 89 sièges sur 217 pour l’Assemblée constituante (pour 36% des suffrages exprimés) et elle décroche ainsi la présidence du gouvernement, laissant celle de l’Assemblée à un social-démocrate et celle de la République à un nationaliste. Au Maroc, le Parti de la Justice et du Développement (PJD), avec 29% des votes pour 107 des 385 députés, obtient aussi le poste de Premier ministre. Les Frères musulmans égyptiens gagneraient 40% des voix à la première des trois séquences électorales, sans préjuger du résultat final des législatives, qui ne sera connu qu’en janvier 2012. Vers des coalitions de compromis On s’achemine dans tous les cas vers des gouvernements de coalition, où les islamistes devront nouer des compromis avec des formations laïques, nationalistes ou libérales. Il ne faut jamais oublier que les Frères musulmans jordaniens avaient obtenu 40% des voix en 1989, lors des premières élections libres en un quart de siècle, mais que leur médiocre performance gouvernementale leur avait fait perdre le scrutin suivant. Dans ces trois pays, les partis islamistes n’ont pas fait campagne sur un programme islamique, mais sur des thèmes de moralisation de la vie politique et d’affirmation nationaliste. Ils profitent d’un vote hétérogène, où la composante islamiste n’est pas forcément majoritaire, mais où deux aspirations contradictoires peuvent se retrouver : • la volonté de rupture avec l’ancien régime, d’une part, qui a bénéficié à des formations ciblées par la répression des dictatures en place ; • le désir de normalisation rapide, d’autre part, qui a profité à un « parti de l’ordre », surtout en Egypte, où les Frères musulmans se sont détournés de la contestation de la place Tahrir. L’hétérogénéité de ce vote correspond à la grande diversité de tendances à l’intérieur de ces partis, que la discipline interne, de type léniniste, a jusqu’à présent contenue. Mais Ennahda se révèle incapable de tenir un congrès depuis sa légalisation et les tensions sont multiples au sein des Frères musulmans égyptiens. Les formations islamistes vont partout être obligées de faire l’apprentissage accéléré du pluralisme externe et interne, alors que des années de répression, voire de clandestinité, ont ancré en elles une culture et une pratique du monolithisme. Surenchère salafiste Elles sont en outre contestées sur le même registre par des organisations avec lesquelles elles refusent de collaborer : • la Proposition populaire (populiste), en Tunisie ; • Justice et bienfaisance (alliée des contestataires du Mouvement du 20 Février), au Maroc ; • les salafistes (très conservateurs sur les questions de société), en Egypte. Le jeu est ouvert sur une scène politique structurée, pour la première fois clairement, entre une majorité et une opposition. Les vainqueurs des élections de cet automne vont devoir prouver leur capacité à gérer les affaires du pays. La pente naturelle sera plutôt à la rhétorique patriotique qu’à la surenchère religieuse. Et l’acuité de la crise sociale pourrait, à défaut d’écourter ce moment islamiste, dissiper très vite pour ces formations leur actuel état de grâce.

رسالة الى الله


في كتابه الصغير الشهير (خالد)(بالانكليزية) كتب أمين الريحاني رسالته هذه "الى الله": عبثًا طلبتك في أديان الناس، عبثًا بحثت عنك في سراديب عقائد الناس، ولكنّي لقيتُ في كتب العالم المقدّسة بعض آثار سماويّة طامسة، فلقد توضّح لي حرف ساكن من اسمك في “الفيدا”، وحرف في “الزّند آفِستا”، وحرف في الإنجيل، وحرفّ في القرآن، أجل—وفي كتاب الجمعيّة العلميّة الملكيّة وسجلاّت جمعيّة المباحث النفسيّة بعض الحركات التي لا يحسن الطفل البشريّ أن يحرك بها الأحرف الساكنة من اسمك. وانّى لأمم الأرض وهي في طفولة الحياة ان تحسن النطقَ به! من يهدينا إلى تلك الهمزات، همزات الوصل الإلهيّة التي تجمعُ بين الكواكبِ البعيدةِ المتقابلة في أطراف الأفلاك السماويّة؟ فلقد خطّت على نقاب السرّ الأبدي كلماتٌ، وامّحت، ثم خطّت وامّحت. كل أمة من أمم الأرض أدركت حرفًا من هذا الطلسم العظيم، لكن الحركات وهمزات الوصل لا بد أن يأتي بها علماء المستقبل لتحيي جمودا في أحرف الكتب المقدّسة الساكنة، وتبعث فيها سلاسة الماء والهواء، وتزيل اللكنة من لسان هذا البشري الطفلِ ومن قلبه.

من كشكول خواطر أمين الريحاني في مجلة الهدى النيويوركية (صاحبها صهره نعوم مكرزل)


ليس أقبح من كلام السوء أن يخرج من فم مطالب بحق. الضرير الواقف على شفير الهاوية لا يحتاج إلى من يدفعه للسقوط. المطر لا يضر بالقبور. والصاعقة لا تقتل البعوض. والبرق لا يزيل الظلمة. الترف والفخفخة في الهيئة الاجتماعية يوجدان المؤلفات اللطيفة الدقيقة الزائلة. أما الفقر فهو أبو الكتب الموحاة الخالدة. عزم مرة كارل ماركس زعيم الاشتراكيين على السفر إلى أميركا بعد أن نفي من وطنه، وكان في ذاك الوقت ساكناً في لوندرا مكتفياً بالفقر وراضياً عن الاضطهاد. ثم عدل عن السفر قائلاً: إذا سافرت إلى أميركا أتعاطى التجارة هناك وأغتني وتكون هذه آخرة كارل ماركس؛ ولذلك بقي في لوندرا وألف كتابه الشهير «رأس المال» وهو أساس تعليم الاشتراكيين. خدم كارل ماركس علم الاقتصاد والعمران كما خدم داروين علمي النبات والحيوان. حين تضع اللحم على الثلج تحفظه من النتانة، هل يخطر في بالك أن الذي اكتشف هذا الناموس مات بسببه. كان الفيلسوف الشهير باكون ذات يوم ماراً في عربته في أحد شوارع لندره تحت الثلج المتساقط، فخطر في باله أن يحشو الطير ثلجاً ليرى ما إذا كان الثلج يحفظ اللحم مع النتانة، فخرج من عربته ليفعل ذلك فتعرض للريح الذي أورثه نزلة صدرية فمرض منها ومات. أُذكرْ ذلك حين تأكل لحم عجل طرياً ذُبح منذ أسبوعين أم أكثر ولا تشمئز من رائحته. وكرِّمْ الفلاسفة كما تكرم القديسين. قد اكتشف الأطباء على مكروب مرض جديد في الإنسان. فأي شيء يا ترى يكتشفون على مكروب الصحة الدائمة؟. الهدى ـ 25 شباط 1904 كن بشوشاً ولا تبخل على نفسك بالضحك. ضحكة من عمق الفؤاد هي أنجع من كل الأدوية التي يصفها لك الطبيب. فالضحك يوسع الرئتين ويقويهما وينبه الأعصاب ويشدها؛ وبرهاناً على ذلك هو ما لاحظناه وما يلاحظه كل متأمل من القوة والنشاط والصحة في الذين يكثرون من الضحك. الكئيب السوداوي هو غالباً ضعيف نحيل، والبشوش الضاحك هو غالباً قوي نشيط ذو صدر متين ورئتين كبيرتين. فاضحك إذاً في الصباح، واضحك في المساء قبل النوم، واضحك مع أهلك وأصحابك وخلانك، ولكن لا تصرف كل وقتك بالضحك. فهذا الدواء مثل كل الأدوية يضر إن لم يؤخذ بحكمة وترتيب؛ وإذا كانت السويداء ضاربة أطنابها وأنت لا تستطيع الضحك فخذ «الهدى» واقرأ القصص الصينية فيه. الرجل الذي يخرج للتنزه مع امرأته أم خطيبته أم صديقة له يجتهد أن يكون لطيفاً ظريفاً ويجب ان يعرف الناس ذلك. ولكن متى بالغ في اللطف وحمل للمرأة مظلتها (شمسيتها) النحيفة الخفيفة يصبح أبله خالياً من روح الرجولية. والامرأة التي تطلب من زوجها أم صديقها حمل المظلة هي بليدة فيها من الرقة والغنج ما يشمئز منهما كل ذي ذوق سليم وعقل صحيح. لماذا لا تحمل المرأة مظلتها؟ ألأنها ثقيلة؟ كلا فذيل فستانها الذي تحمله بيدها اليسرى هو أثقل من دست(دزينة) مظلات نسائية نحيفة. لماذا إذاً لا تحملها؟. أتضطر أن تبقي يدها اليمنى فارغة لترفع قبعتها للذين يحيونها؟ كل امرأة صحيحة العقل سليمة الذوق ترفع بيدها اليسرى فستانها وتحمل مظلتها بيدها اليمنى إذا كانت ماشية مع رجل أم لا. كل عاقلة من النساء لا تكلف الرجل عمل شيء تستطيع أن تعمله بنفسها دون عناء. ونحن نحتقر الرجل الذي يجاري بعض النساء والبنات على ذوقهن الفاسد ويعجب برقتهن القتالة وبغنجهن المتطرف فيحمل لهن المظلات ويربط لهن شريط الأحذية وغير ذلك من الأعمال البليدة. نعم الرجل يحب في المرأة الغنج، ولكن متى أكثرت المرأة منه وتطرفت فيه يصبح الغنج للرجل كزيت الخروع، ونحن نفضل أن نشرب زيت السمك أو زيت الخروع من أن نجالس فتاة «مخروعة» أم نمشي مع امرأة مغنّجة للغاية. إذا مشى المجنون كثيراً فهو لا يشعر بتعب ولذلك سبب فيزيولوجي نتركه لأرباب هذا العلم، ولكن نريد أن نذكر هنا رأي الخرافيين في المسألة وهو هذا: إن المجنون لا يشعر بالتعب من كثرة المشي لأنه بالحقيقة لا يمشي إذ إن الشيطان ما زال ساكناً فيه يحمله، وحبذا لو حمل بعضَ العاقلين الذين يعتقدون هذا الاعتقاد. المجانين على نوعين: أولهما محبوس في «البيمارستان» والثاني مطلوب في العالم، وعدد النوع الثاني يفوق بدرجات عدد النوع الأول. الهدى ـ 27 تشرين الأول 1902. يقال إن الهر كروب الذي مات في ألمانيا مؤخراً كان من الرجال الذين يكرهون الحرب ويعشقون السلم. وكروب هذا كان صاحب أكبر معمل للمدافع في العالم. فماذا تنفع الإنسانيةَ عاطفتُه الشريفة ما زالت ملايينه تستخدم لاصطناع أدوات الحرب وموادها. فلو مال إلى الحرب لكان خلص من المناقضة التي أوقعه بها الأصدقاء الغيورون الذين ينشرون له مآثر نرتاب فيها. إذا كان المساعد على تعزيز الحرب يكره الحرب فمن يا ترى يحبها. الهر كروب الذي نرجو له النجاة من كل كرب في الآخرة أحيى في هذا العالم مكروب الحرب ونشّطه ثم تظاهر بالبغض له. فهل الذي يكره خليقته يعد فاضلاً؟ نكره سفك الدماء ولكننا نمجد من جعل الحرب صنعته والقتل مهنته. نحن أبطال التاريخ ونرضى أن تكون فينا نقائصهم وعيوبهم. إذا شئت أن تعرف من هو عدوك الألد فتش عليه في نفسك. نفتخر بنابليون وبالقيصر وبهانيبال ونحتقر مارا وروبسبير ودانتون. ولماذا؟ لأن الأولين قتلوا وسبوا بإذن من التقاليد، والأخيرين أذنوا بالقتل أو تغاضوا عنه حباً بقتل تلك التقاليد. فأي أفضل؟ وبمن يجب أن نفتخر؟ الرجل الذي تبتدئ حياته بالتقوى والتدين تنتهي غالباً بالمكر والاحتيال. الراهب هو أكبر سياسي والسياسي هو العالم بأساليب الكذب والمتمهر في فن الاحتيال والتدليس والتمويه. الطريق السهلة هي غالباً طريق الضلال والغرور. الحكيم يشتغل في سفينته كل يوم ويظل متأهباً. والجاهل ينتظر الطوفان ويصرخ إذ ذاك «نجوني من الغرق». الامرأة التي ترى ثيابها على الأرض تستحق أن ترمى من الشباك. لا تأذن لنفسك التعمق في درس أطباع صديقك إذا كنت تحب دوام صداقتك له. الحجار الكريمة توجد أحياناً في الوحل والأقذار. أي أكثر؟ الجوازات الشعرية أم المقفّون؟ سؤال نطرحه على شعرائنا الذين ينامون وهم ماشون ويمشون وهم نائمون. قد يستغني الذكي عن معرفة قواعد الجدل وقوانين المنطق. ما لقيصر لقيصر وما لله لبني البشر. قال سبنسر: «إن الإنشاء الطلي هو نتيجة للممارسة والاستعداد أكثر مما هو نتيجة معرفة الكاتب قواعد الكتابة». وقال أيضاً «قد يستغني عن علمَي المعاني والبيان من كان متوقد الذهن، سريع الفهم، حاد التصور، ذا أذن حساسة ونظر دقيق».إذا وقعت بين شرين فابتعد عن الاثنين. نكرر مثلنا هذا لأن بعض إخواننا وأصدقائنا يميلون إلى التمثل بالمثل القديم الذي هو: «إذا وقعت بين شرين فاختر لنفسك الأصغر» أي إذا وقعت بين بغل وحمار فاختر لنفسك الأقل ضرراً من الاثنين. ولكن البغل قابل أن يحرن والحمار قابل أن يتهور. الهدى ـ 28 كانون الثاني 1903

عن قانون الانتخابات والزواج المدني


معركتان نجح النظام السوري وحلفاؤه في فرضهما على خصومه وارباكهم بها الى حد كبير، وكان بالامكان عدم الوقوع فيهما والمبادرة الى طرح مشاريع واضحة وجريئة تغلق الباب أمام الفتنة الموصوفة لهذه المعارك الوهمية: 1-قانون ايلي الفرزلي السيء السمعة (أقصد القانون) وقد انزلق البعض على قشرة الموز هذه بعنوان وحدة الصف المسيحي أولاً وضرورة التمثيل الصحيح للمسيحيين في البرلمان ثانياً... متناسين أن باقي الطوائف ستطالب أيضاً بوحدة الصف (لا صوت يعلو فوق صوت وحدة الطائفة) وبالتمثيل الصحيح العادل المناسب لحجمها (أي المثالثة وليس المناصفة)... ومتناسين أن وجود المسيحيين والمسلمين هو أصلاً على المحك ولا خلاص لهم الا معاً وبالدولة الديموقراطية المدنية... يعني ننهض معاً أو نسقط فرادى... والأنكى من ذلك أن الجميع يدرك ويعلم علم اليقين بانه لا انتخابات ولا من يحزنون.. يعني ذلك ان مصير المسيحيين اللبنانيين غير متعلق أصلاً بانتخابات لن تحصل اليوم ولا غداً ... فلماذا التضحية بما في اليد من اجل 10 عصافير على الشجرة... أي في عالم الغيب..لأن السادة الكرام لا يعرفون ما سيصير عليه الوضع بعد يومين ... برغم لجوئهم الى نبؤات ليلى عبد اللطيف وميشال حايك ومن لف لفهما... ألم يكن بالامكان بدل ذلك الدعوة لمؤتمرات وطنية وورش عمل لبحث سبل حماية السلم الأهلي والعدالة والمصالحة وكيفية تطبيق الطائف فعلياً، وضرورات الاستعداد لزلزال المحكمة الدولية وزلزال سوريا المتفاقم؟؟؟ والعاقل والمدرك للامور يعرف ان ما يجري مناورات سياسية رخيصة للحشر والمغالبة.. لذا كان من الأنسب عدم الانجرار خلف صراع حول جنس الملائكة... والنأي بالنفس عن هذا الهراء غير الارثوذكسي وغير الكاثوليكي... 2- الزواج المدني وهو موضوع قديم جديد يتم طرحه دائماً لاستثارة الفتنة الطائفية واظهار السنّة بمظهر غير المدنيين .. حصل هذا زمن الرئيس الياس الهراوي بطلب سوري لحشر الرئيس الحريري ... يومها وافق وزراء حركة أمل على القانون المدني بطلب سوري مباشر وأيضاً لحشر الرئيس الحريري في الزاوية نظراً لما لهذا الأمر من حساسية دينية اسلامية... ولا أظن أن الرئيسين الهراوي وبري ، ومعهما الوزراء الأشاوس، كانوا من المهتمين بالحقوق المدنية للمواطن اللبناني...كما لا أظن أن من كان يطرح في كل فترة مشروع الغاء الطائفية السياسية كان بريئاً من الغرضية براءة الذئب من دم يوسف ابن يعقوب... أما اليوم فقد شارك المفتي قباني (ولحقه المجلس الشيعي) في عملية التحريض ضد الزواج المدني وبصورة غير مقبولة بكل المعايير... وهدف المفتي قباني واضح للعيان إذ يتعلق الأمر بالدعوة الى انتخاب المجلس الشرعي وبالتالي تطييره من منصبه المختلف حول شرعيته أصلاً، وهو باستثارته تعبئة دينية تعطيه مصداقية شعبية يحشر تيار المستقبل في الزاوية ويربك الرئيس ميقاتي ويخلط الأوراق ويكسب وقتاً... وقد نجح في ذلك للأسف... مؤقتاً...وما تأييد المجلس الشيعي له سوى من باب التضامن السياسي ونحن نعلم أن وزراء حركة أمل صوتوا بالاجماع لصالح مشروع الرئيس الهراوي للزواج المدني في شباط 1998.. وفي هذا السياق يتوجب التنويه بقوة بأنه لا يحق لأحد (من الناحية الدينية الشرعية أولاً ومن الناحية السياسية الوطنية ثانياً) التصريح بتكفير وتهديد بحد الردة واخراج مسلمين (بينهم نواب ووزراء ورؤساء وزراء وقضاة ومفكرون ..الخ..) من دينهم والتهديد بعدم الصلاة عليهم أو دفنهم في مدافن المسلمين...هذا لم يحصل من قبل في تاريخ المسلمين في لبنان... ولا يجوز أن يمر مرور الكرام. وقد تعلمنا في ديننا أن الرسول صلى بنفسه على رئيس المنافقين الذين كانوا يستهزئون به ويكفرون برسالته... وتعلمنا أن الحكم الأخير بين الناس هو لله يوم القيامة.. كما تعلمنا في ديننا أن الفتوى هي رأي (قد يكون مصيباً وقد يكون مخطئاً) وليست حكماً قضائياً ... وتعلمنا في ديننا انه لا كهنوت في الاسلام .. المقصود بالإفتاء: الإفتاء في اللغة معناه الكشف والبيان والإيضاح. أما المقصود بالإفتاء شرعا فهو بيان الأحكام الشرعية فيما يتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات والآدب، وغير ذلك من المسائل التى لها أحكامها المستقرة فى شريعة الإسلام. وبناء على ذلك، فإن وظيفة المفتى الشرعى هي بيان الحكم الديني فى مسألة من المسائل من حيث كونها من الأمور المباحة، أو المندوبة، أو المكروهة، أو الواجبة، أو المحرمة...أي من دون تكفير وتهديد ووعيد..فالمفتي يجتهد رأيه ولا يملك فرضه.. والإفتاء أمانة كبيرة وتبعة عظيمة لأن المفتى فى مسألة ما مسؤول أمام الله تعالى عما أفتى به ، فإن أفتى بالحق والصواب كان له أجره، وإن أفتى بالخطأ والجهل والهوى كان أمره فرطا، وكان عقابه لا يعلم شدته إلا الله. الفرق بين القاضي والمفتي: إن حكم القاضي ملزم لمن تحاكم إليه ينفذ قهرًا، أما فتوى المفتي فغير ملزمة في المنازعات بين الخصوم، إذ ليس من شأنه طلب البيانات واستشهاد الشهود واستحلاف أطراف النـزاع، وليس مجلسه مجلس إقرار، بخلاف القاضي في كل ذلك، ويترتب على هذا: 1. إنه لا يفتى فيما ينظر فيه القاضي إلا على جهة المشورة وإبداء الرأي، فإذا كانت الدعوى معروضة أمام المحاكم للنظر فيها فلا يستفتى فيما كان النظر فيه من شأن القاضي، وليكن السؤال عاما لا علاقة له بحق لأحد أو على أحد. 2. إن فتواه لا تعارض حكم القاضي إلا إذا خالف نصا صريحا أو إجماعا صحيحا، فإن حكمه يكون باطلا حينئذ. 3. إنه لا يملك تغيير المحررات الرسمية التي يصدرها القاضي أوالمأذون كما في الزواج والطلاق، فإذا أراد من حررت له وثيقة طلاق رسمية مثلا أن يطعن فيها فالطريق الصحيح له أن يلجأ إلى المحكمة طلبا للتصحيح، ثم إذا أراد القاضي بعد ذلك أن يستشير المفتي فإنه يخاطبه بمحرر رسمي. 4. قد يطلب الزوج – أو الزوجة التي حضر زوجها للاستفتاء – من المفتي ما يفيد وقوع الطلاق من عـدم وقوعه، وحينئذ فإفادة دار الإفتاء بذلك إنما هي على سبيل الشهادة لا القضاء. وللمفتي صفات علمية، من أهمها أن يكون حافظا للقرآن الكريم مع فهمه السديد لمعاني ألفاظه ولسمو هداياته، وأن يكون واسع الاطلاع على السنة النبوية الشريفة وشروحها، ولديه الإحاطة الواعية بروح التشريع، واختلاف الآراء، وتطور الزمن والعادات، إلى غير ذلك من العلوم التى لا غنى لكل راسخ فى العلم منها. فقد روى عن الإمام الشافعي – رضى الله عنه – أنه قال: "لا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله تعالى بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصيرا باللغة الفصحى والشعر الجيد وما يحتاج إليه منهما فى فهم القرآن والسنة، ويكون مع هذا مشرفا على اختلاف علماء الأمصار، وتكون له فى ذلك قريحة وقادة، فإذا بلغ هذه الدرجة فله أن يفتي". وعلى المفتي أيضا ألا يتحرج من الرجوع عن فتواه إذا تبين له خطؤه. الزواج في الاسلام كما تعلمنا في فقهنا الاسلامي أنّ الأصل الأولي، العقلي والنقلي، في قضية السلطة على البشر، من قبل أي شخص كان، هو عدم المشروعية، فلا ولاية لأحد على أحد، ولا ولاية لأحد على جماعة، أو مجتمع، ولا ولاية لجماعة أو مجتمع على أحد، طالما أنّ الولاية الوحيدة الثابتة بحكم العقل والنقل، هي ولاية الله تعالى وحده دون غيره... وهذا يعني أنه بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول (عند السنة)، وبعد انقطاع العصمة بغيبة الامام المهدي (عند الشيعة)، عادت الولاية الى الأمة على نفسها.. أي أنّ الأمة يجب أن تشرّع لنفسها بواسطة أهل الخبرة والاختصاص، في كل مجال في حدود حاجاتها التنظيمية، وذلك في مناطق الفراغ التشريعي على حد قول شمس الدين، ومنها الشأن الإداري والتنظيمي... والصحيح أن الزواج في الاسلام هو عقد مدني أصلاً (شأن اداري تنظيمي) فهو ليس سراً مقدساً، وأساس هذا العقد المدني وجود الشهود عند أهل السنة (شاهداك زوجاك) وبلا شهود عند الشيعة، بل اتفاق وتراض بين الزوجين، إذ هو عقد مكتوب يحدد الحقوق والواجبات والمسؤوليات المتبادلة، أي ككل عقد مدني إداري أصلاً... ولكن هناك اشكالية أساسية في العقد الاسلامي وهي أنه لا يجوز لمسلمة أن تتزوج من غير مسلم.. وهذا له أسبابه السوسيولوجية المعروفة التي جعلت المرحوم الشيخ عبدالله العلايلي يطلق صرخته الشهيرة : أطوطميون أنتم؟.. وهذا الاشكال هو الداعي الوحيد لعدم قبول الزواج المدني لدى المسلمين لما لذلك من تداعيات ومفاعيل على مسائل أخرى في أساس تكوين الاسرة مثل البنوة والابوة (النسب) والامومة والحضانة والطلاق والإرث والوصية الخ....ومجتمعاتنا مجتمعات ذكورية وتشريعاتها تخدم ذلك... وبالتالي فليست المسألة مجرد زواج مدني بل كيفية اعادة تنظيم حقل الأسرة والاحوال الشخصية برمته في مجتمع ديني أولاً وذكوري أساساً.. أما القول بالاعتبار بالنموذج التونسي والماليزي والاندونيسي والتركي فهو صحيح مبدئياً ولكنه يتناسى أن هذه البلدان اسلامية صافية وعلى مذهب واحد غالباً، أو أن السلطات فيها مسلمة ودستورها ينص على دين الدولة، تماماً كما أن العلمانية الغربية قامت على مجتمعات مسيحية ثقافتها وروحها ودستورها وقوانينها مستمدة من تراثها المسيحي ولم تأخذ بالتعددية الدينية حين صاغت علمانيتها...المهم هنا القول بأن المطلوب اجتراح اجتهاد اسلامي مناسب للعصر والمكان والزمان وهذا ما حاول القيام به العلايلي وبعض علماء الشيعة مثل السيد محمد حسن الأمين والسيد علي الأمين والسيد هاني فحص.. وخلاصة القول إن الزواج المدني ينعقد عندنا في لبنان منذ أجيال (ولو في خارج البلاد) وتسجله المحاكم اللبنانية شرعياً وتنعقد مفاعيله حتمياً .. ولم يصدر عن أي مفتي سابقاً ما يلغي هذه الزيجات أو يجعل أصحابها كفرة مرتدين... فلنشتغل على ورش عمل تناقش وتصوغ اشكاليات الاحوال الشخصية وقوانينها في لبنان في ظل دعوتنا لدولة مدنية.. ولنشتغل على ورش عمل تناقش كيفية تطبيق اتفاق الطائف، وتصوغ حلولاً لمشكلة التمثيل الصحيح ومبدأ المناصفة والتقسيمات الادارية المناسبة واللامركزية الادارية وسلطات وصلاحيات مجلس الشيوخ والسلطة القضائية المستقلة فعلاً، وكيفية تحقيق ذلك.. ولنشتغل على ورش عمل وهيئات تعمل على حماية السلم الأهلي وحفظ الأمن والأمان للبنان في هذا المنعطف الخطر. أما الحل الآني (خطة خمسية) لمسألة السجال الحاصل اليوم فبسيط يا شباب... تطبيق اتفاق الطائف عبر المهمات التالية: 1- تشكيل مجلس شيوخ طائفي على أساس أن كل طائفة تنتخب شيوخها وعلى قاعدة المناصفة والنسبية . 2- تشكيل مجلس نواب محرر من القيد الطائفي على أساس المحافظة دائرة انتخابية واحدة، والاكثرية المطلقة مع وجود لوائح لكتل سياسية (أو أحزاب) لا طائفية.. نعم لا طائفية مثل الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية والجبهة الاشتراكية.. 3- إعادة تشكيل المحافظات وجعلها 34 على أساس مشروع ناجي البستاني أو أي اقتراح غيره يناسب المناطق. 4- البدء الفعلي بتطبيق اللامركزية الادارية الموسعة بعد اعادة تشكيل المحافظات.وهذا يعني على سبيل المثال استقلالية الجامعة اللبنانية في المناطق كجامعات مستقلة وليس كفروع، وتعيين رؤساء لكل منها بدل الرئيس الواحد.. 5- البدء الفعلي بالانماء المتوازن من خلال تأهيل وتشغيل مطاري القليعات ورياق ومرفأ طرابلس (وغيره) ومصافي النفط في طرابلس والزهراني والمعارض العربية والدولية في طرابلس وشتوره وبعلبك والاوتوستراد العربي والجامعة اللامركزية والمناطق الصناعية في البقاع وتأهيل وتفعيل المستشفيات الحكومية والمستوصفات النقالة والزراعات البديلة... ومن خلال تسهيل عمليات فرز وضم وتسجيل الأراضي (خصوصاً في البقاع والشمال) وغير ذلك من مشاريع.. 6- تشكيل مجلس قضاء أعلى جديد مستقل يرشح أعضاءه الرؤساء الثلاثة ورؤساء الكتل النيابية من كل الطوائف ويتم لاحقاً انتخاب عشرة من بين المرشحين وعلى أساس الكفاءة والأقدمية.. فقط .. ويناط به وحده اعادة النظر في وضع القضاء برمته لضرب الفساد واعادة تشكيل الهيئات والمحاكم باتجاه تحقيق استقلالية السلطة القضائية نهائياً.. 7- تدريس الزامي للتربية الوطنية وللتنشئة المدنية في التعليم الرسمي والخاص للمرحلتين الابتدائية والتكميلية. 8- تدريس الزامي لتاريخ الاديان والثقافات المقارن، وعناوين وبنود من القانون المدني، في المرحلتين الثانوية والجامعية. 9- تكليف الجيش بأعمال الخدمة الاجتماعية المجانية في المناطق الريفية المتخلفة كاستصلاح الأراضي وشق الطرق وتزفيتها وبناء المدارس والمستوصفات أو اصلاحها..الخ.. والغاء السخرة المطبقة على الجنود في منازل الظباط. 10- تشكيل هيئة من القضاة المدنيين والدينيين (والمحامين) لاقتراح مشروع قانون مدني اختياري للاحوال الشخصية ..

رحم الله المفكر المناضل جمال البنا


وفاة المفكر المصري جمال البنا.. صاحب الأفكار الجدلية هو الشقيق الأصغر لحسن البنا مؤسس "جماعة الإخوان" إلا أنه يختلف مع فكره توفي المفكر المصري جمال البنا، اليوم الأربعاء 30/1/2013 ، عن عمر ناهز 93 عاماً، بعد معاناة مع المرض حيث كان يخضع للعلاج من التهاب رئوي في أحد مستشفيات القاهرة. ويعتبر المفكر الإسلامي صاحب كتابات جدلية في قضايا إسلامية، وهو من مواليد 1920، والشقيق الأصغر لحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه يختلف كلياً مع فكر هذه الجماعة. أكثر من 150 كتاباً صدر أول كتاب له بعنوان "ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد" سنة 1945م، وفي العام التالي 1946 أصدر كتابه الثاني "ديمقراطية جديدة"، ثم توالت مؤلفاته في الصدور حتى تجاوزت مع ترجماته الـ150 كتاباً. وعمل محاضرًا في الجامعة العمالية والمعاهد المتخصصة منذ سنة 1963م، وحتى سنة 1993م. كما عمل خبيراً بمنظمة العمل العربية. ولجمال البنا العديد من الآراء الفقهية التي يعتبرها بعض العلماء مخالفة؛ فهو يرى أن المرأة أحق بالإمامة من الرجال إذا كانت أعلم بالقرآن كما يرى أن الحجاب ليس فرضاً على المرأة. كما يذكر جمال البنا بأنه لا يجوز للرجل أن يطلق زوجته منفردا، وذلك كونه تزوج منها بصفة رضائية وبالتالي يتوجب الطلاق رضا الطرفين واتفاقهما لكي يتم الانفصال.

توجهات الحوار وقواعده (خلاصة مساهمات طارق متري وانطوان مسرة وأنطوان حداد وسعود المولى)


1- يسهم الحوار، من حيث هو ثقافة ونهج تعامل، في اغناء اللبنانيين بالتنوع الذي يتميّز به بلدهم وفي الحيلولة دون تسبّبه بالفرقة. كما يسهم في درء مخاطر القطيعة بينهم أو ميل بعضهم إلى الاستغناء والإنطواء. 2- وتزداد الحاجة إلى الحوار بازدياد احتمالات الإنزلاق من توكيد الذات ومعه التشديد على الحق في المغايرة، إلى النفور أو العداء، لا سيما في الحالات التي يؤدي فيها الخلاف السياسي القوي إلى انقسام طائفي ومذهبي حاد. 3- والحوار سبيل للوصل بين اللبنانيين ولتدارك الفصل الذي ينذر به شكهم أو خوفهم أو خصامهم. وهو أداة اقدار من أجل بناء الجسور أو اعادة بنائها، وفض النزاعات أو الحؤول دون انفجارها. 4- والحوار سعي إلى التفهم المتبادل، وتوسيع المساحات المشتركة، وصياغة التوافقات والبناء عليها، ووضع الاختلافات في نصابها، والعمل على حلّ المشكلات الناتجة عنها. ولذلك فهو مدعو إلى محاذرة المناظرات والمماحكات العقيمة. 5- والحوار عملية تراكمية غالباً ما تستند فاعليتها إلى استدامتها. فالحوار ضروري حتى في الأزمنة والأمكنة حيث لا تبدو الحاجة إليه ملحة. ولعلّ في هذه الحالة شرط لكي يفعل فعله حين تشتد الأزمات وتزداد أهمية التلاقي. فالحوار في أزمنة الإنفراج يجعل الحوار في أزمنة الضيق مؤثراً. 6- وينسج الحوار علاقات احترام وثقة بين المتحاورين وينشئ صداقات. ومن شأن حسن المعاشرة، وهي من خصائص العملية الحوارية، أن تكون حافزاً لحسن المبادرة، وبوجه أخص في عمل الوساطة والسعي من أجل المصالحة. 7- ويترتب على المتحاورين التخلق بأخلاق الحوار، ومعظمها بديهية، ومنها: - اعطاء الوقت الكافي للإصغاء إلى الآخر والفرصة لتبيان موقفه بكل وضوح. - ارتضاء البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر. - عدم اختصار مواقف الآخرين على نحو لا يتعرفون فيه إلى أنفسهم. - الاحجام عن مقارنة المثال عندنا بالواقع عند سوانا بل مقارنة الواقع بالواقع ومقابلة المثال مع المثال. - التزام آداب التخاطب المعروفة، كالبعد عن المهاترة والبذائة والتجريح والتهكم المسيء إلى الكرامات الشخصية والجمعية. - تجنب اطلاق الأحكام القيمية على الأشخاص وتعليق الحكم القيمي على الآراء أثناء القسط الأكبر من المناقشات. - تحاشي اللجوء إلى الملاطفة والمسايرة والمجاملة على حساب الصدق والوضوح. 8- يسعى الحوار إلى ردم الهوة، أو تجسيرها، بين ما يقال في الجلسات المغلقة وما يصرَّح به في العلن. وتتعزز صدقيته بأحجام المشاركين فيه عن أي قول بغياب الآخرين لا يقولونه بحضورهم. 9- لا يبحث الحوار عن الإتفاق بأي ثمن. ولا يفتعله من خلال تكرار المشتركات البديهية وتوسل العموميات وأفكار "الحد الأدنى" التي لا تقدم ولا تؤخر. بل يترتب على المشاركين أن يعلنوا فشلهم في الإتفاق إذا ما حصل، وعلى نحو لا لبس فيه، دون التهديد بإيقافه أو الإنسحاب منه. أكثر من ذلك إن كل فشل من هذا النوع مناسبة لتجديد الإلتزام بالمثابرة في الحوار. 10- ولا يعني فشل الحوار في الوصول إلى اتفاق أن تبقى الإختلافات على حالها. فهو لا يضخّمها أو يهول بها، بل يفسرها ويعيد صياغة مسائلها على نحو يفتح المسالك أمام حوارات لاحقة. 11- يضم الحوار أشخاصاً من مشارب مختلفة وهم متساوون. فلا يعطي النطق بإسم جماعة أو فئة والدفاع عن مصالحها وسياساتها امتيازاً لأي من المشاركين. وتنبع قيمة الآراء من نوعية المشاركة في الحوار لا من قوة نفوذ أي من المشاركين أو سعة تأثيره، الفعلية أو المفترضة. 12- لا يفترض الحوار أن المشاركين فيه كتل متجانسة وثابتة، بل يسعى إلى اظهار التنوع داخل الكتل المفترضة. فلا يتحول إلى أخذ ورد بين مجموعات متقابلة أو متعارضة، بل من شأنه أن يؤدي إلى الوان من التقارب العابرة للمجموعات التي تشكلها الخيارات المسبقة. 13- يسعى الحوار إلى التحرر من علاقات القوى، السياسية والفكرية الخارجة عنه، فلا يكون تفاوضاً بين من يحسبون أنفسهم، أو يحسبون، أطرافاً أقوياء بحجة سعة تمثيلهم أو نتيجة لتمسكهم بمواقفهم. 14- ويشترط نجاح الحوار ضمان مشاركة الجميع فيه دون استثناء ويستدعي اشراك من يميلون إلى مشاركة محدودة أو الذين تحرجهم مواقف سواهم.

في معنى الحوار ( خلاصة) مساهمات سمير فرنجية ومحمد حسين شمس الدين وسعود المولى وهاني فحص)


يقوم الحوار بين مختلفين متعددين. فإما أن نؤمن بالحوار، وهذا يستبطن إعترافاً بالتعدد والإختلاف، وإما أن نزعم بأننا متطابقون ، فلا تكون لنا حاجة بالحوار. والإختلاف (التعدد والتنوع) ليس حالة شاذة، بل هو قاعدة تكوينية شاملة ، ومتحققة بداهة، في اي إجتماع إنساني. لذلك فإن السعي إلى إلغائه ،بدعوى التوحد والمطابقة، هو سعي عقيم ينم عن سوء تقدير، في أحسن الأحوال. ثمة أيضا، نزوع أصيل وحاجة إلى اعتماد "مشتركات" لا تنهض بدونها حياة إجتماعية. من هنا يشكل التهاون أو التفرط بالمشترك سؤء تدبير خطير،تترتب علية نتائج وخيمة عاينا- نحن اللبنانين- نماذج منها في تجربتنا الخاصة ،ولا نزال نرى تجليات مماثلة في بلدان عدة من حولنا.إن المشكلة في حد ذاتها لا تنشا من وجود الإختلاف ،ولا من وجود أنظمة لمصالح مختلفة، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مشترك، أو من تخريب هذا النظام من بعد ايجاده. ينطلق الحوار إذاً ،من الإعتراف بالآخر كما هو ، شريكاً مختلفاً ،مع إحترام هذا الإختلاف وفهم أسبابه، واعتباره حافزاً على التكامل لا داعيا إلى الإفتراق.وعليه فإن الحوار لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي والتخلي عن تطلباته المشروعة، ولا يسعى إلى استيعابه، كما لا يسعى التماهي معه. إن الجهد الحواري ينصب على اكتشاف المساحة المشتركة، وبلورتها، والإنطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى الأمور، ما يسمح بتحصيل خلاصات جديدة ينبني عليها تفاهم أكثر عمقاً ومواقف أكثر ايجابية. الحوار بهذا المعنى يتجاوز خطة "التقريب" ليدخل في مشروع "التضامن" مع الشريك، من خلال اعتبار المشتركات شأنا أساسياً لكل طرف، لا همّاً فائضاً عن اهتماماته الخاصة. ولا يبلغ الحوار نهاياته المنطقية مع العجز عن ممارسة التضامن. والحوار الحقيقي يتطلب من المحاور شجاعة في المراجعة ومساءلة الذات وهو في معناه الأعمق قدرة على رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بملاحظة اعتباراته ومعاييره الخاصة. إن النجاح في بلورة المشترك، مع القدرة على التزامه، هو عينه النجاح في إقامة "التسوية" على أساس من الوعي والقناعة.وما التسوية إلا عقد ينطوي على أخذ وعطاء وتنازلات متبادلة بالضرورة فالعقد الإجتماعي التي يقوم عليها السلم الأهلي في المجتمعات إنما هي في الجوهر تسويات كبرى مركبة تتطلب عناية مستمرة وحسن تدبير من قبل أصحابها مثلما تتطلب إبداعاً في تجديدها بموازاة مستجدات الحياة. إن الحوار بحاجة إلى فكر يحترم الفروق والتنوّع ويرى إلى الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وأبعاد لا جوهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد، إنه فكر يجيد التبادل والتأليف إنطلاقاً من توسط مشرف من غير أن يجنح إلى دمجية كلانية تلغي المسافات والتخوم أو يقع في تفريعية إنقسامية تقطع العلائق وتعدم التواصل.إن الإنغلاق على عصبية واحدة سرعان ما يلغي الديموقراطية بسبب عدم إعترافه بالفوارق والمغايرة. وقد أظهرت وقائع الحرب اللبنانية إن التصادم داخل الجماعة الواحدة الصافية كان أشد فتكاً من تصادم الجماعات المختلفة. إن مجمل المفاهيم المتصلة بالحوار تحملنا على الإعتقاد بأنه نهج حياة وأسلوب عيش ليس مجرد وسيلة تنتفي الحاجة إليها عند تحقيق غرض معين لذلك هو دائم متجدد يستجيب لبداهة الحياة وضرورات التواصل والإجتماع. وهو إلى ذلك موقف في غاية الإقدام والشجاعة ولا سيما أثناء صعود الغرائز والعصبيات لأنه يتجنب الهروب إلى الأمام بالتطرف أو الهروب إلى الوراء بالسلبية والإنسحاب التطهري. ولا ينجو مفهوم الحوار في بلادنا من تحريفات متنوعة تنأى به عن غايته الحقيقية فيغدو أحياناً شكلاً من أشكال النزاع البارد حين يعتبر البعض مناقشة ومجادلة (إستقصاء في محاسبة الآخر ومخاصمته) أو مساجلة (مباراة ومفاخرة وسعياً إلى الغلبة)؛ كما يغدو أحيانا أخرى آلية قاصرة عقيمة حين يعتبره البعض تبادلاً لوجهات النظر بديبلوماسية ماكرة أو هدنة بين وقتين للنزاع أو إنه إفضل المتاح مؤقتا من بين خيارات كلها سيئة وفي مختلف الأحوال فإن انتفاخ الذات وركوب الرأس يحولان دون التواصل والتبادل أي إلى الحوار الحقيقي. نزعم مجدداً إن الحوار بحث دائم عن المشترك بإنفتاح وتواضع على أساس فكرة التسوية واستناداً الى قيم التوسط والإعتدال أما بدائل الحوار فتعني عملياً الإستمرار في الخصام، وتحين الفرصة للإنقضاض على الآخر مع ما يرافق ذلك من إضعاف لمقومات المجتمع وإهدار لما راكمته الحياة المدنية والعيش المشترك وهذا كله يتجاوز في أثره الحاضر والراهن ليمثل اعتداء على مقومات المستقبل.

اللقاء اللبناني للحوار: هل هناك حاجة لاطار مدني للحوار ؟


في حزيران 2001 إنعقد في مونترو بسويسرا اللقاء اللبناني للحوار وضم 30 شخصية من شتى التيارات والطوائف والتكتلات.. تشكل اللقاء عند منعطف بيان المطارنة الموارنة الشهير وبعد تشكيل لقاء قرنة شهوان، ثم حركة التجدد الديموقراطي، والمنبر الديموقراطي.. ومع انقطاع لغة الحوار وغلبة التحريض والتعبئة استشعر بعض العاملين في الحوار خطورة الوضع خصوصاً إثر حملة السواطير الشهيرة في ذلك العام... وقد توافق المجتمعون على جعل اللقاء نواة لهيئة أهلية-مدنية للحوار تجتمع دورياً للتبصر في المتغيرات وتسعى إلى ترسيخ التضامن الوطني وتحقيق وحدة اللبنانيين حول ثوابتهم الرئيسة... وكان أبرز الذين عملوا على تأسيس اللقاء الدكتور طارق متري والأستاذ سمير فرنجية وشاركهم في ذلك الأعضاء المؤسسون للفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي (محمد السماك- رياض جرجور- هاني فحص- عباس الحلبي- حارث شهاب- كميل منسى- سعود المولى) وأعضاء من حركة التجدد ومن لقاء قرنة شهوان..وقد تجاوب حزب الله يومها وكلف السيدين نواف الموسوي وغالب أبو زينب المشاركة في أعمال اللقاء.. كما كلف الأستاذ نبيه بري مساعديه الأستاذ علي حمدان و (الوزير) علي حسن خليل المشاركة معنا.. لكن أعمال اللقاء تعطلت بعد حرب تموز 2006 وكنتيجة لتفاقم الإنقسام بين كتلتي 8 و 14 آذار وخصوصاً مع تصاعد الميل إلى تضخيم الفروقات ومع تفشي ظاهرة التراشق بالتهم والتخوين والتكفير عند كل حدث يشهده الواقع الإجتماعي أو السياسي..وهكذا وقفنا جميعاً عاجزين ونحن نشهد تراجع مجالات التلاقي بين اللبنانيين وخصوصاً لدى الشباب، وإنقطاع كل سبل الإتصال والتواصل بين أهل الرأي والفكر والسياسة وبين المهتمين بالشأن العام.. لقد حاول اللقاء اللبناني للحوار عند إطلاقه أن يكون إطاراً واعياً ومبادراً للبحث في أشكال مقاومة التطييف وآلياته، ورصد مواقع التوترات قبل إنفجارها، وتحليل الخطاب السياسي الطائفي تحليلاً تقويمياً قبل تفاقمه.. كما سعى لأن يكون أيضاً هيئة وطنية تعمل على تعزيز ثقافة الحوار وقيم الحوار بين اللبنانيين، وعلى درء مخاطر إنقلاب الإختلافات السياسية إلى إنقسامات طائفية ومذهبية وإلى عنف ظاهر أو مستتر.. كان الهدف من اللقاء إذن منع الحريق قبل وقوعه، أو بالأحرى ضبط التوترات ومنع تحولها إلى عنف، وإيجاد آليات حوار وتواصل بين الناس في لحظات التأزم. والمهمة الثانية كانت الحوار الفكري السياسي حول تطوير الصيغة السياسية للنظام اللبناني..وهذا ما قمنا به في مراحل الهدوء في البلاد حين ناقشنا عدة عناوين وطنية خلافية حول دور لبنان ومعناه وحول التسوية الداخلية وشروطها الإقليمية والدولية وإمكاناتها المستقلة وحول كيفية تطبيق اتفاق الطائف وحول قانون الانتخابات الأفضل للبنان ولا بد من نشر محاضر تلك الجلسات. لكن اللقاء فشل في أهدافه الأولى بدليل توقف أعماله في أحرج الأوقات التي كانت تستدعي وجوده... ومن الأسباب الداعية لاستمرار وجود اللقاء أو بالأحرى وجود هيئة مدنية وطنية على نسقه أننا (بحسب الدكتور أنطوان حداد، أحد مؤسسي اللقاء) مجتمع منقسم إنقساماً عمودياً لا شفاء منه ما يستدعي وجود آلية لإمتصاص الصدمات الطائفية ووجود دور للوساطة والتوسط ولتسهيل التواصل والتقريب بين المنقسمين.. ونحن أيضاً (بحسب السيد هاني فحص) مثقفون فاعلون نتعاطى الشأن العام من باب ضرورة الإسهام في صياغة جدول أعمال وطني يكسر الإنقسام العمودي في البلاد وألا نترك الناس فريسة للذئاب الطائفية.. نعم لم يعمل اللقاء بوضوح على آليات الوساطة والحوار بين أطراف الصراع في وقت الأزمات.. ولا على آليات إستباق الصدمات وضبط التوترات ومعالجة النزاعات قبل وقوعها... واليوم تشهد بلادنا عدمية حوارية أو ثرثرة مقيتة ترقص فوق جثث الشهداء..إذ أنه (وبحسب الوزير الدكتور طارق متري أحد مؤسسي اللقاء) ساد مؤخراً 3 أشكال من الحوار: الأول هو حوار التفاوض الذي عادة ما يكون مرآة لميزان القوى الفعلي على الأرض، ومثاله هيئة الحوار أو جلسات مجلس الوزراء..وحوار المبارزة والسجال والتنابذ وإستعراض العضلات، وهو ما عممته محطات التلفزة في ما يسمى التوك شو..ثم حوار المقاربات المتوازية الذي تعممه منتديات الحوار والمجتمع المدني حيث يتم تقديم أوراق متعددة حول موضوع واحد دون حصول حوار فعلي... وخلال إجتماعاتنا ما بين 2001 و2007 لم يكن هناك نقاط اختلاف رئيسية بيننا. فكلنا يُقر بخصوصية الصيغة اللبنانية وبضرورتها من حيث إنجاز عيش مشترك قائم على الحرية وعلى العدالة والمساواة ، ومن حيث التسليم بالوطن- الكيان في حدوده الحاضرة ، وبالدولة الجمهورية الديموقراطية البرلمانية.. وكلنا يعترف بأوجه القصور والخلل في ممارسة الحكم وفي إدارة الشأن العام؛ وبظاهرة الفساد المستشري في البلاد. لا بل أننا نقر جميعاً بإختلال المعايير والموازين وبحدوث تطبيق إستنسابي ومجتزأ لإتفاق الطائف.. ولا شك أن حوارنا قد أفضى إلى تسجيل صفحات فكرية قيّمة تحتاج الى صياغات نظرية مكتملة تضيف الى الفكر السياسي والثقافة السياسية الوطنية...وكان لسمير فرنجيه ووثائق المؤتمر الدائم للحوار اللبناني (الذي لي شرف المشاركة في تأسيسه) دور كبير في اطلاق اللقاء كما في إطلاق المبادرات وتعميم الثقافة الحوارية.. كما كان للوزير الدكتور طارق متري اسهامات مميزة وذلك بسبب تجربته العميقة والواسعة في أعمال الحوار في مجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط، كما لجهة مشاركته في تأسيس الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي.. وقد أمكن تلخيص ما يلي من مداخلاتهم العديدة كما من مداخلات بقية الأعضاء وخصوصاً البروفسور أنطوان مسرة الذي كان دائماً بوصلتنا الدستورية والقانونية.

الأربعاء، 2 يناير 2013

مدخل الى علم نفس الدولة لدى اللبنانيين: حبيبتي الدولة


البروفسور انطوان مسّره ماذا تعني الدولة في إدراك اللبنانيين من منظار علم النفس؟ يسمح الغوص في الجذور الذهنية للفكر والسلوك في لبنان بالتشخيص والتحليل والمعالجة، بالمعنى الطبي، وعلى الأقل بالحد من استغلال البنيات الذهنية في التنافس والتعبئة النزاعية. تدور ابحاث ومناقشات ومطالبات دائمة من مختلف اللبنانيين الذين يُجمعون قولاً، وبالرغم من اختلافاتهم، على الحاجة الى بناء الدولة القوية. وتُجمِع السجالات بخاصة منذ 1975 على الاعتبار أن لبنان مجتمع لادولة او الدولة الضعيفة دون تعريف مفاهيم القوة والضعف لدى الدولة. -1- الدولة السلطوية في اللاوعي اللبناني الصورة في اللاوعي اللبناني عن الدولة هي الصورة السائدة في المنطقة حيث يطغى منطق القوة: منطق القوة الاسرائيلي الذي هو في اساس البناء الصهيوني تحت ستار رفع الظلم عن يهودية مضطهدة، ومنطق القوة في مجتمعات عربية لا تندرج في قمة سلم الديموقراطية حسب المعايير الدولية او هي في حالة تحول ديموقراطي. الدولة في طبيعتها الصرف هي قوة قمع حيث ان صفتها الاساسية احتكار القوة المنظمة. ما يجعل الدولة ديموقراطية خضوع قوتها الى القانون حيث القوة في خدمة العدل والمصلحة العامة. أما الدولة القوية بذاتها in se والتي ينتظرها الناس كشقة مفروشة مع مفاتيحها فهي دولة قمعية سلطوية او دولة استعمارية من صُنع الآخرين. النمط السلطوي للدولة هو الراسخ في علم النفس التاريخي لدى اللبنانيين حيث كانت الدولة تاريخياً جسماً غريباً مُحتلاً او مُستعمراً او مُنتدباً. الدولة في الادراك النفسي التاريخي لدى اللبنانيين ما زالت بابا عالياً خارجياً Sublime Porte. واستمرت الصورة الذهنية هذه بعد استقلال 1943 بخاصة بسبب الاستمرار في تعليم تاريخ لبنان بمنمطات استعمارية بالرغم من زوال الفترات الاستعمارية والانتدابية السابقة. الدولة في علم النفس اللبناني جسم خارجي غريب! تُعبّر عن ذلك حالات عديدة يومية في اقوال الناس. يُخبر الدكتور نواف كباره انه كان قادماً مناً طرابلس ووجد سائقاً يقود سيارته في اتجاه معاكس. قال له محذراً: انت مخالف! اجابه السائق: ليش في دولة! هذا القول للسائق هو مُعبّر عن علم نفس الدولة لدى اللبنانيين. ما علاقة الدولة بهذا اللبناني (ولا اقول مواطن) الذي يُخاطر بحياته في اتجاه معاكس على اوتوستراد والذي يعتبر ان كل الامور جائزة طالما ان الدولة بالنسبة اليه هي قمع؟ وتستمع احياناً الى موظف متقاعد في ادارة عامة عمل كمدير عام طوال اكثر من ثلاثين سنة ينتقد "الدولة" وكأنه هو غريب عن المؤسسات الرسمية وعن المؤسسة الرسمية بالذات التي كان مديراً عاماً لها ويتقاضى منها مالاً عاماً. او تستمع الى لبناني في قرية ينتقد الفساد في "الدولة" لان موظف بلديته يُمارس الغش في عيار المياه، ما يعني ان الدولة في تصوره ليست مجموعة مؤسسات، بل سلطة احادية قمعية عليا تُمارس الحكم على كل المستويات فلا مجلس نواب لمراقبة الحكم، ولا قضاء، ولا مجلس شورى، ولا تفتيش اداريا، ولا محافظين... -2- الضبابية في المضمون تكتنف الضبابية لبنانياً مفهوم الدولة. يظهر ذلك من خلال استعمال الناس لكلمة "دولة" في كل الشؤون دون استثناء. في حال خالف عامل في البلدية انظمة البلدية يُقال: "ما في دولة". وفي حال تعثرت معاملة في وزارة الاشغال ولم تأخذ طريقها الصحيح يقال: "وين الدولة؟" واذا كان مستوى التعليم في مدارس رسمية سيئاً يقال: "ما في دولة"... يدرس اللبنانيون في كليات حقوق (او بالأحرى كليات قانون) مبدأ فصل السلطات. لكنه لم يتأصل في الادراك اللبناني ان الدولة الديموقراطية متمايزة الوظائف والسلطات، لذلك يستعمل اللبنانيون، بخاصة في برامج متلفزة، لكل شاردة وواردة كلمة "دولة" التي يتذمرون من غيابها. يقضي المنطق حصر استعمال عبارة دولة في الشؤون المسماة ملكية droits régaliens اي في اربع حالات: 1. عند اللجوء الى القوة المنظمة من قبل الجيش، الامن، القضاء. 2. عند فرض الضرائب: للدولة وحدها الصلاحية في فرض الضرائب وجبايتها. 3. في العلاقات الدبلوماسية بين الدول. 4. في بناء السياسات العامة. في كل الحالات الاخرى يقتضي ذكر المسؤول وتحديده: مجلس النواب، الحكومة، وزارة الاشغال العامة او غيرها، الامن الداخلي، موظف البلدية... لكن غالباً لا يريد اللبناني الدخول في نزاع مع اعضاء مجلس بلديته الذين يعرفهم، ولا مع النائب الفلاني، ولا مع الوزير الفلاني الذي يعرفه... فيلقي التهم بالجملة ضد "الدولة" كجسم خارجي واحادي السلطة! ويتم تنظيم برامج حول الشفافية والمساءلة والمحاسبة... دون التطرق الى الجذور النفسية لدى اللبنانيين لمفهوم "الدولة" المتمايزة الوظائف وبالتالي المتمايزة في المسؤوليات. -3- الهروب من الالتزام في الدولة الديموقراطية كيف التوفيق بين الادراك النفسي اللبناني للدولة السلطوية الاحادية القوية بذاتها in se التي ينتظرها اللبنانيون دفاعاً عن سيادتهم ونوعية حياتهم اليومية ومستقبلهم، وبين تمسك اللبنانيين الغريزي بالحريات؟ بدلاً من التطرق الى اشكالية الدولة الديموقراطية، التي هي قوية ليس بذاتها بل بشرعيتها légitimité، اي بدعم المواطنين لها ومساندتهم، يلجأ باحثون ومُفكّرون واعلاميون في لبنان الى مختلف اشكال الهروب من خلال ابحاث تجريدية او قانونية شكلية. تتطلب الدولة الديموقراطية ثقة بالقدرة المواطنية citizen power ومُشاركة ومُحاسبة ودعماً من لبنانيين مُواطنين. الدولة الديموقراطية هي عربة بدولابين: الاول دولاب السلطة المركزية، والثاني دولاب المجتمع. لا تسير العربة الديموقراطية الا بهذين الدولابين. أضيفت على بُحوث ومُناقشات حول الدولة في لبنان صفتا الدولة القادرة والعادلة. لكن كيف تكون الدولة قادرة وعادلة في آن واحد؟ تُدخِل هاتان الصفتان شيئاً من اوتوبيا المدينة الفاضلة والمستبد العادل despote éclairé. تُظهر التجربة اللبنانية بالذات، بخاصة في العهود التي يعتبرها اللبنانيون في غالبيتهم مراحل تأسيسية، بخاصة عهد الرئيس فؤاد شهاب، ان الدولة التي تسعى الى القوة العادلة تواجه، بالرغم من كل ارادتها، عوائق عديدة من "اكلة جبنة" ومن "ذهنيات سائدة". هذا ما يقوله فؤاد شهاب في بيانه الشهير في 14 / 8/ 1970. وفي خضم الحروب المتعددة الجنسية في لبنان توجه الرئيس الياس سركيس الى اللبنانيين بالقول: "انا منكم انا لكم انا معكم." ولم يتلق جواباً! يُعاني اللبناني في علم النفس العيادي من انفصام في الشخصية، اذ يُطالب من جهة بدولة قوية هي بطبيعتها سلطوية وهو ايضاً متمسك من جهة اخرى غريزياً بالحريات لدرجة الفوضى. يعبّر بيار صادق عن هذا الانفصام في كاريكاتور ورد فيه: "مش معقول هـ البلد... لا بيطيق احتلال... ولا يحافظ على استقلال!" (النهار"، 12/8/2006) الدولة الديموقراطية متمايزة الوظائف. في حال رفضت وزارة الاشغال معاملة احد المواطنين، بإمكان الاخير ان يُقدّم دعوى امام مجلس الشورى الذي هو ايضاً جزء من الدولة. وبإمكان المواطن رفع شكوى على المدرسة الرسمية امام التفتيش التربوي الذي هو ايضاً جزء من الدولة. في ذهن اللبناني صورة الدولة كما هي في المنطقة وفي ذاكرته الاستعمارية والانتدابية والاحتلالية السابقة، اي دولة سلطوية تفرض ما تريده بالقوة. الدولة الديموقراطية قوية بشرعيتها اي بقبول الناس بها، وهذا عنصر "ضعف" بالنسبة للسلطويين! كلما زاد دعم الناس للدولة كلما ازدادت قوتها. كيف تكون الدولة قوية بشرعيتها؟ انا ايضاً الدولة، كما ان المدير العام والموظف في اية ادارة رسمية هم الدولة، ليس على طريقة لويس الرابع عشر، بل لاني مواطن واقترع واحمل جزءاً من سلطة الدولة. لم يحصل بعد الاستقلال سنة 1943 عمل تربوي ثقافي يساهم في ادخال دولة الاستقلال في عقول الناس فيدركون ان الدولة هي دولتهم. ونتبين الضبابية في مفهوم الدولة كلما يُطرح موضوع المجتمع المدني، فيسارع احدهم بالقول، مدعياً الفهم والبصيرة: "المجتمع المدني ليس بديلاً من الدولة!" من يتكلم عن بديل؟ لا احد بديل من احد في المجال الديموقراطي حيث تتعدد الوظائف وتتمايز وتنتظم. لا العين بديل من المعدة ولا الاذن بديل من اليد! ما هذا الادراك لاحادية الدولة وللمجتمع المدني ايضاً؟! كتب الشاعر محمد العبدالله اواخر 1989 كتاباً قد يكون الجواب في هذا المجال بعنوان: "حبيبتي الدولة". نحن من يجعل الدولة الديموقراطية قوية بدعمنا لها. يحتاج ذلك لعمل كبير على مستوى الدولة طبعاً وعلى مستوى المجتمع. تعاني الدولة في لبنان من مشكلة نابعة من ذاتها وجوارها وايضاً من مشكلة نفسية مع الناس. ان الجدل اللبناني حول السيادة خلال اتفاق القاهرة سنة 1969 هو الاكثر تعبيراً عن ادراك مختلف الفئات للدولة. جرى الجدل في السيادة وكأنها مجرد ديكور اضافي للدولة، لا عنصر ملازم للدولة التي تمتلك القوة المنظمة. والخطاب السياسي في مسألة الجيش هو مؤشر آخر لمفهوم الدولة في البنيات الذهنية. انحصرت الدراسة غالباً على نواحي دستورية شكلية بينما البحث متعدد الاختصاص والبعد. -4- لمن نوجه الاتهام بالضعف؟ هل يجوز، انطلاقاً من تحليل واقعي للتجربة اللبنانية، تضخيم مسؤولية الدولة اللبنانية في وضع اقليمي ودولي مُتفجر؟ ان قيام اسرائيل سنة 1948 زلزل المنطقة ولا يزال. اقولها لنرحم انفسنا قليلاً. صمد لبنان لغاية 1975 وبعدها. هذه حقيقة علينا الا نتجاهلها. ان المظهر السلطوي لطبيعة الدولة في المنطقة لا يشكل نموذجاً يُقتدى به في المجتمع. البديل الايجابي من الميليشيات والدويلات هو الدولة القوية العادلة التي لا تكون قوية اذا لم تستمد قوتها من الشعب وهي لا تكون عادلة اذا لم تتمكن من الوصول الى عقول الناس وقلوبهم. في لبنان استراتيجيتان متنازعتان: استراتيجية قوى طوائف ومنتحلي صفة تمثيلها، مع ما تحتويه من هواجس الامن الذاتي والامن بالتراضي وتكوين دويلات احتياطية في حال نشوب نزاع، واستراتيجية الدولة. لا يوجد في لبنان اقليات مقهورة من السلطة المركزية، بل بالاحرى اقليات قاهرة وحتى عاهرة في تعاملها مع الدولة ومع بعضها البعض. الدولة هي ضمان لوجود الطوائف. يظهر من السلوك السياسي ان الدولة بالنسبة الى ممثلي قوى تقليدية هي دولة اقحوانية تنتشل كل فئة ورقة منها دون الاهتمام بالزهرة ككل. تحصل الانتفاضات او الثورات او "المؤامرات"... في بعض الدول العربية اليوم في دول قوية وقوية جداً بذاتها (ولذاتها). يستتبع ذلك انهيار بنيان ضخم قائم على الخوف والتخويف. انه اثبات ان الدولة الديمقراطية قوية بشرعيتها اي قبول الناس بها. ولا نستثني الكيان الصهيوني الذي يعتمد على القوة والقوة فقط وهو تالياً مهدد بالانهيار اذا استمر في تجاهل مدى شرعيته داخل اسرائيل وبالنسبة الى الشعب الفلسطيني. ودولة الاتحاد السوفياتي ايضاً كانت قوية وقوية جداً ونووية طوال سبعين سنة وانهارت بسبب قوتها بذاتها (ولذاتها) دون شرعية شعبية. كل تهمة يوجهها لبنانيون الى الدولة اللبنانية حول ضعفها هو مشوب بالريبة. الدولة اللبنانية ضعيفة بسبب بنيات ذهنية مرضية وغالباً بسبب تقاعس زعامات سياسية وطائفية في الانخراط في الدولة الديموقراطية القوية بشرعيتها الاجتماعية. ما العمل في سبيل معالجة (بالمعنى الطبي) الحالة النفسية المرضية في الذهنية اللبنانية للعلاقة مع الدولة؟ انه موضوع يتعلق، من جهة السلطة المركزية، بالاعلام الاداري العام، ومن جهة المجتمع بمسارات في الثقافة المدنية والذاكرة الجماعية. وردت الأسس الكبرى في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958 – 1964)، وفي برامج وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية بقيادة الوزير فؤاد السعد (2000-2004)، وفي برامج التأهيل المُتعثرة في المعهد الوطني للادارة (2004-2008)، وفي خطة النهوض التربوي في المركز التربوي للبحوث والانماء بقيادة البروفسور منير ابو عسلي (1997-2004)، شرط متابعتها في روحيتها. يقول احد المُناضلين التونسيين: "في الماضي كنت اتصرف مع البوليس بصفته جهازاً حامياً لسلطة طبقة حاكمة، اما اليوم فالبوليس هو بوليسنا نحن وهو يحتاج الى دعمنا لاعادة بنائه". ربما كثير من الدول القوية بذاتها في المنطقة مهددة بالانهيار. اما الدولة اللبنانية الضعيفة والمُستضعفة فهي ربما الاقوى في صمودها واستمراريتها. وستكون اكثر قوة عندما تدعمها القوى السياسية الكبرى والمواطنون... فلا ينتظرون!

الدكتور طارق متري : العولمة والصحوة الدينية


تتقارب الدول وتتشارك. ومن خلال هذا تقدم بعضًا من التنازلات طوعًا أو كرهًا, ويبقى مفهوم سيادة الدولة هو السؤال الرئيسي الذي يطرح في عالمنا المعاصر. أكثر من أي وقت مضى, تسمح لنا إمكانات السفر الفعليّة, أي ركوب الطائرة والباخرة والقطار, وإمكانات السفر الرمزيّة من خلال وسائل الاتصال الحديثة, أن نستحضر العالم كله في حياتنا اليومية. كما نلاحظ أن العالم اليوم يعرف توحيدًا في السوق الماليّة, فلم تعد الأسواق الماليّة منفصلة الواحدة عن الأخرى. التجارة الدوليّة تنمو بوتيرة أسرع بكثير من الإنتاج, ونسبة نموّها أعلى من نسبة نموّ الاقتصاد. واللافت على هذا الصعيد أن الاقتصاد الرمزي الذي لاعلاقة له مباشرة بالإنتاج الفعلي, يلعب أحيانًا دورًا أكبر بكثير من دور الاقتصاد الفعلي في تحديد السياسات الاقتصادية والأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس. تنتج العولمة بشكل رئيسي عن تفاعلات عدة متزامنة ومتبادلة التأثير: أوّلها الثورة في المعلومات, وثانيها حيوية الشركات الكبيرة, وثالثها النزعة القوية في الولايات المتحدة لكي تكون القوة العظمى الوحيدة والمهيمنة. الواقع أنه باستطاعة أي دولة عظمى أن تكون مهيمنة في أجزاء ما من العالم, ولكن الولايات المتحدة تحاول وتنجح بقدر كبير حتى الآن أن تكون القوّة العظمى الوحيدة المهيمنة في أكثر بقاع العالم وليس فقط في أجزاء معيّنة منه. هي تهيمن في أماكن لم يكن لها سابقًا دور وتأثير مباشر فيها. في المجال الثقافي نلاحظ عملية توحيد ثقافي للعالم تتم بواسطة أنظمة المعلومات ووسائل الإعلام, وكذلك بواسطة السلع التي تسهم في إحداث أنماط استهلاكية هي جزء من الثقافة السائدة والمتجانسة في عالم اليوم. فعلى سبيل المثال, يقول رئيس شركة (جيليت): (لم تعد غريبة البلدان التي كانت تعتبر غريبة), أي أن الأمريكي الذي يذهب إلى أي بلد في العالم, أو رجل الأعمال الذي يتنقل بين فنادقها, بات يعتبر أنّ هذه الدول ليست دولاً غريبة, لأنه يتناول فيها الطعام الذي يأكله في بلده, ويشاهد التلفزيون الذي يتابعه في بلده ويسمع الموسيقى التي يسمعها في بلده, ويطلع على بريده الشخصي الذي كان يصله في بلده... إلخ. هناك عملية توحيد ثقافيّة للعالم تبدو في بعض الأحيان قسريّة, يختبرها الناس كعملية مفروضة عليهم, وأحيانًا تتم عملية التوحيد هذه بهدوء من دون أن يعي الناس أنهم صاروا متجانسين مع من ينتمون في الأصل إلى ثقافة أخرى. الكثير من الشبّان يسافرون ظنّا منهم أنهم سيتعرفون على بلاد بعيدة حيث يختلف الناس عنهم, ولكنّهم يفاجأون أن شبّان تلك البلاد لا يختلفون عنهم, فهم يلبسون مثلهم, ويتكلمون مثلهم, ويسمعون الموسيقى نفسها المألوفة لديهم. إذن, هناك عملية توحيد ثقافي كبيرة, لكن في الوقت الذي تفرض فيه عمليّة التوحيد الثقافي هذه, تقوى عند المجتمعات وعند الأفراد أيضًا الرغبة في التمايز, لأن الناس مفطورون على أن يكونوا متنوعين. فكلما ازداد ضغط التوحيد والتجانس وازداد فرضهما قوّة ازدادت الرغبة في التمايز, وهذه إحدى مفارقات العولمة الثقافية وبقدر ما يشبه أحدنا الآخر, يريد أن يظهر فرادته فيبحث أحيانًا عن فروقات صغيرة تميزه. تأكيد الهوية ثمة حاجة لتوحيد الهويّة الخاصة, فردية كانت أم اجتماعية, في عالم يبدو لنا أكثر تجانسًا. يتحدث فرويد, العالم النفسيّ الشهير, عما يسمّيه في سياق آخر (نرجسيّة الفروقات الصغيرة), أي أنّ يكون المرء متمسّكا بفرق صغير يميّزه عن سواه. هناك من يثير في هذا السياق, أي في سياق المستوى الثقافي للعولمة, مسألة مهمة هي مسألة حريّة الأفراد وحريّة الجماعات. فالبعض يعتبر أنّ العولمة الثقافية تساعد الأفراد أن يحققوا قدرًا من الحرية في علاقتهم بجماعات الانتماء التقليدية. وكثيرًا ما نسمع في معرض الموقف المحبذ من العولمة أنها تساهم في ممارسة الحريّة عند الأفراد, فيستطيع الجالس في غرفته والقادر على أن يستحضر المعلومات من كلّ العالم بواسطة الإنترنت, أن يصبح أكثر حرية من الجماعة أو الطائفة التي ينتمي إليها. إذن, هو يستعين بالعالم لكي ينتزع حريته من جماعة الانتماء المحلي التي تقيّد حريته. من ناحية أخرى, لاشك أنه يوجد تزامن, قرينة زمنيّة كما يسمّيها الأقدمون, بين ظاهرة تدعى عند الكثيرين ظاهرة عودة الدين أو الصحوة الدينية والعولمة. ذلك أنّ العولمة التي تحدثنا عنها تسارعت في آخر السبعينيات وبداية الثمانينيات, بعد النجاحات الأولى للسياسة الريغانية, التي تواكبت مع حقبة ما بعد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام. فانصرف الأمريكيون, بعد هزيمتهم تلك, إلى إعادة بناء قوتهم على أسس جديدة, وازدهر الاقتصاد الأمريكي, تاليًا, وصارت الشركات الأمريكية أكثر حيويّة فاستطاعت اقتحام الحواجز من كل نوع. كما سجّلت في الحقبة ذاتها قفزة نوعية في مجال أنظمة المعلومات. وبالتزامن مع ذلك كله, شهد العالم ما يسمّى عودة الدين. وإن كنّا نقول إنّ الدين لم يغب حتى يعود, فإن البعض من علماء السياسة والاجتماع يتحدثون عن عودة الأديان. بعبارة أخرى, يتحدث هؤلاء عن حيوية عدد الأديان مستجدة, وكذلك عن حضور للدين في الحياة العامة لم يكن له سابق في عقود ما قبل آخر السبعينيات. لقد ساد الاعتقاد, حتى منتصف السبعينيات, بأن تأثير الأديان هو إلى انحسار في حياة الناس, وبخاصة في الحياة العامة, أي في ميادين السياسة والاقتصاد. كما ساد الاعتقاد بأن المجتمعات تتعلم, بمعنى أنها تحقق قدرًا أكبر من الاستقلال عن المؤسسات والرموز الدينية, وأنّ عمليّة التعلم عمليّة تاريخية لارجوع عنها وأنّ هناك مجتمعات متقدمة, بمعنى أنها حققت قدرًا أكبر من استقلال المجتمع عن القيم والرموز والمؤسسات الدينية, ومجتمعات متأخرة لم تحقق هذا القدر من الاستقلال, وأن هذه المسألة, مسألة التقدم والتأخر مسألة وقت, أي أن المتقدم يدعو المتأخر إلى الاستعجال وأنه لا مفرّ من أن تتعلم كل المجتمعات بفعل التصنيع والتحديث. خصوصية التدين لقد قيل أيضًا إن الدين سوف يُحجر عليه في حياة الأفراد الخاصة, أي أن الناس إذا ما بقيت متدينة, فإنها ستمارس تديّنها في بيوتها, في غرف نومها. هذا ما كان شائعًا في منتصف السبعينيات عند كلّ الناس, حتى عند المتدينين الذين كان لديهم الشعور بأنهم يخوضون معركة للحفاظ على الهوية الدينية وعلى دور الدين في الحياة العامة أمام سيل جارف يقود مجتمعاتهم نحو علمنة تخرج الدين من دائرة الحياة العامة. إلا أن هذا تغيّر في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات, وأدرك الكثيرون أن المسألة ليست محسومة على الشكل الذي تصوّروه سابقًا, واتضح أن الدين يلعب أدوارًا في الحياة العامة أكثر تأثيرًا من السابق. وليس انتصار الثورة الإيرانية المثل الوحيد الذي نستطيع تقديمه للتأكيد على قدرة الدين أن يلعب دورًا كبيرًا في الحياة العامة, بل ثمة أيضًا ظواهر أخرى أقلّ أهميّة ربما, لم تحدث انقلابًا جذريًا كما أحدثت الثورة الإيرانية, ولكنها كانت ظواهر مؤثرة وفاعلة كما في الدول الشيوعية التي حصلت فيها تغييرات كبيرة على مستوى دور الدين. وقد اختلف مدى تأثير الدين في الحياة العامة باختلاف البلدان, ففي بولونيا لعب دورًا أكبر من الدور الذي لعبه في تشيكوسلوفاكيا, وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا بالقياس إلى بلغاريا. كما لعبت عودة الدين دورًا في خلخلة النظام الاجتماعي السياسيّ القديم, وإن لم يصل إلى حجم الدور الكبير الذي لعبته الثورة الإيرانية في إقامة النظام الاجتماعي السياسي الجديد. إلا أنه على الأقل, استطاعت تلك الأديان تقويض النظام القديم وإسقاطه. تنامت, إذن, في أواخر السبعينيات, ومطلع الثمانينيات قوة الأديان في الحياة العامة. إنه لجلي أن ظاهرتي عودة الدين والعولمة قد تزامنتا, ولم يمض على عمرهما غير عقدين. هل هناك تأثير متبادل بين العولمة والصحوة الدينية? هل الصحوة الدينية في وجه من وجوهها هي أحد مظاهر العولمة أو مقاومة العولمة? أم أن التزامن هو مجرد صدفة? أي أن هناك أسبابًا أدت إلى نشوء ظاهرة العولمة, وأسبابًا من نوع آخر أدت إلى الصحوة الدينية, وشاءت الظروف وحدها أن تتزامن الظاهرتان? ثمة تأثير لظاهرة العولمة, كما وصفناها وصفًا أوليًا, على وضع الدين, أو على (الحالة الدينية). هناك مجالات عدة نستطيع أن ندرس فيها هذا التأثير, إلا أن مجالين منهما يستحقان الاهتمام بصورة خاصة. المجال الأول هو الظواهر الدينية الجديدة, التي تنمو نتيجة العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية. فالصحوة الدينية في الولايات المتحدة لم تزدهر إلا بنمو ثورة الاتصالات. وثمة ظواهر دينية لم تنتشر إلا بسبب الاستهلاك الموحد في العالم, لا بل هناك عدد من علماء الاجتماع الذين يقولون إن بعض الحركات الدينية, في الغرب بخاصة, يتعامل معها الناس وفق النمط ذاته, الذي يتعاملون من خلاله مع السلع الاستهلاكية. حتى أن بعض علماء الاجتماع شبّه هذه الأديان الجديدة بمخزن تجاري كبير, يختار المرء منه السلع التي تناسبه, ويبدّلها في كل مرة تستهويه سلعة أخرى. صحيح أن هذه الظاهرة تبرز في الولايات المتحدة, لكنها موجودة في كل مكان, فالناس يغيرون من أديانهم بسرعة لأن سوق الدين يوفر اختيارات كثيرة. غير أن هناك أيضا التعامل مع الأديان, ليس بوصفها نظامًا كليًا متماسكًا, بل بوصفها قطعًا أو أجزاء قابلة للترتيب والتلفيق بحسب رغبة المرء, الذي يختار عناصر مختلفة من أديان عدة ليكوّن دينه الخاص. هذا النمط يقوم به بعض الأفراد في العالم المعاصر, وبعض الجماعات الدينية تتكون وفق منطقه, أي وفق منطق التلفيق والتوليف. المقياس, عندئذ, لا يصبح الأمانة للدين الموحي به والموروث, وهو مقياس أهل الإيمان الذين ينتمون إلى أديان تاريخية. المقياس الذي يغلب هنا هو قدرة دين معين أو أجزاء من دين معيّن على تلبية حاجات الأفراد أو الجماعات الصغيرة. فيكون المقياس, أحيانًا الصحة النفسية أو الجسدية للمتدين. لاشك بأن هناك علاقة وثيقة بين هذه الظاهرة وبين العولمة, وبازدياد العولمة وانتشارها تزداد هذه الظواهر اتساعًا, وهي تخضع من حيث أراد أصحابها أم لم يريدوا إلى منطق السوق الاستهلاكية نفسه الذي يشهده العالم المعاصر. بعيدًا عن الساحات التقليدية المجال الثاني هو انتشار الأديان في كل مكان. ذلك أن الأديان في العقدين الأخيرين بخاصة, انتشرت بسرعة كبيرة خارج معاقلها التاريخية, والأمثلة التفصيلية تشهد لحجم التغيير الذي شهدته الخارطة الدينية في العالم. لقد كانت واضحة فيما مضى الحدود بين المعاقل التاريخية للأديان الكبيرة, فكان يقال: مثلا هذا هو العالم الإسلامي أو المسيحي أو الهندوسي. ففي جنيف مثلاً, مدينة (كالفينوس) أحد زعماء الإصلاح البروتستانتي, صارت أكثرية سكانها كاثوليكية. وقد أنشئ على بعد مائة كيلومتر من جنيف أكبر دير بوذي, والجدير بالذكر أن أكبر دير في سويسرا هو دير بوذي وليس كاثوليكيا. إنه لمن الواضح أن ثمة علاقة بين هذا التسارع في العشرين سنة الأخيرة وبين العولمة. هناك مصطلح لا أحب أن أستخدمه لأنه مستل من التاريخ اليهودي, ولكنه صار يستخدم من قبل الكل, وبخاصة في الأوساط الأوربية, وهو مصطلح الشتات, هذا يعني أن عددًا كبيرًا من المسلمين يحيون خارج الحدود المنظورة للأمة الإسلامية أو لدار الإسلام, وأن ثمة مسيحيين يحيون خارج المعاقل المسيحية, وهندوسيين موجودين خارج الهند, وبوذيين موجودين خارج الأراضي التاريخية للبوذية, هؤلاء جميعًا أصبح عندهم دور كبير في حياة جماعاتهم, ولم يعودوا منقطعين عنها كما في الماضي, أو منقطعين عن إمكانية التأثير فيها. لقد كبر دور الشتات, ونشأ تنظيم للأديان يراعي هذا الوضع. كما راجت أيضًا فكرة الشبكة, بحيث غدت شبكة العلاقات أهم من فكرة المعقل, وأضحى تجمّع المسيحيين أو المسلمين في مكان على أرض واحدة أقل أهمية من السابق. ثمة مستويان للنظر إلى العولمة, المستوى التحليلي الذي يعلق الأحكام القيمية, أي أن نحاول فهم ما يحدث في العالم المعاصر بمعزل عن إذا كنا مسرورين بالعولمة أو مستائين منها, أو إذا كانت تخدم مصالحنا أو تلحق بنا الضرر. لذلك ينبغي أن ندرس هذه الظاهرة لنرى إلى أيّ حد لا يمكن الرجوع عنها. إن التقدم, مثلا, في مجال أنظمة المعلومات لا رجوع عنه. كما أن بعض جوانب من ظاهرة العولمة هو قابل للجدل. ثم في مرحلة ثانية بعد أن نكون قد ميّزنا بين اللارجوع عنه وسواه نفكر بعضنا مع بعض بشكل قيميّ أكثر في مسألة العولمة كمتديّنين. وهنا يستوقفنا بشكل خاص موقف ديني, ليس فقط عند المسلمين كما يعتقد البعض, بل أيضًا عند المسيحيين وعند الآخرين, يعتبر أن العولمة الثقافية تطمس الخصوصيات الثقافية والهويات الدينية. إذن, يحدد هذا التيار الهوية الدينية بصيغة مقاومة للعولمة الثقافية. علينا أن ننتظر مقاومة العولمة الثقافية باسم الانتماء الديني, باسم الرسوخ في الأصالة الدينية, باسم الحفاظ على الهوية الدينية, ونرى حدود نجاح هذه المقاومة وحدود فرصها والمشاكل التي تثيرها, أنا أعتقد أن هذه مسألة تستحق البحث. المسألة الأخيرة التي تستحق البحث - باعتقادي - هي: هل من نقد أخلاقي للعولمة? النقد السياسي للعولمة سهل, إذ نستطيع أن نقدم نقدًا سياسيًا, وأن نقدم نقدًا لثقافة التوحيد القسري باسم الخصوصية, غير أن النقد الأخلاقي الديني المصدر يستحق أن نقف عنده. ثمة نقاش صعب, لا يخلو من الحدة أحيانًا حول هذه النقطة بالذات. فهناك من يقول إن العولمة خير وبركة, وإنها تلغي الحواجز بين البشر وتعزّز فكرة المساواة وحرية الأفراد, وتفتح الأبواب أمام حقوق الإنسان. وهناك من يقول إن العولمة شكل من أشكال الهيمنة, وهي تستغلّ الناس فيزداد الفقراء فقرًا والأثرياء ثراء. كما هناك فئة تقول إن في الرأيين بعض الصحة, ولعلها مصيبة..

عفيف فراج: حين نتكلم عنه يضيء قنديل المعرفة


كلمة الدكتور سعود المولى في ندوة تكريم المرحوم الدكتور عفيف فراج- بعلشميه 25/11/2012 التحية الأولى أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى السيدة عائدة وإلى عائلة عفيف الذين لولاهم لما كان هذا اللقاء حول كتاب جديد هو السادس منذ وفاته التي كانت مؤلمة لنا جميعاً. والتحية الثانية أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى أصدقاء وزملاء ورفاق عفيف الذين يلتقون هنا اليوم حول كتابه كما كانوا يلتقون في السنوات الثماني الماضية منذ وفاته. في الحديث النبوي الشريف انه اذا مات الانسان ينقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية ( ومعناها الوقف) وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له... وقد حقق عفيف هذه الثلاث من خلال السيدة عائدة، وأولادهما، وقد وقفوا أنفسهم ومالهم ووقتهم وعلاقاتهم على نشر وتعميم علمه النافع ما جعلنا جميعاً ندعو له بالحسنى والثواب وندعو لهم بطول البقاء.. واليوم يتجدد هذا العطاء صدقة جارية وعلماً نافعاً ودعاء له وللعائلة، يتجدد بكتاب هو بحد ذاته مَعلم من معالم وعينا وفكرنا ونضالنا ولو أنه جاء بعد 30 سنة على كتابته... وأنا سأحاول في هذه العجالة أن أموضع الكتاب الجديد في سياقه التاريخي الذي حمل تحولات وتطلعات عاشها عفيف وعشناها معه وواكبناها سوية وشكلت زاداً له ولنا في فهمه وفهمنا المتجدد للواقع وفي جهاده وجهادنا الدائم من أجل المستضعفين والفقراء الكادحين، ومن أجل المعرفة المفيدة والعلم النافع، وهذا ما ميزه كمثقف مناضل ملتزم، أي كمجاهد، شاهد وشهيد... عفيف الزميل والصديق والأخ والزوج والأب ورفيق النضال والمعاناة في سبيل الحق والعدل، هو مجاهد حر، بالعلم والعمل، من أجل وطن أفضل، من أجل لقمة عيش حلال، من أجل حرية وكرامة، ومواطنة ومساواة.. وهو شاهد على عصره، وشهيد على ما قاله وكتبه.. وهذا أيضاً من الحديث النبوي الشريف: من مات دون أهله فهو شهيد، من مات دون أرضه فهو شهيد... ومن الحديث النبوي أيضاً: أن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء.. وعفيف الشاهد الشهيد كان أولنا وأسبقنا في كل شيء.. بعد نكسة حزيران 67 وكان يومها في مصر ومنتمياً الى حركة القوميين العرب ذات الهوى الناصري الاشتراكي، كان عفيف من الذين شاركوا في نقد التجربة المريرة وفي بلورة طروحات التحول اليساري لحركة القوميين العرب الى جانب محسن ابراهيم ومحمد كشلي ورفاقهما.. وكان كتاب لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (دار الطليعة، بيروت، 1970) باكورة انتاج هذا التطور اليساري في الحركة القومية العريقة... وأولى ثمار تحول عفيف كانت كتابه الأول ( دراسات يسارية في الفكر اليميني) (دار الطليعة 1970)، وفيه انتقد الفكر اليميني اللبناني بتجلياته المارونية الكتائبية كما القومية السورية، وصولاً الى التحريفية الماركسية للحزب الشيوعي اللبناني الموسكوبي، الى مثالية المعلم كمال جنبلاط، "ذات الفكر العتيق" (على حد وصفه لها)... كان سلاح النقد الثوري الجذري هو زاده الأول في تمّيزه بين اقرانه ، وهو سلاح ماركسي أساسي ولكننا امتطيناه على صهوة ربيع طلاب أوروبا الغربية في أيار 1968، وربيع براغ التي دمرتها الدبابات الروسية في آب 1968، الى ربيع الثورة الفيتنامية (هجوم الربيع 1968) ، فربيع الثورة الثقافية الصينية... وقد أسهم كتابه الأول ذاك في استثارة الحوارات والنقاشات داخل يسار الحزب القومي السوري الخارج من السجون، وأثمر انشقاق عشرات الشباب المتمركس من الحزب العتيق.. كما كان للكتاب دور كبير في النقاش الماركسي بين منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (وريثة حركة القوميين العرب) وجماعة لبنان الاشتراكي (وضاح شرارة، أحمد بيضون، حسن قبيسي، وجيه كوثراني، محمود سويد، فواز طرابلسي).. ولكن الأثر الأكبر كان في الوسط الطلابي حيث أنه ساعدنا على بلورة صيغة (لجان العمل الطلابي) في المدارس والجامعات، كصيغة نضال مشترك تجمع قوى اليسار الجديد غير المتشكل بعد في إطار تنظيمي محدد.. الا ان الأهم في ذلك الكتاب أنه حمل مبكراً مقاربتين لم يسبقه اليهما أحد من ابناء جيله ورفاقه في اليسار.. المقاربة الأولى تتمثل في تشخيصه البنيوي لتمزق المواطن اللبناني والمجتمع اللبناني ما بين ثقافتين وهويتين ، ما بين "جذوره الحضارية والطبقية وحمى احتراق الحضارة الغربية الأخلاقي والمعنوي"، ما بين مجتمعه والمجتمعات العصرية، وما بين الطائفية السياسية والمواطنة المتساوية، وما بين مناهج التعليم المتعددة وضرورات الوحدة الثقافية الوطنية، وما بين كلنا للوطن وكلنا للطائفة والعائلة والطبقة الحاكمة... وقد أشار عفيف بعمق يومها الى ذلك الاغتراب والاقتلاع الذي يعانيه المواطن اللبناني.. ولكن الشيء الجديد يومها، بالنسبة ليساري ماركسي، لم يكن فقط في فهمه لمعنى المواطنة والدولة المدنية، وانما فهمه للتناقض الحضاري بين شرق وغرب، وللمسألة الثقافية تحديداً، ومسألة الهوية بالتالي، وهو الموضوع الذي سيستأثر بتفكيره وأبحائه وعناوين كتبه اللاحقة.. أما المقاربة الثانية المبدعة والمبكرة لعفيف فتمثلت في فهمه الماركسي الجديد للمسألة الدينية في بلادنا. وبرغم أنه لم يكن قد قرأ غرامشي يومها (على ما يبدو) إلا أنه استطاع مبكراً أن يقدم قراءة جديدة نراها تتكرر وتتطور لاحقاً في فهمه للشرق وللاسلام، ثم في فهمه للمسألة اليهودية وللصهيونية وحاضنتهما الحضارية والثقافية، على ما نراه في إثنين من كتبه اللاحقة على الأقل (اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية) و (رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود)..ناهيك عن حضور هذه المقاربة في كتابيه (ثنائية شرق غرب) و(إشكالية النهضة). وقد استخدم عفيف في مقاربته للمسألة الدينية عدة نظرية وثقافية وفكرية كانت جديدة بالنسبة الى أبناء جيله وتياره السياسي والفكري تمثلت بكتابات ماكس فيبر واللاهوتي بولتمان (وهما غير ماركسيين بل ملعونان عند الماركسيين) إضافة الى كتاب كارل ماركس الرائع حول المسألة اليهودية (وهو كتاب يتم تجهيله ونفيه من تراث ماركس)، وكتابات الماركسيين اليهود أمثال أبراهام ليون ومكسيم رودنسون..ناهيك عن استشهاده بكتاب لكاوتسكي (الأمر الخطير يومها لأننا درجنا على تجاهل "المرتد كاوتسكي"، بحسب تصنيف لينين له). وقد عالج عفيف المسألة الدينية من زاوية المادية الجدلية الفلسفية (علاقة الفكر بالكائن، الإنسان بالطبيعة، وأيهما الأسبق)، كما من زاوية المادية التاريخية والسوسيولوجيا الماركسية الجديدة (لويس آلتوسير كمثال، وكان في بداية اكتشاف الماركسيين العرب له) .. فتكشّف عفيف فراج منذ ذلك التاريخ المبكر عن عالِم موسوعي مفكر مثقف مطلع وعن باحث سوسيولوجي واعد.. وفي كتابه الثاني (كمال جنبلاط المثالي الواقعي 1976) تميّز عفيف أيضاً عنا جميعاً وقد سبقنا الى التقاط خصوصية المسألة اللبنانية، والى فهم الأشخاص والأدوار خارج إطار التنصيف الطبقي الماركسوي التبسيطي .. عفيف الذي كان انتقد بشدة كمال جنبلاط ( في الكتاب الأول فصل بعنوان: الأستاذ جنبلاط مثالي يتجاوز الماركسية بفكر عتيق)، أجرى مراجعة نقدية شجاعة (أشبه بنقد ذاتي لفكرنا اليساري الراديكالي "الطفولي" آنذاك) شفافة وأخلاقية في آن، ولكن أيضاً وأساساً علمية وبحثية عميقة... وكنا جميعاً نترنح يومذاك تحت وطأة هول الواقع الذي اكتشفناه بصدمة 13 نيسان 1975 ، وكنا جميعاً من ضحاياه... في مقال له بعنوان "عمومية المثال الثقافي النضهوي، خصوصية الواقع اللبناني الطائفي" (منشور في كتابه إشكالية النهضة 2006) يستعيد عفيف فراج جملة كتبها الياس خوري في روايته (رحلة غاندي الصغير): "الرجال الحقيقيون باتوا أول من مات ، ليبقى الأنذال سرّاق الثورات، وهي ستقتل أول من تقتل، كل الذين يتفلسفون ويتحدثون عن حرب الشعب والجماهير، والحرب ستستمر من دونهم"... وقد استمرت الحرب من دوننا... وهي لم تكن طبعاً حرب تحرير شعبية... بل حرباً أهلية مدمّرة ... في لحظة الحرب الأهلية تلك، فارق عفيف فراج تراث "الجماهيرية" أو "الشعبوية اليسارية"، وانكفأ الى موقعه ووضعه كمثقف شاهد وشهيد.. ولعل في انتمائه الأصلي (الأهلي الدرزي، ولو العلماني الماركسي مدنياً) واضطراره للانقطاع الى الجبل في حياة عائلية واجتماعية وتعليمية وثقافية، بسبب الحرب وابان الحرب، ما يفسر تلك العزلة الثقافية، القدَرية، التي تظهر لنا بوضوح اذا عرفنا أنه لم ينشر أي كتاب بعد العام 1976 وحتى العام 2002 حيث كان كتاباه السابق ذكرهما: (اليهودية بين حضارة الشرق الثقافية وحضارية الغرب السياسية)، و (رؤية آينشاتن لليهودية ودولة اليهود)... وما ينبغي قوله هنا أنه بين 1976 (كتابه عن جنبلاط) و2002 (عودته للكتابة) كانت أطروحته/المرجع التي أنجزها إبان الإجتياح الاسرائيلي 1982 (وهي هذا الكتاب الذي بين أيدينا).. وبالتالي فان كتاب القمع السياسي هو المحطة الثالثة في تطور فكر وأدب عفيف السياسي ولو أنه التاسع إصداراً ونشراً.. واسمحوا لي هنا بالعودة والتوقف عند كمال جنبلاط.. عام 76 اذن عاد عفيف ليطل اطلالة جديدة، أكثر عمقاً وأكثر تسامحاً على شخصية وفكر كمال جنبلاط ، المثالي الواقعي.. يبدأ عفيف كتابه بجملة لجنبلاط تقول "واعلمي أن الانسان لم يخلق لمعنى من المعاني ألا للعلم والعمل به".. وبجملة أخرى : "الكشف عن الحقيقة وتحقيقها هو الهدف الذي يستحق وحده أن نعيش له ونسعى اليه في هذا الوجود".. ولم يكن عفيف ليكتب أو ينطق علماً الا ليعمل به ويطبقه على نفسه وفي حياته أولاً... وفي بحثه عن الحقيقة لا يخجل عفيف من تقديم نص جديد فيه تقويم عميق وسياسي وسوسيولوجي لفكر وممارسة كمال جنبلاط، ينطلق من موقف فلسفي وفكري جديد نجده مبثوثاً بقوة في هذا الكتاب، ومن نقد ذاتي جذري لمسلماتنا "وأساطيرنا" المؤسِّسَة حول المسألة الطائفية والطوائف والواقع اللبناني... في العام 75 كان اليسار الجديد قد توزع اتجاهات عدة ما بين ملتحق بالثورة الفلسطينية أو مشارك معها، وما بين ملتحق بالخط السوفياتي التحريفي الدولي، أو بالتيارات اليسارية الثورية العالمية (ماوية- تروتسكية- فوضوية- مجالسية)... أما نحن فكنا نخوض تجربة مميزة من داخل العلاقة المتوترة بين 3 مكونات رئيسة: موسى الصدر وكمال جنبلاط وحركة فتح... فقد قادتنا ماويتنا الى الارتباط مبكراً بموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين من جهة وتمتين العلاقة مع كمال جنبلاط وخليل الوزير من جهة ثانية... وهكذا بدأنا نقاشات مطولة حول الماركسية والدين، والاشتراكية والانسان، انطلاقاً من كتابات كمال جنبلاط وعلي شريعتي ومالك بن نبي وروجيه غارودي ومن محاوراتنا مع موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين.. وكان عفيف أبرز من اشتغلوا خلال تلك السنوات 1975-1977 على اكتشاف العلاقة ما بين الفلسفة والسياسة، بين المثال والواقع، بين الماركسية والصوفية، وذلك على قاعدة اكتشافه لأولوية ومحورية الانسان، حياته، وحريته، وكرامته، وحقوقه، قبل أي شيء وفوق كل شيء... وقد صاغ عفيف فهمه الفلسفي الجديد بقوله إن الفلسفة هي الإمكان، والسياسة هي وسيلة تحقيقة، والانسان هو الغاية، والحزب هو هيئة معنوية توحد غايتها مع غايات التحقق المعنوي للانسان ... وهنا اكتشف عفيف أهمية كمال جنبلاط والاشتراكية الانسانية، ناقداً بقوة لا انسانية الماركسية وقد تكشفت وانهار اندهاشنا بها منذ اندلاع الحرب الأهلية... أعاد عفيف اكتشاف كمال جنبلاط في السياسة والاقتصاد، في الفلسفة والدين، في التصوف والأخلاق، فأعاد اكتشاف ذاته وهدفه في هذه الحياة... ولعل أهم ما اكتشفه عفيف في ذاته وهو المثالي الأخلاقي الانساني، هو أن وسائل بلوغ الأهداف السياسية يجب أن تكون موصولة بالغايات الأخلاقية، وأن النضال في الدنيا يهدف الى تحقيق غايات الدين ومضمونه الأخلاقي بوسائل لا تجافي تلك الغايات.. فالطريق هو ذاته الهدف.. واذا كان الطريق ملتوياً فإن الهدف نفسه يفسد... وما قيمة أن تربح الدنيا وتخسر روحك، معناك، ذاتك... وفي هذه المقدمات الفلسفية الأخلاقية صاغ عفيف فهمه لجنبلاط السياسي (المثالي الذي يخاطب الواقع الطائفي).. فأمام ما يبدو للناس انه مساومات وصفقات وتنازلات وقفزات جعلت الكثير من المثقفين والمفكرين يقولون بأن جنبلاط براغماتي في ألأصل والمتن فيلسوف وصوفي على الهامش، وبأنه توقف عند المنحى السكوني المحافظ من معادلة هيفل: كل ما هو واقعي، معقول.. اكتشف عفيف الوجه الآخر وهو أن جنبلاط كان يقف على الضفة التقدمية من معادلة هيغل: كل ما هو معقول، يجب أن يصبح واقعاً... وبحسب عفيف فإن جنبلاط كان يجيد التقاط علامات واشارات ومعطيات الواقع، ويحسن التعامل معه، واصطياد الفرص فيه، أو اللحظة المناسبة، لا لغاية ذاتية مادية او كسب مادي شخصي، (ومعلوم كم كان جنبلاط زاهداً عفيف النفس ما أشاد له سماء لا يطالها متطاول ، ويشهد لها، العدو قبل الصديق) ولكن هذا الاستغلال او الانتهاز للفرص والذي كان واقعهن الطائفي يتيحها كان دائماً لدفع قضية التقدم على شتى الأصعدة والمستويات... كان جنبلاط على حد وصف عفيف ينساب بليونة بين تعاريج مجرى الواقع الخدماتي المفسد، والواقع الطائفي المعطل، ليُحول الزيادة الكمية في عدد الانجازات البسيطة الى وعي اجتماعي نوعي جديد.. ومن ثىائية المثال والواقع، عالج عفيف عدة تنائيات تشطر وعينا الوطني وفكرنا السياسي : ثنائية العنف الثوري التغييري والسلم الأهلي المحافظ، ثنائية الطائفية السياسية واللاوعي الطائفي (ويسميها جوزيف مغيزل الحاسة السادسة عند اللبنانيين)، ثنائية التنافي والتدمير المتبادل في صيغة الكيان اللبناني (ويسميها عفيف الصليبية الهلالية)، ثنائية العلمانية والاسلام (وهنا ابتدأ أو عاد اهتمام عفيف بدراسة الاسلام الحضاري والثقافي والسياسي) ثنائية الوطنية اللبنانية والعروبة.. ومن خلال غوصه في عمق فكر وممارسة كمال جنبلاط أطل عفيف على القضايا التي ستشكل مفاتيح وعيه ونقده اللاحق للفكر السائد.. فقد عالج مسألة القومية بحسب الفهم الجنبلاطي الانساني وقارن بين القوميات المختلفة (بما فيها المارونية والسورية والعربية) وبين الصهيونية، متوقفاً عند خلو مساهمة جنبلاط في تعريف القومية من أي كلام عن التكوّن الطبقي والمصلحة الاقتصادية الخاصة بالفئات الحاكمة.. وقارن بينه وبين كلام فرانز فانون عن تخلف بورجوازية العالم الثالث دوراً وفكراً وامكانات، أي تشديد جنبلاط على الجانب المعنوي على حساب الجانب الاقتصادي... وهو في تلك المرحلة المبكرة كان يناقش المفكر الفلسطيني منير شفيق المسيحي الماركسي الماوي (المتحول لاحقاً الى الاسلام) الذي كان يومها يحاول بلورة أطروحة ماركسية قومية عربية جديدة لقيت رواجاً في أوساطنا التقى مع تيار درزي سوري تمثل بالحزب الشيوعي العربي ومؤسسه المرحوم هلال رسلان.. وقد تحدث عفيف في كتابه عن جنبلاط، عن القمع السياسي الناصري كسبب إضافي داخلي لفشل الوحدة العربية وفشل المواجهة مع الصهيونية.. فبذور فهمه لمركزية مسألة القمع في تطور النظام السياسي العربي بدأت مع فهمه المتجدد لكمال جنبلاط. في تلك المرحلة 1975-1977 كنا نخوض جدالات ونقاشات وحوارات واسعة وعميقة حول حركة التحرر الوطني العربية، وحول النموذج الفيتنامي والكمبودي في حرب الشعب القومية بقيادة ماركسية، وحول الوحدة العربية والتجزئة الاستعمارية والتخلف ومركزية القضية الفلسطينية في حركة التحرر الوطني العربية ، وحول الماركسيات السوفياتية والصينية في بناء الاشتراكية... وحول تجارب كوبا وفيتنام وكمبوديا وحركات المقاومة في فلسطين وافريقيا الخ..وانضاف الى نقاشاتنا التاريخية تلك حضور الاسلام الثقافي والاسياسي من خلال علي شريعتي وموسى الصدر وفرانز فانون وأحمد بن بللا... وكانت المناقشات تدور حول اشكاليتين: الاولى هي الهوية الحضارية الخاصة وهل تشكل قاعدة لصياغة وبلورة نظريات ثورية وفكر سياسي خاص مستقل عن الماركسيات التقليدية التي كنا نتبناها؟. وفي هذا الاطار كانت الماوية قد شكلت لفترة ما منقذاً لنا سرعان ما انهار في أعوام 76-77 بعد وفاة ماو ونشوب الصراع على السلطة في الصين ، ثم اندلاع الحروب بين فيتنام وكمبوديا، وبين الصين وفيتنام ... فكان بحثنا عن أدوات وأطر نظرية جديدة على قاعدة التجربة الفلسطينية من جهة، وتجربة الحركة الوطنية الللبنانية بقيادة كمال جنبلاط من جهة ثانية، هو ما ميّز فكرنا وممارستنا، حتى كان استشهاد كمال جنبلاط في آذار 77، ثم انهيار التضامن العربي وبدء الانقسام بعد زيارة السادات للقدس وكمب دايفيد، ثم انطلاق الثورة الاسلامية في ايران... وبين هذه وتلك كانت عملية الاجتياح الكبير لجنوب لبنان في آذار 1978.. والاشكالية الثانية تعلقت بمسألة النهضة ، والوعي الحضاري، وبناء الذات الحضارية، والاستقلال السياسي والاقتصادي، ومواجهة الآخر.. وكنا قد بدأنا نقرأ فرانر فانون وعلي شريعتي وأنور عبد الملك، ونعيد النظر في الاطروحات الماركسية اللينينية، التروتسكية والماوية على حد سواء، باتجاه البحث عن ماركسية عربية جديدة.. وهنا أيضاً كان كمال جنبلاط مفيداً لنا الى جانب أنور عبد الملك في اكتشاف رؤية حضارية بديلة لا تكون مقلدة للغرب ولا تكون خاضعة للشيوعية المادية، وانما تنبني على تراثات حضارات الشرق الغنية، كالصين والهند والاسلام،.. وقد أعاد عفيف فراج موضعة فكر جنبلاط الانساني هذا في إطار الموقف من الماركسية من جهة، ومن العرفان الصوفي من جهة ثانية، وصولاً الى صياغة تجمع بين الحكمة القديمة والعلم الحديت، وتجعل الحدس الصوفي يستكمل نظرية المعرفة الماركسية... في تلك السنوات المفصلية كانت الصين وروسيا وفيتنام وكمبوديا وكوبا ( وكل الدول الاشتراكية) قد تحولت بالنسبة الينا الى دول قمعية سلطوية استبدادية يموت فيها الانسان ويذبل فيها الضمير الحر والوجدان... لا بل أننا كنا نتبنى التسمية الماوية للاتحاد السوفياتي على أنه "امبريالية اشتراكية" وليس فقط مجرد "تحريفية"... وحين انطلقت ثورة ايران الاسلامية (آخر عام 77- مطلع عام 78) كنا نعيش جدالات وحوارات ونقاشات أفضت بالكثيرين منا الى الالتحاق بالاسلام الصاعد يومذاك كتعبير عن حالة حضارية نهضوية مقاومة وممانعة.. ويمكن القول هنا ان كتابات أنور عبد الملك ومنير شفيق ومحمد عمارة وعباس أحمد صالح وعادل حسين وطارق البشري وعادل عبد المهدي وفاضل رسول (وهم من الماركسيين الماويين الذين انتقلوا الى أرض الاسلام)، ثم كتاب ادوارد سعيد (الاستشراق) قد لعبت الدور الأهم في تحديد سياقات وأطر التحولات التي عصفت بجيلنا وجيل عفيف اليساري المناضل.. وفي كتاب (القمع السياسي) يبدو واضحاً كم كان لهذه الكتابات من وزن ومن دور في صياغة توجهات ومحاججات عفيف.. تلازم صعود الثورة الاسلامية الايرانية وعودة الاسلام السياسي الى ساحة الفعل العربي، مع تصاعد حدة الصراع العربي الاسرائيلي، وتصاعد حدة الأحادية الثقافية الامبريالية الغربية في شيطنتها للآخر، المسلم أو الشرقي، مع تصاعد الأزمة العميقة التي ضربت الماركسية وأقعدتها عن أن تكون أداة نظرية لفهم الواقع وممارسة التغيير ، وذلك قبل سقوطها الأخير مع سقوط الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة الاشتراكية... في تلك الفترة كنت من بين الذين أعادوا اكتشاف الأمير شكيب أرسلان، ومن خلاله كل فكر النهضة الاسلامية وخصوصاً محمد عبده وجمال الدين الافغاني ورفاعة رافع الطهطاوي والكواكبي.. وشهدت تلك الفترة كتابات لوجيه كوثراني (الاتجاهات السياسية الاجتماعية في جبل لبنان) وسهيل القش (في البدء كانت الممانعة) ومنير شفيق (الاسلام في معركة الحضارة) وادوارد سعيد ( الاستشراق، وتغطية الاسلام) وحسن الضيقة ( في نقد الماركسية، ونقد سمير أمين) ونظير جاهل (في انتروبولوجيا الاسلام) ورضوان السيد (في الجماعة والسلطة والأمة) والياس خوري وحازم صاغية ووليد نويهض (في نقد التجارب اليسارية، وفي مسألة المثقف والسلطة، ومسألة الدولة والحزب الخ..) .. وقد صدرت مجلة الوحدة (1980-1981) تحمل هذه الكتابات وغيرها، ومنها مقالة لعفيف في العدد الأول من المجلة (15 كانون الثاني 1980) بعنوان (جنبلاط: حين نتكلم عنه يضيء قنديل المعرفة ). فتحت مجلة الوحدة نقاشات وجدالات كان لها أثر كبير في فكر ووعي عفيف فراج كما يظهر من استشهاده بها في كتابيه: القمع السياسي، واشكالية النهضة.. ناهيك عن استشهاده بأنور عبد الملك ومحمد عابد الجابري ومحمد عمارة وهشام جعيط وكمال عبد اللطيف وغالي شكري وعبد الله العروي وادوارد سعيد ومنير شفيق.. لكن المهم في مقاربة عفيف لهذه الإشكاليات هو إطلالاته النقدية التي تربط ماضي هذا الفكر الاسلامي التجديدي بحاضره.. فيقارن ما بين عبده والطهطاوي والعقاد وطه حسين والرافعي والزيات من جهة وما بين ادوارد سعيد ومنير شفيق وأنور عبد الملك وبقية مؤسسي ما سماه عفيف (الاستشراق معكوساً) من جهة أخرى.. ولا ينسى أن يتوقف وقفة خاصة عند أدونيس الذي كتب في مدح الخميني مقالته الشهيرة: "شمس الحقيقة وسيف الغضب" (وهي عبارة يستخدمها الشيعة لوصف الامام المهدي)، وقد استشهد عفيف بما كتب أدونيس في مجلته مواقف ( العدد 34-1979) من أنه " وفي المجتمع العربي القائم كلياً على الدين والذي لم تتطور فيه وسائل وأشكال الانتاج لتشكل وعياً طبقياً، يبقى الدين المرتكز الأساس".... تلك هي الأطر والسياقات التي واكبت اشتغال عفيف على أطروحته للدكتوراه (القمع السياسي) والتي انطلقت من ظاهرة (النظرة الغربية الاستعمارية الانتقاصية للشرق) ، وهي ظاهرة جرى لفت الانتباه اليها مع كتابات المفكرين المشار اليهم سابقاً والذين قدموا قراءة اعتبرها عفيف فراج اسشتراقاً معكوساً حين اعترف أمثال ادوارد سعيد وأنور عبد الملك ومنير شفيف (وحتى أدونيس الذي كتب أن انقسام العالم الى قطبين شرق/غرب هو حقيقة قائمة وأن الغرب تميّز بالتكنولوجيا وليس بالابداع، وأن الشرق ابداعي خيالي، الخ.).. وبحسب عفيف فإن هؤلاء المفكرين الذين اندفعوا يومها في تبني الخيار الحضاري الاسلامي اعترفوا فعلياً بالثنائية العرقية القومية وأقروا بها "فتساوى القامع والمقموع مع تعديل وهو أن المقموع قد عكس هوية من هو الأرفع ومن هو الأدنى فيدعي المسلم تفوقه الروحي على الغرب الطامع بالسلطة والربح المادي ويصبح الاسلام شعاراً للتحرير"... وهنا تبرز استثائية عفيف وسبقه لنا في مضمار استخلاص الدروس والتنائج من ذلك التحول الفكري والنظري الذي دخلنا فيه بعد عام 1980... فهو قد ماهى بيننا وبين فرانز فانون من حيث الكلام عن (ردة فعل) وعن انقسام العالم الى جنسين مختلفين (أبيض مستوطن وأسمر ملون) يقطنان في مدينتين مختلفتين .. الخ؟.. هذا التقسيم الى عالمين، شرق وغرب ، نحن وهم، هو أساس التقسيم اللاحق الذي أجراه بن لادن الى فسطاطين ، وأسماه جورج دبليوبوش محور الشر ومحور الخير، وهو ينطلق من نظرية توينبي في أن التاريخ هو (تحدي وردّ على التحدي)... ولكن عفيف يتميز أيضاً في قراءته لتلك المرحلة ومفكريها عن الموقف الأصولي العلماني الذي عبرّ عنه أفضل تعبير كتاب مهدي عامل (نقد الفكر اليومي) والذي تناول نفس المفكرين والأفكار وانما بنظرة احتقارية تدميرية نزقة، على عكس عفيف فراج الذي تناولهم بنظرة مُحِبّة ونقدية في آن مع الاعتراف لهم بفضل في أمور كثيرة خصوصاً تقديره لدور هذه الكتابات وهؤلاء المفكرين في إغناء عملية الانبعاث الاسلامي الجديد بمعطيات تنويرية هائلة.. وعلى الرغم من كون هذه الحركة الاستشراقية المعكوسة متطرفة في عدائها للغرب "بحيث تقفز فوق حقيقة أن الغرب في موقفه من الاسلام ليس واحداً متجانساً وان الثقافة الغربية ليست كلها متهمة بالمشاركة في العداء للاسلام والشرق"، إلا أن هذه الحركة "تبقى في المحصلة النهائية ردة فعل مناهضة للغزو البورحوازي الغريب لبلاد وعقول المسلمين"... ويحاول عفيف فراج أن يأخذ موقفاً وسطياً ما بين هؤلاء ومنتقديهم من غلاة العلمانيين الذين يتهمهم عفيف بتغربهم عن الثقافة الوطنية وعجزهم عن الانخراط مع الجماهير العريضة واغترابهم الاجتماعي الثقافي وعجز الماركسيين من بينهم عن انجاز أيديولوجية ثورية تتلاءم مع العصر دون القطع مع الماضي، أي دون التضحية بالاستمراية الثقافية التاريخية... وبرغم الاعتراف بصحة وعمق النقاشات التقدمية التي طرحها ماركسيون وعلمانيون تقدميون (صادق جلال العظم مثالاً) إلا أن عفيف لا ينسى أن يختم باستعارة مقولة غالي شكري: "يجب أن نهدم ثم نعيد بناء تراثنا الثقافي من منظور ثوري مقتبسين من تراثنا ومن الغرب ما يتناسب وحاجتنا الموضوعية"... وهذا الاستنتاج الخلاصة هو الذي جمع بيني وبين عفيف في المرحلة الأخيرة من حياته حين كنت أعمل مع سماحة الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين على مقولة استنباط وصياغة حداتثنا الخاصة بنا وعلمانيتنا النابعة من سياقاتنا التاريخية والحضارية الخاصة، وهو ما أسماه عفيف في مقولة أتبناها بالكامل وأدعو الى تعميمها والعمل بموجبها حين يقول: "إننا نحتاج الى فلسفة جديدة للنهضة.. وهذه قضية ملحة دائماً".. نعم فلسفة جديدة لنهضتنا المعوقة والناقصة..تستعيد تراثنا الحضاري ولا تموت غرقاً فيه، وتأخذ من الحضارة الغربية ولا تكون تابعة ذيلية لها..إنها اليوم (وكما كانت بالأمس) أكثر من قضية ملحة.. إنها هي القضية! وبعد فإن عفيف فراج أعطى في أطروحته عن القمع السياسي بين الشرق والغرب، قراءة علمية ناقدة حول المصادر المعرفية لتلك النظرة الغربية الاستعمارية للشرق والتي لخصها في مقولتي: الهمجية الشرقية والاستبداد الشرقي، دون أن يقع في فخ المصادرة والتعميم ... وقد حاول الدفاع عن بعض المواقف الماركسية واللينينية تجاه الشرق وتمييزها عن المنحى الانتقاصي والاحتقاري للغرب البورجوازي، وكان ذلك منه آخر سهام محاولة الجمع بين الاسلام والماركسية، وهي المحاولة التي عشنا تجربتها معاً خلال تلك المرحلة (1977-1980) قبل أن تطغى علينا فكرة المفاصلة الكاملة مع الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي، والتي كانت على ما يبدو من منبع ماوي صيني وليس من منبع إسلامي تقليدي.. ذلك أن الاسلاميين من جيل عبده والافغاني والطهطاوي وأرسلان، ثم من جيل العقاد والرافعي وطه حسين، كانوا قد حاولوا الجمع والتأليف ما بين شرق وغرب على قاعدة الخصوصية الحضارية السمحة المنفتحة التي تأخذ الحكمة والعلم أنى وجدتهما... غير أن الإشكالية في عصرنا الراهن وفي حاضرنا المعيش هي أعمق وأبعد من ذلك... وعفيف حاول مقاربتها من خلال استعادة أسئلة عبد الله العروي دون أصولية العلمانيين اليساريين، وخارج أصولية الاسلاميين الجدد المبهورين بالصعود النضالي للحركة الاسلامية الجديدة بعد 1980.. فقدّم عفيف قراءة مميّزة في الفكر الغربي القديم والحديث من منظار (فكرة وممارسة القمع السياسي) وأعاد سبب تخلفّنا وتراجعنا أو عدم تقدمنا الى قوة الاستبداد والقمع السياسي في حضارتنا وثقافتنا وسياستنا.. فاستعاد بذلك موقف الافغاني التاريخي الذي وجد أن الاستبداد هو علة هذا الشرق، دون أن يغرق في التأبيد الذي اصطنعه الغرب والذي جعل من الاستبداد الشرقي جوهراً أزلياً ثابتاً يسم الشرق ، ودون أن يغرق في الاستشراق المعكوس الذي يجعل الاحتقار والانتقاص الغربي جوهراً أزلياً ثابتاً.. إن محاولة عفيف فراج بناء أسس فلسفة جديدة للنهضة العربية كانت المدماك الأول في ما صار لاحقاً يعرف باسم حوار الحضارات والتعددية الثقافية.. فعلاً كان عفيف هنا أيضاً سباقاً ومبكراً في استشراف ما ستصل اليه تجربتنا الفكرية والسياسية، وما سيتكشف عنه الاسلام السياسي: الثوري في كفاحه ضد الاستعمار، والقمعي حين وصوله الى السلطة.. وهذا من أبلغ دورس تجربتنا الثورية الماضية، ومن أوضح وصايا الربيع العربي الراهن..