إن قصة الخدمة المنزلية ذات أهميةقصوى في الحياة الزوجية للغالبية الكبرى من الأزواج والزوجات (الأسر) عند المسلمين وغيرهم من البشر. ومثل ذلك في الأهمية رعاية الأطفال والعناية بهم مادياً ومعنوياً. وفي بعض الفئات الاجتماعية تحتل قضية العمل في مجال الكسب الاقتصادي في الزراعةوالحرف الأخرى، أهمية كبيرة في العلاقات الزوجية عند إرادة تكوين الأسرة.
وقدجرى عرف أغلب البشر على قيام الزوجة بالأعمال المنزلية المألوفة من إعداد الطعام،وترتيب المنزل، ورعاية الأطفال، وغير ذلك مما يتصل به ويناسبه.
كما جرى عرف كثيرمن البشر ـ في بعض الفئات الاجتماعية (الفلاحين مثالاً) ـ على مشاركة الزوجة لزوجهافي العمل لكسب المال والثروة، كالعمل الزراعي في الحقول، أو تولى بيع السلع فيالدكان، أو القيام بأعمال مأجورة في المنزل الزوجي، من قبيل الغزل والنسج والخياطةوالتطريز وغيرها من الأعمال الحرفية، وذلك لأجل المساهمة في نفقة الأسرة.
ولدىغالبية الناس ارتكاز ذهني بأن هذه الأمور من واجبات الزوجة (خاصة العمل المنزلي) ومن حقوق الزوج عليها، بحيث لو طرحت قضية أن الزوجة لا تجب عليها الخدمة في بيتالزوجية، ولا رضاعة الأطفال ولا خدمتهم وحضانتهم، لامتنع كثير من الرجال ـ بل لعلأكثرهم ـ من الزواج بامرأة لن تقوم بهذه المهمات (وخاصة الخدمة المنزلية ورعايةالأطفال) أو يشكون بذلك منها. ولصرحوا ـ في حالة زواجهم ـ بها باشتراط قيام الزوجةطوعاً ومجاناً. ولو علمت النساء بأنه ليس عليهن مسؤوليات من هذا القبيل لفاجئهن ذلكواعترتهن الدهشة والتعجب منه.
ولعل روايتي تقسيم العلم بين الإمام علي (ع) والسيدة فاطمة (ع) تعبران عن هذا الارتكاز العرفي عند الناس، بقطع النظر عن صحةوعدم صحة سندهما، فهذا يتوقف عليه حجيتهما في الدلالة على الحكم الشرعي، ولسنا بصدداستفادة ذلك منهما هنا، بل بصدد استفادة وجود هذا الارتكاز، وهما تدلان عليه وإنكانتا موضوعتين، إذ إنهما تعبران عن واقع حياتي موجود وراسخ في حياة الناس العائليةوالاجتماعية، وإلا فمن غير الممكن أن يخترع الواضع أمراً غير مألوف عند الناس ويدعيحكماً شرعياً له، لأنه سيبين كذبه بوضوح، فلا بد أن يكون المورد من الأمور المألوففي حياة الناس في المجال المدعى ورود الحكم الشرعي فيه.
وقد بينا أن الرواياتغير الواجدة لشرائط الحجية يمكن الاستفادة منها في مقام الاستنباط في باب السيرةالمتشرعية والعرف العام والأعراف الخاصة.
وهذا الارتكاز لا يتنافى مع حصر حق الزوج في الاستمتاع والمساكنة على النحو الذي تقدم بيانه، حيث أن ذلك لا يقتضي حصرالمشروعية به، وعدم مشروعية قيام الزوجة بأية خدمة لزوجها ولأسرتها، بل غاية مايقتضي عدم إلزامها بذلك بدعوى أنه من مقتضيات عقد الزوجية بمقتضى طبعه وأصل تشريعه،وهذا لا ينافي قيامها بذلك أو ببعضه تبرعاً أو لسبب من عقد أو شرط.
إن هذاالواقع الحياتي العرفي المرتكز في الأذهان على نحو ارتكاز البديهيات والمسلمات التيلا يلتفت العرف إلى لزوم ذكرها في العقود، يجعل من (الخدمة المنزلية ـ في الجملة ـورعاية الأطفال ـ في الجملة ـ ) من الشروط الارتكازية الضمنية التي يبنى عليهاالعقد، من قبيل الصحة في المبيع، والتسليم في بلد العقد، كون الثمن بنقد البلد، وماإلى ذلك.
ولكن متعلق هذا الارتكاز مجهول المقدار من حيث الكثرة، ولذا فلا بد منالاقتصار في مقام استيفائه على القدر المتيقن، وهو الحد الأدنى الذي ليس منه رضاعةالأطفال وحضانتهم الذي نصّ القرآن على أنه عمل تستحق الزوجة ـ الأم عليهالأجرة.
ولذا فإنه في حالة وجود هذا الارتكاز، واعتبار العقد مبنياً عليه عندالالتفات إلى قضية الخدمة، لا يجوز للزوج أن يطلب أية خدمة يشك كفي كونها داخلة فيالقدر المتيقن، وللزوجة الامتناع عن القيام بها أو المطالبة بالعوض عليها.
هذا،ولكن المعروف السائد في المجتمعات الإسلامية هو غلو الأزواج في استيفاء الخدمةالمنزلية ورعاية الأطفال من الزوجة، بل يتعدى بعضهم ـ جهلاً وظلماً ـ في الأرياف والبيئات الجاهلة، إلى مطالبة الزوجة أن تشارك في أعباء العمل الزراعي والحرفي الذييقوم به الزوج، إضافة إلى الأعمال المنزلية ولوم الزوجة وتعنيفها إذا تراخت في ذلكأو امتنعت من القيام به.
وهذا واقع في الأسرة المسلمة لا يقره الشارع الإسلاميتكابد منه الزوجة قساوة أوضاع مفروضة عليها في حياتها الزوجية العائلية تحولها إلىخادم بلا كرامة ولا حقوق.
وهذا وضع يجب على المهتمين بتصحيح حياة المسلمين وترشيدها على هدى الإسلام، أن يولوه اهتمامهم على مستوى التعلم والإرشاد والتثقيفمن جهة، وعلى مستوى تنظيم تشريع عقود الزواج وتفصيلها على نحو حفظ الزوجة من أنتكون ضحية استغلال ناشئ من جهل الزوج أو ظلمه استناداً إلى أعراف وعادات مخالفة لنصالشريعة، وأخلاقيات الإسلام، وحقوق الإنسان في الإسلام.