برهان غليون
لم تفاجئ الانتفاضة التونسية المستمرة منذ نحو شهر في تونس سوى أهل السلطة الذين اعتقدوا أنهم وجدوا المعادلة الذهبية التي تجعل وصولهم إلى قمة السلطة نهاية التاريخ كما تجعل من التغيير الذي حلم به التونسيون بعد تنحية الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، أي تغيير، سرابا بعيد المنال.
وهذه المعادلة الذهبية، المتبعة في أكثر البلاد العربية، هي التي يسمونها بالنموذج الصيني، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة كان، سواء كان عملا سياسيا مباشرا أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء أجاء على صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية.
وكان الرهان أن تسمح التنمية الاقتصادية السريعة الناجمة عن هذا الانفتاح الكبير بتحسين شروط حياة السكان وتعظيم الأمل في المستقبل وتعزيز شرعية النظام، وبالتالي مقايضة السياسة نهائيا بالاقتصاد، وتفضيل الوجود أو البقاء على قيد الحياة على الهوية والمعنى.
ولا يخفى أن هذه الصيغة حققت نتائج واضحة في العقدين الماضيين. فقد ضمنت، من جهة أولى، تأييد الغرب، الشريك التقليدي لتونس، ودعمه للتجربة التونسية، وتشجيع رجال المال والأعمال على التعامل مع تونس على أنها شريك طبيعي، ما أعطى بالفعل دفعة قوية للاستثمار الأجنبي، وساهم في إيجاد معدلات تنمية أعلى نسبيا عما هي عليه في البلدان العربية المجاورة.
ونجحت من جهة ثانية في تأمين درجة كبيرة من الاستقرار الذي ضاعف من اهتمام الشريك الغربي بالنظام التونسي ودعمه، والمراهنة عليه باعتباره نموذجا يمكن وضعه في مواجهة النموذج الإسلامي، الذي ترفعه الحركات الاحتجاجية الرئيسية في المغرب العربي، والذي يشكل الشبح الذي يطارد النظم الحاكمة وحلفاءها منذ التسعينات من القرن الماضي.
والواقع أن الاقتناع كان ولا يزال قويا لدى هذه النخب العربية الحاكمة وحلفائها الغربيين بأن معادلة الخبز لقاء الحرية، أو لقمة العيش لقاء الاستقرار والنظام والانضباط، هي الأصلح لشعوب ليس لها ثقافة الغرب ولا مطالبه الفكرية والمعنوية، وأن تأمين الخبز للأغلبية الساحقة، وهو مطلبها الرئيسي بل ربما الوحيد، سوف يقطع أي طريق على المعارضات السياسية وحركات التغيير، إسلامية كانت أم مدنية.
وربما أمكن استغلال هذا التناقض بين تأمين الخبز الذي يشكل مطلب الشعوب الرئيسي والحريات الفردية والمشاركة السياسية، التي لا تهم سوى الأقلية الضئيلة من المثقفين "الرومانسيين أو الموهومين"، للتحريض ضد النخب السياسية المعارضة وأصحاب الرأي المختلف، وتشويه صورتهم وعزلهم عن الجمهور الواسع، بل وتسفيه السياسة والعمل السياسي ذاته. وهذا ما حصل بالفعل.
هكذا أمكن للنموذج أن يعيش وأن يعزل النخب السياسية والمثقفة ويضعها في صندوق مغلق ويستمر من دون منغصات تذكر. وأمام هذه النتائج الملموسة لنموذج ابن علي الذي كان يتوقع له أن يكون مثالا يحتذى، لم تكن المبالغة في القمع ولا الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان، تشكل هاجسا كبيرا للحلفاء الغربيين، الفرنسيين أو الأميركيين.
بل لقد أصبح هؤلاء شركاء في خلق النموذج ومن أكبر المساهمين في التغطية على هذه الانتهاكات من خلال إطلاقهم التصريحات عن المعجزة التونسية وتسريب التقارير عن التقدم الاستثنائي الكبير في تونس، والآن من خلال الصمت الضالع على عمليات القمع الدموية.
ليست المعارضة السياسية، لا الإسلامية ولا المدنية، هي التي زعزعت أركان هذا النموذج وأبرزت نكتة المعجزة وإفلاسها. إن ما قوض أركانه هو انهيار الركيزتين اللتين قام عليهما منذ البداية، ومن داخلهما. الركيزة الأولى هي التنمية المعتمدة على الاستثمارات الخارجية ودعم المؤسسات المالية الدولية.
فقد تراجعت معدلات التنمية إلى النصف منذ سنتين على أثر الأزمة العالمية، وتوقف قسم كبير من الاستثمارات الأجنبية بالإضافة إلى تقلص قطاع السياحة الذي لا يزال القطاع الرئيسي في الاقتصاد.
لكن السبب الأعمق والأهم، والذي كان سيشكل قيدا على عمل النظام واستمراره، حتى من دون وجود الأزمة، لكن بعد وقت، هو التكلفة الإنسانية، أي أيضا السياسية والاجتماعية والأخلاقية، لهذا النموذج الذي لا ينبغي التردد في وصفه بالإجرامي.
فقد كان ثمن بقائه القضاء على الحياة السياسية والفكرية والمعنوية لشعب كامل، أي مصادرة إرادته وإفساد وعيه، وحلّ عُرى تنظيمه بحيث يتحول إلى جثة هامدة تتصرف بها نخبة حاكمة، حسب ما تريد وكيف ما تشاء.
وفي مواجهة شعب مشلول الإرادة وفاقد الرأي والعزيمة، لم يكن هناك أي حاجز يحول دون تحول النخبة الحاكمة نفسها إلى ما يشبه "العصابة" التي تدير شؤون الدولة وتستثمر مواردها حسب مصالحها الخاصة، ومن دون رقيب، بل تحول الدولة إلى مزرعة للمصالح الخاصة.
ومن الطبيعي أن لا تشعر مثل هذه النخبة التي نسيت دورها تماما وتحولت إلى آلات لجمع الثروة والمال، لا بمشاكل الناس ولا بمعاناتهم، ولا أن تعاين تفاقم الظلم الاجتماعي، الناجم عن التفاوت الصارخ في توزيع الثروة بين فئات المجتمع وبين المناطق.
ومن الطبيعي أيضا أن تفاجأ بانتفاضة سيدي بوزيد وانتشارها إلى المناطق الأخرى، وأن لا تفهم الكثير مما يجري حولها، وتعتقد أن من الممكن مواجهة انتفاضة الشعب بالحلول التقليدية التي عرفتها، أي بالوعود الكاذبة التي لا تلزم أحدا، وبالتمسك بتطبيق القانون، أي القمع وإطلاق النار على الجمهور الغاضب الذي كان ولا يزال في الواقع قانون السلطة الديكتاتورية الوحيد.
ما يحصل في تونس لا يعلن عن إفلاس المعجزة التونسية التي جمعت بين خيار القمع المعمم واقتصاد الإثراء بأي ثمن، وقادت إلى الفساد والاحتقان الاجتماعي والقتل السياسي، أي في الواقع إلى تحطيم القيم الإنسانية التي لا تقوم من دونها جماعة ولا شعب، قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة وحكم القانون والمشاركة في الحياة العمومية، فحسب وإنما يعبر عن إرادة شعب كامل في الانعتاق والتحرر من الأسر، وكسر القمقم الذي وضع فيه.
وبالرغم من أن شعارات مسيرات هذه الانتفاضة لم تكن سياسية ولا ينتمي المشاركون فيها إلى عالم السياسة ونخبه المثقفة، فإن عملهم هو السياسة الكبرى، لأن مضمونه هو بالضبط تقويض نظام القمع الشامل الذي بنته النخبة الحاكمة، وسعت إلى التغطية عليه بمعدلات تنمية اقتصادية مرتفعة لم تعد تخدع أحدا اليوم، ومن وراء ذلك استعادة هويته الإنسانية، أي القيم التي لا يكون من دونها اليوم الإنسان إنسانا لا في تونس ولا غيرها.
ولذلك أيضا لن يوقف الانتفاضة التونسية تكرار الوعود بمعدلات تنمية استثنائية جديدة تخفف من معدل البطالة أو تحسن مستوى معيشة الناس. ولا تعزيز الإجراءات الأمنية واستخدام سلاح القتل الجماعي. إن طمأنة الشعب على مصيره ومستقبله تستدعي تغيير قواعد اللعبة السياسية من الآن .
هذا هو التنازل الوحيد الذي يوقف انتفاضة الغضب والياسمين ويحرر تونس من كابوسها الثقيل. وتغيير قواعد اللعب يعني هنا تفكيك نظام احتكار السلطة والديكتاتورية الحزبية والشخصية والقمع الذي هو جوهر النظام الاجتماعي والتمييزي القائم، والانتقال بمشاركة جميع القوى السياسية والثقافية إلى نظام ديمقراطي يعيد إلى الشعب حقه في تقرير مصيره، أي في إدارة شؤونه، وينزع هذا الحق ممن صادره بغير حق، ولأي سبب كان.
فتحية لتونس التي تفتح طريق الحرية في عالم عربي قتله الانتظار على الطريق .
إظهار الرسائل ذات التسميات برهان غليون. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات برهان غليون. إظهار كافة الرسائل
الثلاثاء، 18 يناير 2011
الاثنين، 10 يناير 2011
2011 عام القلاقل والتحولات
د. برهان غليون
لم يكن تفرغ النخب الحاكمة للنزاعات الداخلية في العقود الأربعة السابقة -التي انتهت باحتكار السلطة من قبل فئات محدودة واحدة، وإعادة بناء النظام السياسي والقانوني والإداري بما يساعد على تخليد هذه السلطة، وربما انتقالها من الآباء إلى الأبناء، بصورة يصعب بعدها الحديث عن نظم سياسية بالمعنى الحديث للكلمة- ممكنا إلا بقدر ما كانت سياسة تفريغ الدول من حيويتها وقواها السياسية هذه متقاطعة مع مصالح القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على كسب مواقع النفوذ في المنطقة المشرقية أو السيطرة عليها.
وكانت معركة القضاء على حركات المقاومة والاحتجاج العربية من أي نوع كانت -تحت شعار تصفية الإرهاب في ما يخص القوى الإسلامية، أو باسم ضمان الأمن والاستقرار عندما يتعلق الأمر بقوى يسارية أو قومية أو ديمقراطية، يطلق عليها اليوم صفة العلمانية لتقزيمها وتغييب برامجها السياسية- جزءا من معركة الدول الكبرى للحفاظ على الوضع القائم، ومنع أي تغييرات أو تحولات إستراتيجية أو جيوسياسية لا تتفق مع مصالحها.
وبهذا المعنى لم يكن انشغال النظم العربية بقضايا الداخل ممكنا إلا بمقدار ما كان اطمئنانها عميقا لضمان ثبات الجبهة الخارجية، وتكريس الخرائط القديمة الموروثة عن الحقبة الاستعمارية السابقة من قبل القوى الدولية. وهذا ما عبرنا عنه أكثر من مرة بالتحالف والتضامن الحاصل بين الاستعمار والاستبداد، أي بين استعمار داخلي واستعمار خارجي، يقومان كلاهما على تجريد الشعب من حقوقه السيادية وفرض الوصاية عليه ومعاملته كرعية تابعة للملك أو الرئيس السلطان.
والحال أن سياسة تهدئة الجبهة الخارجية -التي اتبعتها الدول الكبرى ذات النفوذ في المنطقة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والتي شكلت ضمانة لنجاح سياسات القمع الداخلية بل تشجيعا لها- بدأت تتعرض للاهتزاز منذ أن قررت الإدارة الأميركية الجمهورية السابقة في عام 2003 -تحت تأثير المحافظين الجدد- فسخ عقد الضمان هذا والسعي إلى إعادة هيكلة المنطقة، وربما تغيير بعض نظمها وأساليب إدارتها بما يتفق بشكل أكبر مع تطورات الأوضاع الدولية الجديدة، ويضمن للولايات المتحدة وحلفائها وضع اليد بشكل مباشر على آبار النفط، خوفا من منافسة قوى مستهلكة جديدة صاعدة، وتعزيزا لمكانة إسرائيل الإقليمية، بوصفها الحليف الرئيسي والمعتمد الأول في المنطقة.
ولم ينفع تراجع الإدارة الأميركية عن خطتها هذه، واستعادتها لشعار الحفاظ على الأمن والاستقرار من جديد بدل شعار التغيير ودمقرطة الشرق الأوسط، الذي استخدمته لتبرير إستراتيجيتها الهجومية وحربها المعلنة على دول المشرق العربي، التي لم تكن الحرب على العراق سوى الفقرة الأولى منها، أقول لم ينفع هذا التراجع في إعادة الأمور إلى نصابها لسببين:
الأول أن واشنطن خسرت الحرب في العراق تحت تأثير المقاومات المتعددة. وبدل أن تحقق الانتصار المنتظر الذي كانت تحتاجه للتغطية على إخفاقها في أفغانستان التي تكاد تتحول إلى فيتنام جديدة، بدت أكثر من أي وقت سابق دولة مغامرة، وانهارت صدقيتها الإستراتيجية التي أرادت أن تؤكدها كدولة عظمى وحيدة تقع عليها مسؤوليات قيادة العالم وشق طريقه نحو مستقبل أفضل، ديمقراطي ومتضامن، كما كانت تقول دعايتها.
والسبب الثاني أن هزيمتها المرة في العراق، والعجز الذي أظهرته في السيطرة على الوضع الناجم عن الحرب، واضطرارها أخيرا إلى الاعتراف بالإخفاق والانسحاب من بغداد، مع ترك البلاد -التي حطمت عمودها الفقري وفككت دولتها- عرضة لكل الاحتمالات، وفي مقدمها الانقسام والتناحر الطائفي والإثني، وأهم من ذلك التدخل الإيراني، لم يؤثر كل ذلك على صدقيتها كدولة عظمى قائدة فحسب، ولكنه أدى إلى الانكشاف الإستراتيجي الكامل لجبهة المشرق العربي "الأميركي"، وبشكل خاص جبهة الخليج النفطية، وهي ذات الأهمية الإستراتيجية الاستثنائية، وتعريضهما لضغوط قوية من قبل أعتى خصوم واشنطن الإقليميين.
ومن الطبيعي أن تشعر دول المشرق العربي، وفي مقدمها دول الخليج، التي تعرضت لهذا الانكشاف بالقلق على أمنها أكثر من أي وقت سابق، وتتطلع إلى تحالفات أخرى قريبة أو بعيدة تؤمن لها الحماية التي لم تعد واثقة من أن واشنطن قادرة وحدها على تأمينها لها. وأول من أدرك هذه الحاجة هو النظم التي كانت تشعر بهشاشة استثنائية، سواء بسبب عوامل تكوينها الذاتي أو شروط حصارها الخارجية.
وفي سياق هذا الاختلال الكبير الذي أصاب الإستراتيجية الغربية في المنطقة بعد هزة حرب العراق الأرضية، وما نجم عنه من تراجع في شروط حفظ الوضع القائم الشرق أوسطي، تبرز بشكل متسارع -منذ بضع سنوات- ظاهرتان تسيران جنبا إلى جنب:
الأولى ظاهرة تشكل قوة إقليمية محورية، تقوم بدور القطب المحرك والجامع، الذي يطرح أجندة إقليمية وليست وطنية فحسب، تهدف إلى التصدي للمهام التي عجزت الأطراف الأخرى والنخب الحاكمة عن التصدي لها، وفي مقدمها لملمة أطراف منطقة مزقتها الحروب والنزاعات الخارجية والداخلية، وحل النزاعات القائمة في ما بينها، وإزالة العوائق التي تحول دون انفتاح إحداها على الأخرى، وتعظيم شروط الاستثمار والتعاون المفضي إلى الارتقاء بعوامل التقدم الاقتصادي والاجتماعي فيها، ومواجهة النفوذ الغربي الذي تحول، كما كان عليه الحال في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى بؤرة رئيسية لفساد النظم والنخب الحاكمة وإعاقة النمو، كما أصبح السبب الأول في تكبيل المنطقة وتجميدها، بمقدار ما رهن نفسه وربط أجندته التاريخية بالدفاع عن إسرائيل ومشروعها الاستيطاني أو بمقدار ما عجز عن الاستقلال عنهما.
والثانية هي ظاهرة التململ داخل المجتمعات، أو استيقاظ الحركات الاجتماعية التي كادت تموت تحت أنقاض الخراب الوطني والسياسي المعمم، وفي ظل سياسات تقييد الحريات والقمع والتهميش من قبل نخب حاكمة فقدت أي مفهوم للسياسة كمسؤولية اجتماعية ولتداول السلطة كحق شرعي وجزء لا يتجزأ من المواطنية، وكضمانة لعدم فسادها واحتكارها واستخدامها من قبل فئة لإخضاع فئة أخرى وحرمانها من حقوقها واستعبادها. وكلتاهما، أعني الظاهرتين، تعزز في تقدمها الأخرى.
هكذا برزت -ولا تزال تبرز- بسرعة البرق تركيا كقوة إقليمية صاعدة، وتتصدى -تقريبا من دون جهد يذكر، وبتعاطف لا يخفى من قبل الرأي العام العربي وأحيانا النخب الحاكمة نفسها- إلى موقع القيادة الإقليمية.
وقد تجاوزت -في سنوات معدودة- في نفوذها السياسي والاقتصادي، والدور الذي تقوم به لتعزيز التواصل بين دول المنطقة وتنشيط التفاعلات في ما بين أطرافها، جميع الدول الأخرى القريبة والبعيدة.
وبعكس طهران الثورية، تطرح أنقرة نفسها اليوم كمركز استقطاب لجميع الأطراف الإقليمية، وتتبع سياسة قائمة على امتصاص التوترات وتهدئة النزاعات والتقريب بين جميع أقطار المنطقة، من دون التردد في تحمل مسؤولياتها كمحور سلام واستقرار وتنمية اقتصادية واجتماعية، أي كقوة إقليمية قادرة على أن تفتح آفاق المستقبل لمنطقة بقيت محاصرة ومعزولة ومهمشة لعقود طويلة، ومليئة بكل أنواع الظلم والقهر وانتهاك الحقوق الوطنية والسياسية.
وهي تبرز كجزء من المنطقة تربطها بها عوامل تاريخية ودينية وجغرافية عديدة، لا غريبة عنها، وتنظر إليها من منظار تكوين مستقبل مشترك، وتحسين شروط استقلال المنطقة وازدهارها، لا كفريسة سهلة أو منطقة تقاسم نفوذ تستهلك مواردها ثم تتركها لمصيرها، أو تحتل أراضيها وتستوطنها وتطرد شعوبها، كما كانت عليه السياسات الاستعمارية.
وبالمثل -بموازاة تبدل المعطيات الإقليمية، وتحرك الجبهة الخارجية، واهتزاز مواقع النخب الحاكمة على الخارطة الجيوستراتيجية- تنبعث دينامية جديدة داخل القوى الاجتماعية في جميع الأقطار. وتعود التطلعات نحو العدالة والحرية والحق في العمل والحياة الإنسانية الكريمة إلى الظهور هنا وهناك.
وكل الدلائل تشير في نظري إلى أننا في بداية دورة جديدة من الحراك الداخلي الذي يستفيد من اهتزاز وضع النظم القائمة الخارجي وتراجع ثقتها بنفسها وبحماياتها الخارجية. وربما تشكل انتفاضة عمال المناجم والعاطلين عن العمل في مدينة سيدي بوزيد التونسية في الأسبوع الأخير من عام 2010، إشارة الانطلاق لهذه الدورة التي ستتقدم على وقع تبدل علاقات القوى الخارجية.
ومما يزيد من هذا الاحتمال الاحتقانات الشديدة التي تعيشها المجتمعات العربية الناجمة عن الحرمان والفساد والتفاوت الفاحش بين الطبقات والعبث بالقانون وانتهاك حقوق الإنسان المستمر، وعدم إمكانية الرهان في مواجهة هذه الاحتقانات على المزيد من القيود وسياسات القمع والإرهاب، كما اعتادت على ذلك معظم الحكومات العربية.
ففي الأوضاع الجيوستراتيجية والدولية الجديدة، وكسر احتكار الإعلام الوطني والعالمي، وتسارع وتيرة انتقال المعلومات بين البلدان والشعوب -بما في ذلك المعلومات ذات الطابع الدبلوماسي السري، كما أظهرت ذلك وثائق ويكيليكس- لن تقود سياسات التهميش والعزل وضرب الحصار على شعوب كاملة، ومنعها من المشاركة حتى بالكلام والتعبير في تقرير مصيرها، سوى إلى المزيد من الفساد والحرمان والتفاوت الاجتماعي، وبالتالي إلى تقهقر أكبر في شروط حياة السكان، وفي مقدرة الحكومات على مواجهة المشاكل القائمة والمتجددة.
وأمام انغلاق آفاق المستقبل بالنسبة للأجيال الجديدة التي لم تعد تتوقع سوى البطالة والفقر وضياع الوقت، أي العمر، ربما لا يبقى من خيار آخر سوى التمرد والانفجار.
بيد أن هذه التمردات والانفجارات المنتظرة ليست مضمونة العواقب أيضا. وليست هناك أي ضمانة في ألا تختار النخب الحاكمة طريق المغامرة بمصير البلدان نفسها، والرهان على بث الفوضى وانعدام الأمن، لردع المجتمعات وتخويفها من التغيير، أو جعل التغيير مرادفا للخراب والدمار والانقسام والفوضى.
وهذا هو الخيار الذي قاد بلدانا عربية عديدة -من لبنان إلى الصومال إلى العراق، واليوم السودان، وربما قريبا اليمن- إلى التفتت والنزاعات الداخلية، الطائفية والإتنية. ففي جميع هذه الحالات جاء الانقسام والنزاع والانهيار نتيجة رفض النخب الحاكمة طريق الحوار والتفاهم بعد رفض الإصلاح، وتبنيها قرار المواجهة بأي ثمن، أي العنف.
فلا ينبغي أن نتوقع من نخب حاكمة ليس لديها، أو لم يعد لديها، أي مفهوم للدولة، ولا -من باب أولى- أي شعور بالمسؤولية الوطنية، أن تتصرف تجاه الأزمات المتراكمة التي تتعرض لها الدول والمجتمعات العربية اليوم بحد أدنى من المسؤولية أو المبادئ الأخلاقية.
وهذا ما يعطي صورة عن الصعوبات الإضافية التي تواجهها عملية التغيير في أقطارنا، والاحتمالات الكبيرة لتزايد تدخل القوى الخارجية، كما أظهرت ذلك حالة ساحل العاج، حيث يزيد رفض الرئيس السابق غباغبو القبول بنتائج الانتخابات، وتمسكه بالبقاء في منصب الرئاسة مهما كانت النتائج والأخطار، من تدخل الدول الكبرى في مصير البلاد، وربما ارتهان إرادة الرئيس الجديد المنتخب لهذه التدخلات.
وهنا تبرز مسؤولية قوى المعارضة والحركات الاجتماعية ومقدرتها على صوغ أجندة وطنية جامعة، تحرص على توحيد جميع القوى الاجتماعية المنخرطة في عملية التحول، وهي أغلبية المجتمع، وتجهد في سبيل حل الخلافات التي تفصل في ما بينها، خاصة بين إسلاميين وغير إسلاميين، وتسعى إلى ترسيخ الخيار الديمقراطي في إطار الحافظ على استقلال القرار الوطني الذي يتيح وحده إمكانية التفاعل والتضامن بين فئات مصالح متباينة وأحيانا متنازعة.
وقبل هذا وذاك، رفض الانجرار إلى طريق العنف الذي يشكل الدفع إليه وتعميمه الإستراتيجية الوحيدة التي لا تزال تملكها النخب العربية الحاكمة للحط من قدر الشعوب، وتسفيهها في نظر نفسها، وتسويد صورتها، لاستجداء الدعم الخارجي، وقطع الطريق على أي تحولات ديمقراطية فعلية وتبرير التمديد الدائم لحكم القهر والاستبداد.
لم يكن تفرغ النخب الحاكمة للنزاعات الداخلية في العقود الأربعة السابقة -التي انتهت باحتكار السلطة من قبل فئات محدودة واحدة، وإعادة بناء النظام السياسي والقانوني والإداري بما يساعد على تخليد هذه السلطة، وربما انتقالها من الآباء إلى الأبناء، بصورة يصعب بعدها الحديث عن نظم سياسية بالمعنى الحديث للكلمة- ممكنا إلا بقدر ما كانت سياسة تفريغ الدول من حيويتها وقواها السياسية هذه متقاطعة مع مصالح القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على كسب مواقع النفوذ في المنطقة المشرقية أو السيطرة عليها.
وكانت معركة القضاء على حركات المقاومة والاحتجاج العربية من أي نوع كانت -تحت شعار تصفية الإرهاب في ما يخص القوى الإسلامية، أو باسم ضمان الأمن والاستقرار عندما يتعلق الأمر بقوى يسارية أو قومية أو ديمقراطية، يطلق عليها اليوم صفة العلمانية لتقزيمها وتغييب برامجها السياسية- جزءا من معركة الدول الكبرى للحفاظ على الوضع القائم، ومنع أي تغييرات أو تحولات إستراتيجية أو جيوسياسية لا تتفق مع مصالحها.
وبهذا المعنى لم يكن انشغال النظم العربية بقضايا الداخل ممكنا إلا بمقدار ما كان اطمئنانها عميقا لضمان ثبات الجبهة الخارجية، وتكريس الخرائط القديمة الموروثة عن الحقبة الاستعمارية السابقة من قبل القوى الدولية. وهذا ما عبرنا عنه أكثر من مرة بالتحالف والتضامن الحاصل بين الاستعمار والاستبداد، أي بين استعمار داخلي واستعمار خارجي، يقومان كلاهما على تجريد الشعب من حقوقه السيادية وفرض الوصاية عليه ومعاملته كرعية تابعة للملك أو الرئيس السلطان.
والحال أن سياسة تهدئة الجبهة الخارجية -التي اتبعتها الدول الكبرى ذات النفوذ في المنطقة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والتي شكلت ضمانة لنجاح سياسات القمع الداخلية بل تشجيعا لها- بدأت تتعرض للاهتزاز منذ أن قررت الإدارة الأميركية الجمهورية السابقة في عام 2003 -تحت تأثير المحافظين الجدد- فسخ عقد الضمان هذا والسعي إلى إعادة هيكلة المنطقة، وربما تغيير بعض نظمها وأساليب إدارتها بما يتفق بشكل أكبر مع تطورات الأوضاع الدولية الجديدة، ويضمن للولايات المتحدة وحلفائها وضع اليد بشكل مباشر على آبار النفط، خوفا من منافسة قوى مستهلكة جديدة صاعدة، وتعزيزا لمكانة إسرائيل الإقليمية، بوصفها الحليف الرئيسي والمعتمد الأول في المنطقة.
ولم ينفع تراجع الإدارة الأميركية عن خطتها هذه، واستعادتها لشعار الحفاظ على الأمن والاستقرار من جديد بدل شعار التغيير ودمقرطة الشرق الأوسط، الذي استخدمته لتبرير إستراتيجيتها الهجومية وحربها المعلنة على دول المشرق العربي، التي لم تكن الحرب على العراق سوى الفقرة الأولى منها، أقول لم ينفع هذا التراجع في إعادة الأمور إلى نصابها لسببين:
الأول أن واشنطن خسرت الحرب في العراق تحت تأثير المقاومات المتعددة. وبدل أن تحقق الانتصار المنتظر الذي كانت تحتاجه للتغطية على إخفاقها في أفغانستان التي تكاد تتحول إلى فيتنام جديدة، بدت أكثر من أي وقت سابق دولة مغامرة، وانهارت صدقيتها الإستراتيجية التي أرادت أن تؤكدها كدولة عظمى وحيدة تقع عليها مسؤوليات قيادة العالم وشق طريقه نحو مستقبل أفضل، ديمقراطي ومتضامن، كما كانت تقول دعايتها.
والسبب الثاني أن هزيمتها المرة في العراق، والعجز الذي أظهرته في السيطرة على الوضع الناجم عن الحرب، واضطرارها أخيرا إلى الاعتراف بالإخفاق والانسحاب من بغداد، مع ترك البلاد -التي حطمت عمودها الفقري وفككت دولتها- عرضة لكل الاحتمالات، وفي مقدمها الانقسام والتناحر الطائفي والإثني، وأهم من ذلك التدخل الإيراني، لم يؤثر كل ذلك على صدقيتها كدولة عظمى قائدة فحسب، ولكنه أدى إلى الانكشاف الإستراتيجي الكامل لجبهة المشرق العربي "الأميركي"، وبشكل خاص جبهة الخليج النفطية، وهي ذات الأهمية الإستراتيجية الاستثنائية، وتعريضهما لضغوط قوية من قبل أعتى خصوم واشنطن الإقليميين.
ومن الطبيعي أن تشعر دول المشرق العربي، وفي مقدمها دول الخليج، التي تعرضت لهذا الانكشاف بالقلق على أمنها أكثر من أي وقت سابق، وتتطلع إلى تحالفات أخرى قريبة أو بعيدة تؤمن لها الحماية التي لم تعد واثقة من أن واشنطن قادرة وحدها على تأمينها لها. وأول من أدرك هذه الحاجة هو النظم التي كانت تشعر بهشاشة استثنائية، سواء بسبب عوامل تكوينها الذاتي أو شروط حصارها الخارجية.
وفي سياق هذا الاختلال الكبير الذي أصاب الإستراتيجية الغربية في المنطقة بعد هزة حرب العراق الأرضية، وما نجم عنه من تراجع في شروط حفظ الوضع القائم الشرق أوسطي، تبرز بشكل متسارع -منذ بضع سنوات- ظاهرتان تسيران جنبا إلى جنب:
الأولى ظاهرة تشكل قوة إقليمية محورية، تقوم بدور القطب المحرك والجامع، الذي يطرح أجندة إقليمية وليست وطنية فحسب، تهدف إلى التصدي للمهام التي عجزت الأطراف الأخرى والنخب الحاكمة عن التصدي لها، وفي مقدمها لملمة أطراف منطقة مزقتها الحروب والنزاعات الخارجية والداخلية، وحل النزاعات القائمة في ما بينها، وإزالة العوائق التي تحول دون انفتاح إحداها على الأخرى، وتعظيم شروط الاستثمار والتعاون المفضي إلى الارتقاء بعوامل التقدم الاقتصادي والاجتماعي فيها، ومواجهة النفوذ الغربي الذي تحول، كما كان عليه الحال في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى بؤرة رئيسية لفساد النظم والنخب الحاكمة وإعاقة النمو، كما أصبح السبب الأول في تكبيل المنطقة وتجميدها، بمقدار ما رهن نفسه وربط أجندته التاريخية بالدفاع عن إسرائيل ومشروعها الاستيطاني أو بمقدار ما عجز عن الاستقلال عنهما.
والثانية هي ظاهرة التململ داخل المجتمعات، أو استيقاظ الحركات الاجتماعية التي كادت تموت تحت أنقاض الخراب الوطني والسياسي المعمم، وفي ظل سياسات تقييد الحريات والقمع والتهميش من قبل نخب حاكمة فقدت أي مفهوم للسياسة كمسؤولية اجتماعية ولتداول السلطة كحق شرعي وجزء لا يتجزأ من المواطنية، وكضمانة لعدم فسادها واحتكارها واستخدامها من قبل فئة لإخضاع فئة أخرى وحرمانها من حقوقها واستعبادها. وكلتاهما، أعني الظاهرتين، تعزز في تقدمها الأخرى.
هكذا برزت -ولا تزال تبرز- بسرعة البرق تركيا كقوة إقليمية صاعدة، وتتصدى -تقريبا من دون جهد يذكر، وبتعاطف لا يخفى من قبل الرأي العام العربي وأحيانا النخب الحاكمة نفسها- إلى موقع القيادة الإقليمية.
وقد تجاوزت -في سنوات معدودة- في نفوذها السياسي والاقتصادي، والدور الذي تقوم به لتعزيز التواصل بين دول المنطقة وتنشيط التفاعلات في ما بين أطرافها، جميع الدول الأخرى القريبة والبعيدة.
وبعكس طهران الثورية، تطرح أنقرة نفسها اليوم كمركز استقطاب لجميع الأطراف الإقليمية، وتتبع سياسة قائمة على امتصاص التوترات وتهدئة النزاعات والتقريب بين جميع أقطار المنطقة، من دون التردد في تحمل مسؤولياتها كمحور سلام واستقرار وتنمية اقتصادية واجتماعية، أي كقوة إقليمية قادرة على أن تفتح آفاق المستقبل لمنطقة بقيت محاصرة ومعزولة ومهمشة لعقود طويلة، ومليئة بكل أنواع الظلم والقهر وانتهاك الحقوق الوطنية والسياسية.
وهي تبرز كجزء من المنطقة تربطها بها عوامل تاريخية ودينية وجغرافية عديدة، لا غريبة عنها، وتنظر إليها من منظار تكوين مستقبل مشترك، وتحسين شروط استقلال المنطقة وازدهارها، لا كفريسة سهلة أو منطقة تقاسم نفوذ تستهلك مواردها ثم تتركها لمصيرها، أو تحتل أراضيها وتستوطنها وتطرد شعوبها، كما كانت عليه السياسات الاستعمارية.
وبالمثل -بموازاة تبدل المعطيات الإقليمية، وتحرك الجبهة الخارجية، واهتزاز مواقع النخب الحاكمة على الخارطة الجيوستراتيجية- تنبعث دينامية جديدة داخل القوى الاجتماعية في جميع الأقطار. وتعود التطلعات نحو العدالة والحرية والحق في العمل والحياة الإنسانية الكريمة إلى الظهور هنا وهناك.
وكل الدلائل تشير في نظري إلى أننا في بداية دورة جديدة من الحراك الداخلي الذي يستفيد من اهتزاز وضع النظم القائمة الخارجي وتراجع ثقتها بنفسها وبحماياتها الخارجية. وربما تشكل انتفاضة عمال المناجم والعاطلين عن العمل في مدينة سيدي بوزيد التونسية في الأسبوع الأخير من عام 2010، إشارة الانطلاق لهذه الدورة التي ستتقدم على وقع تبدل علاقات القوى الخارجية.
ومما يزيد من هذا الاحتمال الاحتقانات الشديدة التي تعيشها المجتمعات العربية الناجمة عن الحرمان والفساد والتفاوت الفاحش بين الطبقات والعبث بالقانون وانتهاك حقوق الإنسان المستمر، وعدم إمكانية الرهان في مواجهة هذه الاحتقانات على المزيد من القيود وسياسات القمع والإرهاب، كما اعتادت على ذلك معظم الحكومات العربية.
ففي الأوضاع الجيوستراتيجية والدولية الجديدة، وكسر احتكار الإعلام الوطني والعالمي، وتسارع وتيرة انتقال المعلومات بين البلدان والشعوب -بما في ذلك المعلومات ذات الطابع الدبلوماسي السري، كما أظهرت ذلك وثائق ويكيليكس- لن تقود سياسات التهميش والعزل وضرب الحصار على شعوب كاملة، ومنعها من المشاركة حتى بالكلام والتعبير في تقرير مصيرها، سوى إلى المزيد من الفساد والحرمان والتفاوت الاجتماعي، وبالتالي إلى تقهقر أكبر في شروط حياة السكان، وفي مقدرة الحكومات على مواجهة المشاكل القائمة والمتجددة.
وأمام انغلاق آفاق المستقبل بالنسبة للأجيال الجديدة التي لم تعد تتوقع سوى البطالة والفقر وضياع الوقت، أي العمر، ربما لا يبقى من خيار آخر سوى التمرد والانفجار.
بيد أن هذه التمردات والانفجارات المنتظرة ليست مضمونة العواقب أيضا. وليست هناك أي ضمانة في ألا تختار النخب الحاكمة طريق المغامرة بمصير البلدان نفسها، والرهان على بث الفوضى وانعدام الأمن، لردع المجتمعات وتخويفها من التغيير، أو جعل التغيير مرادفا للخراب والدمار والانقسام والفوضى.
وهذا هو الخيار الذي قاد بلدانا عربية عديدة -من لبنان إلى الصومال إلى العراق، واليوم السودان، وربما قريبا اليمن- إلى التفتت والنزاعات الداخلية، الطائفية والإتنية. ففي جميع هذه الحالات جاء الانقسام والنزاع والانهيار نتيجة رفض النخب الحاكمة طريق الحوار والتفاهم بعد رفض الإصلاح، وتبنيها قرار المواجهة بأي ثمن، أي العنف.
فلا ينبغي أن نتوقع من نخب حاكمة ليس لديها، أو لم يعد لديها، أي مفهوم للدولة، ولا -من باب أولى- أي شعور بالمسؤولية الوطنية، أن تتصرف تجاه الأزمات المتراكمة التي تتعرض لها الدول والمجتمعات العربية اليوم بحد أدنى من المسؤولية أو المبادئ الأخلاقية.
وهذا ما يعطي صورة عن الصعوبات الإضافية التي تواجهها عملية التغيير في أقطارنا، والاحتمالات الكبيرة لتزايد تدخل القوى الخارجية، كما أظهرت ذلك حالة ساحل العاج، حيث يزيد رفض الرئيس السابق غباغبو القبول بنتائج الانتخابات، وتمسكه بالبقاء في منصب الرئاسة مهما كانت النتائج والأخطار، من تدخل الدول الكبرى في مصير البلاد، وربما ارتهان إرادة الرئيس الجديد المنتخب لهذه التدخلات.
وهنا تبرز مسؤولية قوى المعارضة والحركات الاجتماعية ومقدرتها على صوغ أجندة وطنية جامعة، تحرص على توحيد جميع القوى الاجتماعية المنخرطة في عملية التحول، وهي أغلبية المجتمع، وتجهد في سبيل حل الخلافات التي تفصل في ما بينها، خاصة بين إسلاميين وغير إسلاميين، وتسعى إلى ترسيخ الخيار الديمقراطي في إطار الحافظ على استقلال القرار الوطني الذي يتيح وحده إمكانية التفاعل والتضامن بين فئات مصالح متباينة وأحيانا متنازعة.
وقبل هذا وذاك، رفض الانجرار إلى طريق العنف الذي يشكل الدفع إليه وتعميمه الإستراتيجية الوحيدة التي لا تزال تملكها النخب العربية الحاكمة للحط من قدر الشعوب، وتسفيهها في نظر نفسها، وتسويد صورتها، لاستجداء الدعم الخارجي، وقطع الطريق على أي تحولات ديمقراطية فعلية وتبرير التمديد الدائم لحكم القهر والاستبداد.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)