ورقة للنقاش عن الأحزاب في التجربة العربية
تقديم: سعود المولى
ليس هناك معرفة علمية مسبقة، ناجزة، تفسيرية واستنتاجية، حول الحزب السياسي العربي الحديث. وبالتالي فإن الحزب السياسي العربي لا يخضع أو أنه لا يمكن أن يُدرج ضمن أي تصنيف علموي شائع. وهذا الأمر يقضي بالتالي (أو يتطلب منا) أن نحاول إيجاد إطار نظري مرجعي مختلف وجديد ومناسب لقراءة الأحزاب السياسية وفهمها وتحليل سياساتها.
ومن فرضياتنا الأساسية أنه لا وجود أصلًا للحزب الأوروبي الحديث والصافي في البلاد العربية، سواء بالمعنى العلماني الليبرالي الذي يقوم على أساس العقيدة الأيديولوجية أو السياسية (بحسب موريس دوفرجيه )، أم بالمعنى الماركسي اللينيني الذي يقوم على أساس التمثيل الطبقي أو الوحدة الاقتصادية (بحسب لينين وتروتسكي وستالين وأشياعهم ).
كما أن الحزب الحديث قام في أوروبا تلبية لحاجة موضوعية داخلية. بينما الحزب الحديث عندنا نشأ في فترة غلبة القوى الاستعمارية الخارجية على الداخل بعد إنهيار الدولة العثمانية، فلم يتواجد هذا الحزب على المستوى الواقعي بل كان على هامش الحياة السياسية للبلاد وقضاياها .
الحزب العربي الحديث كان مجرد جهاز أيديولوجي مركزي يعكس حاجات ورغبات نخب مثقفة في قطاعات وكتل حديثة؛ وفي الوقت نفسه يتوزع على، ويستند إلى، علاقات تقليدية لا صلة لها بنصه التأسيسي أو بأحلام وأماني مناضليه.. والأحزاب العربية عمومًا ليست أكثر من تشكيلات مركزية منظمة تقوم على تكتلات وتجمعات "أيديولوجية" ،أي أن لحمتها وعصبها وعشيرتها هي الأيديولوجية دون أن يعني ذلك أنها تخرج عن السياق العام للإنقسامات التقليدية في البلاد والتي تفعل فيها عوامل الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي ، الأمر الذي يجعل هذه الأحزاب أسيرة (عن وعي أو عن غير وعي: لا فرق) للتجاذبات والمحاور الطائفية والجهوية وغيرها، كما للتدخلات الخارجية.
ولكن هذا لا يعني عدم وجود تشكيلات منظمة تحمل اسم الحزب في التاريخ الاجتماعي والسياسي للعالم العربي. هذه الأحزاب لها صيغة خاصة بها سنحاول دراستها.
1- الأحزاب السياسية: بعض التعريفات
ظهرت في أوروبا مبكرًا مقاربتان حول الاحزاب السياسية: بعض علماء السياسة فضلوا المفهوم الواسع عن الحزب السياسي باعتباره يضم مختلف أنواع الكتل والعصب والاتحادات والتجمعات والتشكيلات ، التي تهتم بممارسة السلطة أو بالكفاح من أجل السلطة..وهم بذلك كانوا يعكسون مفهومًا عن الظاهرة السياسية يرى أنها ولدت مع ولادة البشرية (أي منذ انقسام المجتمعات البشرية ما بين حكام ومحكومين... وولادة السلطة السياسية). وهذا المعنى للحزب يشمل ما نعرفه عن الأحزاب العربية الإسلامية السابقة على العصر الحديث والتي تحمل سمة الانقسامات العصبية القبلية أو المذهبية الدينية كالحزب القيسي واليمني والحزب العلوي والهاشمي والعباسي والأموي وصولًا إلى الانقسام في جبل لبنان بين يزبكي وجنبلاطي أو شهابي ودستوري...
وعلى مقلب آخر تبنى علماء سياسة آخرون مفهومًا أكثر تحديدًا ودقة يربط الحزب السياسي ببروز ظاهرة المؤسسات التشريعية والنظم الانتخابية... وهم بذلك عكسوا في الحقيقة مفهومًا عن الظاهرة الحزبية يعتبرها وليدة القارة الأوروبية وجاعلين تاريخ ظهورها لا يرقى إلى أبعد من القرن التاسع عشر..
كان ماكس فيبر أول من أشار إلى الأصل البرلماني للحزب السياسي وتبعه في ذلك موريس دوفرجيه الذي قال إن الحزب الحديث نشأ بعد قيام البرلمانات والانتخابات . وهو ناقش في عمله الرئيس (الأحزاب السياسية 1951) مسألة تحول الكتل أو الأجنحة البرلمانية factions
ونوادي النخب السياسية clubs إلى تلك الأحزاب السياسية الحديثة. ومما جاء به أن الكتل والأجنحة والنوادي ليس هي الحزب السياسي الحديث ولكنه مثلها تعبير عن كونه جزءًا من كل، وعلى سلوكه سلوكًا شموليًا احتوائيًا للكل، في آن. وبحسب دوفرجيه فإن الحزب يقوم على عقيدة أيديولوجية أو سياسية تجمع الناس في اتجاه العمل من أجل الحكم أو السلطة.
وقامت نظرية هذه المدرسة على مسلمة انقسام الأحزاب السياسية إلى شكلين لا غير تبعًا لأصل منشأ ولادتها:
- الأحزاب ذات المنشأ الداخلي وهم يقصدون بها تلك الأحزاب التي ولدت من رحم تطور داخلي عرفته المؤسسات التشريعية في أوروبا..وقالوا إن هذا الشكل هو الذي عرفته معظم الأحزاب الأوروبية منذ الثورة الفرنسية 1789.
- الأحزاب ذات المنشأ الخارجي: وهم يقصدون بها تلك الأحزاب التي ولدت من خارج المؤسسات التشريعية وشكلت تحديًا في وجه النظام القائم وهدفت للوصول إلى التمثيل البرلماني. هكذا ولدت كل الأحزاب الإشتراكية في القرن التاسع عشر، وتلتها الأحزاب الشيوعية لاحقًا (بعد الثورة الروسية)، ثم الأحزاب المسيحية والمسيحية- الديموقراطية بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى العموم فقد جعل علماء السياسة أحزاب العالم الثالث تنتمي إلى النمط الثاني خصوصًا وأنها كلها كانت في الأساس حركات استقلال وطني أو تجمعات دينية أو طائفية أو إثنية أو عشائرية تطورت فيما بعد خارج إطار النظام البرلماني الشرعي السائد والذي أقامه الاستعمار أو الانتداب الخارجي.
وهذه المقاربة البرلمانية افتقدت شيئًا أساسيًا حين لم تستطع أن تفهم سبب وجود وقوة الظاهرة الحزبية السياسية في العالم الثالث .
وكخلاصة نقول إن مصطلح الحزب السياسي قد ولد بحسب هذه النظريات السالفة الذكر في القرن التاسع عشر مع تطور مسألة التمثيل السياسي ومؤسساته وانتشار ظاهرة الانتخابات والتصويت في أوروبا والولايات المتحدة. وكان المقصود بالحزب تلك المنظمات ذات الأهداف السياسية المتمثلة في استلام الإدارة العامة بواسطة تنافس انتخابي مع حزب أو أحزاب أخرى. ومع الوقت صار مصطلح الحزب يطلق على كل منظمة سياسية حتى تلك غير المنخرطة في نشاط انتخابي في سياق عملية تدأول السلطة... من مثل الأحزاب الصغيرة التي لا تملك توقعات أو حظوظًا جدية موضوعية بالوصول إلى مواقع سلطوية من خلال الانتخابات، والمنظمات الثورية التي تدعو إلى تدمير النظام الانتخابي أصلًا، والجماعات الحاكمة في الأنظمة الشمولية.
ويبدو أن النظرية التي تقول إن الاحزاب السياسية هي ثمرة التطور في أنظمة الانتخابات البرلمانية الأوروبية وهي علامة على التحديث السياسي، قد جعلت المنظّرين للتحديث وللتطورية السياسية يركّزون أكثر من غيرهم على دراسة الأحزاب في البلدان النامية ليس فقط باعتبارها أداة أو وسيلة للتحديث والتطوير وإنما أيضًا باعتبارها ثمرة لأوضاع وسياقات مختلفة عن أوضاع وسياقات أوروبا وأميركا الشمالية للقرنين التاسع عشر والعشرين.
وعلى هذا الصعيد هناك كمية كبيرة من الدراسات والكتابات التي حاولت إيجاد وصلة ما بين أزمات التطور والتحديث السياسي والظاهرة الحزبية. وأبرز من قام بذلك هما جوزيف لابالومبارا ومايرون فاينر حيث حاولا أيضًا إيجاد صلة ما بين أزمات الشرعية والاندماج والمشاركة من جهة وما بين السياقات والظروف الخاصة بولادة الظاهرة الحزبية من جهة أخرى، وذلك في إطار نظريتهم التاريخانية حول الأحزاب السياسية. وبالنسبة لهما فإن أزمة الشرعية كانت السبب الرئيس لتحفيز ولادة بعض أوائل الأحزاب السياسية في أوروبا والعالم الثالث في آن معًا.. وبحسب ما كتباه فإن فشل الحكومات في الرد المناسب على تحدي أزمة الشرعية (أكان ذلك في فرنسا الملكية أواخر القرن الثامن عشر أم في فرنسا الاستعمارية أواخر الخمسينيات من القرن العشرين) يولِّد أزمة مشاركة يتطور معها ومن خلالها تشكيل الأحزاب السياسية التي تمسك بكلتي يديها بمهمة إيجاد منظمات محلية ونيل الدعم المحلي. وفي الوقت نفسه تفتح أزمة الاندماج-التكامل الطريق أمام ولادة بعض الأحزاب السياسية: والمقصود بالاندماج-التكامل هنا الاندماج الوطني (القومي) للجماعات المحلية أو الإثنية-الثقافية-السياسية التي كانت ضحية التقسيم والعزل (في إيطاليا وألمانيا تشكلت الأحزاب في خضم هكذا أزمة)... وفي الوقت نفسه أيضًا فإن تشكل الأحزاب السياسية يتوافق في معظم الحالات مع أزمة المشاركة. فقد أفضت التغيرات الاجتماعية- الاقتصادية الكبرى التي حصلت في أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى تغيرات هائلة على مستوى النظام الاجتماعي. فسقوط النظام الإقطاعي سمح للقوى الاجتماعية الجديدة أن تطالب بالتمثيل السياسي المناسب لحجمها ووزنها (الطبقات الوسطى خصوصًا ثم الطبقات العمالية لاحقًا) وأن تشارك بالتالي في العملية السياسية وفي صنع السياسة.
لقد كان لمقاربة التطويرية السياسية (التي صاغها المجلس الأميركي للبحوث في العلوم الاجتماعية برئاسة غابرييل ألموند) مصدران مرجعيان: الأيديولوجية الليبرالية الأميركية من جهة، وأيديولوجية التطور من جهة أخرى. وهي ساعدت بشكل عام في تطوير أدبيات المدرسة السلوكية في دراسات التطويرية السياسية. والهم الرئيسي لهذه النظريات تمثل في كيفية جعل التطور السياسي في البلدان والدول حديثة الاستقلال في آسيا وأفريقيا تسير في اتجاه إقامة أنظمة ديموقراطية ليبرالية. وكان ذلك جزءًا واحدًا من نظرية أوسع تركز على التحديث وتقوم على التمييز في العلوم الاجتماعية بين الحداثة والتقليدية... وهذا التقسيم يرجع إلى أفكار ماكس فيبر عن التقليدية باعتبارها حقيقة ماقبل-دولتية وماقبل-عقلانية وما قبل-صناعية. وبحسب المنظرين لهذه المقاربة فإن الدولة القومية العلمانية الجديثة هي قمة التطور وهي تحل محل السلطات التقليدية المتعددة سلطة سياسية موحَّدة وموحِّدة علمانية وقومية؛ وإن الأسس العامة للتطور السياسي التي ينبغي على المجتمعات تأمينها هي: المساواة، التمايز التخصصي، والقدرة.
* المساواة بمعنى سيادة القواعد الحقوقية والقوانين على كل جوانب المجتمع بحيث يتساوى أمامها كل المواطنين بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو الأصل الاثني أو الطبقي الخ..وبحيث يكون تولي المناصب العامة على أساس الكفاءة والقدرة على انجاز المهمات والمنافسة الحرة في ذلك..وليس على أساس الانتماءات القبلية والعشائرية والعائلية والدينية أو العلاقات الشخصية (المحسوبية والزبائنية).
* والتمايز بمعنى التخصص الذي يميز ويخصص الأدوار.
* والقدرة بمعنى قدرة النظام السياسي على حل النزاعات وعلى الاستجابة للطلبات الشعبية بالمشاركة والعدالة.
هذه المدرسة رأت في الحزب السياسي أداة تحديث كما الدولة وأنه مثلها يركز على التخصص في الأدوار وعلى الفصل بينها.
وعلى المستوى ذاته كان كارل ماركس قد أوضح أن الرأسمالية والبورجوازية الصناعية هي قوى ثورية تكنّس رجعية "التقليدية" وتحطّم أشكال الإنتاج والاجتماع التقليدية. واعتبر هو وأنغلز في البيان الشيوعي أن الطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا) هي الوحيدة القادرة على إعادة تنظيم المجتمع تنظيمًا ثوريًا يستجيب لحاجات النمو من جهة وزوال مجتمع الطبقات من جهة أخرى، وبالتالي فهي تحتاج إلى حزب منظم على المستوى العالمي (أممية الاتحادات العمالية) لقيادة كفاحها. وجاء لينين ليقول إن الحزب بناء فوقي سياسي وهو تعبير عن مصالح طبقية وأن لكل طبقة حزبها الذي يدافع عن مصالحها والحزب الشيوعي هو حزب الطبقة العاملة وهو تنظيم طليعي من خارج الطبقة العاملة يتشكل من مثقفين ومناضلين محترفين ملتزمين ويقوم بإدخال الوعي الثوري إلى الطبقة العاملة لتثويرها وتنظيمها وقيادتها. وقال ستالين إن الحزب هو القطاع الطليعي من الطبقة العاملة يتشكل ممن هم الأكثر وعيًا ونشاطًا في صفوفها.
الإسهام الجديد لهانتنغتون:
أعطى صموئيل هانتنغتون أهمية أكبر للطابع المؤسسي للتحديث خصوصًا لدور الأحزاب السياسية في البلدان النامية. فهو يقول بأن التحديث يستلزم بالضرورة "تعبئة اجتماعية" و"مشاركة سياسية" وهذه قد لا تقود الى الديموقراطية والاستقرار والتمايز البنيوي والاندماج-التكامل الوطني، وانما على العكس من ذلك الى انحلال النظام السياسي وزعزعة الاستقرار والفساد والعنف، اذا لم تكن عمليات التعبئة الاجتماعية والمشاركة السياسية مؤطرة عبر مؤسسات سياسية قوية وفاعلة.وهنا تكون الأحزاب السياسية أهم ركائز هذه االمؤسسات..وبالتالي فإن تشكيل وتطور الأحزاب السياسية يصبح بحسب هانتنغتون واحدة من ضرورات التحديث السياسي في البلدان النامية. ومعارضة هذا الاتجاه تأتي بحسب هانتنغتون من 3 قوى:
1- المحافظون الذين يرون فيها تحديًا جديًاو خطرًا على نظامهم الاجتماعي التقليدي.
2- الإدارة التي تخاف من المشاركة السياسية لأن نموذجها هو بيروقراطية تبحث عن الفعالية وتجنب حالات النزاع..
3- الشعبوية التي تدعو الى ديموقراطية من دون أحزاب لأن الأحزاب هي مصدر الفساد الإداري والانقسامات الاجتماعية واللا استقرار السياسي والتدخلات الخارجية.
نقد نظريات التطويرية السياسية:
من الناحية الأيديولوجية ارتكزت هذه النظريات على تحيز إلى النموذج الغربي الرأسمالي في التطور. فجعلت التحديث يساوي التغريب ووضعت النظام الاجتماعي الغربي نموذجًا يحتذى.
وهذه المقاربة اعتبرت المنهج الوظيفي ومفاهيم النظام والنسق أطرًا مفاهيمية ونظرية موجِّهة لدراسة كل المجتمعات، في حين أنها لم تكن مناسبة للمجتمعات النامية.. كما أنها أهملت الأبعاد التاريخية والاقتصادية-الاجتماعية كمتغيرات أساسية في التحليل النظري..وفشلت في فهم حقيقة ونتائج اللامساواة في توزيع السلطة والثروة على المستوى الدولي (الشمال الغني والجنوب الفقير)... يبقى أن هذه المقاربة ما تزال صالحة لالقاء الضوء على دور الأحزاب السياسية كأدوات/وسائل للتطوير والتحديث في العالم الثالث.. فالأحزاب السياسية بهذا الاعتبار واحدة من عدة أدوات/وسائل كالجيش والبيروقراطية والزعامة الكاريزمية، التي تساهم في حل أزمات التطور مثل أزمة الاندماج الوطني وأزمة المشاركة وأزمة الشرعية.
2- الحزب في الواقع العربي
القول إننا لسنا مثلهم (الغرب) وإننا نحتاج إلى عملية تطوير وتحديث إذ ليس عندنا دولة وحزب ولا حتى نقابات أو مجتمع مدني هو قول خطأ. أصلًا مفاهيم مثل الدولة والحزب والمجتمع المدني حديثة في الغرب نفسه. وفي الشرق نشأت أول مدن في التاريخ وأول مدن/دول مثل المدن الفينيقية وقبلها مدن بابل وآشور ...إلخ.
الناس، كل الناس، والمجتمعات البشرية، كل المجتمعات البشرية، أنتجت وتنتج أشكالًا من التتنظيم والانتظام الاجتماعي السياسي خاصة بها ومتطابقة مع واقعها ووفق سياقاتها... إنما تختلف المفاهيم والمصطلحات والمداليل.
ونحن عندنا مشكلة في توطين أو تبيئة المفاهيم الحديثة بالاستناد إلى خبرتنا وتجربتنا التاريخية و إلى لغتنا نفسها.
ويمكن إعطاء أمثلة على مفاهيم ومصطلحات تحتاج إلى توضيح وإعادة تفسير ضمن سياقهاتها المحلية والخارجية: الوطن/المواطن/الأمة/الدولة/...الحزب.
وما يهمنا هنا هو مفهوم ومصطلح الحزب.
الحزب في اللغة العربية
الحزب : جماعة الناس ، والجمع أحزاب ؛ والأحزاب : جنود الكفار ، تألبوا وتظاهروا على حزب النبي، وهم : قريش وغطفان وبنو قريظة . وقوله تعالى :(ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب)، الأحزاب هاهنا : قوم نوح وعاد وثمود ، ومن أهلك بعدهم . وحزب الرجل : أصحابه وجنده الذين على رأيه ، والجمع كالجمع . والمنافقون والكافرون حزب الشيطان ، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضًا بمنزلة عاد وثمود وفرعون أولئك الأحزاب.و(كل حزب بما لديهم فرحون) كل طائفة هواهم واحد . والحزب : الوِرد؛ وورد الرجل من القرآن والصلاة: حزبه . والحزب : ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة وصلاة كالورد... وفي حديث أوس بن حذيفة: سألت أصحاب رسول الله ، كيف تحزبون القرآن ؟ والحزب : النصيب . يقال : أعطني حزبي من المال ؛ أي حظي ونصيبي . والحزب : النوبة في ورود الماء . والحزب : الصنف من الناس . قال ابن الأعرابي : الحزب : الجماعة . والجزب ، بالجيم: النصيب . والحازب من الشغل : ما نابك . والحزب : الطائفة . والأحزاب : الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء ، وفي الحديث ذكر يوم الأحزاب ، وهو غزوة الخندق . وحازب القوم وتحزبوا : تجمعوا ، وصاروا أحزابًا . وحزبهم : جعلهم كذلك . وحزب فلان أحزابًا أي جمعهم... وفي الحديث : اللهم اهزم الأحزاب وزلزلهم ؛ الأحزاب : الطوائف من الناس ، جمع حزب ، بالكسر . وفي حديث ابن الزبير : يريد أن يحزبهم أي يقويهم ويشد منهم ، ويجعلهم من حزبه ، أو يجعلهم أحزابًا ؛ وتحازبوا : مالأ بعضهم بعضًا فصاروا أحزابًا .
الحزب في القرآن والسيرة
ورد استعمال(الحزب) في القرآن على معان عدة، منها:
- الأول: القوم المجتمعون على محاربة النبي ودعوته، قال تعالى : (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (سورة الأحزاب:22).
- الثاني: المجتمعون على الباطل واتباع منهج الشيطان، قال تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون) (المجادلة:19 ).
- الثالث: المجتمعون على اتباع منهج الحق من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان، قال تعالى : (أولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22).
- الرابع: الأمم الكافرة التي سبقت أمة الإسلام، وهي الأمم التي كذبت الرسل، قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ أولئِكَ الْأَحْزَابُ)ص:12-13).
وقد ورد كذلك إطلاق كلمة حزب على نصف الجزء من القرآن. إذ يقسّم القرآن إلى ثلاثين جزءًا كل جزء يحتوي على حزبين بمعنى أن القرآن يتكون من ستين حزبًا ، وكل حزب ينقسم إلى أربعة أجزاء يسمى الواحد منها ربع حزب.
تقسيم المصاحف إلى أجزاء وأحزاب وأرباع أحزاب تقسيم اصطلاحي اجتهادي. والتحزيب الموجود اليوم في المصاحف ليس هناك جزم بأول من وضعه واختاره ، ولكن الذي ينقله البعض أن واضعه هو الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة (110هـ) ، وأن مرجع التقسيم فيه كان على عدد الحروف .
فالحزب بالمعنى العام هو الجزء من الشيء وهو المعنى نفسه في كل اللغات:
Parti – Party – Partei- Partiya
وقد حمل العرب المسلمون حساسية وموقفًا سلبيًا تجاه معنى الحزب بناء على مسألتين دينيتين:
1- غلبة المعنى السلبي على لفظ الحزب لجهة كونه يعني المجتمعون المتحالفون ضد الرسول (وهزم الأحزاب وحده) أو الأمم الكافرة قبل الإسلام.
2- حمل المسلمون السنة عنوان "أهل السنة والجماعة" تمييزًا لهم عن كل الشيع والفرق التي وجدوها لا تحمل موقفًا إيجابيًا من وحدة الأمة أو الجماعة. وقد غلب معنى وحدة الجماعة على أي شيء آخر بحيث صار عنوانًا للمذاهب السنية ابتداءًا من عام الجماعة وهو العام الذي شهد الصلح بين الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وقد أسس الفكر السني على مقولة وحدة الجماعة ومفهوم أهل السنة والجماعة موقفًا يقول إن وحدة الأمة هي من وحدة الخليفة (حديث يقول إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما) وضرورة عدم مفارقة الجماعة أو الخروج عليها... وبالتالي اللاحزبية.
هذا في حين كانت الأقليات الإسلامية (الفرق الباطنية المنبثقة عن التشيع من إسماعيلية واثني عشرية وفاطمية ودرزية وعلوية نصيرية...إلخ) تحمل سمة الباطنية والتقية وهي أول أشكال التنظيم الحزبي السري المكافح الذي تطوّر خصوصًا على يد الفرق الشيعية ومن بعدها الطرق الصوفية وهما باعتقادي امتداد للغنوصية في كل الأديان (ما سنوضحه لاحقًا).
الحزب في التجربة التاريخية العربية
الحزب العربي القديم كان على مثال غيره ائتلافًا أو تكتلًا من قوى وتحالفات قبلية (القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساس عند العرب) من قبيل حلف الفضول وأحزاب قيس ويمن أو في الإسلام الحزب الهاشمي والأموي والعلوي والعباسي...ومثال مصطلح شيعة وهو يعني تمامًا الحزب أو الجماعة من الناس المتشيعة والمتابعة لشخص أو لقضية ... إلخ.
كان الانقسام الحزبي القبلي في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام ما بين حزب قيس أي القبائل العدنانية الحجازية وحزب يمن أي القبائل اليمنية القحطانية وهما تحالفان أو ائتلافان قبليان كبيران قسما العالم العربي وما زالت آثارهما إلى اليوم.
الانقسام القيسي - اليمني حدث في بداية التاريخ الإسلامي، في القرن السابع الميلادي، وأثّر على العرب في أقطارهم وطوائفهم وانتماءاتهم، وأطلق اسم قيس على القبائل العربية من شمال الجزيرة العربية وأطلق اسم يمن على القبائل العربية الجنوبية . وقد جمع كلا الحزبيْن في صفوفهم أبناء مختلف الطبقات والطوائف في العالم العربي، واستمر منذ ذلك الوقت حتى اليوم. وبين هؤلاء، المواطنون الدروز.
من تاريخ الصراع القيسي اليمني عند العرب
المعروف أن بلاد الشام كانت تنزلها سلالات هاجرت أصولها القديمة من اليمن قبل الإسلام بعهود طويلة فطال استيطانها ثم ما لبثت أن طرأت عليها مع الفتح قبائل حجازية شاركتها الاستيطان وقد عرفوا باسم العدنانيين أو النزاريين ثم غلب عليهم اسم القيسية. وقد تكاثر اليمنيون والقيسيون فعموا بلاد الشام بما فيها فلسطين والأردن.
وكان اليمنيون يتيهون على القيسية بأصولهم فقد كانوا في أحد أدوار التاريخ سادة الجزيرة العربية، وكان الخزاعيون حكام مكة قبل قريش وهم من اليمن كما كان الأوس والخزرج في المدينة المنورة من اليمن؛ بينما كان القيسية يتيهون عليهم بأنهم هم هداة هذه البلاد فكان لهذه المفاخرة أثر في التحيز للعصبية التي نهى عنها الإسلام... ولكن مالبث الناس أن عادوا إلى العصبية المقيتة.
واليمنية (قحطان) رايتها بيضاء والقيسية (عدنان) رايتها حمراء وهي من بقايا تقاليد بدوية قديمة.
ملاحظة مهمة: ليس هناك من اعتبار للدين أو للمذهب في الانتساب إلى أحد الحزبين.
3- الديانات القديمة ونشوء الغنوصية الباطنية كأول شكل حزبي سري
يمكن القول أن الأديان تشكل أول ظاهرة حزبية في المجتمعات القديمة حيث إنها كانت تهدف إلى تجميع الناس على طريق وصراط محدد يعارض ما هو سائد في المجتمع من عبادات وسلوكيات. وفي الأديان القديمة كانت الغنوصية أول أشكال الحزب السري الذي يعتمد رموزًا وأسرارًا وعملية تنسيب أو إدخال إلى الجماعة وعملية تنشئة واختبار قبل القبول عضوًا في الجماعة؛ وهذا النوع من الحزبية السرية لا يزال سمة كل الجماعات الباطنية أي تلك التي تقول بوجود معنى باطن للكتب المقدسة، وإنها مؤتمنة على هذا المعنى وتحافظ عليه لأنه هو الحقيقة، وإن معرفة هذه الحقيقة طريقها هذه الجماعة المخصوصة المختارة أو هذا المسلك الخاص المتميز. من هنا ترجمتنا لكلمة الغنوصية بالعرفان أي الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الباطن.
وقد انتقلت هذه الغنوصية عبر كل الأديان وفي الإسلام تمثل الدرزية إحدى أبرز تجلياتها مع الإسماعيلية والعلوية النصيرية.
ومن مرتكزات المعرفة السرية وجود الأسماء الحركية . والأسباب الحقيقية وراء استخدامها هي إعلان الدخول في الدين الجديد أو العقيدة الجديدة فهي ملازمة للتعميد عند المسيحيين وللختان عند اليهود. وكان تلامذةالمسيح يحملون أسماء جديدة بعد دخولهم الدين الجديد مثل بولس شأول... إلخ.
أسهمت الحملات الصليبية في انفتاح المجال أمام الغربيين للتعرف على العالم العربي وعلى الإسلام وخصوصًا على الفرق الباطنية الإسلامية وعلى الفرق المسيحية اليهودية الشرقية التي كانت لا تزال قوية وناشطة وتحمل سمات غنوصية واضحة ومنها خصوصًا الصابئة الحرانيين في العراق.
ولعل الجماعات الصوفية كانت هي الأخرى مركزًا مهمًا لإنتاج الحزبية السرية وتقاليدها أو طقوسها وأسرارها فالفرق الصوفية لم تنفصل عن النقابات التي كانت تمثل طوائف المهن أو الحرف في المدن الإسلامية.
يبدو في كل حال أن أنظمة الماسونية وقبلها فرسان الهيكل وبعدها الكاربوناري الإيطالية (وغيرها)، نقلت عن نظام الفتوة ونظام النقابات الحرفية في المدن الإسلامية القديمة، ناهيك عن النظام الحزبي المحكم لإخوان الصفاء وخلّان الوفاء، وتنظيمات الفاطمية والإسماعيلية، وقبلها كل الفرق الغنوصية العرفانية واليهودية - المسيحية في هذا المشرق. مما يحتاج إلى بحث خاص ليس هنا مجاله.
الصوفية والنقابات والفتوة في المدينة الإسلامية
ارتبطت الطرق الصوفية بالتنظيم الحرفي للأسواق القديمة في المدينة الإسلامية. فقد انتظمت المدينة الإسلامية القديمة، كمحطة تجارية في غالب الأحيان، في أنماط من التنظيم العمراني والسكاني، وأنماط من تنظيم العمل وعلاقات التبادل في الأسواق والحارات، وتوزعت المدينة في دوائر وخطوط من الوحدات الإنتاجية والتجارية والحرفية والسكنية حول الجامع – المسجد كنقطة ارتكاز وصولًا إلى الحارات السكنية المتقاطعة هي أيضًا مع توزع ديموغرافي "مللي" أو عائلي – قبلي، أو اختصاص حرفي مندمج في غالب الأحيان مع طريقة من طرق الصوفية التي كان لها أيضًا فتوتها (أو القبضاي).
ظهرت جماعات الفتوة في بغداد مرتبطة بجماعات " الشطار" و"العيارين" أو قطاع الطرق المنظمين الذين امتازوا بسرقة الأغنياء لصالح الفقراء (أنموذج روبن هود ووليم تل في أوروبا). وبدأ ذلك في القرن الثاني الهجري..ثم ظهرت جماعات الفتوة بين العوام وأسهمت في كثير من الفتن السياسة. فعلى سبيل المثال ترتب على ضعف السلطة العباسية أن انتشرت طوائف الفتوة العيارين ونظموا صفوفهم تنظيما حربيا فكان على كل عشرة منهم عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير؛ وأصبح لهم زي حربي متميز وكانت لهم وقائع مع الدولة والشرطة..
وأسهم العيارون أو الفتيان في الحرب التي دارت في بغداد بين الأمين والمأمون وانضموا إلى الأمين دفاعًا عن بغداد لا عن الأمين نفسه، وقد ذكر المسعودي بطولاتهم الفردية رغم نقص العتاد لديهم.
مع تزايد الضعف العباسي انضم للفتوة الكثيرون من أرباب الحرف وأصبح لطوائف الفتيان قضاة كان أشهرهم في بغداد أبا الفاتك الديلمي وقد حرص على أن يقدم للفتيان فتاويه ونصائحه.
ولا أدل على قوة جماعات الفتوة في أواخر العصر العباسي من أن الخليفة العباسي الناصر أعلن نفسه قائدًا للفتيان سنة 604 هـ وجعل طوائف الفتيان من وسائله في إحكام قبضته على مقاليد الأمور .
وجماعات الفتوة في آسيا الصغرى كان ينادي كل منهم صاحبه بلفظ "آخي" وقد أدخلوا هذا اللفظ العربي في لغتهم التركية وبنفس معناه، بل صارت "الأخية" تعني الفتوة أو الفتيان في مصطلحات اللغة التركية والتركمانية في ذلك العصر حسبما يظهر بين سطور رحلة ابن بطوطة .
وارتبطت الفتوة وقتها بالحرفة، بما يشبه نظام النقابات الحرفية فى عصرنا، ومع الاستقلال الكامل عن النظام الحاكم، والتفاعل الحى مع المجتمع خارج النقابة، فكان يطلق على رئيس الفتيان لفظ "آخي" وهو رئيس الحرفة الذي يجتمع عنده أهل حرفته في زاوية يقيمونها له ..
أما في بلاد الشام فقد عرف الفتوة بلقب القبضاي. وأصل الكلمة تركي (قبا داي) ومعناها الخال الغليظ، وبهذا المعنى يكون الرجل غليظًا ذا مهابة. والمهم هنا كون الخال من ابرز معالم نظام الفتوة الإسلامي العريق. ولعله في البداية أريد الوصف بهذا المعنى، ولذا امتزجت صفة القبضاي في بلاد الشام ومنها مدن بيروت وطرابلس بمعنى الفتوة، حين يراد بها "مروءة الرجل وصدق لسانه، واحتمال عثرات إخوانه، وبذل معروفه لأهل زمانه، وكف الأذى عن أباعده وجيرانه" . وقد عرفت المنطقة نظام القبضايات، مع التشكل الجديد للمدن والأحياء داخلها، وحاجة السكان إلى مرجعية يعودون إليها طلبًا للمشورة أو المساعدة. وكان هناك رجال يتصفون بالهيبة والأمانة والشهامة والكرم ونصرة الضعيف ومساعدة الفقير، كانوا من المبادرين إلى لعب هذا الدور، في وقت كانت المدينة تنشأ خارج نظام القبيلة والعشيرة، فاختارت هذا النظام المديني المقتبس عن الثقافة الشعبية لمعنى الفتوة .
هذه النقابات والطوائف وتنظيمات الفتوة كانت شكلًا تنظيميًا حزبيًا سريًا له أيضًا أسراره وطقوسه.
ترجيحي أنه من خلال الإسماعيلية والصوفية والفتوة عمومًا انتشر الشكل التنظيمي السري ووجد أهم تجلياته في الماسونية التي ترجع في أصولها إلى فرسان الهيكل الذين اتخذوا وجهة جديدة داخل المسيحية منذ تعرفهم على الشرق وأسراره ما أدى إلى تدميرهم بتحالف من الكنيسة والملوك الأوروبيين في أعوام 1313-1317 ، ومنهم جاءت الماسونية لتكمل مسيرتهم فكان العداء المرير بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، و هو عداء انتقل إلى كل مجتمعاتنا العربية من دون معرفة أصله وفصله.
إذًا بدأت الأحزاب مع الطائفة الإسماعيلية وفرقة إخوان الصفا التي كانت عبارة عن أول اشكال التنظيم ولعل طائفة الحشاشين الشهيرة هي أولى الفرق أن تكون في أصل انتقال هذه المعرفة إلى الغرب عبر فرسان الهيكل والماسون. ولعل أصل كلمة الحشاشين التي نقلناها عن الغربيين خطأ على أنها ترجمة لـ Assassins هي من كلمة العسّاسين بمعنى حراس القلعة أو حراس المدينة وهي كلمة لا يزال أهل حلب يستخدمونها إلى اليوم للإشارة إلى فتةتهم وقبضاياتهم وأبطال الدفاع عن مدينتهم.
4- لمحة تاريخية عن الأحزاب السياسية الحديثة في لبنان
ظهرت أولى أشكال التنظيم الحزبي الحديث في الدولة العثمانية مع دخول الماسونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي ضمّت نخبة القوم في المجتمع المديني العثماني. كان المحفل الماسونيّ المكان الوحيد المتاح للقاء والتشاور وبناء الخطط والمؤامرات.
لكن جرى مقاومة هذا التّشكل من قبل الكنيسة الكاثوليكية وذلك بسبب العداء القديم بين الكنيسة والماسون في أوروبا ومنها انتقلت الحرب ضد الماسونية إلى الإسلام.
أول المصلحين المسلمين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده انضموا إلى المحافل الماسونية لأنها كانت المكان الوحيد للالتقاء بنخب المجتمع المسلم في تلك الأيام ولتشكيل قوى ضاغطة على الحكام بسبب سيطرة الحكام على المساجد وهي المكان المفضّل للتجمع والتشاور والتحرك.
ولكن سرعان ما تخلى الأفغاني وعبده عن المحفل وقاموا بتأسيس أول حزب عربي من خلال مجلة العروة الوثقى وجمعيتها العالمية ومن ثم الحزب الوطني في مصر.
وقد اشتغل الأفغاني على تنمية الصحافة كوسيلة حديثة للتنظيم والتعبئة، وتعاون في ذلك مع أديب اسحاق المسيحيّ ومع يعقوب صنّوع اليهوديّ منشئ أول صحافة نقدية ساخرة (مثل أبو نظارة والتنكيت والتبكيت وغيرها).
الصحافة كانت إذًا هي الأداة الثانية للتحزيب وبناء التجمعات السياسية بعد الماسونية.
كما استخدم الأفغاني المقاهي للالتقاء بالناس وتعبئتهم وتحزيبهم على الرغم من عمامته وموقعه الديني فهو حاول استخدام شتى الوسائل المتاحة.
ترافق هذا التشكل الحزبي الأولي مع انتشار الوعي السياسي وانتشار فكرة وجوب وجود تنظيم سياسي للجهود والطاقات. ولكن في هذه المرحلة كانت النخبة المثقفة من أبناء العائلات الغنية من كبار الظباط ، والدبلوماسيين، ومشايخ القبائل الإقطاعيين، هي فقط التي شاركت في هذا النوع من الحزب الإصلاحيّ لأنها وحدها كانت في المدن الكبرى تتلقى التعليم وتختلط بكل ما تتيحه المدينة من اختلاط فكري وثقافي وسياسي ... إلخ.
المحطة الثانية في نشوء الأحزاب السياسية الحديثة في بلادنا كانت مع بدايات الشعور بقرب سقوط الدولة العثمانية مع ظهور علامات الإنحطاط على الدولة وازدياد التدخلات الأجنبية فيها. خلال هذه الحقبة انتشرت النزعة لتأسيس دول قومية مستقلة سياسيًا وامتدت لكل المناطق المسيحيّة الخاضعة للدولة العثمانية مثل اليونان والبلقان (بلغاريا وهنغاريا وصربيا وغيرها)، وكانت دعوة الإستقلال القوميّ لهذه المجتمعات ذات طابع ديني مسيحي مدعومة من كل دول الغرب لتفتيت الدولة العثمانية. ولا ننسى أن كلًا من إيطاليا وألمانيا لم تتوحد وتنشأ كدولة قومية إلا في فترة 1860-1870 .
وهكذا امتدت شرارة هذه الدعوة إلى الأقليات الدينية في بلاد الشام للحصول على استقلالها ولكن من ضمن الدولة العثمانية. وقد تميّزت بلاد الشام بالتنوع الدينيّ . ومن ثم تأسّست التشكلات الحزبية السياسية في زمن القوميات الأوروبية مثل الصهيونية ومطلب إنشاء وطن قومي لليهود. وفي الفترة نفسها كان هناك من يطالب بوطن قومي للمسيحيين المشرقيين يكون في لبنان.
التيارات الحزبية اللبنانية الرئيسة
في لبنان انقسمت القبائل التي سكنته ما بين قيسية ويمنية، وتحولت الطوائف الأقليات إلى تشكيلات حزبية سياسية عسكرية بهدف حفظ الذات (الدروز والموارنة تحديدًا) في حين تماهى أهل السنة (ومعهم الأرثوذكس والكاثوليك لاحقًا) مع الدولة والتحقوا بها على قاعدة مدينيتهم.
الدروز والانقسام القيسي اليمني
بلغ الصراع أوجه عند الدروز في معركة عين دارا عام 1711 بين القيسيين واليمنيين، حيث لاقى اليمنيون فشلًا ذريعًا وخسارة فادحة، قضت على مواقعهم في السياسة اللبنانية. وقد هاجر معظم الدروز الذين ينتمون إلى الحزب اليمني إلى جبل حوران في سوريا. وبزوال القسم اليمني من لبنان، انقسم بدوره المجتمع الذي بقي في لبنان إلى تقسيمات جديدة. ففي أعقاب معركة عين دارا ظهرت في المجتمع الدرزي اللبناني مجموعتان من الانقسامات الداخلية، الأولى هي الانقسام الشقراوي الصمدي، والثانية الانقسام الجنبلاطي اليزبكي، وضمت الشقراوية جميع الذين أيدوا عائلة أبو شقرا وتبعوها، وضمت الصمدية جميع الذين أيدوا عائلة عبد الصمد وتبعوها. وقد حل الانقسام الجنبلاطي اليزبكي محل الانقسام الشقراوي الصمدي وعلى الأسس العائلية نفسها.
لم تلقِ ِالمصادر التاريخية، الضوء الكافي على أصل هذه الانقسامات وتطورها، إلا أن الاعتقاد السائد، هو أن هذه الانقسامات هي استمرار للانقسام القيسي اليمني.
عبر تاريخ لبنان، لعبت العصبيات العشائرية والتضامن الطائفي دور التيارات النابذة (forces centrifuges) بحيث أدت الصراعات بين الداخل العربي-الإسلامي والخارج الغربي- المسيحي إلى قيام حواجز نفسية منعت التحام سكان الجبل بالسواحل والسهول الداخلية، بالرغم من الوحدة الثقافية-اللغوية-العرقية التي تجمعهم في البوتقة الحضارية العربية...
للمتصرف أوهانس باشا كلمة جميلة حول طبيعة هذا الوضع اللبناني إذ يقول
C’est un mélange hybride de féodalité arienne et de tribalisme sémite
"إنه مزيج هجين من نظام إقطاعي آري ونظام عشائري سامي"
استقرت قواعد توزيع السكان والطوائف في القرن الثالث عشر-الرابع عشر (إثر حملات المماليك على جبيل وكسروان والشمال)، وبعد التحولات الاموية فالعباسية، أرسى ذلك تفكك المناطق اللبنانية وانعدام الوحدة السياسية والوطنية برغم سيادة اللغة العربية وعلاقات القرابة العربية. والعصبيات العشائرية الطائفية كانت قوى عسكرية حزبية في الوقت نفسه (منذ الانقسام القيسي اليمني القديم) ... ويلحظ هنا أن التوزيع الجديد تم على حساب الشيعة الذين جرى اضطهادهم وطردهم من مناطق جبيل-كسروان والشمال وغيرها، ما سيكون له أثره اللاحق في تشكيل الأحزاب الشيعية وارتباطاتها ومطالبها.
أدى النظام الإقطاعي الفدرالي شبه المستقل ذاتيًاوالذي قام عليه الحكم العثماني للبنان، إلى ظهور التيارات الجاذبة (forces centripètes) التي ساعدت على بلورة الشعور الوطني اللبناني لاحقًا (بين الدروز والموارنة في الجبل تحديدًا، ومعهم السنة والأروام من أهل المدن المرتبطين بالدولة دائمًا)... حيث يبدو أن فترة الإمارة في الجبل عرفت وئامًا طائفيًا واختلاطًا سكانيًا جغرافيًا واقتصاديًا، على قاعدة وجود إدارة سياسية-عسكرية مشتركة خلقت قواسم وطنية مشتركة.وينبغي أن نلحظ هنا أيضًا غياب الدور الشيعي وتهميشه بالكامل.
ضاعف نظام الامتيازات العثماني للدول الأوروبية ومعه نظام الحمايات الأجنبية للطوائف المسيحية ، ونظام الملل العثماني في الإدارة الداخلية لشوؤن الطوائف، من سيطرة وسطوة الزعامات الدينية والعائلية على طوائفها وعشائرها. وبذا فإن التيارات النابذة والتيارات الجاذبة كانت تتصارع على أرضية التوازنات الخارجية بين السلطنة العثمانية ودول أوروبا.. خاصة وأن الدخول الغربي الاقتصادي- الاجتماعي والثقافي- التربوي ، فاقم من التفاوتات بين المناطق والطوائف اللبنانية.
ارتبط انهيار نظام الإمارة واندلاع النزاع الطائفي الأول (1840) ثم الثاني(1860) بتوازنات الصراعات الأوروبية حول الرجل المريض (الدولة العثمانية)، وببحث الطائفتين المارونية والدرزية عن دعم خارجي للاستقواء به في الداخل دفاعًاعن ميزان قوى قائم أو لتعديله.. فالمثال القوي على الصلة ما بين الاستقواء بالخارج والغلبة في الداخل تقدمه حالة الموارنة والدروز في الفتنتين الأولى والثانية، حيث أدى الصراع الدولي للسيطرة على المنطقة إلى صراع بين الإقطاعيين اللبنانيين على السلطة المحلية، على قاعدة استشعار الموارنة بقوتهم المستجدة للتخلص من الإقطاع الدرزي والحكم العثماني وبتشجيع أوروبي مماثل لتشجيعهم الحركات القومية المسيحية في البلقان..الأمر الذي حدا بالموارنة إلى طلب الدعم الفرنسي، وبالدروز إلى طلب الدعم الإنكليزي....
نظام القائمقاميتين ونظام المتصرفية كانا نتيجة حرب أهلية داخلية من جهة، وتدخلات دولية خارجية من جهة ثانية، وأنتجا توازنات جديدة في علاقة الدولة العثمانية والدول الأوروبية (ازدياد النفوذ الأجنبي، مقتضيات التوفيق بين مصالح وسياسات الدول الغربية المتصارعة، وبينها وبين الدولة العثمانية)، كما في علاقات الطوائف اللبنانية وميزان القوى بينها. وقد كان النمو الديموغرافي والاقتصادي والثقافي للموارنة (على حساب الدروز في الجبل) محمولًا على هجوم غربي كاسح في الشرق، مدعاة للفتن والحروب الأهلية. وينبغي الاستفادة من هذه التجربة للمقارنة بوضع الشيعة اليوم في المعادلة اللبنانية وهو الوضع الذي يفسر قوة حزب الله وتمثيله الفعلي لمصالح ومطامح طائفة في طور نمو وازدهار على كل المستويات مدعومة بقوة خارجية تتماهى أصلًا بها من حيث الدين والأيديولوجية تمامًا كما كان التماهي الماروني بالغرب عمومًا وبفرنسا خصوصًا (وكانوا يسمونها الأم الحنون) ، والتماهي السني التقليدي بالدول العربية القومية بعد الدولة العثمانية.
في أساس تبلور التيارات والقوى اللبنانية نجد سياسات التدخل الأجنبي في دعم استقلال الأقليات عن الدولة العثمانية، ووراثة تركة الرجل المريض، ونموذج اليونان والبلقان كان المثال يومذاك. فيكون الاستقواء بالخارج (الغربي) أساسًا لغلبة داخلية (مارونية-مسيحية). كما نجد الاستقواء بالدولة العثمانية كأساس لاستمرار الغلبة المقابلة (إسلامية-سنية-درزية) . وقد انعكس ذلك بالطبع وبالضرورة على واقع ودور التشكيلات الأمنية والعسكرية كما التكتلات الحزبية السياسية. وانعكس أيضًاعلى فهم المسلمين لنشوء دولة لبنان باعتباره من ثمار الهزيمة الإسلامية العثمانية في وجه الغرب.
انطلقت الفكرة اللبنانية (والتيار القومي اللبناني) من الوجود الماروني المستقل (والرافض لصيغة الحكم الإسلامي العثماني)، وبعد نمو القوميات في أوروبا الشرقية والعدوى التي وصلت إلى بلاد الشام جراء ذلك... والكنيسة كانت هي العمود الفقري لتلك الفكرة والجسم الذي تجسدت فيه قبل قيام دولة تكرسها. وهذه الحزبية – العسكرية- الدينية كانت الأساس الأيديولوجي والتنظيمي لليمين المسيحي في المرحلة اللاحقة.
أما التيار الإسلامي العام فكان عثمانيًا يرفض انهيار الدولة أو تمزيقها وتقسيمها، وهو تجسد في الزعامات السنية في المدن كما في زعامات القبائل والعشائر والطوائف الملتحقة بالسلطة المركزية والمستفيدة منها . هذه الحزبية- العسكرية - الدينية المرتبطة بالدولة كانت الأساس الأيديولوجي للتيارات الإسلامية والقومية اللاحقة.
في حين أن التيار القومي السوري-العربي نما وتطور على قاعدة حقوق الأقليات، وخوف تلك الأقليات من تياري اللبننة الماروني والعثمنة الإسلامي، وذلك في مرحلة ما قبل سقوط الدولة العثمانية. أما بعد سقوط الدولة فقد افترقت مصائر هذا التيار إلى قومي سوري أقلوي رومي (أرثوذكسي-كاثوليكي) دعمته فرنسا أولا ثم بريطانيا لاحقًا ، وقومي عربي أكثري سني دعمته بريطانيا منذ الثورة العربية الهاشمية 1915.
تدرجت وتطورت التشكيلات العصرية أو الحديثة من المستوى البسيط (الجمعيات والنوادي والحلقات الفكرية) إلى مستواها المعقد والمركب في المرحلة المعاصرة. وكانت الجمعية العلمية السورية أول حلقة فكرية في هذا الاتجاه (بيروت 1847-1852) وشكل المسيحيون نواتها وعصبها. ثم تأسست جمعيات وحلقات ونواد في طرابلس وبيروت ودمشق ضمت عربًا وغير عرب (أتراك خصوصًا) واتصلت كلها برجال ومبادئ تركيا الفتاة. وفي حين كانت الجمعيات المرتكزة إلى مثقفين بورجوازيين مسيحيين متشربين بالأفكار الأوروبية تطالب بالانفصال عن الأتراك منذ العام 1880 (جمعية بيروت السرية) ثم تجتمع في باريس عام 1905 لصياغة موقف انفصالي بتعابير ومفاهيم أوروبية، فإن وجهاء المسلمين كانوا يطالبون بالإصلاح وبالحفاظ على الدولة العثمانية.
وفي عام 1908 أدى الانقلاب الدستوري في تركيا إلى تسريع نشوء حركات وجمعيات سياسية كثيرة أبرزها جمعية الاخاء العربي، وجمعية العهد، والعربية الفتاة، والجمعية القحطانية، والمنتدى الأدبي، وصولًا إلى حزب اللامركزية العثمانية؛ وكلها كانت تطالب بالاصلاح واللامركزية ضمن إطار السلطنة العثمانية.
وفي أساس الحزبية الجديدة نخب كانت ترى في الوضع الدولي الناشئ عن ضعف وتمزق الدولة العثمانية قاعدة لعمل "استقلالي" لامركزي أو انفصالي عن الدولة المنهارة ولتأسيس كيانات جديدة تحقق طموحاتها واماني مواطنيها العرب ، خصوصًا في بلاد الشام. وهكذا كان المؤتمر العربي الأول بباريس (حزيران 1913) المحطة التي تبلورت فيها حزبية لبنانية جديدة جمعت التيار اللبناني المسيحي بالتيار القومي السوري-العربي (مسلمين ومسيحيين) على قاعدة العداء للتتريك.
اما بعد الحرب العالمية الأولى فقد افترقت هذه التيارات بفعل عوامل داخلية وخارجية: المسلمون دعوا إلى وطن سوري مستقل كمقدمة لبعث الوجود العربي (وآية ذلك حكومة فيصل في دمشق 1918-1920 ثم المؤتمرات السورية-العربية المتكررة). فيما أيد الموارنة إقامة كيان وطني لبناني مستقل يضمن حقوقهم ويحمي وجودهم في المنطقة..وسار الاورثوذوكس والكاثوليك نحو قومية سورية-عربية أكثر تحديدًا. ولم يكن للأقلية الإسلامية الشيعية (في لبنان) أي حضور سياسي او حزبي . كما أنه صار الحديث يومها عن وطن قومي مسيحي في لبنان على غرار الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
بعد قيام دولة لبنان الكبير(1920) تفاقمت التناقضات القديمة الطائفية السياسية والتدخلات الخارجية وأهمها الحرب الباردة الفرنسية-البريطانية (1920-1936) ودفعت التيارين إلى الصدامات. وبسبب ذلك لم يحصل لقاء وطني لبناني على معنى لبنان ودوره ولا حتى على وجوده. مؤتمرات المسلمين كانت تطالب بالوحدة السورية والعربية؛ وعرائض ومواقف المسيحيين كانت تطالب بالكيان اللبناني في ظل الانتداب.
في العام 1936 انعقد مؤتمر الساحل يطالب بالسيادة الوطنية (أي زوال الانتداب) في إطار الوحدة السورية كمرحلة إلى الوحدة العربية،وبالتوزيع العادل للوظائف العامة بين مختلف الطوائف. بالمقابل أكد الرئيس اميل اده على الروابط مع فرنسا وبضرورة حمايتها للمسيحيين من المحيط العربي-الإسلامي. وقد تأسس حزب الكتلة الوطنية على هذا الموقف القومي-اللبناني المتحالف مع الخارج .في حين تكتلت مجموعة حزبية-سياسية حول الشيخ بشارة الخوري(الكتلة الدستورية) على أساس السعي للانفتاح على المسلمين اللبنانيين وعلى العرب. اتفاق الرئيس بشارة الخوري مع الزعماء السوريين والعرب هو الذي سهّل انتخابه رئيسًا للجمهورية العام 1943 ووصول رياض الصلح إلى رئاسة الحكومة (ناهيك عن الدور البريطاني الأكيد).
الموقف السني التقليدي جسده آل الصلح: رياض الصلح في مؤتمر دمشق(1928) طرح مقولته الشهيرة:"أنا افضّل أن أعيش في كوخ داخل وطن لبناني من أن أعيش مستعمرًا في امبراطورية عربية"...كاظم الصلح طرح في مؤتمر الساحل (1936) مقولته عن لبنان "بين الاتصال والانفصال"...هذان الموقفان أسسا للتطور الإسلامي السني باتجاه اللبننة.
ولم يكن صعبًا على الشيعة أن يكونوا لبنانيين نظرًا لحرمانهم واضطهادهم خلال العهود المملوكية والعثمانية. نذكر هنا مواقف الزعماء عادل عسيران وصبري حمادة وكامل الأسعد والمرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين، وهم بدأوا منذ العام 1932 بالدعوة إلى الاندماج في الكيان اللبناني الجديد.
أما على مستوى الأحزاب السياسية فقد شهد العام 1936 أيضًا ولادة أحزاب النجادة والكتائب والقومي السوري. وتطور عمل الحزب الشيوعي (المولود عام 1924) مع وصول الجبهة الشعبية اليسارية إلى الحكم في فرنسا وسياسة ستالين في إقامة جبهات وطنية مع البورجوازية. يلاحظ هنا تطور تيار لبناني استلم قيادة الحزب القومي السوري خلال غياب انطون سعادة في المهجر؛ وهو تيار قام سعاده بتصفيته بعد عودته إلى لبنان عام 1947.
كان حزب الكتائب هو الجناح الشعبي المناضل للمسيحية اللبنانية وحزب الدفاع عن الكيان اللبناني (الماروني المسيحي تحديدًا) في وجه المنظمات والدعوات العقائدية غير اللبنانية. فالقومية اللبنانية هي أيديولوجية الكتائب الوطنية المتعارضة مع السورية والعروبية ولكن المنفتحة على التعاون مع العالم العربي ومع المسلمين اللبنانيين. أما النجادة فكانت الجناح الشعبي المناضل للإسلام السياسي اللبناني الداعي لاستقلال لبنان وعروبته في الآن معًا (الاتصال والانفصال). وقد اتفق الحزبان في معركة الاستقلال إلى حد الاندماج لفترة من الوقت .
لم يضع الحزب القومي السوري حلًا لمشكلة لبنان بين الاتصال والانفصال، بين السيادة والوحدة، بل اهتم بمسالة بعث الامة السورية ووحدتها واستقلالها؛ فاصطدم منذ البداية باللبنانيين والعروبيين على السواء. النزعة القومية السورية وجدت هوى لدى الاورثوذوكس، الأقلية في الكيان اللبناني كما في الكيان العربي الاوسع. في حين أن الوزن العددي والاقتصادي والثقافي في سوريا الكبرى يعطيهم قوة راجحة وسطوة أكبر؛ فكيف اذا اضيفت قبرص نجمة الهلال الخصيب؟
النزعة السورية تجاوزت الكيان اللبناني لتقويضه من الخارج: التحالف مع حسني الزعيم1949- مع الهاشميين والإنكليز في الخمسينيات، وحتى الانقلاب الفاشل آخر عام 1961، مع الثورة الفلسطينية 1969 (جناح انعام رعد-عبدالله سعادة)، مع البعث السوري منذ العام 1975-(جناح أسعد حردان وقد صار هو الحزب). لا يمكن فهم تمدد وانتشار الحزب (أو ضعفه وتقلصه) خارج إطار الارتباط بمركز السلطة والقوة، منذ عودة سعادة من المهجر وطرده لكل الهراطقة. وبعد مرحلة الارتباط العاطفي بفكرة سوريا الموحدة التي استمرت مفاعيلها فقط في المهجر، صار الارتباط بالسلطة والقوة هو عامل تقدم الحزب وتراجعه.
وفي حين أن الحزب الشيوعي نشأ عبر التقاء مكونات طليعية : مصرية (فؤاد الشمالي ماروني من بكفيا عاش وناضل في مصر) وفرنسية (يوسف ابراهيم يزبك ماروني موظف في مرفأ بيروت من خلال علاقاته بالقنصلية الفرنسية) ويهودية (سوفياتية جاءت من الحزب البلشفي الفلسطيني) وأرمنية (أرتين مادويان وجماعة سبارتاكوس المنشقة عن حزب الهنشاق) وعلى قاعدة عمالية هي أساسًا مسيحية (في بيروت وضواحيها وبلدات المتن الشمالي وزحلة وجوارها) عكست الصراعات داخل الحزب في الفترة الأولى هذه المكونات إلى حين سيطرة البكداشية السورية- السوفياتية منذ العام 1936 وحتى العام 1968 (المؤتمر الثاني للحزب الذي انتصر فيه جورج حاوي- كريم مروة وتيار الشباب وخرج فيه جناح صوايا صوايا- حسن قريطم). ولم يؤد ذلك إلى خروج البكداشية النهائي ، إذ استمرت قوتها في الحزب إلى اليوم .
توسعت قاعدة الحزب الاجتماعية شيعيًا في منعطفات رئيسة أهمها صعود قوة الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية والنازية واستقلال لبنان، توسع العمل داخل النقابات العمالية وفي قطاع الخدمات وخصوصًا في قطاع التعليم الحديث من مدارس وجامعات.
تركيز الشيوعيين على الصراع الطبقي (ضد السلم الاجتماعي) لم يسمح لهم بمقاربة موضوع الاستقلال والسيادة خارج اطار صراع الطبقات ومقولة حركات التحرر الوطني الملتزمة طريق الاشتراكية والجبهة العالمية المتحالفة مع السوفيات والداعمة للانظمة التقدمية (مصر، سوريا، العراق، عدن، الخ..).كما أن قيام القومي السوري على العداء للكيان اللبناني منع تطوره إلى حزب لبناني حقيقي وربطه بالتطورات الإقليمية الخارجية وبموقعه من السلطة والقوة في الخارج والداخل.
لقد كان الارتباط الأعمى بالسوفيات محور حياة الحزب الشيوعي بغض النظر عن المواقف الوطنية والثورية والاستقلالية التي كان منبعها الاصلي الوقوف في جبهة واحدة مع الاتحاد السوفياتي في وجه أعدائه في الحرب ضد الاستعمار والامبريالية، والوقوف تاليًا مع الثورة الفلسطينية بعد إعلان التزامها بالحلف السوفياتي- العربي (1974 هو تاريخ هذا التطور). في حين فقد الحزب القومي كل عناصره السنية في طرابلس مثلًا (كما صيدا وبيروت وكل سوريا وفلسطين والاردن والمخيمات في الشتات الفلسطيني) بنتيجة الارتباط بأعداء عبد الناصر والقومية العربية، من حلف بغداد والهاشميين والإنكليز. ولم يستعد بعض الحضور الجماهيري في لبنان إلا في أتون الحرب الأهلية والتعبئة العسكرية لها.
ثم كانت مرحلة 1968-1975 وهي مرحلة الارتباط بالقضية الفلسطينية وبالحراك الاجتماعي اليساري الذي عاشه لبنان والذي أسهم في نشوء اليسار الجديد وبانضمام قطاعات واسعة من الشباب والطلاب إلى اليسار في المدارس والجامعات. ولكن العقل اليساري والشيوعي كان عقلًا صراعيًا يركز على الانقسام إلى يمين ويسار ، ويربط ذلك بالوضع الدولي مستمدًا منه القوة والعزم ، فلا يمكن فهم أي انتصار يساري في لبنان خارج المعادلة الاقليمية- الدولية، ناهيك عن الالتحاق اللاحق بالمنظمات الفلسطينية. كما أن قيادات القومي السوري انتهجت نفس السياسة اليسارية الفلسطينية بعد الخروج من السجن ومؤتمر ملكارت(1969).
حزب البعث وحركة القوميين العرب هما في الاساس حزبان قوميان يتخطيان الكيان اللبناني ويرتبطان بالسياسات العربية الخارجية (سوريا والعراق بالنسبة للأول ومصر بالنسبة للثاني).وبرغم تأسيسهما على أيدي عرب أورثوذوكس الا أنهما لم يخرجا عن اطار العصبيات التقليدية : تحول البعث السوري إلى علوي-أسدي والبعث العراقي إلى سني- تكريتي. وحركة القوميين العرب انهارت وانتهت بعد أن كانت تمثل السنة في بيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعلبك. ثم ورثتها الجماعات الناصرية في تلك المدن وهي كلها ذات قاعدة سنية انتهت إلى البحث عن ارتباط بديل عن مصر وجدته في حركة فتح أو ليبيا أو سوريا أو العراق.
أما الاحزاب والقوى التي خرجت من أحشاء البعث والقوميين العرب فهي كانت محكومة من الاساس بهذه المفارقة القومية العابرة للوطن. حزب البعث اليساري أو حزب العمال العربي الثوري أو حزب العمل العربي الاشتراكي أو منظمة العمل الشيوعي أو المنظمة الشيوعية العربية أو حزب العمال الشيوعي أو الحزب الشيوعي العربي أو رابطة العمل الشيوعي او عصبة الثوريين الخ....الخ... كلها حملت عنوان "العربي أو العربية" ، وصِفة "في لبنان" وليس اللبناني أو اللبنانية. (يسجل للحزب الشيوعي حمله صفة "اللبناني" وليس "في لبنان" وهذا ناتج عن أساس التشكل الشيوعي بالارتباط بالمركز الأممي وليس عن وعي وإرادة شيوعية لبنانية وطنية. فالحزب كان أساسًا حزبًا أمميًا:" ليس للعمال وطن"، ويتبع الكومنترن. كما أن الإسم جاء نتيجة الانشقاق أو الانفصال بين الحزبين اللبناني والسوري إذ أن الحزبين كانا حزبًا واحدًا حتى العام 1964. والحال أن مسار كل اليسار انتهى إلى الالتحاق الكامل بالثورة الفلسطينية بدءًا من عام 1974.
واذا نظرنا إلى الحزب التقدمي الاشتراكي فسنجد انه المثال الساطع على التحام الانتماء الطائفي (الدرزية) برؤية علمانية تقدمية اشتراكية، وتمفصل ذلك على سياقات التوازنات الخارجية بين العرب والغرب ، وبينهم وبين موسكو . والمهم هنا ملاحظة مسعى كمال جنبلاط الدائم إلى التوفيق ما بين اللبنانية والعروبة، وما بين العلمانية والطوائفية.
اما أحزاب اليمين الاخرى (الأحرار والكتلة) فقد كانت أحزابا كيانية لبنانية مسيحية مرتبطة بزعامة عائلية محددة (شمعون، إده) برغم وجود نخب مدينية مختلفة في قواعدها وقيادتها.هذا في حين لم تستمر أحزاب الشيعة التقليدية (النهضة والطلائع) لغلبة الطابع الريفي العائلي عليها. وكان لا بد من انتظار مجيء الامام السيد موسى الصدر ثم الثورة الايرانية لقيام تشكيلات حزبية سياسية شيعية (أمل ثم حزب الله ولكن قبلهما حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي في العراق والخليج).
والحال أن قاعدة القومي السوري كان عصبها الروم الأرثوذكس في مقابل موارنة الكتائب وغياب السنة عن الأحزاب التقليدية وانخراطهم في تيارات أوسع مثل الناصرية أو الثورة الفلسطينية.
فنحن نرى ختامًا أن هذه الأحزاب الحديثة تشكلت على أساس: 1- وجود ايديولوجية تتبناها نخب مدينية متعلمة. 2- وجود مركز خارجي قوي يدعمها. 3- تنظيم حديث مستمد من التجارب العالمية. في حين ظلت قاعدتها قائمة على عصبية التكتلات والتشكيلات القديمة.
فالتكتلات الطائفية والعشارية التقليدية أعادت إنتاج نفسها من خلال التنظيم الحزبي الحديث؛ وهذا من عجائب الزمان و...لبنان. في حين أن المهم في العمل الحزبي الحديث هو الخروج من التكوين القبلي العشائري الطائفي إلى المجتمع المدني والتنظيم المناسب له.
خاتمة
المطلوب اليوم صيغة تقدمية جديدة للحزب السياسي تستطيع أن تجمع الأصالة الاجتماعية مع الحداثة التقدمية ، العروبة واللبنانية، العلمانية والدين، في توليفة تقدمية اجتماعية رؤيوية تدفع إلى التقدم وتعتمد على مبدأ أن الحزب كما الدين وجدا لخدمة الإنسان وليس العكس.
هناك اليوم دعوة وحاجة إلى تجدد عقائدي للمجتمعات العربية. والقضية كانت ولا تزال هي الإنسان.