عباس بيضون
كان ينبغي أن تكون لأدونيس كلمة. انه أكبر مثقف سوري حي وعليه واجب الشهادة على الأقل فيما بلاده تغرق وتتداعى. لكن شهادة أدونيس، ولنسمها وساطته تأخرت كثيراً عن الأحداث حتى باتت متخلفة عنها وتأخرت بوجه خاص عن مراسَلِها الرئيس السوري الذي منذ ذلك الحين اختار الطريق الذي لا عودة عنه. لقد صار وسط النهر ولم يعد أمامه إلا ان يتقدم فيه إلى الامام. وليست مناشدته الرجوع او التحول سوى ضرب من التنكر للواقع والغياب عنه. وساطة أدونيس إذا في غير وقتها. غير ان التأخر ليس مجرد خطأ في الحساب. انه تقريباً موقف. إذ ان أمل أدونيس في الرئيس وفي النظام ليس مرهوناً بوقت ولا بظرف ولا بمرحلة، انه أمل دائم، فأدونيس لا يزال ينتظر الحل من الرئيس ونظامه، ومهما كان مسار الأحداث وتطوراتها فإنه لا يتوب عن هذا الأمل. وإذا كان جواب النظام على رسالة أدونيس قائما في سلسلة أحداث لا تدحض فإن أدونيس المرتاع يزداد إصراراً على ان ينتظر ويزيده الهول اصراراً. الجواب بالنسبة له من فوق وكلما اشتدت الضائقة وأزداد إلحاح الظرف كلما استعجل صدوره من فوق وكلما زاده ذلك ايماناً بأن لا حل إلا من هنا، لا يثنيه عن ذلك ان النظام اختار وانه سار قدما في اختياره. اختار ما سماه أدونيس الطريق «العنفي الأمني» وسار شوطاً فيه.
أمل أدونيس في النظام مأزقي. ليس من ثقة في النظام ولا هو تزكية له، فرسالة أدونيس إلى الرئيس ان انتظمها شيء فهو هذه الخيبة في النظام «القومي العلماني» الذي تنكر لمبادئه ولأسسه واستحال «رجعياً ودينياً» وحمل بالتالي «بذرة سقوطه». يمنح أدونيس النظام والرئيس املا مجانياً لا يجتهد ليجد حجة واحدة على إمكانه. غير ان منطق رسالة أدونيس هو ان «الأمل» في النظام غير المبرر هو الجواب البديهي عن اليأس من المعارضة. إذا اتهم أدونيس حزب البعث بأنه استحال رجعياً ودينياً فلأنه، بحسب أدونيس، تدهور إلى حالة معارضيه. لا يشك أدونيس ولو انه يضمن ذلك ثنايا السطور في أن معارضة النظام سلفية دينية عشائرية طائفية، فمأساة الحزب هي في ان خصومه يحاربونه «هو الوحدوي العلماني في الأصل» تحت رايات بينها راية الطائفية او جمعة العشائر...». لا يشك أدونيس في ان الحزب في أسوأ ما يتردى إليه يغدو شبيهاً بمعارضيه، ذلك يعني أن المعارضة ليست فقط من جنس خصمها وليست فقط شبيهة به تشاركه في «انهيار سوريا وتشويه صورتها الحضارية بوحل «الطائفية» و«العشائرية» و«المذهبية» ووحل التدخل الخارجي ووحل التعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى»، أما الشبه البعيد بين الحزب ومعارضته فناتج عن ان الحزب انقلب على نفسه وتنكر لمبادئه، أما المعارضة فلم تنقلب على نفسها ولم تتنكر لمبادئها. انها هكذا في الأصل وهذه هي مبادؤها. وهذه هي، لا تملك المعارضة وعياً شقيا ولا أزمة ضميرية كما يملك النظام وحزبه. فهذا هو وعيها وهذا هو ضميرها. أمل أدونيس في الرئيس وفي النظام ليس من لا شيء. ان له مرجعاً في ماضي الحزب وأصله وضميره الداخلي. وليس للمعارضة بالطبع شيء من ذلك فلا أمل فيها البتة. انها تنسجم مع نفسها حين تكون عشائرية طائفية. ألسنا نشعر هنا بأن أدونيس يلقي بتبعة تردي الحزب على عاتق المعارضة. ألسنا نرى ان انحرافه إلى الرجعية والدين والعشائرية وربما القتل كان تحت ضغط المعارضة التي اضطرته إلى محاكاتها. المعارضة نعم، فخطأ السلطات اليوم كما يقرر أدونيس انها «تبنت السياق التقليدي القديم وأكدت منطقه وأساليبه». اما هذا السياق التقليدي القديم، أي السابق على البعث، فهو بدون شك حال المجتمع ما قبل البعث، المجتمع الذي تتمرغ فيه المعارضة اليوم. المعارضة إذن هي ناتج العلاقات التقليدية التي تردى إليها الحزب الحاكم، يمكن القول إذن إن للنظام (وأدونيس في رسالته يفضل ان يتهم الحزب) أفضليه على المعارضة فهو ليس مثلها ناتج العلاقات التقليدية لكنه تردى إليها تحت ضغط ظروف قاهرة، أما المعارضة فهي بنت ووريثة هذه العلاقات وليس لها في هذا المجال سابقة اختلاف تتذكرها ولا أصل آخر تعود إليه ولا ماض يضغط على ضميرها وعلى وعيها. للحزب، بحسب أدونيس، بدون شك سابقة من هذا النوع يجوز تذكيره بها ومناشدته العودة إليها. هذا بالتأكيد ما يبرر وساطة أدونيس او رسالته إلى الرئيس التي لم تكن لولا انه يعوّل على الرئيس ويأمل فيه. هذا ما يفسر عودة أدونيس إلى طفولة الحزب و«براءته» الاولى رغم ان بينه وبين هذه البداية أكثر من نصف قرن حافل بالتقلبات والانقلابات على النفس وعلى الأصل وعلى البدايات. انه نصف قرن لا ينفع التذكير به في اعادة الروح إلى الحزب او النظام لكنه يقيم فاصلاً خيالياً بين النظام والمعارضة لمصلحة النظام وقيادته. أي ان الفارق هنا هو بين نسب النظام ونسب المعارضة، فنسب النظام خير من نسب المعارضة ولنا أمل في هذا النسب في حين ان نسب المعارضة صريح في تخلفه وفي تقليديته وفي رجعيته وفي سلفيته. انه حكم مبرم على المعارضة ليس له ما يماثله في الحكم على النظام الذي يبرر الأمل فيه براءته الأولى وماضيه «الخيالي». ماضيه الخيالي، اقول، لأن كل عودة إلى الماضي خيالية ولأن ماضي النظام الراهن ليس بهذه البراءة الأولى ولا ماضي الحزب الذي يتموه به. لكن أدونيس لا يفتأ يدفع الصراع الحالي إلى ثنائيات بسيطة. انه ليس فقط صراع العلمانيين المنقلبين على أنفسهم مع الطائفيين بالولادة. بل صراع عقليتين مغلقتين «السلفية الدينية والحزبية البعثية»، بين ثقافتين أحاديتين ومتدينتين. لكن الصراع في حقيقته وواقعه ليس ثقافياً، انه صراع أداته القتل، القتل الذي يرد في مقالة أدونيس مرة واحدة وما عداها يبدو صراعاً عقلياً وفكرياً وثقافياً، ما جرى في درعا وحماه وحمص وجسر الشغور لم يكن بحال حرب أفكار، بل حرب إزهاق الأرواح والقتل بدم بارد، والقتل الأعمى مادتها ووسائلها. الدم في الشوارع كان نيرودا يقول وليس معقولاً ان نجد مكان الدم أفكاراً ومكان الجثث تجريدات. ان حق الحياة هو ما ينبغي ان نعيره التفاتنا عندئذ والدفاع عن هذا الحق ضد إغراقه في الدم هو ما يجب ان نقف عنده. ليس الصراع الفكري هو ما يستفزنا ولكن خنقه بالاغتيال والإعدام والتعذيب. ليس الفكر المنغلق عدونا الرئيس ولكن تحوله إلى سلاح تصفية جسدية واستحلاله لنفسه إبادة الآخر وإلغاءه جسدياً.
ثم ماذا يعني هذا الإلحاح على اتهام حزب البعث وجلده، وكلنا نعلم ان الحزب تحول من عقود إلى سلطان وإلى ملك عضوض وإلى حكم. أليس يعني ذلك اتهام الثوب والعفو عن الرجل، ألا يعني اتهام القناع بدلاً من تعرية الوجه. ألا يعني تقريباً أمثلة الخصم وسحقه فكرياً فيما يبقى الخصم الحقيقي، بعيداً عن السمع، مستريحاً على رأس جهازه الأمني والبوليسي وعلى سلاحه الفعلي.
إن تبسيط الصراع بين سلفية وبعثية يغيب الصراع نفسه ويجعله بلا قضية، فيما ان الديموقراطية والحرية ليستا غائبتين عنه. إن الحراك العربي الحالي يطرح الحرية كقضية ولأول مرة في عصرنا الحديث، فيما انقضى الوقت السابق في مديح القوة حتى الاستبداد وحتى الهيمنة العسكرية. إن ما جرى في مصر مثل رائع على تبلور هذه القضية وما لحق مصر وتونس من انتفاضات ليس بعيداً عنها. لا يكفي القول ان الديموقراطية من خارج التراث الثقافي العربي فالأدب الحديث هو أيضاً كذلك ولا يعني هذا براءتنا منه، لا شك في ان الحرية هي قضية المتظاهرين العرب الأولى الآن، لا يعيب ذلك ان الإسلاميين جزء من هذا الحراك، فالاستبداد الذي خنق كل حراك مسؤول عن ذلك وبدلاً من ان نعينه عليهم علينا ان نتمسك بالقضاء الديموقراطي كساحة للجميع وكحد للجميع.
نص أدونيس عامر بنقد الحزب والنظام، لكن ما جرى وما يجري يومياً تجاوز ذلك بكثير. تجاوزت الأحداث أمل أدونيس وأكثر ما نخشاه ان لا يشفى منه.