السبت، 29 سبتمبر 2018

نتذكر عزالدين قلق بقلم فايز ملص اليوم ، وقد أغلق صدام ملف أبو نضال بالطريقة التي اعتاد أن يغلق بها كل ملفاته المربكة، يحق لروح الشهيد عزالدين قلق أن تتنفس الصعداء ، لا شماتة بمصرع قاتله، فالشماتة لـم تكن مــن خصاله، وإنما اطمئنانا إلى وجود عدالة ما في هذا الزمن المجنون، الكثير الاحتفاء بالجريمة والمجرمين. اغتيل عزالدين فــي مكتبه بباريس ذات نهار ساخن مـن آب (أغسطس) 1978، كان قبل رحيله بأكثر من عامين يعرف أنه سيُقتل ويعرف مــن سيكون قاتله، فأشباح الموت التي بثها صبري البنا حوله (بالتعاون مع مخابرات معلـّمه آنئذ) لم تكن تتركه يرتاح لحظة واحدة. كانت تطارده فــــــــي حركاته وسكناته. هذا عدا عن أنه تلقى فــي الأسبوع الذي سبق اغتياله معلومات متواترة تؤكد ورود اسمه على رأس لائحة الإعدام، التي أصدرها القاتل المحترف: سفير عربي شهم اتصل به قبل وقوع الجريمة بأيام ليعلمه بذلك،كما أنّ الكاتب والصحفي الفلسطيني نبيل خوري صاحب مجلة المستقبل آنذاك، طلب إليه أن يذهب فورا إلى المطار ولو بدون حقيبة لأنه الأول فـــــي لائحة تضم عددا من المناضلين الفلسطينيين والعرب المهدّدين، وكان من بينهم صديقه وصديقنا الكاتب المصري المرحوم لطف الله سليمان. أضف إلى ذلك أن شابا عراقيا صادفني فــــي أحد المطاعم الصغيرة قبل اغتيال عز الدين بأيام معدودة وطلب أن نتحدث على انفراد. قال: أعرف أنك صديقه وأعـرف مدى وطنية هذا الرجل وإخلاصه، لكنهم يتهمونه بالتفاوض مع العدو، وقد قرروا قتله، وأنا لاأستطيع أن أتركهم يرتكبون هذه الجريمة. أرجوك أن تخبره بذلك. أرجوك! كان صبري البنا عضوا في حزب البعث، وبعد انشقاقه عن فتح استمرأ اللعب على حبل الصراع بين القيادتين القومية والقطرية على شرعية الحزب: يتعشى فــي دمشق وينام فــي بغداد، مقدما خدماته الإجرامية للفريقين دون تمييز، مادام يحصل منهما على مايكفيه من المال لتحقيق مشروعه الخـاص: تحرير فلسطين عبر تصفية القيادات الآخذة في فتح آفاق للتعامل مع القضية، بعد أن أغلقت موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية إلى أجل غير مسمى كل طرق النضال المسلح. بطبيعة الحال، نصح أصدقاء كثيرون عزّ بأن يبتعد لفترة عن باريس، أن يبقى في الظل بعض الوقت، ريثما ينقشع الخطر. لكن عزّ، المناضل الصلب والعنيد حتى المكابرة، المدجج بالكبرياء حتى تخوم الانتحار… عزّ الوفي لأرضه ولأمه وأبيه الطيبيين، لـم يكـن ليفرّ أمام مخاطر المهنة، لـم يكـن ليتخلى عن مسؤولياته في اللحظة العصيبة (وكل لحظات فلسطين عصيبة). هل ننسى أنه كان فـــــــــي مطلع شبابه بين الدفعة الأخيرة من المساجين الشيوعيين، الذين أطلق سراحهم أيام عبدالحميد السراج، حجّاج تلك الأيام مع أنه لم يكن حتى مجرد عضو في الحزب الشيوعي؟ عز، مازلت في ذاكرتنا، بل أنت أحياناً معنا، تزورنا فجأة في لحظات اليأس ودمار الروح، مثلما زرت ذاكرة صديقك محمود درويش في بيروت أواخر أيام حصارها. ولأن الحصار عاد الآن إلى وطنه أشد ضراوة وأثخن موتا، فإن حضورك بيننا في هذه الأيام من آب، يخفف وطأة إحباطنا ويحفزنا إلى مزيد من الغيرة على دم أهل ستبقى في ذاكرتهم، التي لاتنسى مهما بلغت بها الحاجة إلى النسيان. فايز ملص 1940- 2015: كاتب ومترجم سوري أقام في باريس المصدر . القدس العربي الصادرة في لندن

أو كهزيع من الليل عن عزالدين قلق بقلم إلياس خوري دمشق. ساحة الجبّة. طرقنا الباب. أضيء المدخل الخارجي ثم فتحت لنا فتاة تلبس فستانا أسودا. تفضلوا. هبطنا الدرج ببطء. هذه هي شقيقته قال إيليا، غريب لم تعرفني. دخلنا الصالة وقف رجل في حوالي السبعين من العمر. فتاتان، وامرأة تلبس ملاءة بيضاء، والصـور تملأ الحيطان. لم أقل شيئا. صافحت الأيدي التي امتدت وتمتمت. جلس إيليا وجلست إلى جانبه. جاءت القهوة المرة. شربت فنجاني . الله يرحمه قال إيليا. لم يجب أحد. فتحت المغلف الكبير وأعطيت الأوراق لشقيقته. ــ جاءت ليلى من باريس وهي تسلم عليكم شكرا قالت الأخت وابتسمت. ــ هذه الأوراق هي الأرشيف الصحفي عن اغتيال الشهيد. شكرا قالت الأخت وبدأت الأوراق بين يديها. ماهذا؟ قالت ونظرتْ إليّ. نَظرتْ إلى الصحيفة الفرنسية حـيث كانت صورته مرسومة بالكاريكاتير والرصاص يلفها من كل جـانب. في أسفل الصورة رجلان، كل يركض في اتجاه وقد حمل لوحة كتب عليها اسم فلسطين. “إعلام غربي” ــ قال إيليا. لابأس ــ قال الأب دون أن ينظر إلى الصورة أو إلينا . كان يجلس في طرف الصالة. ينظر إلى الأرض ويفرك عينيه بيديه . قلت له إننا نعتذر لأننا وصلنا متأخرين . قال إيليا لامؤاخذة ، فقد أضعت البيت هذه المرة. نظرت الأخت، تذكرتك ــ قالت. لقد جئتَ منذ خمس سنوات ونمت هنا في بيتنا. ملصقات الشهيد تملأ المكان. لقد أخطأوا قال الأب. إنهم يخطئون دائما. فهو ليس من مواليد الطنطورة، إنه من مواليد حيفا. أمه من الطنطورة، لكن نحن من حيفا. أنا من حيفا أيضا، قال إيليا. من أين؟ قال الأب. ــ وادي النسناس ـــ إبن من أنت؟ ــ ابن وديع البحري ــ وديع البحري. قام الأب. وقف إيليا وتعانقا -إنه صديقي- مات قال إيليا. كلنا سنموت ، كلنا على هذا الطريق ، قال الأب وجلس . وقفت. صوت المروحة الكهربائية يكسر الصمت. مشيت، تبعتني الأخت توقفنا طويلا أمام الملصقات الملونة، التي تملأ حيطان البيت. ثمّ توقفت أمام الملصق غير الملون، إنه من غيــر ألـوان، ينظر كما نظر عندما التقينا في باريس. كان قد عاد من زيارة لبيروت بعد أن عُيـّن ممثلا للمنظمة في فرنسا. كان يبتسم دائما تلك الابتسامة الغامضة، التي هي أكثر من ابتسامة وأقل من ضحكة.عينه اليمنى نصف مغمضة والعين اليسرى عادية، والضحكة غيـر متناسقة على الجانبين. ربطة العنق والانحناءة الخفيفة. تحتار ولاتفهم، هل يضحك لك أم يسخر منك . وهاهو أمامي ، بضحكته الخـاصة وإغماضة عيـنه . قالت الأخت أنه كان يرسم عندما كان صغيرا ً ، في الخامسة عشرة أو أقل . أرتني لوحـة رسمها ، إنــها نسخة من منحوتة رودان المفكر ، حيث يجلس الرجل ممسكا ذقنه بيده اليمنى . وفي أسفل الصورة كتـابـة بخط اليد : الإنسان ذلك المجهول . وتوقيع عز الدين القلق . عدت إلى الصالة ، كان إيليا يجـلس إلى جـانب الأب دون أن يتكـلما ، وأمامهمـا كوبـان من الشــاي حـاولت أن أكلمه . تنحنحت . قلـت ياعـم. قال شاي، قلت شكرا ً. سأل إيليا عن ظروف وفاة والده . تكـلم إيليا . قلت ياعم. لقد عادت قال . نظرت إلى المرأة التي تلبس ملاءة بيضاء . كانت تقف إلى جانب ، ثــــمّ جلست وتكلـمت . كـان صوتها يخرج بطيئا ومتلعثما ، ثم يرتفع وتتكلـم عن كـل شيء ، تضحـك فنضحـك .تبكي فنصمت في وجوم ، ننظر إلى الأرض أو إلى أيدينا ثم يعود صوتها إلى الارتفاع . هذه هي المرأة الفلسطينية قال إيليا . كانت المرأة التي تلبس الملاءة البيضاء تفرش صوتها على الأرض وتضحـك أو تبـكي . قالـت أنتـم أصدقاؤه ، قلنا نعم . قالت حدثوني عنه. فأنا منذ سافر لا أراه. يأتي قليلا ويقول لي جـاء دوري هذه المرة، وأن عليّ أن أتماسك لأني أمه، وأنه لايخاف. كنت أبتسم له وألاطفه. لكني لم أصدّق. كل هذه السنوات تذهب هدرا. هذا ليس هو . لماذا ملأوا البيت بالصور والملصقات والشعارات . هو يختلف عن الصورة . كانت السيارة تسرع بنا بعد أن قطعنا الحدود اللبنانية باتجاه دمشق ، أنا أحاول النوم ، وإيليا يتكلم دون توقـف . ثم ّ فجأة مدّ يده من نافذة السيارة وقال : هذا هو المعسكر ، هل تعرف معسكر الهامة؟ قلت إني لاأعرفه . وحاولت العودة إلى النوم . هنا كان منزل أبوعلي إياد . هل زرته ؟ قلت لا . أبوعلي إياد يحـمل عصـاه ، لم يعد أحد يذكر هذا الرجـل دون أن يذكر عصاه . كنا في البدايـــة . الجميع يريـــد أن يصبح فدائيا ً ، وحتى تصير فدائيا ً عليك أن تمر في معسكر التـدريـب الذي يشرف عليه أبوعلــي إيـاد ،عليـك أن تتعرف إلى عصاه . قال إيليا أنه تدرب هنا وأنه لايستطيع أن ينسى هذه التجربة . سألته عن أبوعلي فحدثني عن صورته . قال إن صورته التي علقت في جميع المكاتب تبعث فيه شعور البداية الدائمة . ــولكن كيف استشهد ؟ لاأعرف أجـابني . الحقيقة أنني ذهبت يومهــا إلى دمشق ، ومنهــا إلى الحـدود السورية الأردنية . كنـّا مئات مــن الشباب الذين تجمعوا من أجل المشاركة في معارك الأحراش . لكن لم يُسمح لنا . لاأعرف لماذا .لم يقدم أي تفسير . نقف في الطوابير استعدادا ً للتقدم واجتياز الحدود ، ثمّ يقولون غدا ً. بقيت هناك حتى جاء الخبر . فعدت إلـــــــى بيروت. لكني توقفت في الهامة .كان منزله مليئا ً برجال مثلي يعودون إلى بيروت.يتوقفون هنــــاك ، يكتبـــــــون أسماءهم على حيطان منزله . عدت بعد سنوات من باريس ، حيث كنت أتابع دراستي . ذهبت إلى الهامة ، قلت أزور منزل الرجل واكتـب اسـمـه مرة ثانية على حيطانه . دخـلت المنزل ففوجئت باللون الأبيض . طرشوا الحـيطان باللون الأبيض . جـــاء الأبيض ومسح كل الأسماء وكل الكلمات . طبعا ً هناك شباب لم يكتبوا أسماءهم فقط ، بل كانوا يكتبون الأشعار والتمنيـات ويوقعونها بأسمائهم . لكنهم طرشوا كل شيء باللون الأبيض . وبقيت صورته معلقة فوق حائط أبيض . هل تحـب زيارة منزله ؟ ” لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل أمس الذي عبر ، أو كهزيع من الليل ” . ــ أظن أنها كانت سنة 1930 . حدثت مناوشات بيننا وبين اليهود . كنت جالسا ً أمام الدكان فجاء الإخوان وقالوا لي بأن اليهود هجموا على وادي الصليب. تركت الدكان وخـرجـنا لمواجـهة اليهود في شارع شومير. أُطلق علينا الرصاص، وأنا أصبت برصاصتين. طبعا، الحركة الوطنية كانت تشتد. وفي حيفا، كان المناضل عزالدين القسام. كنا نذهب إلى منزله ونستمع إلى دروسه. الحقيقة أنني لم أشارك في الثورة إلاّ بعد استشهاده، لقد أثّر علينا استشهاده كثيراً، خرجنا في جنازته رجالا ً ونساء، وحملنا نعشه من حيفا إلى بلد الشيخ. وعندما وصلنا إلى مركز البوليس الانكليزي، بدأت الناس ترمي الحجارة. هرب جميع رجال البولـيس وأغـلقت البلـد. بعد استشهاده أخــذَت فصـائـل المقاومة تنتشر. أخذتني الحماسة، تركت أم عزالدين حاملا ً بابنتي جهاد وذهبت إلى يعبد، وهناك اشتريت بندقية ألمانية من شخـص اسمه فوزي وسلحلك، ولما وصلنا إلى قريــــــة جـنـيـن جرّبتها فوجدتها صالحة. ذهبنا إلى قرية اسمها رمانة، هناك شكلنا مجموعة مؤلفة من عشرة رجال نسفنا سكة حديد العفولة، وحاولنا الوصول إلى مستعمرة قرب كركور لكننا لم نوفق. حاولنا ثلاث مرات ولم نوفق. وبعد ثلاثة أيام من التحاقي ، جاء رجال وقالوا لي الأفضل أن تعود إلى حيفا ،لأنك تركت زوجتك حاملا والعيون تفتحت عليك، تركت البندقية في قرية رمانة وعدت إلى حيفا. ــ جـاء محـمد سعـيد وقال لي أريدك أن تذهبي إلى الطنطورة. رفضت. قال أنــه سيأتي مــعــي صدّقته .النساء تصدّق رجالها، لكن الرجـال يكذبون. ركبنا السيارة ووصلنا إلى البـلـد . ثم فجــأة اختفى. يبدو أنه ذهب إلى دكانه في حيفا وباع البضائع واشترى بندقية وسلحلك وراح. بعد يـوميـن قلت لأخي بأني أريد الرجوع إلى بيتي . عدنا إلى البيت فرأيت الباب مفتوحا. والخزائن مفتوحـة، ورأيت خاتم الخطبة مرميا في الدرج. جاءت الجارة وقالت لي، ياخالتي أنا لست ناطورا علــــــى بيتك. جاء زوجك وأخذ الحقيبة وترك البيت مفتوحا وهرب . بدأت ألطم على حـالي وأبكي. أقفلت الأبواب وذهبت إلى منزل والد زوجي، سألني عن محـمد ، قلت إنه ذهب ولا أعرف أكثـر من ذلك. قال بسيطة سوف يرجع. قلت لا. كيف يتركني أنا والأولاد وأنا حامل. جاء شقيقه، صرخ فـــي وجهي، ثم قال أعطينا أولادنا واذهبي إلى بيت أهلك في الطنطورة. قلت سأبلغ البوليس، كنــت أهددهم من أجل الضغط على زوجي . مفهوم مفهوم قال إيليا . أخذت الأولاد وسكنت في بيت أخي ، وذهب ابن عمي إلى يعبد، وبعد ثلاثة أيام عاد بالرجل إلى البيت. لم يشارك كثيرا في الثورة ، لكنه أدخل الثورة إلى بيتي . عندما ولد ابني الأول أسماه عزالدين، قال تيمنا بعز الدين الشهيد. وعندما كان عمره ثلاث سنوات كــانت أختــي تأخـذه وتشتري لـه الحلـوى . يمشي إلى جانبها لابسا ً القمباز الأبيض وعمامة الشيخ عزالدين . وعندما يفلت من يدها تناديه ، فيهرع الناس صوبه ويسألونه : هل أنت عزالدين القسام ، يقول نعم . يحملونه ويقبلونه. ــ أنا اشتريت له هذه الثياب ، كان يلبسها ونقول له أنت الفسام بيقول أنا القسام ونضحك . “لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل أمس، الذي عبر، أو كهزيع من الليل ” . كنا نسيرعلى الرصيف في شارع هوسمان . ضجة الشارع ترتفع والرذاذ الخفيف يتساقط . وهو يسير وحيدا ً في المقدمة . وأنا وزوجتي نتبعه . كان يسير بحذر ز يسرع ثم يلتفت إلى الوراء . يضحك بصوت مرتفع ثم يعاود المشي .فجأة انعطف بنا إلى اليمين وفتح بابا ً . ــ ادخلوا . ولكن هذا مخبز قلت له . ــ ادخلوا . دخلنا . كانت رائحة الخبز تنتشر في المكان . الطاولات والكراسي الخشبية شبه فارغة . ــ هذا أحد أجمل مطاعم باريس . الطاولات صنعت من خشب الصنوبر . انحنيت وشممت الطاولة ، فخـرجـت رائحة هي مزيج من رائحة الخبز ورائحة الطعام . جلسنا . كان يضحك ويخبر النكات . جاءت المرأة بالطعام فبدأنا نأكل . قالت زوجتي إن أشكال الخبز هنا عجيبة . طبعا ً، أجابها . لن تجدي هذا الإتقان فــي أي مـكـان آخر . كان الخبز مزروعا على الرفوف ، ويأخذ أشكالا ً مختلفة : فيل ، دجاجة ، ثور ، فتاة . قالت زوجتـــي أنها ستشتري منه وتأخذه معها ، من أجل الأولاد . طبعا ً أجبتها . كان يأكل بحذر ٍ وينظر إلى الوراء نظرات خفية . قال أنه اعتاد على هذا النمط من الحياة . قبل أن تدخل إلى أي مطعم عليك أن تقرر من أي باب سوف تخرج إذا فاجأوك . عليك أن تختار الباب قبل أن تختار الطعام .قلت إنه يبالغ . قال لا ، منذ اغتيال الهمشري وهم يريدون قتلي . قلت من ؟ قال الصهاينة . قلت طبعا ً . ولكن المسألة بالغة الجدّية . الحذر الدائم . يأتون على شكل لاعبي فوتبول أو رواد مقهى أو مثقفين . ويختارون من بينهم واحدا له شكل يشبه العرب . القاتل يـهـرب بسرعة ويبقى هذا ، الذي يقوم بإدخال التحـقيق في متـاهة ، ولن تثبت عليهم التهمة على أية حـال . قلت من أين سنخرج إذا فاجأونا. أشار إلى باب خلفي . من المؤكد أنهم لم يلاحظوا هذا الباب . ــ كيف يستطيعون صناعة الخبز بهذه الطريقة ؟ ــ لاأعلم أجابني ربما يخـمّرونه بشكل زائـد قليلا ، ثم يخبزونه في فرن كهربـائي وعلــى حـرارة منخـفضة . ولكنهم لايستطيعون الإحاطة بكل شيء . هل تعلمين ؟ مرة اضطررت إلى الخروج من أحد المطاعم هاربا . إنه مطعم في هذا الشارع ، لكنه قريب من المكتب . دخـلوا . لاأعلم كيف شعرت بهم . كان هناك رجل يضع نظارتين على عينيه ، وامرأة طويلة الشعر ، وشاب سميـن يشبه الزعـران الذين يظـهرون فـــــــي الافلام البوليسية . وفتى عربي . كل يجلس في ناحية ، ماعدا الرجـل الذي يضـع نظـارتين فقـد كان واقفا يحـتسـي القهوة . ــ كم ثمن الرغيف ؟ إنه السعر العادي، أو هو مرتفع قليلا ، أجاب . في لحظة ، تأكدت أنهم سيقتلونني . كـان هنـاك رجـل يتمشى في الشارع أمام المطعم ، ويبدو أنه قا ئدهم. ثم فجأة دخل رجل يشبه السنكري ويحمل في يده أدوات معدنية . قلت سأجرّب . وقفت بسرعة . تغيرت ملامح الرجل ، الذي يضع نظارتين ونظر باتجاه السنكري ، عندهــا خرجت هاربا . ركضت في الشوارع الضيقة واختلطت بالناس . ــ ولكن كيف ؟ قال أنه تعلم من خبرته . أصبح عندي حس أمني ، أجابني . قلت إنك تبالغ . قال لا. لكنــــي اعـتدت على هذا النمط من الحـياة . قال نشرب القهوة في مكـان آخـر . قالت زوجتي أنـها ستـذهب لتشتري خبزا ً. قلت لا .الأفضل أن نعود إلى هنا قـبل سفرنا ونشتري . دفع الحساب وخـرجـنا مسرعيــن من البـاب الخلفي . دخلنا إلى مقهى مليء بالناس . سألني عن رايي ، قلت أنا متأكذ أنك تبالغ ، الحذر ضروري ولكن ليس إلى هذه الدرجة . لا – أجابني . غداً عندما أقتـَل سوف تتأكذ أنني لم أكن حذرا بمافيه الكفاية . تـرَكنا ومشى . مشينا وسط الشارع المزدحم ، مشينا ببطء . والله ياخـالتي بقينا في حـيفا حتى النهاية . لكن كان لابد من الذهاب في النهاية سبعة أولاد ماذا أفعل بهم . عندما اشتد القتال وأصبح يدور في جانب الشارع الذي نقيم فيه ، لم أعـد أعـرف ماذا يجـب أن نفعل . سبعة أولاد، وابني أميـــن لايزال في حـضني . عمـره ثلاثة أشهـر. وضعت الأولاد تحـت طـاولـة الطعام وتوكلـت ، ثم رأيت زوجــي قادما وإلى جــانبه مجــموعة من المسلحين . كان غسيلي علـى الحبال وطبختي على النار، لم ينتظر . بدأ يحمل الأولاد ويعطيهم للمسلحين من فوق الحائط . لبست ثيابي ومشينا ملتصقين بحيطان البيوت . وصلنا إلى شارع الناصرة ، حيث بتنا ليلتنـا في منزل شقيقة زوجـــي . فـــــي الصباح جاء أخي واقترح الذهـاب إلى الطنطورة . محمد سعيد رفض الذهـاب . إذهبـي أنت والأولاد وأنا سأبقى . ركبنا سيارة تاكسي وذهبنا . اوقفنا الجيش الانكليزي ، وبعد تفتيش دقيق سمحوا لنا بمتابعة السفر. وصلنا إلى بيت أخي في الطنطورة لنجده وقد تحول إلى تجمع سكاني ضخم . هناك زوجة أخــــــي الذي استشهد مع أولادها ، وزوجة أخي المتـوفي مع أولادها ، وزوجـة أخـي الثالث ، الذي فـُقِد منذ شهر مـع اولادها . اربع نساء و18 طفلا . بعد حوالي اسبوعين سقطت حيفا . جاء سائق من هناك وقال إن محــمد سعيد قــُتل ، قلت لأخي أنا ذاهبة إلى حيفا . قال لايمكن . لقد سقطـت المدينة والرجل مـات. أقمنا العـزاء ثلاثة أيام . وفي اليوم الرابع قال رجل من الطنطورة إن ابوعزالدين وصل . ركضت إلى الشارع . خلعت المنديل الأسود ، الذي يغطي رأسي وركضت . رأيته في رأس الشارع يلوّح بيديه الإثنتين والحطة على رأسه . قالت أنه استشهد من القنبلة الأولى . لكنهم قالوا أنه استشهد من القنبلة الثانية . وفجأة انطلق الرصاص . حاولوا خلع الباب . كان الباب مقفلا من الداخل . أطلقوا الرصاص على القفل . لم ينفتح الباب . كانوا قد وضعوا الطاولة خلف الباب . وهم خلف الطاولة ، والرصاص من الخارج . ضرب الباب بيده ،أحدث فجوة . رمى القنبلة الأولى، رمى القنبلة الثانية، ثم أطلق ست عشرة رصاصة في الجسد المرمي خلف الطاولة. كان هو . الشظايا في كتفيه والرصاص في أنحائه ، والدم على الأرض ، وإلى جانبه رجل قــُطعت ساقاه، والدم ينزف وهو يحاول إيقاف النزف . قال الأول بعد أن اعتقل ، هل مات الرجل. قال الثاني وهو يرفع إشارة النصر، هل قتل الرجل . أما هو ، فكان ملقى على الأرض ، الدم ينزف من جبينه ، يبتسم ول ايسأل من هو القاتل . في مسجد باريس ،حيث تجمع الرفاق كان البكاء يرتفع . الجميع يرتجف بالدموع . لماذا أصبحنا نبكي على الشهداء بهذه الطريقة ؟ سألتْ ليلى وهي تبكي . قلت لها بأنني لاأعرف ولاأفهم . لكن منذ أن تكاثر الشهداء خلال الحرب الأهلية في لبنان ، أصبحنا أكثر حساسية من الموت . نعيش مع الموتى ونخاف عليهم مـــــــن الموت . ــ ولكني لاأريد أن أبكي . مشت وحيدة ومشيت وحيدا ً . “إنني قاتل أو قتيل ، لكنني قاتل وقتيل قلت لها . “لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل امس الذي عبر أو كهزيع من الليل” جاء أبو عز الدين ومعه المركب . قال نذهب إلى صور . مستحيل أجبته . قال اسبوعين أو ثلاثة أسابيع على أبعد تقدير ، ثم نعود إلى حيفا بعد أن تكون الأحوال قد هدأت . والله مفاتيح بيتي معـي . ثم ركبنا . لكن حدثت بعض المشاكل . قال شباب الطنطورة أن الخروج مستحيل . لن يخرج أحـــد من البلد . نحن من حيفا ولسنا من الطنطورة . اربع نساء وثمانية عشر ولدا ، ماذا نستطيع أن نفعل إذا جاؤوا . أخيرا ً اقتنعوا وسمحوا لنا بركوب المركب بعد أن كادت تحصل مصادمات في القرية . وأقلع المركب باتجاه صور . كان البحر مظلما ً . كأنه لاوجود لشاطىء فلسطين . الأولاد يبكــون . دوار البحر، ونحن فوق بعضنا . ثم وصل المركب إلى قرب شاطىء حيفا . قال لي أبوعزالديــــن انظري ، هذه هي المدينة ، نظرت ولم أرى شيئا ً . كيف أستطيع أن أرى . الأولاد في حضني وبين قدمي ، بعضهم يبكي، وبعضهم يريد طعاما ، وبعضهم يريد أن ينام . وثلاث نساء إلى جانبي يبكين على أزواجهن وعلى البلد وعلى هذه المصيبة . أما هـو فكان يجــلس وحيدا في طــرف المركــب ، يدخن سيجارته ، التي يضمها بين يديه حتى لايـُرى أي ضوء في المركب ، وينظر إلى البحر.فجـأة اشتعلت ، ورأينا الأضواء تحـيط بالمركب من كل ناحـية . تشهّدوا قال محـمد سعيـد . نتشهّد ، يعني سوف نموت في البحر ، ماهذه المصيبة . نصيبنا ــ أجابني .لكـن لحسن الحـظ كـان المـركـب الـذي سلـُط أضواءه علينا ، مركبا انجليزيا ً . نزل جنديان إلى مركبنا ، رأوا النساء والأطفال ، قالـــــــوا كلمات لم أفهم معناها ، لكنهم أشاروا بأننـا نستـطـيـع متـابعـة السير ، وسار المركب باتجاه صور ، والله لم أنظـر إلى حيفا كما نظـر إليها الجـميع . والذيـن غادروا في وقـت مبكـر قالــوا إنهم ظــلـّوا ينظرون إليها والمركب يبتعد ، حتى تحولت إلى حمامة سوداء ، تسبح فــي البحر . أنا لم ألاحظ لا الحمامة ولا غير الحمامة . كيف تـريـدون أن ألاحـظ . في التـاسعة صباحا وصلنا إلى صور . قلنا الحمد لله . ولكن فور نزولنا إلى الشاطىء رأينا الطاولات وعليها الأوراق . يسألون ألف سؤال قبل أن يسجلوا أسماءنا . سألت ماهذا ؟ قالوا تسجيل اللاجئين . محـمد سعيد رفض . لن نتسجـل قــال : نحـن لسنا لاجئين . بعـد شهر على أبعـد تقدير نعـود إلى حـيفا . فلماذا نقـف في الطوابير ونسجـل أسماءنا . قلت نتسجل . ماذا سنخسر . قال لا . بقينا على شاطىء صور وسط آلاف الناس ، الذيــن جاؤوا من شمالي فلسطين . كانت الناس تستلقي على الشاطىء ولاتعرف ماسيجري لها . ثم استأجر محمد سعيد غرفتين في صور حيث سكنا جميعا . بقينا هناك إلى أن جاءنا خبر من سليــم الشعـّار ، وهو أحد أصدقاء زوجي ، بأنه مستعد لاستقبالنا في دمشق ، فذهبنا إلى دمشق . إيليا يقف في انتظار إنجاز معاملات العودة على الحدود السورية ــ اللبنانية ويحدثني عن مصارعة الثيران .قلت له إني لاأعرف كثيرا عن الموضوع ، لكنـي معجـب بشخـصية المصارع . لـقد رسمها بيكاسو بشكــل مدهش ، الحـبر الصينـي والحركة التي تتجمد عند لحظة تشبه الـعـنـاق بيــن المـصارع والـثور . قــال لا . المصارعة شيء آخر وأكثر حدّة .قال إنه شاهد الكثير من حفلات المصارعة في اسبانيا ، لكن المدهش هو ما لا تشاهده . هل تعلم ، لايستطيع الثور أن يناطح إلا في مكان محدد في الحلبة . يركض في الحلبة بأسرها . لكنه لايستطيع أن يقاتل إلا على جزء محـدد منها . والمصارع الجيد هو الذي يستطيع تحـديد هـذا المكـان بسرعـة . المصارع يحـاول استـدراج الثور إلى الخـارج ، والثور يحاول دفع المـصارع إلى الداخل . لـذلك يستطيع المصارع الاقتراب من ضحيته بشكل ملفت للنظر في بقية أنحاء الحلبة . ومن أخبرك؟ سألته . أحد المصارعين ــ أجابني . مدريد القديمة. نبيذ وخنزير مقدد ونساء . الساحة الفسيحـة تمتلىء بالعشاق ، الذين يخـرجون من الحـانات الضيقة . في الساحة رأيته ، رأيت الناس يتجمعون حول رجل مستلق على الأرض . تقدمت منه .كان يمسح كمّه بفمه الممتلىء خمرا ً ويتـكلم ، إنـه مصارع تقاعد لأنه أصيب . كان يــروي نفس القصة دائـما ً . فضح سر المهنة ، ولايزال يسكر . أقمنا في منزل الشعار حوالي اسبوع . لكن مستحيل . لقد خرّب الأولاد كل شيء . ثمّ استأجرنا منزلا فــي حـــــي مدينة الشحم قرب سوق الحميدية وسكنـّا جميعا . بعد اسبوعين جـاءنا خبر الطنطورة ، لاأعرف كيف سقطت . أنا لم أكن هناك ، والروايات كثيرة ، الشيء المؤكد أن اليهود حيـن دخلوا القرية ، جمعـوا شبابها قرب شاطىء البحروقتلوهم . كان عددهم 158 شابا، أنت تعلم ، الطنطورة على الشاطىء ورجــــالــــها بحـّارة . لكن ماذا يستطيعون أن يفعلوا . طائرات ودبابات . أخذوهم إلى الشاطىء ، وهناك فتحوا عليهم نيران الرشاشات ، وتركوا جثثهم مرمية عدة أيام . أنـا لـم أرى المشهـد . إبنـة عمي تقول أن الجثث كانت تلتمع تحـت أشعة الشمس . ياحـيف على الشباب ، قالت إنهم كانـوا كالسمك الميـّت ، الــــذي لايلتفت إليه أحـد .لا أعلم إن تمّ دفنهم ، بلـى ، قالوا إن بعض النساء تسلل في الليل وسحـب الجثث . كانت مليئة بالرمل والغبار والديدان . ثم حُفرت حفرة وتم دفنها . أولاد عمي ماتوا هنــاك . إنهم شهداء . لايهـم الشهيد إذا دفن أو غُسل ، دمه يطهـّره . أقاموا الآن مستعمرة يهوديـة مكـان الطنطورة وسمـّوها دور . لا، لايوجد لنا أقارب هناك ، الرجال قـُتلوا والنساء والأولاد تشتتوا في لبنان والاردن . هل تعلـم ، الطنطورة بلد جميل . وكان لها عز في الماضي ، لكن راحت البلاد . أنا لم أكن أفهم فــي السياسة . السياسة ياخالتي، لها رجالها . لكنه هو ، الشهيد الله يرحمه كان يحدثني دائما في السياسة ، وكان يخـبرني عــن الطنطورة . قرأ عنها في الكتب . قال إن نابليون انهزم إليها عندما انهزم من عكا . كان يخبرني عن الجنود والطاعون والحروب . كنت أقول له يكفي ماأصابنا ، لكنه كان يقرأ فــــــي كتاب سميك ويخبرني . نهضت الأخـت وجلبت كتابا . أمسك إيليا الكتاب وأشار إليّ . “عام 1799 مرّ بالطنطورة في شهر أيار، نابليون وجيوشه المتقهقرة عن عكا وهي في طريـقها إلـــــــى مصر… رأيت بعينيْ رأسي ضباطا مبتوري الأطراف يلقيهم حمّالوهم عن نقـّالاتهم ورأيت رجالات مبتوري الأطراف وجـرحى ومرضى بالطـاعون . أو ربما يـُشتبـه فـــي إضابتهم بالطـاعون ، يـُتركون في الحقول . وكانت تضيء لنا في سيرنا المشاعل ، التي تـُحرق بها المدن والقرى والمحاصيل الغنية . وأصبح الريف كله شعلة من نار . ولم نر حولنا إلا ّ رجالا ً في النزع الأخير . وآخرين ينهبون ويسلبون وغيرهم يحرقون . كان المرضىعلى جانب الطرق يقولون بصوت لايكاد يـُسمع : إنني جريح فقط ولست مصابا بالطــاعــون . ولكي يـُقنعوا من يمرون بهم كانوا يفتحون جروحهم أو يحدثون في أجسادهم جروحا جديدة . ولكن أحدا ً لم يصدّقهم ، وكان القوم يقولون إنه ميت ، ثمّ يعبرون ” . “لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل أمس الذي عبر ، أو كهزيع من الليل ” . ليلى تتكلم وهو ينظر إلى يديها . لاأعلم لماذا تذكـّرني بأبي قالت له . ذهبنا إلى بعلبك . دخلنا مــــــن النفق الصخري أمامنا كان معبد باخوس مضاء بألوان خافتة تتفجرمن حجارته . كنت أسير إلى جانبه . ارتفعت الموسيقى وأنا أحاول الإمساك بيده .لكنه كان يسير مسرعا ً وسط الزحام . قلت له لا تـُسرع ،لم يلتفت إلى الوراء،ثم سقط . اعتقدت أن الموسيقى توقفت . سقط كما تسقط الشجرة . لاأعلم من أيــن جاءت المساحة الفارغة التي سقط عليها . المكان مزدحم بالناس وأنا لم أستطع اللحاق به . رأيته مرميا على الأرض وقفت أمامه. لم تتوقف الموسيقى . كان ملقى على جنبه . جلست علـى الأرض وأمسكت بيــده ، ثمّ تجـمع الناس . أبعدوني عنه . قلت لهم إنه أبي وأني أريد أن أمسك يده . جاء الأطباء . قالوا إنهم يحاولون . لكنه كـان قـد مات . عزالدين دخل إلى الجامعة وكان عمره 19 سنة . قال إنـه يريد أن يدرس الكيمياء ، قلـت لــه له ياإبني ولكن لماذا لاتدرس دكتور . تكلـّم، فلم أفهم . لكنه بعد ذلك صار دكتورا في فرنسا . قال لي إنه صار دكتورا في الكيمياء . لكنه لايشتغل دكتور . يشتغل مع الفدائيين . كـان في السنة الثانية في الجـامعة عندما جاءت المخابرات وطوّقت الحارة ، ثم طرق اثنان على الباب . فتح محمد سعيد الباب ولم ينتبه أنهم من المخابرات .صاح له بأن أصدقاءه في انتظاره . خرج واستقبلهم . قال لهم انتظروني خمس دقائق حتى ألبس ثيابي . لبس ثيابه وخرج ولم يعد . أربعة أشهر وأنا أبحث عنه ليلا ً ونهارا ً ولا أعرف عنه شيئا ً. سألت الجميـع . جميــع مراكز البوليس وجميـع الناس . لاأحد يعرف .قلت راحت عليك ياأم عزالدين . ثمّ جاءت امرأة وطرقت بابي . قالت إن ابنها اعتقل مع ابني ، وأنهم وضعوا الجميع في سجن المزّة . ذهبت أنا والمرأة إلى المزّة .العسكر على الباب . قالوا ممنوع . قلت لهم إبني ، قال ابنك ممنوع ، قلت لــهم هـو هنا وأريد أن أراه . قالوا إن الزيارات ممنوعة . ثم جاءني أحدهم وقال لي إذهبي إلــــى المباحث واجلبي ورقة من هناك ، بعدها نسمح لكم بالزيارة . أنا كنت قد حملت لإبني بعض الثياب . خرج من البيت وليس معه سوى بذلته التي كان يلبسها ، أعطيت الثياب للعسكري وذهبت دون أن أراه. بعد عدة أيام ذهبنا إلــى الشرطة العسكرية قرب الجامعة . وبعد الكلام أعطونا الأوراق . حملناها وذهبنا إلى المزّة . هنـاك كانت النساء فوق بعضها .أدخلونا بعد الرجاء والكلام كل خـمسة نساء سويا ً . لـم نتكلم معهم . السجناء خـلـف الحـديد ، ونحـن نبعد عنهم خـمسة أمتار أو أكثر ، والجـميع يتكلمون سويا ً يصرخون ويلوحون بالمناديل ويبكون . حالة لاتوصف . تكلم وتكلمت ، ولكني رأيته ، وأصبحت أذهب إلى المزّة اسبوعيا . وكل اسبوع تتكرر الحكاية نفسها . ثم توصلنا إلى اتفاق ، كل إمرأة تتكلم دقيقة واحدة مع ابنها . لكن الاتفاق لـم يطـبـّق فعليا . في كل مرة كانت إحدى النساء تستأثر بالحديث ، ثم يعلو الصراخ ، المهم أنهم قالوا لي لماذا لايوقع على الأوراق ,قولـــي لـه أن يوقع فيخـرج من السجـن . قلت له أن يـوقع ، فماقيمة الأوراق ؟ لكنه رفـض . كان يقول لي أنه لن يتبرأ من الحزب الشيوعي لأنه ليس عضوا فيــه . قلت له بسيطة . أنت لست عضوا فماذا تخسر ؟ قال أخسر كرامتي . ياابني ماهذه العقلية . كرامته متعلقة بالتوقيع . الكثيرون وقعوا وكـــانوا أعضاء . والله لاأعلم إذا كان عضوا ، أنا لست متأكدة . لكنه لم يوقع . قلت له أنا أوقع عنك . فضحك وقال بسيطة . بقي ثلاث سنوات . مرة طلب مني أن اذهب إلى وزير الداخلية وأقول له إن ابني سجين ، وهــــو فلسطيني ولاعلاقة له بشيء . حاكموه أو أطلقوا سراحه . ذهبت إلى مكتب الوزير .تستطيع أن تتخيل مبلغ الصعوبات التي واجهتها ، دخلت إلى المكتب . طبعا لم أر الوزير ، فنحن لانستطيع مقابلة الوزراء .كــان هناك حاجـب ، أخبرته قـصة إبني وبكيـت . بكـى الرجل ووعدني خيـرا . ولكن من أين يأتي الخير . بقينا هكذا ثلاث سنوات ، وأنا أدور من البيت إلى السجـن ، ومن السجـن إلى مكاتب الحكومة .لكـن لكـل شيء نهاية . كان على ماأعتقد نهار الاثنين ، صلّيت العصر وجـلست عـلى الشرفة أبكي . كنت متأكذة أنـه لـن يخرج . قـُرع الجرس ، فتحت الباب ، كان أحد فتيان الحي يقف خلفه لاهثا ً . قال لي أنه التقى عـزالـدين في رأس الشارع ، وأن عـز طلب منـه أن يأتـي ويخـبـرني بأنه قادم . خـرجـت مـن البيـت وتركت الباب مفتوحا . ركضت في الشارع فرأيته . كان يمشي ببطء ، يلبس البذلة نفسها ،التــي ذهب بهـا إلـى السجن ، حليق الذقــن ويبتسم . أدخـلته إلى البيت ولم أره . جـاءت الناس لتهنئته بالخـروج . لكني فرحـت ، قلـت فـُرجت . وبعدها صاريــذهب إلى الجامعة ويــدرس. أنهى الليسانس وسافر إلــى السعــودية . عاش فـــي السعودية بضع سنوات ثم عاد إلى دمشق . قال إنه سيسافر إلى فرنسا من أجل إكمال دراسته . سافر. أخذ الدكتوراة في الكيمياء وبقي هناك . كنت أكتب له أن يرجع ، لكنه لم يجـاوب . ثم علمت أنـه يعمل معـهـم . وعندما استشهد الهمشري خفت كثيرا .قلت له بأنهم سيقتلونك فلماذا لاتعود . قال لا ، لاأستطيع . قـلت لـه إني أتمنى لويدخل السجن ، هناك يرتاح بالي وهو يرتاح . صار يضحك . القبـرأكثر راحة أجـابني .كـان يمازحني دائما ً عن الموت والقبر . ظل هناك حتى جلبوه في النعش ، فهو شهيد ، وقد اختار طريقه . لكنه مات . سبعة كانوا، وثامنهم كان الهمشري ، أولهم دخل أحـد السجون العربية فور وصوله إلى بلده .قيل لأنــه قذف قنبلة يدوية في الشارع على رجال الشرطة . وقيل أنه جاء وأعلن الكفاح المسلح ، وقيلت أشياء كثيرة ، لكنه دخل السجن وبقي هناك . تساقطت أسنانه وأصيب بجميع الأمراض الممكنة . وثلاثة قتلوا في باريس . الأول كان الهمشري . أخذ سماعة الهاتف فانفجرت . قيـل إنها كانت ردا على عملية ميونيخ . وقيـل إن الصهايـنـة يستطيعون الانتقام وقيل. لكنه لم يقل شيئا ً . كان يعمل ويعمل. وحين مات دفن في مقبرة بير لاشيز فــــــــي باريس . وإلى جانبه دفن الثالث ، حيث أطلق عليه الرصاص وهو خارج من المكتبة ، فسقط في الشارع وسط الحي اللاتيني وشرب من بركة الدم التي نزفت من جسده .ورابعهم قتل فــــــــي مكتبه فــــي شارع هوسمان . خامسهم سُحب منه جواز سفره ، وهـو يعيـش الآن باحـثا ً عن جواز سفر وعن امرأة . وسادسهم وسابعـهم وثامنهم و…لقد مات الكثيرون فـــــــي الحرب الاهلية ، ومازال الفدائيون يتكاثرون . هو كان الرابع ، الغرفة الضيقة على سطح إحدى البنايات . العمل ، النشاط ، الموت . لكن برد باريس كان شديدا ً . لم يتعود هذا البرد . معطفه كان قديما ومهلهلا . يركـض مـن المترو إلى الإجتماع ومـن الإجتماع إلى الموت . والغرفة الصغيرة الباردة ، حيث علـّق معطفه للمرة الأخيرة ، كانت هناك . قيل أنه اشترى قبرا ً قرب قبر الهمشري . وقيل أنه كان يفضل أن يـُدفن هناك . لكن من يـدري . تراب الـوطـن افضل قالوا . إنه الآن أكثر قربا من أرضه .لكنه كان يعلم . رابعهم كان يعلم أنه سيقتل ، لم يتوقع القنبلة . كان يعتقد أنه سيقتل بمسدس له كاتم صوت . قال إن الرصاصة لاتؤلم كثيرا ً . وماذا يهم ، تدخل الرصاصة فـــــي الجسد وتـتّـبع حركته، الافلام البوليسية مزورة . الرصاصة لاترميك ، أنت ترميـها ، تدخـل إلى جسدك فينهار الجسد ، ولايندفع ، وتنهار الرصاصة التي في داخله . لكنهم قذفوه بقنبلة. كنت أتمنى له أن يستشهد برصاص الصهاينة ، قال الأب . لكن الصهاينة هم الذين قتلوه ، أجاب إيليا . ــ طبعا ً ، طبعا ً . لكن كان من الأفضل أن يـُقتل برصاص صهيوني . ــ لكن الصهاينة هم الذين قتلوه . الشهداء لهم الجنة ، قال الأب . الموت حق، قال إيليا . الموت حق . الياس خوري – كاتب لبناني المصدر : دورية “شؤون فلسطينية” – العدد 83 تاريخ أيار (مايو) 1979

ورقة للنقاش عن الأحزاب في التجربة العربية


ورقة للنقاش عن الأحزاب في التجربة العربية تقديم: سعود المولى ليس هناك معرفة علمية مسبقة، ناجزة، تفسيرية واستنتاجية، حول الحزب السياسي العربي الحديث. وبالتالي فإن الحزب السياسي العربي لا يخضع أو أنه لا يمكن أن يُدرج ضمن أي تصنيف علموي شائع. وهذا الأمر يقضي بالتالي (أو يتطلب منا) أن نحاول إيجاد إطار نظري مرجعي مختلف وجديد ومناسب لقراءة الأحزاب السياسية وفهمها وتحليل سياساتها. ومن فرضياتنا الأساسية أنه لا وجود أصلًا للحزب الأوروبي الحديث والصافي في البلاد العربية، سواء بالمعنى العلماني الليبرالي الذي يقوم على أساس العقيدة الأيديولوجية أو السياسية (بحسب موريس دوفرجيه )، أم بالمعنى الماركسي اللينيني الذي يقوم على أساس التمثيل الطبقي أو الوحدة الاقتصادية (بحسب لينين وتروتسكي وستالين وأشياعهم ). كما أن الحزب الحديث قام في أوروبا تلبية لحاجة موضوعية داخلية. بينما الحزب الحديث عندنا نشأ في فترة غلبة القوى الاستعمارية الخارجية على الداخل بعد إنهيار الدولة العثمانية، فلم يتواجد هذا الحزب على المستوى الواقعي بل كان على هامش الحياة السياسية للبلاد وقضاياها . الحزب العربي الحديث كان مجرد جهاز أيديولوجي مركزي يعكس حاجات ورغبات نخب مثقفة في قطاعات وكتل حديثة؛ وفي الوقت نفسه يتوزع على، ويستند إلى، علاقات تقليدية لا صلة لها بنصه التأسيسي أو بأحلام وأماني مناضليه.. والأحزاب العربية عمومًا ليست أكثر من تشكيلات مركزية منظمة تقوم على تكتلات وتجمعات "أيديولوجية" ،أي أن لحمتها وعصبها وعشيرتها هي الأيديولوجية دون أن يعني ذلك أنها تخرج عن السياق العام للإنقسامات التقليدية في البلاد والتي تفعل فيها عوامل الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي ، الأمر الذي يجعل هذه الأحزاب أسيرة (عن وعي أو عن غير وعي: لا فرق) للتجاذبات والمحاور الطائفية والجهوية وغيرها، كما للتدخلات الخارجية. ولكن هذا لا يعني عدم وجود تشكيلات منظمة تحمل اسم الحزب في التاريخ الاجتماعي والسياسي للعالم العربي. هذه الأحزاب لها صيغة خاصة بها سنحاول دراستها. 1- الأحزاب السياسية: بعض التعريفات ظهرت في أوروبا مبكرًا مقاربتان حول الاحزاب السياسية: بعض علماء السياسة فضلوا المفهوم الواسع عن الحزب السياسي باعتباره يضم مختلف أنواع الكتل والعصب والاتحادات والتجمعات والتشكيلات ، التي تهتم بممارسة السلطة أو بالكفاح من أجل السلطة..وهم بذلك كانوا يعكسون مفهومًا عن الظاهرة السياسية يرى أنها ولدت مع ولادة البشرية (أي منذ انقسام المجتمعات البشرية ما بين حكام ومحكومين... وولادة السلطة السياسية). وهذا المعنى للحزب يشمل ما نعرفه عن الأحزاب العربية الإسلامية السابقة على العصر الحديث والتي تحمل سمة الانقسامات العصبية القبلية أو المذهبية الدينية كالحزب القيسي واليمني والحزب العلوي والهاشمي والعباسي والأموي وصولًا إلى الانقسام في جبل لبنان بين يزبكي وجنبلاطي أو شهابي ودستوري... وعلى مقلب آخر تبنى علماء سياسة آخرون مفهومًا أكثر تحديدًا ودقة يربط الحزب السياسي ببروز ظاهرة المؤسسات التشريعية والنظم الانتخابية... وهم بذلك عكسوا في الحقيقة مفهومًا عن الظاهرة الحزبية يعتبرها وليدة القارة الأوروبية وجاعلين تاريخ ظهورها لا يرقى إلى أبعد من القرن التاسع عشر.. كان ماكس فيبر أول من أشار إلى الأصل البرلماني للحزب السياسي وتبعه في ذلك موريس دوفرجيه الذي قال إن الحزب الحديث نشأ بعد قيام البرلمانات والانتخابات . وهو ناقش في عمله الرئيس (الأحزاب السياسية 1951) مسألة تحول الكتل أو الأجنحة البرلمانية factions ونوادي النخب السياسية clubs إلى تلك الأحزاب السياسية الحديثة. ومما جاء به أن الكتل والأجنحة والنوادي ليس هي الحزب السياسي الحديث ولكنه مثلها تعبير عن كونه جزءًا من كل، وعلى سلوكه سلوكًا شموليًا احتوائيًا للكل، في آن. وبحسب دوفرجيه فإن الحزب يقوم على عقيدة أيديولوجية أو سياسية تجمع الناس في اتجاه العمل من أجل الحكم أو السلطة. وقامت نظرية هذه المدرسة على مسلمة انقسام الأحزاب السياسية إلى شكلين لا غير تبعًا لأصل منشأ ولادتها: - الأحزاب ذات المنشأ الداخلي وهم يقصدون بها تلك الأحزاب التي ولدت من رحم تطور داخلي عرفته المؤسسات التشريعية في أوروبا..وقالوا إن هذا الشكل هو الذي عرفته معظم الأحزاب الأوروبية منذ الثورة الفرنسية 1789. - الأحزاب ذات المنشأ الخارجي: وهم يقصدون بها تلك الأحزاب التي ولدت من خارج المؤسسات التشريعية وشكلت تحديًا في وجه النظام القائم وهدفت للوصول إلى التمثيل البرلماني. هكذا ولدت كل الأحزاب الإشتراكية في القرن التاسع عشر، وتلتها الأحزاب الشيوعية لاحقًا (بعد الثورة الروسية)، ثم الأحزاب المسيحية والمسيحية- الديموقراطية بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى العموم فقد جعل علماء السياسة أحزاب العالم الثالث تنتمي إلى النمط الثاني خصوصًا وأنها كلها كانت في الأساس حركات استقلال وطني أو تجمعات دينية أو طائفية أو إثنية أو عشائرية تطورت فيما بعد خارج إطار النظام البرلماني الشرعي السائد والذي أقامه الاستعمار أو الانتداب الخارجي. وهذه المقاربة البرلمانية افتقدت شيئًا أساسيًا حين لم تستطع أن تفهم سبب وجود وقوة الظاهرة الحزبية السياسية في العالم الثالث . وكخلاصة نقول إن مصطلح الحزب السياسي قد ولد بحسب هذه النظريات السالفة الذكر في القرن التاسع عشر مع تطور مسألة التمثيل السياسي ومؤسساته وانتشار ظاهرة الانتخابات والتصويت في أوروبا والولايات المتحدة. وكان المقصود بالحزب تلك المنظمات ذات الأهداف السياسية المتمثلة في استلام الإدارة العامة بواسطة تنافس انتخابي مع حزب أو أحزاب أخرى. ومع الوقت صار مصطلح الحزب يطلق على كل منظمة سياسية حتى تلك غير المنخرطة في نشاط انتخابي في سياق عملية تدأول السلطة... من مثل الأحزاب الصغيرة التي لا تملك توقعات أو حظوظًا جدية موضوعية بالوصول إلى مواقع سلطوية من خلال الانتخابات، والمنظمات الثورية التي تدعو إلى تدمير النظام الانتخابي أصلًا، والجماعات الحاكمة في الأنظمة الشمولية. ويبدو أن النظرية التي تقول إن الاحزاب السياسية هي ثمرة التطور في أنظمة الانتخابات البرلمانية الأوروبية وهي علامة على التحديث السياسي، قد جعلت المنظّرين للتحديث وللتطورية السياسية يركّزون أكثر من غيرهم على دراسة الأحزاب في البلدان النامية ليس فقط باعتبارها أداة أو وسيلة للتحديث والتطوير وإنما أيضًا باعتبارها ثمرة لأوضاع وسياقات مختلفة عن أوضاع وسياقات أوروبا وأميركا الشمالية للقرنين التاسع عشر والعشرين. وعلى هذا الصعيد هناك كمية كبيرة من الدراسات والكتابات التي حاولت إيجاد وصلة ما بين أزمات التطور والتحديث السياسي والظاهرة الحزبية. وأبرز من قام بذلك هما جوزيف لابالومبارا ومايرون فاينر حيث حاولا أيضًا إيجاد صلة ما بين أزمات الشرعية والاندماج والمشاركة من جهة وما بين السياقات والظروف الخاصة بولادة الظاهرة الحزبية من جهة أخرى، وذلك في إطار نظريتهم التاريخانية حول الأحزاب السياسية. وبالنسبة لهما فإن أزمة الشرعية كانت السبب الرئيس لتحفيز ولادة بعض أوائل الأحزاب السياسية في أوروبا والعالم الثالث في آن معًا.. وبحسب ما كتباه فإن فشل الحكومات في الرد المناسب على تحدي أزمة الشرعية (أكان ذلك في فرنسا الملكية أواخر القرن الثامن عشر أم في فرنسا الاستعمارية أواخر الخمسينيات من القرن العشرين) يولِّد أزمة مشاركة يتطور معها ومن خلالها تشكيل الأحزاب السياسية التي تمسك بكلتي يديها بمهمة إيجاد منظمات محلية ونيل الدعم المحلي. وفي الوقت نفسه تفتح أزمة الاندماج-التكامل الطريق أمام ولادة بعض الأحزاب السياسية: والمقصود بالاندماج-التكامل هنا الاندماج الوطني (القومي) للجماعات المحلية أو الإثنية-الثقافية-السياسية التي كانت ضحية التقسيم والعزل (في إيطاليا وألمانيا تشكلت الأحزاب في خضم هكذا أزمة)... وفي الوقت نفسه أيضًا فإن تشكل الأحزاب السياسية يتوافق في معظم الحالات مع أزمة المشاركة. فقد أفضت التغيرات الاجتماعية- الاقتصادية الكبرى التي حصلت في أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى تغيرات هائلة على مستوى النظام الاجتماعي. فسقوط النظام الإقطاعي سمح للقوى الاجتماعية الجديدة أن تطالب بالتمثيل السياسي المناسب لحجمها ووزنها (الطبقات الوسطى خصوصًا ثم الطبقات العمالية لاحقًا) وأن تشارك بالتالي في العملية السياسية وفي صنع السياسة. لقد كان لمقاربة التطويرية السياسية (التي صاغها المجلس الأميركي للبحوث في العلوم الاجتماعية برئاسة غابرييل ألموند) مصدران مرجعيان: الأيديولوجية الليبرالية الأميركية من جهة، وأيديولوجية التطور من جهة أخرى. وهي ساعدت بشكل عام في تطوير أدبيات المدرسة السلوكية في دراسات التطويرية السياسية. والهم الرئيسي لهذه النظريات تمثل في كيفية جعل التطور السياسي في البلدان والدول حديثة الاستقلال في آسيا وأفريقيا تسير في اتجاه إقامة أنظمة ديموقراطية ليبرالية. وكان ذلك جزءًا واحدًا من نظرية أوسع تركز على التحديث وتقوم على التمييز في العلوم الاجتماعية بين الحداثة والتقليدية... وهذا التقسيم يرجع إلى أفكار ماكس فيبر عن التقليدية باعتبارها حقيقة ماقبل-دولتية وماقبل-عقلانية وما قبل-صناعية. وبحسب المنظرين لهذه المقاربة فإن الدولة القومية العلمانية الجديثة هي قمة التطور وهي تحل محل السلطات التقليدية المتعددة سلطة سياسية موحَّدة وموحِّدة علمانية وقومية؛ وإن الأسس العامة للتطور السياسي التي ينبغي على المجتمعات تأمينها هي: المساواة، التمايز التخصصي، والقدرة. * المساواة بمعنى سيادة القواعد الحقوقية والقوانين على كل جوانب المجتمع بحيث يتساوى أمامها كل المواطنين بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو الأصل الاثني أو الطبقي الخ..وبحيث يكون تولي المناصب العامة على أساس الكفاءة والقدرة على انجاز المهمات والمنافسة الحرة في ذلك..وليس على أساس الانتماءات القبلية والعشائرية والعائلية والدينية أو العلاقات الشخصية (المحسوبية والزبائنية). * والتمايز بمعنى التخصص الذي يميز ويخصص الأدوار. * والقدرة بمعنى قدرة النظام السياسي على حل النزاعات وعلى الاستجابة للطلبات الشعبية بالمشاركة والعدالة. هذه المدرسة رأت في الحزب السياسي أداة تحديث كما الدولة وأنه مثلها يركز على التخصص في الأدوار وعلى الفصل بينها. وعلى المستوى ذاته كان كارل ماركس قد أوضح أن الرأسمالية والبورجوازية الصناعية هي قوى ثورية تكنّس رجعية "التقليدية" وتحطّم أشكال الإنتاج والاجتماع التقليدية. واعتبر هو وأنغلز في البيان الشيوعي أن الطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا) هي الوحيدة القادرة على إعادة تنظيم المجتمع تنظيمًا ثوريًا يستجيب لحاجات النمو من جهة وزوال مجتمع الطبقات من جهة أخرى، وبالتالي فهي تحتاج إلى حزب منظم على المستوى العالمي (أممية الاتحادات العمالية) لقيادة كفاحها. وجاء لينين ليقول إن الحزب بناء فوقي سياسي وهو تعبير عن مصالح طبقية وأن لكل طبقة حزبها الذي يدافع عن مصالحها والحزب الشيوعي هو حزب الطبقة العاملة وهو تنظيم طليعي من خارج الطبقة العاملة يتشكل من مثقفين ومناضلين محترفين ملتزمين ويقوم بإدخال الوعي الثوري إلى الطبقة العاملة لتثويرها وتنظيمها وقيادتها. وقال ستالين إن الحزب هو القطاع الطليعي من الطبقة العاملة يتشكل ممن هم الأكثر وعيًا ونشاطًا في صفوفها. الإسهام الجديد لهانتنغتون: أعطى صموئيل هانتنغتون أهمية أكبر للطابع المؤسسي للتحديث خصوصًا لدور الأحزاب السياسية في البلدان النامية. فهو يقول بأن التحديث يستلزم بالضرورة "تعبئة اجتماعية" و"مشاركة سياسية" وهذه قد لا تقود الى الديموقراطية والاستقرار والتمايز البنيوي والاندماج-التكامل الوطني، وانما على العكس من ذلك الى انحلال النظام السياسي وزعزعة الاستقرار والفساد والعنف، اذا لم تكن عمليات التعبئة الاجتماعية والمشاركة السياسية مؤطرة عبر مؤسسات سياسية قوية وفاعلة.وهنا تكون الأحزاب السياسية أهم ركائز هذه االمؤسسات..وبالتالي فإن تشكيل وتطور الأحزاب السياسية يصبح بحسب هانتنغتون واحدة من ضرورات التحديث السياسي في البلدان النامية. ومعارضة هذا الاتجاه تأتي بحسب هانتنغتون من 3 قوى: 1- المحافظون الذين يرون فيها تحديًا جديًاو خطرًا على نظامهم الاجتماعي التقليدي. 2- الإدارة التي تخاف من المشاركة السياسية لأن نموذجها هو بيروقراطية تبحث عن الفعالية وتجنب حالات النزاع.. 3- الشعبوية التي تدعو الى ديموقراطية من دون أحزاب لأن الأحزاب هي مصدر الفساد الإداري والانقسامات الاجتماعية واللا استقرار السياسي والتدخلات الخارجية. نقد نظريات التطويرية السياسية: من الناحية الأيديولوجية ارتكزت هذه النظريات على تحيز إلى النموذج الغربي الرأسمالي في التطور. فجعلت التحديث يساوي التغريب ووضعت النظام الاجتماعي الغربي نموذجًا يحتذى. وهذه المقاربة اعتبرت المنهج الوظيفي ومفاهيم النظام والنسق أطرًا مفاهيمية ونظرية موجِّهة لدراسة كل المجتمعات، في حين أنها لم تكن مناسبة للمجتمعات النامية.. كما أنها أهملت الأبعاد التاريخية والاقتصادية-الاجتماعية كمتغيرات أساسية في التحليل النظري..وفشلت في فهم حقيقة ونتائج اللامساواة في توزيع السلطة والثروة على المستوى الدولي (الشمال الغني والجنوب الفقير)... يبقى أن هذه المقاربة ما تزال صالحة لالقاء الضوء على دور الأحزاب السياسية كأدوات/وسائل للتطوير والتحديث في العالم الثالث.. فالأحزاب السياسية بهذا الاعتبار واحدة من عدة أدوات/وسائل كالجيش والبيروقراطية والزعامة الكاريزمية، التي تساهم في حل أزمات التطور مثل أزمة الاندماج الوطني وأزمة المشاركة وأزمة الشرعية. 2- الحزب في الواقع العربي القول إننا لسنا مثلهم (الغرب) وإننا نحتاج إلى عملية تطوير وتحديث إذ ليس عندنا دولة وحزب ولا حتى نقابات أو مجتمع مدني هو قول خطأ. أصلًا مفاهيم مثل الدولة والحزب والمجتمع المدني حديثة في الغرب نفسه. وفي الشرق نشأت أول مدن في التاريخ وأول مدن/دول مثل المدن الفينيقية وقبلها مدن بابل وآشور ...إلخ. الناس، كل الناس، والمجتمعات البشرية، كل المجتمعات البشرية، أنتجت وتنتج أشكالًا من التتنظيم والانتظام الاجتماعي السياسي خاصة بها ومتطابقة مع واقعها ووفق سياقاتها... إنما تختلف المفاهيم والمصطلحات والمداليل. ونحن عندنا مشكلة في توطين أو تبيئة المفاهيم الحديثة بالاستناد إلى خبرتنا وتجربتنا التاريخية و إلى لغتنا نفسها. ويمكن إعطاء أمثلة على مفاهيم ومصطلحات تحتاج إلى توضيح وإعادة تفسير ضمن سياقهاتها المحلية والخارجية: الوطن/المواطن/الأمة/الدولة/...الحزب. وما يهمنا هنا هو مفهوم ومصطلح الحزب. الحزب في اللغة العربية الحزب : جماعة الناس ، والجمع أحزاب ؛ والأحزاب : جنود الكفار ، تألبوا وتظاهروا على حزب النبي، وهم : قريش وغطفان وبنو قريظة . وقوله تعالى :(ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب)، الأحزاب هاهنا : قوم نوح وعاد وثمود ، ومن أهلك بعدهم . وحزب الرجل : أصحابه وجنده الذين على رأيه ، والجمع كالجمع . والمنافقون والكافرون حزب الشيطان ، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضًا بمنزلة عاد وثمود وفرعون أولئك الأحزاب.و(كل حزب بما لديهم فرحون) كل طائفة هواهم واحد . والحزب : الوِرد؛ وورد الرجل من القرآن والصلاة: حزبه . والحزب : ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة وصلاة كالورد... وفي حديث أوس بن حذيفة: سألت أصحاب رسول الله ، كيف تحزبون القرآن ؟ والحزب : النصيب . يقال : أعطني حزبي من المال ؛ أي حظي ونصيبي . والحزب : النوبة في ورود الماء . والحزب : الصنف من الناس . قال ابن الأعرابي : الحزب : الجماعة . والجزب ، بالجيم: النصيب . والحازب من الشغل : ما نابك . والحزب : الطائفة . والأحزاب : الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء ، وفي الحديث ذكر يوم الأحزاب ، وهو غزوة الخندق . وحازب القوم وتحزبوا : تجمعوا ، وصاروا أحزابًا . وحزبهم : جعلهم كذلك . وحزب فلان أحزابًا أي جمعهم... وفي الحديث : اللهم اهزم الأحزاب وزلزلهم ؛ الأحزاب : الطوائف من الناس ، جمع حزب ، بالكسر . وفي حديث ابن الزبير : يريد أن يحزبهم أي يقويهم ويشد منهم ، ويجعلهم من حزبه ، أو يجعلهم أحزابًا ؛ وتحازبوا : مالأ بعضهم بعضًا فصاروا أحزابًا . الحزب في القرآن والسيرة ورد استعمال(الحزب) في القرآن على معان عدة، منها: - الأول: القوم المجتمعون على محاربة النبي ودعوته، قال تعالى : (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (سورة الأحزاب:22). - الثاني: المجتمعون على الباطل واتباع منهج الشيطان، قال تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون) (المجادلة:19 ). - الثالث: المجتمعون على اتباع منهج الحق من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان، قال تعالى : (أولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22). - الرابع: الأمم الكافرة التي سبقت أمة الإسلام، وهي الأمم التي كذبت الرسل، قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ أولئِكَ الْأَحْزَابُ)ص:12-13). وقد ورد كذلك إطلاق كلمة حزب على نصف الجزء من القرآن. إذ يقسّم القرآن إلى ثلاثين جزءًا كل جزء يحتوي على حزبين بمعنى أن القرآن يتكون من ستين حزبًا ، وكل حزب ينقسم إلى أربعة أجزاء يسمى الواحد منها ربع حزب. تقسيم المصاحف إلى أجزاء وأحزاب وأرباع أحزاب تقسيم اصطلاحي اجتهادي. والتحزيب الموجود اليوم في المصاحف ليس هناك جزم بأول من وضعه واختاره ، ولكن الذي ينقله البعض أن واضعه هو الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة (110هـ) ، وأن مرجع التقسيم فيه كان على عدد الحروف . فالحزب بالمعنى العام هو الجزء من الشيء وهو المعنى نفسه في كل اللغات: Parti – Party – Partei- Partiya وقد حمل العرب المسلمون حساسية وموقفًا سلبيًا تجاه معنى الحزب بناء على مسألتين دينيتين: 1- غلبة المعنى السلبي على لفظ الحزب لجهة كونه يعني المجتمعون المتحالفون ضد الرسول (وهزم الأحزاب وحده) أو الأمم الكافرة قبل الإسلام. 2- حمل المسلمون السنة عنوان "أهل السنة والجماعة" تمييزًا لهم عن كل الشيع والفرق التي وجدوها لا تحمل موقفًا إيجابيًا من وحدة الأمة أو الجماعة. وقد غلب معنى وحدة الجماعة على أي شيء آخر بحيث صار عنوانًا للمذاهب السنية ابتداءًا من عام الجماعة وهو العام الذي شهد الصلح بين الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وقد أسس الفكر السني على مقولة وحدة الجماعة ومفهوم أهل السنة والجماعة موقفًا يقول إن وحدة الأمة هي من وحدة الخليفة (حديث يقول إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما) وضرورة عدم مفارقة الجماعة أو الخروج عليها... وبالتالي اللاحزبية. هذا في حين كانت الأقليات الإسلامية (الفرق الباطنية المنبثقة عن التشيع من إسماعيلية واثني عشرية وفاطمية ودرزية وعلوية نصيرية...إلخ) تحمل سمة الباطنية والتقية وهي أول أشكال التنظيم الحزبي السري المكافح الذي تطوّر خصوصًا على يد الفرق الشيعية ومن بعدها الطرق الصوفية وهما باعتقادي امتداد للغنوصية في كل الأديان (ما سنوضحه لاحقًا). الحزب في التجربة التاريخية العربية الحزب العربي القديم كان على مثال غيره ائتلافًا أو تكتلًا من قوى وتحالفات قبلية (القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساس عند العرب) من قبيل حلف الفضول وأحزاب قيس ويمن أو في الإسلام الحزب الهاشمي والأموي والعلوي والعباسي...ومثال مصطلح شيعة وهو يعني تمامًا الحزب أو الجماعة من الناس المتشيعة والمتابعة لشخص أو لقضية ... إلخ. كان الانقسام الحزبي القبلي في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام ما بين حزب قيس أي القبائل العدنانية الحجازية وحزب يمن أي القبائل اليمنية القحطانية وهما تحالفان أو ائتلافان قبليان كبيران قسما العالم العربي وما زالت آثارهما إلى اليوم. الانقسام القيسي - اليمني حدث في بداية التاريخ الإسلامي، في القرن السابع الميلادي، وأثّر على العرب في أقطارهم وطوائفهم وانتماءاتهم، وأطلق اسم قيس على القبائل العربية من شمال الجزيرة العربية وأطلق اسم يمن على القبائل العربية الجنوبية . وقد جمع كلا الحزبيْن في صفوفهم أبناء مختلف الطبقات والطوائف في العالم العربي، واستمر منذ ذلك الوقت حتى اليوم. وبين هؤلاء، المواطنون الدروز. من تاريخ الصراع القيسي اليمني عند العرب المعروف أن بلاد الشام كانت تنزلها سلالات هاجرت أصولها القديمة من اليمن قبل الإسلام بعهود طويلة فطال استيطانها ثم ما لبثت أن طرأت عليها مع الفتح قبائل حجازية شاركتها الاستيطان وقد عرفوا باسم العدنانيين أو النزاريين ثم غلب عليهم اسم القيسية. وقد تكاثر اليمنيون والقيسيون فعموا بلاد الشام بما فيها فلسطين والأردن. وكان اليمنيون يتيهون على القيسية بأصولهم فقد كانوا في أحد أدوار التاريخ سادة الجزيرة العربية، وكان الخزاعيون حكام مكة قبل قريش وهم من اليمن كما كان الأوس والخزرج في المدينة المنورة من اليمن؛ بينما كان القيسية يتيهون عليهم بأنهم هم هداة هذه البلاد فكان لهذه المفاخرة أثر في التحيز للعصبية التي نهى عنها الإسلام... ولكن مالبث الناس أن عادوا إلى العصبية المقيتة. واليمنية (قحطان) رايتها بيضاء والقيسية (عدنان) رايتها حمراء وهي من بقايا تقاليد بدوية قديمة. ملاحظة مهمة: ليس هناك من اعتبار للدين أو للمذهب في الانتساب إلى أحد الحزبين. 3- الديانات القديمة ونشوء الغنوصية الباطنية كأول شكل حزبي سري يمكن القول أن الأديان تشكل أول ظاهرة حزبية في المجتمعات القديمة حيث إنها كانت تهدف إلى تجميع الناس على طريق وصراط محدد يعارض ما هو سائد في المجتمع من عبادات وسلوكيات. وفي الأديان القديمة كانت الغنوصية أول أشكال الحزب السري الذي يعتمد رموزًا وأسرارًا وعملية تنسيب أو إدخال إلى الجماعة وعملية تنشئة واختبار قبل القبول عضوًا في الجماعة؛ وهذا النوع من الحزبية السرية لا يزال سمة كل الجماعات الباطنية أي تلك التي تقول بوجود معنى باطن للكتب المقدسة، وإنها مؤتمنة على هذا المعنى وتحافظ عليه لأنه هو الحقيقة، وإن معرفة هذه الحقيقة طريقها هذه الجماعة المخصوصة المختارة أو هذا المسلك الخاص المتميز. من هنا ترجمتنا لكلمة الغنوصية بالعرفان أي الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الباطن. وقد انتقلت هذه الغنوصية عبر كل الأديان وفي الإسلام تمثل الدرزية إحدى أبرز تجلياتها مع الإسماعيلية والعلوية النصيرية. ومن مرتكزات المعرفة السرية وجود الأسماء الحركية . والأسباب الحقيقية وراء استخدامها هي إعلان الدخول في الدين الجديد أو العقيدة الجديدة فهي ملازمة للتعميد عند المسيحيين وللختان عند اليهود. وكان تلامذةالمسيح يحملون أسماء جديدة بعد دخولهم الدين الجديد مثل بولس شأول... إلخ. أسهمت الحملات الصليبية في انفتاح المجال أمام الغربيين للتعرف على العالم العربي وعلى الإسلام وخصوصًا على الفرق الباطنية الإسلامية وعلى الفرق المسيحية اليهودية الشرقية التي كانت لا تزال قوية وناشطة وتحمل سمات غنوصية واضحة ومنها خصوصًا الصابئة الحرانيين في العراق. ولعل الجماعات الصوفية كانت هي الأخرى مركزًا مهمًا لإنتاج الحزبية السرية وتقاليدها أو طقوسها وأسرارها فالفرق الصوفية لم تنفصل عن النقابات التي كانت تمثل طوائف المهن أو الحرف في المدن الإسلامية. يبدو في كل حال أن أنظمة الماسونية وقبلها فرسان الهيكل وبعدها الكاربوناري الإيطالية (وغيرها)، نقلت عن نظام الفتوة ونظام النقابات الحرفية في المدن الإسلامية القديمة، ناهيك عن النظام الحزبي المحكم لإخوان الصفاء وخلّان الوفاء، وتنظيمات الفاطمية والإسماعيلية، وقبلها كل الفرق الغنوصية العرفانية واليهودية - المسيحية في هذا المشرق. مما يحتاج إلى بحث خاص ليس هنا مجاله. الصوفية والنقابات والفتوة في المدينة الإسلامية ارتبطت الطرق الصوفية بالتنظيم الحرفي للأسواق القديمة في المدينة الإسلامية. فقد انتظمت المدينة الإسلامية القديمة، كمحطة تجارية في غالب الأحيان، في أنماط من التنظيم العمراني والسكاني، وأنماط من تنظيم العمل وعلاقات التبادل في الأسواق والحارات، وتوزعت المدينة في دوائر وخطوط من الوحدات الإنتاجية والتجارية والحرفية والسكنية حول الجامع – المسجد كنقطة ارتكاز وصولًا إلى الحارات السكنية المتقاطعة هي أيضًا مع توزع ديموغرافي "مللي" أو عائلي – قبلي، أو اختصاص حرفي مندمج في غالب الأحيان مع طريقة من طرق الصوفية التي كان لها أيضًا فتوتها (أو القبضاي). ظهرت جماعات الفتوة في بغداد مرتبطة بجماعات " الشطار" و"العيارين" أو قطاع الطرق المنظمين الذين امتازوا بسرقة الأغنياء لصالح الفقراء (أنموذج روبن هود ووليم تل في أوروبا). وبدأ ذلك في القرن الثاني الهجري..ثم ظهرت جماعات الفتوة بين العوام وأسهمت في كثير من الفتن السياسة. فعلى سبيل المثال ترتب على ضعف السلطة العباسية أن انتشرت طوائف الفتوة العيارين ونظموا صفوفهم تنظيما حربيا فكان على كل عشرة منهم عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير؛ وأصبح لهم زي حربي متميز وكانت لهم وقائع مع الدولة والشرطة.. وأسهم العيارون أو الفتيان في الحرب التي دارت في بغداد بين الأمين والمأمون وانضموا إلى الأمين دفاعًا عن بغداد لا عن الأمين نفسه، وقد ذكر المسعودي بطولاتهم الفردية رغم نقص العتاد لديهم. مع تزايد الضعف العباسي انضم للفتوة الكثيرون من أرباب الحرف وأصبح لطوائف الفتيان قضاة كان أشهرهم في بغداد أبا الفاتك الديلمي وقد حرص على أن يقدم للفتيان فتاويه ونصائحه. ولا أدل على قوة جماعات الفتوة في أواخر العصر العباسي من أن الخليفة العباسي الناصر أعلن نفسه قائدًا للفتيان سنة 604 هـ وجعل طوائف الفتيان من وسائله في إحكام قبضته على مقاليد الأمور . وجماعات الفتوة في آسيا الصغرى كان ينادي كل منهم صاحبه بلفظ "آخي" وقد أدخلوا هذا اللفظ العربي في لغتهم التركية وبنفس معناه، بل صارت "الأخية" تعني الفتوة أو الفتيان في مصطلحات اللغة التركية والتركمانية في ذلك العصر حسبما يظهر بين سطور رحلة ابن بطوطة . وارتبطت الفتوة وقتها بالحرفة، بما يشبه نظام النقابات الحرفية فى عصرنا، ومع الاستقلال الكامل عن النظام الحاكم، والتفاعل الحى مع المجتمع خارج النقابة، فكان يطلق على رئيس الفتيان لفظ "آخي" وهو رئيس الحرفة الذي يجتمع عنده أهل حرفته في زاوية يقيمونها له .. أما في بلاد الشام فقد عرف الفتوة بلقب القبضاي. وأصل الكلمة تركي (قبا داي) ومعناها الخال الغليظ، وبهذا المعنى يكون الرجل غليظًا ذا مهابة. والمهم هنا كون الخال من ابرز معالم نظام الفتوة الإسلامي العريق. ولعله في البداية أريد الوصف بهذا المعنى، ولذا امتزجت صفة القبضاي في بلاد الشام ومنها مدن بيروت وطرابلس بمعنى الفتوة، حين يراد بها "مروءة الرجل وصدق لسانه، واحتمال عثرات إخوانه، وبذل معروفه لأهل زمانه، وكف الأذى عن أباعده وجيرانه" . وقد عرفت المنطقة نظام القبضايات، مع التشكل الجديد للمدن والأحياء داخلها، وحاجة السكان إلى مرجعية يعودون إليها طلبًا للمشورة أو المساعدة. وكان هناك رجال يتصفون بالهيبة والأمانة والشهامة والكرم ونصرة الضعيف ومساعدة الفقير، كانوا من المبادرين إلى لعب هذا الدور، في وقت كانت المدينة تنشأ خارج نظام القبيلة والعشيرة، فاختارت هذا النظام المديني المقتبس عن الثقافة الشعبية لمعنى الفتوة . هذه النقابات والطوائف وتنظيمات الفتوة كانت شكلًا تنظيميًا حزبيًا سريًا له أيضًا أسراره وطقوسه. ترجيحي أنه من خلال الإسماعيلية والصوفية والفتوة عمومًا انتشر الشكل التنظيمي السري ووجد أهم تجلياته في الماسونية التي ترجع في أصولها إلى فرسان الهيكل الذين اتخذوا وجهة جديدة داخل المسيحية منذ تعرفهم على الشرق وأسراره ما أدى إلى تدميرهم بتحالف من الكنيسة والملوك الأوروبيين في أعوام 1313-1317 ، ومنهم جاءت الماسونية لتكمل مسيرتهم فكان العداء المرير بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، و هو عداء انتقل إلى كل مجتمعاتنا العربية من دون معرفة أصله وفصله. إذًا بدأت الأحزاب مع الطائفة الإسماعيلية وفرقة إخوان الصفا التي كانت عبارة عن أول اشكال التنظيم ولعل طائفة الحشاشين الشهيرة هي أولى الفرق أن تكون في أصل انتقال هذه المعرفة إلى الغرب عبر فرسان الهيكل والماسون. ولعل أصل كلمة الحشاشين التي نقلناها عن الغربيين خطأ على أنها ترجمة لـ Assassins هي من كلمة العسّاسين بمعنى حراس القلعة أو حراس المدينة وهي كلمة لا يزال أهل حلب يستخدمونها إلى اليوم للإشارة إلى فتةتهم وقبضاياتهم وأبطال الدفاع عن مدينتهم. 4- لمحة تاريخية عن الأحزاب السياسية الحديثة في لبنان ظهرت أولى أشكال التنظيم الحزبي الحديث في الدولة العثمانية مع دخول الماسونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي ضمّت نخبة القوم في المجتمع المديني العثماني. كان المحفل الماسونيّ المكان الوحيد المتاح للقاء والتشاور وبناء الخطط والمؤامرات. لكن جرى مقاومة هذا التّشكل من قبل الكنيسة الكاثوليكية وذلك بسبب العداء القديم بين الكنيسة والماسون في أوروبا ومنها انتقلت الحرب ضد الماسونية إلى الإسلام. أول المصلحين المسلمين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده انضموا إلى المحافل الماسونية لأنها كانت المكان الوحيد للالتقاء بنخب المجتمع المسلم في تلك الأيام ولتشكيل قوى ضاغطة على الحكام بسبب سيطرة الحكام على المساجد وهي المكان المفضّل للتجمع والتشاور والتحرك. ولكن سرعان ما تخلى الأفغاني وعبده عن المحفل وقاموا بتأسيس أول حزب عربي من خلال مجلة العروة الوثقى وجمعيتها العالمية ومن ثم الحزب الوطني في مصر. وقد اشتغل الأفغاني على تنمية الصحافة كوسيلة حديثة للتنظيم والتعبئة، وتعاون في ذلك مع أديب اسحاق المسيحيّ ومع يعقوب صنّوع اليهوديّ منشئ أول صحافة نقدية ساخرة (مثل أبو نظارة والتنكيت والتبكيت وغيرها). الصحافة كانت إذًا هي الأداة الثانية للتحزيب وبناء التجمعات السياسية بعد الماسونية. كما استخدم الأفغاني المقاهي للالتقاء بالناس وتعبئتهم وتحزيبهم على الرغم من عمامته وموقعه الديني فهو حاول استخدام شتى الوسائل المتاحة. ترافق هذا التشكل الحزبي الأولي مع انتشار الوعي السياسي وانتشار فكرة وجوب وجود تنظيم سياسي للجهود والطاقات. ولكن في هذه المرحلة كانت النخبة المثقفة من أبناء العائلات الغنية من كبار الظباط ، والدبلوماسيين، ومشايخ القبائل الإقطاعيين، هي فقط التي شاركت في هذا النوع من الحزب الإصلاحيّ لأنها وحدها كانت في المدن الكبرى تتلقى التعليم وتختلط بكل ما تتيحه المدينة من اختلاط فكري وثقافي وسياسي ... إلخ. المحطة الثانية في نشوء الأحزاب السياسية الحديثة في بلادنا كانت مع بدايات الشعور بقرب سقوط الدولة العثمانية مع ظهور علامات الإنحطاط على الدولة وازدياد التدخلات الأجنبية فيها. خلال هذه الحقبة انتشرت النزعة لتأسيس دول قومية مستقلة سياسيًا وامتدت لكل المناطق المسيحيّة الخاضعة للدولة العثمانية مثل اليونان والبلقان (بلغاريا وهنغاريا وصربيا وغيرها)، وكانت دعوة الإستقلال القوميّ لهذه المجتمعات ذات طابع ديني مسيحي مدعومة من كل دول الغرب لتفتيت الدولة العثمانية. ولا ننسى أن كلًا من إيطاليا وألمانيا لم تتوحد وتنشأ كدولة قومية إلا في فترة 1860-1870 . وهكذا امتدت شرارة هذه الدعوة إلى الأقليات الدينية في بلاد الشام للحصول على استقلالها ولكن من ضمن الدولة العثمانية. وقد تميّزت بلاد الشام بالتنوع الدينيّ . ومن ثم تأسّست التشكلات الحزبية السياسية في زمن القوميات الأوروبية مثل الصهيونية ومطلب إنشاء وطن قومي لليهود. وفي الفترة نفسها كان هناك من يطالب بوطن قومي للمسيحيين المشرقيين يكون في لبنان. التيارات الحزبية اللبنانية الرئيسة في لبنان انقسمت القبائل التي سكنته ما بين قيسية ويمنية، وتحولت الطوائف الأقليات إلى تشكيلات حزبية سياسية عسكرية بهدف حفظ الذات (الدروز والموارنة تحديدًا) في حين تماهى أهل السنة (ومعهم الأرثوذكس والكاثوليك لاحقًا) مع الدولة والتحقوا بها على قاعدة مدينيتهم. الدروز والانقسام القيسي اليمني بلغ الصراع أوجه عند الدروز في معركة عين دارا عام 1711 بين القيسيين واليمنيين، حيث لاقى اليمنيون فشلًا ذريعًا وخسارة فادحة، قضت على مواقعهم في السياسة اللبنانية. وقد هاجر معظم الدروز الذين ينتمون إلى الحزب اليمني إلى جبل حوران في سوريا. وبزوال القسم اليمني من لبنان، انقسم بدوره المجتمع الذي بقي في لبنان إلى تقسيمات جديدة. ففي أعقاب معركة عين دارا ظهرت في المجتمع الدرزي اللبناني مجموعتان من الانقسامات الداخلية، الأولى هي الانقسام الشقراوي الصمدي، والثانية الانقسام الجنبلاطي اليزبكي، وضمت الشقراوية جميع الذين أيدوا عائلة أبو شقرا وتبعوها، وضمت الصمدية جميع الذين أيدوا عائلة عبد الصمد وتبعوها. وقد حل الانقسام الجنبلاطي اليزبكي محل الانقسام الشقراوي الصمدي وعلى الأسس العائلية نفسها. لم تلقِ ِالمصادر التاريخية، الضوء الكافي على أصل هذه الانقسامات وتطورها، إلا أن الاعتقاد السائد، هو أن هذه الانقسامات هي استمرار للانقسام القيسي اليمني. عبر تاريخ لبنان، لعبت العصبيات العشائرية والتضامن الطائفي دور التيارات النابذة (forces centrifuges) بحيث أدت الصراعات بين الداخل العربي-الإسلامي والخارج الغربي- المسيحي إلى قيام حواجز نفسية منعت التحام سكان الجبل بالسواحل والسهول الداخلية، بالرغم من الوحدة الثقافية-اللغوية-العرقية التي تجمعهم في البوتقة الحضارية العربية... للمتصرف أوهانس باشا كلمة جميلة حول طبيعة هذا الوضع اللبناني إذ يقول C’est un mélange hybride de féodalité arienne et de tribalisme sémite "إنه مزيج هجين من نظام إقطاعي آري ونظام عشائري سامي" استقرت قواعد توزيع السكان والطوائف في القرن الثالث عشر-الرابع عشر (إثر حملات المماليك على جبيل وكسروان والشمال)، وبعد التحولات الاموية فالعباسية، أرسى ذلك تفكك المناطق اللبنانية وانعدام الوحدة السياسية والوطنية برغم سيادة اللغة العربية وعلاقات القرابة العربية. والعصبيات العشائرية الطائفية كانت قوى عسكرية حزبية في الوقت نفسه (منذ الانقسام القيسي اليمني القديم) ... ويلحظ هنا أن التوزيع الجديد تم على حساب الشيعة الذين جرى اضطهادهم وطردهم من مناطق جبيل-كسروان والشمال وغيرها، ما سيكون له أثره اللاحق في تشكيل الأحزاب الشيعية وارتباطاتها ومطالبها. أدى النظام الإقطاعي الفدرالي شبه المستقل ذاتيًاوالذي قام عليه الحكم العثماني للبنان، إلى ظهور التيارات الجاذبة (forces centripètes) التي ساعدت على بلورة الشعور الوطني اللبناني لاحقًا (بين الدروز والموارنة في الجبل تحديدًا، ومعهم السنة والأروام من أهل المدن المرتبطين بالدولة دائمًا)... حيث يبدو أن فترة الإمارة في الجبل عرفت وئامًا طائفيًا واختلاطًا سكانيًا جغرافيًا واقتصاديًا، على قاعدة وجود إدارة سياسية-عسكرية مشتركة خلقت قواسم وطنية مشتركة.وينبغي أن نلحظ هنا أيضًا غياب الدور الشيعي وتهميشه بالكامل. ضاعف نظام الامتيازات العثماني للدول الأوروبية ومعه نظام الحمايات الأجنبية للطوائف المسيحية ، ونظام الملل العثماني في الإدارة الداخلية لشوؤن الطوائف، من سيطرة وسطوة الزعامات الدينية والعائلية على طوائفها وعشائرها. وبذا فإن التيارات النابذة والتيارات الجاذبة كانت تتصارع على أرضية التوازنات الخارجية بين السلطنة العثمانية ودول أوروبا.. خاصة وأن الدخول الغربي الاقتصادي- الاجتماعي والثقافي- التربوي ، فاقم من التفاوتات بين المناطق والطوائف اللبنانية. ارتبط انهيار نظام الإمارة واندلاع النزاع الطائفي الأول (1840) ثم الثاني(1860) بتوازنات الصراعات الأوروبية حول الرجل المريض (الدولة العثمانية)، وببحث الطائفتين المارونية والدرزية عن دعم خارجي للاستقواء به في الداخل دفاعًاعن ميزان قوى قائم أو لتعديله.. فالمثال القوي على الصلة ما بين الاستقواء بالخارج والغلبة في الداخل تقدمه حالة الموارنة والدروز في الفتنتين الأولى والثانية، حيث أدى الصراع الدولي للسيطرة على المنطقة إلى صراع بين الإقطاعيين اللبنانيين على السلطة المحلية، على قاعدة استشعار الموارنة بقوتهم المستجدة للتخلص من الإقطاع الدرزي والحكم العثماني وبتشجيع أوروبي مماثل لتشجيعهم الحركات القومية المسيحية في البلقان..الأمر الذي حدا بالموارنة إلى طلب الدعم الفرنسي، وبالدروز إلى طلب الدعم الإنكليزي.... نظام القائمقاميتين ونظام المتصرفية كانا نتيجة حرب أهلية داخلية من جهة، وتدخلات دولية خارجية من جهة ثانية، وأنتجا توازنات جديدة في علاقة الدولة العثمانية والدول الأوروبية (ازدياد النفوذ الأجنبي، مقتضيات التوفيق بين مصالح وسياسات الدول الغربية المتصارعة، وبينها وبين الدولة العثمانية)، كما في علاقات الطوائف اللبنانية وميزان القوى بينها. وقد كان النمو الديموغرافي والاقتصادي والثقافي للموارنة (على حساب الدروز في الجبل) محمولًا على هجوم غربي كاسح في الشرق، مدعاة للفتن والحروب الأهلية. وينبغي الاستفادة من هذه التجربة للمقارنة بوضع الشيعة اليوم في المعادلة اللبنانية وهو الوضع الذي يفسر قوة حزب الله وتمثيله الفعلي لمصالح ومطامح طائفة في طور نمو وازدهار على كل المستويات مدعومة بقوة خارجية تتماهى أصلًا بها من حيث الدين والأيديولوجية تمامًا كما كان التماهي الماروني بالغرب عمومًا وبفرنسا خصوصًا (وكانوا يسمونها الأم الحنون) ، والتماهي السني التقليدي بالدول العربية القومية بعد الدولة العثمانية. في أساس تبلور التيارات والقوى اللبنانية نجد سياسات التدخل الأجنبي في دعم استقلال الأقليات عن الدولة العثمانية، ووراثة تركة الرجل المريض، ونموذج اليونان والبلقان كان المثال يومذاك. فيكون الاستقواء بالخارج (الغربي) أساسًا لغلبة داخلية (مارونية-مسيحية). كما نجد الاستقواء بالدولة العثمانية كأساس لاستمرار الغلبة المقابلة (إسلامية-سنية-درزية) . وقد انعكس ذلك بالطبع وبالضرورة على واقع ودور التشكيلات الأمنية والعسكرية كما التكتلات الحزبية السياسية. وانعكس أيضًاعلى فهم المسلمين لنشوء دولة لبنان باعتباره من ثمار الهزيمة الإسلامية العثمانية في وجه الغرب. انطلقت الفكرة اللبنانية (والتيار القومي اللبناني) من الوجود الماروني المستقل (والرافض لصيغة الحكم الإسلامي العثماني)، وبعد نمو القوميات في أوروبا الشرقية والعدوى التي وصلت إلى بلاد الشام جراء ذلك... والكنيسة كانت هي العمود الفقري لتلك الفكرة والجسم الذي تجسدت فيه قبل قيام دولة تكرسها. وهذه الحزبية – العسكرية- الدينية كانت الأساس الأيديولوجي والتنظيمي لليمين المسيحي في المرحلة اللاحقة. أما التيار الإسلامي العام فكان عثمانيًا يرفض انهيار الدولة أو تمزيقها وتقسيمها، وهو تجسد في الزعامات السنية في المدن كما في زعامات القبائل والعشائر والطوائف الملتحقة بالسلطة المركزية والمستفيدة منها . هذه الحزبية- العسكرية - الدينية المرتبطة بالدولة كانت الأساس الأيديولوجي للتيارات الإسلامية والقومية اللاحقة. في حين أن التيار القومي السوري-العربي نما وتطور على قاعدة حقوق الأقليات، وخوف تلك الأقليات من تياري اللبننة الماروني والعثمنة الإسلامي، وذلك في مرحلة ما قبل سقوط الدولة العثمانية. أما بعد سقوط الدولة فقد افترقت مصائر هذا التيار إلى قومي سوري أقلوي رومي (أرثوذكسي-كاثوليكي) دعمته فرنسا أولا ثم بريطانيا لاحقًا ، وقومي عربي أكثري سني دعمته بريطانيا منذ الثورة العربية الهاشمية 1915. تدرجت وتطورت التشكيلات العصرية أو الحديثة من المستوى البسيط (الجمعيات والنوادي والحلقات الفكرية) إلى مستواها المعقد والمركب في المرحلة المعاصرة. وكانت الجمعية العلمية السورية أول حلقة فكرية في هذا الاتجاه (بيروت 1847-1852) وشكل المسيحيون نواتها وعصبها. ثم تأسست جمعيات وحلقات ونواد في طرابلس وبيروت ودمشق ضمت عربًا وغير عرب (أتراك خصوصًا) واتصلت كلها برجال ومبادئ تركيا الفتاة. وفي حين كانت الجمعيات المرتكزة إلى مثقفين بورجوازيين مسيحيين متشربين بالأفكار الأوروبية تطالب بالانفصال عن الأتراك منذ العام 1880 (جمعية بيروت السرية) ثم تجتمع في باريس عام 1905 لصياغة موقف انفصالي بتعابير ومفاهيم أوروبية، فإن وجهاء المسلمين كانوا يطالبون بالإصلاح وبالحفاظ على الدولة العثمانية. وفي عام 1908 أدى الانقلاب الدستوري في تركيا إلى تسريع نشوء حركات وجمعيات سياسية كثيرة أبرزها جمعية الاخاء العربي، وجمعية العهد، والعربية الفتاة، والجمعية القحطانية، والمنتدى الأدبي، وصولًا إلى حزب اللامركزية العثمانية؛ وكلها كانت تطالب بالاصلاح واللامركزية ضمن إطار السلطنة العثمانية. وفي أساس الحزبية الجديدة نخب كانت ترى في الوضع الدولي الناشئ عن ضعف وتمزق الدولة العثمانية قاعدة لعمل "استقلالي" لامركزي أو انفصالي عن الدولة المنهارة ولتأسيس كيانات جديدة تحقق طموحاتها واماني مواطنيها العرب ، خصوصًا في بلاد الشام. وهكذا كان المؤتمر العربي الأول بباريس (حزيران 1913) المحطة التي تبلورت فيها حزبية لبنانية جديدة جمعت التيار اللبناني المسيحي بالتيار القومي السوري-العربي (مسلمين ومسيحيين) على قاعدة العداء للتتريك. اما بعد الحرب العالمية الأولى فقد افترقت هذه التيارات بفعل عوامل داخلية وخارجية: المسلمون دعوا إلى وطن سوري مستقل كمقدمة لبعث الوجود العربي (وآية ذلك حكومة فيصل في دمشق 1918-1920 ثم المؤتمرات السورية-العربية المتكررة). فيما أيد الموارنة إقامة كيان وطني لبناني مستقل يضمن حقوقهم ويحمي وجودهم في المنطقة..وسار الاورثوذوكس والكاثوليك نحو قومية سورية-عربية أكثر تحديدًا. ولم يكن للأقلية الإسلامية الشيعية (في لبنان) أي حضور سياسي او حزبي . كما أنه صار الحديث يومها عن وطن قومي مسيحي في لبنان على غرار الوطن القومي اليهودي في فلسطين. بعد قيام دولة لبنان الكبير(1920) تفاقمت التناقضات القديمة الطائفية السياسية والتدخلات الخارجية وأهمها الحرب الباردة الفرنسية-البريطانية (1920-1936) ودفعت التيارين إلى الصدامات. وبسبب ذلك لم يحصل لقاء وطني لبناني على معنى لبنان ودوره ولا حتى على وجوده. مؤتمرات المسلمين كانت تطالب بالوحدة السورية والعربية؛ وعرائض ومواقف المسيحيين كانت تطالب بالكيان اللبناني في ظل الانتداب. في العام 1936 انعقد مؤتمر الساحل يطالب بالسيادة الوطنية (أي زوال الانتداب) في إطار الوحدة السورية كمرحلة إلى الوحدة العربية،وبالتوزيع العادل للوظائف العامة بين مختلف الطوائف. بالمقابل أكد الرئيس اميل اده على الروابط مع فرنسا وبضرورة حمايتها للمسيحيين من المحيط العربي-الإسلامي. وقد تأسس حزب الكتلة الوطنية على هذا الموقف القومي-اللبناني المتحالف مع الخارج .في حين تكتلت مجموعة حزبية-سياسية حول الشيخ بشارة الخوري(الكتلة الدستورية) على أساس السعي للانفتاح على المسلمين اللبنانيين وعلى العرب. اتفاق الرئيس بشارة الخوري مع الزعماء السوريين والعرب هو الذي سهّل انتخابه رئيسًا للجمهورية العام 1943 ووصول رياض الصلح إلى رئاسة الحكومة (ناهيك عن الدور البريطاني الأكيد). الموقف السني التقليدي جسده آل الصلح: رياض الصلح في مؤتمر دمشق(1928) طرح مقولته الشهيرة:"أنا افضّل أن أعيش في كوخ داخل وطن لبناني من أن أعيش مستعمرًا في امبراطورية عربية"...كاظم الصلح طرح في مؤتمر الساحل (1936) مقولته عن لبنان "بين الاتصال والانفصال"...هذان الموقفان أسسا للتطور الإسلامي السني باتجاه اللبننة. ولم يكن صعبًا على الشيعة أن يكونوا لبنانيين نظرًا لحرمانهم واضطهادهم خلال العهود المملوكية والعثمانية. نذكر هنا مواقف الزعماء عادل عسيران وصبري حمادة وكامل الأسعد والمرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين، وهم بدأوا منذ العام 1932 بالدعوة إلى الاندماج في الكيان اللبناني الجديد. أما على مستوى الأحزاب السياسية فقد شهد العام 1936 أيضًا ولادة أحزاب النجادة والكتائب والقومي السوري. وتطور عمل الحزب الشيوعي (المولود عام 1924) مع وصول الجبهة الشعبية اليسارية إلى الحكم في فرنسا وسياسة ستالين في إقامة جبهات وطنية مع البورجوازية. يلاحظ هنا تطور تيار لبناني استلم قيادة الحزب القومي السوري خلال غياب انطون سعادة في المهجر؛ وهو تيار قام سعاده بتصفيته بعد عودته إلى لبنان عام 1947. كان حزب الكتائب هو الجناح الشعبي المناضل للمسيحية اللبنانية وحزب الدفاع عن الكيان اللبناني (الماروني المسيحي تحديدًا) في وجه المنظمات والدعوات العقائدية غير اللبنانية. فالقومية اللبنانية هي أيديولوجية الكتائب الوطنية المتعارضة مع السورية والعروبية ولكن المنفتحة على التعاون مع العالم العربي ومع المسلمين اللبنانيين. أما النجادة فكانت الجناح الشعبي المناضل للإسلام السياسي اللبناني الداعي لاستقلال لبنان وعروبته في الآن معًا (الاتصال والانفصال). وقد اتفق الحزبان في معركة الاستقلال إلى حد الاندماج لفترة من الوقت . لم يضع الحزب القومي السوري حلًا لمشكلة لبنان بين الاتصال والانفصال، بين السيادة والوحدة، بل اهتم بمسالة بعث الامة السورية ووحدتها واستقلالها؛ فاصطدم منذ البداية باللبنانيين والعروبيين على السواء. النزعة القومية السورية وجدت هوى لدى الاورثوذوكس، الأقلية في الكيان اللبناني كما في الكيان العربي الاوسع. في حين أن الوزن العددي والاقتصادي والثقافي في سوريا الكبرى يعطيهم قوة راجحة وسطوة أكبر؛ فكيف اذا اضيفت قبرص نجمة الهلال الخصيب؟ النزعة السورية تجاوزت الكيان اللبناني لتقويضه من الخارج: التحالف مع حسني الزعيم1949- مع الهاشميين والإنكليز في الخمسينيات، وحتى الانقلاب الفاشل آخر عام 1961، مع الثورة الفلسطينية 1969 (جناح انعام رعد-عبدالله سعادة)، مع البعث السوري منذ العام 1975-(جناح أسعد حردان وقد صار هو الحزب). لا يمكن فهم تمدد وانتشار الحزب (أو ضعفه وتقلصه) خارج إطار الارتباط بمركز السلطة والقوة، منذ عودة سعادة من المهجر وطرده لكل الهراطقة. وبعد مرحلة الارتباط العاطفي بفكرة سوريا الموحدة التي استمرت مفاعيلها فقط في المهجر، صار الارتباط بالسلطة والقوة هو عامل تقدم الحزب وتراجعه. وفي حين أن الحزب الشيوعي نشأ عبر التقاء مكونات طليعية : مصرية (فؤاد الشمالي ماروني من بكفيا عاش وناضل في مصر) وفرنسية (يوسف ابراهيم يزبك ماروني موظف في مرفأ بيروت من خلال علاقاته بالقنصلية الفرنسية) ويهودية (سوفياتية جاءت من الحزب البلشفي الفلسطيني) وأرمنية (أرتين مادويان وجماعة سبارتاكوس المنشقة عن حزب الهنشاق) وعلى قاعدة عمالية هي أساسًا مسيحية (في بيروت وضواحيها وبلدات المتن الشمالي وزحلة وجوارها) عكست الصراعات داخل الحزب في الفترة الأولى هذه المكونات إلى حين سيطرة البكداشية السورية- السوفياتية منذ العام 1936 وحتى العام 1968 (المؤتمر الثاني للحزب الذي انتصر فيه جورج حاوي- كريم مروة وتيار الشباب وخرج فيه جناح صوايا صوايا- حسن قريطم). ولم يؤد ذلك إلى خروج البكداشية النهائي ، إذ استمرت قوتها في الحزب إلى اليوم . توسعت قاعدة الحزب الاجتماعية شيعيًا في منعطفات رئيسة أهمها صعود قوة الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية والنازية واستقلال لبنان، توسع العمل داخل النقابات العمالية وفي قطاع الخدمات وخصوصًا في قطاع التعليم الحديث من مدارس وجامعات. تركيز الشيوعيين على الصراع الطبقي (ضد السلم الاجتماعي) لم يسمح لهم بمقاربة موضوع الاستقلال والسيادة خارج اطار صراع الطبقات ومقولة حركات التحرر الوطني الملتزمة طريق الاشتراكية والجبهة العالمية المتحالفة مع السوفيات والداعمة للانظمة التقدمية (مصر، سوريا، العراق، عدن، الخ..).كما أن قيام القومي السوري على العداء للكيان اللبناني منع تطوره إلى حزب لبناني حقيقي وربطه بالتطورات الإقليمية الخارجية وبموقعه من السلطة والقوة في الخارج والداخل. لقد كان الارتباط الأعمى بالسوفيات محور حياة الحزب الشيوعي بغض النظر عن المواقف الوطنية والثورية والاستقلالية التي كان منبعها الاصلي الوقوف في جبهة واحدة مع الاتحاد السوفياتي في وجه أعدائه في الحرب ضد الاستعمار والامبريالية، والوقوف تاليًا مع الثورة الفلسطينية بعد إعلان التزامها بالحلف السوفياتي- العربي (1974 هو تاريخ هذا التطور). في حين فقد الحزب القومي كل عناصره السنية في طرابلس مثلًا (كما صيدا وبيروت وكل سوريا وفلسطين والاردن والمخيمات في الشتات الفلسطيني) بنتيجة الارتباط بأعداء عبد الناصر والقومية العربية، من حلف بغداد والهاشميين والإنكليز. ولم يستعد بعض الحضور الجماهيري في لبنان إلا في أتون الحرب الأهلية والتعبئة العسكرية لها. ثم كانت مرحلة 1968-1975 وهي مرحلة الارتباط بالقضية الفلسطينية وبالحراك الاجتماعي اليساري الذي عاشه لبنان والذي أسهم في نشوء اليسار الجديد وبانضمام قطاعات واسعة من الشباب والطلاب إلى اليسار في المدارس والجامعات. ولكن العقل اليساري والشيوعي كان عقلًا صراعيًا يركز على الانقسام إلى يمين ويسار ، ويربط ذلك بالوضع الدولي مستمدًا منه القوة والعزم ، فلا يمكن فهم أي انتصار يساري في لبنان خارج المعادلة الاقليمية- الدولية، ناهيك عن الالتحاق اللاحق بالمنظمات الفلسطينية. كما أن قيادات القومي السوري انتهجت نفس السياسة اليسارية الفلسطينية بعد الخروج من السجن ومؤتمر ملكارت(1969). حزب البعث وحركة القوميين العرب هما في الاساس حزبان قوميان يتخطيان الكيان اللبناني ويرتبطان بالسياسات العربية الخارجية (سوريا والعراق بالنسبة للأول ومصر بالنسبة للثاني).وبرغم تأسيسهما على أيدي عرب أورثوذوكس الا أنهما لم يخرجا عن اطار العصبيات التقليدية : تحول البعث السوري إلى علوي-أسدي والبعث العراقي إلى سني- تكريتي. وحركة القوميين العرب انهارت وانتهت بعد أن كانت تمثل السنة في بيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعلبك. ثم ورثتها الجماعات الناصرية في تلك المدن وهي كلها ذات قاعدة سنية انتهت إلى البحث عن ارتباط بديل عن مصر وجدته في حركة فتح أو ليبيا أو سوريا أو العراق. أما الاحزاب والقوى التي خرجت من أحشاء البعث والقوميين العرب فهي كانت محكومة من الاساس بهذه المفارقة القومية العابرة للوطن. حزب البعث اليساري أو حزب العمال العربي الثوري أو حزب العمل العربي الاشتراكي أو منظمة العمل الشيوعي أو المنظمة الشيوعية العربية أو حزب العمال الشيوعي أو الحزب الشيوعي العربي أو رابطة العمل الشيوعي او عصبة الثوريين الخ....الخ... كلها حملت عنوان "العربي أو العربية" ، وصِفة "في لبنان" وليس اللبناني أو اللبنانية. (يسجل للحزب الشيوعي حمله صفة "اللبناني" وليس "في لبنان" وهذا ناتج عن أساس التشكل الشيوعي بالارتباط بالمركز الأممي وليس عن وعي وإرادة شيوعية لبنانية وطنية. فالحزب كان أساسًا حزبًا أمميًا:" ليس للعمال وطن"، ويتبع الكومنترن. كما أن الإسم جاء نتيجة الانشقاق أو الانفصال بين الحزبين اللبناني والسوري إذ أن الحزبين كانا حزبًا واحدًا حتى العام 1964. والحال أن مسار كل اليسار انتهى إلى الالتحاق الكامل بالثورة الفلسطينية بدءًا من عام 1974. واذا نظرنا إلى الحزب التقدمي الاشتراكي فسنجد انه المثال الساطع على التحام الانتماء الطائفي (الدرزية) برؤية علمانية تقدمية اشتراكية، وتمفصل ذلك على سياقات التوازنات الخارجية بين العرب والغرب ، وبينهم وبين موسكو . والمهم هنا ملاحظة مسعى كمال جنبلاط الدائم إلى التوفيق ما بين اللبنانية والعروبة، وما بين العلمانية والطوائفية. اما أحزاب اليمين الاخرى (الأحرار والكتلة) فقد كانت أحزابا كيانية لبنانية مسيحية مرتبطة بزعامة عائلية محددة (شمعون، إده) برغم وجود نخب مدينية مختلفة في قواعدها وقيادتها.هذا في حين لم تستمر أحزاب الشيعة التقليدية (النهضة والطلائع) لغلبة الطابع الريفي العائلي عليها. وكان لا بد من انتظار مجيء الامام السيد موسى الصدر ثم الثورة الايرانية لقيام تشكيلات حزبية سياسية شيعية (أمل ثم حزب الله ولكن قبلهما حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي في العراق والخليج). والحال أن قاعدة القومي السوري كان عصبها الروم الأرثوذكس في مقابل موارنة الكتائب وغياب السنة عن الأحزاب التقليدية وانخراطهم في تيارات أوسع مثل الناصرية أو الثورة الفلسطينية. فنحن نرى ختامًا أن هذه الأحزاب الحديثة تشكلت على أساس: 1- وجود ايديولوجية تتبناها نخب مدينية متعلمة. 2- وجود مركز خارجي قوي يدعمها. 3- تنظيم حديث مستمد من التجارب العالمية. في حين ظلت قاعدتها قائمة على عصبية التكتلات والتشكيلات القديمة. فالتكتلات الطائفية والعشارية التقليدية أعادت إنتاج نفسها من خلال التنظيم الحزبي الحديث؛ وهذا من عجائب الزمان و...لبنان. في حين أن المهم في العمل الحزبي الحديث هو الخروج من التكوين القبلي العشائري الطائفي إلى المجتمع المدني والتنظيم المناسب له. خاتمة المطلوب اليوم صيغة تقدمية جديدة للحزب السياسي تستطيع أن تجمع الأصالة الاجتماعية مع الحداثة التقدمية ، العروبة واللبنانية، العلمانية والدين، في توليفة تقدمية اجتماعية رؤيوية تدفع إلى التقدم وتعتمد على مبدأ أن الحزب كما الدين وجدا لخدمة الإنسان وليس العكس. هناك اليوم دعوة وحاجة إلى تجدد عقائدي للمجتمعات العربية. والقضية كانت ولا تزال هي الإنسان.

الخميس، 2 مايو 2013

سليمان تقي الدين حاكياً «اليسار اللبناني وتجربة الحرب/ منظمة العمل الشيوعي»


بعض من سيرة بيروت لبنانية ومتوسطية وكوسموبوليتية ... منكرة وكريهة المستقبل - الأحد 28 نيسان 2013 - العدد 4674 - نوافذ - صفحة 13 وضاح شرارة على شاكلة سليمان تقي الدين (اليسار اللبناني وتجربة الحرب/ منظمة العمل الشيوعي اللحمة والتفكك- دار فارابي، بيروت، شباط 2013، 314 ص) ربما، أعتقد أن موضوع عمله، أو روايته ونقده، أي «منظمة العمل الشيوعي»، وروافدها وفروعها، «اعتصرت عمر مئات الشبان والشابات» كان منهم أو فيهم سليمان، كاتب العمل، وكاتب التعليق على عمل سليمان. وهو يذهب الى «استحقاق التجربة» الرواية، ويسوغ حقها هذا بقضاء بعض الشبان والشابات «مستشهداً تحت راية افكارها»، وبخيبة بعض آخر و»مرارته وتشرده ومعاناة حال التهميش والحصار وشظف العيش وعدم الاستقرار». وأحسب ان الشق الثاني من التجربة، على معنى الابتلاء، كان الانتساب الى المنظمة العتيدة هو السبب فيه، من غير ان يوضح الكاتب لقارئه لماذا ترتبت الخيبة والمرارة والمعاناة... على الانتساب هذا، واستوت و»الشهادة» جزءاً لازماً يجزي لا محالة الاشتراك في مثل هذا «العمل». وتنم الاشارات التي مرت، وغيرها مثلها كثير في مقدمة العمل، بتنبه كاتب العمل على قوة العامل الشخصي والذاتي «العاطفي» الذي لابس، على انحاء كثيرة، استواء اجتماع الشبان والشابات وتماسكهم على هذا المقدار أو ذاك، منظمة أو حركة سياسية يؤرخ الكاتب لولادتها والتحامها ولا يشك في تفككها منذ وقت طويل. ويتوقع قارئ الكتاب، وهذه حالي، تولي المؤرخ «مهمة» عسيرة مأتى عسرها اضطرارها الى الجمع بين وجهين متفرقين وربما مختلفين: وجه العام السياسي ووجه الدواعي الشخصية، الثقافية والاجتماعية، الخاص والسيري (نسبة الى سيرة أو سير). فلما لم يفتتح المؤرخ تأريخه بالنبرة الذاتية التي تقدمت بعض عباراتها، والامثلة عليها، يحسب القارئ ان سليمان تقي الدين عازم على سرد حوادث سياسية وتنظيمية وفكرية على شاكلة تلك التي سردت مثلها مئات الاعمال التي تناولت حركات سياسية سابقة ولاحقة. فحين تناول محمد ابراهيم دكروب، مؤرخ الحزب الشيوعي اللبناني الرسمي، تدوين اخبار رفاقه ووقائعهم، لم يحمله الامر، على رغم غنائية وملحمية مظفرتين وموروثتين من «سقي الفولاذ» في السهول الاوكرانية والسهوب السبيرية واجتثاث الكولاك، على التنويه باعتصار العمر ولا على طلب الثأر للخائبين والمريرين والمهمشين. ولست أذكر أن مؤرخ حركة القوميين العرب أو أحد أواخر مؤرخيها، توسل بهذا النحو في الكتابة والإخبار. وتقريب النحو من «أخبار» الجهاديين المحدثين، ومن مديحهم قتلاهم وإقدامهم وشجاعتهم وإيمانهم، ليس من قبيل الغمز ولا التحامل، بل هو (التقريب أو المقارنة) دلالة على ضرب من التناول والمعالجة يدير الظهر، عمداً او عفواً، لمعيار الانقطاع أو التعليق الذي يفترضه التأريخ. فالخوض في جملة من الحوادث والوقائع والاخبار يأتلف منها موضوع واحد، هو منظمة سياسية في هذا المعرض، يقتضي تمييز زمن الرواية من زمن الراوي، وبواعث «اصحاب» الحوادث من بواعث كاتب الرواية... ولعل مزج الازمنة والاوقات والبواعث بعضها ببعض، والاحتجاج باللاحق منها على «خطأ» السابق أو «صدقه»، من عيوب التأريخ الفادحة. ولا يتفادى صاحبنا بعض هذه العيوب. فيكتب أنه «خرج» من منظمة العمل الشيوعي في 1982، وهو كان معارضاً في 1979 ومستقيلاً من «المسؤولية» ثم «منكفئاً» سنة كاملة. ولم يلبث «الحزب» ان «تلاشى» في 1983 1987، على قوله. فيخلص الى «عبرة» أظن أنها لا تتفق وعمل التأريخ الذي ينسب إليه الكاتب نفسه وكتابه، وهو ليس كتاب عبر، ويكتب:»... أي ان ذلك (التلاشي) يفسر موقفي عام 1982». فالعبر لا تستقيم، أي لا يستقيم استخراجها واستنباطها، إلا إذا حملت حوادث التاريخ على غاية لاهوتية أو قصداً أخروياً أو على «قوانين» يستشهدها مناضلو المنظمات والاحزاب اللينينية والستالينية، ويتواتر التذكير بها في بيانات منظمة العمل الشيوعي وتقاريرها الداخلية في اثناء الحروب اللبنانية الفلسطينية (العربية): قوانين العمل الجبهوي ص 143 ، قوانين الصراع السياسي والعسكري، وغيرها مثلها يقع عليها قارئ الوثائق في الكتاب. الاسماء وإذا ألمحت المقدمة الى ما يشبه سير الذين اشتركوا في هذا الضرب العام والمشترك من السياسة والعمل والتفكير، فمباشرة التأريخ والرواية انصرفت عن تناول السير على وجوهها كلها. فلم يبق من هذه إلا لائحة اسماء صماء وخرساء لا تنم بأضعف التعريف أو اقله. وانتزعت الاسماء من أبوابها المشتركة، تلك التي تصف أو تعرف «تاريخ الحياة»، على قول بعض الاجتماعيات، وتسرد سرداً جامعاً وضيقاً معاً بعض الحيوات وسيرها وتراجمها (وكتب «السير والتراجم» فن من فنون الاخبار وصنعة الإخباريين). فيبقى «الشبان والشبات» في سنهم الواحدة، لا يتقدمون فيها، ولا «تخني عليهم»، على قول شاعر ليس من الجهل في شيء، على رغم انقضاء الاعوام. والسن الجامعة في باب اجتماعي مشترك، وهي تصلح تعليلاً لتقاسم نازع متقارب يصل بين افراد معاصرين ويعاصرون بدورهم من ليسوا من جماعتهم ولا من دائرتهم، هذه السن تبقى في التأريخ المفترض من غير مضمون. والسن باب مشترك، من وجه، وباب متجدد، من وجه آخر: فلا يبقى الشبان شباناً، بديهة، ويدخل فتيان مراهقون في سن الشباب وحدِّه تباعاً على شاكلة المدعوين الى الخدمة العسكرية وأفواجها، بديهة كذلك. ويفوق هذه البدائه معنى ومكانة ما تتيحه هذه السن لأصحابها في وقت من الاوقات، هو الثلث الثاني من الستينات المنصرمة، خيالاً وآلات وعملاً ورغبات ومواصلات، ولم تتحه لجيل أو نصف جيل سبق، في مطالع الخمسينات على وجه التقدير والتخمين. فما كان معنى او معاني الدخول في العقد الثالث، ومراحله ومحطاته المتفرقة، في ستينات القرن الماضي التي «يؤرخ» سليمان تقي الدين لها؟ ومن معاني الدخول الدراسة، وفروعها وحقولها وهيئاتها وبلدانها وجمهورها، والمهنة، ودوائرها وعلاقاتاتها ومحلها ومداخيلها وحراكها؛ والجنس، والاسرة، ومخلفاتها الكثيرة من ثقافية وطائفية ومادية ومحلية... والسكوت عن هذه، وبعضها معرفته متاحة وغير خافية، يقود التأريخ المفترض الى طريق ليس طريق «التجربة»، لا على المعنى «الرومانطيقي» الذي يضمر «المعاناة» ولا على المعنى الوصفي الذي تنشده الاجتماعيات. وهي ليست طريق فهم نشأة الجماعات السياسية، وما يكتنف نشأتها واستقرارها على هذه الصفة من عوامل ليست ابتداء أو مباشرة سياسية مثل الثقافة والسوابق العائلية والمحلية والجنس وغيرها. فلما ترك الكاتب هذه الطريق، او هذه الوجهة، وهي بدت لوهلة أولى مناسبة لحال الذين يؤرخ لهم ولغلبة النزعات الثقافية و»الذاتية» على اجتماعهم، توجه وجهة سرد سياسي تقليدي وذهني، فافترض للحوادث والوقائع المروية على ابواب «صحافية» أو خطابية سائرة ومعروفة دلالات ومفاعيل متوقعة. فيكتب أن «لكل مهنة في العالم شكلاً تظهر به (و) على الحزبي اليساري ان يتخذ لنفسه علامة فارقة في الشكل ثم المضمون. عليه أن يتبع (الموضة) السائدة في وسط بيئته المحلية او العالمية. عليه أن يتصرف اقتداءً بأئمته...» (ص 59-60). وكان مهد الكاتب لبرهانه الاستدلالي والدائري بالقول: «اتخذ اليسار لنفسه (طريقة)، فهو بداية عمل سري يحتاج الى اقنعة كما يحتاج الى وسائل تواصل مخفية عن عيون الرقابة السلطوية، كما يحتاج الى ان يختبر تماسكه الداخلي قبل ان يطرح نفسه على الجمهور. كانت بدايات اليسار محاولة لتجريب فعالية الانتماء والالتزام والقدرة على الحركة» (ص 58 59). ويستخرج الكاتب سماتٍ وأفعالاً من لائحة «الحاجات» الرمزية هذه. وهي، في هذه الحال، رغبات وليست حاجات. ويقتضي تعليلها افتراض مبانٍ رمزية اجتماعية على شاكلة المبنى الحسيني الحزب اللهي، أو المبنى العصبي والتأويلي الحلولي التقدمي الاشتراكي الجنبلاطي، أو المبنى الامبراطوري البطولي والاسطوري والادونيسي القومي السوري... وهو يدمج الرغبات في الذرائع العملية والظرفية التي يحدس فيها: الاحتياج الى «احتكاك مادي جسداً الى جسد مع سلطة مادية أخرى لكي يستفز طاقاته الثورية» (ص 61). وصادفت تظاهرات 23 24 نيسان 1969، فكان «الاحتكاك»، و»الاستفزاز» و»الثورة»... امتحان «الجماهير» ويحصي «اليسار اللبناني وتجربة الحرب» مسارح تحريض مطلبي ومهني متفرقة جغرافياً واجتماعياً، ويرصفها رصفاً على شاكلة رصفه اسماء العلم عارية مما يُعلِمها ويدل عليها ويصفها ويدرجها في جُمَل و»عائلات» وروابط. وما يُعلم ويدل ويصف هو جملة الفروق التي تنعقد منها فرادة الحادثة أو الحوادث، من الدواعي الى النتائج الجزئية والظاهرة المقدرة. فيقص على القارئ أن حركة طالبية ناشطة نهضت في «اواسط الستينات» حيث «حضور (...) أحزاب اليمين الطائفي المسيحي... كثيف» (ص 162). وسليمان تقي الدين يكتب هذا او ينشره على الملأ في 2013، ولا يرى داعياً يحمله اليوم إما على نسبة الألفاظ ومعانيها الظرفية الى وقتها وإما على الاستدراك على هذه المعاني وتعريفها من جديد. فيخلص القارئ الى ان الجامعة اليسوعية ببيروت كانت «بيئة محافظة»: على معنى «محافظة» التدريس الإمامي في النجف، على ما وصفه محسن الامين او محمد مهدي الجواهري؟ أم على المعنى التربوي والمنهجي الذي انتقدته حركات الشباب او الطلاب في 1968؟ أم على المعنى الاجتماعي والمعياري «الخلقي» الذي طعن فيه أو عليه تلامذة «اتحاد قوى الشعب العامل» الناصريين والثانويين يومها؟ أم على معنى الانطواء على (نفس) الجماعة، وعاداتها وتقاليدها ومهنها وبلادها، الذي بدا للطلاب اللبنانيين الشيعة المخلفين قبل نصف قرن من يومنا وراءهم مراقبة أهلهم في الضيعة أنه (الانطواء) صفة بارزة في السنة والدروز العروبيين والناصريين و»التقدميين» وفي «الثوريين» الشيوعيين العراقيين والسوريين والفلسطينيين؟ ونعتُ الطلاب الجامعيين المسيحيين، وعلى الاخص الكتائبيين منهم، باليمين الطائفي قصد به يساريون فرادى وطلاب، قوميون عروبيون أو سوريون، ومسلمون، وشبان عموماً، نسبة آرائهم أنفسهم، دون خصومهم، الى عمومية سياسية وغير أهلية، غافلين عن صدور عموميتهم المزعومة عن خصوصية أهلية، طائفية و»يمينية» من ضرب آخر، تفوق خصوصية الخصوم الاهلية. ويتصل التقسيم والتفاوت هذا الى دوائر الجماعات الأخرى: فـ»حركة الوعي» ضوت طلاباً في الجامعة اللبنانية، جاؤوا من «الارياف المسيحية المهمشة ومن البيئات الفقيرة»، أما حركة «كفاح الطلبة» فنشأت في الجامعة الاميركية و»ضمت أطيافاً مختلفة من شباب اليسار والقوميين العرب والبعثيين...» (ص 62). فيُعفى اليساريون والقوميون العرب والبعثيون، شأن من يمتون الى حركات أو جماعات تتستر على أهليتها الاسلامية أو المسلمة العميقة بعمومية جامعة صورية، إيديولوجية وذرائعية عملية، يعفون من نسبهم الأهلي. ويسكت عن تعليل عموميتهم السياسية المعلنة، هم المتحدرون تاريخاً وعصباً من جماعات غالبة وحاكمة في دول وسلطنات الاسلام أو احد مذاهبه دينُ طبقاتها الحاكمة، وسند مشروعيتها وحقها «الطبيعي» في الحكم. وعلى هذا، فالتنبيه الى مذاهب الحاكم، وأهله و»طبقته» أو أعوانه، يحسبه الحاكم طعناً في مشروعيته، وتمييزاً من الكثرة الغالبة وتفريقاً، وتأليباً عليه. والمثال السوري، العلوي، قرينة صارخة على هذا: فالاشارة الخفية أو الهامسة الى مذهب الحاكم وعسكره وأجهزة أمنه ومراقبته عدوان «طائفي»، ويميني، على قول صاحبنا، وقريباً، في بعض الصفحات اللاحقة حين يعالج مراحل انفجار الحروب المتناسلة، عدوان فاشي. وفي الاثناء حل نعت التكفيري محل الفاشي. ومن يطلق النعوت المعيارية، ويعفي نفسه من تقييد المعاني وتعريف المفهومات هو من يجلس في واهمته، على قول بعض الكتاب النهضويين، في كرسي «الدول» التقدمية. وحسبان «اليسار»، أو الجماعات (اللبنانية والعربية) التي تنسب نفسها الى تراث سياسي واجتماعي وفكري أوروبي قام على نقض المراتب في تثبيت شروط المساواة وعمومها، أنه فوق الفروق والحدود الطائفية والمذهبية امتحنه وقوضه خروج هذه الجماعات من المعارضة، ومن الدائرة الاجتماعية الضيقة والطالبيةعلى الاغلب، الى رحاب الساحة والخط الجماهيريين العريضين، والى التربع في السلطة من طريق الانقلاب. وسبق الحركة «الوطنية» اللبنانية المزعومة، والعروبية العصبية والجهازية فعلاً، الى الولوغ في الصبغة الطائفية قبل ولادة حركات مذهبية متسلطة ومسلحة، إسفارُ البعث «العلماني» في سوريا والعراق عن نظامين اهليين علوي وسني، حال سطو الجهاز الحزبي العسكري أو الميليشياوي على السلطة، وسعيه في إرساء عصبية متماسكة يستمدها جيشَ أنصاره وموظفيه ومواليه والمقاتلين دونه إذا حم الخطب وفشت الحرب الاهلية، وهي أفق الانظمة العلمانية والتقدمية والقومية (العربية) الماثل على الدوام. فليست العلمانية أو العمومية السياسية التي تبيح للكاتب اليوم وأباحت لمن هم مثله في ايام سابقة، إعمال أبواب اليمين واليسار والطائفية والفاشية والوطنية والطبقية... في التأريخ والرواية إلا فضيلة قلة لم يمتحنها «خط الجماهير»، ولم يعركها الحكم وموازين القوة والنفوذ والتمثيل التي تلازمه. وقد تبدو هذه الملاحظات استطراداً ينحرف بالتعليق على كتاب سليمان تقي الدين عن موضوعه وغرضه. والاستطراد لا شك فيه. ولكنه لا يخرج عن سويته وقصده. فالمسألة الراجحة في نهاية المطاف، وهي لا يسهم التاريخ المفترض في تناولها من قريب أو بعيد، تتناول تحول روافد حركة مدنية ووطنية وديموقراطية اجتماعية من سماتها هذه الى فصيل مقاتل على جبهات حروب عصبية وجهازية استخبارية وإقليمية لا يحيط (الفصيل) ولا يلم بأثخن حبالها فكيف بخيوطها الدقيقة. والحق ان ما جمع شتات الاشخاص والرغبات والحاجات والمصالح الذي ائتلفت منه المنظمة السياسية لاحقاً، وصدرت عنه روافدها، أو رافداها المتشابهان على رغم بعض الفروق، هو نقضان متلازمان: نقض على الحزب الشيوعي اللبناني ونهجه المحابي للثقافة السياسية السوفياتية وتسويغاتها الجهازية والقمعية في الداخل والخارج، ونقض على الناصرية وعروبيتها الفوقية والاهلية وإنكارها حقوق المعارضة والمنازعة ووصايتها على الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية. وافترض النقض المزدوج أو المتصل جواز أو إمكان، وفي الاحوال كلها افترض ضرورة تلقائية اجتماعية داخلية أو وطنية تضع الامور في نصابها الحقيقي والصحيح. فتستقر النزاعات والتحالفات على مصالح معلنة ومفهومة؛ وتنكفئ الجماعات من هذه الطريق الى مسرح داخلي وطني ترسم حدوده الفاصلة وقواسمه المشتركة غير المنكرة مفاوضةٌ دائمة هي جزء من إعلان المصالح والحياة السياسية الوطنية داخل الهيئات الدستورية وخارجها؛ ويماشي الإقرار بانفصال المجتمع وحكم الدولة واحدهما من الآخر إقرار بمزاولة الحق في المعارضة والمنازعة بوسائل غير الانتخابات النيابية وتقوم على المواجهة والتأليب والخلاف وامتحان موازين القوى علناً. وعول النقض المزدوج على هذه الوسائل في سبيل استرجاع «العائلتين» الشيوعية والناصرية الى دائرة سياسية لبنانية مركزها في داخلها. وراهن أصحابه على مفعول مراكمة الاختبارات و»وعيها» وتخزينها، إذا جاز القول. ولم يقتصر معنى «المركز في الداخل» على الاستقلال السياسي و»الامني» الوطني (كان الوقت وقت عبد الحميد السراج والمكتب الثاني...)، فتعدى السياسة والنفوذ الى الحركات الاجتماعية والثقافية، او الى الرأي والاسهام فيها. فلم يبدُ «اللعب» بالاعيان والاحزاب والوزراء وكبار الموظفين والضباط وقبضايات الاحياء ومدراء المصارف ومسؤولي النقابات وأصحاب الامتيازات الصحافية أشد فداحة ووطأة على نضوج «الثورة» أو «الحياة» الاجتماعية والديموقراطية من إقحام الشيوعيين والنصاريين وغيرهم أنصاراً ومحازبين كسالى ولا مبالين ومطيعين على الانتخابات النقابية الحركات المطلبية. وتصورت المواطأة العامة على إدارة مرافق الانتاج والعمل والامن والتأهيل والرأي والخلاف «حبياً»، على ما يقال، ومن وراء ظهر الجمهور أو اصحاب العلاقة، على ما كان اصحاب النقض المزدوج يفضلون القول، في صورة الفضيحة. فنازع أصحاب النقض المزدوج أو دعوتهم ودعواهم، كانت الى بلورة مصالح قاطعة، وناتئة القسمات، يحتكم أصحابها ومنظماتهم علناً الى منافشة لم تكن يومها تسمى هابيرمازية (نسبة الى هانس هابيرماز داعية اخلاقيات المناقشة في دائرة علانية عامة ومشتركة)، والى منازعة تستبعد العنف المباشر ما أمكن. طبقات صريحة وكان سائق هذا الرأي أو النازع هو إيقان «ماركسي» بميل الطبقات الحاكمة، وعلى رأسها البورجوازية طبعاً، الى «تغليف» سيطرتها ومصالحها الفظة بـ «مخلفات» أبنية السيطرة السابقة والآفلة وشاراتها، الدينية والقومية والاخلاقية والجمالية. ويقود «التغليف»، وخداعه، الى تضييع الادوات والهويات التاريخية المرسومة والمرجوة معاً، والى تبديد الطاقات في مسرح ظلال وأقنعة لا تتميز مداخله ومخارجه بعضها من بعض. فبورجوازية صريحة وسافرة خير ألف مرة من تكتل أعيان أهل وطوائف وتجار مهاجرين أثرياء وأصحاب مهن حرة بارزين يتسترون على «ديكتاتورية» البورجوازية فيما هم يسعون بين يديها وفي خدمتها لقاء مقايضات باهظة، سياسياً وتاريخياً. وعلى الجهة الاخرى من الصراع الاجتماعي والسياسي، لم يشك دعاة النقض المزدوج في اضطلاع «الوسطاء» بتغليف فادح لموارد «الطبقات الكادحة» النضالية التلقائية، وتزييف لقدرتها على صناعة مثالات اجتماعية وثقافية. واقتضى الامران، إعمال الموارد وصناعة المثالات، تولي من احتار أصحابنا في تسميتهم «بروليتاريا» عصية على الفهم الحسي، «طبقات كادحة ومستغلة» تنم بشكوى وظلامة لا تليقان بالدور الموعود، «طبقات شعبية» غائمة وعائمة، «شعب» يليق بالأعيان السابقين- التصدي لأدوارهم وقضاياهم بأنفسهم، ومن طريق اختباراتهم هم وليس من طريق قيادة بصيرة وعالمة، قوية الشبه بالإمامة المعصومة. ولم يشك أحد من دعاة النقض المزدوج في «تناقض» هذه الطوبى- من «يوتوبيا» أو جزيرة الواق الواق المنفية من «البلدان» والمحال- وتداعيها. وهي كانت طوبى، أي رجاءً أخروياً وبلورياً كينونياً، تليق بالشبان العشرينيين (والشابات العشرينيات) الذين (واللواتي) طوى العقد الاول من تشاغلهم السياسي، بين الثلث الاول من الستينات ونظيره من السبعينات، صورة رجائهم، ما خلا شطراً راجحاً منهم مضى على بعض خطابة الطوبى وألبسها جسم الفصيل «الوطني» المقاتل تحت لواء «الشعب الفلسطيني اللبناني» و»قواته المشتركة» وفتوحها الدامورية والمتينية والعيشية والصنينية، و»كوادره» المجيدة التي ينشد البك الحاد البصر وجوق هوميرييه بطولاتهم العربية وفروسيتهم الخالدة على الدهر. ولم تكن الطوبى وليدة عمى عن الوقائع الاجتماعية والسياسية، أو جهل مدقع بها. ولا كانت ثمرة هوى بالأفكار و»النظريات» والمناقشة، على قول رائج، وهو هوى لا ينكر. فمصدر «التناقض»، على زعمي، أصلي وتاريخي: نُسبت الى القوى الاجتماعية والسياسية، والى الجماعات على قدر أقل، عقلانية باطنة وجوهرية، من جهة، ودعيت «طليعة» مفترضة، تستحي بطليعتها المدعاة، الى استخراج هذه العقلانية، وصوغ معاييرها، وخزنها وديعةً في متناول القوى الاجتماعية والسياسية، من جهة أخرى. والعقلانية الباطنة، حين يتحقق وجودها وفعلها وتدرك على هذه الصفة، إنما هي صناعة وإيجاب لا يخلوان من التعسف أو الخلق «الشعري» (والروائي والموسيقي والتصويري...)، ولا تضمن «بنية» دوام فعلها ولا عموم هذا الفعل. فهي رهن الفاعلين: فالعمال قد لا يتماسكون طبقة أو في طبقة، ولا يدركون مصالح مشتركة غير قائمة والحال هذه، ولا يريدون ما يتجاوز تلبية احتياجات ملحة من أي طريق جاءت هذه التلبية. ومثل هذا يصدق في الطبقات الاخرى، وفي الجماعات المتفرقة. والغالب هو حمل القوى الاجتماعية والسياسية على اللحمة أو «الوحدة» أو الهوية من خارج، وفي ظروف تصاحبها الفرادة والاستثناء. فكان النقض المزدوج على الوصايات والرعايات الآمرة والمحرِّفة، وهو افترض قوة وتعبئة وإرادة فاقت بما لا يقاس طاقات المتجندين للمهمة، مقدمة سالبة نيط بها التمهيد لخروج الايجاب التاريخي والثوري الى العلانية والفعل. وأغفل التعويل الجدلي، فيما أغفل، على رغم ملابسته تجريباً ميدانياً أو حقلياً جزئياً، يبالغ سليمان تقي الدين كثيراً في وصفه وتثمينه، تاريخية الرغبات والاهواء والحاجات والاحوال التي تدلف منها القوى الاجتماعية الى الفعل على صوره المعروفة او المجهولة، أو تُسلِّطها على دفعه الفعل وعرقلته وكبحه. فالمثال المتخيل للعمل السياسي والحياة الشخصية والمهنية والاجتماعية اثناء عقد الستينات اللبناني وافق ربما، لبعض الوقت، رغبات أفراد قليلين وأحوالهم وهم كانوا شطراً محلياً ومولَّداً من جيل «انفجار المواليد» («بايبي بوم») العالمي في اثناء الحرب الثانية وغداتها مباشرة. وكانت بيروت الكوسموبوليتية، على قول طوني جو(د)ت وقبله جون دوس باسوس (روائي ثلاثية «يو إس إيْ»)الاميركيين، والمتوسطية والعثمانية والغربية والاميركية الجنوبية كانت بيروت هذه حضن الرغبات والاهواء والحاجات التي شبهت لبعض شبانها طوباهم، واستدرجتهم اليها، وشاركوا فيها. والقول ان بيروت هذه عجزت عن القيام بأعباء كوسموبوليتها وتبعاتها، فأقام الشطر الغالب من أهلها داخل اسوار خططهم وضواحيهم وبوابات هذه وتلك، قد يكون منقاداً الى التسويغ والاعتذار. ودليلي على صدق هذا القول، أو برهاني، هو أن مناخ سموم الحروب الملبننة، حروب الجماعات والاهل والطوائف والاجهزة والدول والعصابات والشبكات، وطواعينها التي هبت على اللبنانيين، كانت بيروت اللبنانية والمتوسطية والكوسموبوليتية عدوها الكريه واللدود، ومسرحها الاثير.

المقاومة الاسلامية في فلسطين: التباسات البدايات، واقعية المسارات


المقاومة الاسلامية في فلسطين: التباسات البدايات، واقعية المسارات سعود المولى حماس ورواية التأسيس تتفق الروايات الرسمية لحركة المقاومة الاسلامية (حماس) على تحديد تاريخ ميلاد الحركة بمنتصف شهر ديسمبر 1987... فبعد حادث الاعتداء الذي نفذه سائق شاحنة صهيوني في 6 كانون الأول/ديسمبر1987، ضد سيارة صغيرة يستقلها عمال عرب وأدى الى استشهاد أربعة من أبناء الشعب الفلسطيني في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عند تشييع الشهداء يوم 7 كانون الأول/ديسمبر.. وبحسب روايات حماس فقد إجتمع خلال الأيام الأولى للانتفاضة سبعة من كوادر وكبار قادة جماعة الإخوان المسلمين العاملين في الساحة الفلسطينية هم أحمد ياسين وإبراهيم اليازوري ومحمد شمعة (ممثلو مدينة غزة)، عبد الفتاح دخان (ممثل المنطقة الوسطى)، عبد العزيز الرنتيسي (ممثل خان يونس)، عيسى النشار (ممثل مدينة رفح)، صلاح شحادة (ممثل منطقة الشمال)؛ وكان هذا الاجتماع إيذاناً بانطلاق الحركة التي وزعت بيانها التأسيسي في 15 كانون الأول /ديسمبر 1987 أي بعد دخول الانتفاضة الفلسطينية أسبوعها الثاني .. وصدر ميثاق الحركة في آب/أغسطس 1988 وجاء في المادة 2 منه أن (حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين. وحركة الإخوان المسلمون تنظيم عالمي، وهي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وتمتاز بالفهم العميق، والتصور الدقيق والشمولية التامة لكل المفاهيم الإسلامية في شتى مجالات الحياة، في التصور والاعتقاد، في السياسة والاقتصاد، في التربية والاجتماع، في القضاء والحكم، في الدعوة والتعليم، في الفن والإعلام، في الغيب والشهادة وفي باقي مجالات الحياة) ... وفي المادة 6 أن حماس هي (حركة فلسطينية متميزة تعطي ولاءها لله، وتتخذ من الإسلام منهج حياة، وتعمل على رفع راية الله في كل شبر من فلسطين) ... فحركة حماس هي إذن جناح من أجنحة الاخوان المسلمين نشأت في آخر العام 1987، أي بعد 40 سنة على النكبة وثلاثين سنة على ولادة حركة فتح وعشرين سنة على نكسة الخامس من حزيران.. وإخوانية حركة حماس وأيديولوجيتها نقرأها واضحة صريحة في "مقدمة" الميثاق التي تعتبر حماس"النواة" التي "ولدت من وسط الخطوب، وفي خضم المعاناة، ومن نبضات القلوب المؤمنة والسواعد المتوضئة، وإدراكًا للواجب، واستجابةً لأمر الله"، فهي تعبير عن "الدعوة" أولاً وعن "التلاقي والتجمع" ثانياً... ويؤكد الميثاق أيضاً على "العروبة... على منهج الله" وهذه نقطة جديرة بالاهتمام والتوقف عندها إذ هي تحدد السمات الايديولوجية لمفهوم التحرر الوطني والانتماء العربي وممارسته من جانب حماس ... وباختصار فإن حركة "حماس" هي (من زاوية أيديولوجية مؤسسيها وروايات البدايات) حركة جهادية، بالمعنى الواسع لمفهوم الجهاد، وهي جزء من حركة النهضة الإسلامية ، تؤمن أن هذه النهضة هي المدخل الأساسي لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وهي حركة شعبية إذ أنها تعبير عملي عن تيار شعبي واسع ومتجذر في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني والأمة الاسلامية يرى في العقيدة والمنطلقات الاسلامية أساساً ثابتاً للعمل ضد عدو يحمل منطلقات عقائدية ومشروعاً مضاداً لكل مشاريع النهوض في الأمة . وحرصاً على تبرير سبب التأخر في الكفاح المسلح أو الجهاد، يقول الميثاق في مقدمته أيضاً: "ولمّا نضجت الفكرة، ونمت البذرة وضربت النبتة بجذورها في أرض الواقع، بعيدًا عن العاطفة المؤقتة، والتسرع المذموم، انطلقت حركة المقاومة الإسلامية لتأدية دورها ماضية في سبيل ربها، تتشابك سواعدها مع سواعد كل المجاهدين من أجل تحرير فلسطين، وتلتقي أرواح مجاهديها بأرواح كل المجاهدين الذين جادوا بأنفسهم على أرض فلسطين، منذ أن فتحها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا" ... وبهذا الكلام تضع حماس هنا حداً بينها وبين من سبقها من حيث البعد أولاً عن التسرع والعاطفة ومن حيث استمرار الجهاد منذ عهد الرسالة الأولى ثانياً ومن حيث تلاقي أرواح المجاهدين ثالثاً... فيكون القطع مع تراث الحركة الوطنية التحررية للمقاومة الفلسطينية (1957-1987) هو المقدمة والمبرر للوصل مع التراث الاسلامي التاريخي النبوي والصحابي ومع سيرة الجهاد الفلسطيني بكل مراحله ومع أرواح شهدائه... وما تقوله الروايات الحمساوية يموضع نشأتها في سياق "ما شهدته فلسطين منذ منتصف الثمانينيات من تطور واضح وملحوظ في نمو وانتشار الصحوة الاسلامية (كغيرها من الاقطار العربية)، ونمو الحركة الاسلامية فكرة وتنظيماً، في فلسطين المحتلة عام1948، وفي أوساط التجمعات الفلسطينية في الشتات" . وهذا التموضع يقدم لرواية حماس عن نفسها إطاراً تأويلياً خاصاً يرى الى المسألة من زاوية نضوج الظروف التي كانت حركة الاخوان المسلمين تُعد لها منذ أن أسسها حسن البنا... ونضوج الظروف عنوانه العام عودة الناس الى الإسلام بعد عقود النكسات والنكبات والضياع... "ففي ظل تراجع القضية الفلسطينية الى أدنى سلم أولويات الدول العربية وتراجع مشروع الثورة الفلسطينية من مواجهة المشروع الصهيوني وإفرازاته إلى موقع التعايش معه وحصر الخلاف في شروط هذا التعايش، وبسبب تراكم الآثار السلبية لسياسات الاحتلال الصهيونية القمعية الظالمة ضد الشعب الفلسطيني، كان لا بد من مشروع فلسطيني اسلامي جهادي، بدأت ملامحه في أسرة الجهاد عام 1981 ومجموعة الشيخ أحمد ياسين عام 1983 وغيرها" ... "ومع نهايات عام 1987 كانت الظروف قد نضجت بما فيه الكفاية لبروز مشروع جديد يواجه المشروع الصهيوني وامتداداته ويقوم على أسس جديدة تتناسب مع التحولات الداخلية والخارجية، فكانت حركة المقاومة الاسلامية "حماس" التعبير العملي عن تفاعل هذه العوامل" . الإخوان المسلمون بعد نكسة حزيران 1967 تأخر الإخوان المسلمون أربعين سنة لبدء طريق المقاومة في فلسطين وهم أبطال حرب 1948 وورثة تراث الحاج أمين الحسيني والشيخ عز الدين القسام... وبين العامين 1948 و1987 كانت نكسة حزيران محطة فاصلة بالنسبة لهم من حيث استعادة حضورهم التنظيمي والسياسي والاجتماعي.. بدت هزيمة حزيران كما لو أنها حسمت الجدل الفكري السياسي المتعلق بشأن صلاحية الأفكار والتصورات والمفاهيم القومية واليسارية التي كانت مطروحة على الساحة العربية .. وتبلور في مقابل ذلك خطاب البدايات الاخوانية الذي صار يطرح شعار الاسلام هو الحل... أزاح الاحتلال الصهيوني عن كاهل الإخوان المسلمين المطاردة التي كانت تلاحقهم من قبل النظام الناصري في قطاع غزة تحديداً، وصار بامكانهم التواصل مع إخوانهم في ضفتي نهر الأردن.. فنشط من تبقى من الإخوان المسلمين (وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وعبد الفتاح دخان، ومحمد حسن شمعة)، في إعادة بناء هيكل الإخوان المسلمين مستفيدين من قانون الجمعيات العثماني الذي اعتمده الاحتلال وطبقه على غزة بعد عام 67.. وقد بادر الشيخ أحمد ياسين بدعوة مجموعة من الشخصيات المنتمية لحركة الإخوان، والراغبين في العمل لإعادة تشكيل التنظيم .. في المرحلة الأولى شكلت هذه المجموعة قيادة الحركة، ولم يكن هناك كيانات أو مؤسسات تنظيمية أخرى، ومع الوقت بدأت أعداد المنتمين للإخوان تتزايد، وترافق ذلك مع استحداث هياكل وأشكال ومؤسسات ومراتب تنظيمية تناسب الواقع الجديد؛ على رأسها تلك الهيئة التي حملت اسم الهيئة الإدارية العامة، وهي القيادة العليا للحركة في قطاع غزة، وكانت مسئولة عن الهيئات الإدارية لمختلف المناطق،و تكونت في البداية من مجموعة الشخصيات التي بادرت للعمل بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 ، وهم: أحمد ياسين، إبراهيم اليازوري، ومحمد الغرابلي، وكانوا يمثلون مدينة غزة، ومحمود أبو خوصة، وكان يمثل جباليا وتوابعها من مناطق شمال قطاع غزة، وعبد الفتاح دخان، ممثلاً عن المنطقة الوسطى، ومحمد عايش النجار، ممثلاً عن خان يونس، ومحمود محسن، ممثلاً عن رفح. وانتُخب عبد الفتاح دخان، رئيساً للهيئة الإدارية، لكنه تنازل عن تلك المهمة للأستاذ أحمد ياسين؛ معللاً ذلك بأن المسؤول يجب أن يكون من منطقة غزة، فهي مركز القطاع إضافة إلى أن أحمد ياسين تتوفر فيه صفات القيادة؛ وأصبح عبد الفتاح دخان نائباً للرئيس بشكل تلقائي .. دارت نقاشات طويلة داخل الهيئة الإدارية العليا، والتي أُطلق عليها أيضاً اسم المكتب الإداري، بشأن تحديد الأولويات، هل تبدأ الحركة بمقاومة الاحتلال؟ أم تُعيد بناء ذاتها؟ وتعمل على بناء جيل جديد يكون قادراً على البدء والاستمرار في المقاومة؟ وحسم الأمر بأن الأولوية يجب أن تكون لصالح إعداد جيل وتربيته، ثم إعادة بناء التنظيم؛ لأن الهدف المرحلي لحركة الإخوان في قطاع غزة يجب أن يقتصر على إنجاز تلك المهمة .. وقد ذكر أحمد ياسين أن ذلك القرار اتُخذ بعد نقاشات دارت بين الداخل والخارج، حيث سافر أحمد ياسين إلى عمان؛ فالتقى مع عبد الله أبو عزة، مندوباً عن الإخوان المسلمين الفلسطينيين في مدينة عمان، وأكد الطرفان على أولوية التربية ثم إعادة بناء التنظيم.. وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ أحمد ياسين كان ميالاً للبدء بالعمل العسكري منذ اللحظة الأولى وأبدى ذلك الموقف في الداخل والخارج، لكنه التزم بموقف الأغلبية التي أصبحت قراراً للحركة ... واصلت تلك المجموعة القيادية عملها منذ البداية حتى منتصف السبعينيات، لم يطرأ عليها أي تغيير، فغالبية تلك المجموعة كانت تعمل في التدريس، والمنتسبون الجدد للحركة كانوا من الطلاب في العادة، وكان العمل منصباً على أنشطة دعوة الناس للالتزام بتعاليم الدين والاستقامة على الصعيد الفردي والجماعي، واستمر الانسجام الكامل بين المجموعة القيادية الأولى، ولم تظهر أي اختلافات أو تباينات في الرأي حتى منتصف السبعينيات ... لكن بعد ذلك بدأت تظهر بعض النقاشات داخل الحركة حول مسائل عديدة، منها: إعادة ترتيب الأولويات، مسألة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وضرورة استحداث آليات عمل جديدة (مثل بناء المؤسسات)، حينها لجأت القيادة إلى استحداث جسم جديد (مجلس الشورى)، لكي تُدار بداخله النقاشات وتُحسم الخلافات. ومع نهاية السبعينات أصبح المكتب الإداري ينتخب من مجلس الشورى، وقد جرت انتخابات دورية كل عامين، منذ نهاية السبعينيات وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى.. وقد أفرزت نتائج الانتخابات بعض التغييرات في عضوية المكتب الإداري ... المرحلية في العمل ابتدأ الاخوان نشاطهم الجديدعلى مراحل... المرحلة الأولى كانت مرحلة المساجد، وهي مرحلة هدفت، حسب إبراهيم المقادمة ، إلى بناء المساجد، واستيعاب الجيل الجديد من الشباب، وتعبئته ولم شتاته، وتأطير توجهاته، وتركيز عقيدته وتعميقها لمواجهة الاحتلال الصهيوني. وفي هذه المرحلة عاد خطباء المساجد الى لعب دور توجيهي وتعبوي، والى طرح قضايا اجتماعية وأخلاقية وأخرى تتعلق بالوعي الإسلامي لطبيعة المعركة مع الكيان الصهيوني، وخصوصاً لجهة التركيز على رفض الغزو الفكري. وقد ذكرت صحيفة التايمز اللندنية أن عدد المساجد ارتفع في الضفة والقطاع بين عامي 1967و1987 من 600 مسجد إلى 1350 مسجداً ...وقد لعبت المساجد دوراً مهماً على صعيد حركة الإخوان المسلمين مكنتهم من التغلغل في أوساط المجتمع الفلسطيني .وبهذا أيضاً تكون التجربة المصرية في بروز خطباء مساجد شعبيين قد انتقلت الى غزة بعد العام 1967.. ثم كانت مرحلة المؤسسات وآيتها بناء المجمع الإسلامي في غزة في عام 1973 برئاسة الشيخ أحمد ياسين .. نشأ المجمع كمسجد، ثم أُلحقت به عيادة طبية ونادٍ رياضي ورياض أطفال، ولجنة زكاة، ومركز نشاط نسائي وتأهيل فتيات، ولجنة إصلاح، وفرق أفراح إسلامية. وكانت مرحلة 1975-1979 قد شهدت عودة كوادر إسلامية شابة إلى قطاع غزة بعد تخرجها من الجامعات المصرية أمثال: الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور إبراهيم المقادمة، والدكتور محمود الزهار، والدكتور موسى أبو مرزوق، والمهندس إسماعيل أبو شنب، ومعهم وبهم بدأ مشوار الجامعة الإسلامية في غزة التي كانت أبرز وأهم صرح حاضن للتجربة الجديدة للاخوان ... الجامعة الاسلامية بدأ النشاط الإخواني فيها منذ إنشائها عام 1978 ، وهي كانت أول الجامعات الفلسطينية التي تنشأ في قطاع غزة، ولم يسبقها إلا معهد الأزهر الديني، الذي كان يرأسه الشيخ محمد عواد، صاحب فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية. وقد أصبح للإخوان المسلمين نفوذ واسع في الجامعة، إذ عملوا على توظيف أعداد كبيرة من عناصرهم ومؤيديهم مما مكنهم من السيطرة على الجامعة وإدارتها. وفي عام 1982 تسلم الإخوان رئاسة الجامعة من خلال الدكتور محمد صقر. وكان الإخوان يحققون فوزًا في كل انتخابات تجري لمجلس الطلبة في الجامعة. وكانت الكتلة الإسلامية في الجامعة الإسلامية تسيطر على مجلس اتحاد الطلبة منذ تأسيسها بنسبة 70 % من الطلاب. ولذلك لم يكن غريباً أن نجد أن من ترأس الكتلة الإسلامية، كانوا عددا من أفراد الإخوان البارزين الموزعين على المناطق الجغرافية في قطاع غزة والذين صاروا في أغلبهم من قادة حركة حماس... في الأعوام من 1982 الى 1987 دارت صراعات عنيفة في الجامعة الاسلامية بين منظمة التحرير (فتح والشعبية والديمقراطية) من جهة والاخوان المسلمين من جهة أخرى...واستخدم العنف خصوصاً في عامي 1984-1985 و1986-1987...كما دار صراع مع "الجماعة الاسلامية"(الاطار الطلابي لحركة الجهاد) وزع الاخوان المسلمون خلاله بيانات تتهم الجهاد بانها شيعية عميلة لحركة أمل (وكانت حرب المخيمات مشتعلة)... في الحقيقة كان الصراع يتجاوز موضوع الجامعة إلى موضوع الوجود الحركي لجماعة الإخوان في القطاع كقوة صاعدة في بداية الثمانينيات. وتمت السيطرة التامة للاخوان على الجامعة على الرغم من أن التمويل الرئيسي لميزانية المؤسسة كان يأتي من منظمة التحرير الفلسطينية، ومصدره مساعدات الدول النفطية العربية لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي كانت تقررت منذ سنة 1978 واستمرت خلال السنوات التي تلتها. ومع تقليص المساعدات العربية لمنظمة التحرير طرأ تغيير كبير في ميزانية الجامعة التي صار تمويلها من مصادر خارجية مثل الحركة الإسلامية في الأردن، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي في السعودية، وهذا جعل الحركة الإسلامية في الأردن هي التي تتحكم في تعيين مجلس أمناء الجامعة بصفتهم المسؤولين عن جمع الأموال من مصادر خارجية. وقد عين الدكتور محمد صقر أحد رجال الحركة الإسلامية في الأردن، رئيساً للجامعة واستمرت رئاسته لسنة واحدة وبعدها منع الحكم العسكري الإسرائيلي استمرار بقائه في قطاع غزة، وبعد 1985 أصبحت الجامعة الإسلامية معقل النشاطات الإسلامية في قطاع غزة بفضل الحضور الكبير لأعضاء الحركة والسيطرة على ميزانية المؤسسة (1.2 مليون دينار في سنة 1986) التيار الإسلامي والجامعات في الضفة في نفس الفترة عرفت الضفة الغربية انتشاراً واسعاً للتيار الإسلامي لعله كان نتيجة لازدياد عدد الطلاب المحليين القادمين من الريف التقليدي المحافظ الى الجامعات الحديثة، ذات الطابع الوطني واليساري الواضح مثل جامعة بيرزيت.. وفي بداية الثمانينات توصل التيار الاسلامي إلى التساوي في أحيان كثيرة في مجالس الطلبة مع الكتلة الوطنية المتحدة تحت عنوان منظمة التحرير... ترافق ذلك مع موجة عارمة من إنشاء المساجد الجديدة وإغلاق قاعات عرض السينما وظاهرة العودة الجماعية للدين، الأمر الذي كان يسارع ويتزايد أيضاً في أراضي 48 وفي بقية البلدان العربية على وجه العموم. ويبدو أن صعود قوة التيار الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزة جاء لموازنة صعود اليمين المتطرف الى السلطة في إسرائيل بعد العام 1977، وما رافقه من تصاعد لعملية الاستيطان اليهودي خصوصاً مع بروز "غوش ايمونيم" ، ومع اندلاع المواجهات مع المستوطنين حول المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي. وقد برزت الكتل الطلابية الإسلامية إلى ساحة العمل الطلابي في جامعات الضفة الغربية وقطاع غزة، وساعدها في شق طريقها تراجع الطروحات اليسارية والقومية، وصعود الجماعات الاسلامية الجهادية في مصر، وقيام ثورة إسلامية في إيران ، وبروز ظاهرة الجهاد الأفغاني ...وبرأيي أن تطورات الوضع اللبناني خلال الحرب الأهلية كان لها انعكاسات وتأثيرات قوية على شباب فلسطين المحتلة.. تشكلت الكتل الإسلامية في جامعات الضفة الغربية، وأخذت تخوض الانتخابات وتحقق نسبًا متقدمة. وكمثال على ذلك حصلت الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت عام 1979 على 43 %. من اصوات الطلاب... أما في جامعة النجاح فقد فازت الكتلة الإسلامية عام 1979 بعشرة مقاعد من أصل أحد عشر مقعدًا، وفي العام 1980 حازت على خمسة مقاعد فقط ، وعادت في العام 1981 للاستئثار بجميع المقاعد الأحد عشر .. تحرك الشيخ أحمد ياسين نحو الضفة الغربية والأردن، وأفلح في إيجاد قنوات اتصال مع الإخوان المسلمين في الضفة الغربية. بالتوازي مع ذلك قامت في الخارج عام 1977 قائمة الحق الإسلامية، كإحدى قوائم اتحاد طلبة فلسطين في جامعة الكويت، وكان أول رئيس لها خالد مشعل. جرى تحويل اسمها إلى الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين في جامعة الكويت .. وفي بريطانيا قامت عام 1979 رابطة الشباب المسلم الفلسطيني، وتأسس في أمريكا الشمالية 1980 وكندا1981 الاتحاد الإسلامي لفلسطين وشارك في هذا الاتحاد عام 1983 موسى أبو مرزوق. وكانت نشأة هذه الرابطات تعبيرًا عن بحث الشباب الفلسطيني في الشتات عن دور في ساحة العمل الفلسطيني أدت المنافسة بين حركة الإخوان ومنظمة التحرير الفلسطينية على قيادة الشارع الفلسطيني في الجامعات والمدارس الثانوية والمؤسسات في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى اتهامات، وصلت إلى حد وصف الإخوان المسلمين من قبل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالتخاذل وعدم المشاركة في مواجهة الاحتلال الصهيوني . ألقت هذه الاتهامات بظلالها على الإخوان المسلمين مما دفع الشباب للضغط على قيادة الحركة لانتهاج الجهاد وسيلة للمواجهة ،في حين أن قيادة الحركة رأت التريث وعدم الانجرار وراء هذه الاتهامات، لأن من شأن ذلك أن يؤثر على النهج السليم الذي سيؤدي بالحركة إلى تحقيق أهدافها. وقد استمر الجدل بين الإخوان المسلمين وفصائل منظمة التحرير، حيث أصر كل على مواقفه حيال التعامل مع الاحتلال الصهيوني في تلك المرحلة. وكثيرًا ما اعترض أنصار منظمة التحرير الفلسطينية على مبالغة الإخوان المسلمين في دورهم النضالي ضد الاحتلال، وذلك بإشارة الإخوان إلى دور الحركة الإسلامية في لبنان في مقاومة الاحتلال الصهيوني للجنوب اللبناني، واغتيال الرئيس المصري أنور السادات، وبعض العمليات العسكرية التي جرت في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل عام 1987.. فالمقاومة في لبنان لحزب الله، والذي اغتال السادات جماعة الجهاد المصرية، أما العمليات العسكرية في فلسطين والمشار إليها فإنها من فعل حركة الجهاد الإسلامي . أما حديث الإخوان المسلمين عن دورهم في حرب عام 1948 ،فقد وصفه أنصار منظمة التحرير بأنه تشدق مستمر، وتساءلوا عن دور الإخوان في كل السنين التي تلت تلك الفترة. رد الإخوان على هذه الاعتراضات بأنه أيًا كانت الأقوال عن انتماءات هؤلاء الإخوة من ناحية تنظيمية، فهم في كل الأحوال نتاج طبيعي للحركة الإسلامية فكرًا وحركة وجهادًا. وخلاصة القول في كل ما سبق، إلا أن الإخوان شقوا طريقهم من جديد بعد عام 1967 على مراحل أولاها: المساجد، وثانيها: المؤسسات، إلى جانب الرحلات والمهرجانات ونشر الكتب الإسلامية ... الوضع العسكري في غزة 1971-1981 شهدت السنوات الأولى بعد النكسة مرحلة عودة التعاون مع حركة فتح من خلال قواعد الشيوخ في الأردن (1968-1970).. لكن أحداث أيلول ثم وفاة عبد الناصر فانقلاب الأسد في سوريا خلق وضعاً جديداً حوصرت فيه حركة فتح في الضفة وغزة فلجأت الى لبنان وغرقت في تناقضاته... ومع خروج الاخوان من السجون المصرية 1971 تدفق الشباب عليهم طلباً للبديل فكانت مرحلة عاصفة من الحوارات والنقاشات والتفاعلات داخل الاخوان استمرت حتى العام 1977 تاريخ وصول الليكود الى الحكم.. فبين أعوام 1967 و1977 تمتع الفلسطينيون في غزة بوضع اقتصادي شبه مستقر وشبه جيد ناجم عن تدفق العمالة الغزاوية الى اسرائيل بعد فتح الحدود (وبعد التحرر من القمع المصري) وتمدد التسوق الاسرائيلي في غزة، والانفتاح على الضفة الغربية وجمع شمل العائلات، وتدفق عائدات العمالة الخليجية..الخ... وكانت سياسة اسرائيل في غزة تتسم بتجاهل حركة الاخوان والتركيز على ضرب قوى الجبهة الشعبية وقوات التحرير الشعبية (وهما ورثتا القوميين العرب والناصرية) وحركة فتح وروابطها.. وهذا ما سمح للشيخ أحمد ياسين بنيل تراخيص رسمية للعمل الاجتماعي والدعوي تحت أسماء مختلفة.. لكن السياسة الاسرائيلية الانفتاحية خلقت في المقابل شعوراً بفقدان الكرامة الوطنية من جهة، وبالتعرض لغزو فكري ثقافي تغريبي من جهة أخرى، الأمر الذي أدى الى تبلور ردة الفعل الأصولية المحافظة في خطاب الهوية الدينية، خصوصاً مع تصاعد حمى هذا الخطاب في المحيط المباشر (مصر أولاً حيث تدفق الطلبة الغزاويون للدراسة في جامعاتها، ثم لبنان حيث حلت قوات الثورة الفلسطينية منذ العام 1971)... وجاءت أحداث لبنان 1973 و1975-1976، وأحداث مصر (صالح سرية) ثم زيارة الرئيس السادات للقدس (1977)، وانقسم الوضع العربي على وقع صعود اليمين الاسرائيلي الذي سدد ضربات قوية وموجعة لمنظمة التحرير في لبنان (أهمها غزو واحتلال جنوب لبنان في آذار/مارس 1978) والخارج (اغتيال عدد من قادة وكوادر الثورة) ..وتوجت تلك المرحلة بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد (26/3/1979).. في هذه الأجواء سمح الليكود ببناء أول مستوطنة في غزة..وجاء الانسحاب الاسرائيلي من سيناء بموجب كامب ديفيد ليؤدي الى نشر القوات الاسرائيلية المنسحبة حول غزة وبذلك صارت غزة هي الحدود بين مصر واسرائيل وهي مركز الحشد الاسرائيلي العسكري... ومع وصول آرييل شارون لمنصب وزير الدفاع (1981) تشكلت قوات خاصة من الجيش الاسرائيلي (القبعات الحمر) كانت أوامرها تقضي بإذلال الناس واهانتها على الحواجز التي ازداد عددها خصوصاً في وجه انتقال الطلاب الثانويين والجامعيين بين القطاع والضفة وداخل القطاع نفسه ، والضغط العنيف عليهم لمنعهم من مساندة العمليات الفدائية..وهكذا صارت غزة سجناً كبيراً...ولم يعد سهلاً السفر الى مصر أو منها الى غزة كما تم منع السفر الى الأردن وتم التضييق على دخول العمال الغزاويين الى اسرائيل باستثناء السماح لهم بالعمل في بناء المستوطنات ما ضاعف من الشعور بالمهانة..ثم كانت حرب غزو لبنان صيف 1982 ما فجًر مشاعر الفلسطينيين ضد الاحتلال.. الإخوان المسلمون يتجهون إلى العمل العسكري: اتجه الشيخ أحمد ياسين نحو شراء السلاح وتخزينه في عملية سرية وذلك في العام 1980 واستمر هذا الأمر لمدة ثلاث سنوات . كانت خبرة الإخوان المسلمين في حقل تجارة السلاح محدودة وضعيفة، وكانت هذه التجربة الأولى للحركة الناشئة مما أدى إلى انكشاف الخلية واعتقال أعضائها وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين الذي حُكِمَ عليه بالسجن 13 عامًا، وعبد الرحمن تمراز، 11 عامًا، والدكتور محمد شهاب، 10 أعوام، والدكتور إبراهيم المقادمة، 8 أعوام، وصلاح شحادة، عامان ونصف، وحرب مهرة، 4 أعوام، ومحمد سمارة، 3 أعوام. وقد أُفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى عام 1985.. قام الشيخ أحمد ياسين حال خروجه من السجن، بتأسيس جهاز أمني اسمه (مجد) كبداية استعداد للعمل العسكري. اتسع هذا التنظيم مع مباشرته عمله خلال عام ونصف من قيامه. مع بداية الانتفاضة كان هذا التنظيم جاهزًا للاستمرار في عمله الأمني الجهادي. ثم شكل الشيخ ياسين جهازًا عسكريًا جديدًا ومنفصلا عن مجد مع إمكانية التنسيق بينهما، وكلف صلاح شحادة بقيادة التنظيم الجديد الذي أُطلق عليه اسم (المجاهدون الفلسطينيون) .. قام صلاح شحادة بتجنيد عناصر جديدة كان من بينها محمد المصري الذي عُرف فيما بعد بـ"الضيف" والذي صار المطلوب الأول للكيان الصهيوني بعد اغتيال يحيى عياش. ومما يدل على فاعلية جهاز مجد اعتراف بعض أعضاء حركة حماس الذين حُقِّق معهم في السجون الصهيونية أن جهاز مجد كان قد باشر أعماله منذ العام 1985 . حماس والرواية الأخرى: قصة الانتماء لللإخوان بدأت بعد النكسة 67 بحسب مؤرخي حماس فإن الشيخ أحمد ياسين قرر اعادة بناء حركة الاخوان في غزة بعد عام 1967 وأنه اختار لذلك عشرة من غزة والقدس دعاهم الى اجتماع لنقاش مسألة اطلاق الحركة.. ولكن معظمهم لم يتحمس للأمر وبعضهم غادر للدراسة أو العمل في الخارج ... غير أن دروسه وخطبه استهوت شباباً من جيل جديد كانوا يحضرون الى مسجده ويدعونه لزيارتهم وتحلقوا حوله وهذه المجموعة الأولى ضمت اثنين من المعلمين مثله: عبد الفتاح دخان وحسن شمعة، وخمسة من الطلاب: ابراهيم المقادمة، اسماعيل أبوشنب، عبد العزيز عودة، فتحي الشقاقي، موسى أبو مرزوق... وكل هؤلاء درسوا في مصر لاحقاً وكان لهم دور كبير في مجتمع الطلاب الفلسطينيين هناك ..غير أن ورود أسماء عبد العزيز عودة وفتحي الشقاقي بين الطلاب المتحلقين حول الشيخ ياسين جعلني أدقق في الرواية بمقارنتها برواية بعض شهود تلك الفترة وأبرزهم عودة والشقاقي الى جانب الدكتور علي شكشك (مقيم في الجزائر اليوم) والدكتور بشير نافع (مقيم في الدوحة اليوم)... فمن أحاديث ولقاءات مع المذكورين يتبين أن فتحي الشقاقي كان ميالاً للناصرية وكان له صديق يسمى محمد محسن وهذا كان أبوه إخوانياً وكان يتعرض للمضايقات إبان الإدارة المصرية للقطاع.. وكانت تدور نقاشات في بيت فتحي يشارك فيها أقرانه مثل جمال أبو هاشم وخميس أبو ندا وإبراهيم معمر وتوفيق أبو عيادة وعلي شكشك وخليل الشقاقي وموسى أبو مرزوق وأحمد يوسف... وكان محمد محسن يتعاطف مع أبيه الاخواني وميالا لانتقاد عبد الناصر ويعزو نكسة 67 إلى أنها انتقام رباني من الله للنظام الناصري بسبب تعذيب الإخوان وإعدام سيد قطب التي كانت مازالت ذكراها حديثة العهد... وفي خضم الحوارات كان يستحضر بعض الكتب التي أخرجها أبوه من تحت الأرض بعد النكسة وبعد أن كانت مدفونة لإخفائها عن رجال أمن النظام المصري، ومن هذه الكتب كتب السيد سابق وسيد قطب، وكتاب كامل اسماعيل الشريف (الإخوان في حرب فلسطين).. وهذا الكتاب الأخير كان بمثابة غسيل مخ لكل الدعاية الناصرية وكشفا جديدا لهؤلاء الطلاب في تلك المرحلة والتي دعتهم لنفض كل المقولات السابقة والتفكير على بياض... كما كان كتاب (معالم في الطريق) كشفا مماثلا للتعرف على روح سيد قطب ومن ثم الإخوان، والبدء بعاصفة من القراءات والمناقشات... وفي العام 1968 بدأ البحث عن تنظيم الإخوان وتعرف فتحي على الشيخ أحمد ياسين وجاء به إلى بيته وجلس الشباب معه.. ولا يبدو أن شباب مخيم رفح هؤلاء كانوا قد استمعوا أي خطبة سابقة للشيخ أحمد ياسين.. أي أن التحول واكتشاف الإخوان تم بدون الالتقاء معهم.. وبعد ذلك كان السعي للبحث عنهم. تلا ذلك بداية تشكيل الأسر وكان الشيخ عبد العزيز الشاب الملتهب حماساً في ذلك الوقت خطيباً متميزاً .. يقول علي شكشك أنه كان عضواً في أكثر من أسرة وكان معه في نفس الأسرة موسى أبو مرزوق وأحمد يوسف وأنه كان عضواً في مجلس النقباء الذي كان يجتمع أسبوعياً في بيت الحاج محمود محسن والد محمد محسن (وأحد الذين أعادوا تنظيم الاخوان في غزة مع أحمد ياسين)... غادر موسى أبو مرزوق القطاع عام 1969 إلى مصر حيث كانت ظروف عائلته المادية حسنة بما أن أخاه كان ضابطاً منذ العهد المصري وخريج كلية حربية مصرية وهناك أكمل موسى الثانوية العامة والتحق بالجامعة في حين أنهى فتحي دراسة التوجيهي والتحق بكلية بير زيت وكان يأتي كل أسبوع محملاً بالكتب والحكايا "ينتظره الشباب كمن ينتظر ينبوع معرفة ويختطفون الكتب منه والمجلات"... "وتعرفنا منه على التنوع الثقافي والسياسي في الضفة مثل مقالات التحريريين خصوصاً وفكرهم"... "المخيم غيتو لكنه يموج بالشوق للانبثاق".. يعني باختصار كان ذلك بعد النكسة وقد خرج الشباب من الوطن تباعاً... موسى أبو مرزوق 1969، علي شكشك 71 وفتحي الشقاقي عام 75...إذن الانتماء للإخوان لم يكن بسبب الاستماع لخطب الشيخ أحمد ياسين وإنما كان بسبب مناخ فكري وسياسي ومعرفي تشكل بين الشباب بعد النكسة... أما بشير نافع فقد ترك القطاع بعد النكسة مباشرة الى عمان وهناك التحق بأشبال فتح وعايش مجازر أيلول وكان قد أنهى التوجيهي وجاء إلى مصر ولكنه بدأ الدراسة بعد عام نظراً لتأخره أي بدأ الدراسة عام 71 فكان يحمل في تلك السن المبكرة تجربة متميزة عن النموذج الإخواني ... خرج هؤلاء الشباب من غزة كإخوان مسلمين ولم يكن هناك تنظيم في البداية على الإطلاق.. كانوا بضعة شباب أهمهم كان الشيخ عبد العزيز عودة وقد تم بناء تنظيم من الصفر.. وكان صاحب الفضل الأكبر والجهد العالي فيه هو الشيخ عبدالعزيز... أي أنهم كانوا منظمين في الاخوان قبل خروجهم الى مصر.. كان معهم أيضاً إبراهيم المقادمة و أحمد الملح ويوسف رزقة وأحمد يوسف وعلي صايمة.. واستمر هؤلاء الشبان في التزاور والتعاون والقراءة والحوار.. كانت الأمور صعبة في مصر تلك الأيام و"الإخوان" كانت تهمة كبيرة... تعبير أنهم تركوا الجماعة غير دقيق.. والصحيح أن الجماعة لم تحتمل نمطاً مغايراً للنمط التقليدي الاخواني المصري الغزاوي فيما الشباب كانوا يقرأون الفكر اليساري الجديد ويتابعون تطور حركة المقاومة الشعبية المسلحة والمدنية، خصوصا في غزة.. وقد كان هذا يتفاعل ببطء داخل جماعة الاخوان الذين لم يستوعبوا محاولات شعرية تتحدث عن الحب على سبيل المثال وسارت وتفاقمت الأمور حتى أصبح الشباب يطالبون بانتخابات داخلية... الشيخ عبد العزيز وبشير نافع وعلي شكشك تركوا الاخوان عام 75 في السنة التي وصل فيها فتحي الشقاقي الى مصر لدراسة الطب..ومنذ العام 1975 صارت الاجتماعات تدور حول فكرتين: القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الاسلامية- وفكرة كيفية بناء الطليعة الاسلامية... بعد ذلك كانت بدايات الثورة الإيرانية ووجود مجلة المختار الإسلامي في مصر (التي كان يصدرها الشيخ يحيى عاشور) ونشاط الجماعات الاسلامية الطلابية المستقلة عن الاخوان في الجامعات المصرية (والتي شكلت حاضنة تنظيمي الجهاد والجماعة الاسلامية)... ثم كان كتاب الدكتور فتحي الشقاقي عن الثورة الايرانية قبل انتصارها (الخميني والحل الإسلامي البديل) وهو كتاب من القطع الصغير جمعه الأمن من السوق ونفذت منه طبعتان في أقل من شهر وقبض على الدكتور فتحي وتقرر ترحيله خارج البلاد.. كان ذلك عام 79 عام الثورة الإيرانية وقد رجع فتحي وعبد العزيز الى غزة في نهايات 81.... حركة الجهاد وتفجير الانتفاضة بلغت ذروة العمل الجهادي المسلح لحركة الجهاد الاسلامي في عملية البراق الشهيرة في 1/6/1987 والتي قام بها مجاهدون من سرايا الجهاد (قوة مشتركة بين شباب من فتح وحركة الجهاد) ثم المعركة الخالدة المعروفة باسم (معركة الشجاعية) في 6 تشرين الاول 1987، حيث وقع اشتباك مسلح بين قوات الاحتلال وبين عدد من مجاهدي الحركة ، الذين كان بعضهم قد تمكن من الهروب من سجن غزة المركزي المحاط باجراءات امنية اسرائيلية مشددة ، والقيام بعدة عمليات عسكرية نوعية ضد اهداف صهيونية ، كان أهمها اغتيال قائد الشرطة العسكرية في قطاع غزة (الكولونيل رون طال) في 2 آب 1987.. وقد كانت معركة الشجاعية وغيرها من العمليات العسكرية التي قام بها مجاهدو الجهاد الاسلامي ، لا سيما مجموعة المجاهدين الفارين من سجن الاحتلال ، سببا مباشرا ومقدمة الهبت الشارع الفلسطيني وقادت إلى اندلاع الانتفاضة في كانون الاول 1987..... تجدر الإشارة هنا إلى أن العمل الجهادي الذي كان يمارس تحت اسم سرايا الجهاد كان بمبادرة رئيسية من مجموعة من أبناء حركة فتح ، كانوا رموزًا على مستوى الثورة وكانوا يمتلكون الرؤية حول مركزية القضية الفلسطينية، وضرورة إطلاق الجهاد على أرض فلسطين، هذا بالإضافة إلى امتلاكهم الخبرة العملية داخل صفوف فتح، في الوقت الذي كانت التجمعات الجهادية الإسلامية في فلسطين قليلة الخبرة صغيرة ومتواضعة وبحاجة إلىأمثال أبي حسن (محمد ابحيص) وحمدي (باسم التميمي) ومروان كيالي وأمثالهم للاستفادة مما لديهم من إمكانيات وخبرة لانطلاق الجهاد في فلسطين. وقد تم إنشاء سرايا الجهاد كإطار لتنسيق جبهوي عام بغض النظر عن الجهة المعنية التي تقوم بالعملية الجهادية وذلك لتجنب التنافس والتسابق في الإعلان عن العمليات فيما بين الفصائل الفلسطينية المختلفة. وكان للشهداء أبي حسن وحمديومروان الدور المميز في ولادة سرايا الجهاد التي يعود اليها الفضل في تفجير الانتفاضة الأولى ... وتعتبر حركة الجهاد الإسلامي أن دم أبطال الحركة الذي سال على أبواب مدينة غزة، ما عرف بمعركة الشجاعية، بمثابة الشرارة التي فجرت الانتفاضة.. علماً أن حادثة دهس العمال قرب جباليا في 8/12/1987 جاءت على خلفية مقتل مستوطن صهيوني على يد أعضاء من الجهاد الإسلامي.. وتعتقد الحركة أنها تحملت مع بقية الجماهير الفلسطينية أعباء الانتفاضة الفلسطينية في أسابيعها الأولى وأصدرت البيانات والمنشورات داعية الجماهير إلى الخروج والمقاومة والجهاد على درب شهداء الشجاعية..لا بل أن أول بيان حمل اسم المقاومة الاسلامية في فلسطين هو كراس صغير (8 صفحات) أصدرته حركة الجهاد يوم الجمعة 16/10/1987 بعنوان (انطلاقة الدم والشهادة) خصصته للحديث عن فلسفة الشهادة وعن سيرة الشهداء الخمسة أبطال الشجاعية . عوامل تبلور خيار حماس 1-كانت الساحة الطلابية في الجامعة الإسلامية بغزة مشتعلة بالنقاشات، وكان الطابع الغالب على النقاش والمناظرة هو الطابع السياسي حيث كانت الكتل الطلابية المختلفة توجه سؤالاً واحداً ومحرجاً للكتلة الإسلامية، وهو: أين أنتم على ساحة المقاومة؟ وكان شباب الكتلةالاسلامية يستحضرون التاريخ والنضالات السابقة للإخوان المسلمين في حرب 1948 وفي الخمسينات من القرن العشرين، وكذلك في نهاية الستينات حيث شارك الإخوان فيما يطلقون عليه اسم عمليات الشيوخ، وقد أصدرت الكتلة في هذا المجال كتيباً للمرحوم فتحي يكن (الحقيقة الغائبة)، استعرض خلاله كل جهود الإسلاميين الكفاحية لأجل القضية الفلسطينية منذ بدايتها وحتى نهاية الستينات وأضاف إليها تجربة أسرة الجهاد بقيادة الشيخ عبد الله نمر درويش داخل فلسطين المحتلة سنة 1948، وكذلك اعتقال الشيخ أحمد ياسين ومجموعة من إخوانه سنة 1984 ؛ بتهمة حيازة أسلحة وتشكيل تنظيم مسلح لإبادة دولة إسرائيل . وقد أفضى هذا التطور الى المرحلية في ترتيب أولويات الحركة الإسلامية: وما بين أولوية التمكين، وأولوية التحرير، والتغيير، خلصت الحركة الإسلامية إلى صيغة عضوية متداخلة، تحاول أن تزيل أي تناقض بينهما، بل وتمزج وتوازي العمل بهما معا، وفي آن واحد، من خلال الحراك والتفاعل الداخلي 2-كان إنشاء الجامعات والكليات الجامعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ عام 1977 وما بعدها، والتي استوعبت الآلاف من الطلبة، قد جعل منها بؤر استقطاب قوية أدت إلى نمو بعض الحركات الإسلامية .. كما شكلت تلك الجامعات، رافداً قوياً، رفد الحركة الإسلامية بمجموعة من الكوادر والقيادات الشابة المدربة، والمتمرسة في العمل الدعوي، والعمل الجماهيري، والعمل السياسي، الذين شكلوا فيما بعد قيادة حركة المقاومة الإسلامية وكوادرها، وكان لهم الدور الطلائعي الفاعل في الانتفاضتين الأولى والثانية. 3-أدى ظهور حركة الجهاد الإسلامي، وتناميها السريع، وتنفيذها لعمليات جريئة، منافساً قوياً للإخوان على الصعيد المعنوي، ومن هنا كان على الإخوان المسلمين أن يقوموا بخطوات للحد من تسليط الأضواء على حركة الجهاد الإسلامي المنافسة. فبدأ الإخوان سراً بالتجهيز للعمل العسكري المسلح، مستندين في ذلك إلى منظومة الدعم المادي الذي كان يرسل لأجل إعداد البنية التحتية والاجتماعية والخيرية والطلابية من جماعة الإخوان المسلمين العالمية، وخاصةً جماعة الإخوان المسلمين في الأردن .. 4-المنافسة بين جماعة الإخوان المسلمين وفصائل منظمة التحرير، فقد نافس الإخوان المسلمون فصائل منظمة التحرير في جميع المجالات داخل الأرض المحتلة، وخارجها، وكان لا بد أن تشمل أيضا ساحة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد تردي أوضاع منظمة التحرير، وانحسار دورها في الكفاح المسلح من الخارج على إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما ترتب عنه من إخراج قوات المنظمة من لبنان وتشتيتهم في الأقطار العربية. شعر الإخوان أن عدم اشتراكهم الفاعل في مواجهة قوات الاحتلال في الفترة الماضية ترتّب عليه خسران الساحة الفلسطينية لصالح فصائل المقاومة، ولهذا لم يعد من المعقول والمقبول أن تبقى الجماعة خارج دائرة الفعل المقاوم . وكان لا بد للحركة الإسلامية من الانخراط في العمل المسلح لتكريس شرعيتها السياسية من خلال مقاومة المحتل، إلى جانب الشرعية الدينية التي تتمتع بها 5-أثر النخب الإخوانية الجديدة، صاحبة الخبرة "الوافدة" المتأثرة بالتجارب الإخوانية في البلدان العربية، في تغيير استراتيجية الإخوان المسلمين اتجاه الصراع مع الاحتلال الصهيوني، ومن العوامل الفكرية التي ساهمت في هذا التحول يمكن خصوصاً رصد تأثير الأفكار الثورية التي طرحها سيد قطب في كتابيه "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" والتي كان شباب الجهاد يركزون عليها في مجلتهم (الطليعة الاسلامية). 6-دور الضفة الغربية في تأسيس حركة حماس، فعند الحديث عن تأسيس الحركة تتجه الأنظار إلى الروايات التي تتحدث عن دور قطاع غزة وقيادة الإخوان المسلمين في غزة في هذا التأسيس، وتختصر هذه الرواية أكثر في الحديث عن دور الشيخ أحمد ياسين فقط، مهملة الدور التكاملي للإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة وخارج فلسطين في هذا القرار، ونادرا ما تجد إشارات تؤكد دور الضفة الغربية، لكنها تبقى إشارات مجملة مبهمة بحاجة لتفصيل، فيأتي نص الباحث بلال شلش ومقابلاته وأحاديثه مع عدنان مسودي ليكشف عن جهد كبير بذل في الضفة الغربية مواز للجهد المبذول في قطاع غزة وفي خارج فلسطين من أجل الوصول إلى لحظة الانطلاقة التي قررها بداية المكتب الإداري العام الذي يمثل الضفة وغزة... وفي مذكرات مسودي حديث عن شخصيات كان لها الأثر الكبير في مسيرة الحركة الإسلامية، أسقطت من الروايات التاريخية، كالحاج راضي السلايمة والمهندس حسن القيق والأستاذ ناجي صبحة والشيخ سعيد بلال وغيرهم... وفيه أيضاً تفاصيل حول آليات اتخاذ القرار في حركة حماس، وحديث عن اجتماعات قيادة حماس الأولى، وكيفية صياغة بيانات الانتفاضة ومركزيتها، وعن صياغة ميثاق حماس، وعن الفشل في التنسيق مع القيادة الموحدة حول إدارة الانتفاضة . 7-وهكذا كانت حماس" النسخة الفلسطينية " للحركة الإسلامية الأم، جماعة الإخوان المسلمين، وهي تتطابق معها أيديولوجياً بشكل تام، فعندما يتعلق الأمر بشعارات الحركة الدينية العامة، نجد أنها لا تختلف شيئاً عن الإخوان ، وعلى سبيل المثال:" الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانيننا" أما فيما يخص القضية الفلسطينية، فقد تبّنت الحركة الكثير من الشعارات التي تؤكد وجهة نظرها المستندة إلى الشعارات الإسلامية التقليدية حول القضية الفلسطينية، مثل كون فلسطين أرض وقف إسلامي .. خاتمة: لا بد في الختام من التأكيد على أن حماس ككل ظاهرة اجتماعية سياسية ليست حركة جامدة أو أن خطابها خطاب ثابت لم ولا يتغير؛ فقد شهد هذا الخطاب، كما شهدت الحركة نفسها وممارستها، العديد من التطورات والتغيرات المهمة أدت إلى تحولها تدريجياً من حركة ذات طابع دعوي ديني على النمط الاخواني الكلاسيكي إلى حركة وطنية جهادية (من نوع جديد) ذات خطاب سياسي برغماتي (على النمط الفتحاوي) لا يرتكز على الإحالات الدينية أو على مرجعية الشرع وحده... فبين خطاب وعمل المؤسسين الأوائل أيام المجمع الاسلامي والجامعة الاسلامية في غزة ونشاطاتهم السياسية والاجتماعية الدعوية (1967-1987) من ناحية، وخطاب وممارسة المقاومة الوطنية ضد إسرائيل وصعود الجناح العسكري للحركة من ناحية أخرى، فرق كبير هو بالتأكيد لصالح السياسة البرغماتية وفكرة التحرر الوطني والمقاومة الشعبية.. لا بل يمكننا القول مع خالد الحروب بأن "هذا الاتجاه سيتعزز أكثر في الفترة التي تلت اتفاقيات أوسلو 1993؛ حيث اختفى "الديني" من خطاب حماس ليحل محله السياسي بشكل شبه كامل، كما ستطغى الاعتبارات السياسية على حسابات الحركة، وتتضاءل أهمية المحور الدعوي"، كما شهدت تلك الفترة "تحولاً محوريا يتعلق برؤية الحركة للصراع مع إسرائيل؛ حيث بدأت الحركة تدرك أن مطلب " تحرير فلسطين من النهر إلى البحر" غير واقعي، بعد أن تجاوزته التطورات والأحداث؛ وهو ما تمثل في تصريحات الشيخ أحمد ياسين بأن الحركة مستعدة لقبول دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولعقد هدنة طويلة مع إسرائيل" . وقد مثلت انطلاقة حركة حماس ودخولها ميدان المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني كحالة استثنائية في جماعة الإخوان المسلمين تأسيسًا لوضع جديد، إذ أصبحت حماس طرفًا في الصراع الوطني ضد الاحتلال سياسيًا وعسكريًا وخفت العلاقة الصدامية مع الحركة الوطنية ومع أطراف إقليمية عدة منها إيران، وانتهى الخطاب التكفيري للشيعة... ومن جهة أخرى مثل تغييب الشيخ أحمد ياسين وخليفته عبد العزيز الرنتيسي نقطة مفصلية في مسيرة تحولات الحركة؛ فبغياب هذين القائدين الرمزيين لم تعد هناك سلطة مركزية في الحركة تستفرد بعملية اتخاذ القرار، بل توزعت سلطة اتخاذ القرار بين قيادات عدة... وما يثير الاهتمام هو أن كل القرارات الرئيسة التي اتخذتها حماس (مثل قرار خوض الانتخابات وتشكيل حكومة) تم تبريرها على أساس سياسي صرف دون الدخول في جدل ديني حول حل أو حرمة المشاركة في انتخابات تنظم بمقتضى اتفاقات مع العدو الصهيوني . أيديولوجية الحركة اليوم هي خليط من أفكار واتجاهات عدة، دون أن يعني ذلك قطيعة مع ميراث الإخوان المسلمين. هذا الميراث يتمثل في حرص الحركة على الحفاظ على وحدتها؛ فحماس هي الفصيل الفلسطيني الوحيد الذي لم يشهد انشقاقات داخل صفوفه حتى اليوم بفضل استعدادها للتضحية بأي مكسب إستراتيجي مهما كانت أهميته إذا كان ذلك سيهدد وحدتها الداخلية، فيجب أن لا تغيب الحسابات والاعتبارات الداخلية للحركة عن بال من يحاول تحليل مواقفها وقراراتها .