عشر سنوات على غياب العَلَم العلامة المجاهد المجتهد
الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رضوان الله عليه)..
في العاشر من كانون الثاني تطل علينا الذكرى العاشرة لرحيل الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1936-2001) فنفتقد في الليالي المظلمة ذلك البدر الذي كان بحكمته وبصيرته، وبمحبته وانفتاحه، شاطئ أمن وأمان لكل اللبنانيين والعرب: مسلمين ومسيحيين؛ ولكل المسلمين: عرباً وغير عرب... ونتذكر وصاياه ، وخاصة للشيعة الإمامية الإثني عشرية ، في الإندماج الوطني الشفاف وفي عدم التمايز بأي مشروع خاص وتحت أي عنوان من العناوين، وفي تطوير الشراكة الكاملة والمواطنة المتساوية: بين المسلمين والمسيحيين، وبين السنة والشيعة، وبين العرب وغير العرب... في كل أوطانهم...وفي بناء الدولة الوطنية المدنية العادلة المستقلة المتوازنة التي لا دين لها ولا مذهب ولا غلبة فيها ولا استقواء..بل حرية وديمقراطية وعدالة وكرامة ومساواة: للجميع وبين الجميع..
وندعو جميع اللبنانيين والعرب إلى المشاركة في إستذكار مواقفه والسير بها قولاً وعملاً:
" لن يكون لبنان مسيحياً ذا وجه عربي أو إسلامي، ولن يكون إسلامياً ذا وجه مسيحي أو أوروبي... لبنان هو لبنان... هويته تتكوّن من تنوعه"..
"السؤال هو: هل نريد لبنان أو لا نريده ؟ هل نريد نظاماً جمهورياً ديموقراطياً برلمانياً أم لا نريده؟ إذا كنا نريد نظاماً جمهورياً ديموقراطياً برلمانياً وإذا قلنا نعم للبنان، فهذا المشروع (إتفاق الطائف) يأخذ من الكل وفي نفس الوقت يعطي الكل"..
"إن لبنان ليس مكاناً جميلاً فحسب...إنه كرامة وحرية، بيت ورغيف حلال، مدرسة ومستشفى، قدرة على المشاركة في الرأي والقرار، قدرة على التعبير والنقد.. إن لبنان معنى ودور وحوار حياة أنتج صيغة فريدة للعيش المشترك ونمطاً مميزاً علينا حفظهما وتطويرهما"..
"إن لبنان هو معنى لا يكتمل بالمسلمين وحدهم ولا بالمسيحيين وحدهم ، بل يكتمل بهم جميعاً ومعاً"... ..."إن إسلامية المسلم تبقى ناقصة بدون المسيحي، ومسيحية المسيحي تبقى ناقصة بدون المسلم"... ...."أنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفعاليتها ودورها في صنع القرارات وفي تسيير حركة التاريخ"...
"إن التزامنا العلاقة الطبيعية المعافاة مع سوريا (المسماة خطأ "علاقة مميزة") لم ولا ينشأ من نقص في التزامنا لبنان وطناً نهائياً سيداً حراً مستقلاً في نظام ديموقراطي برلماني"...
"إن الصيغة التي نريد والدولة التي نريد ليست ولن تكون لطائفة دون أخرى، أو مع فئة ضد أخرى، فضلاً عن أن تكون دولة أشخاص..إنها دولة الجميع وللجميع: عدالة ومساواة وكرامة"...
"إن واجبنا الأول هو أن نزرع في نفوس مواطنينا الثقة والأمل والرجاء، وأن نعزز التلاحم والتضامن،لا أن نخلق الهواجس والمخاوف"...
"ليس للشيعة في لبنان أو في العالم العربي مشروع خاص بهم... الشيعة في لبنان وفي العالم العربي هم جزء من المشروع الوطني العام لبلدانهم ولأمتهم، مشروع الدولة الوطنية والمجتمع الواحد، وليس لديهم أي وَهم في مشروع خاص كما أنهم لا يتحملون مسؤولية أي مشروع خاص"...
"أدعو الشيعة في لبنان والعالم العربي والاسلامي الى الاندماج في أوطانهم، والى أن يكون مشروع الدولة الوطنية هو مشروعهم المشترك مع سواهم من المواطنين..لا يفيدهم في شيء أن يكون لهم مشروع خاص بهم..وعليه ينبغي إنخراطهم في أرقى درجات الإلتزام الأخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين والإلتزام بحفظ النظام العام وإطاعة القوانين.".
"الحوار والمصالحات الداخلية والإندماج الوطني هو الطريق السليم لحفظ كرامة الشيعة وتعزيز مكانتهم وليس الإنكفاء والسلبية أو الحالة الهجومية"....
"إن خطاب عاشوراء والحسين هو خطاب العيش المشترك في لبنان، لا بلقلقة اللسان والشعارات الجوفاء، بل العيش الواحد الذي يقوم على ثوابت الكيان اللبناني وثوابت الدولة والمجتمع في لبنان، العيش الواحد الذي يعترف للآخرين بكرامتهم وبحريتهم وبثقافتهم وبكياناتهم الداخلية، لا يهرّج عليهم ولا يهيمن عليهم بشعار القداسة... لا تجعلوا الحسين حجراً تلقمون به أفواه الآخرين أو ترجمون به الآخرين أو تخضعون به الآخرين أو تحاربون به الآخرين
"...."إن ما أراه الخيار الوحيد أمام الشيعة في لبنان والخليج وفي كل مكان ، مع اختلاف الشروط، هو خيار تحقيق الكرامة والحد الأعلى من المصالح ، وحفظ دينهم وفهمهم وحرية سلوكهم وممارستهم بقدر الإمكان في ظل الشروط القائمة فعلا في المنطقة والعالم...إن ذلك لا يمكن أن يحصل إذا كنا مصدر خوف للآخرين..لأن الخوف منا لا يجعلنا متناقضين مع الأنظمة ، بل يجعلنا ، وهذا أسوأ ما يكون ، متناقضين مع الشعوب بالذات، نتناقض مع شركائنا في الوطن...إن علينا نحن الشيعة أن نبني حالة إلفة نفسية بين المجتمع غير الشيعي والشيعة.. وهذا الأمر يحتاج إلى تواصل والى اعتراف متبادل ويحتاج إلى أن لا يكون الشيعي مصدراً للخوف بل مركزاً للأمان ...ليس المطلوب إظهار تشيّع الشيعة، فهذا ظاهر إلى درجة الوجع... المطلوب أن يكون الشيعة مواطنين مندمجين في مجتمعهم ومقبولين في مجتمعهم بشكل كامل...لقد كان هذا الخط ديدن الأئمة وسياستهم ولم يكونوا في ذلك موالين للأنظمة ... تلك كانت رسالتهم السياسية وإدارتهم السياسية ... لأنه ليس المطلوب إحداث فتنة في المجتمع، بل من المحرّم إحداث فتنة في المجتمع"...
"المقاومة المدنية الشاملة هي أسلوب فعّال ولكنه طويل النفس.. ربما نحتاج فيه إلى سنين قبل أن نصل إلى نهاياته. وهو التعبير الخاص بنا عما يسمى في العلوم العسكرية والحربية والتاريخ المعاصر حرب التحرير الشعبية.. فهي مقاومة مدنية أي شعبية وأهلية، وهي سلمية ومسلحة، وكل أنواع المقاومة ضرورية هنا"..
"المقاومة هي مقاومة الشعب اللبناني، كل الشعب اللبناني، لا فئة واحدة منه، وكل المناطق اللبنانية، لا منطقة واحدة منها، وهي مقاومة الدولة والمجتمع والجيش والأهالي والأحزاب.. وكل ذلك تحت سقف، وفي ظل ، المشروع الوطني الذي هو الحصن والحضن والمرجع والمآل... إن المقاومة ليست غاية بحد ذاتها، وليست مشروعاً خاصاً بحد ذاته، ناهيك عن أن تكون حزباً أو فئة خاصة خارج مشروع الدولة والمجتمع في لبنان.. المقاومة أداة ضغط سياسية لها غاية تحرير لا غير، ووظيفتها أن تخدم هدف التحرير الذي يقوم به المجتمع بجميع مؤسّساته السياسيّة والأهليّة.. إنّ هذه الرؤية هي الرؤية الوطنيّة الحقيقيّة للمقاومة".
الأحد، 2 يناير 2011
عن الثورة الفلسطينية وحركة فتح
بقلم: سعودالمولى
في الفاتح من يناير/كانون الثاني من كل عام تتفتح أزاهير الشوق إلى فلسطين وإلى تراب أضرحة شهدائها المنثورين في شتات الغربة على إمتداد مساحات القهر والظلم في هذا العالم.. نتذكر ثورة البراق 1929 والثلاثاء الأسود وشهدائه: عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي.. نتذكر الشيخ عزالدين القسام وأبو إبراهيم الكبير وفرحان السعدي، نتذكر ثورة 1936 والحاج المفتي محمد أمين الحسيني.. نتذكر كتائب الإخوان المسلمين والظباط الأحرار في حرب 1948.. "...
نتذكر جورج حبش ووديع حداد وأبو ماهر اليماني وغسان كنفاني وأبو علي مصطفى وغيفارا غزةوباسل كبيسي، ونتذكر أبو عدنان عبد الكريم حمد والحاج سامي أبو الغوش وخالد نزال وعمر القاسم ونايف حواتمه.. نتذكر محسن إبراهيم ومحمد كشلي ومحمد الزيات ونبيل هوشر وسيمون وكل رفاق حركة القوميين العرب، نتذكر أنطون سعادة وإنعام رعد وعبد الله سعادة وفؤاد الشمالي وبشير عبيد وكمال خيربك، نتذكر فؤاد الشمالي وفرج الله الحلو ويوسف إبراهيم يزبك ونقولا الشاوي ومصطفى العريس وأرتين مادويان وجورج حاوي وحسين مروة وحسن حمدان وسمير قصير..نتذكر شيوعيي العراق وعصبة مكافحة الصهيونية: يوسف سلمان (فهد) وزكي محمد بسيم (حازم) ومحمد حسين الشبيبي (صارم) ويهودا إفرايم صديق (ماجد) ، ومعهم نتذكر كل أحزاب وهيئات ومبادرات المواجهة مع الإستعمار والإحتلال والتجزئة...
نتذكر مدرسة فلسطين الثانوية في غزة التي انطلقت منها انتفاضة 29 شباط 1955 المجيدة.. نتذكر رابطة فلسطين في القاهرة وإتحاد طلاب فلسطين في غزة، وهما مهد الإنطلاقة الفتحاوية المباركة.. نتذكر مجلة فلسطيننا في بيروت وهي كانت شرارة الفتح؛ ونتذكر الحركة اللبنانية المساندة وكبار رجالاتها ورجالات جماعة عباد الرحمن .. ثم تعود بنا الذكرى والذاكرة إلى جيل المؤسسين قادة الكفاح الثوري ومفجّري أعظم ثورة في التاريخ المعاصر: ياسرعرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وهايل عبد الحميد وصخر حبش وسعد صايل وأحمد موسى سلامة وعبد الفتاح عيسى محمود ووليد أحمد نمر (أبو علي أياد) وممدوح صبري صيدم وخالد اليشرطي وخالد الحسن وجواد أبو الشعر وسعد جرادات وعلي أبو طوق وماجد أبو شرار وجورج شفيق عسل ومروان كيالي ومحمد حسن ابحيص وباسم سلطان التميمي وعلي ياسين وسعيد حمامي وعصام السرطاوي ومحمود الهمشري ومحمد أبو دية وعز الدين قلق ونعيم خَضِر وأبو عمر حنا ميخائيل ووائل زعيتر وبلال الأوسط وعزمي الصغيّر... وكل رفاقهم من حركة فتح وقوات العاصفة..ونتذكر معهم كل شهداء الثورة رفاقنا الأحبة رضا حداد وأحمد القرى وجمال القرى وجمال الحسامي ومازن فروخ ودلال المغربي ونِعَم فارس وحمزة الحسيني وأحمد منيمنة وعلي فليطي ومنير قانصو ورياض شبارو ومحمد شبارو وطوني النمس ونقولا عبود ولولا عبود وحمّاد حيدر ونزيه دياب ومحمود قواص وعادل وطفى وشوقي الظنط ومصطفى طبش فحيلي وسعد أرزوني وحسان شرارة وقاسم بزي وفؤاد دباجة وبشار فاعور وأبو وجيه العنداري وزهير العنداري ووجدي العنداري ونذير أوبري والمرابط خالد الشرقاوي وماري روز بولس وكمال أبو سعيد ونسيم أبو سعيد ومحمود الحسنية وسمير الشيخ ومحمد الشحيمي وعصمت مراد وخليل عكاوي ومصطفى كردية وهلال رسلان وراسم الشقيف وجعفر السلحوت وصافي شعيتاني وبديع كزما ومازن مختار وحسين الحسيني ومحمد قبلان وغسان فتح الله وحسن بدر الدين وخالد بشارة وراغب حرب ونبيل مكارم..... إليهم جميعاً أسمى آيات الحب والوفاء... "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"...
حركة فتح: الميلاد والمسير
يقسم الشهيدان خليل الوزير(أبو جهاد) وكمال عدوان قصة ميلاد حركة فتح إلى 3 مراحل:
1= المرحلة الأولى 1948-1956 (أي من النكبة إلى العدوان الثلاثي.. ولكن أبو جهاد يجعلها 1955 وسنرى لاحقاً لماذا) وقد تميزت بادىء الأمر بشيوع الذهول والحيرة بين صفوف الجماهير في السنوات التي تلت النكبة واللجوء..حيث حرصت الأنظمة العربية على قمع أي نشاط سياسي في المخيمات وأماكن التجمعات الفلسطينية (في دول الطوق خصوصاً).. ثم بإنخراط الشباب الفلسطيني في العمل السياسي والحزبي والعقائدي (من خلال الإخوان المسلمين والحزب القومي السوري وحزب التحرير) أو في إنتظار التحرير على يد قادة الإنقلابات العسكرية (من حسني الزعيم 1949 إلى محمد نجيب وجمال عبد الناصر 1952)..وقد شهدت هذه المرحلة غياب القيادات التقليدية والتاريخية الفلسطينية وتفكك العلاقات الإجتماعية الحاضنة للحراك السياسي بفعل التشتت واللجوء في المنافي..يضاف إلى ذلك كمية المشاكل اليومية التي اعترضت اللاجئين في حياتهم البائسة في المخيمات ومظالم الإستخبارات العربية...الأمر الذي أوجد بين جيل الشباب حالات كثيرة من البحث عن أطر تملأ الفراغ وتوحِّد الطاقات وتحمي الناس..كما أن عدداً كبيراً من الشباب أُضطر للهجرة إلى الخليج هرباً من الملاحقة أو بحثاً عن لقمة العيش..وفي تجمعات الخليج كان الشعور بالمرارة هو السائد ليتولد منه شعور بضرورة القيام بعمل ما لإنقاذ هذا الشعب من حالة البؤس واليأس..وقد شهدت تلك المرحلة ولادة عشرات التجمعات والمجموعات الصغيرة من الشبان بدأت تدرس التجارب الثورية للشعوب (وخصوصاً تجارب الصين وكوبا والجزائر وفيتنام وقد كانت في أوج إنطلاقتها الثورية) بعد أن فقدت أملها بالثوار العرب الإنقلابيين (بسبب تكاثر وتعدد الإنقلابات السورية وتصفياتها الداخلية من جهة، كما بسبب الصدام الكبير بين محمد نجيب وعبد الناصر أولاً، ثم بين الظباط الأحرار والإخوان المسلمين بعد عام 1954 ثانياً)..وليس صدفة أن تولد في تلك الأجواء نواة حركة القوميين العرب على يد شبان فلسطينيين يدرسون في بيروت..أو أن تنشط مجموعات كثيرة داخل الجيوش العربية (وجيش التحرير الفلسطيني) حملت كلها إسم جبهة تحرير فلسطين أو جبهة التحرير الفلسطينية (أبرزها مجموعات الظباط عثمان حداد وعبد اللطيف شرورو وعلي بشناق وأحمد جبريل في سوريا، وأحمد زعرور وعبد الله العجرمي وعصام السرطاوي في مصر، وصالح سرية في العراق، إضافة إلى مجموعة شفيق الحوت ومحمد الشاعر في لبنان، وإلى القوميين العرب المستقلين أحمد السعدي وبهجت أبو غربية وصبحي غوشة في الأردن والضفة الغربية)...إلا أن التجربة الأهم هي تلك التي قامت بين اللاجئين في قطاع غزة والذين كانوا على تماس مع بقايا كتائب المتطوعين من الإخوان المسلمين والظباط الأحرار بعد نكبة 1948. ويبدو أن تجربة الإخوان في حرب فلسطين استهوت عدداً من الشبان في غزة (أبرزهم خليل الوزير وياسر عرفات ومحمود عباس وصلاح خلف ومحمد العايدي ومحمد الإفرنجي) إتصلوا بالظابط الإخواني المصري عبد المنعم عبد الرؤوف (أحد قادة الظباط الأحرار والثورة المصرية وصديق الرئيس السادات ومرشده في العلاقة مع البنا والإخوان)..وقد استمرت الصلة بالإخوان حتى اندلاع الصدام العنيف بينهم وبين النظام الناصري 1954 بعد إبعاد محمد نجيب وسجن وطرد ظباط الإخوان.. ذلك أن تنظيم الضباط الأحرار كان بحسب الإخوان تنظيماً إخوانياً أساساً ، وأنه ظل إخوانياً صِرفاً حوالي خمس سنوات منذ تأسيسه عام 1946 وحتى إستقلال عبد الناصر به عام 1950 .. ومع ذلك بقي وجود الضباط الإخوان حاضراً ومؤثراً ومتميزاً وقوياً في تنظيم "الضباط الأحرار"، و بقي فيه ضباط إخوان نشطاء مثل : كمال الدين حسين ، وحسين حمودة ، وصلاح خليفة وغيرهم، بالإضافة إلى التنظيم الإخواني الجديد للضباط ، المستقل عن الضباط الأحرار، والذي كان يرأسه أبو المكارم عبد الحي وعبد المنعم عبد الرؤوف..غير أن جمال عبد الناصر ومن معه من الضباط الاحرار رأوا أن حرب فلسطين ودور الإخوان البارز فيها ودعمهم للضباط الأحرار وتنسيقهم التام معهم ومشاركتهم السراء والضراء، ينبغي أن تعيد العلاقات إلى حيويتها، إلى حد أن عبد الناصر عندما اعتقل وحقق معه إبراهيم عبد الهادي في أيار/مايو 1949 دافع عن الإخوان وعن صلته بهم واعتز بذلك على اعتبار دورهم الوطني في فلسطين..وهذا ما يؤكده حسين حمودة في مذكراته حيث يقول إنه اشترك مع عبد الناصر في تدريب الإخوان على السلاح في أعوام 1946-1948. كما يقول حمودة بأن عدد الضباط الأحرار عام 1950 كان 99 معظمهم من الإخوان باستثناء خمسة من الشيوعيين. ويؤكد حسين حمودة أن جمال عبد الناصر قال له شخصياً في 24 تموز/ يوليو 1952 إنه متصل بالمرشد العام (الهضيبي) وإنه أخذ موافقته على القيام بالثورة وإن الإخوان يقومون بحراسة مرافق البلاد الحيوية والسفارات وإنّ لهم عناصر مسلحة تحرس طريق القاهرة- السويس وطريق القاهرة- الإسماعيلية إضافة إلى منطقة قناة السويس...وقد روى أبو جهاد كيف أنه كان يتدرب على السلاح منذ العام 1949 على يد ظباط مصريين من الإخوان في قطاع غزة وأنه قام معهم بعدة عمليات عسكرية ضد الإحتلال في أعوام 1950-1954..
وبين العامين 1953 و1957 كان هناك أكثر من 50 مجموعة صغيرة في مخيمات وتجمعات اللاجئين في غزة ، لم يكن بينها أي تنسيق أو حتى إتصال، وكلها تبحث عن التشكل في هيكلية تشبه جبهة التحرير الجزائرية أو جبهة التحرير الفيتنامية (وهما انطلقا عام 1954)..
ويقرر أبو جهاد أن نقطة التحول الرئيسية كانت في 29 شباط 1955 حين انطلقت المظاهرات من ثانوية فلسطين في غزة لتشييع 38 جندياً مصرياً من كتيبة فلسطين التي كان يقودها عبد المنعم عبد الرؤوف حين وقعت دوريتهم في كمين إسرائيلي..أما كمال عدوان فيرى أن نقطة التحول جاءت مع العدوان الثلاثي على مصر(أكتوبر 1956) والإحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة ثم الإنسحاب منه وعودته إلى الإدارة المصرية..
2=المرحلة الثانية 1956-1965 وهي بداية مسيرة حركة فتح في غزة ومصر والكويت وقطر والسعودية ومخيمات لبنان وسوريا والأردن..كان العدوان الثلاثي حافزاً على التفكير بضرورة التنظيم والقيادة الفلسطينية المستقلة عن الأنظمة العربية..وكان اتحاد طلبة فلسطين في غزة(إدارته كانت تضم 4 مدرسين و7 طلاب وكان بقيادة أبو جهاد) ورابطة فلسطين في مصر (بقيادة عرفات)، ومجلتهما المشتركة (فلسطين) الصادرة في القاهرة، المحضن لولادة حركة فتح، خصوصاً بعد انتقال أبو جهاد للدراسة في القاهرة واللقاء بياسرعرفات وسليم الزعنون ومحمودعباس وصلاح خلف وفاروق القدومي.. ومن القاهرة توزع الرفاق للعمل ما بين السعودية والكويت وقطر..كما كان هايل عبدالحميد وخالد وهاني الحسن ينشطون بين الطلاب في ألمانيا وأوروبا..فكانت ولادة فتح بين عامي 1957-1958 ،وهو نفس عام ولادة حزب الدعوة العراقي؛ فهل هي صدفة؟ أعتقد أن أحداث العام 1958 من قيام الوحدة المصرية-السورية وتصاعد الثورة الجزائرية ثم إنقلاب عبد الكريم قاسم في العراق والثورة في لبنان، هي التي تفسر مفصلية هذا التاريخ بالنسبة للحراك الوطني التحرري.. وفي شباط 1959 صدرت مجلة (فلسطيننا) في بيروت وقد رعاها وشارك فيها عدد من أبناء العائلات البيروتية المعروفة (حوري، بلعة، شاتيلا، فاخوري، آغا، سلام)..وقد هدفت حركة فتح بانطلاقتها التنظيمية إلى "تحريك الوجود الفلسطيني وبعث الشخصية الفلسطينية محلياً ودولياً من خلال المقاتل الفلسطيني الصلب العنيد القادر على تحطيم أسطورة المناعة الإسرائيلية" (كمال عدوان)..وهي كانت "ضد الحزبية بمفهوم التعصب الحزبي على حساب الولاء لفلسطين..نحن قبل كل شيء فلسطينيون، والولاء لفلسطين فوق كل الخلافات العربية وفوق كل الصراعات الحزبية..وشعارنا أن فلسطين هي طريق الوحدة العربية في حين كان الشعار السائد في ذلك الوقت أن الوحدة هي السبيل لتحرير فلسطين" (أبو جهاد)...ثم جاء إنفصال الوحدة بين مصر وسوريا (28 أيلول 1961) ثم انتصار الثورة الجزائرية (5 تموز 1962) ليصبا في صالح الموقف الفتحاوي "الفلسطيني" القائم على الإعتماد على الذات أولاً وعلى تجميع وحشد كل الطاقات في سبيل التحرير ثانياً..ومن هنا جاءت المادة 2 من مبادىء النظام الأساسي لحركة فتح تقول إن "الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الطبيعي والشرعي في فلسطين وهو ذو شخصية مستقلة ويملك وحده حق تقرير مصيره واستلام زمام قضيته دون وصاية أو تبعية أو توجيه ، وله السيادة المطلقة على جميع أراضيه"..وفي المادة 10 إن "حركة فتح حركة وطنية ثورية مستقلة وهي تمثل الطليعة الثورية للشعب الفلسطيني"..وفي المادتين 26 و27 : "عدم الزج بالقضية الفلسطينية في الخلافات العربية والدولية واعتبار القضية فوق أي خلاف".."حركة فتح لا تتدخل في الشؤون المحلية للدول العربية ولا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها.".. ولكن هذه الوطنية الفلسطينية لم تمنع منذ البدايات الأولى نشوء "مزاج" (تحوّل لاحقاً إلى تيار) كان يرى في الثورة الفلسطينية "رأس الحربة للثورة العربية الشاملة"..وهو كان يدعو فتح إلى "إستقطاب الجماهير الفلسطينية ومن خلفها كل الجماهير العربية في طريق الثورة المسلحة وحرب الشعب طويلة الأمد".. هذا التحليل الحماسي كان في أساس وجود التيار القومي- اليساري داخل فتح على مر الأزمنة والتقلبات التي عرفتها..
3= المرحلة الثالثة 1965-1971 وهي مرحلة إنطلاق الكفاح المسلح وحرب الشعب الفلسطينية. لم يكن قرار البدء بالعمل المسلح تحت إسم قوات العاصفة قراراً سهلاً في ظل ظروف عربية ودولية معادية..وباعتقادي أن ما عجل في اتخاذ القرار ليس مشروع تحويل نهر الأردن كما قيل ويقال ..لعل المشروع الإسرائيلي كان حافزاً لعقد القمة العربية وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية..أما من جانب فتح فإن العلاقة مع الصين وكوريا وفيتنام من جهة ومع الجزائر الحديثة الإستقلال من جهة ثانية، سمحت بإنشاء مكاتب والبدء بالتدريب والحشد والتسليح..وجاء التورط المصري في اليمن والصراع المصري-السعودي من جهة، ودخول سوريا حقبة حكم البعث وإنقلاباته ومزايداته من جهة أخرى، ليطرحا على فتح ضرورة المبادرة والتحرك لإطلاق المارد الفلسطيني من قمقمه..ولعل البعض داخل فتح كان يحمل شعار "التوريط" أي أن تؤدي عمليات فتح (على محدوديتها) إلى ردود فعل عسكرية إسرائيلية تجر الجيوش العربية إلى مواجهة شاملة مع إسرائيل ما يحقق آمال الفلسطينيين..ولكن لا يبدو أن كل حركة فتح (أو قياداتها الرئيسةعلى الأقل) كانت في جو هكذا عقل مؤامراتي (لعله كان موجوداً عند خالد الحسن القادم من حزب التحرير وشقيقه هاني القادم من حركة القوميين العرب..ولكنه بالتأكيد لم يكن موجوداً عند ياسرعرفات وخليل الوزير ومحمود عباس وصلاح خلف القادمين من تجربة إخوانية ثم عسكرية في غزة وطلابية في القاهرة، ومن علاقة بالمصريين ثم بالجزائريين والصينيين).. وقد قوبلت الحركة بحملات تشكيك واتهام من قبل الأنظمة العربية (سوريا بالأخص) ومن الأحزاب القائمة (الشيوعيون والقوميون العرب والبعثيون وقد رأوا في فتح منافساً وغريماً قد يكتسح قواعدهم الفلسطينية وهي أهم وأشرس قواعد حزبية عربية)..أما القوميين السوريين الذين انتهوا في سوريا منذ اغتيال عدنان المالكي، وكانوا يقبعون في السجون اللبنانية بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة على الرئيس شهاب؛ فقد كانت فتح نافذة أمل لتجديد شبابهم. هذا في حين لم يغفر "الإخوان المسلمون" لقادة فتح خروجهم عليهم في غزة، ولا مبادرتهم إلى حمل راية فلسطين التي كان من المفترض أن يحملها الإخوان..ولم يستطع الإخوان العودة إلى طريق فلسطين قبل أواخر العام 1987 وتشكيل حركة حماس بعد أن سبقهم تنظيم الجهاد الإسلامي (الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي) في إطلاق المقاومة الإسلامية منذ العام 1980 ..
منذ البداية ووجهت فتح بحملات مطاردة واعتقال واغتيال ما بين الأردن وسوريا، وحتى لبنان (الشهيد جلال كعوش).. كما شهدت الساحة الفلسطينية إغراقاً بالتنظيمات التي تصدر البلاغات العسكرية عن عمليات وهمية وذلك بقصد سرقة الوهج والمبادرة من فتح...وابتدأت حركة القوميين العرب تلملم كوادرها وقواعدها (ما بين فلسطين والأردن والمخيمات) الذين كانت أنهكتهم وشردتهم المطاردات، ولكن أيضاً المناظرات والإنشقاقات..لكن حركة فتح رفعت يومها شعار "اللقاء فوق أرض المعركة" ؛ لا بل أنها دخلت في عمليات إندماج مع جبهة التحرير الفلسطينية ومع حزب البعث السوري، لتخرج منها، بعد محاولات إنقلاب عليها وتصفية لقادتها، أكثر تصميماً على حفظ إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني والمبادرة الثورية الكفاحية..وانتهى الفصل الأول من هذه المرحلة بنكسة الخامس من حزيران 1967.. وقد كانت حركة فتح أسرع القوى في تجميع صفوفها لأنها لم تكن أسيرة الإرتباط بالأنظمة المهزومة في الحرب أو بالمعادلات الدولية والإقليمية القائمة..ولذا فقد كانت فتح الوحيدة التي لم تصبها النكسة بإرتباك أو بإنهيار (كما حدث للقوميين العرب والبعثيين والشيوعيين)..لا بل أن حركة فتح رأت في النكسة فرصة ممتازة للعمل الفلسطيني المستقل ، وقد "اختفت قدرة القمع العربية ونشأ واقع جديد وعادت القضية إلى صورتها الحقيقية: صراع فلسطيني-إسرائيلي" (فتح: دراسات ثورية- ص 85، والإقتباس هو من حديث للشهيد كمال عدوان)..كما أن كوادر فتح الموجودين في سوريا كانوا قد شاركوا في القتال في الجولان، بقيادة عرفات والوزير، وانضم إليهم عشرات ومئات قدموا من دول الخليج بقيادة صلاح خلف ومحمود عباس..وفي دمشق عقدت قيادة فتح إجتماعها التاريخي في 12 و13 حزيران والذي طرح فيه أبو عمار وأبو جهاد "الإنتقال إلى الأرض المحتلة وإعادة تاسيس الكفاح المسلح".وقد طرح كوادر وقادة فتح في الأردن نفس الموقف (بقيادة أبو ماهرعبد الفتاح غنيم).. وهكذا سارع أبو عمار إلى الإنتقال إلى الضفة الغربية (منطقة القدس ثم الخليل) ليعيد تنظيم الشباب وربطهم بالقيادة وتأمين لوجستيات العمل المسلح..وبعد عودته إنعقد مؤتمر فتح التاريخي في منزل خليل الوزير في دمشق أوائل تموز وكانت مصر قد قررت إعادة بدء القتال على إمتداد قناة السويس..فرأى قادة فتح أن الفرصة سانحة للدعوة لبقاء الناس في أرضهم وللإعداد للمقاومة الفلسطينية المسلحة..وبعد زيارات متكررة قام بها عرفات إلى داخل الأرض المحتلة وإلى الأردن وسوريا ولبنان قررت القيادة "رفع وتيرة التدريب والتسليح وإرسال موجات الثقة والأمل إلى الداخل والبدء بإنشاء قواعد إرتكاز أمنية في الأرض المحتلة والإنتقال لاحقاً إلى حرب تحرير شعبية" (خليل الوزير)..ومطلع آب عاد عرفات إلى الضفة على رأس 30 مقاتلاً وأنشأ مركز قيادته في نابلس لُيعلن الإنطلاقة الثانية للكفاح الفلسطيني المسلح في28 آب 1967..
وهنا دخلت الثورة مرحلة بناء القواعد تحت الإحتلال لإعلان المقاومة المسلحة وتأجيج المقاومة المدنية الشعبية التي شهدت تصاعداً كبيراً خلال عامي 1967 و1968..وبعد أن أرسيت الدعائم الأولى لهذا الإتجاه كان من الضروري للثورة أن تعمل باتجاه مواز خارج الأرض المحتلة "لتنتقل من قاعدة الحماية في سوريا إلى قاعدة الإرتكاز في الضفة الشرقية-الأردن حيث المناعة الطبيعية والجماهير المؤيدة لنا وقوانا المسلحة الكافية للدفاع والمواجهة" (كمال عدوان). وباعتقادي أن ما عجّل في إتخاذ قرار الانتقال من الإعتماد على سوريا وبناء قوة قي الأردن هو التطورات الدراماتيكية في الصراع على السلطة في سوريا بعد حرب حزيران وخصوصاً بعد ضرب جناح الجنرال سويداني القريب من فتح..وهكذا وجدت فتح نفسها في الأردن أسيرة وضع معقّد مركّب لا تملك السيطرة عليه بعكس ما توقعت أو أملت.. وجاءت معركة الكرامة الخالدة (21 آذار 1968) لتجعل من فتح مارداً جماهيرياً ولتتدفق عليها أمواجالمتطوعين من كل مكان..وانتعشت بقية التنظيمات أيضاً وبعضها أطلق كفاحه المسلح الخاص..وقد نجحت فتح ، وبدعم مصري-سوري في السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية (1969) ولتنتقل غلى مستوى أعلى من التحشيد والمواجهة على إمتداد الحدود الأردنية مع فلسطين..وقد واجهت فتح أول هجوم "أردني" على قواعد الإرتكاز في مخيم الكرامة في 10 شباط 1968، ثم في 4 تشرين الثاني في عمان..ثم تكررت الصدامات طوال عامي 1969-1970 وصولاً إلى صدام حزيران/يونيو 1970 الذي مهّد لحرب أيلول السبعين..حدث ذلك بفعل إنشقاق الساحة العربية والأردنية-الفلسطينية من حول عبد الناصر (وليس الملك حسين) بفعل مشروع روجرز الذي وافق عليه عبد الناصر تكتيكياً من أجل إعادة بناء قواته التي دمرها عدوان حزيران 67..انقلبت موازين القوى التي راهنت فتح عليها (وبعضها كان يرتبط بالظباط الأحرار والناصريين داخل الجيش الأردني، وبعضها الآخر بالدعم السوري والعراقي) واختلت حالة التوازن التي حكمت العلاقة بين الثورة الفلسطينية والنظام الأردني..فكان لا بد من مراجعة الحسابات ووضع خطة بديلة وتحديد أهداف مباشرة..وكل ذلك كان يحتاج إلى وقت وإلى وحدة موقف لعادة ترتيب الأمور..لكن النظام الأرجني اندفع في تفجير الحرب مدعوماً بموقف غلاة اليسار الذين رفعوا شعارات إسقاط النظام وانتقال "كل السلطة لسوفياتات العمال والفلاحين والجنود الثوريين" (شعار للجبهة الديمقراطية) وتحويل عمان إلى هانوي العرب (مطار الجبهة الشعبية)..وفاة الرئيس عبد الناصر (28 أيلول 1970)، وانقلاب الرئيس حافظ الاسد (بدأ في أيلول وانتهى يوم 16 تشرين الثاني 1970)، وانسحاب القوات العراقية المفاجىء، والموقف السوفياتي المتفرج والشامت، كل ذلك "حال دون إستثمار أي عامل زمني وجعل المبارزة تتم ضمن ظروف ومعادلة قوى ما بعد مشروع روجرز" (كمال عدوان)..وباعتقادي أن السوفيات وسوريا والعراق لم يريدوا تغيير المعادلة في الأردن المحسوب كموقع أميركي-بريطاني أساسي؛ في حين أن موقفهم تغّير في لبنان الساحة المفتوحة!!
وهكذا خرجت فتح والثورة مهزومة من الأردن بعد معارك جرش وعجلون (تموز 1971) ..
خاتمة: بيروت يا بيروت
لم يكتب أبو جهاد وكمال عدوان عن المراحل التالية لأنهما كانا يتحدثان عن مراحل الولادة وليس التأريخ لمسيرة فتح والثورة الفلسطينية..ولكن ما يمكن إضافته هنا أن مراجعة تجربة الأردن أسست لتيارات عديدة داخل فتح..ففي بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة، وفي كل عواصم الشتات والترحال، انشغل الفلسطينيون بالنقاشات الحارة وبالبحث عن مخارج من الأزمة التي عصفت بهم بعد الرحيل من الأردن..وكان لبيروت أن تتحول في تلك السنوات (1971-1975) ليس فقط إلى مركز ثقل حركة فتح من جهة، وإنما أيضاً وخصوصاً إلى عاصمة للحرية وللثقافة وللإبداع الثوري وإلى ملجأ لكل الأحرار والثوار العرب من جهة أخرى..تجربة بيروت هذه (التي خلّدها شاعر فلسطين والعرب محمود درويش) أنتجت أعظم مشاركة ثورية كفاحية وأعظم تلاحم إنساني بين شعبين وقضيتين..كما أنتجت أعمق الأفكار والمبادرات والممارسات التي أضاءت ظلام الوضع العربي..ويكفي أن فتح كانت هي الحضن والملجأ، وهي الأم والأب، وهي البداية والنهاية، في كل تلك التجربة التاريخية الرائعة..
في الفاتح من يناير/كانون الثاني من كل عام تتفتح أزاهير الشوق إلى فلسطين وإلى تراب أضرحة شهدائها المنثورين في شتات الغربة على إمتداد مساحات القهر والظلم في هذا العالم.. نتذكر ثورة البراق 1929 والثلاثاء الأسود وشهدائه: عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي.. نتذكر الشيخ عزالدين القسام وأبو إبراهيم الكبير وفرحان السعدي، نتذكر ثورة 1936 والحاج المفتي محمد أمين الحسيني.. نتذكر كتائب الإخوان المسلمين والظباط الأحرار في حرب 1948.. "...
نتذكر جورج حبش ووديع حداد وأبو ماهر اليماني وغسان كنفاني وأبو علي مصطفى وغيفارا غزةوباسل كبيسي، ونتذكر أبو عدنان عبد الكريم حمد والحاج سامي أبو الغوش وخالد نزال وعمر القاسم ونايف حواتمه.. نتذكر محسن إبراهيم ومحمد كشلي ومحمد الزيات ونبيل هوشر وسيمون وكل رفاق حركة القوميين العرب، نتذكر أنطون سعادة وإنعام رعد وعبد الله سعادة وفؤاد الشمالي وبشير عبيد وكمال خيربك، نتذكر فؤاد الشمالي وفرج الله الحلو ويوسف إبراهيم يزبك ونقولا الشاوي ومصطفى العريس وأرتين مادويان وجورج حاوي وحسين مروة وحسن حمدان وسمير قصير..نتذكر شيوعيي العراق وعصبة مكافحة الصهيونية: يوسف سلمان (فهد) وزكي محمد بسيم (حازم) ومحمد حسين الشبيبي (صارم) ويهودا إفرايم صديق (ماجد) ، ومعهم نتذكر كل أحزاب وهيئات ومبادرات المواجهة مع الإستعمار والإحتلال والتجزئة...
نتذكر مدرسة فلسطين الثانوية في غزة التي انطلقت منها انتفاضة 29 شباط 1955 المجيدة.. نتذكر رابطة فلسطين في القاهرة وإتحاد طلاب فلسطين في غزة، وهما مهد الإنطلاقة الفتحاوية المباركة.. نتذكر مجلة فلسطيننا في بيروت وهي كانت شرارة الفتح؛ ونتذكر الحركة اللبنانية المساندة وكبار رجالاتها ورجالات جماعة عباد الرحمن .. ثم تعود بنا الذكرى والذاكرة إلى جيل المؤسسين قادة الكفاح الثوري ومفجّري أعظم ثورة في التاريخ المعاصر: ياسرعرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وهايل عبد الحميد وصخر حبش وسعد صايل وأحمد موسى سلامة وعبد الفتاح عيسى محمود ووليد أحمد نمر (أبو علي أياد) وممدوح صبري صيدم وخالد اليشرطي وخالد الحسن وجواد أبو الشعر وسعد جرادات وعلي أبو طوق وماجد أبو شرار وجورج شفيق عسل ومروان كيالي ومحمد حسن ابحيص وباسم سلطان التميمي وعلي ياسين وسعيد حمامي وعصام السرطاوي ومحمود الهمشري ومحمد أبو دية وعز الدين قلق ونعيم خَضِر وأبو عمر حنا ميخائيل ووائل زعيتر وبلال الأوسط وعزمي الصغيّر... وكل رفاقهم من حركة فتح وقوات العاصفة..ونتذكر معهم كل شهداء الثورة رفاقنا الأحبة رضا حداد وأحمد القرى وجمال القرى وجمال الحسامي ومازن فروخ ودلال المغربي ونِعَم فارس وحمزة الحسيني وأحمد منيمنة وعلي فليطي ومنير قانصو ورياض شبارو ومحمد شبارو وطوني النمس ونقولا عبود ولولا عبود وحمّاد حيدر ونزيه دياب ومحمود قواص وعادل وطفى وشوقي الظنط ومصطفى طبش فحيلي وسعد أرزوني وحسان شرارة وقاسم بزي وفؤاد دباجة وبشار فاعور وأبو وجيه العنداري وزهير العنداري ووجدي العنداري ونذير أوبري والمرابط خالد الشرقاوي وماري روز بولس وكمال أبو سعيد ونسيم أبو سعيد ومحمود الحسنية وسمير الشيخ ومحمد الشحيمي وعصمت مراد وخليل عكاوي ومصطفى كردية وهلال رسلان وراسم الشقيف وجعفر السلحوت وصافي شعيتاني وبديع كزما ومازن مختار وحسين الحسيني ومحمد قبلان وغسان فتح الله وحسن بدر الدين وخالد بشارة وراغب حرب ونبيل مكارم..... إليهم جميعاً أسمى آيات الحب والوفاء... "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"...
حركة فتح: الميلاد والمسير
يقسم الشهيدان خليل الوزير(أبو جهاد) وكمال عدوان قصة ميلاد حركة فتح إلى 3 مراحل:
1= المرحلة الأولى 1948-1956 (أي من النكبة إلى العدوان الثلاثي.. ولكن أبو جهاد يجعلها 1955 وسنرى لاحقاً لماذا) وقد تميزت بادىء الأمر بشيوع الذهول والحيرة بين صفوف الجماهير في السنوات التي تلت النكبة واللجوء..حيث حرصت الأنظمة العربية على قمع أي نشاط سياسي في المخيمات وأماكن التجمعات الفلسطينية (في دول الطوق خصوصاً).. ثم بإنخراط الشباب الفلسطيني في العمل السياسي والحزبي والعقائدي (من خلال الإخوان المسلمين والحزب القومي السوري وحزب التحرير) أو في إنتظار التحرير على يد قادة الإنقلابات العسكرية (من حسني الزعيم 1949 إلى محمد نجيب وجمال عبد الناصر 1952)..وقد شهدت هذه المرحلة غياب القيادات التقليدية والتاريخية الفلسطينية وتفكك العلاقات الإجتماعية الحاضنة للحراك السياسي بفعل التشتت واللجوء في المنافي..يضاف إلى ذلك كمية المشاكل اليومية التي اعترضت اللاجئين في حياتهم البائسة في المخيمات ومظالم الإستخبارات العربية...الأمر الذي أوجد بين جيل الشباب حالات كثيرة من البحث عن أطر تملأ الفراغ وتوحِّد الطاقات وتحمي الناس..كما أن عدداً كبيراً من الشباب أُضطر للهجرة إلى الخليج هرباً من الملاحقة أو بحثاً عن لقمة العيش..وفي تجمعات الخليج كان الشعور بالمرارة هو السائد ليتولد منه شعور بضرورة القيام بعمل ما لإنقاذ هذا الشعب من حالة البؤس واليأس..وقد شهدت تلك المرحلة ولادة عشرات التجمعات والمجموعات الصغيرة من الشبان بدأت تدرس التجارب الثورية للشعوب (وخصوصاً تجارب الصين وكوبا والجزائر وفيتنام وقد كانت في أوج إنطلاقتها الثورية) بعد أن فقدت أملها بالثوار العرب الإنقلابيين (بسبب تكاثر وتعدد الإنقلابات السورية وتصفياتها الداخلية من جهة، كما بسبب الصدام الكبير بين محمد نجيب وعبد الناصر أولاً، ثم بين الظباط الأحرار والإخوان المسلمين بعد عام 1954 ثانياً)..وليس صدفة أن تولد في تلك الأجواء نواة حركة القوميين العرب على يد شبان فلسطينيين يدرسون في بيروت..أو أن تنشط مجموعات كثيرة داخل الجيوش العربية (وجيش التحرير الفلسطيني) حملت كلها إسم جبهة تحرير فلسطين أو جبهة التحرير الفلسطينية (أبرزها مجموعات الظباط عثمان حداد وعبد اللطيف شرورو وعلي بشناق وأحمد جبريل في سوريا، وأحمد زعرور وعبد الله العجرمي وعصام السرطاوي في مصر، وصالح سرية في العراق، إضافة إلى مجموعة شفيق الحوت ومحمد الشاعر في لبنان، وإلى القوميين العرب المستقلين أحمد السعدي وبهجت أبو غربية وصبحي غوشة في الأردن والضفة الغربية)...إلا أن التجربة الأهم هي تلك التي قامت بين اللاجئين في قطاع غزة والذين كانوا على تماس مع بقايا كتائب المتطوعين من الإخوان المسلمين والظباط الأحرار بعد نكبة 1948. ويبدو أن تجربة الإخوان في حرب فلسطين استهوت عدداً من الشبان في غزة (أبرزهم خليل الوزير وياسر عرفات ومحمود عباس وصلاح خلف ومحمد العايدي ومحمد الإفرنجي) إتصلوا بالظابط الإخواني المصري عبد المنعم عبد الرؤوف (أحد قادة الظباط الأحرار والثورة المصرية وصديق الرئيس السادات ومرشده في العلاقة مع البنا والإخوان)..وقد استمرت الصلة بالإخوان حتى اندلاع الصدام العنيف بينهم وبين النظام الناصري 1954 بعد إبعاد محمد نجيب وسجن وطرد ظباط الإخوان.. ذلك أن تنظيم الضباط الأحرار كان بحسب الإخوان تنظيماً إخوانياً أساساً ، وأنه ظل إخوانياً صِرفاً حوالي خمس سنوات منذ تأسيسه عام 1946 وحتى إستقلال عبد الناصر به عام 1950 .. ومع ذلك بقي وجود الضباط الإخوان حاضراً ومؤثراً ومتميزاً وقوياً في تنظيم "الضباط الأحرار"، و بقي فيه ضباط إخوان نشطاء مثل : كمال الدين حسين ، وحسين حمودة ، وصلاح خليفة وغيرهم، بالإضافة إلى التنظيم الإخواني الجديد للضباط ، المستقل عن الضباط الأحرار، والذي كان يرأسه أبو المكارم عبد الحي وعبد المنعم عبد الرؤوف..غير أن جمال عبد الناصر ومن معه من الضباط الاحرار رأوا أن حرب فلسطين ودور الإخوان البارز فيها ودعمهم للضباط الأحرار وتنسيقهم التام معهم ومشاركتهم السراء والضراء، ينبغي أن تعيد العلاقات إلى حيويتها، إلى حد أن عبد الناصر عندما اعتقل وحقق معه إبراهيم عبد الهادي في أيار/مايو 1949 دافع عن الإخوان وعن صلته بهم واعتز بذلك على اعتبار دورهم الوطني في فلسطين..وهذا ما يؤكده حسين حمودة في مذكراته حيث يقول إنه اشترك مع عبد الناصر في تدريب الإخوان على السلاح في أعوام 1946-1948. كما يقول حمودة بأن عدد الضباط الأحرار عام 1950 كان 99 معظمهم من الإخوان باستثناء خمسة من الشيوعيين. ويؤكد حسين حمودة أن جمال عبد الناصر قال له شخصياً في 24 تموز/ يوليو 1952 إنه متصل بالمرشد العام (الهضيبي) وإنه أخذ موافقته على القيام بالثورة وإن الإخوان يقومون بحراسة مرافق البلاد الحيوية والسفارات وإنّ لهم عناصر مسلحة تحرس طريق القاهرة- السويس وطريق القاهرة- الإسماعيلية إضافة إلى منطقة قناة السويس...وقد روى أبو جهاد كيف أنه كان يتدرب على السلاح منذ العام 1949 على يد ظباط مصريين من الإخوان في قطاع غزة وأنه قام معهم بعدة عمليات عسكرية ضد الإحتلال في أعوام 1950-1954..
وبين العامين 1953 و1957 كان هناك أكثر من 50 مجموعة صغيرة في مخيمات وتجمعات اللاجئين في غزة ، لم يكن بينها أي تنسيق أو حتى إتصال، وكلها تبحث عن التشكل في هيكلية تشبه جبهة التحرير الجزائرية أو جبهة التحرير الفيتنامية (وهما انطلقا عام 1954)..
ويقرر أبو جهاد أن نقطة التحول الرئيسية كانت في 29 شباط 1955 حين انطلقت المظاهرات من ثانوية فلسطين في غزة لتشييع 38 جندياً مصرياً من كتيبة فلسطين التي كان يقودها عبد المنعم عبد الرؤوف حين وقعت دوريتهم في كمين إسرائيلي..أما كمال عدوان فيرى أن نقطة التحول جاءت مع العدوان الثلاثي على مصر(أكتوبر 1956) والإحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة ثم الإنسحاب منه وعودته إلى الإدارة المصرية..
2=المرحلة الثانية 1956-1965 وهي بداية مسيرة حركة فتح في غزة ومصر والكويت وقطر والسعودية ومخيمات لبنان وسوريا والأردن..كان العدوان الثلاثي حافزاً على التفكير بضرورة التنظيم والقيادة الفلسطينية المستقلة عن الأنظمة العربية..وكان اتحاد طلبة فلسطين في غزة(إدارته كانت تضم 4 مدرسين و7 طلاب وكان بقيادة أبو جهاد) ورابطة فلسطين في مصر (بقيادة عرفات)، ومجلتهما المشتركة (فلسطين) الصادرة في القاهرة، المحضن لولادة حركة فتح، خصوصاً بعد انتقال أبو جهاد للدراسة في القاهرة واللقاء بياسرعرفات وسليم الزعنون ومحمودعباس وصلاح خلف وفاروق القدومي.. ومن القاهرة توزع الرفاق للعمل ما بين السعودية والكويت وقطر..كما كان هايل عبدالحميد وخالد وهاني الحسن ينشطون بين الطلاب في ألمانيا وأوروبا..فكانت ولادة فتح بين عامي 1957-1958 ،وهو نفس عام ولادة حزب الدعوة العراقي؛ فهل هي صدفة؟ أعتقد أن أحداث العام 1958 من قيام الوحدة المصرية-السورية وتصاعد الثورة الجزائرية ثم إنقلاب عبد الكريم قاسم في العراق والثورة في لبنان، هي التي تفسر مفصلية هذا التاريخ بالنسبة للحراك الوطني التحرري.. وفي شباط 1959 صدرت مجلة (فلسطيننا) في بيروت وقد رعاها وشارك فيها عدد من أبناء العائلات البيروتية المعروفة (حوري، بلعة، شاتيلا، فاخوري، آغا، سلام)..وقد هدفت حركة فتح بانطلاقتها التنظيمية إلى "تحريك الوجود الفلسطيني وبعث الشخصية الفلسطينية محلياً ودولياً من خلال المقاتل الفلسطيني الصلب العنيد القادر على تحطيم أسطورة المناعة الإسرائيلية" (كمال عدوان)..وهي كانت "ضد الحزبية بمفهوم التعصب الحزبي على حساب الولاء لفلسطين..نحن قبل كل شيء فلسطينيون، والولاء لفلسطين فوق كل الخلافات العربية وفوق كل الصراعات الحزبية..وشعارنا أن فلسطين هي طريق الوحدة العربية في حين كان الشعار السائد في ذلك الوقت أن الوحدة هي السبيل لتحرير فلسطين" (أبو جهاد)...ثم جاء إنفصال الوحدة بين مصر وسوريا (28 أيلول 1961) ثم انتصار الثورة الجزائرية (5 تموز 1962) ليصبا في صالح الموقف الفتحاوي "الفلسطيني" القائم على الإعتماد على الذات أولاً وعلى تجميع وحشد كل الطاقات في سبيل التحرير ثانياً..ومن هنا جاءت المادة 2 من مبادىء النظام الأساسي لحركة فتح تقول إن "الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الطبيعي والشرعي في فلسطين وهو ذو شخصية مستقلة ويملك وحده حق تقرير مصيره واستلام زمام قضيته دون وصاية أو تبعية أو توجيه ، وله السيادة المطلقة على جميع أراضيه"..وفي المادة 10 إن "حركة فتح حركة وطنية ثورية مستقلة وهي تمثل الطليعة الثورية للشعب الفلسطيني"..وفي المادتين 26 و27 : "عدم الزج بالقضية الفلسطينية في الخلافات العربية والدولية واعتبار القضية فوق أي خلاف".."حركة فتح لا تتدخل في الشؤون المحلية للدول العربية ولا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها.".. ولكن هذه الوطنية الفلسطينية لم تمنع منذ البدايات الأولى نشوء "مزاج" (تحوّل لاحقاً إلى تيار) كان يرى في الثورة الفلسطينية "رأس الحربة للثورة العربية الشاملة"..وهو كان يدعو فتح إلى "إستقطاب الجماهير الفلسطينية ومن خلفها كل الجماهير العربية في طريق الثورة المسلحة وحرب الشعب طويلة الأمد".. هذا التحليل الحماسي كان في أساس وجود التيار القومي- اليساري داخل فتح على مر الأزمنة والتقلبات التي عرفتها..
3= المرحلة الثالثة 1965-1971 وهي مرحلة إنطلاق الكفاح المسلح وحرب الشعب الفلسطينية. لم يكن قرار البدء بالعمل المسلح تحت إسم قوات العاصفة قراراً سهلاً في ظل ظروف عربية ودولية معادية..وباعتقادي أن ما عجل في اتخاذ القرار ليس مشروع تحويل نهر الأردن كما قيل ويقال ..لعل المشروع الإسرائيلي كان حافزاً لعقد القمة العربية وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية..أما من جانب فتح فإن العلاقة مع الصين وكوريا وفيتنام من جهة ومع الجزائر الحديثة الإستقلال من جهة ثانية، سمحت بإنشاء مكاتب والبدء بالتدريب والحشد والتسليح..وجاء التورط المصري في اليمن والصراع المصري-السعودي من جهة، ودخول سوريا حقبة حكم البعث وإنقلاباته ومزايداته من جهة أخرى، ليطرحا على فتح ضرورة المبادرة والتحرك لإطلاق المارد الفلسطيني من قمقمه..ولعل البعض داخل فتح كان يحمل شعار "التوريط" أي أن تؤدي عمليات فتح (على محدوديتها) إلى ردود فعل عسكرية إسرائيلية تجر الجيوش العربية إلى مواجهة شاملة مع إسرائيل ما يحقق آمال الفلسطينيين..ولكن لا يبدو أن كل حركة فتح (أو قياداتها الرئيسةعلى الأقل) كانت في جو هكذا عقل مؤامراتي (لعله كان موجوداً عند خالد الحسن القادم من حزب التحرير وشقيقه هاني القادم من حركة القوميين العرب..ولكنه بالتأكيد لم يكن موجوداً عند ياسرعرفات وخليل الوزير ومحمود عباس وصلاح خلف القادمين من تجربة إخوانية ثم عسكرية في غزة وطلابية في القاهرة، ومن علاقة بالمصريين ثم بالجزائريين والصينيين).. وقد قوبلت الحركة بحملات تشكيك واتهام من قبل الأنظمة العربية (سوريا بالأخص) ومن الأحزاب القائمة (الشيوعيون والقوميون العرب والبعثيون وقد رأوا في فتح منافساً وغريماً قد يكتسح قواعدهم الفلسطينية وهي أهم وأشرس قواعد حزبية عربية)..أما القوميين السوريين الذين انتهوا في سوريا منذ اغتيال عدنان المالكي، وكانوا يقبعون في السجون اللبنانية بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة على الرئيس شهاب؛ فقد كانت فتح نافذة أمل لتجديد شبابهم. هذا في حين لم يغفر "الإخوان المسلمون" لقادة فتح خروجهم عليهم في غزة، ولا مبادرتهم إلى حمل راية فلسطين التي كان من المفترض أن يحملها الإخوان..ولم يستطع الإخوان العودة إلى طريق فلسطين قبل أواخر العام 1987 وتشكيل حركة حماس بعد أن سبقهم تنظيم الجهاد الإسلامي (الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي) في إطلاق المقاومة الإسلامية منذ العام 1980 ..
منذ البداية ووجهت فتح بحملات مطاردة واعتقال واغتيال ما بين الأردن وسوريا، وحتى لبنان (الشهيد جلال كعوش).. كما شهدت الساحة الفلسطينية إغراقاً بالتنظيمات التي تصدر البلاغات العسكرية عن عمليات وهمية وذلك بقصد سرقة الوهج والمبادرة من فتح...وابتدأت حركة القوميين العرب تلملم كوادرها وقواعدها (ما بين فلسطين والأردن والمخيمات) الذين كانت أنهكتهم وشردتهم المطاردات، ولكن أيضاً المناظرات والإنشقاقات..لكن حركة فتح رفعت يومها شعار "اللقاء فوق أرض المعركة" ؛ لا بل أنها دخلت في عمليات إندماج مع جبهة التحرير الفلسطينية ومع حزب البعث السوري، لتخرج منها، بعد محاولات إنقلاب عليها وتصفية لقادتها، أكثر تصميماً على حفظ إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني والمبادرة الثورية الكفاحية..وانتهى الفصل الأول من هذه المرحلة بنكسة الخامس من حزيران 1967.. وقد كانت حركة فتح أسرع القوى في تجميع صفوفها لأنها لم تكن أسيرة الإرتباط بالأنظمة المهزومة في الحرب أو بالمعادلات الدولية والإقليمية القائمة..ولذا فقد كانت فتح الوحيدة التي لم تصبها النكسة بإرتباك أو بإنهيار (كما حدث للقوميين العرب والبعثيين والشيوعيين)..لا بل أن حركة فتح رأت في النكسة فرصة ممتازة للعمل الفلسطيني المستقل ، وقد "اختفت قدرة القمع العربية ونشأ واقع جديد وعادت القضية إلى صورتها الحقيقية: صراع فلسطيني-إسرائيلي" (فتح: دراسات ثورية- ص 85، والإقتباس هو من حديث للشهيد كمال عدوان)..كما أن كوادر فتح الموجودين في سوريا كانوا قد شاركوا في القتال في الجولان، بقيادة عرفات والوزير، وانضم إليهم عشرات ومئات قدموا من دول الخليج بقيادة صلاح خلف ومحمود عباس..وفي دمشق عقدت قيادة فتح إجتماعها التاريخي في 12 و13 حزيران والذي طرح فيه أبو عمار وأبو جهاد "الإنتقال إلى الأرض المحتلة وإعادة تاسيس الكفاح المسلح".وقد طرح كوادر وقادة فتح في الأردن نفس الموقف (بقيادة أبو ماهرعبد الفتاح غنيم).. وهكذا سارع أبو عمار إلى الإنتقال إلى الضفة الغربية (منطقة القدس ثم الخليل) ليعيد تنظيم الشباب وربطهم بالقيادة وتأمين لوجستيات العمل المسلح..وبعد عودته إنعقد مؤتمر فتح التاريخي في منزل خليل الوزير في دمشق أوائل تموز وكانت مصر قد قررت إعادة بدء القتال على إمتداد قناة السويس..فرأى قادة فتح أن الفرصة سانحة للدعوة لبقاء الناس في أرضهم وللإعداد للمقاومة الفلسطينية المسلحة..وبعد زيارات متكررة قام بها عرفات إلى داخل الأرض المحتلة وإلى الأردن وسوريا ولبنان قررت القيادة "رفع وتيرة التدريب والتسليح وإرسال موجات الثقة والأمل إلى الداخل والبدء بإنشاء قواعد إرتكاز أمنية في الأرض المحتلة والإنتقال لاحقاً إلى حرب تحرير شعبية" (خليل الوزير)..ومطلع آب عاد عرفات إلى الضفة على رأس 30 مقاتلاً وأنشأ مركز قيادته في نابلس لُيعلن الإنطلاقة الثانية للكفاح الفلسطيني المسلح في28 آب 1967..
وهنا دخلت الثورة مرحلة بناء القواعد تحت الإحتلال لإعلان المقاومة المسلحة وتأجيج المقاومة المدنية الشعبية التي شهدت تصاعداً كبيراً خلال عامي 1967 و1968..وبعد أن أرسيت الدعائم الأولى لهذا الإتجاه كان من الضروري للثورة أن تعمل باتجاه مواز خارج الأرض المحتلة "لتنتقل من قاعدة الحماية في سوريا إلى قاعدة الإرتكاز في الضفة الشرقية-الأردن حيث المناعة الطبيعية والجماهير المؤيدة لنا وقوانا المسلحة الكافية للدفاع والمواجهة" (كمال عدوان). وباعتقادي أن ما عجّل في إتخاذ قرار الانتقال من الإعتماد على سوريا وبناء قوة قي الأردن هو التطورات الدراماتيكية في الصراع على السلطة في سوريا بعد حرب حزيران وخصوصاً بعد ضرب جناح الجنرال سويداني القريب من فتح..وهكذا وجدت فتح نفسها في الأردن أسيرة وضع معقّد مركّب لا تملك السيطرة عليه بعكس ما توقعت أو أملت.. وجاءت معركة الكرامة الخالدة (21 آذار 1968) لتجعل من فتح مارداً جماهيرياً ولتتدفق عليها أمواجالمتطوعين من كل مكان..وانتعشت بقية التنظيمات أيضاً وبعضها أطلق كفاحه المسلح الخاص..وقد نجحت فتح ، وبدعم مصري-سوري في السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية (1969) ولتنتقل غلى مستوى أعلى من التحشيد والمواجهة على إمتداد الحدود الأردنية مع فلسطين..وقد واجهت فتح أول هجوم "أردني" على قواعد الإرتكاز في مخيم الكرامة في 10 شباط 1968، ثم في 4 تشرين الثاني في عمان..ثم تكررت الصدامات طوال عامي 1969-1970 وصولاً إلى صدام حزيران/يونيو 1970 الذي مهّد لحرب أيلول السبعين..حدث ذلك بفعل إنشقاق الساحة العربية والأردنية-الفلسطينية من حول عبد الناصر (وليس الملك حسين) بفعل مشروع روجرز الذي وافق عليه عبد الناصر تكتيكياً من أجل إعادة بناء قواته التي دمرها عدوان حزيران 67..انقلبت موازين القوى التي راهنت فتح عليها (وبعضها كان يرتبط بالظباط الأحرار والناصريين داخل الجيش الأردني، وبعضها الآخر بالدعم السوري والعراقي) واختلت حالة التوازن التي حكمت العلاقة بين الثورة الفلسطينية والنظام الأردني..فكان لا بد من مراجعة الحسابات ووضع خطة بديلة وتحديد أهداف مباشرة..وكل ذلك كان يحتاج إلى وقت وإلى وحدة موقف لعادة ترتيب الأمور..لكن النظام الأرجني اندفع في تفجير الحرب مدعوماً بموقف غلاة اليسار الذين رفعوا شعارات إسقاط النظام وانتقال "كل السلطة لسوفياتات العمال والفلاحين والجنود الثوريين" (شعار للجبهة الديمقراطية) وتحويل عمان إلى هانوي العرب (مطار الجبهة الشعبية)..وفاة الرئيس عبد الناصر (28 أيلول 1970)، وانقلاب الرئيس حافظ الاسد (بدأ في أيلول وانتهى يوم 16 تشرين الثاني 1970)، وانسحاب القوات العراقية المفاجىء، والموقف السوفياتي المتفرج والشامت، كل ذلك "حال دون إستثمار أي عامل زمني وجعل المبارزة تتم ضمن ظروف ومعادلة قوى ما بعد مشروع روجرز" (كمال عدوان)..وباعتقادي أن السوفيات وسوريا والعراق لم يريدوا تغيير المعادلة في الأردن المحسوب كموقع أميركي-بريطاني أساسي؛ في حين أن موقفهم تغّير في لبنان الساحة المفتوحة!!
وهكذا خرجت فتح والثورة مهزومة من الأردن بعد معارك جرش وعجلون (تموز 1971) ..
خاتمة: بيروت يا بيروت
لم يكتب أبو جهاد وكمال عدوان عن المراحل التالية لأنهما كانا يتحدثان عن مراحل الولادة وليس التأريخ لمسيرة فتح والثورة الفلسطينية..ولكن ما يمكن إضافته هنا أن مراجعة تجربة الأردن أسست لتيارات عديدة داخل فتح..ففي بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة، وفي كل عواصم الشتات والترحال، انشغل الفلسطينيون بالنقاشات الحارة وبالبحث عن مخارج من الأزمة التي عصفت بهم بعد الرحيل من الأردن..وكان لبيروت أن تتحول في تلك السنوات (1971-1975) ليس فقط إلى مركز ثقل حركة فتح من جهة، وإنما أيضاً وخصوصاً إلى عاصمة للحرية وللثقافة وللإبداع الثوري وإلى ملجأ لكل الأحرار والثوار العرب من جهة أخرى..تجربة بيروت هذه (التي خلّدها شاعر فلسطين والعرب محمود درويش) أنتجت أعظم مشاركة ثورية كفاحية وأعظم تلاحم إنساني بين شعبين وقضيتين..كما أنتجت أعمق الأفكار والمبادرات والممارسات التي أضاءت ظلام الوضع العربي..ويكفي أن فتح كانت هي الحضن والملجأ، وهي الأم والأب، وهي البداية والنهاية، في كل تلك التجربة التاريخية الرائعة..
عن التكفير والتخوين ماضياً وحاضراً
بقلم: سعود المولى
في تاريخنا العربي الإسلامي أن كتب حجة الإسلام أبي حامد الغزالي أُحرقت على يد علماء مسلمين..كما أحرقت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية... الأول أشعري شافعي ينحو نحو التصوّف والثاني حنبلي ينحو نحو السلفية...وإحراق كتبهما جرى بتهمة "الإبتداع المخالف للسنة"..
وقد تراشق القوم بالأحاديث الموضوعة على لسان الرسول فنقل بعضهم أنه قال "سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي"..وروى الشافعية عن الرسول أنه قال "عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً" وحملوه على الشافعي..فرد عليهم الأحناف بحديث يقول "سيكون في أمتي رجل يُقال له محمد إبن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس" (الشافعي هو محمد ابن إدريس)..وروى المالكية أن أبي حنيفة هو "شر مولود وُلد في الإسلام..وأنه لو خرج على هذه الأمة بالسيف لكان أهون"..واتهم العلماء إبن تيمية بالكفر..فكتب أحد الحنابلة (أبو بكر تقي الدين بن أحمد الحصني الدمشقي) في إفتاء أهل المذاهب الأربعة بكفر إبن تيمية..وكتب الحافظ ابن حجر (في الفتاوى) "إبن تيمية عبد خذله الله واضله وأعماه وأصمه وأذله..بذلك صرًح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه مطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الإجتهاد: أبي الحسن السبكي وإبنه التاج، والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية"..وفي الدر الكافية لإبن حجر العسقلاني أنه نودي في دمشق "من إعتقد عقيدة إبن تيمية حل دمه"..وفي رسالة الذهبي إلى إبن تيمية ما لا يقل سوءاً عن ذلك..
وإبن تيمية هذا هو الذي تستخدم فتاويه لتكفير الشيعة والدروز والعلويين وحتى الأشاعرة والمعتزلة والأحناف والشافعية من المسلمين السنة..
أسوق هذا الكلام لا لنبش تاريخ أسود أو إيقاظ فتنة نائمة، بل للإشارة إلى أن التكفير والتخوين غالباً ما يصيب كل الناس لا يُفرق بين سلفي واشعري أو بين متصوف وشيعي أو بين معتزلي وحنبلي ناهيك عن العقلاني الرشدي أو العلماني الحديث..فهذا الداء أصاب المسلمين منذ كانوا واستمر متصاعداً عبر العصور حتى كتب الإمام الشيخ محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر مقالته الشهيرة بعنوان "متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق" والتي قال فيها "إن أصلاً ثابتاً من أصول الإسلام هو البُعد عن التكفير، هلاَّ ذهبت إلى ما اشتُهر بين المسلمين وعُرف من قواعد أحكام دينهم وهو: إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر! فهل رأيتَ تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟! إذن لم يَدَعِ الإسلام لأحد، بعد الله ورسوله، سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرةً على إيمانه، على أن الرسول كان مبلِّغاً ومذكِّراً لا مهيمناً ولا مسيطراً. قال الله تعالى: "فذكِّرْ، إنما أنت مذكِّرٌ، لستَ عليهم بمسيطر"، ولم يجعل لأحد من أهله لأن يحلَّ ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه في ما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رقٍّ إلا العبودية لله وحده. وليس المسلم، مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انّحطَّت منزلته فيه، إلا حقّ النَّصيحة والإرشاد. قال تعالى:" ولتكنْ منكم أُمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون". وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبَّع عورة أحد، ولا يسوِّغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسّس على عقيدة أحد"..(انتهى كلام محمد عبده).
إذا كان ما كتبه محمد عبده عن أسلافنا من أهل الإسلام وعن مسلمي القرن التاسع عشر حول ولوعهم بالتكفير مدعاة للنظر وهو يحكي عن مجتمع ديني تقليدي يواجه تحديات الدخول في العصر، فكيف بنا اليوم وقد دخلنا الألفية الثالثة للميلاد والثلث الثاني من القرن الخامس عشر للهجرة؟؟ فهل كان الحزبيون العلمانيون أبناء القرن العشرين بأحسن حالاً.؟. لا وألف لا!!
فها هم شباب "الإخوان المسلمين" في مصر يغتالون رئيس الوزراء النقراشي باشا بعنوان أنه عميل بريطاني...كما إغتالوا غيره قبله وبعده..حتى ضج منهم مؤسس الإخوان وزعيمهم الشهيد حسن البنا فصرخ صرخته المشهورة : "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"..
وها هو النظام الملكي المصري يغتال حسن البنا بشعار أنه عميل بريطاني ماسوني وتتواتر الروايات الشعبية عن أنه شوهد يخرج من مبنى السفارة البريطانية وهو يحمل "شنطة فلوس"...
ثم يأتي النظام الناصري فيغتال سيد قطب بعنوان أنه عميل أميركي صهيوني..ويزج بعشرات الآلاف من الإخوان ومن الشيوعيين في السجون ويسومهم ألوان التعذيب بشعار أنهم خونة للوطن وللثورة..وها هم الإخوان يهربون إلى الخليج ويشنون حملة شعواء ضد النظام الناصري يتهمونه فيها بأنه أميركي أولاً ثم روسي..ولا ننسى حرب اليمن بين مصر والسعودية وتراشقهما بالتهم.
وها هو الصحافي القدير والكاتب الحصيف كامل مروة يموت برصاص ناصري يتهمه بالعمالة والخيانة..وقبله سقط زميله ورفيق دربه نسيب المنتني برصاص آخر لم يوفره من تهم العمالة.. وها هو النظام اللبناني يقوم بإعدام انطون سعادة بتهمة رسمية في المحكمة بأنه عميل بريطاني وصهيوني ولا تعوز التهمة أدلة ووثائق قدمها الإدعاء...
وها هم القوميون السوريون يغتالون الرئيس رياض الصلح والضابط عدنان المالكي بشعار أنهم عملاء صهاينة..ثم يتحالفون مع حكم الرئيس شمعون ضد عبد الناصر ويتحالفون مع حلف بغداد ومع الإنكليز نكاية بالقوميين العرب.. ثم يتآمرون للإنقلاب على الرئيس فؤاد شهاب بعنوان أنه صهيوني..
وها هم الشيوعيون يسحلون القوميين والبعثيين في شوارع بغداد والموصل ويعلقون الجثث على أعمدة الكهرباء بشعار أنهم خونة ومتآمرين على الشعب..ثم يأتي القوميون العرب والبعثيون إلى الحكم ويسحقون ويذبحون الشيوعيين بعنوان أنهم خونة وعملاء...
ونفس الأمر يتكرر في سوريا ولبنان والسودان وليبيا والجزائر وفي كل مكان من هذا "الوطن العربي الكبير"...
وداء التكفير والتخوين هذا لم يترك للفلسطينيين أي مطرح للتفاهم على قضيتهم.. فتقاتل القيسية واليمنية طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في البلاد التي كانت تسقط تباعاً بيد الصهاينة....ثم صار الصراع بين آل الحسيني وآل النشاشيبي وآل عبد الهادي وآل الخالدي الخ..وتشكلت الأحزاب وتقاتلت وكل حزب يتهم الآخرين بالخيانة والعمالة فيما الصهاينة يتوسعون ويتركزون في بلادنا.. وهاهو المفتي الحاج أمين الحسيني يتهمونه بالعمالة للإنكليز حتى وفاته شريداً فقيراً في بيروت.. ثم صاروا كلهم ينتسبون إليه اليوم ؟؟ وها هو أحمد الشقيري يموت حاملاً عار الإتهامات الجائرة السخيفة الغوغائية بعد أن قضى حياته كلها في الذود عن فلسطين..ولحق به ياسر عرفات الذي فاق سجل إتهامه بالخيانة والتآمر وبالصهيونية (عشرات ومئات المرات) كل من سبقوه ولحقوه حتى مات شهيداً شهيداً بعد معركة بطولية قادها حتى الرمق الأخير..ثم صاروا كلهم اليوم يبكون عليه وينتسبون إلى "خطه ونهجه"؟؟
نعم هكذا ضاعت فلسطين... وهكذا يضيع لبنان...
لقد ولع العرب والمسلمون بالتكفير والتخوين حتى طار صوابهم وضاعت بوصلتهم واختل ميزان العدل والحق في عقولهم ووجدانهم..وصاروا كقطيع الماعز يركضون وراء كل تيس أخرق لا علم عنده ولا دين ولا تقوى لمجرد إتباع الهوى والعصبية..وبدل التمثل بقول الإمام علي "إعرف الحق تعرف أهله" صاروا يلهثون وراء كل ناعق في غربال وكل ديماغوجي شعبوي يقول كذباً ويفتري حقداً وبغضاً وكل صاحب هوى ومصلحة...فكيف والحال هذه تستقيم أحوال "خير أمة أخرجت للناس"؟
في تاريخنا العربي الإسلامي أن كتب حجة الإسلام أبي حامد الغزالي أُحرقت على يد علماء مسلمين..كما أحرقت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية... الأول أشعري شافعي ينحو نحو التصوّف والثاني حنبلي ينحو نحو السلفية...وإحراق كتبهما جرى بتهمة "الإبتداع المخالف للسنة"..
وقد تراشق القوم بالأحاديث الموضوعة على لسان الرسول فنقل بعضهم أنه قال "سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي"..وروى الشافعية عن الرسول أنه قال "عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً" وحملوه على الشافعي..فرد عليهم الأحناف بحديث يقول "سيكون في أمتي رجل يُقال له محمد إبن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس" (الشافعي هو محمد ابن إدريس)..وروى المالكية أن أبي حنيفة هو "شر مولود وُلد في الإسلام..وأنه لو خرج على هذه الأمة بالسيف لكان أهون"..واتهم العلماء إبن تيمية بالكفر..فكتب أحد الحنابلة (أبو بكر تقي الدين بن أحمد الحصني الدمشقي) في إفتاء أهل المذاهب الأربعة بكفر إبن تيمية..وكتب الحافظ ابن حجر (في الفتاوى) "إبن تيمية عبد خذله الله واضله وأعماه وأصمه وأذله..بذلك صرًح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه مطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الإجتهاد: أبي الحسن السبكي وإبنه التاج، والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية"..وفي الدر الكافية لإبن حجر العسقلاني أنه نودي في دمشق "من إعتقد عقيدة إبن تيمية حل دمه"..وفي رسالة الذهبي إلى إبن تيمية ما لا يقل سوءاً عن ذلك..
وإبن تيمية هذا هو الذي تستخدم فتاويه لتكفير الشيعة والدروز والعلويين وحتى الأشاعرة والمعتزلة والأحناف والشافعية من المسلمين السنة..
أسوق هذا الكلام لا لنبش تاريخ أسود أو إيقاظ فتنة نائمة، بل للإشارة إلى أن التكفير والتخوين غالباً ما يصيب كل الناس لا يُفرق بين سلفي واشعري أو بين متصوف وشيعي أو بين معتزلي وحنبلي ناهيك عن العقلاني الرشدي أو العلماني الحديث..فهذا الداء أصاب المسلمين منذ كانوا واستمر متصاعداً عبر العصور حتى كتب الإمام الشيخ محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر مقالته الشهيرة بعنوان "متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق" والتي قال فيها "إن أصلاً ثابتاً من أصول الإسلام هو البُعد عن التكفير، هلاَّ ذهبت إلى ما اشتُهر بين المسلمين وعُرف من قواعد أحكام دينهم وهو: إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر! فهل رأيتَ تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟! إذن لم يَدَعِ الإسلام لأحد، بعد الله ورسوله، سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرةً على إيمانه، على أن الرسول كان مبلِّغاً ومذكِّراً لا مهيمناً ولا مسيطراً. قال الله تعالى: "فذكِّرْ، إنما أنت مذكِّرٌ، لستَ عليهم بمسيطر"، ولم يجعل لأحد من أهله لأن يحلَّ ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه في ما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رقٍّ إلا العبودية لله وحده. وليس المسلم، مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انّحطَّت منزلته فيه، إلا حقّ النَّصيحة والإرشاد. قال تعالى:" ولتكنْ منكم أُمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون". وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبَّع عورة أحد، ولا يسوِّغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسّس على عقيدة أحد"..(انتهى كلام محمد عبده).
إذا كان ما كتبه محمد عبده عن أسلافنا من أهل الإسلام وعن مسلمي القرن التاسع عشر حول ولوعهم بالتكفير مدعاة للنظر وهو يحكي عن مجتمع ديني تقليدي يواجه تحديات الدخول في العصر، فكيف بنا اليوم وقد دخلنا الألفية الثالثة للميلاد والثلث الثاني من القرن الخامس عشر للهجرة؟؟ فهل كان الحزبيون العلمانيون أبناء القرن العشرين بأحسن حالاً.؟. لا وألف لا!!
فها هم شباب "الإخوان المسلمين" في مصر يغتالون رئيس الوزراء النقراشي باشا بعنوان أنه عميل بريطاني...كما إغتالوا غيره قبله وبعده..حتى ضج منهم مؤسس الإخوان وزعيمهم الشهيد حسن البنا فصرخ صرخته المشهورة : "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"..
وها هو النظام الملكي المصري يغتال حسن البنا بشعار أنه عميل بريطاني ماسوني وتتواتر الروايات الشعبية عن أنه شوهد يخرج من مبنى السفارة البريطانية وهو يحمل "شنطة فلوس"...
ثم يأتي النظام الناصري فيغتال سيد قطب بعنوان أنه عميل أميركي صهيوني..ويزج بعشرات الآلاف من الإخوان ومن الشيوعيين في السجون ويسومهم ألوان التعذيب بشعار أنهم خونة للوطن وللثورة..وها هم الإخوان يهربون إلى الخليج ويشنون حملة شعواء ضد النظام الناصري يتهمونه فيها بأنه أميركي أولاً ثم روسي..ولا ننسى حرب اليمن بين مصر والسعودية وتراشقهما بالتهم.
وها هو الصحافي القدير والكاتب الحصيف كامل مروة يموت برصاص ناصري يتهمه بالعمالة والخيانة..وقبله سقط زميله ورفيق دربه نسيب المنتني برصاص آخر لم يوفره من تهم العمالة.. وها هو النظام اللبناني يقوم بإعدام انطون سعادة بتهمة رسمية في المحكمة بأنه عميل بريطاني وصهيوني ولا تعوز التهمة أدلة ووثائق قدمها الإدعاء...
وها هم القوميون السوريون يغتالون الرئيس رياض الصلح والضابط عدنان المالكي بشعار أنهم عملاء صهاينة..ثم يتحالفون مع حكم الرئيس شمعون ضد عبد الناصر ويتحالفون مع حلف بغداد ومع الإنكليز نكاية بالقوميين العرب.. ثم يتآمرون للإنقلاب على الرئيس فؤاد شهاب بعنوان أنه صهيوني..
وها هم الشيوعيون يسحلون القوميين والبعثيين في شوارع بغداد والموصل ويعلقون الجثث على أعمدة الكهرباء بشعار أنهم خونة ومتآمرين على الشعب..ثم يأتي القوميون العرب والبعثيون إلى الحكم ويسحقون ويذبحون الشيوعيين بعنوان أنهم خونة وعملاء...
ونفس الأمر يتكرر في سوريا ولبنان والسودان وليبيا والجزائر وفي كل مكان من هذا "الوطن العربي الكبير"...
وداء التكفير والتخوين هذا لم يترك للفلسطينيين أي مطرح للتفاهم على قضيتهم.. فتقاتل القيسية واليمنية طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في البلاد التي كانت تسقط تباعاً بيد الصهاينة....ثم صار الصراع بين آل الحسيني وآل النشاشيبي وآل عبد الهادي وآل الخالدي الخ..وتشكلت الأحزاب وتقاتلت وكل حزب يتهم الآخرين بالخيانة والعمالة فيما الصهاينة يتوسعون ويتركزون في بلادنا.. وهاهو المفتي الحاج أمين الحسيني يتهمونه بالعمالة للإنكليز حتى وفاته شريداً فقيراً في بيروت.. ثم صاروا كلهم ينتسبون إليه اليوم ؟؟ وها هو أحمد الشقيري يموت حاملاً عار الإتهامات الجائرة السخيفة الغوغائية بعد أن قضى حياته كلها في الذود عن فلسطين..ولحق به ياسر عرفات الذي فاق سجل إتهامه بالخيانة والتآمر وبالصهيونية (عشرات ومئات المرات) كل من سبقوه ولحقوه حتى مات شهيداً شهيداً بعد معركة بطولية قادها حتى الرمق الأخير..ثم صاروا كلهم اليوم يبكون عليه وينتسبون إلى "خطه ونهجه"؟؟
نعم هكذا ضاعت فلسطين... وهكذا يضيع لبنان...
لقد ولع العرب والمسلمون بالتكفير والتخوين حتى طار صوابهم وضاعت بوصلتهم واختل ميزان العدل والحق في عقولهم ووجدانهم..وصاروا كقطيع الماعز يركضون وراء كل تيس أخرق لا علم عنده ولا دين ولا تقوى لمجرد إتباع الهوى والعصبية..وبدل التمثل بقول الإمام علي "إعرف الحق تعرف أهله" صاروا يلهثون وراء كل ناعق في غربال وكل ديماغوجي شعبوي يقول كذباً ويفتري حقداً وبغضاً وكل صاحب هوى ومصلحة...فكيف والحال هذه تستقيم أحوال "خير أمة أخرجت للناس"؟
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)