كلمة الدكتور سعود المولى في ندوة تكريم
المرحوم الدكتور عفيف فراج- بعلشميه 25/11/2012
التحية الأولى أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى السيدة عائدة وإلى عائلة عفيف الذين لولاهم لما كان هذا اللقاء حول كتاب جديد هو السادس منذ وفاته التي كانت مؤلمة لنا جميعاً.
والتحية الثانية أوجهها قوية من القلب والعقل معاً إلى أصدقاء وزملاء ورفاق عفيف الذين يلتقون هنا اليوم حول كتابه كما كانوا يلتقون في السنوات الثماني الماضية منذ وفاته.
في الحديث النبوي الشريف انه اذا مات الانسان ينقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية ( ومعناها الوقف) وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له... وقد حقق عفيف هذه الثلاث من خلال السيدة عائدة، وأولادهما، وقد وقفوا أنفسهم ومالهم ووقتهم وعلاقاتهم على نشر وتعميم علمه النافع ما جعلنا جميعاً ندعو له بالحسنى والثواب وندعو لهم بطول البقاء..
واليوم يتجدد هذا العطاء صدقة جارية وعلماً نافعاً ودعاء له وللعائلة، يتجدد بكتاب هو بحد ذاته مَعلم من معالم وعينا وفكرنا ونضالنا ولو أنه جاء بعد 30 سنة على كتابته... وأنا سأحاول في هذه العجالة أن أموضع الكتاب الجديد في سياقه التاريخي الذي حمل تحولات وتطلعات عاشها عفيف وعشناها معه وواكبناها سوية وشكلت زاداً له ولنا في فهمه وفهمنا المتجدد للواقع وفي جهاده وجهادنا الدائم من أجل المستضعفين والفقراء الكادحين، ومن أجل المعرفة المفيدة والعلم النافع، وهذا ما ميزه كمثقف مناضل ملتزم، أي كمجاهد، شاهد وشهيد...
عفيف الزميل والصديق والأخ والزوج والأب ورفيق النضال والمعاناة في سبيل الحق والعدل، هو مجاهد حر، بالعلم والعمل، من أجل وطن أفضل، من أجل لقمة عيش حلال، من أجل حرية وكرامة، ومواطنة ومساواة..
وهو شاهد على عصره، وشهيد على ما قاله وكتبه..
وهذا أيضاً من الحديث النبوي الشريف: من مات دون أهله فهو شهيد، من مات دون أرضه فهو شهيد... ومن الحديث النبوي أيضاً: أن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء..
وعفيف الشاهد الشهيد كان أولنا وأسبقنا في كل شيء.. بعد نكسة حزيران 67 وكان يومها في مصر ومنتمياً الى حركة القوميين العرب ذات الهوى الناصري الاشتراكي، كان عفيف من الذين شاركوا في نقد التجربة المريرة وفي بلورة طروحات التحول اليساري لحركة القوميين العرب الى جانب محسن ابراهيم ومحمد كشلي ورفاقهما.. وكان كتاب لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (دار الطليعة، بيروت، 1970) باكورة انتاج هذا التطور اليساري في الحركة القومية العريقة... وأولى ثمار تحول عفيف كانت كتابه الأول ( دراسات يسارية في الفكر اليميني) (دار الطليعة 1970)، وفيه انتقد الفكر اليميني اللبناني بتجلياته المارونية الكتائبية كما القومية السورية، وصولاً الى التحريفية الماركسية للحزب الشيوعي اللبناني الموسكوبي، الى مثالية المعلم كمال جنبلاط، "ذات الفكر العتيق" (على حد وصفه لها)...
كان سلاح النقد الثوري الجذري هو زاده الأول في تمّيزه بين اقرانه ، وهو سلاح ماركسي أساسي ولكننا امتطيناه على صهوة ربيع طلاب أوروبا الغربية في أيار 1968، وربيع براغ التي دمرتها الدبابات الروسية في آب 1968، الى ربيع الثورة الفيتنامية (هجوم الربيع 1968) ، فربيع الثورة الثقافية الصينية... وقد أسهم كتابه الأول ذاك في استثارة الحوارات والنقاشات داخل يسار الحزب القومي السوري الخارج من السجون، وأثمر انشقاق عشرات الشباب المتمركس من الحزب العتيق.. كما كان للكتاب دور كبير في النقاش الماركسي بين منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (وريثة حركة القوميين العرب) وجماعة لبنان الاشتراكي (وضاح شرارة، أحمد بيضون، حسن قبيسي، وجيه كوثراني، محمود سويد، فواز طرابلسي).. ولكن الأثر الأكبر كان في الوسط الطلابي حيث أنه ساعدنا على بلورة صيغة (لجان العمل الطلابي) في المدارس والجامعات، كصيغة نضال مشترك تجمع قوى اليسار الجديد غير المتشكل بعد في إطار تنظيمي محدد..
الا ان الأهم في ذلك الكتاب أنه حمل مبكراً مقاربتين لم يسبقه اليهما أحد من ابناء جيله ورفاقه في اليسار.. المقاربة الأولى تتمثل في تشخيصه البنيوي لتمزق المواطن اللبناني والمجتمع اللبناني ما بين ثقافتين وهويتين ، ما بين "جذوره الحضارية والطبقية وحمى احتراق الحضارة الغربية الأخلاقي والمعنوي"، ما بين مجتمعه والمجتمعات العصرية، وما بين الطائفية السياسية والمواطنة المتساوية، وما بين مناهج التعليم المتعددة وضرورات الوحدة الثقافية الوطنية، وما بين كلنا للوطن وكلنا للطائفة والعائلة والطبقة الحاكمة... وقد أشار عفيف بعمق يومها الى ذلك الاغتراب والاقتلاع الذي يعانيه المواطن اللبناني.. ولكن الشيء الجديد يومها، بالنسبة ليساري ماركسي، لم يكن فقط في فهمه لمعنى المواطنة والدولة المدنية، وانما فهمه للتناقض الحضاري بين شرق وغرب، وللمسألة الثقافية تحديداً، ومسألة الهوية بالتالي، وهو الموضوع الذي سيستأثر بتفكيره وأبحائه وعناوين كتبه اللاحقة..
أما المقاربة الثانية المبدعة والمبكرة لعفيف فتمثلت في فهمه الماركسي الجديد للمسألة الدينية في بلادنا. وبرغم أنه لم يكن قد قرأ غرامشي يومها (على ما يبدو) إلا أنه استطاع مبكراً أن يقدم قراءة جديدة نراها تتكرر وتتطور لاحقاً في فهمه للشرق وللاسلام، ثم في فهمه للمسألة اليهودية وللصهيونية وحاضنتهما الحضارية والثقافية، على ما نراه في إثنين من كتبه اللاحقة على الأقل (اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية) و (رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود)..ناهيك عن حضور هذه المقاربة في كتابيه (ثنائية شرق غرب) و(إشكالية النهضة).
وقد استخدم عفيف في مقاربته للمسألة الدينية عدة نظرية وثقافية وفكرية كانت جديدة بالنسبة الى أبناء جيله وتياره السياسي والفكري تمثلت بكتابات ماكس فيبر واللاهوتي بولتمان (وهما غير ماركسيين بل ملعونان عند الماركسيين) إضافة الى كتاب كارل ماركس الرائع حول المسألة اليهودية (وهو كتاب يتم تجهيله ونفيه من تراث ماركس)، وكتابات الماركسيين اليهود أمثال أبراهام ليون ومكسيم رودنسون..ناهيك عن استشهاده بكتاب لكاوتسكي (الأمر الخطير يومها لأننا درجنا على تجاهل "المرتد كاوتسكي"، بحسب تصنيف لينين له). وقد عالج عفيف المسألة الدينية من زاوية المادية الجدلية الفلسفية (علاقة الفكر بالكائن، الإنسان بالطبيعة، وأيهما الأسبق)، كما من زاوية المادية التاريخية والسوسيولوجيا الماركسية الجديدة (لويس آلتوسير كمثال، وكان في بداية اكتشاف الماركسيين العرب له) .. فتكشّف عفيف فراج منذ ذلك التاريخ المبكر عن عالِم موسوعي مفكر مثقف مطلع وعن باحث سوسيولوجي واعد..
وفي كتابه الثاني (كمال جنبلاط المثالي الواقعي 1976) تميّز عفيف أيضاً عنا جميعاً وقد سبقنا الى التقاط خصوصية المسألة اللبنانية، والى فهم الأشخاص والأدوار خارج إطار التنصيف الطبقي الماركسوي التبسيطي .. عفيف الذي كان انتقد بشدة كمال جنبلاط ( في الكتاب الأول فصل بعنوان: الأستاذ جنبلاط مثالي يتجاوز الماركسية بفكر عتيق)، أجرى مراجعة نقدية شجاعة (أشبه بنقد ذاتي لفكرنا اليساري الراديكالي "الطفولي" آنذاك) شفافة وأخلاقية في آن، ولكن أيضاً وأساساً علمية وبحثية عميقة... وكنا جميعاً نترنح يومذاك تحت وطأة هول الواقع الذي اكتشفناه بصدمة 13 نيسان 1975 ، وكنا جميعاً من ضحاياه...
في مقال له بعنوان "عمومية المثال الثقافي النضهوي، خصوصية الواقع اللبناني الطائفي" (منشور في كتابه إشكالية النهضة 2006) يستعيد عفيف فراج جملة كتبها الياس خوري في روايته (رحلة غاندي الصغير): "الرجال الحقيقيون باتوا أول من مات ، ليبقى الأنذال سرّاق الثورات، وهي ستقتل أول من تقتل، كل الذين يتفلسفون ويتحدثون عن حرب الشعب والجماهير، والحرب ستستمر من دونهم"... وقد استمرت الحرب من دوننا... وهي لم تكن طبعاً حرب تحرير شعبية... بل حرباً أهلية مدمّرة ...
في لحظة الحرب الأهلية تلك، فارق عفيف فراج تراث "الجماهيرية" أو "الشعبوية اليسارية"، وانكفأ الى موقعه ووضعه كمثقف شاهد وشهيد.. ولعل في انتمائه الأصلي (الأهلي الدرزي، ولو العلماني الماركسي مدنياً) واضطراره للانقطاع الى الجبل في حياة عائلية واجتماعية وتعليمية وثقافية، بسبب الحرب وابان الحرب، ما يفسر تلك العزلة الثقافية، القدَرية، التي تظهر لنا بوضوح اذا عرفنا أنه لم ينشر أي كتاب بعد العام 1976 وحتى العام 2002 حيث كان كتاباه السابق ذكرهما: (اليهودية بين حضارة الشرق الثقافية وحضارية الغرب السياسية)، و (رؤية آينشاتن لليهودية ودولة اليهود)... وما ينبغي قوله هنا أنه بين 1976 (كتابه عن جنبلاط) و2002 (عودته للكتابة) كانت أطروحته/المرجع التي أنجزها إبان الإجتياح الاسرائيلي 1982 (وهي هذا الكتاب الذي بين أيدينا).. وبالتالي فان كتاب القمع السياسي هو المحطة الثالثة في تطور فكر وأدب عفيف السياسي ولو أنه التاسع إصداراً ونشراً..
واسمحوا لي هنا بالعودة والتوقف عند كمال جنبلاط.. عام 76 اذن عاد عفيف ليطل اطلالة جديدة، أكثر عمقاً وأكثر تسامحاً على شخصية وفكر كمال جنبلاط ، المثالي الواقعي.. يبدأ عفيف كتابه بجملة لجنبلاط تقول "واعلمي أن الانسان لم يخلق لمعنى من المعاني ألا للعلم والعمل به".. وبجملة أخرى : "الكشف عن الحقيقة وتحقيقها هو الهدف الذي يستحق وحده أن نعيش له ونسعى اليه في هذا الوجود"..
ولم يكن عفيف ليكتب أو ينطق علماً الا ليعمل به ويطبقه على نفسه وفي حياته أولاً... وفي بحثه عن الحقيقة لا يخجل عفيف من تقديم نص جديد فيه تقويم عميق وسياسي وسوسيولوجي لفكر وممارسة كمال جنبلاط، ينطلق من موقف فلسفي وفكري جديد نجده مبثوثاً بقوة في هذا الكتاب، ومن نقد ذاتي جذري لمسلماتنا "وأساطيرنا" المؤسِّسَة حول المسألة الطائفية والطوائف والواقع اللبناني... في العام 75 كان اليسار الجديد قد توزع اتجاهات عدة ما بين ملتحق بالثورة الفلسطينية أو مشارك معها، وما بين ملتحق بالخط السوفياتي التحريفي الدولي، أو بالتيارات اليسارية الثورية العالمية (ماوية- تروتسكية- فوضوية- مجالسية)... أما نحن فكنا نخوض تجربة مميزة من داخل العلاقة المتوترة بين 3 مكونات رئيسة: موسى الصدر وكمال جنبلاط وحركة فتح... فقد قادتنا ماويتنا الى الارتباط مبكراً بموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين من جهة وتمتين العلاقة مع كمال جنبلاط وخليل الوزير من جهة ثانية... وهكذا بدأنا نقاشات مطولة حول الماركسية والدين، والاشتراكية والانسان، انطلاقاً من كتابات كمال جنبلاط وعلي شريعتي ومالك بن نبي وروجيه غارودي ومن محاوراتنا مع موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين.. وكان عفيف أبرز من اشتغلوا خلال تلك السنوات 1975-1977 على اكتشاف العلاقة ما بين الفلسفة والسياسة، بين المثال والواقع، بين الماركسية والصوفية، وذلك على قاعدة اكتشافه لأولوية ومحورية الانسان، حياته، وحريته، وكرامته، وحقوقه، قبل أي شيء وفوق كل شيء...
وقد صاغ عفيف فهمه الفلسفي الجديد بقوله إن الفلسفة هي الإمكان، والسياسة هي وسيلة تحقيقة، والانسان هو الغاية، والحزب هو هيئة معنوية توحد غايتها مع غايات التحقق المعنوي للانسان ... وهنا اكتشف عفيف أهمية كمال جنبلاط والاشتراكية الانسانية، ناقداً بقوة لا انسانية الماركسية وقد تكشفت وانهار اندهاشنا بها منذ اندلاع الحرب الأهلية... أعاد عفيف اكتشاف كمال جنبلاط في السياسة والاقتصاد، في الفلسفة والدين، في التصوف والأخلاق، فأعاد اكتشاف ذاته وهدفه في هذه الحياة...
ولعل أهم ما اكتشفه عفيف في ذاته وهو المثالي الأخلاقي الانساني، هو أن وسائل بلوغ الأهداف السياسية يجب أن تكون موصولة بالغايات الأخلاقية، وأن النضال في الدنيا يهدف الى تحقيق غايات الدين ومضمونه الأخلاقي بوسائل لا تجافي تلك الغايات.. فالطريق هو ذاته الهدف.. واذا كان الطريق ملتوياً فإن الهدف نفسه يفسد... وما قيمة أن تربح الدنيا وتخسر روحك، معناك، ذاتك... وفي هذه المقدمات الفلسفية الأخلاقية صاغ عفيف فهمه لجنبلاط السياسي (المثالي الذي يخاطب الواقع الطائفي).. فأمام ما يبدو للناس انه مساومات وصفقات وتنازلات وقفزات جعلت الكثير من المثقفين والمفكرين يقولون بأن جنبلاط براغماتي في ألأصل والمتن فيلسوف وصوفي على الهامش، وبأنه توقف عند المنحى السكوني المحافظ من معادلة هيفل: كل ما هو واقعي، معقول.. اكتشف عفيف الوجه الآخر وهو أن جنبلاط كان يقف على الضفة التقدمية من معادلة هيغل: كل ما هو معقول، يجب أن يصبح واقعاً... وبحسب عفيف فإن جنبلاط كان يجيد التقاط علامات واشارات ومعطيات الواقع، ويحسن التعامل معه، واصطياد الفرص فيه، أو اللحظة المناسبة، لا لغاية ذاتية مادية او كسب مادي شخصي، (ومعلوم كم كان جنبلاط زاهداً عفيف النفس ما أشاد له سماء لا يطالها متطاول ، ويشهد لها، العدو قبل الصديق) ولكن هذا الاستغلال او الانتهاز للفرص والذي كان واقعهن الطائفي يتيحها كان دائماً لدفع قضية التقدم على شتى الأصعدة والمستويات... كان جنبلاط على حد وصف عفيف ينساب بليونة بين تعاريج مجرى الواقع الخدماتي المفسد، والواقع الطائفي المعطل، ليُحول الزيادة الكمية في عدد الانجازات البسيطة الى وعي اجتماعي نوعي جديد..
ومن ثىائية المثال والواقع، عالج عفيف عدة تنائيات تشطر وعينا الوطني وفكرنا السياسي : ثنائية العنف الثوري التغييري والسلم الأهلي المحافظ، ثنائية الطائفية السياسية واللاوعي الطائفي (ويسميها جوزيف مغيزل الحاسة السادسة عند اللبنانيين)، ثنائية التنافي والتدمير المتبادل في صيغة الكيان اللبناني (ويسميها عفيف الصليبية الهلالية)، ثنائية العلمانية والاسلام (وهنا ابتدأ أو عاد اهتمام عفيف بدراسة الاسلام الحضاري والثقافي والسياسي) ثنائية الوطنية اللبنانية والعروبة.. ومن خلال غوصه في عمق فكر وممارسة كمال جنبلاط أطل عفيف على القضايا التي ستشكل مفاتيح وعيه ونقده اللاحق للفكر السائد.. فقد عالج مسألة القومية بحسب الفهم الجنبلاطي الانساني وقارن بين القوميات المختلفة (بما فيها المارونية والسورية والعربية) وبين الصهيونية، متوقفاً عند خلو مساهمة جنبلاط في تعريف القومية من أي كلام عن التكوّن الطبقي والمصلحة الاقتصادية الخاصة بالفئات الحاكمة.. وقارن بينه وبين كلام فرانز فانون عن تخلف بورجوازية العالم الثالث دوراً وفكراً وامكانات، أي تشديد جنبلاط على الجانب المعنوي على حساب الجانب الاقتصادي... وهو في تلك المرحلة المبكرة كان يناقش المفكر الفلسطيني منير شفيق المسيحي الماركسي الماوي (المتحول لاحقاً الى الاسلام) الذي كان يومها يحاول بلورة أطروحة ماركسية قومية عربية جديدة لقيت رواجاً في أوساطنا التقى مع تيار درزي سوري تمثل بالحزب الشيوعي العربي ومؤسسه المرحوم هلال رسلان..
وقد تحدث عفيف في كتابه عن جنبلاط، عن القمع السياسي الناصري كسبب إضافي داخلي لفشل الوحدة العربية وفشل المواجهة مع الصهيونية.. فبذور فهمه لمركزية مسألة القمع في تطور النظام السياسي العربي بدأت مع فهمه المتجدد لكمال جنبلاط.
في تلك المرحلة 1975-1977 كنا نخوض جدالات ونقاشات وحوارات واسعة وعميقة حول حركة التحرر الوطني العربية، وحول النموذج الفيتنامي والكمبودي في حرب الشعب القومية بقيادة ماركسية، وحول الوحدة العربية والتجزئة الاستعمارية والتخلف ومركزية القضية الفلسطينية في حركة التحرر الوطني العربية ، وحول الماركسيات السوفياتية والصينية في بناء الاشتراكية... وحول تجارب كوبا وفيتنام وكمبوديا وحركات المقاومة في فلسطين وافريقيا الخ..وانضاف الى نقاشاتنا التاريخية تلك حضور الاسلام الثقافي والاسياسي من خلال علي شريعتي وموسى الصدر وفرانز فانون وأحمد بن بللا... وكانت المناقشات تدور حول اشكاليتين: الاولى هي الهوية الحضارية الخاصة وهل تشكل قاعدة لصياغة وبلورة نظريات ثورية وفكر سياسي خاص مستقل عن الماركسيات التقليدية التي كنا نتبناها؟. وفي هذا الاطار كانت الماوية قد شكلت لفترة ما منقذاً لنا سرعان ما انهار في أعوام 76-77 بعد وفاة ماو ونشوب الصراع على السلطة في الصين ، ثم اندلاع الحروب بين فيتنام وكمبوديا، وبين الصين وفيتنام ... فكان بحثنا عن أدوات وأطر نظرية جديدة على قاعدة التجربة الفلسطينية من جهة، وتجربة الحركة الوطنية الللبنانية بقيادة كمال جنبلاط من جهة ثانية، هو ما ميّز فكرنا وممارستنا، حتى كان استشهاد كمال جنبلاط في آذار 77، ثم انهيار التضامن العربي وبدء الانقسام بعد زيارة السادات للقدس وكمب دايفيد، ثم انطلاق الثورة الاسلامية في ايران... وبين هذه وتلك كانت عملية الاجتياح الكبير لجنوب لبنان في آذار 1978..
والاشكالية الثانية تعلقت بمسألة النهضة ، والوعي الحضاري، وبناء الذات الحضارية، والاستقلال السياسي والاقتصادي، ومواجهة الآخر.. وكنا قد بدأنا نقرأ فرانر فانون وعلي شريعتي وأنور عبد الملك، ونعيد النظر في الاطروحات الماركسية اللينينية، التروتسكية والماوية على حد سواء، باتجاه البحث عن ماركسية عربية جديدة.. وهنا أيضاً كان كمال جنبلاط مفيداً لنا الى جانب أنور عبد الملك في اكتشاف رؤية حضارية بديلة لا تكون مقلدة للغرب ولا تكون خاضعة للشيوعية المادية، وانما تنبني على تراثات حضارات الشرق الغنية، كالصين والهند والاسلام،.. وقد أعاد عفيف فراج موضعة فكر جنبلاط الانساني هذا في إطار الموقف من الماركسية من جهة، ومن العرفان الصوفي من جهة ثانية، وصولاً الى صياغة تجمع بين الحكمة القديمة والعلم الحديت، وتجعل الحدس الصوفي يستكمل نظرية المعرفة الماركسية...
في تلك السنوات المفصلية كانت الصين وروسيا وفيتنام وكمبوديا وكوبا ( وكل الدول الاشتراكية) قد تحولت بالنسبة الينا الى دول قمعية سلطوية استبدادية يموت فيها الانسان ويذبل فيها الضمير الحر والوجدان... لا بل أننا كنا نتبنى التسمية الماوية للاتحاد السوفياتي على أنه "امبريالية اشتراكية" وليس فقط مجرد "تحريفية"... وحين انطلقت ثورة ايران الاسلامية (آخر عام 77- مطلع عام 78) كنا نعيش جدالات وحوارات ونقاشات أفضت بالكثيرين منا الى الالتحاق بالاسلام الصاعد يومذاك كتعبير عن حالة حضارية نهضوية مقاومة وممانعة..
ويمكن القول هنا ان كتابات أنور عبد الملك ومنير شفيق ومحمد عمارة وعباس أحمد صالح وعادل حسين وطارق البشري وعادل عبد المهدي وفاضل رسول (وهم من الماركسيين الماويين الذين انتقلوا الى أرض الاسلام)، ثم كتاب ادوارد سعيد (الاستشراق) قد لعبت الدور الأهم في تحديد سياقات وأطر التحولات التي عصفت بجيلنا وجيل عفيف اليساري المناضل..
وفي كتاب (القمع السياسي) يبدو واضحاً كم كان لهذه الكتابات من وزن ومن دور في صياغة توجهات ومحاججات عفيف..
تلازم صعود الثورة الاسلامية الايرانية وعودة الاسلام السياسي الى ساحة الفعل العربي، مع تصاعد حدة الصراع العربي الاسرائيلي، وتصاعد حدة الأحادية الثقافية الامبريالية الغربية في شيطنتها للآخر، المسلم أو الشرقي، مع تصاعد الأزمة العميقة التي ضربت الماركسية وأقعدتها عن أن تكون أداة نظرية لفهم الواقع وممارسة التغيير ، وذلك قبل سقوطها الأخير مع سقوط الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة الاشتراكية... في تلك الفترة كنت من بين الذين أعادوا اكتشاف الأمير شكيب أرسلان، ومن خلاله كل فكر النهضة الاسلامية وخصوصاً محمد عبده وجمال الدين الافغاني ورفاعة رافع الطهطاوي والكواكبي.. وشهدت تلك الفترة كتابات لوجيه كوثراني (الاتجاهات السياسية الاجتماعية في جبل لبنان) وسهيل القش (في البدء كانت الممانعة) ومنير شفيق (الاسلام في معركة الحضارة) وادوارد سعيد ( الاستشراق، وتغطية الاسلام) وحسن الضيقة ( في نقد الماركسية، ونقد سمير أمين) ونظير جاهل (في انتروبولوجيا الاسلام) ورضوان السيد (في الجماعة والسلطة والأمة) والياس خوري وحازم صاغية ووليد نويهض (في نقد التجارب اليسارية، وفي مسألة المثقف والسلطة، ومسألة الدولة والحزب الخ..) .. وقد صدرت مجلة الوحدة (1980-1981) تحمل هذه الكتابات وغيرها، ومنها مقالة لعفيف في العدد الأول من المجلة (15 كانون الثاني 1980) بعنوان (جنبلاط: حين نتكلم عنه يضيء قنديل المعرفة ). فتحت مجلة الوحدة نقاشات وجدالات كان لها أثر كبير في فكر ووعي عفيف فراج كما يظهر من استشهاده بها في كتابيه: القمع السياسي، واشكالية النهضة.. ناهيك عن استشهاده بأنور عبد الملك ومحمد عابد الجابري ومحمد عمارة وهشام جعيط وكمال عبد اللطيف وغالي شكري وعبد الله العروي وادوارد سعيد ومنير شفيق.. لكن المهم في مقاربة عفيف لهذه الإشكاليات هو إطلالاته النقدية التي تربط ماضي هذا الفكر الاسلامي التجديدي بحاضره.. فيقارن ما بين عبده والطهطاوي والعقاد وطه حسين والرافعي والزيات من جهة وما بين ادوارد سعيد ومنير شفيق وأنور عبد الملك وبقية مؤسسي ما سماه عفيف (الاستشراق معكوساً) من جهة أخرى.. ولا ينسى أن يتوقف وقفة خاصة عند أدونيس الذي كتب في مدح الخميني مقالته الشهيرة: "شمس الحقيقة وسيف الغضب" (وهي عبارة يستخدمها الشيعة لوصف الامام المهدي)، وقد استشهد عفيف بما كتب أدونيس في مجلته مواقف ( العدد 34-1979) من أنه " وفي المجتمع العربي القائم كلياً على الدين والذي لم تتطور فيه وسائل وأشكال الانتاج لتشكل وعياً طبقياً، يبقى الدين المرتكز الأساس"....
تلك هي الأطر والسياقات التي واكبت اشتغال عفيف على أطروحته للدكتوراه (القمع السياسي) والتي انطلقت من ظاهرة (النظرة الغربية الاستعمارية الانتقاصية للشرق) ، وهي ظاهرة جرى لفت الانتباه اليها مع كتابات المفكرين المشار اليهم سابقاً والذين قدموا قراءة اعتبرها عفيف فراج اسشتراقاً معكوساً حين اعترف أمثال ادوارد سعيد وأنور عبد الملك ومنير شفيف (وحتى أدونيس الذي كتب أن انقسام العالم الى قطبين شرق/غرب هو حقيقة قائمة وأن الغرب تميّز بالتكنولوجيا وليس بالابداع، وأن الشرق ابداعي خيالي، الخ.).. وبحسب عفيف فإن هؤلاء المفكرين الذين اندفعوا يومها في تبني الخيار الحضاري الاسلامي اعترفوا فعلياً بالثنائية العرقية القومية وأقروا بها "فتساوى القامع والمقموع مع تعديل وهو أن المقموع قد عكس هوية من هو الأرفع ومن هو الأدنى فيدعي المسلم تفوقه الروحي على الغرب الطامع بالسلطة والربح المادي ويصبح الاسلام شعاراً للتحرير"... وهنا تبرز استثائية عفيف وسبقه لنا في مضمار استخلاص الدروس والتنائج من ذلك التحول الفكري والنظري الذي دخلنا فيه بعد عام 1980... فهو قد ماهى بيننا وبين فرانز فانون من حيث الكلام عن (ردة فعل) وعن انقسام العالم الى جنسين مختلفين (أبيض مستوطن وأسمر ملون) يقطنان في مدينتين مختلفتين .. الخ؟.. هذا التقسيم الى عالمين، شرق وغرب ، نحن وهم، هو أساس التقسيم اللاحق الذي أجراه بن لادن الى فسطاطين ، وأسماه جورج دبليوبوش محور الشر ومحور الخير، وهو ينطلق من نظرية توينبي في أن التاريخ هو (تحدي وردّ على التحدي)... ولكن عفيف يتميز أيضاً في قراءته لتلك المرحلة ومفكريها عن الموقف الأصولي العلماني الذي عبرّ عنه أفضل تعبير كتاب مهدي عامل (نقد الفكر اليومي) والذي تناول نفس المفكرين والأفكار وانما بنظرة احتقارية تدميرية نزقة، على عكس عفيف فراج الذي تناولهم بنظرة مُحِبّة ونقدية في آن مع الاعتراف لهم بفضل في أمور كثيرة خصوصاً تقديره لدور هذه الكتابات وهؤلاء المفكرين في إغناء عملية الانبعاث الاسلامي الجديد بمعطيات تنويرية هائلة.. وعلى الرغم من كون هذه الحركة الاستشراقية المعكوسة متطرفة في عدائها للغرب "بحيث تقفز فوق حقيقة أن الغرب في موقفه من الاسلام ليس واحداً متجانساً وان الثقافة الغربية ليست كلها متهمة بالمشاركة في العداء للاسلام والشرق"، إلا أن هذه الحركة "تبقى في المحصلة النهائية ردة فعل مناهضة للغزو البورحوازي الغريب لبلاد وعقول المسلمين"... ويحاول عفيف فراج أن يأخذ موقفاً وسطياً ما بين هؤلاء ومنتقديهم من غلاة العلمانيين الذين يتهمهم عفيف بتغربهم عن الثقافة الوطنية وعجزهم عن الانخراط مع الجماهير العريضة واغترابهم الاجتماعي الثقافي وعجز الماركسيين من بينهم عن انجاز أيديولوجية ثورية تتلاءم مع العصر دون القطع مع الماضي، أي دون التضحية بالاستمراية الثقافية التاريخية... وبرغم الاعتراف بصحة وعمق النقاشات التقدمية التي طرحها ماركسيون وعلمانيون تقدميون (صادق جلال العظم مثالاً) إلا أن عفيف لا ينسى أن يختم باستعارة مقولة غالي شكري: "يجب أن نهدم ثم نعيد بناء تراثنا الثقافي من منظور ثوري مقتبسين من تراثنا ومن الغرب ما يتناسب وحاجتنا الموضوعية"... وهذا الاستنتاج الخلاصة هو الذي جمع بيني وبين عفيف في المرحلة الأخيرة من حياته حين كنت أعمل مع سماحة الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين على مقولة استنباط وصياغة حداتثنا الخاصة بنا وعلمانيتنا النابعة من سياقاتنا التاريخية والحضارية الخاصة، وهو ما أسماه عفيف في مقولة أتبناها بالكامل وأدعو الى تعميمها والعمل بموجبها حين يقول: "إننا نحتاج الى فلسفة جديدة للنهضة.. وهذه قضية ملحة دائماً".. نعم فلسفة جديدة لنهضتنا المعوقة والناقصة..تستعيد تراثنا الحضاري ولا تموت غرقاً فيه، وتأخذ من الحضارة الغربية ولا تكون تابعة ذيلية لها..إنها اليوم (وكما كانت بالأمس) أكثر من قضية ملحة.. إنها هي القضية!
وبعد فإن عفيف فراج أعطى في أطروحته عن القمع السياسي بين الشرق والغرب، قراءة علمية ناقدة حول المصادر المعرفية لتلك النظرة الغربية الاستعمارية للشرق والتي لخصها في مقولتي: الهمجية الشرقية والاستبداد الشرقي، دون أن يقع في فخ المصادرة والتعميم ... وقد حاول الدفاع عن بعض المواقف الماركسية واللينينية تجاه الشرق وتمييزها عن المنحى الانتقاصي والاحتقاري للغرب البورجوازي، وكان ذلك منه آخر سهام محاولة الجمع بين الاسلام والماركسية، وهي المحاولة التي عشنا تجربتها معاً خلال تلك المرحلة (1977-1980) قبل أن تطغى علينا فكرة المفاصلة الكاملة مع الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي، والتي كانت على ما يبدو من منبع ماوي صيني وليس من منبع إسلامي تقليدي.. ذلك أن الاسلاميين من جيل عبده والافغاني والطهطاوي وأرسلان، ثم من جيل العقاد والرافعي وطه حسين، كانوا قد حاولوا الجمع والتأليف ما بين شرق وغرب على قاعدة الخصوصية الحضارية السمحة المنفتحة التي تأخذ الحكمة والعلم أنى وجدتهما... غير أن الإشكالية في عصرنا الراهن وفي حاضرنا المعيش هي أعمق وأبعد من ذلك... وعفيف حاول مقاربتها من خلال استعادة أسئلة عبد الله العروي دون أصولية العلمانيين اليساريين، وخارج أصولية الاسلاميين الجدد المبهورين بالصعود النضالي للحركة الاسلامية الجديدة بعد 1980.. فقدّم عفيف قراءة مميّزة في الفكر الغربي القديم والحديث من منظار (فكرة وممارسة القمع السياسي) وأعاد سبب تخلفّنا وتراجعنا أو عدم تقدمنا الى قوة الاستبداد والقمع السياسي في حضارتنا وثقافتنا وسياستنا.. فاستعاد بذلك موقف الافغاني التاريخي الذي وجد أن الاستبداد هو علة هذا الشرق، دون أن يغرق في التأبيد الذي اصطنعه الغرب والذي جعل من الاستبداد الشرقي جوهراً أزلياً ثابتاً يسم الشرق ، ودون أن يغرق في الاستشراق المعكوس الذي يجعل الاحتقار والانتقاص الغربي جوهراً أزلياً ثابتاً..
إن محاولة عفيف فراج بناء أسس فلسفة جديدة للنهضة العربية كانت المدماك الأول في ما صار لاحقاً يعرف باسم حوار الحضارات والتعددية الثقافية.. فعلاً كان عفيف هنا أيضاً سباقاً ومبكراً في استشراف ما ستصل اليه تجربتنا الفكرية والسياسية، وما سيتكشف عنه الاسلام السياسي: الثوري في كفاحه ضد الاستعمار، والقمعي حين وصوله الى السلطة..
وهذا من أبلغ دورس تجربتنا الثورية الماضية، ومن أوضح وصايا الربيع العربي الراهن..