الأربعاء، 2 يناير 2013

أسامة العارف في صحبة "الحرامي" الأخير

روجيه العوطة، النهار

قبل شهرين، كرمت الفنانة نضال الأشقر، في إطار ملتقى الشباب، عدداً من المسرحيين الكبار، يعقوب الشدراوي وبول شاوول وأسامة العارف. وقف الأخير مبتسماً وموجهاً تحية إلى رفاق دربه المسرحي وأصدقائه الكثر، متذكراً تشجيعهم له على خوض تجربته الكتابية وتطويرها على خشبة المسرح. كانت هذه التحية بمثابة الكلمة الأخيرة لأسامة العارف، الذي غيّبه الموت في بيروت، المدينة التي كتب وناضل فيها، ثم تركها تفتقده في مسارحها الصامتة. ينتمي أسامة العارف إلى جيل الرواد الذي أعطى المسرح اللبناني وجهة خلاّقة جديدة في ستينات القرن الماضي، بعد محاولات التعريب والترجمة التي قام بها مارون النقاش وأديب إسحق ونجيب الحداد وغيرهم. بدأت مسيرته الفنية في "فرقة محترف بيروت للمسرح"، التي تأسست عام 1968 على أيدي روجيه عساف ونضال الأشقر، مقدماً عمله المسرحي "إضراب الحرامية". اعتمدت المسرحية على الإرتجال والخلق المباشرين، بحيث يتشكل نصها لحظة تقديمها على الخشبة، قبل أن يقوم العارف بكتابتها من جديد كي يصل إلى صيغتها النهائية. وقد اعتمد هذا الأسلوب التفاعلي في أغلب نصوصه المسرحية، إذ حاول أن يختصر المسافة بين النص والممثلين من جهة، وأن يردم الهوة بين الخشبة والجمهور المُشاهد. خلق هذا التفاعل نوعاً مسرحياً جديداً، لا يخاطب النخبة أو المثقفين فحسب، بل يتوجه إلى جميع الناس ويحرضهم على الإهتمام بالمسرح، معالجاً أسئلتهم وطارحاً قضاياهم الواقعية. لم تغب الهموم الإجتماعية عن أعمال أسامة العارف ("إضراب الحرامية"، "بانسيون الست نعيمة"، "يا اسكندرية بحرك عجايب"، "شي بيسوا فرانكو")، بل كانت الأكثر حضوراً فيها. عالج الكاتب الراحل مواضيع الفساد والإستغلال والفقر والحرمان والجوع والثورة في نصوصه المسرحية كما لو أنه يصرخ ضد الواقع اللبناني، وينتقد "لصوصه" الكثيرين. هذا ليس غريباً على مناضل مثله، فهو بالإضافة إلى عمله ككاتب مسرحي، كان محامياً، مارس دفاعه القانوني عن الناس طويلاً، فضلاً عن نضاله الحزبي في صفوف الحركة الطالبية، ومشاركته في التحركات الشعبية احتجاجاً على الأوضاع الإقتصادية والمعيشية التي وصل إليها البلد، ومطالباً بالمساواة والعدالة الإجتماعية. كان المجتمع بالنسبة إليه مختبراً مسرحياً، لا بد من التزام بأسئلته وقضاياه المختلفة، والبحث في أوضاع ناسه وتحريضهم على التمرد والتغيير. لم يهادن العارف السلطة وألاعيبها، بل ظل متمسكاً بمبادئه وأفكاره، متحدياً إياها، وواقفاً في وجهها، كمسرحي ومحامٍ ومناضل شيوعي. فلم يفصل بين شخصياته واهتماماته، بل كان يمارس المسرح كأنه يدافع عن الناس، ثم انتقل إلى المحاماة ملتزماً حماية حقوقهم قانونياً. ربط أسامة العارف بين كل قضاياه ومبادئه وأسئلته بالإلتزام الإجتماعي والتفاعل مع المجتمع، فكتب المسرح لسكان الهامش، ودافع بالقانون عنهم، وناضل من أجلهم. ولأن المسرح كان اهتمامه الأول، ظل العارف مسرحياً في كل أعماله الأخرى، فهو المسرحي المحامي، والمسرحي المناضل، كما حافظ على موضوعه الفني في حياته القانونية، أي موضوع الواقع الإجتماعي اللبناني، والبيروتي على وجه الخصوص. شكل المسرح بالنسبة إليه حياةً ثانية، لا معقولة، غير تلك التي يعيشها واقعياً. حاول من خلالها الكشف عن كل الأوجاع والآلام المستترة التي تصيب المجتمع وتعوق تطوره إلى الأفضل. ففي مسرحيته الأولى، "إضراب الحرامية"، التي قدمها عام 1970، خاطر في الكشف عن "اللص المستتر"، الذي يسرق الناس ويستغلهم ويتسبب لهم بالمآسي بطرق مواربة وغير معلومة. اتهم الدولة باللصوصية، وبحماية "الحرامية" غير المرئيين، مثل الطبيب والصيدلي والتاجر والصناعي، هؤلاء الذين يتفقون على استغلال المواطن بالرشوة والفساد ضمن دورة إقتصادية واحدة. لا يكتفي العارف بهذا الإتهام، بل يبحث في البنية التحتية لظاهرة اللصوصية. فعندما يعلن "الحرامية" إضرابهم على إثر طردهم من الحياة الإقتصادية، تتوقف عجلة الإقتصاد وتُقفل كل المتاجر والمدارس والبنوك والمصانع، فيطالبهم المجتمع بالعودة عن إضرابهم، فيرجعون إلى مواقعهم القديمة ويعلنون انتصارهم، "إذا ما تغيرتوا... وتغيرنا... إذا ما غيرنا علاقتنا، لا بد أن يعود الحرامية". قرأ العارف الواقع بحسب ماركسيته، ونظر إلى المجتمع انطلاقاً من إيديولوجيته النضالية، لذا جاءت أعماله المسرحية، كبيانات احتجاجية ضد الإنقسام الطبقي في لبنان. لكن هذه الأعمال لم تصمد طويلاً، أو بالأحرى لم تترك آثارها على سير المجتمع اللبناني، فبعد سنوات قليلة، اندلعت الحرب اللبنانية، وفُرض على المسرح أن يتحدى حكم الميليشيات قبل أن يصمت ويخضع للتصنيف الإيديولوجي والتقسيم المناطقي. سيطر "اللصوص" على المسرح، وانتقل العارف إلى ممارسة المحاماة، ثم استأنف حياته الفنية عام 2000 بـ"بانسيون الست نعيمة"، وكانت هذه المسرحية عمله الأخير، وتُضاف إلى "شي بيسوا فرانكو" و"يا اسكندرية بحرك عجايب" إلخ. مات أسامة العارف، المسرحي والمحامي والمناضل، تاركاً أعماله ونصوصه تتحدث عنه وتذكّرنا بحضوره على منصة المسرح. بغيابه، يخسر المسرح اللبناني، القديم والمعاصر، كاتباً خلاّقاً، يجمع بين الواقع واللامعقول، والهم الشعبي والنظرة الخلاقة. وبرحيله عنها، تفقد بيروت فناناً قديراً، التزم قضاياه وحريتها وديموقراطيتها، ودافع عن ناسها وحقوقها، واحترف المطالبة بثقافتها ومدينيتها. انتصر الموت، "اللص" الأخير، على المسرح والمدينة، وها هو يصطحب صديقه الكاتب إلى المنصة الأخيرة، حيث سيرمي نظرةً أخيرة على الحياة، ويتمتم بكلمات أغنيته المسرحية القديمة: "خليها ماشية هيك، ما حدا رح يقدر يغيّر فيها، لا أنا ولا أنت".