الدكتور سعود المولى
لقد سمحت الأزمة العامة التي عصفت بالدول العربية كنتائج لأزمة العولمة وأزمة الكرامة وأزمة الحرية ، بانطلاق ثورات الربيع العربية وفي قلبها اسلاميون من شتى الأطياف، فهم أبناء هذا المجتمع وهذا الحراك وهذا الوضع الثوري المتأزم.
لم يكن التيار الاسلامي على رأس الحراك الاجتماعي والثوري ولكنه لم يكن غريباً عنه بل كان في قلبه. لم يهبط الاسلاميون الى أرض الواقع بالباراشوت من خارج بلادهم بل كانوا في قلب الواقع الثوري... ففي مصر شارك الاسلاميون في تشكيل حركة كفاية وفي اضرابات معظم قطاعات المهن الحرة والجامعات والعمال.. وفي تونس والمغرب وسوريا كانوا الاكثر تعرضاً للقمع والاعتقال.. ومنذ التسعينات تطورت لغتهم وتقدم خطابهم نحو تبني شعارت ومقولات الحوار والتعددية والتسامح والانفتاح والدولة المدنية والسلم الأهلي والديموقراطية... والتيار الاسلامي حمل ويحمل في داخله توجهات وخيارات وبرامج ومشاريع واسعة ومتعددة تبرز فيها تناقضاته وحدوده..
ليس التيار الاسلامي إذن بالظاهرة الغريبة التي تحاول خطف الثورة أو حرفها عن مسارها.. هو إحدى قوى الثورة بل لعله أهمها وأكثرها تنظيمأً وحراكاً وتطوراً وحضوراً.. وليس التيار الاسلامي بالبعبع المخيف. فهو مثله مثل غيره، فيه المحافظ الرجعي والتقدمي الثوري، فيه السلفي التقليدي والمدني الحديث، فيه الديموقراطي والاستبدادي، فيه الإلهي والبشري، فيه من كل تنوعات الثورة والربيع وألوانه .
ومن الأمور الأساسية التي تمخض عنها الربيع العربي مشاركة الإسلاميين الفاعلة في عملية التغيير (خصوصاً في مصر وتونس والمغرب). وقد صعد الاسلاميون الى الحكم عبر صناديق الاقتراع وبعد غياب استمر لعقود عملت خلالها السلطات القائمة على قمعهم وتهميشهم وعلى استعداء المجتمع والنخب ضدهم بحجة الظلامية والسلفية والارهاب... ولا ننسى أن النظام التونسي الهالك كان منع العمل السياسي الاسلامي ومنع الحجاب في الأماكن العامة والمدارس والجامعات... وقد تميزت سوريا بتجريم مجرد الانتماء الى الاسلاميين والحكم بالإعدام على كل من يثبت انتسابه إلى الإخوان المسلمين. وكنا قد تابعنا ورصدنا خلال السنوات الماضية بروز اتجاهات قوية وفاعلة لدى الحركات الاسلامية الأساسية للمشاركة السياسية ولتبني الدولة المدنية والمواطنة... ولعل أبرز هذه التطورات حصلت لدى حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية في المغرب ولدى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا. كما أننا رصدنا اتجاهات المراجعة (النقد الذاتي) في حركتي الجهاد الاسلامي والجماعة الإسلاميّة في مصر، وقد امتدت هذه المراجعات الى العديد من الحركات الاسلامية الجهادية.. ومن أبرز ما حملته المراجعات تبني خطاب جديد في ضرورة التعايش السلمي داخل المجتمع أولاً ثم مع الدولة ثانياً، ونبذ العنف، والدعوة الى العقل والرشد..
غير أن سقوط الأنظمة القمعية (مصر وليبيا وتونس بالأخص) قد طرح على تلك الحركات (المعتدلة منها كالاخوان، أو صاحبة التجربة الجهادية التي مارست النقد الذاتي والمراجعة وتشكلت في أحزاب سياسية) تحديات جديدة تتعلق بكيفية ادارتها للحكم وتطبيقها لمقولاتها ومبادئها، وكسب ثقة الناس والافساح في المجال أمام الآخرين للمشاركة في التجربة، وكيفية عملها على بناء نموذج ديموقراطي جديد قابل للحياة... لقد كسبت الحركات الاسلامية رهان التأييد الشعبي عبر نجاحها الباهر في انتخابات ديموقراطية حقيقية ، ولكنها لم تكسب بعد رهان تمثيل الجماعة الوطنية وهموم الوطن ومستقبله.. صحيح أن الحركات الاسلامية صارت اليوم تحكم أو تشارك في الحكم، وتتمتع بنشاط حزبي وسياسي علني، الا أنها لم تصل بعد الى بر الأمان في قضايا ادارة الاختلاف والتنوع، والتضحية بالمصالح الحزبية والفئوية لحساب مصلحة الوطن والأمة..ويبرز في هذا المجال النموذج المصري الذي ما زال يتخبط...
إن موقف الحركات الإسلامية من الديموقراطية عموماً، وبشكل خاص موقفها من قضية الديموقراطية والمواطنة والأقليات الدينية المسيحية والإسلامية على حد سواء، هو معيار أساسي للحكم على تجربة الاسلاميين في الحكم... فالديموقراطية في وعي وممارسة العديد من قادة وكوادر وجمهور هذه الحركات ليست نظاماً متكاملاً مؤسساً على الحقوق الأساسية للمواطنة، وإنما هي مجرد "لعبة برلمانية" تفوز فيها الأغلبية الانتخابية، أي أنها "وسيلة براغماتية" قد تخفي استبداداً سلطوياً اشد وأدهى من سابقيه.... فالمطلوب من الحركات الاسلامية الحاكمة حمل موقف واضح وممارسة جادة حيال مسألة التعددية الفكرية والسياسية التي تقول بها ، وحيال قضايا المرأة واندماجها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي... والمطلوب أيضاً حسم مسألة ومفهوم الدولة المدنية كإطار لتنظيم العلاقة مابين الدين و القانون الدستوري أو الأساسي للدولة...
السؤال الرئيسي الذي يجول في خاطر المواطنين العرب يتعلق بقابلية أو قدرة الحركات الإسلاميّة على التحول إلى أحزاب ديموقراطية إسلامية تتعايش مع العلمانية، على غرار التجربة التركية. وما يزيد من الحاح السؤال أن الدول التي نجح فيها الاسلاميون بقوة هي من النوع العلماني الوطني (مصر وتونس والمغرب) ذات التراث الطويل والعميق في الدولة الوطنية والدستور والبرلمان والتعددية الحزبية، رغم مراحل الاستبداد والقمع... والمعنى الأعمق للسؤال يتعلق بقابلية أو قدرة هذه الحركات على التطور الديموقراطي، أي على التحول من شكلها النضالي السري الثوري أو الجهادي أو الاحتجاجي الاجتماعي إلى شكل حزبي ديموقراطي وطني مدني ، وعلى قبول الاختلاف والتعدد الحزبي والفكري (وخصوصاً في داخل هذه الحركات) وحرية الرأي والتعبير (والحرية الدينية تحديداً) ... ويخطر في البال هنا تجربة حركة الأحزاب الديموقراطية المسيحية في إيطاليا وألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت وليدة الانهيار التاريخي للنازية والفاشية... ولعل من الواجب تنبيه الحركات الاسلامية الحاكمة الى ضرورة دراسة تلك التجربة...
كما أن الحركات الاسلامية تواجه أيضاً قضية العلاقة مع القوى العلمانية في مجتمعها وهي قوى تاريخية ذات وزن واعتبار (خصوصاً في مصر وتونس والمغرب) وبالتالي فإن من واجباتها الملحة المساهمة في صياغة فقه الحوار والتعدد والتعايش والمصالحة والسلم الأهلي أولاً وفقه الدولة الحديثة ثانياً لجهة قضايا المساواة في المواطنة والحريات الدينية وحقوق الإنسان، والمشكلة الطائفية وحماية الأقليات، ومسألة تطبيق الشريعة وقوانين الأحوال الشخصية..الخ.... ولعل في التجارب الدستورية الايرانية والتركية والمصرية والتونسية والمغربية على السواء، كما في التجربة اللبنانية الميثاقية-الدستورية، ما يشكل تراثاً وذخيرة تستحق الدراسة في هذا المجال...
إن التحالف مع العلمانيين (من يساريين وقوميين وليبراليين على السواء) يتطلب التخلص من نزعات الغلبة (التي عرفناها في لبنان)، ومن عقلية الاستئثار بالسلطة (كما حدث في مصر) أو استئصال الخصوم (كما في الجزائر). وأمامنا كمثال آخر ايجابي تجربة العدالة والتنمية في المغرب (كما في تركيا)، وتجربة النهضة في تونس، في قيام ائتلافات وطنية واسعة تضم اسلاميين وعلمانيين لادارة الحكم... وهذه التجارب تطرح الكثير من الأسئلة والاشكاليات... فبعض غلاة العلمانيين يرى أن الاسلاميين يطبقون مقولة أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنهم يتمتعون ببراغماتية عملانية كبيرة تصل الى حدود النفاق والانتهازية السياسية الرخيصة... ولذا فإن المطلوب من الحركات الاسلامية اليوم تقديم نموذج صحيح عن قيام توافقات وتحالفات استراتيجية تصون العمليّة السياسية الديموقراطية ومسيرة التغيير من خلال برامج واضحة وتحالفات مبدئية شفافة ومن خلال مواجهة المشاكل المزمنة عبر عقد تسويات نبيلة من صنف تلك التي تؤسس الأوطان والدول، أي أن تكون هذه التوافقات والتفاهمات الاستراتيجية هي أساس العقد الاجتماعي الجديد...
وفي مجال العقد الاجتماعي الجديد يطرح الكثيرون قضية موقع ودور الحركات السلفية التي صارت كالفزاعة يستخدمها أعداء الربيع العربي لإفشال رياحه... وما ينبغي توضيحه دائماً هو أن السلفية كالاخوان كالشيوعية كالقومية هي ظواهر سياسية اجتماعية، وأنه ليست هناك سلفية واحدة بل سلفيات متعددة الوهابية واحدة منها لا تختزلها ولا تنوب عنها، والجهادية هي آخر افرازاتها ولكنها ليست التعبير الأول أو الأفضل أو الأكمل عنها... وأنه كان هناك سلفيات وطنية واصلاحية ابطالها أمثال محمد عبده ورشيد رضا وعلال الفاسي وشكيب أرسلان في زمانهم... والمهم هنا ابراز الاختلاف والتضارب بين هذه السلفيات على غرار الاختلاف والتضارب بين شيوعية ماوية وأخرى تروتسكية وثالثة روسية ورابعة فيتنامية أو كوبية .. الخ... والمهم هو فصل السلفية الجهادية والارهابية وحصرها في نطاقها الصحيح وتمييزها عن سلفيات الحديث والسنة والسلف الصالح والتقليد والمحاكاة والسلفيات البرلمانية (كما في مصر والكويت والبحرين مؤخراً)..
ولعل ما تحتاجه الحركات الاسلامية اليوم أكثر من اي شيء آخر، هو العمل على الربط الصحيح والخلاق بين عملية بناء نظام سياسي ديموقراطي من جهة وتحقيق تنمية مستدامة في المجتمع من جهة أخرى... وهنا بالضبط يقع معنى عنوان "العدالة والتنمية".. وبالتالي فإن على الحركات الاسلامية العربية أن تدرس أكثر ايجابيات وسلبيات النموذج التركي في هذا المجال.. فالقضاء على البطالة والفقر وعلى التهميش المناطقي والاجتماعي وعلى التمييز القومي والاثني والديني، وتحقيق النمو الاقتصادي المترافق مع نهضة حقيقية للريف وللفقراء ومتوسطي الحال، وللتعليم والتربية، وللطبابة والاستشفاء والضمان الصحي والاجتماعي، هو المعيار الوحيد للنجاح الحقيقي في التحول والتغيير نحو الأفضل.. وهنا بالضبط يكمن معيار المفاضلة بين القوى الاسلامية نفسها وهو معيار البرنامج الاقتصادي الاجتماعي الذي يحقق الاستقلال والحرية والكرامة مع العدالة والتنمية والديموقراطية...
ومن المهم والمفيد لكل الحركات السياسية الأخرى التعامل مع التيار الاسلامي كواقع اجتماعي سياسي شرعي له حق الوجود والعمل وحق الوصول الى السلطة كغيره، وعلى قوى اليسار والديمواقراطية والليبرالية التي تخشى على مكتسبات الثورة والربيع أن تعيد تنظيم نفسها ومراجعة خطابها وأدائها وطرح لغة جديدة وبنية جديدة تستطيع معها أن تستعيد حضورها ورياديتها.. ولا تبكي على وصول الاسلاميين الى السلطة، فهذا هو الصح وليس شواذاً أو استثناء.. وكلل وصول الى السلطة (سبقهم اليه القوميون والماركسيون) سيواجه التيار الاسلامي تحديات بناء الدولة والمجتمع، واقامة التحالفات، وصوغ السياسات، وتحديد الاصدقاء والاعداء، وتوضيح البرامج والشعارات، وسيتفاعل معها مثل غيره من التيارات، سلباً وايجاباً.. والنتيجة لن تكون معروفة سلفاً بل هي تتوقف على جهدنا المشترك وعملنا معاً للدفاع عن مكتسبات ثورة الربيع ولصون الأوطان وحفظ وحدة المجتمع ولحماية الديموقراطية والحرية والتعددية ولبناء توافقات وتفاهمات استراتيجية من أجل الوطن والشعب والمواطنة المتساوية في كل بلد، ومن أجل قضايا العرب والمسلمين، وخصوصاً قضية فلسطين، ومن أجل التنمية والتقدم على طريق العدالة الاجتماعية.
لذا فان المطلوب هو التركيز على الشفافية والديموقراطية والمحاسبة والرقابة وعلى الحريات الفردية والعامة وعلى التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ونبذ العنف بكل أشكاله وعلى التنمية البشرية وعلى المجتمع المدني وعلى تشجيع قيام مراجعات نقدية لدى كل التيارات اسوة بمراجعات جماعة الجهاد والجماعة الاسلامية في مصر التي تحولت من العنف الجهادي الى الديموقراطية المدنية السلمية..
والمطلوب من كل القوى وعلى رأسها العلمانية القومية واليسارية والليبرالية، مع الاسلامية، التواضع، والنقد الذاتي، ونبذ التطرف والأصولية، ونبذ العنف والتكفير والتخوين، والدخول في مرحلة مصالحة وطنية شاملة، ومراجعة نقدية جذرية، وتحول سلمي ديموقراطي، ولبناء دولة مدنية عادلة لمصلحة تقدم وازدهار مجتمعاتنا وشعوبنا، ولمصلحة الاستقلال الوطني والتنمية والحرية والديموقراطية مع الكرامة....