الأربعاء، 2 يناير 2013
عائدة تبعث عفيف فراج حياً فتترجم «القمع السياسي»
طلال سلمان
تتجاوز عائدة خداج أبي فراج الموت لتتابع رحلتها مع رفيق عمرها الدكتور الباحث المميز عفيف فراج الذي أعطى الجامعة اللبنانية بعض أغلى سنوات حياته حتى دهمه المرض فانقطع عن التدريس لكنه لم ينقطع عن دراسة أحوال الأمة، وعن متابعة التطورات الفكرية والسياسية، فظل يكتب وينتج حتى النفس الأخير.
ولقد كتب عفيف فراج في الفكر السياسي، بمنظور تاريخي، وحاكم السياسة والأدب وموقع المرأة، ثم توغل في دراسة اليهودية ورؤية انشتين لها ولدولة اليهود، قبل أن يذهب إلى البحث عن الجذور الشرقية للثقافة اليونانية، وأنتج عشرة كتب وضع فيها عصارة فكره وثقافته.
كانت عائدة، شريكة في نتاجه، إذ وفرت له الجو المريح، كما ساعدته في التحضير، ولعله كان يستعين بها كناقدة قبل ان يدفع بأي كتاب جديد إلى دار الطليعة أو دار الآداب لتنشره.
فلما أقعد المرض عفيف فراج تبدت عائدة في أروع صورها: حبيبة وزوجة ومرافقة وممرضة ومؤنسة حتى الشراكة في الوجع...
وبعد رحيل عفيف دأبت عائدة، وهذه المرة مع نجلهما طارق عفيف أبي فراج على جمع آخر ما كتب، وترجما مؤلفه «القمع السياسي وتجلياته في نماذج مختارة من الرواية العربية الحديثة»، وهو بحث كان قد أنجزه عفيف في العام 1982 «حين كان لبنان يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، النسخة الأشد سواداً «للعسكري الأسود»».
تقول عائدة خداج أبو فراج في المقدمة التي كتبتها لهذا الكتاب الذي تكاد تكون شريكة فيه:
«كان يحمل أوراقه وكأنها ولدنا الرابع، وينزل بها إلى الطابق السفلي، يراجع ما كتب على وقع أصوات القذائف التي كانت تستهدف بلدة بعقلين الشوفية الجميلة التي كنا نعلّم في ثانويتها. وما ان بدأ الاسرائيليون بالسؤال عنه وملاحقته حتى كان الهروب من بطشهم هو السبيل المتاح، على غرار أبطال الروايات التي اختارها في بحثه. فكانت وجهته ألمانيا حيث قدم رسالته ونال شهادة الدكتوراه».
ينقسم الكتاب إلى بابين: في الأول، وعبر سبعة فصول، يحاول الكاتب رصد الجذور التاريخية للنظرة الغربية الاستعمارية الانتقاصية للشرق والعودة بها إلى بدايات الصراع القديم والمستمر منذ اليونان القديمة حتى أوروبا الامبريالية الحديثة. لقد نسب الغرب القمع السياسي إلى الشرق وعبّر عنه بمصطلحات ذات مضامين ثقافية ـ عرقية انتقاصية مثل «الاستبداد الشرقي» و«الهمجية الشرقية» ليؤكد ضمنا ان الحرية هي امتياز يعود حصريا إلى الغرب..
أما الباب الثاني فينقسم إلى قسمين: يعرض القسم الأول لمفهوم الحرية في الإسلام القائمة على التوحيد والمساواة، ولكن سرعان ما تتحول السلطة بعد فترة الخلفاء الراشدين الأوائل إلى سلطة اوليغاركية تسلطية في غياب المؤسسات الديموقراطية.. أما القسم الثاني فيتضمن نماذج مختارة من الرواية العربية الحديثة تروي قصص السجون والسجناء و«العسكري الأسود» الذي يستبيح الحرمات ويضرب ويجلد ويلاحق ويغتصب ويعنف ويأكل اللحم الحي..».
في سياق الاستشهاد ترد بعض أقوال أرسطو الدالة على العنصرية ومنها: «ليس في الجماعات غير اليونانية طبقة قادرة بالفطرة على الحكم والقيادة، لأن مجتمعهم يتكوّن فقط من عبيد، ذكورا وإناثا.. وكما يقول الشعراء من المناسب ان يحكم الهلينيون البرابرة، مما يعني أن البرابرة والعبيد هم بالفطرة متطابقون».
... وكان المستعمرون الاسبان والبرتغاليون، بعد الرومان واليونان، أول من جاهر واعترف بمهمتهم التمدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر وتاجروا بالمسيحية التي نشروها بين الهنود الحمر في المناطق التي احتلوها.. وبروح الصليبية المتعصبة قاموا بـ«إطاحة الآلهة الوثنية واستبدالها بالصليب»... وهم ادعوا مهمة «النصرنة»، وميز الفرنسيون أنفسهم بالادعاء أنهم «الأم الحنون» للشعوب المستعمَرَة، وتحدث الألمان عن مهمة شبيهة بالمهمة الفرنسية.
... و«على الرغم من الولاء لليونان واعتبارها «السلف الروحي» للغرب فإن نظرية التقدم اللولبي للتاريخ ليست يونانية المصدر بل هي يهودية. ان فولتير وهو أول من قاس إنجازات أوروبا بمقاييس غير أوروبية استطاع ان يدرك الصلة مع النظرة المركزية ـ الاثنية العبرية للتاريخ التي صورت ان كل الأحداث هي «مقدرة من أجل تعزيز شعب الله المختار»».
وينتقل عفيف فراج في الفصل الخامس إلى «الرد على التحدي الغربي ـ الاستعماري: الاستشراق معكوسا»، فيأخذ على ادوار سعيد في نقده للاستشراق كنظام مثقل بالمفاهيم الامبريالية العرقية التي تشد وتؤكد الأوهام المزمنة حول «الاستبداد الشرقي» أنه وقع في الأخطاء نفسها التي كان سعيد قد سبق وأبرزها بوضوح حول منهج المستشرقين دعاة المركزية الأوروبية في مقاربتهم للشرق.
ويشير فراج إلى أنه طالما اندمج دعاة الحركة الإسلامية بدعاة القومية العربية.. فقد ضم التيار الأصولي الإسلامي الذي أسسه الأفغاني أشخاصا مثل محمد عبده، رشيد رضا، شكيب ارسلان، محمد طلعت حرب (مؤسس البنك المصري) مصطفى كامل، علال الفاسي، حسن البنا والسيد قطب ومحمد قطب (المنظرين البارزين للاخوان المسلمين).. وبين مآثر هذا التيار الانتفاضات المسلحة ضد كل أنواع الانتهاكات الامبريالية كانتفاضة عبد القادر الجزائري، والوهابية في شبه الجزيرة العربية، والسنوسية في المغرب، والمهدية في السودان، وثورة عمر المختار في ليبيا وصولا إلى الثورة الجزائرية... فأولئك الذين أسسوا «القومية العربية»، على الجذع الإسلامي لم يكونوا أكثر عروبة من كونهم إسلاميين ولا أقل عداء للغرب من الإسلاميين الراديكاليين...
يستشهد فراج بلويس عوض الذي يقول: «لو لم يتخذ الأدب والفن والثقافة الرسمية هذا الموقف العدائي الاستبدادي من أدبنا الشعبي الثمين الذي يشمل الملاحم والمواويل والحكايات والأساطير والمعتقدات وسواها لكنا ننعم بأدب وفن رفيعي المستوى» يستذكر هنا ان القيمة الأدبية والعبقرية الخلاقة للعامة قد أنتجت اضافة إلى «ألف ليلة وليلة» سيرة عنترة بن شداد و«تغريبة بني هلال» و«سيف بن ذي يزن» و«الظاهر بيبرس» وغيرها.
في الفصل الثاني عشر يعرض عفيف فراج متجليات القمع السياسي في نماذج رئيسية مختارة من الرواية العربية الحديثة... ويقتبس فقرات من روايات ليوسف ادريس ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني وصنع الله ابراهيم وصلاح حافظ، من مصر، وتيسير سبول وفاضل الغزاوي من الأردن، وحنا مينا وحيدر حيدر وهاني الراهب من سوريا، وجبرا ابراهيم جبرا وغالب طعمه فرمان وعبد الرحمن مجيد الربيعي وبرهان الخطيب وعبد الرحمن منيف من العراق، وغسان كنفاني ويحيى يخلف من فلسطين، وحليم بركات من لبنان.
أما قيمة القمع السياسي فنادرة أو لا وجود لها تقريباً في الرواية اللبنانية، لكن المجتمع اللبناني يعاني معضلة الهوية الوطنية الثقافية، فالديموقراطية اللبنانية قامت على التوازن الطائفي، ثم ان الانقسام الديني الثقافي والوطني حول الهوية الوطنية قد تعرض لنقد عنيف في عدد من الروايات، ومنها «أنا أحيا» لليلى بعلبكي، و«طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد و«بيروت 1975» لغادة السمان.
ويختم عفيف فراج: لم يكن القمع السياسي يوما ميزة حصرية لبلد أو دين أو عرق أو منطقة جغرافية معينة. انه شر مارسته كل الامبراطوريات والوجه السلبي لكل السياسات الامبريالية. وباختصار هو معضلة عالمية وليست شرقية فقط.