بقلم: سعود المولى
برحيل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله تقفل دائرة المرجعيات الفكرية والحركية للإسلام الشيعي المعاصر.. كما تفقد حركة التحرر الوطني العربية والحركة الإسلامية العربية برحيله علماً من أعلام الثورة والمقاومة والتغيير.. وينطوي معه جيل من العظماء الخالدين كما تنطوي صفحة مجيدة من تاريخ الفكر الشيعي المستنير في هذا العصر..
غير أن الخسارة الأكبر والأبرز هي خسارة فلسطين وشعبها وثورتها لرجل نذر حياته في سبيل أعدل وأعظم قضية إنسانية عربية إسلامية.
فضل الله بين قم والنجف وتياراتهما
كانوا مجموعة خماسية ذهبية جمعتهم النجف في منتصف القرن العشرين: محمد باقر الصدر (استشهد 1980)، محمد مهدي الحكيم (استشهد 1988)، محمد مهدي شمس الدين (توفي 2001)، محمد باقر الحكيم (استشهد 2003)..وآخر العنقود السيد محمد حسين فضل الله..
لم يكن معظمهم قد تجاوز العشرينات من عمره...ولم يكن موسى الصدر واحداً منهم في ذلك الوقت.. وهو تركهم على كل حال في العام 1959 ليعود إلى لبنان وينخرط في تثبيت ركائز خطه الوطني الليبرالي الإصلاحي.. فيما بقي الخمسة في النجف يؤسسون معاً حزب الدعوة في العام 1957 وجماعة العلماء في العام 1959 ومجلة الأضواء في العام 1960... وكان هؤلاء الخمسة يعملون معاً تحت جناح مرجعية السيد محسن الحكيم ومدرسة النجف التقليدية في حين إنتمى موسى الصدر إلى التيار الإصلاحي المجدد في إيران.. فهو رافق وزامل رموز الحركة الإسلامية الإيرانية المدنية ( حركة تحرير إيران وقادتها: آية الله طالقاني، مهدي بازركان، مصطفى شمران، علي شريعتي، إبراهيم يزدي..وهي حركة إصلاحية تنويرية كانت استمراراً وتطويراً لحركة الرئيس مصدق وتيارها المسمى الجبهة الوطنية) ..كما أنه كان على صلة أيضاً بالمرجع الكبير المعتدل والليبرالي آية الله كاظم شريعتمداري.. ولم يكن موسى الصدر من نفس جيل شمس الدين وفضل الله ومحمد باقر الصدر (ثلاثتهم من مواليد عام 1935 أو 1936).. وهو حين جاء النجف عام 1953 فإنما جاء لتثبيت إجتهاده ومرجعيته وقت كان الخمسة يتتلمذون على محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي والمشايخ من آل ياسين (أخوال محمد باقر الصدر وهو إبن عم السيد موسى وزوج شقيقته)... وفي حين أن شمس الدين وفضل الله ولدا ودرسا في النجف واكتسبا عاداتها الفقهية والأدبية واللغوية، وحملا مزاج النجف التقليدي الحوزوي من جهة والأدبي العربي الشاعري من جهة ثانية والشيعي العربي الثوري من جهة ثالثة، حمل موسى الصدر مزاجاً إيرانياً حداثوياً إصلاحياً ليبرالياً وطنياً دولتياً...وفي حين كان شمس الدين فلاحاً فقيراً لا يجد ثمن الرغيف في النجف التي تركه فيها والده وعاد إلى جبل عامل لمواكبة التطورات الناجمة عن نكبة فلسطين (1948).. كان فضل الله سليل أسرة دينية ذات وجاهة إجتماعية في منطقة بنت جبيل (والده علامة كبير وخاله النائب والوزير الشهير علي بزي، كما أن المرجع السيد محسن الحكيم هو في الوقت نفسه زوج خالته)..
في ذلك المفصل التاريخي الخطير الذي شكلته سنوات 1953-1959 (سنوات تزامل موسى الصدر مع الخماسي الذهبي في النجف)، كانت البلاد العربية تغلي بالتطورات المتلاحقة التي حملت اسم فلسطين وعنوان التحرر والوحدة.. وكانت إنقلابات سوريا(1949) ومصر(1952) ومعركة الأحلاف، وخصوصاً حلف بغداد (1953-1955) وانطلاق الثورة الجزائرية (1954) ثم العدوان الثلاثي على مصر (1956) فالوحدة المصرية السورية (1958) وثورة 14 تموز في العراق ونزول القوات الأجنبية في لبنان والأردن (1958)، قد جعلت لبنان ومحيطه موقعاً لصراع دولي من جهة أولى (روسي-أميركي أو شرقي-غربي) ولصراع عربي من ناحية أخرى (سعودي- ناصري- هاشمي)...فالتيار القومي العربي (الناصري والبعثي) كان يواجه التيار السعودي من جهة والتيار الهاشمي من جهة أخرى، كما كان يواجه التيارات الشيوعية والإسلامية الناهضة والمندفعة..وقد عمل شاه إيران في تلك الأيام على ربط الشيعة به ومن ثم بالأحلاف الغربية، يعاونه مسعى هاشمي (أردني-عراقي) وسياسة لبنانية رسمية (الرئيس كميل شمعون وحليفه الحزب القومي السوري)...وقد انقسم شيعة لبنان بين هذين التيارين العربيين الكبيرين وممثليهم المحليين (ثورة 1958 تقدم لنا إشارات واضحة حول الانقسام الشيعي رغم النفوذ الجماهيري للناصرية في الشارع)...وفي خضم هذه التيارات والتحركات شهد العراق نهضة ثقافية وسياسية هائلة كان النجف مركزها والمراجع الكبار محورها... فمع السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وولديه مهدي ومحمد باقر، ومع الشيخين الأخوين محمد رضا ومرتضى آل ياسين، والسيد محمد صادق الصدر (ابن عم السيد موسى وجد السيد مقتدى)، تشكلت حلقات الدراسة والتفكير ووضعت برامج الحركة والعمل بدءاً بجمعية منتدى النشر المبكرة ، ومن ثم جماعة العلماء ومجلتها الأضواء التي كتب أولى إفتتاحياتها باقر الصدر ثم شمس الدين ثم تولاها فضل الله لوحده حتى توقفها؛ ووصولاً إلى حزب الدعوة أهم وأكبر حزب شيعي عربي... وكانت الأجواء العربية الملتهبة حافزاً للطلبة والعلماء في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء إلى البحث عن أطر مناسبة للتحرك الإسلامي الجاد يلبي إحتياجات الشيعة العراقيين من جهة (وهم كانوا حرموا أية مشاركة في الحكم رغم ثوراتهم التاريخية ضد الاحتلال البريطاني)، ويواجه الإتجاهات الحديثة التي كانت تغزو بسرعة عقول وقلوب الشباب في مواجهة الملكية والاستعمار (المقصود الإتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية، والماركسية منها تحديداً)... وكانت مرحلة النجف مليئة أيضاً بالتحولات الفكرية التي كانت تعيشها النخب الدينية الشيعية وأهمها ذلك الحراك السياسي الإصلاحي الإيراني الذي كان السيد موسى الصدر مرتبطاً به منذ مرحلة الرئيس مصدق.. فالمعروف أن القيادات الدينية الشيعية وقفت مع مصدق ضد الشاه الذي انتصر بدعم أميركي كبير وعاد إلى الحكم في 19 آب 1953.وقد أدى انهيار حركة مصدق الوطنية إلى نشوب صراعات بين قوى الجبهة الوطنية وقوى علماء الدين وعلى رأسهم آية الله كاشاني وحركة فدائيي إسلام (نواب صفوي).. دعم آية الله كاشاني وصدر الدين الصدر (والد السيد موسى) وآية الله الخوانساري حركة نواب صفوي إنما بتحفظ بسبب تطرف الفدائيين، في حين كان المرجع الكبير حسين البروجردي يعلن عن عدم رضاه عن تصرفاتهم. وبعد وفاة كبار المراجع في قم (البروجردي والخوانساري وصدر الدين الصدر) برز العلماء شريعتمداري والحكيم والكلبايكاني ومرعشي نجفي والخوئي.. إلا أن السيد محسن الحكيم أخذ محل البروجردي كمرجع أوحد في عصره.. وعن ذلك يكتب الشيخ هاشمي رفسنجاني صراحة أنه "حدثت بعض المشكلات بين السيد الخميني وآية الله البروجردي... وقامت منافسة بين نشرتنا "مكتب تشيع" وبين نشرة "مكتب إسلام" التي كان يديرها متقدمون علينا حوزوياً ومن أنصار شريعتمداري... لو أن الإمام الخميني في عصر السيد البروجردي تدخل في الصراعات السياسية لما نجح، لعدم الانسجام بينهما...في عصر البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له...وكان هو المرجع المطلق في باكستان وأفغانستان والعراق والخليج.. وأسس دار التقريب بين المذاهب ومركز هامبورغ الاسلامي...الخ..." (كتاب رفسنجاني: حياتي.دار الساقي،بيروت،2005،ص32-33-36-38-39).والجدير ذكره هنا أن الإمام الخميني تجنب الإعلان عن إقامة مجالس عزاء للبروجردي(على مقتضى ما جرت به العادات) "خوفاً من ظهور شائبة من الشوائب ولم يكن راغباً حتى في كتابة رسالة"(( رفسنجاني: حياتي، ص49).إن هذا الأمر يكشف لنا عن حقيقة الصراعات في قم وأطرافها ومواقعهم وأدوارهم. ومن رحم هذه الصراعات ولدت حركة نهضت آزادي (حركة تحرير إيران-1960) وقائدها مهدي بازركان وآية الله طالقاني والدكتور ابراهيم يزدي والدكتور علي شريعتي، "وهم كانوا يعطون أهمية كبيرة للإنفتاح الفكري ولإرضاء المثقفين المتنورين.. والعلماء وتجار البازار المتدينين"..(رفسنجاني، ص60). وأسس آية الله شريعتمداري دار التبليغ وهدفه "إيجاد مراكز تعليم أكثر تنظيماً متعددة البرامج داخل الحوزات التقليدية... وكان قانعاً بإلقاء الدروس والأبحاث والتبليغ والمهام الدينية.."(رفسنجاني، ص106-107). وكان السيد الحكيم يؤسس في العراق المكتبات العامة ويقوم بتحديث التدريس الحوزوي والإحتفالات بمناسبة عاشوراء يساعده ولداه مهدي ومحمد باقر، ومعهما السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله....
فضل الله وحزب الدعوة
والى تأثير هذا الحراك الفكري العلمائي في النجف، وتأثير حركة مصدق في إيران والتي أسقطتها المخابرات الأميركية، جاءت تجارب لبنان (ثورة 1958) والجزائر (إنطلاق جبهة التحرير الوطني) وفلسطين (حركة التحرير الوطني-فتح) لتضيف وعياً كبيراً إلى تحرك شباب الحوزات والطلبة والعلماء في النجف الذين كانوا في وعيهم كما في ممارستهم شهداء على قوة تأثر النجفيين بالتجربة الإيرانية الشديدة الوطنية كما بالتجربة الجزائرية والتجربة الفلسطينية الوليدة، وهما تجربتان وطنيتان صافيتان لا بل أنهما تشكلتا من رحم الإعتماد على الذات الوطنية (تجربة الجزائر المتميزة بمزيج إسلامي – جزائري شديد الخصوصية و تجربة حركة فتح التي خرجت قياداتها من رحم الإخوان المسلمين وعلى أساس الوطنية الفلسطينية).. وقد عرف عن الإمام موسى الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بفرانز فانون وعلي شريعتي وبثوار الجزائر وفتح بقدر تأثره بالدراسة الحوزوية (وأساتذته فيها) وبالتجربة الإيرانية الوطنية-الإسلامية...في مثل هذه الأجواء ولدت فكرة تشكيل حزب إسلامي شيعي في العراق أسوة بالإخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة فتح وجبهة التحرير الجزائرية وحركة تحرير إيران ومنظمة فدائيان إسلام الإيرانية (وقائدها نواب صفوي المتأثر بحسن البنا)... وقد رأى الداعون إلى هذا العمل ضرورة النهوض بأعباء المرحلة وفي مقدمتها طرح الإسلام كعلاج للأزمات الاجتماعية السياسية في مقابل التيارات الفكرية الأخرى التي كانت تستقطب شباب العراق، ومواجهة هذه التيارات بنفس الأسلوب الحركي التنظيمي الهادف إلى إيجاد وسائل للوصول إلى قطاعات في المجتمع كان يصعب الوصول إليها من خلال العلماء والطلبة الحوزويين في ذلك الوقت (مثل قطاعات الموظفين الحكوميين والطلبة الجامعيين في المدن الكبرى وأصحاب المهن الحرة وظباط وجنود الجيش)... وفي تلك المرحلة بالضبط بدأ المشروع الإصلاحي اللبناني للإمام الصدر بالتبلور... فهو عايش معايشة وثيقة الحلقة الضيقة المؤسسة والقائدة لما أصبح فيما بعد حزب الدعوة... إذ في منزل السيد محسن الحكيم أو ولديه مهدي ومحمد باقر، أو في منزل السيد الخوئي نفسه، أو الشيخ مرتضى والشيخ محمد رضا آل ياسين، كانت تعقد الإجتماعات التأسيسية وبحضور أبناء السيد محسن ووكلائه الأساسيين (محمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الصدر ومرتضى العسكري ومحمد صادق الصدر ومحمد حسين فضل الله وعبد الهادي الفضلي ومحمد بحر العلوم وطالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل ومحمد صادق القاموسي ومحمد صالح الأديب.. ومن حلقة أخرى أحدث: عارف البصري ومحمد هادي السبيتي ومحمد مهدي الآصفي وكاظم الحائري وعلي الكوراني). غير أن السيد موسى الصدر لم يكن مرتاحاً للعمل وفق النمط الحزبي الإسلامي الحركي للإخوان المسلمين أو حزب التحرير...خاصة وأن بعض كبار مؤسسي حزب الدعوة كانوا ينتمون في البداية إلى هذين الحزبين (عارف البصري ومحمد هادي السبيتي وطالب الرفاعي على وجه الخصوص).. كما أن التوجهات الفكرية والتنظيمية الأساسية للحزب الجديد جرت صياغتها إستناداً إلى كتابات الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمصري سيد قطب والفلسطيني تقي الدين النبهاني.. وكان السيد الشهيد محمد باقر الصدر متأثراً بكتاباتهم إلى حد كبير وكذلك السيد فضل الله (لاحظ كتابه منطق القوة في الإسلام، وكذلك كتاباته الحركية في مجلة المنطلق).. وهذه حقيقة أكدها لي مراراً الإمام شمس الدين كما أشار إلى دور المجلات المصرية التي كانت تصل إلى النجف في تلك الأيام (خصوصاً مجلة الرسالة التي كانت تنشر رسائل سيد قطب من أميركا)...كما أن الإمام الكبير آية الله حسين منتظري أكد لي في أحاديث كثيرة تأثير سيد قطب عليهم في قم والنجف ومحاولتهم التوفيق بينه وبين عبد الناصر.. وقال منتظري انه يوم إعدام سيد قطب (29 آب 1966) بكى بحرقة وهو في السجن في طهران...وقد روى أكثر من مرجع إيراني وعراقي تأثرهم بالثورة الجزائرية وبتجربة جبهة التحرير الوطني (وقد ظلت العلاقة المميزة بين حركة أمل والجزائر إلى يومنا هذا تأسيساً على ما بدأه الإمام الصدر في باريس مع علي شريعتي وفرانز فانون)....
وحين قرر السيد موسى الصدر الرجوع إلى لبنان كانت قد نضجت في رأسه واختمرت فكرة العمل الذي كان ينوي القيام به... وقد أخبرنا الإمام شمس الدين أن الفكرة نضجت بالتشاور مع السيد محسن الحكيم الذي أعطى الإمام الصدر وكالة عامة وتفويضاً كاملاً.. ولم تمض فترة على عودة الصدر إلى لبنان (1959) حتى اندلعت الخلافات والصراعات داخل حزب الدعوة الأمر الذي أدى إلى طلب السيد محسن الحكيم من أبنائه والمخلصين له الإنسحاب من الحزب.. فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (إثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد موسى الصدر)، ثم انسحب الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعهم آخرون.. إلى أن أعلن السيد الشهيد محمد باقر الصدر فتواه التاريخية بعدم جواز إنتساب علماء الدين وطلبة العلوم الدينية إلى أي حزب كان إذ هم يعملون للإسلام أي لكل الناس... وما زالت هذه الوقائع في أساس السجالات والخلافات بين أجنحة حزب الدعوة والمجلس الاسلامي الأعلى في العراق وما بينهما إلى يومنا هذا.. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام موسى الصدر ومنذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف وأوضاع الشيعة ولحاجات التنظيم والاستنهاض التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية. هكذا إذن تبلور تيار حزب الدعوة الذي بدأ يعمل في لبنان ، وفي مقابله تيار العمل الإصلاحي الذي مثله موسى الصدر بداية، ثم محمد مهدي شمس الدين.. على فروقات بينهما.. فالأول ظل وفياً للتيار الليبرالي الإصلاحي الإيراني ورموزه التي سلّم أحدها (الشهيد الدكتور مصطفى شمران) مقاليد تنظيم وعسكر حركة المحرومين...في حين إنتقل الثاني من مرجعية السيد محسن الحكيم إلى العمل مع الصدر في لبنان (المجلس الشيعي)، مع البقاء على صلة بحزب الدعوة، حتى كان الفراق بين شمس الدين وفضل الله بعد العام 1983 إثر دخول العامل الإيراني وتشكيل حزب الله بصلة وثيقة مع حزب الدعوة...
إذن: جمعتهم النجف وفرقتهم السياسات الحزبية والوضع المفتوح في لبنان..
حين عاد فضل الله إلى لبنان (1966) باشر بتأسيس حيزه الحركي الخاص من خلال العمل على مستويين: مستوى بناء كوادر الدعوة، ومستوى بناء المؤسسات.. فكان مميزاً في المستويين.. وحين عاد شمس الدين في العام 1969 باشر هو أيضاً بتأسيس حيّزه المستقل (الجمعية الخيرية الثقافية)، إلا أنه شارك في البداية فضل الله عمله الدعوي والمؤسساتي بتوجيه من المرجع الحكيم ثم الخوئي (1969-1983)، ثم حاول الجمع بين فضل الله وموسى الصدر (1975-1978)، ليفترق نهائياً عن فضل الله بعد تشكيل حزب الله (1983) برعاية إيرانية مباشرة، ولتتوسع الشقة بينهما بعد حرب أمل- حزب الله (1988-1991)....وبين العامين 1978-1983 كان شمس الدين وفضل الله معاً في طليعة الذود عن الثورة الفلسطينية ثم عن الثورة الإيرانية.. وقد أطلقا معاً دعوة المقاومة والجهاد بعد إجتياح صيف 1982 في إحتفال عاشوراء في الكلية العاملية ببيروت تحت إسم المقاومة المدنية الشاملة التي كان أحد قادتها الشيخ الشهيد راغب حرب.
فضل الله بين فلسطين وإيران
يّذكر للسيد فضل الله في مرحلة 1966-1988 وقوفه إلى جانب الثورة الفلسطينية في وجه كل محاولات ترويضها وضربها..ولا ينسى الفلسطينيون موقفه إبان حرب المخيمات في لبنان (1985-1987) وفتاويه التي إستهدفت إثارة الرأي العام وتنويره وتوجيه الإنتباه إلى لا إنسانية الحرب على المخيمات..وموقف فضل الله هذا هو في الحقيقة إستمرار تاريخي مع موقف المرجع الكبير محسن الحكيم (توفي 1970) الذي أفتى بجواز دفع الخمس لمجاهدي الثورة الفلسطينية وبجواز التطوع في صفوف حركة فتح وذلك خلال المظاهرات المليونية التي جابت شوارع بغداد والنجف وكربلاء إثر معركة الكرامة الخالدة (21 آذار 1968). وموقف فضل الله تكامل من جهة أخرى مع موقف رفيق دربه محمد مهدي شمس الدين الذي ألقى كلمة السيد محسن الحكيم في جموع المتظاهرين وخطب وتكلم في طول العراق وعرضه ثم في جنوب لبنان خلال سنتي 1968-1969 داعياً إلى دعم الثورة الفلسطينية وحركة فتح وإلى إطلاق حرب تحرير شعبية هي الطريق الوحيد لفلسطين والوحدة العربية..وهذه المواقف الشيعية العربية كانت تدعو في الواقع إلى مناهضة شاه إيران حليف اميركا وإسرائيل وإلى دعم حركات التحرير الإيرانية التي ارتبطت دائماً بالقضية الفلسطينية : من نواب صفوي وفدائيان إسلام إلى جبهة مصدق الوطنية إلى حركة تحرير إيران وعلي شريعتي إلى جماعة الإمام الخميني وعلى رأسهم الشيخ رفسنجاني والسيد خامنئي (وقد ترجما كتب فتح وعرفات)..والسيد مير حسين موسوي والسيد علي أكبر محتشمي بور، إلى الدور التاريخي الكبير للشيخ حسين علي منتظري صديق فلسطين وثورتها..وصولاً إلى مواقف السيد موسى الصدر الذي أقام إفطاراً رمضانياً على شرف حركة فتح في كانون الأول 1968 والذي طرح شعار "إسرائيل شر مطلق" وأطلق حركة مقاومة لبنانية لتقف إلى جانب حركة الشعب الفلسطيني.. وهو صاحب القول الشهير الموجه إلى ياسر عرفات في مهرجان اليونسكو الشهير "إني أرى وجه الحسين في عينيك"...
ويوم انتصرت الثورة الإيرانية رفع الفلسطينيون شعار: اليوم إيران وغداً فلسطين...
إلا أن رياح التاريخ جرت في سياقات أخرى وصبت في مجرى آخر..
مع الثورة الإسلامية الإيرانية جرت تحولات كبرى في الوضع الشيعي نتج عنها الإعلان عن حل حزب الدعوة اللبناني (1981) ثم البدء بالعمل على تأسيس حزب الله والمقاومة الإسلامية... وهنا كان فضل الله على موعد مع التاريخ الذي سطع فيه نجمه وجعله يبرز كمرشد روحي للحزب وكفقيه داعم للثورة الإيرانية من جهة وللمقاومة الإسلامية في لبنان من جهة أخرى..
وقد كلفه موقفه المتماهي مع إيران والحاضن للحزب والمقاومة محاولات إغتيال كانت أشهرها وأعنفها تلك التي جرت في بئر العبد في آذار 1985 والتي سقط ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين...وقد كتب الصحفي الأميركي بوب وودوارد يومها في كتابه (الحجاب) عن دور المخابرات الأميركية في تمويل تلك العملية.. ومع ذلك إستمر فضل الله في موقفه العنيف والعنيد المعارض للسياسات الأميركية في المنطقة والمجاهر باحتضانه لكل أشكال المقاومة والممانعة مع التركيز على الوحدة الإسلامية في زمن الفتن الطائفية والمذهبية التي إبتدأت مع حروب زواريب بيروت ثم حرب المخيمات ثم حرب أمل-حزب الله ..لتتواصل في غيرها من الحروب الأهلية الداخلية اللبنانية والعربية على السواء، إلى يومنا هذا..
إلا أن منعطفات وتحولات جديدة جعلت السيد فضل الله يفترق لاحقاً عن إيران وعن الحزب وذلك حين طرح رسالته العملية ومرجعيته الفقهية في ظرف كان فيه الإيرانيون يجمعون الدعم والتأييد لمرجعية السيد خامنئي... فبعد وفاة الإمام الخميني (3 حزيران 1989) أُنتخب السيد علي خامنئي كقائد ومرشد للثورة في حين أنه لم يكن مرجعاً للتقليد بعد (جرى تعديل الدستور من أجل إنتخابه بحيث صارت المادة لا تنص على وجوب كون القائد الولي الفقيه مرجعاً للتقليد أي الأعلم بين علماء زمانه)..وقَبِل السيد فضل الله هذا الحل واستمرعلى علاقته بإيران وبالولي الفقيه الذي طلب من حزب الله الصلاة خلف فضل الله في صلاة الجمعة عند إفتتاحه مسجد الحسنين في حارة حريك..ولكن الأمور تغيرت بعد وفاة المراجع الكبار في قم والنجف.. ففي العام 1992 توفي المرجع الخوئي فقرر الخامنئي طرح نفسه كمرجع إلا أنه لم يستطع فرض نفسه إلا بعد وفاة الآراكي (1994)...وتوفي خلال ذلك وبعده المرجع الكلبايكاني ثم المرجع السبزواري...وللتمهيد لمرجعية الخامنئي عيّنت جمعية مدرسي حوزة قم سبعة مراجع للتقليد بينهم الخامنئي دون فضل الله (الدعوة لمرجعية الخامنئي انطلقت على يد علماء لبنانيين أبرزهم الشيخ محمد يزبك )..وفي حين أعلن حزب الله وقسم كبير من حزب الدعوة إلتزام قيادة الخامنئي وولايته ، أعلن فضل الله تصديه لمنصب المرجعية..واختاره حزب الدعوة مرجعاً له وفقيهاً معتمداً..ثم قرر الحزب تبني رأي فضل الله حول تعدد الولاية : "فكما يمكن أن يكون للإمام (المهدي المنتظر) في حال حضوره أن يحكم عدة أقاليم وله في كل منها نائب فإنه يمكن كذلك أن يكون له في حال غيبته عدة نواب أيضاً...فالأصل في الولاية النائبة عن الإمام (المهدي) تعدد الولي إلا إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عليا تفرض وحدته وكانت الوحدة واقعية" (صدرت الفتوى في 13-9-1998)..
وكان فضل الله يحظى بمقلدين وبسمعة كبيرة لم تكن كافية لدى علماء قم والنجف لتثبيته كمرجع معترف به...يومها شنت عليه حملات تجريح قاسية (1997-1998) ولم تنصلح العلاقات بينه وبين الحزب وإيران حتى العام 2005-2006..
فضل الله الإنسان والمناضل
تختلف معه (وأنا كنت من الذين اختلفوا معه وفارقته بعد عمل دام سنوات وانتقلت للعمل مع رفيق دربه السابق الشيخ شمس الدين)...إلا أنك لا تستطيع إلا ان ترفع آيات التقدير والمحبة لهذا الإنسان الكبير في إنسانيته..والمناضل المرّ دفاعاً عن إلتزاماته.. فهو، في لحظات الخلاف كما في حالات الوفاق، لا يشعرك بأي سلبية أو إمتعاض،لا بل وحتى في أشد لحظات الخلاف والصراع حراجة وقساوة (وما أكثرها تلك التي باعدت بينه وبين شمس الدين، وبيني وبينه بالتالي)...
مع السيد فضل الله ومع الشيخ شمس الدين، كنت تشعر وكأنك تجالس وتحاور أحد كبار علماء بغداد والبصرة والكوفة والنجف القدامى التاريخيين الطالعين من بطون الكتب وعبق السماحة..
من إنجازات السيد فضل الله المهمة تلك المؤسسات التي تشهد له بالكفاءة التنظيمية والمقدرة القيادية والإدارية التي قل مثيلها في عالمنا العربي...ومؤسساته صارت مضرب المثل في كل البلدان وفي مختلف القطاعات...
ومن إنجازاته أيضاً فكره السياسي المتوثب أبداً نحو مواجهة الإشكاليات والتحديات..بحيث كان له الأثر الأكبر في تفكير ووعي وممارسة الدعاة الحزبيين الإسلاميين في الوسط الشيعي لا بل وحتى السني العربي..وهو تأثر في شبابه النجفي، (مثل رفيق دربه باقر الصدر)، بكتابات سيد قطب والمودودي كما بتجربة الإخوان وحزب التحرير..إلا أن فضل الله كان من الذين فلسفوا وعمقوا فكر العمل الحزبي الإسلامي الشيعي في مقالاته الشهيرة في مجلة المنطلق مطلع الثمانينيات كما في كتبه الكثيرة ومؤلفاته الفقهية والسياسية التي كانت تستجيب لقضايا المرحلة التاريخية..ولعله حافظ على صلة ما بحزب الدعوة كما يبدو من إستمرار أطراف حزب الدعوة المتصارعين والمنشقين في الرجوع إليه ونشدان تحكيمه..
ومن إنجازاته أيضاً تحديه الجريء للممنوعات والمحظورات الفقهية الشيعية.. ولم يسبقه في ذلك أحد من كبار العلماء.. حتى أنه واجه معارضات تقليدية شرسة وصلت حد تكفيره أو الحكم بضلاله وابتداعه أموراً ليست من الدين...وأنا لا أقصد هنا مواقفه من مسألة إسالة الدماء في مواكب عاشوراء وهو موقف سبقه إليه معظم مراجع الشيعة الكبار وأشهرهم السيد محسن الأمين مطلع القرن العشرين.وإنما أقصد جرأته على مواجهة قضايا عقيدية تشكل الأساس الأيديولوجي للهوية الشيعية ولحمتها ومركز إستقطاب مشاعرها وعواطفها.. وهو يذكرك في ذلك بكبار عصر التنوير الأوروبي وفلاسفة الموسوعة الفرنسية...
ولعل السمة الأبرز من سمات المرجع فضل الله بقاء مرجعيته قريبة من الناس ومن الكوادر الحزبية ومن شباب المقاومة..وهو في ذلك لم يكن كغيره من العلماء والمراجع وقد شذ عن خصوصيات المرجعية التقليدية في النجف كما عن خصوصيات القيادة السياسية اللبنانية..
رحم الله العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله...
سنفتقده علماً من أعلام الفكر الإسلامي الحركي المقاتل ضد الظلم والإستغلال وضد الإستعمار والصهيونية..
سنفتقده صديقاً صدوقاً لفلسطين ملتزماً حتى النهاية ثورتها وشعبها وقضيتها..
رائداً من رواد الحوار والتفاهم بين الناس بالتي هي أحسن، وداعية إلى الكلمة السواء بالنصيحة والموعظة والكلمة الطيبة...وعاملاً على التقريب بين المذاهب والفرق وبين الطوائف والديان، ومن أجل الإنسان... حيث جعله منطلق فقهه وكلامه وعمله..
سنفتقد جرأته وصبره وعناده في تقديم الجديد ومقارعة التقليد والجمود..وكم نحن بحاجة إلى علماء ومثقفين لا يخجلون من الحلم بالتغيير ومن الحلم بالمستحيل...
سنفتقد ذائقته الأدبية واللغوية، وشاعريته المرهفة، وحساسيته النبيلة، وهذه تُذكرني بشاعرية وحساسية وذائقة رفاقه في النجف السيدين محمد حسن الأمين وهاني فحص وقد نظم أولهما الشعر مثله وشارك الثاني في تذوقه ونقده، واعترفا له معاً بالسبق وبالتميّز..
سنفتقد صلابته التي تشبه صلابة كبار المناضلين الماركسيين واليساريين والأمميين من الجيل الثوري الذي حمل أحلام الثورة والتغيير والمستحيل...
سنفتقد موقفه الممانع للإستكبار والطاغوت والمقاوم لتجسداتهما المادية العيانية في الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين وفي العولمة الإمبريالية الجائرة..
سنفتقد وعيه وإدراكه لضرورة صياغة مشروع نهضوي حضاري تاريخي يشارك فيه الجميع ومن مواقعهم المختلفة،وعلى الأسس التي طرحها هو والتزم بها في مسيرته، ومن أجل الحرية والكرامة والوحدة لفلسطين والعرب ولكل الناس...