في عيد الميلاد 25 كانون الأول 2009 صدرت وثيقة "وقفة حق" ، عن مجموعة من الفلسطينيين المسيحيين بينهم مطارنة وقساوسة وكهنة وآباء، أرادوها صرخة إحتجاج غاضبة على المأساة التي يعيشها شعب فلسطين، ودعوة الى حوار وتفكر وتدبر على المستوى الفلسطيني والعربي، بعد أن وصلت الأوضاع الفلسطينية إلى حائط مسدود بسقوط كل أوهام وأحلام واحتمالات السلام..
استعرضت الوثيقة هموم الشعب الفلسطيني ومعاناته : من جدار الفصل العنصري، الذي صادر الأرض وحوّل المدن والقرى الى سجون وكانتونات..الى المستوطنات التي تسيطر على الموارد وتقتل البشر وتدمّر الحجر، الى المذلّة والهوان عند الحواجز العسكرية، الى قضايا اللاجئين في بلدان الشتات، الى الأسرى وعددهم أكثر من عشرة آلاف في سجون الاحتلال، الى الاستخفاف الاسرائيلي بالشرعية الدولية، الى الظلم التاريخي بحق فلسطينيي "اسرائيل" (فلسطين 1948)، الى الهجرة القاتلة التي تصيب أكثر ما تصيب المسيحيين، وأخيراً الى القدس المهددة بالتهويد والضياع..
كما قدمّت الوثيقة قراءة نقدية شجاعة في المواقف الفلسطينية المتنوعة والمختلفة حيال أسلوب مقاومة الاحتلال: أكان موقف السلطة الوطنية التفاوضي أم موقف حماس المسلّح.. وقد أخذت الوثيقة مسافة واعية محبة وناقدة للموقفين معاً، إذ هما تسلما قيادة البلاد والعباد، ووصلا معاً إلى الحائط المسدود.. الا ان الوثيقة تحملّ المجتمع الدولي مسؤولية الانقسام الفلسطيني وتداعياته حين لم يقبل هذا المجتمع بالتعامل مع نتائج انتخابات 2006...
والوثيقة هي من ناحية ثانية كلمة إيمان مسيحي تحمل الهمّ الفلسطيني إلى مستوى اللاهوت حين تقدّم فهماً فلسطينياً ومسيحياً لمسألة "الوعد بالأرض"، فتقول أنه لم يكن عنواناً لبرنامج سياسي، بل مشروعاً لخلاص كوني شامل حمل رسالته كل الأنبياء وتجسد في الديانات التوحيدية الثلاث.. وفلسطين هي اليوم مكانٌ وزمانٌ لظلم مزدوج اذ ان التكفير عن الظلم الذي لحق باليهود لا يكون بظلم أشنع على حساب فلسطين... وبالتالي فالوثيقة تدين أولئك الذين يستخدمون الكتاب المقدس لتسويع الظلم والعدوان ولتبرير وتأييد سياسات الظلم... فالاحتلال خطيئة ضد الله وضد الانسان. وأصحاب الوثيقة لا يساومون على الموقف من الاحتلال اذ هو ظلم مطلق، ولا على الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين.. وتدعو الوثيقة الى عدم اليأس وإلى التطلع نحو مستقبل أفضل، ليس من باب اللحاق بأوهام السلام، وإنما من باب الرجاء الذي يعني الوقوف بصلابة وشجاعة أمام الظلم والباطل ومقاومتهما.. والمقاومة بحسب الوثيقة حق وواجب على المسيحيين وهي مسؤولية تقع على الفلسطينيين أولاً، ثم على المجتمع الدولي تحديداً..الا ان المقاومة التي تدعو لها الوثيقة هي "مقاومة سلمية" للظلم بكل أشكاله، أي "بالأساليب التي تدخل في منطق المحبة".. وهي "مقاومة مُبدعة حين تجد ما يناسب من وسائل وأساليب لمخاطبة العدو نفسه"..
ومع ان الوثيقة تدعو إلى عدم المقاومة بالموت الا انها في الآن نفسه تقول بأنه على كل مواطن ان يكون مستعداً للدفاع عن حياته وكرامته وعن بلاده وأرضه وعن حقوقه وحريته.. كما أن من بذل حياته حتى اليوم في سبيل الوطن يستحق كل تقدير..وتدعو الوثيقة إلى العصيان المدني في الداخل، وإلى حشد كل ما يمكن حشده دولياً وخصوصاً الهيئات الدينية والمدنية في العالم ، لانجاز مقاطعة قوية لكل ما ينتجه الاحتلال ولدعم حملات المقاطعة هذه بكل أشكالها..وتعطي الوثيقة مثال الحملة الدولية، والكنسية خصوصاً، ضد الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا والتي حاصرت النظام العنصري وأسقطته في النهاية بالتلازم مع النضال الشعبي.
والوثيقة في جانبها المسكوني نداء للوقوف مع المظلوم ولقول كلمة حق ولا تخاذ موقف حق، من الاحتلال وتبعاته.. ولذلك فهي تتوجه أيضاً إلى المجتمع الدولي للكف عن سياسة الكيل بمكيالين، وتدعوه إلى تطبيق نظام عقوبات على الكيان المحتل لفلسطين، ليس للانتقام بل من أجل عمل جدي في سبيل السلام العادل والنهائي الذي ينهي كل أشكال الاحتلال ويضمن السلام والأمن للجميع..
سعود المولى