سعود المولى
ورقة قدمت الى مؤتمر الذاكرة والمصالحة،بيروت، 13 نيسان 2008
يعيش اللبنانيون لحظة "جحيمية" يتفقون على القول أنها نتيجة لانهيار الدولة أو "تفكك أوصالها" (عنوان كتاب للنائب الدكتور فريد الخازن)..تغوّلت الجماعات الأولية (وهي هنا الطوائف) وحلت محل الدولة في كل شيء لأنها تملك بالضبط ما لا تملكه "الدولة الموقوفة"(عنوان كتاب للدكتور وضاح شرارة) :شرعية دينية وتاريخية واجتماعية سياسية وحتى قانونية..طوائفنا أقوى من الدولة..نعم ولا فخر... ولا يقتصر الاستقطاب الحاد الذي تعيشه البلاد على السياسة والأمن بل هو يظهر بقسوة في مناحي التعبير العادي اليومية، من الشعارات التي تُرفع في المظاهرات وفي خطابات الاجتماعات والمناسبات، الى ردود الفعل المضمَرة والمعلَنة حيال أي حدث (وخصوصا الاغتيالات) من قبيل التعليق الشهير لإحدى الصحافيات وهو من نوع زلة اللسان الكاشفة عن الضمير الحقيقي.. أو تهمة توزيع الحلوى عقب حدوث اغتيال لشخصية نختلف معها في الرأي. وبرغم التصاريح اليومية التي تؤكد على المصالحة والوفاق والحوار، وبرغم انعقاد مؤتمرات ولقاءات للحوار، فان ما كشفت عنه الوقائع اللبنانية (والعراقية والفلسطينية طبعاً) أمر شديد الخطورة لجهة دلالته على التباعد لا بل التقابل الهائل في المشاعر والهموم وفي التطلعات والمثالات، ما يشكّل قطيعة مع ثقافة الحوار والتعايش والتراحم والتواد والمصالحة والسلم والديموقراطية والعدالة، التي يسعى اليها اللبنانيون على اختلاف طوائفهم وتياراتهم.. وبديهي القول ان هذا التباعد- التقابل لا يصدر من فراغ ، بل هو مؤسس على ذاكرات وتواريخ خاصة كانت وما تزال عامل لحمة الجماعات اذ تعطيها مشروعيتها وديمومتها وتشكّل في الاّن نفسه خزّان العنف الهامشي في لحظات الازمة ...والحقيقة ان هذا الامر يشير ايضا الى مسار انهيار المصالحة الوطنية والى دجل الوفاق ونفاق الحوار والى الازدواجية التي حكمت وتحكم خطاب وممارسة القوى الرئيسة في البلاد.. ان المصالحة الوطنية الشاملة التي دعا اليها اتفاق الطائف (1989) ليس فقط لم تتحقق بعد، بل ان عدم إنجازها(بعد حوالي العشرين سنة على إقرارها) ترافق ويترافق مع شحن وتعبئة للعصبيات الجماعية للطوائف ، عبر استعادات مكررة لمحطات الحرب الاهلية ولشعاراتها وعبر تجييش وتحشيد لذاكرات جماعية عنيفة ومدمرة ، تلغي الاخر وتديم لغة الحرب والمواجهة ، وذلك تحت شعارات قومجية ووطنجية واسلاموية ما انزل الله بها من سلطان ... ولقد شهدنا وشاهدنا تماهي الخطابين القومي الشوفيني والاسلامي الاستئصالي في عراق ما بعد صدام والذي يجمع بين بن لادن وصدام حسين ولا يستحي من تراث الفاشية والعنصرية بأبشع صوَرها....وقد أصبح "التاريخ" هو الارض الواسعة التي تسرح فيها تلك الايديولوجيات العصبوية الارهابية وتمرح مبررة كل الجرائم ومفلسفة كل الانتهاكات جاعلة من نفسها هي المعيار وهي الحق، هي الامة وهي الوطن: اذ هي تنطق باسم التاريخ الذي لا يعدو كونه قصص الاولين وأخبار الغابرين وذاكرة العشائر والغزوات، وعقلية الغلبة والإستقواء، وذهنية الاستحواذ والسيطرة، وممارسات الكيد والتشفّي والانتقام..
ان ما تسميّه القوى والحركات الايديولوجية السياسية في لبنان "تاريخاً قومياً مشتركاً" ليس في الواقع سوى "ذاكرة جماعات" عملت الاصوليات الفاشية المختلفة (من لبنانية فينيقية الى قومية سورية او بعثية عروبية ، الى إسلاموية لا تقوى عندها ولا ورع )على تظهيرها وتأطيرها لتكون ضمير "الامة" ، اي الضمير الايديولوجي المنتفخ لكل جماعة/ امة...فالايديولوجيات الاصولية الاطلاقية المختلفة قامت وتقوم على اعتبار ان جماعتها الخاصة ( وهي تلبس لباس الحزب في معظم الاحيان) هي "الامة" ، وعلى ان هذه الامة الافتراضية هي ثابت ازلي سرمدي وهي "الهوية - الجوهر" ، وبالتالي فان ذاكرتها هي التاريخ ، وجماعتها هي شعب الله المختار المحقق للرسالة الخالدة والمجسّد للهوية والفاعل الصانع للتاريخ ... ولقد اصبحت الهوية ،اي حفظها والدفاع عنها ،هي الطوطم الاكبر ( وليس : الله اكبر) في التحشيد والتجييش لخوض الحروب والمعارك... وهذه الهوية التي تتلبسها الجماعة وترفعها الى مستوى المقدس- المطلق هي الامة ، اي الحزب (او الطليعة- النخبة القومية ) ، اي القائد (الامين العام او الرئيس او الزعيم لا فرق) ،لا يأتيه الباطل لا من خلف ولا من قداّم... وبالتالي فان كل ما تأتيه الجماعة ( او بالاصح من ينطقون باسمها) هو حلال حتى ولو كان محرّما في كتب السماء وشرائعها.. وبالتالي فلم تعد الهوية مضموناً انسانياً حركياً حراً منفتحاً متفاعلاً يُبنى باستمرار ويغتني باستمرار... بل هي صارت بعرفهم جوهراً مطلقاً احادياً واحداً مؤدلجاً متحفّزاً متوتّراً إلغائياً إقصائياً إستئصالياً ...وبالتالي فان ما يسمى "حرية " و"ديموقراطية" ، والحق في الاختلاف ، ليس في عرف الاصوليات المختلفة سوى هرطقة وبدعة وضلالة تودي بأصحابها الى النار بالمعنى الحرفي للكلمة : أي نار الارهاب والقتل والاعدام والذبح في هذا العالم ، ونار جهنم في العالم الاخر( انظر الحلف الدموي في إرهاب العراق كما في الحرب على لبنان)....ومن المفيد الاشارة هنا الى ان بعض الاصوليات المعروفة في بلادنا وقد قبلت مؤخرا مبدأ الاختلاف و التعددية فإنما مكرهة وعلى مضض ومن قبيل التقية او التكتيك الظرفي ( خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة ) ولكن ايضا بمعنى قبول التعددية السياسية اي حرية دخولها المسرح السياسي وحقل الصراع على السلطة.. وفي عرف هذه الأصوليات فانه من السهل الانقلاب على التعددية السياسية في أية لحظة تحت شعار حماية الامة والثورة والمقاومة ودائما حسب موازين القوى والظروف والتحالفات... اما معنى التعددية الثقافية والحضارية وحرية الرأي والمعتقد وحق الاختلاف الفكري والمبدئي ( الديني والعقائدي) باعتبار ذلك كله تعدداً في الهوية والانتماءات والفضاءات والخيارات الانسانية (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، يؤدي الى بناء ثقافة وطنية غير اختزالية او إلغائية وبناء هوية جامعة غير انصهارية او استبدادية ، فهو يبقى من المحرمات!!! لا يمكن للعقل الاصولي ان يفهم التعددية الثقافية-الدينية بغير لغة الهوية النقية الصافية النافية اللاغية والتي ترى الى التعدد كمعرقل لمشروع التوحيد الايديولوجي القسري ( تحقق الفكرة في التاريخ عبر الدولة\الامة حسب هيغل او، كون الامة-الجماعة هي الحقيقة الاجتماعية المطلقة بحسب مدرسة الاجتماع الوضعي الفرنسية والالمانية وتلامذتها الفاشلين من القوميين العرب والسوريين).. وبالتالي فانه لا يمكن للاصوليات على اختلاف تلاوينها ومسمياتها الا ان تكون قمعية استبدادية عنصرية اذ تعتبر كل اختلاف لغوي او مذهبي او ثقافي مجرد كانتونات طائفية ينبغي إزالتها ، او هرطقات وبدع يجب ضربها واجتثاثها لتستقيم الحياة القومية ولتتحقق الامة الموهومة او المستوهمة...ولعل المثال القومجي المعاصر في تعامله مع الاكراد او البربر او حتى مع الاقليات الدينية ضمن الاطار العربي (الشيعة والموارنة والدروز والعلويين ناهيك عن الصوفيين) هو الأبرز دلالة وان لم يكن الوحيد... وفي عرفنا ( وكما وصف تسيفان تودورف وبرتراند بادي وبيار بورديو ، وكما علمّنا شيخنا وإمامنا المرحوم محمد مهدي شمس الدين) فان كل فرد منا ينتمي في الحقيقة الى ثقافات متعددة ، قد تكون الواحدة منها مستوعبة للاخرى ، او متقاطعة ( اسلام- تشّيع او تسّنن -عروبة- لبنانية – فينيقية – متوسطية – حداثة-تقليد- الخ...) او قد تتعدد الترسبات الثقافية في نطاق جغرافي – بشري ( مناطقية – جهوية – عائلية – عشائرية –حزبية)... وليست المشكلة بالتالي في التعددية والاختلاف والتنوع ، وهذه سنّة الهية ( ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة... ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا...) ومعطى بشري- تكويني وتاريخي .. وليس الخطر في تعدد الطوائف ، بل في الممارسة القومجية الاستعلائية الالغائية التي تحوّل التعدد الى سلبية.." ان من يظن ان وجود الطوائف في لبنان هو من أسباب ضعف الاحساس الوطني او القومي فقد ينظر الى هذا الامر من خلال زاوية ضيقة.. بل الطوائف المختلفة المنظمة منطلقات للتعاون ونوافذ حضارية انسانية مفتوحة على انجازات ومكتسبات مليارات البشر في هذا العصر وفي العصور الماضية"( موسى الصدر) .. ان المشكلة تكمن بالتحديد في استراتيجيات بناء الهوية ( وتدخل تحت هذا البند ما نسميه في لبنان الطائفية السياسية ) وهي استراتيجيات سياسية تندرج في اطار الصراع للوصول الى السلطة او للدفاع عن سلطة قائمة او لتوزيع جديد للسلطة... وتعطي الطوائف اللبنانية مثالا ساطعا على هذا الامر : فلئن كانت نقطة انطلاق الطوائف في الاصل تجمعات عبادة دينية او مذهبية خاصة( الشيعة ، الموارنة ، الدروز ، العلويون، على سبيل المثال لا الحصر..) فان عامل العبادة لم يعد هو الذي يحافظ على تماسك الطائفة ولا هو الذي يحيي نشاطها او يحدد اهدافها. ولم يعد التعلق بمضمون العقيدة الدينية الاصلية الذي كان في أساس نشأتها هو ما يؤمن تماسك الطوائف اللبنانية ، بل انه ذلك الشعور فيما بين أبناء الطائفة الواحدة بارتباطهم الواحد بالاخر برباط الدين ، وهو ما ينمّي عندهم أيضا إحساسا بالفرادة والخصوصية..ويتعزز التماسك الطائفي هذا من جراء سيادة الزواج اللحمي فيما بين ابناء الطائفة الواحدة.. وهكذا فان الدين يؤدي هنا دورا شبيها لذلك الذي اسنده ابن خلدون الى الانساب القبلية : "النسب أمر وهمي لا حقيقة له: ونفعه انما هو في هذه الوصلة والالتحام".. اي ان المهم هو الثمرة او النتيجة وهي الالتحام.. والعامل الرئيسي اذن في ديمومة وتماسك الطائفة كما القبيلة انما هو الالتحام وليس العبادة او النسب.. فالعقيدة الدينية تلعب في المحافظة على الطائفة الدور الذي يلعبه النسب ( او التوهم به حسب ابن خلدون) في المحافظة على القبائل...( انظر دراسة نواف سلام :مدخل الى مفهوم الطائفة في لبنان – ضمن كتابه عن الحالة اللبنانية- بالفرنسية ...).. وتسعى الطوائف الى اثبات نفسها والى تأبيد دورها من خلال تواريخ اسطورية وقصص واساطير تعطي لاستمراريتها معنى وتكسبها شرعية ( راجع احمد بيضون:كتابه الصراع على تاريخ لبنان - بالفرنسية...).. فلم تعد الطوائف تستمد ديناميكيتها من تقوى افرادها او علم وفقه وورع مراجعها ،او انضباطها بموازين الشرع .. لا بل ان التركيز على التزام ممارسة بعض الشعائر والطقوس غالبا ما يكون القصد منه التأكيد على الهوية الطائفية الجماعية ( شكل من اشكال النرجسية الجماعية نجدها بالملموس في احتفاليات عاشوراء وطقوس الزيارات الشيعية وغيرها الى مقامات الائمة والاولياء ، كما في الزيارات والمزارات العجائبية المارونية المتكاثرة) ، في حين ان الديناميكية الحقيقية للطوائف ترتكز على العصبية بمعناها الخلدوني والتي حللها محمد الطالبي باعتبارها ( اي العصبية)" مزيجا نفسيا-سوسيولوجيا هو في الان نفسه قوة تماسك الجماعة ، وشعورها بخصوصيتها ، ووعيها لطموحاتها الجماعية ، كما هي تعبير عن ذلك التوتر الذي يحركها ويدفعها تدريجا ومن دون ان يكون لها حرية الاختيار نحو السيطرة على السلطة"...اذن فان ما يحرك الطوائف ليس الدعوة الدينية ( نشر ايمانها او عقيدتها او هداية الناس) وليس التدين والتقوى الفردية ، وانما هي العصبية التي غايتها السلطة... وبتعبير ابن خلدون نقول : " اعلم ان الملك (اي السلطة) غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار انما هو بضرورة الوجود وترتيبه"..
فالطائفة اليوم هي "كيان سياسي-معنوي-حقوقي ذو سلطة سيادية على إقليم محدد وعلى شعب بعينه"..وهذا الكيان السيادي السلطوي يمتلك أيضاً ما تفتقر إليه دولتنا :"الحداثة" !! جماعاتنا الطائفية تقودها على المستويات العملية التنفيذية نخب شابة متعلمة متمرسة خبيرة في شؤون الحرب والسياسة والإعلام والتعبئة والتنظيم والمال الحلال والإدارة.. وهي تمتلك مؤسسات قوية فعالة تغطي مناحي الحياة اليومية كافة ومناشط الفرد والجماعة بكل تفاصيلها..وهي مؤسسات أثبتت أنها أنجح وأكفأ من كل مؤسسات الدولة البيروقراطية المترهلة والمفككة والشبحية في آن..وحداثتها لا تعود إلى حسن استخدام التكنولوجيا كالانترنت والفضائيات وإنما أساساً إلى حسن الإدارة الناجحة للموارد وكيفية تعبئتها وتنظيمها وإلى حسن الترتيب والتوزيع للفروض والواجبات والمسؤوليات وللتسلسل الهرمي بدءاً من الولي الفقيه وانتهاء بحاجب الخدمة عند باب المنار...فهذه الإدارة التعبوية هي أكثر ارتباطاً بالناس من جهة المذهب والدين والقربى العشائرية ووسائط التعبير والاتصال والتواصل والتوصيل من شعارات وملصقات وأناشيد ولطميات إلى مساجد وحسينيات وحج وزيارات ومناسبات شبه يومية...وهي أكثر تعبيراً عن مصالحها ومتطلباتها وفق المفهوم الماوي الشعبوي الذي ورثته والذي يفوق "المجتمع المدني" لجهة كونه حركة اجتماعية وحزباً سياسياً ومنظمة نقابية وائتلافاً عشائرياً الخ.....والإفراط في استخدام الموروث الديني والعقائدي لا يعني إغراقاً في الماضوية والطوطمية الغابرة بقدر ما يعكس دوراً حداثوياً يعيد تأسيس اللحمة الاجتماعية في زمن العولمة المتوحشة المفككة والمدمرة للخصوصيات المحلية وللأشياء الحميمية ..فالتكوينات الطائفية هي الأكثر التصاقاً بتجمعات الشباب في مجتمعات تنهشها البطالة والهامشية في أحياء عشوائية تغلي فيها مراجل الغضب والتمرد والعنف..التكوينات الطائفية هي التي تبني اليوم ثقافة اجتماعية جديدة (بغض النظر عن رأينا فيها) تلبي احتياجات وتحديات زمن العولمة الذي حوّل ويحوّل المجتمعات الطرفية إلى عوالم هامشية والى قبائل وعصبيات متناحرة ..التكوينات الطائفية هي التي تلبي اليوم رغبات تلك الآلاف المؤلفة من النازحين والمهجرين من ريف يتحول إلى صحراء قاحلة،نحو مدينة يتكدسون فيها في بيوت وأكواخ من الصفيح والباطون البارد الفارغ في شوارع بهيمية لا روح فيها ولا حياة..التكوينات الطائفية هي التي تتعامل مع هذا الكم من الشباب العاطل المهمش التائه في صحراء المدن الكبيرة الفاقد ذكورته وأنوثته وكرامته وشرفه وحياته..يلبي له مشكلات حيرته الجنسية والثقافية والفكرية والغيبية وأماكن لهوه وحله وترحاله واستقراره النفسي والروحي والمادي والمعنوي :من شلة الأصحاب وفريق الكرة إلى المسجد إلى زواج المتعة إلى الانترنت إلى البطولة والأسطورة والغيب والحلم الوردي بجنة موعودة على أنقاض البؤس والفساد والذل..وانتظاراً لما يأتي أو لا يأتي..والتكوينات الطائفية هي التي تؤمن لهذا الشباب روح الفتوة والقوة وشعور الكرامة والعزة بعد سنوات الذل والمهانة بين أنياب الظلم والعدوان الإسرائيلي الأميركي أو على أعتاب الزعامات والإدارات البيروقراطية التي لا تنجز معاملة ولا تحفظ كرامة...الجماعة الطائفية هي القوة والقدرة والتمكن في مقابل العجز والفشل..هي المأوى والملجأ مؤطرة في جيش ينتظر الفرج..والشباب هنا هم ورثة نظام الفتيان والقبضايات والشطار والعيارين في المدن الإسلامية القديمة وفي التجربة الفارسية تحديداً والصوفية أيضاً في ارتباطها بشخصية الإمام علي فتى الفتيان وسيفه ذو الفقار... من فتيان علي في النبعة-برج حمود إلى تعبئة حزب الله وحرسه وبسيجه في الاوزاعي أو حي السلم.. ومن الزقرت والشمرت في النجف الأشرف مطلع القرن العشرين إلى حركة أمل في حي المصبغة أو حي اللجا أو خندق الغميق في يومنا هذا...
والجماعة الطائفية تعطي أبناءها هوية وانتماء أقوى وأعمق من هوية الوطن والدولة..من خلال شبكة الأمن والأمان التي تحصنهما بها..في ظل انهيار وموت دولة الرعاية.. فحين تغيب الدولة عن رعاية أمن الناس وأمانهم واستقرارهم وشغلهم ومعيشتهم وطرقاتهم وشوارعهم ومسكنهم وشبابهم وشيخوختهم ...وحين تصير الدولة عنواناً للنهب والتشليح المالي دون العطاء والخدمة،دولة فرض لا رعاية، دولة قهر لا قانون وحماية،دولة مواطنها طافر وقاطع طريق ومطارد..ستنهض بكل تأكيد قوة الجماعة الطائفية كهوية جامعة مانعة وكانتماء يحمي ويصون..
غير ان التراث السوسيولوجي الغربي المعاصر لم يقدّم مقاربة ناجحة لفهم الظاهرة الاجتماعية الكلية التي تمثلها الجماعات والطوائف في بلادنا.. فالمقاربة الماركسية بمختلف تلاوينها لم تكن ترى المجتمعات الا من خلال نظارات الانقسام والصراع الطبقي وفق المعيار الاقتصادي..اما المقاربة الفيبرية(نسبة الى ماكس فيبر) فانها رأت المجتمعات على قاعدة انقسامها الى فئات وشرائح وفق معيار السلطة والجاه والثروة... وتسمح لنا سوسيولوجيا بيار بورديو بمقاربة مختلفة واكثر واقعية وامانة اذ هو اقترح معيار المجال الاجتماعي والحقول الاجتماعية ... وما يعنينا هنا هو تعريفه للثقافة باعتبارها هرما من القيم والممارسات وانها تملك كل خصائص الرأسمال وبالتالي فهي تدخل في اطار الصراعات التي تدور في حقل استقل بذاته.. فالحقل الثقافي حسب بورديو هو ككل حقل اخر يعمل مثل السوق حيث هناك عرض وطلب ومنتج ومستهلك.... فالمنتجون مهمتهم انتاج إشارات وأمارات (كودات) رمزية منظمة في اطر وانظمة ثقافية مختلفة : هذه النظم الثقافية تتألف من اشكال نظر واحساس وتعقل وتدبر .. انها عالم رمزي ينمو ويتطور مع الوقت ليتشكل عبر مؤسساته ومنظماته وطرائق هيمنته وسيطرته على الافراد، والتي يكتسب من خلالها استقلالا يسمح له بهيكلة وبناء العلاقات الاجتماعية.. فالثقافة هي طريقة خاصة لادرااك العالم ولوصفه وفهمه..اي ان الثقافة هي في النتيجة مجموعة مناهج واطر نظر وادراك تتم صياغتها وبلورتها من قبل افراد يمتلكون رأسمالا ثقافيا رفيعا وسلطة شرعية معترف بها ( من المرجعيات الدينية والفقهاء والعلماء الى كبار المثقفين والصحفيين الى القادة والزعماء)..وتتطور المعتقدات والقيم والنظريات اولا في حلقة ضيقة ثم تنتشر الى عموم الجماعة ..غير ان هذه الآراء العامة والمعتقدات والافكار الرائجة لا تفرض نفسها على الجماعة الا بعد، ومن خلال،عملية تلقين تتوقف فاعليتها على عنصرين اثنين:اولا عقلنة المحددات والضوابط الخصوصية بعبارات عامة وكونية تنسجم وبيئتها.. وهنا تلعب اللغة الدور المركزي:اذ ان كيفية تسمية الاشياء تعني ايجادها بطريقة مختلفة ( وفي القرأن الكريم: ان هي الا اسماء سميتموها انتم واباؤكم ما انزل الله بها من سلطان)....ثانيا :ان تعميم المعتقدات يتم من خلال مؤسسات.. والمؤسسات هي وسائط سلطة مهمتها تأسيس الواقع ،اي الايجاد الرسمي لعلاقات اجتماعية، وتدعيمها.. وهي تستطيع ان تؤسس، وفي مجالاتها المختلفة ، تعريفات شرعية للواقع ، تفرضها على فاعلين يمنحونها سلفا صدقية وتسليما طوعيا.... ليست الثقافات كيانات حقيقية يمكن رسم خريطة لها ووضع حدود فاصلة بينها.. اذ لا يمكن تحديد حدود اية مجموعة اجتماعية(جماعة) يقع وجودها خارج الزمن وتكون مستقلة عن ارادات الفاعلين الذين يشكلونها ، وهي ارادات متغيرة (برتراند بادي)... والهوية تنبني انطلاقا من اّلية مزدوجة من التمايز والتماهي مع المحيط . والمحيط هنا هو عامل فاعل اولي في ادامة هوية خاصة ( اي انه لا وجود للطائفة الا داخل منظومة طائفية اي داخل حقل صراع على السلطة).. الهوية هي اذن وبشكل ما نتاج المجتمع والتراث الثقافي.. بعض العناصر قد تلعب دورا اكثر تعبوية واستثارة للهوية : الدين خصوصا ..غير ان التركيز على العنصر الديني في بناء وتعبئة واستثارة الهوية لا يكون من باب الايمان او التقوى ( لاحظ سنيّة المقاومة العراقية ، او شيعية حركة امل وحزب الله على سبيل المثال) بل من باب استراتيجيات الهوية واثبات الذات..وهنا يبرز شيوع التفسير النصي الحرفي للدين ( السلفية الجهادية المعاصرة لأمثال الزرقاوي وجماعات القاعدة في المشرق والمغرب) اوانفلات المظاهر الشعائرية والطقوس الخارجية كمعبر للتمايز على حساب الجوهر الروحي للدين ( احتفاليات عاشوراء كمثال وكل الرمزية الدينية التي يضفيها حزب الله-كما غيره- على أعماله ومؤسساته)..فالجماعة - الطائفة تتشكل من خلال استحضار شعائري- طقسي لذاكرة تاريخية محملة بالخصوصية التي تؤسطر الذات ( في المكان والزمان) الى حد القداسة ( من قداسة جبل عامل وأهله الى أرز لبنان ووادي قاديشا الى الفلوجة ورمزيتها).. والاساطير المؤسسة للجماعات – الطوائف هي بحسب ميرسيا إلياد حقائق حية وقصص حقيقية ثمينة وجوهرية نظرا لقدسيتها ومثاليتها النموذجية ومعناها الرمزي.. فهي تشكّل انموذجا للسلوك البشري وبذا تعطي معنى وقيمة للوجود.. اما مالينوفسكي فهو يصف الاسطورة ليس كتفسير او كتعبير عن حشرية علمية بل كسرد – روائي يعيد احياء واقعة اولية ، ويجيب في الان نفسه على احتياجات دينية عميقة و على تطلعات اخلاقية ، وقيود وضوابط اجتماعية ، لا بل وحتى على متطلبات عملية ( انظر استخدام عاشوراء في اتجاهين : لشحذ المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي او لتأكيد التمايز الشيعي وترميز معنى غلبته ).. وتبدو الطقوس الخاصة بجماعة ما وكأنها نظام اتصال وتواصل له نفس وظائف اللغة.. وبحسب رادكليف براون وكليفورد غيرتز وتيرنر وغيرهم من الانتروبولوجيين ( خصوصا اولئك المتأثرين بمدرسة دوركهايم السوسيولوجية) فان للطقس وظيفة الدمج وبناء الهوية .. فهو يعزز الروابط ، ويؤطر ويقود المشاعر ، ويعطي قوة لمبادىء وافكار ثقافة الجماعة ، وهو يحدد الادوار الاجتماعية ، ويهيكل ويحفّز السلوكيات ، ويساهم في تركيز سلطة ما ( انظر سلطة مجالس العزاء مثلا والتي يحتلها رجل الدين الشيعي عموما)..وللطقس وظيفة اعلامية تربوية اذ هو يجدد ويحيي العقيدة ( إحياء أمر اهل البيت كواجب في اقامة طقوس عاشوراء) ويقونن المبادىء العامة لتكوين السلوك الفردي والجماعي ، ويبلور الشخصية الجماعية ، واساسا يبلور الذاكرة الجماعية.. وفي عاشوراء كمثال فان الطقوس الاحتفالية ( التمثيلية خصوصا) نقلت الواقعة الكربلائية من مجال التاريخ الى مجال الذاكرة الجماعية.. حقا ان الذاكرة الجماعية تستوحي حدثا وقع في التاريخ الا انها تبسّط وتختزل هذا التاريخ ، وتقوم بتنقيته ، عبر الاسطرة والتحوير والتلفيق ، مستخدمة في ذلك لغة رمزية خاصة( راجع دراسة الشهيد مرتضى مطهري عن الملحمة الحسينية والتي طبعها حزب الله ثم عاقب احد كوادره لانه اعاد تلخيص مضمونها في مقال صحفي... وانظر ايضا الدراسة المهمة للشهيد علي شريعتي:التشيع العلوي والتشيع الصفوي)....ان الرموز التي تستخدمها الذاكرة الجماعية محمّلة بالمعاني والدلالات .. والذكريات التي تستعيدها تلك الرموز هي في الغالب مشاعر جماعية عميقة وعنيفة... فهي لذلك مصدر للاتحاد النفسي – البيولوجي الذي يلحم الجماعة...ان التذكر امر يختلف عن التأريخ .. فهو ليس فقط عملية بيولوجية- نفسية وانما هو اساسا عملية ايديولوجية- اجتماعية تخضع لمؤثرات البيئة والمكان والزمان ، وقبل ذلك كله للاطار الثقافي – الايديولوجي الناظم والمحدد، وايضا واساسا للمصالح المباشرة ، الفردية او العائلية او العشائرية او الجماعية.. وهذه المصالح ( الاهواء بلغة القراّن ) تعمينا عن الحق والعدل اذ هي تؤطر رؤيتنا الذاتية كما الجمعية ، وتحدد تاليا ذاكرتنا الفردية والجماعية... ولعل هذا هو ما دفع علماء الاجتماع الى القول بان الذاكرة هي بناء اجتماعي معد للاستخدام عند الطوارىء... ان اعتبار الذاكرة "حقيقة موضوعية مطلقة ومجردّة" ، والمماهاة بينها وبين "التاريخ" ، قد حوّل التاريخ الى ذاكرة ايديولوجية مضخمّة انقسامية فارزة ومولّدة للحروب الاهلية... كما ان الاستخدام البراغماتي للذاكرة كخزان للمعلومات والمعطيات التاريخية يمكن تفريغه عند الطلب ( عبر تذكّر احداث معينة تستدعي التعبئة والتحشيد للمواجهة او الحرب ) ومن خلال الشعائر والطقوس والشعارات والاعلام والالوان والاعياد والمناسبات الخاصة ، قد جعل من كل جماعة عبارة عن: دولة|امة ، لها تاريخها الخاص وذاكرتها الجماعية ووجدانها وضميرها ، وقضاياها وهمومها واولويتها الخاصة...ولذا فانه ينبغي التوقف عن اعتبار ذاكرتنا الخاصة ( ذاكرة جماعتنا) هي "التاريخ" ، او هي ذاكرة الوطن او الامة... واذا لم نميّز بين الاثنين فسيضيع الفارق بين الواقع والخيال ، وبين الحقيقة والوهم ، وبين التاريخ والايديولوجيا..ولعل كارل ماركس كان على حق حين قال ان الايديولوجيا تتحول قوة مادية لا تقهر حين تمتلكها الجماهير... فما تمتلكه الجماهير بالضبط هو الايديولوجيا اي الوعي الزائف اللاعلمي ( وليس المعرفة الصادقة والعلم الامين للواقع)..فتتحول الايديولوجيا الجماهيرية الى سلاح جبار ذي حدّين بفعل الاسطرة والقداسة .. انها الايديولوجيا وقد تحولت دينا او مذهبا اي عقيدة وتاريخا... وبما ان الاحداث الواقعية ( او التاريخ الفعلي) هي غير فهمنا وعيشنا وتفسيرنا لها ، وخصوصا في المجتمعات المنقسمة ( لبنان ويوغوسلافيا على سبيل المثال ) فانه من الشرعي والمنطقي في مجتمعات كهذه حدوث اختلاف وتباين في الرأي والنظر الى الاحداث والوقائع وحول فهمها وتفسير خلفياتها ، وحول وجود "حقيقة اخلاقية موضوعية مطلقة و مجردّة"...وتزداد المشكلة تعقيدا بسبب ما درج عليه العالم من كتابة المنتصر للتاريخ وفق هواه وعلى حساب المغلوب او المهزوم الامر الذي ولّد ويولّد جراحا اعمق وشرارات لحروب اشرس.. حدث هذا الامر مع الالمان مثلا في المرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى وهو انتج النازية... ويحدث ذلك اليوم في المجتمعات المنقسمة او المتعددة الهوية والانتماء ، بعد انفجار الايديولوجيات الاطلاقية وانهيار النظم الشمولية الاحادية ، القامعة او الضابطة ...ولعلنا نتذكر على الدوام عجزنا الطبيعي والمشروع عن انتاج كتاب تاريخ موحد كما يطالب الاصوليون من كل حدب وصوب... ذلك ان فهمهم لكتابة التاريخ هو بالضبط الفهم الايديولوجي الشمولي اي ان التاريخ هو ذاكرة جماعتهم ، وهو مشروعهم الايديولوجي في التأريخ لفكرتهم ولشعاراتهم ، كما ولرؤيتهم للاحداث ، وللماضي والحاضر والمستقبل... فلا يعود التاريخ حينذاك تاريخا اجتماعيا اقتصاديا سياسيا ثقافيا لبشر حقيقيين ولعلاقات بين هؤلاء البشر ، وانما يصبح تأريخا ايديولوجيا لفكرة ولمشروع وذاكرة مضخمّة لجماعة... انها مرة اخرى الايديولوجيا او الوعي الزائف او التاريخ الموهوم والمستوهم والمفروض قسرا باعتباره واحدا موحدا (بالفتح) وموحدا ( بالكسر)... الم يقل ماركس ان الايديولوجيا السائدة هي ايديولوجية الطبقة السائدة ؟؟ اذن فالذاكرة والتاريخ المطلوب سيادتهما هما تاريخ الفئة المنتصرة او الغالبة وذاكرتها ، مما عنى و يعني القاء البذور لحروب اهلية مستديمة.... ان الادلوجة التاريخية ، القومجية الاقصائية الاستئصالية ، حين ترفض الاعتراف باي ذاكرة جماعية او هوية ثقافية او حضور وجودي لاي اخر مختلف ، فانما تحيله الى تراث بائد والى متحف متنقل والى فولكلور ساذج لا يستقيم معناه ومبناه الا من خلال الرضوخ للكل الاعلى ( الامة الواحدة ذات الرسالة الخالدة) : اليس هذا هو منطق القوميين العرب والسوريين والاسلامويين الجدد حيال الاكراد والبربر والموارنة والشيعة والدروز وغيرهم من الاقليات الدينية والقومية؟؟ ان نفي الذاكرات الخاصة والثقافات المتعددة واللغات واللهجات والانتماءات والهويات لصالح فرض تاريخ ايديولوجي ( او ادلوجة تاريخية) لم يؤد الى توحيد الامة وبعثها وانتصارها بقدر ما ادى الى استنفار العصبيات واستفزاز الهويات وتبلور المشاريع الانفصالية على قاعدة الظلم والغبن والاجحاف وبالاستفادة من العوامل الدولية الخارجية المساعدة... فلم يكن الاصل هو اندراج المشاريع الفئوية الخاصة ضمن اطار التدخل الخارجي بقدر ما انه كان نتيجة لاصل اولي هو الايديولوجيا القومجية الاستبدادية التي احرقت الحرث والنسل والتي لم تعدو كونها في الحقيقة سوى الوجه الاخر للقومية البورجوازية الاوروبية الاستعمارية والغطاء المحلي لابشع انواع الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية..الم تكن تلك هي البداية مع القومية التركية الطورانية ثم مع الحركة الصهيونية؟؟ الم يكن لنا في امثلة احزابنا وانظمتنا ، خير شاهد على واقع الحال؟؟ فبعد قرن من "النهضة العربية – السورية" ، تكشّف الواقع عن تفتت وتجزئة وعن تفجّر للعنف وللمشاريع الخاصة وعن سيطرة للعلاقات العشائرية والمتخلفة اين منها دعوات العلمانية والتقدمية التحررية والحداثة والنهضة؟ ولقد كانت المحاولات المستمرة لكتابة تاريخ موحد للبنان على غرار التاريخ الموحد للبعث السوري او العراقي او للقذافية الليبية او للادلوجة القومية السورية ، هي المعادل الفعلي للفاشية الاستبدادية الالغائية التي تعمل على فرض تاريخها ولغتها ..وما ينبغي اعادة التأكيد عليه هنا هو انه ليس من المعيب ولا ضير في امتلاك ذاكرة خاصة بجماعة ما ، او محددات ومكونات هوية وانتماء لجماعة ما ، انما العيب والضير هما في عدم القدرة على توليف تلك الانتماءات والهويات في مشروع حضاري انساني تقدمي يحفظ الوطن والامة.. فليس تاريخ لبنان استرجاعا للاساطير الفينيقية ، ولا هو تأكيد على اصطناعية الكيان على حساب الفكرة القومية ،انه تصالح على واقع وطني مستجد يبدأ مع لحظة التسوية التاريخية التي اوجدت الكيان ... ان القبول بهذا التاريخ الرسمي للوطن وللامة والشعب لا يعني باي حال من الاحوال شطب التواريخ الخاصة والذاكرات المختلفة لا بل والمتغايرة للجماعات المكونة للاجتماع اللبناني ، وانما ادراجها في منهج نظر واقعي للاحداث وللروايات المختلفة يرى الى الاختلاف والتعدد كثروة انسانية حضارية،والى البشر كفاعلين اجتماعيين ، والى التاريخ كسيرورة اجتماعية اقتصادية ثقافية...فمن المستحيل اتفاق اللبنانين على تفسير واحد للاحداث التاريخية القديمة والحديثة على السواء ، والتي تكون هي المرتكزالتأسيسي لشرعية اي جماعة او فئة.. ومن المستحيل تماما تكوين ذاكرة واحدة لهذه التواريخ.. ولذا كان من السهل علينا القول ان الحروب الاهلية المتنقلة بين الاخوة-الاعداء والتي استمرت حتى 1991 كانت من نتاج المؤمرات الخارجية ( دون ان نسأل عن سبب قابليتنا للوقوع في حبال الاجنبي والتي اسماها مالك بن نبي : القابلية للاستعمار ، واسماها علي شريعتي : القابلية للاستحمار ).فنحن لم نستطع تفسير كيف يمكن ان نتفق على صراع البشيرين مثلا ، او على الامارة المعنية ( هل كانت نواة الكيان اللبناني ام انها كانت مؤامرة استعمارية ضد الدولة العثمانية؟) او حول اعدامات 6 ايار ( شهداء ام عملاء؟) او حول اغتيال رياض الصلح واعدام انطون سعادة ( من هو البطل ومن هو العميل؟) او حول بشير الجميل ( هل كان رئيسا للجمهورية ام لا ؟ وهل قاتله بطل ام مجرم؟) ناهيك عن حروب المخيمات والتحرير والالغاء وزواريب بيروت وطرابلس والضاحية واقليم التفاح ؟. ولا يجدي نفعا هنا تأكيدنا على رؤيتنا او نظرتنا او فهمنا لهذه الاحداث اذ ان ذلك يبقى من قبيل تفسير الماء بالماء طالما انها لا تحرك او تستثير نفس المعاني والمشاعر ولا تحمل نفس القيم والدلالات لدى طرفي الصراع..وقد يقول قائل هنا انه لا يمكن المساواة بين الحق والباطل او بين الوطني والخائن ، ولكن من الذي يحدد الفيصل بين الحق والباطل والفارق بين الوطني والخائن وما هي المعايير الناظمة والضابطة والمكونة لرؤيتنا الوطنية او القومية ؟؟ هل هي قرارات وبيانات حزبنا او ذاكرة جماعتنا ؟؟ لقد سبق لنا ذكر قول بورديو: " ان كيفية تسمية الاشياء تعني ايجادها بطريقة مختلفة" (ومرة اخرى التذكير بالمقولة القراّنية الرائعة: ان هي الا اسماء سميتموها..)... ان الصراع حول التاريخ والذاكرة وحول المعنى والدلالة ليس بالامر البسيط او المستسهل : انه اخطر ما يواجهنا في عملية انجاز المصالحة وطي صفحة الحرب الاهلية وبناء الدولة.. فلو فرضنا ان ما نعتقد به هو الحق وهو الوطنية ، فاننا لا نحل مشكلة اننا نريد ( اختيارا ام اضطرارا ) العيش مع الاخر، الذي نختلف معه ، كشركاء في وطن واحد وفي ظل دولة واحدة نريدها عادلة ومتوازنة... فكيف سنتعايش مع هذا الاخر الذي يرى الاحداث التاريخية التي عاشها من منظار مختلف ؟ وكيف سنتصالح مع ذاكرته اوكيف سنجعله يتصالح هو الاخر مع ذاكرتنا ؟؟ واولى القضايا التي تواجه اللبنانيين ( والمسلمين منهم بالاخص) هي فهمنا المحدد لمعنى العفو والمصالحة ولمعنى طي صفحة الماضي ..وبالتالي فهل نستطيع التعامل مع ذاكرة الاخر باحترام ومحبة؟؟لقد تصالح المسلمون مع الفكرة اللبنانية ومع صيغة الكيان-الوطن النهائي واقروا ذلك في وثيقة الطائف والدستور(وهذا عهد مسوؤل)... غير انهم لم يتصالحوا بعد مع الذاكرة الكيانية-المسيحية اللبنانية ( وما زالوا يرونها انعزالية ومعادية للاشقاء العرب).. وتصالح المسيحيون مع فكرة العروبة الحضارية ( في عودة الى دورهم التاريخي في سياق النهضة المبكرة) غير انهم لم يتصالحوا بعد مع الذاكرة التاريخية للهموم والقضايا العربية التي ما زالت تحرك عواطف ومشاعر المسلمين...وليست هكذا مصالحات ضرورية لقيام واستمرار الكيان السياسي للدولة والوطن فقط انما هي اكثر من ضرورة لتنقية الذاكرة ولاعادة تأهيل كل طائفة وكل جماعة ، وذلك من خلال احترام الذاكرة الخاصة بكل فئة ومحبة تلك الفئة من خلال العفو والمصالحة مع الحاضر والبناء عليه للمستقبل...والغريب هنا ان بعض القوى الاسلامية تصالحت مع مرتكبي كل الموبقات والجرائم في تاريخ الحرب الاهلية واحلتهم محلا ساميا في تحالفاتها ، فيما هي استمرت ترفض اية مصالحة مع اخرين دفعوا ثمن الطائف والسلم الاهلي وانجزوا نقدا ذاتيا ومراجعة وتوبة حقيقية .والحال فانه ليس المطلوب( ولا الممكن) ايجاد ذات جمعية واحدة موحدة ( هي الامة الصافية النقية حسب الادلوجات القومية) ،اذ ان الاخلاق الفردية والمشاعر والمصالح في الجماعات المتغايرة العناصر تتفاوت وتتعدد وتختلف على نحو واسع وهي تمد الذاكرة الجمعية لكل جماعة بعناصر قوتها وديمومتها.. وبالتالي فانه لا تنفع معها عمليات الفرض القسري كما في المثال القومي العربي ( تجاه الاكراد مثلا) او في المثال السوفياتي او اليوغوسلافي ( مسلمو الجمهوريات السوفياتية وخصوصا الشيشان ، ومسلمو البوسنة وكوسوفو ).. ان التجارب دلت على انه من الصعب ان لم يكن من المستحيل في حالات كهذه ايجاد "روح او ذات جمعية" او "هوية واحدة نقية صافية"... ومن الطبيعي القول انه بدون "شخصية جمعية" يصعب ايجاد "ذاكرة جمعية"... فالكلام تاليا عن شخصية قومية وعن هوية قومية وعن ذاكرة قومية هو كلام مجازي مطاط لا دقة علمية فيه اذ هو ينتمي الى الايديولوجيا ..ان الذاكرة الجمعية لشعب ما هي التصورات والمثالات المقبولة ( اي المعترف بها والشرعية)عن الاحداث الماضية والتي تنعكس فيها الهوية الجمعية لشعب ما او لجماعة.. وفي مجتمعات الدولة-الامة كانت هذه الذاكرة من نتاج وجود وحضور و فعل الدولة ومؤسساتها... فهي تأثرت وتشكلت وتحددت بفعل التعريفات الرسمية ( الدولتية)، والقوانين ، والطقوس والاعراف والتقاليد الخاصة بالدولة من مثل النصب التذكارية والاعياد الوطنية والمتاحف وكتب التاريخ والجغرافيا والتنشئة الوطنية وخطب المناسبات والاحتفالات الرسمية والنظم والمؤسسات الديموقراطية ... وكافة العناصر التي تؤسسها الدولة لتشكل رؤية وطنية للذات ( الامة) مما يساهم في بناء الذاكرة الجمعية.. واذا كان بناء ذاكرة جمعية وهوية قومية واحدة قد تحقق في القرنين التاسع عشر والعشرين في الغرب المعاصر عبر نموذج الدولة-الامة ، فان الذاكرات الخاصة المنقسمة والمتنازعة حتى ضمن الاطار القومي الدولتي الغربي المعاصر قد وجدت طريقا للتعبير عن نفسها.. فالجماعات ذات الوزن والتي تعيش في كنف الدولة-الامة اخذت تفسّر الماضي والاحداث وتؤرخها بطريقة مغايرة تماما لتفسيرات الايديولوجيا الرسمية الدولتية وتأويلاتها.. ونحن لا نعدم امثلة على ذلك : من الباسك في اسبانيا الى عصبة الشمال في ايطاليا الى كورسيكا وبروطانيا واللانغدوك في فرنسا ، الى كاثوليك ايرلندا ،فزنوج اميركا وهنودها ..هذا ناهيك عن المثال السويسري او النماذج السوفياتية واليوغوسلافية .. ففي كل الامثلة السابقة تشكل تاريخ خاص وذاكرة خاصة ووجدان خاص وثقافة خاصة لجماعة ما انفكت تعيش وتنمو وتتطور في كنف دولة-امة تقوم على تاريخ ايديولوجي موّحد... فما بالك بالمجتمعات التي لم تتشكل فيها الدولة-الامة او لم يكتمل فيها المشروع القومي البورجوازي وانهار فيها المشروع الامبراطوري السابق ( الدولة العثمانية) ونشأت فيها على انقاض الانهيار والعجز والفشل مشاريع غلبة واستحواذ وانفصال او دويلات استيلاء لا شرعية دينية او تاريخية او شعبية او دستورية لها؟؟ هل الحل في تحقيق الدولة-الامة بالفرض والقهر على غرار ما ينادي به البعث والقومي السوري؟ او بالعودة الى الخلافة الاسلامية كما يدعو اليه حزب التحرير ؟ او بالامة الاسلامية الواحدة تحت سلطة دولة اسلامية او سلطة الشريعة ( كما يدعو الاخوان المسلمون) او سلطة ولاية الفقيه ( كما يدعو الى ذلك بعض الشيعة التحاقا بايران) ؟؟ ام في العودة الى فكرة الكومنولث الاسلامي والاتحادات الفيدرالية التي طرحها مالك بن نبي والتي طورها الامام الشيخ شمس الدين؟؟ولماذا نصّر على تناسي وتجاهل صحيفة المدينة وهي النص السياسي الاسلامي التأسيسي والتي قامت على فيدرالية استمرت بها ومعها التجربة الاسلامية في الحكم ، بكل علاتها وتناقضاتها ، حتى مطلع القرن العشرين؟؟