عن السينودوس والارشاد الرسولي مرة جديدة.. لعل الذكرى تنفع...
الدكتور سعود المولى
مداخلة في الندوة التي أقامتها جامعة اللويزة ،30 كانون الثاني 2004،نحت عنوان الشأن الوطني في الارشاد الرسولي
الارشاد الرسولي هو الوثيقة البابوية التي صدرت بنتيجة اختتام سينودوس الاساقفة الكاثوليك الخاص من أجل لبنان. وقد أذاع البابا يوحنا بولس الثاني هذا الارشاد إبان زيارته التاريخية الى لبنان (10- 11 أيار 1997). وهذه الوثيقة هي خلاصة أمينة ودقيقة وترجمة ختامية لمسيرة السينودوس التي ابتدأت مع نداء البابا المتلفز يوم 12 حزيران 1991، ولم تتوقف الى اليوم، وكانت أبرز محطاتها السينودوس نفسه في حاضرة الفاتيكان(تشرين الثاني-كانون الاول 1995) والنداء الأخير الذي صدر عنه(في منتصف كانون الاول 1995) وأثار عاصفة من ردود الفعل المتجنية.. ومعنى السينودوس او مجمع الاساقفة هو "السير معا". وقد شكّل أساقفة الكنيسة المارونية والرؤساء العامون والرئيسات العامات بإشراف البطريرك صفير، "اللجنة البطريركية الخاصة بتطبيق الارشاد"، وذلك لتطبيق نداء جمعية السينودوس (المعروف باسم النداء الاخير). ثم فور تسليم قداسة البابا الارشاد الرسولي (وعنوانه: رجاء جديد للبنان) كلفت اللجنة تطبيق الارشاد. وهذه اللجنة تضم المطارنة رولان ابو جودة (رئيساً)، يوسف بشارة، بشارة الراعي، غي بولس نجيم، بولس مطر، ومنجد الهاشم، والأباتي أثناسيوس جلخ. والأخت جوديت هارون. وقد وزّعت اللجنة تطبيق الارشاد على خمس مراحل سنوية تتناول كل منها قسما من الارشاد المذكور وهي على التوالي: التجدد على صعيد الاشخاص (1999)، التجدد على صعيد الهيكليات (2000)، الشأن الاجتماعي (2002)، الشأن الوطني (2003). وكان لكل واحدة من هذه المراحل برامجها الخاصة ونشاطاتها وهي اختتمت بالحلقة الدراسية التي عقدتها اللجنة في جامعة سيدة اللويزة (يوم الجمعة 30 كانون الثاني 2004) وحضرها رئيس الجمهورية والبطريرك صفير. وبعد ذلك انعقدت المجامع الكنسية العامة (المارونية والكاثوليكية)، لمتابعة السير في تطبيق الارشاد..
ان الجهود المبذولة على مستوى الكنيسة المارونية وسائر الكنائس الكاثوليكية في لبنان لتطبيق الارشاد الرسولي، هي دليل حي على ان مسيرة السينودوس لم تتوقف عند اختتام أعماله او مع صدور الارشاد.. وهي لم تثمر فقط مجمعا كنسياً مارونيا تاريخيا، ومجامع كنسية كاثوليكية اخرى تاريخية هي ايضا، انما هي أثمرت. أساسا عملا طيبا مباركا كان له أبلغ الأثر في المراجعة النقدية والوعي النقدي وفي روح التجدد والمصالحة التي ظهرت في الوسط المسيحي عموما.
=1 اللبنانيون والإرشاد الرسولي
كنت قد صرّحت إثر عودتي من الفاتيكان (حيث شاركت في أعمال السينودوس ت2- ك1 1995، كممثل شخصي للامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكممثل رسمي للطائفة (الاسلامية الشيعية) الى اننا في لبنان نحتاج الى اكثر من سينودوس.. فنحن نحتاج الى مراجعة ونقد ذاتي إسلامي، ووطني علماني، ويساري، وذلك للتكامل والتفاعل مع السينودوس الكاثوليكي ومع الارشاد الرسولي ومجامع الكنيسة المارونية،وغيرها، وللمشاركة في السير معا وفي العمل معا من أجل التوبة والغفران والمصالحة الحقيقية ومن أجل تجدد حقيقي للروح يسمح لنا بالمشاركة الفعلية (او الشراكة) في إعادة إعمار الدنيا وبناء الوطن. ذلك ان انتهاء الحرب المسلحة والفتنة الدامية التي عصفت بلبنان، لم يضع حدا للأسف، لروح الاقتتال والنزاع. فهو لم يطو صفحة الماضي، ولم يحقق مصالحة وطنية شاملة، ولم يبلسم الجراح، ولم يكفل بالتالي العدالة والمساواة والمشاركة والتوازن والوفاق والتوافق: وهي كلها مقومات التجربة والصيغة اللبنانية. وما زال البعض يتعامل بمنطق الغالب والمغلوب، ولا يخجل حتى من التصريح علنا بأن الحكم ليس مشاركة وإنما غلبة، وأن السياسة ليست مصالحة وانما موازين قوى، وأن السلطة ليست وفاقا وإنما استقواء.. وما زال البعض يُمعن في سياسة الكيل بمكيالين، والصيف والشتاء تحت سقف واحد، وفي تجاهل مشاعر فئة كبيرة من اللبنانيين... وما زال البعض يقول ان اللبنانيين يتقاتلون ويتذابحون لولا القبضة الامنية المدعومة اقليميا، وان البلد كان ممسوكاً وليس متماسكا. وما زال البعض يتنصل من أية مسؤولية عما آلت اليه الاوضاع، ومن مسؤوليته في الحرب، ومن أية مراجعة نقدية او مساءلة او محاسبة، ومن أية وقفة ضمير ورجوع الى الذات، ومن أية مسيرة توبة وغفران، او مصالحة وسلام، ويُمعن بدل ذلك في الكيد والنكاية، وفي الظلم والاستقواء، وفي خلخلة التوازن والوفاق، بما ينسف معنى المشاركة والشراكة..
لقد تحدث الارشاد الرسولي عن واجبات المسؤولين وعن واجبات اللبنانيين تجاه وطنهم وتجاه بعضهم البعض. وبدل نشر الخطابات والتصريحات والمقالات التي تهتف للارشاد الرسولي وتدعو الى تطبيقه، كان الأجدر بنا ان نمعن قراءته وأن نستخرج عباراته وأن نحقق غاياته.. ذلك أن "الغاية الاساسية التي يرمي اليها الارشاد الرسولي هي إعادة بناء لبنان ماديا وروحيا"... و"هذا شأن جوهري لا يمكن تحقيقه الا بمشاركة نشطة من الجميع,."المشاركة النشطة تبدأ بالحوار، لغة ومضمونا، محبة وغفرانا، احتراما واعترافا بالآخر المختلف والشريك، تضامنا ومبادرات عملية، وليس في لقلقة اللسان او اللغة الخشبية.. وإن غاية الحوار هي "العيش معا، وبناء المجتمع باحترام حساسيات الاشخاص والفروقات الجماعية، وبالتغلب على الحذر المتبادل والتنابذ".. بهذا، وبهذا فقط، نحقق معنى الشراكة والمشاركة.
=2 المسلمون والإرشاد الرسولي
لم يطلب أحد من المسلمين تبني الارشاد الرسولي او الموافقة على أعمال السينودوس وتوصياته. ولكن الدعوة الى مسيرة توبة ونقد ذاتي ومصالحة ومراجعة وتجدد روحي وفكري وثقافي، دفعت القائمين على السينودوس الى اشراك المسلمين بالكامل في مسيرة التحضير والاعداد، كما في الاعمال والنقاشات وحتى اليوم الاخير من الانعقاد. ولقد شاركنا بالفعل (أنا وزميلاي محمد السماك وعباس الحلبي) في هذه المسيرة الثقافية الفكرية الروحية الوطنية التجديدية مما كان له أبلغ الاثر فينا ومن حولنا.
صحيح ان السينودوس( والارشاد الرسولي) هو تجدد خاص بالكنيسة الكاثوليكية في لبنان الا انه كان ايضا منذ البداية دعوة وطنية لإعادة بناء لبنان على الصعيدين المادي والروحي. والسينودوس، كما الارشاد، طرحا بقوة ووضوح، وبجرأة وشفافية، قضية النقد الذاتي واستخلاص دروس الحرب، ومسألة معالجة مخلفات وآثار الحرب، عبر شجاعة التوبة ودعوة التجدد الروحي.. وكان الامام شمس الدين هو الوحيد (وأكرر الوحيد) في الصف الاسلامي الذي التقط معنى هذه الدعوة فتجاوب معها وسار معها كل الطريق ورغم كل الصعاب والعراقيل. وللتذكير فان الامام قد سارع إثر إعلان البابا دعوته لعقد السينودوس (12/6/1992) الى الاعلان عن تشكيل "هيئة اسلامية " تتولى شؤون الحوار مع الهيئات المسيحية في الداخل والخارج.. وهو اختار للهيئة مسلمين من كل الطوائف (رغم امتعاض او عدم ترحيب مرجعياتهم الروحية او السياسية).. وقد تحركت الهيئة الاسلامية للحوار وبتكليف وتغطية دينية وشخصية من الامام الراحل، لتلاقي الاعمال التحضيرية للسينودوس. وللتذكير ايضا فإن هذه الهيئة كانت هي النواة التأسيسية لما عُرف باسم "الامانة العامة الدائمة للقمة الروحية الاسلامية" التي كان حلم الامام ان تكون هيئة تحضيرية لمجمع (او سينودوس) اسلامي.. الا انها اجتمعت مرتين أو ثلاث مرات فقط وقمت بإعداد مشروع نظام داخلي وبرنامج عمل لها قبل ان يتوفاها الله.. وقد أعاد الامام الراحل تسليط الضوء على مشروع الامانة العامة الدائمة تلك، كمؤسسة اسلامية حوارية فكرية تنسيقية تراكم معرفة وتقترح مبادرات لتصحيح وتطوير الوضع الاسلامي والوطني بعامة، وذلك في وصاياه الاخيرة حيث خصص لها فصلا مستقلا. وبرغم ذلك ظلت الامانة العامة وجاهة شخصية للبعض لا أساس واقعي لها ولا وجود فعلي ولا حتى شكلي...
وكانت الهيئة الاسلامية للحوار هي أيضا نواة مشاركتنا كمسلمين في اعمال السينودوس، ونواة كل المبادرات الحوارية اللاحقة التي أطلقها ورعاها الامام شمس الدين (مثل اللجنة الوطنية الاسلامية-المسيحية للحوار، والفريق العربي للحوار، وكان لي شرف المشاركة في تأسيسهما باشراف الامام الراحل) والتي لم تكن لتبصر النور او لتستمر في العمل لولا ولولا احتضان ودعم وتوجيه الامام الراحل.. وهو خصص لها ايضا حيزا مهما في وصاياه الاخيرة.. ولم يكتف الامام بذلك بل انه واجه بحزم وتصدى للحملات التي انطلقت من جهات إسلامية ومسيحية عدة ضد السينودوس وضد "تدخل الفاتيكان في الشؤون اللبنانية" ،وصولا الى اتهامه بشن حرب صليبية جديدة وتشبيه السينودوس بلقاء كنيسة كليرمون الذي أطلق الحملة الصليبية الاولى.. وللضغط على الامام شمس الدين للتراجع عن موقفه، صدرت بيانات (كالعادة) من تجمعات وأسماء وهمية، كما من شخصيات ومؤسسات دينية وسياسية وحزبية، تصل في الحد الأدنى الى الدعوة الى عدم مشاركة المسلمين في أعمال السينودوس لأنه عمل كنسي خاص. كما شنّ البعض (ومنهم مراجع دين واجتهاد، ودعاة حوار وتجديد، ومنهم أحزاب رئيسة في المشهد اللبناني) حملة شخصية ضد الامام شمس الدين وضد المسلمين الذين انتدبهم للمشاركة في السينودوس والذين حصل لهم على موافقة المرجعيات الاساسية (المفتي قباني، والرؤساء الحريري وبري والسيد وليد جنبلاط.. ولولا الامام شمس الدين لما كان هناك أصلا مشاركة إسلامية في السينودوس.. فهو لم يضع فقط كل ثقله الروحي والمعنوي وانما ايضا وضع كل ما يملك من شجاعة ومن وضوح رؤية ومن صلابة موقف ومن تمسك بالثوابت الوطنية ومن حب للبنان واللبنانيين، فصاغ اطروحاته الحوارية الوطنية وبلور مقاصده الوطنية الوفاقية وأطلق دعواته الى المصالحة وإلى التوازن والعدالة وإلى العفو والتوبة، والى التجديد الروحي والفكري والثقافي والسياسي، فكان ذلك كله مداميك السير معا على طريق البناء والانماء للبنان المستقبل الذي رآه الامام شمس الدين في "استعادة الحلم الذي قُتل من قُتل من شبابنا سعيا وراءه. علينا استعادة هذا الحلم بتحصين سلمنا الاهلي بحوار دائم مفتوح ومتجدد وبارادة وطنية جامعة.. ان لبنان ليس مكانا جميلا فحسب: انه كرامة وحرية، بيت ورغيف حلال، مدرسة ومستشفى، قدرة على المشاركة في الرأي والقرار، قدرة على التعبير وعلى النقد... ان لبنان معنى ودور، وحوار حياة، أنتج صيغة فريدة للعيش المشترك ونمطا مميزا علينا حفظهما وتطويرهما" (من خطبة العاشر من محرم 1414 -1993)..
لقد أراد الامام اطلاق حركة نقد ذاتي وتجديد داخلي في الوسط الاسلامي كنا وما نزال أحوج ما نكون اليها.. ولكن الطبقة السياسية وقد أعمت بصرها وبصيرتها أوهام الغلبة وتقاسم الثروة والنفوذ واحتمالات الموقع والدور (الشخصي والعام)، رفضت الدعوة الى النقد الذاتي والى التجدد الروحي والفكري، وهي لم تقفل الباب فقط في وجه دعوة الامام شمس الدين، وانما سدت كل الابواب والشبابيك في وجه "الارشادات الاسلامية" السابقة والراهنة، خوف التغيير.
ففي مسيرة الامامين الصدر وشمس الدين، والشيخين حسن خالد وصبحي الصالح، في مواجهتهم للفتنة وللحروب الاهلية وفي تأكيدهم على الوفاق والمصالحة وعلى التوازن والاعتدال، ما يكفي من الارشادات الرسولية ومن الدروس المحمدية والعلوية..
وفي هذا الاطار شكّلت وصايا الامام شمس الدين التي نشرت بعد وفاته، إرشاداً إسلاميا بالغ الخطورة، قدم مساهمة فعلية في تجسيد الشراكة الاسلامية المسيحية وفي تحقيق معنى المشاركة الوطنية الحقيقية. كما جاءت زيارة الرئيس الايراني محمد خاتمي الى لبنان (12- 14 أيار 2003) والخطب والكلمات التي وجهها الى اللبنانيين، وإلى العالم من خلال لبنان، لتكون إرشادا جديدا (خصوصاً في مدينة كميل شمعون الرياضية) لم يلق للأسف ما يستحقه من اهتمام ومن تطبيق في الاوساط الاسلامية اللبنانية. كما ان تجربة إصلاحية تجديدية تاريخية كتلك التي عاشتها جمهورية إيران الاسلامية في عهدي رفسنجاني وخاتمي لم تلق أية دراسة او اهتمام من طرف الحركات والقوى الاسلامية، حول معناها او حول عناوينها وموضوعاتها.
ان كل ما سبق ضاعف ويضاعف من مسؤوليتنا في الدعوة الى مشاركة حقيقية تكون على مستوى الارشاد الرسولي ووصايا الامام شمس الدين وارشادات الرئيس خاتمي.
3 =الارشاد الرسولي والمشاركة اليوم
لقد رأى الامام شمس الدين في السينودوس، وفي الارشاد الصادر عنه، حالة نادرة من الشفافية والانفتاح، ومستوى عاليا من الشعور بالمسؤولية والوطنية المجردة. وهو أوضح وشرح لمن كان يعتبر السينودوس والارشاد حالة مسيحية او كاثوليكية (اي طائفية) ان معيار الحوار والوطنية والانفتاح في اي عمل او اطار او مشروع ليس في الاسم الذي يحمله، او في الشعار الذي يرفعه، او الادعاء الوطني الكلامي، وليس في مجرد تكوينه المختلط او سعيه للتنسيق مع الآخرين، وانما يتمثل أساسا في اطروحته "الوطنية الوفاقية الحوارية المنفتحة"، وفي حرصه على إشراك الآخرين في الرأي والمشورة وفي العمل والممارسة.. وقد علّق الامام شمس الدين على الارشاد الرسولي حين صدوره بالقول انه يلتقي معه في كل ما يخص البعد الوطني والبعد الروحي والثقافي والفكري، طالما ان الابعاد الاخرى الدينية والكنسية هي من خصوصيات اصحابها. يومها دعا الامام الى ضرورة ان يتعلم اللبنانيون معنى احترام الخصوصيات الثقافية الدينية للجماعات المكونة للبنان، وأن يحرصوا على توفير شروط حرية ممارسة تلك الخصوصيات ليس بالخطب الفارغة أو اللغة الخشبية (والتي كان يسميها: لقلقة اللسان) وليس بتربيح الجميل او المنة، وانما في الوعي والسلوك العمليين وفي الحب العميق والاحترام الصادق وفي ذلك قاعدة لبناء الصيغة السياسية اللبنانية الفريدة القائمة على احترام التعددية الثقافية وعلى الديموقراطية التوافقية وعلى الانفتاح والتجدد وملاقاة طموحات الشباب وآمال التغيير ضمن إطار الحرية والديموقراطية والازدهار لشعوب المنطقة العربية. وقد أشار الارشاد الرسولي (كما السينودوس) الى هذه المعاني (الواردة في وصايا الامام وفي إرشاد خاتمي)،بتأكيده على "بناء نظام سياسي واجتماعي عادل ومنصف يحترم الاشخاص وجميع الاتجاهات التي يتألف منها البلد". وكان الامام شمس الدين قد دعا وفي مناسبات عدة الى احترام خصوصية لبنان وخصوصية الجماعات المكونة له، وإلى الكف عن إطلاق الدعوات التي تخيف او تنفر: "لا نريد أبدا ولا نرضى أبدا ان يكون هناك اي خطاب سياسي او تعبوي يجعل المسيحيين يندمون او يترددون في خيارهمم الذي اختاروه في هذه الصيغة الجديدة (الطائف)"..وفي مواجهة الفساد والإفساد وهما السمة المميزة للطبقة السياسية الجديدة، دعا الارشاد الرسولي "العاملين في الشأن العام الى احترام بعض الموجبات الاخلاقية وأن يُخضعوا مصالحهم الخاصة او الفئوية لصالح امتهم.. وأن يتجاوزوا السلوك الاناني"، وأكد على "انه يجب على كل شخصية عاملة في الشأن العام، سياسية كانت ام دينية، وعلى كل فريق، ان يحسب حسابا لحاجات الافرقاء الآخرين ولتطلعاتهم الشرعية"..
ويبدو ان المسؤولين عندنا، وهم ممن يطبل ويزمر للارشاد الرسولي، لا يقرأون الا الأدعية الواردة في الارشاد او مقاطع من الانجيل او التوراة.. فهم لا يعترفون بوجود خلل في البلاد، او اختلال في الحياة العامة.. ولا يقرون بأنهم ضربوا ويضربون عرض الحائط بكل موجبات التوازن واحترام الآخر والمصالحة لا بل وبكل متطلبات ميثاق العيش المشترك.. ورغم ذلك فهم لا يستمعون الا الى ما لا يقصدهم في الارشاد الرسولي.. فكيف اذا قرأوا ايضا: "لا يمكن ان تُمتهن بلا عقاب حقوق وواجبات الاشخاص والجماعات الثقافية والدينية والشعوب.. وتجاهل ذلك يقود حتما الى فقدان الشعب بكامله الثقة بالمؤسسات الوطنية بشكل حتمي."
اننا جميعا مسؤولون حقا عن الجميع، هذا ما قاله الارشاد وهو جاء على لسان الامام شمس الدين حين قال :"اننا مسؤولون عن بعث لبنان من تحت الرماد، وإحياء دوره وتجديد معناه، وتطوير صيغته وبناء مؤسساته. وهذا لا يكون الا بالحوار، عبر انفتاح القلوب على بعضها البعض وانفتاح البصائر على المستقبل فلا نبقى مشدودين الى الماضي ولا نقفز الى المجهول"(خطبة العاشر من محرم 1993).. ويوم دعا الامام الى "التزام كل فريق الفريق الآخر، على قاعدة الحقوق المتساوية للجميع والواجبات المتساوية للجميع والكرامة للجميع"... ويوم قال "ان لا لبنان من دون مسيحيين كما لا لبنان من دون مسلمين"(يوم انتخابه لرئاسة المجلس 18/3/1994( ، وهي الجملة التي نقلها الارشاد الرسولي على لسان المسلمين، ونقل معها قول الامام: "لا معنى للبنان دون مسيحيين.. معنى لبنان لا يكتمل الا بالمسلمين والمسيحيين معا."
وإن دعوة الارشاد الرسولي الاساسية هي دعوة المصالحة والسلام والتي تقوم على التوازن والعدالة والكرامة.. وهذا "يتطلب ألا يعتقد احد ان موقعه الخاص يحتمل ان يسوغ له البحث عن امتيازات له او لطائفته، بإبعاد الآخرين... ان التزام السلام من قبل الجميع يقود الى مصالحة نهائية بين جميع اللبنانيين وبين مختلف فئات البلد. ان المصالحة هي السبيل الى سلام وطيد يقوم بين اللبنانيين"(الارشاد)..
وكان الامام قد أعلن وبوضوح "اننا جميعا، مسلمين ومسيحيين في شراكة حقيقية، للحياة وللمصير، اما ان ننسجها معا خيطا خيطا او لا تقوم لنا قيامة.. اما ان ننهض جميعا ومعا او نسقط واحدا واحدا... ان اي طائفة لا يمكن ان تنجز مشروعا خاصا بها.. وإن حاولت ذلك فستخلق حالة دمار شامل ولن ينجح هذا المشروع... ان المسلمين على وعي كامل ان لا كرامة لوطن يشعر بعض ابنائه بانتقاص كرامتهم، ولا أمن لوطن يشعر بعض أبنائه باختلال أمنهم، ولا قيامة لوطن يشعر بعض ابنائه بانتقاص حقوقهم... ان الشكوى يجب ان تُسمع وان الخلل ان وُجد يجب ان يصحح لتستقيم الاوضاع ويتحقق معنى لبنان... ومن هنا دعونا وندعو الى المصالحة الوطنية الشاملة، ورحبنا وما زلنا بالسينودوس" (كلمته أمام مؤتمر الحوار الدائم،مدرسة الحكمة 22/5/1994).
وكان الامام، رحمه الله، عميقا وحازما في تشخيصه الحاسم للمشكلة اليوم: "ان نجاح الصيغة الجديدة للبنان بعد الطائف هو مسؤولية المسلمين وليس مسؤولية المسيحيين من هنا قلنا ونكرر وسنظل نكرر ان طريقة المسلمين في المشاركة في عملية الحكم والادارة وفي الخطاب السياسي وفي الخطاب التعبوي يجب ان تأخذ في الاعتبار هذا الامتحان"...
نعم وانه لامتحان كبير وخطير.. ومن هنا دعوة الامام "السياسيين والقياديين في لبنان، الى ان يباشروا الامور برفق وألا يدفعوا الامور نحو أزمة في ما يتعلق بالاختيارات الكبرى في شأن الدولة والمجتمع، وان تكون روح الحوار والانفتاح والاخلاص لهذا البلد ولشعبه الذي يستحق كل التكريم، ان تكون هذه الروح هي الحاكمة".
"لن يكون لبنان مسيحيا ذا وجه عربي او اسلامي، ولن يكون اسلاميا ذا وجه مسيحي او اوروبي... لبنان هو لبنان. هويته تتكون من تنوعه. ومن هنا أقول: اذا كان الخطاب السياسي الاسلامي يعاني من خلل ما، فعلى القيمين على هذا الخطاب في الحكم والمجتمع ان يعيدوا النظر في عناصره لكي نخرج نهائيا من عقلية الفتنة وندخل بصورة نهائية في آفاق الوحدة والتعاون لتثبيت وترسيخ صيغة العيش المشترك التي ينفرد بها لبنان في العالم"..(قرية بنهران الشيعية ، الكورة، الاحد 22/9/1991(..
ولم يكتف الامام شمس الدين بهذا القدر من الوضوح والشفافية ومن العدل والانصاف ومن الكرامة والانسانية، بل هو أكد مرارا وتكرارا على أهمية الصيغة اللبنانية وضرورة حفظها وتطويرها.. وتذكرون كيف انه امتلك شجاعة التراجع عما كان يدعو اليه (مشروع الديموقراطية العددية) وشجاعة الإعلان عن هذا التراجع، والقول بأنه "تبصّر" ودرس الحالة اللبنانية، فدعا في آخر أيامه الى "خصوصية لبنانية"،جعلته يقول بأنه لو حصلت وحدة عربية شاملة فسيكون هناك دولتان عربيتان مستقلتان: دولة الوحدة، ودولة لبنان. وقوله ان لبنان ليس فقط حاجة وطنية لبنانية، بل هو ضرورة عربية وإسلامية. وقد صاغ في وصاياه الاخيرة رؤيته للمشاركة والشراكة في أروع صياغة انسانية حضارية تجاوزت كل المألوف الاسلامي والمشهور العربي وحتى اللبناني فقال":أدعو المسلمين اللبنانيين والعرب الى الحرص الكامل التام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان، وعلى تكاملهم وعلى شعورهم بالانتماء الكامل، والرضى الكامل، وعلى عدم اي شعور بالاحباط، او بالحرمان، او بالنقص، او بالانتقاص، او بالخوف على المستقبل وما الى ذلك". ولم ينس الامام التذكير بأن "هذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة، وعلى الحس الانساني فقط، وإنما هي قائمة على حقائق موضوعية اساسية لا بد من مراعاتها"... فالهدف ليس حفظ المسيحيين كوجود مادي، وإنما الوجود والحضور معا، "والفاعلية والدور في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم"، أي ليس فقط في لبنان، وليس فقط كوجود وإنما كفاعلية وكدور وكشراكة وكصنّاع قرار وقادة لحركة التاريخ العربي والاسلامي.