عن السلفية والجهاد و"القاعدة"(1)
مقالة من 3 حلقات نشرت ابان أحداث نهر البارد في ايار 2007سعود المولى
خلال الأيام الماضية، ومنذ قيام عصابة "فتح الإسلام" الإرهابية بالاعتداء الغادر والجبان على الجيش والسلم الأهلي في لبنان، قامت وسائل الإعلام المرتبطة بالمشروع السياسي للمعارضة بحملة تضليل وتعمية إيديولوجية فاقعة تبارى فيها عدد من الموظفين في أحزاب المعارضة تحت عنوان أنهم من "المتخصصين" في الحركات الإسلامية والأصولية والسلفية والجهادية (.. الى آخر ما هنالك من تسميات) وكل ذلك لإظهار أن ما يسمى "فتح الإسلام" هي تنظيم أصولي إسلامي جهادي مرتبط بـ"القاعدة" وبالسلفية الجهادية وينتسب الى الوهابية والسعودية.. واستخدم هؤلاء الجهابذة كل ما في جعبتهم من أكاذيب وأضاليل لحجب الحقيقة وتعمية الرأي العام وإثارة البلبلة والحيرة والضياع.. الأمر الذي يُسهّل تمرير مخطط إحداث الخروق الأمنية الخطيرة لضرب الاستقرار قبيل موسم الصيف وللتهديد بتفجير لبنان في حال إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن.
1 ـ السلفية: نسبة الى السلف، هي دعوة الى الاقتداء بالسلف الصالح أي أهل القرون الأولى من عمر الأمة الإسلامية ترجمة للحديث المشهور عن الرسول (ص): "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته".
وبهذا المعنى العام، أي معنى الاقتداء بصحابة الرسول وأهل بيته، وبالمسلمين الأوائل، فإن جميع المسلمين هم سلفيون طالما ساروا على سنّة الرسول واهتدوا بهديه.. أما بالمعنى السياسي الحديث فقد اختصت تسمية السلفية بفئات محددة دعت الى العودة الى النصوص الشرعية وسيرة السلف الصالح في كل أمور حياتنا. وبداية استخدام المصطلح لعلها كانت عرضاً خلال المجادلات الكلامية التي دارت بين الحنابلة والمالكية من جهة والمعتزلة من جهة أخرى، في مسألة خلق القرآن والقول بنفي الصفات عن الذات الإلهية ومسألة القضاء والقدر في أفعال الإنسان.. وذلك في القرن الثالث للهجرة. والحال أن الإمام أحمد ابن حنبل هو أول من استخدام كلمة سلف حين دافع عن موقفه بعدم خلق القرآن قائلاً: "رُويَ عن غير واحد من سلفنا أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.. وهو الذي أذهب إليه". واستخدمها شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية في القرن السابع ـ الثامن للهجرة حين وضع "علماء المسلمين من السلف" في مقابل الفلاسفة وعلماء الكلام... ثم استعادها الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر ميلادي) حين وصف مذهبه بأنه "مذهب السلف الصالح" في مواجهة مذهب الأحناف والطرق الصوفية المعتمد في الدولة العثمانية.
فالخلاصة أن ما يسمى بالسلفية هو اتجاه "أهل الحديث" في مقابل "أهل العقل والرأي" في مسألة فهم النص القرآني والحديث بعد وفاة الرسول (ص) حيث يرى السلفيون أن صحابة الرسول (السلف الصالح) هم أولى الناس بتأويل النص وتفسيره وأن علينا الرجوع إليهم في ذلك.
ويُقابل هذا الاتجاه عند الشيعة الإمامية: "الإخباريون" الذين قالوا بأخذ الحديث عن أئمة أهل البيت وبأن الحديث المأخوذ عن الأئمة يكفي لمواجهة كل أمور الدنيا والدين. وقد واجهوا الاتجاه المعروف "بالأصولي" (نسبة الى علم وأصول الفقه) ورفضوا الاجتهاد كما رفضوا المرجعية والتقليد وقالوا لا نأخذ إلا بالأخبار الواردة عن الأئمة في تأويل النصوص وشرح الأمور.
وإذا كان ابن حنبل وابن تيمية هما أبرز أعلام المذهب السلفي، فإن الطحاوي (القرن الرابع الهجري) والبيهقي (القرن الخامس) وابن القيم الجوزية (القرن الثامن)، وصولاً الى الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر للهجرة، قد أرسوا دعائم هذا المذهب وقواعده.. والتي يمكن إيجازها في العناوين الآتية:
أ ـ التنزيه في التوحيد ونفي التشبيه.
ب ـ رد الخلق والأفعال الى تقدير الله وعلمه ومشيئته وقدره.
ج ـ تقديم الشرع على العقل، والتسليم بنصوص القرآن والسنة وتفسيرها بلا تأويل ولا هوى.. وذم الكلام والفلسفة.
د ـ إثبات أمور كالإسراء والمعراج بالشخص، واللوح والقلم والعرش والكرسي وعذاب القبر والصراط والميزان وأشراط الساعة.. إلخ.
هـ ـ إثبات الإيمان والإسلام لأهل القبلة فلا يُكفّر أحد منهم بذنب ما لم يستحله.
و ـ البراءة من أهل البدع والأهواء مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية والشيعة وغيرهم ممن "خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة".
ز ـ رفض الخروج على السلطة أو السلطان "لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعة، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجلّ فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، ونتبع السنة والجماعة، ونتجنّب الشذوذ والخلاف والفرقة".
ح ـ حب السلف من الصحابة والإيمان بعدالة الجميع، وعدم التبرؤ من أحد منهم، والخلافة للخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، على الترتيب.
2 ـ السلفية المعاصرة
في مطلع القرن الثامن عشر ميلادي ابتدأ الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1703 ـ 1791) دعوة إصلاحية إحيائية سلفية انطلقت من نجد في شبه الجزيرة العربية وامتدت الى بقاع أخرى مثل الهند (ولي الدين الدهلوي) واليمن (محمد بن علي الشوكاني) والعراق (شهاب الدين محمود الألوسي) وافريقيا (عثمان دان فودي).. وكانت الوهابية تدعو الى التمسك بظاهر النص، كوسيلة للحفاظ على الهوية الإسلامية، وعلى محاربة الطرق الصوفية من أجل الرجوع الى نقاوة التوحيد. وبرزت الوهابية بقوة بسبب تحالفها مع آل سعود ومحاربتها للدولة العثمانية..
أما في المشرق العربي فقد قاد الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا حركة سلفية إصلاحية نهضوية تدعو الى "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه الى ينابيعه الأولى" (محمد عبده 1849 ـ 1905). وقالت بأن "معرفة الإسلام الصحيح تستمد من القرآن والحديث وفهم الصحابة والسلف الصالح" (محمد رشيد رضا 1865 ـ 1935). وبتأثير من السيد جمال الدين الأفغاني (1838 ـ 1897) اقترنت السلفية النهضوية الإصلاحية بعملية البحث عن أسباب تأخر المسلمين (شكيب أرسلان 1869 ـ 1946) وبمواجهة التحدي الغربي عبر إصلاح الواقع الإسلامي المتخلّف.
وكانت سلفية الأفغاني ثورية وفلسفية في آن، تدعو الى الإصلاح وإلى نزعة عقلانية طوّرها لاحقاً تلميذه محمد عبده. أما رشيد رضا فقد انحاز في آخر حياته الى السلفية الوهابية. وعلى مقلب آخر، وبسبب الهجمة الاستعمارية الكبيرة في القرن التاسع عشر والهادفة الى احتلال بلاد المسلمين وضرب الدولة العثمانية، تطوّرت حركات سلفية من طبيعة مختلفة عن الحركة الوهابية. وكان محور عمل هذه الحركات مقاومة الاستعمار والدفاع عن الوطن وإحياء مفاهيم الجهاد والخلافة.. كما نرى ذلك في الحركات المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا وحركات الشيخ أبو شعيب الدوكالي ومحمد بن العربي العلوي في المغرب.. وقد اختلفت جميع هذه الحركات عن الوهابية في أنها لم تعادِ الحركات الصوفية بل جاءت من قلبها، وفي أنها سعت بوضوح الى السلطة وتعاطت الشأن السياسي، في حين أن الوهابية أعطت آل سعود امتياز واحتكار السياسة والسلطة. وبين اتجاه السلفية النهضوية الإصلاحية واتجاه السلفية المقاومة الوطنية، يمكن إدراج المفكرين الوسطيين الذين حملوا معالم الاتجاهين، خصوصاً لجهة إحياء الدعوة الوطنية والإصلاحية وقضايا النهضة ومقاومة الاستعمار.. ومن هؤلاء نذكر شكيب أرسلان، وعلال الفاسي (1910 ـ 1974) وعبدالرحمن الكواكبي (1848 ـ 1902) وعبدالحميد ابن باديس (1889 ـ 1940) ومحمد إقبال الباكستاني وغيرهم.. يقول علال الفاسي في ذلك: "إن امتزاج الدعوة السلفية بالدعوة الوطنية كان ذا فائدة مزدوجة في المغرب الأقصى على السلفية وعلى الوطنية معاً، ومن الحق أن نؤكد أن المنهج الذي اتبع في المغرب أدى الى نجاح السلفية بدرجة لم تحصل عليها حتى في بلاد محمد عبده وجمال الدين"..
سلفية الحركة الإسلامية الحديثة
مع الإمام الشهيد حسن البنا (1906 ـ 1948) تأسست جماعة الاخوان المسلمين كحركة إحياء إسلامية ذات فعالية حركية تغييرية عبر طرق الدعوة والإصلاح.. يقول الشهيد البنا: "وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك أن الاخوان المسلمين دعوة سلفية لأنهم يدعون الى العودة بالإسلام الى معينه الصافي: كتاب الله وسنة رسوله" و"اننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنّة في شمالنا، وعمل السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قدوتنا".. ولم تكن حركة الاخوان المسلمين متشدّدة في الأمور العقائدية إذ أنها ركّزت على المسألة السياسية بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال وتقسيم العالم الإسلامي، فدعت الى إقامة الدولة الإسلامية، أو تطبيق الشريعة، وان الإسلام دين ودولة، وإقامة تنظيم حركي يجسّد هذه الأهداف. ومن هنا كون سلفيتها سياسية حركية وإصلاحية تغييرية، وتدرجية تربوية، ودعوية ومؤسسية تطوعية.. إلخ..
وإلى هذا الاتجاه المعتدل الوسطي ينتمي راشد الغنوشي وحركة النهضة في تونس، وحسن الترابي في السودان، والجماعة الإسلامية في باكستان (وفي لبنان) وكافة فروع الاخوان المسلمين في سوريا والعراق والأردن، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وفي تركيا. ويقدم راشد الغنوشي تفسيراً لمعنى السلفية الحركية الإصلاحية بقوله: "إنها تعني رفض التقليد المذهبي الفقهي والعقائدي، والعودة في كل ذلك الى الأصل: الكتاب والسنّة وتجربة الخلفاء والأصحاب والتابعين، ومحاربة الوسائط بين الخالق والمخلوق، وأولوية النص على العقل..". و"السلفية تعني أولاً التحري في معرفة حكم الله في الكتاب والسنّة قدر المستطاع، وثانياً عدم التعصّب للمذهب.. ويلحق بالمعنى السلفي إبعاد الخلاف وتوحيد الصفوف"...
هذه السلفيات المعاصرة: سلفية محمد بن عبدالوهاب (الوهابيون) وسلفية أهل الحديث عموماً (المحدّث ناصر الدين الألباني في دمشق، والعلاّمة المجاهد الكبير زهير الشاويش في بيروت)، وسلفية الحركات الوطنية (شكيب أرسلان وعلال الفاسي ومحمد إقبال) وسلفية الاخوان المسلمين، تنتمي كلها الى إطار الإصلاح والتغيير بالتي هي أحسن والسير على هدي الكتاب والسنّة والتعامل بالموعظة والدعوة وبالتربية والقدوة.