بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه:
أين المواطن وأين الدولة المدنية؟
كلمة سعود المولى في ندوة تكريم الدكتور وجيه كوثراني،المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.
"بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه" كتاب جديد للمؤرخ والباحث الدكتور وجيه كوثراني، يستحق التنويه والتقدير لأسباب عدة.. فهو يأتي في لحظة حرجة يعيشها الفكر الشيعي وسياساته في لبنان والعراق وإيران، وفي لحظة جمود لفقه الإصلاح والتجديد منذ غياب الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين. فيعيد وجيه كوثراني وصل ما انقطع في تراثنا وتاريخنا وفقهنا وواقعنا، مستعيداً الكبار الكبار من أعلامنا، ومؤسساً لرؤية معرفية وفقهية ـ كلامية على الخطى نفسها التي سار عليها صديقنا المشترك الشهيد الدكتور فاضل رسول، والمحقق الباحث الإصلاحي الإيراني محسن كديور، والدكتور عبدالكريم سروش، وغيرهم من أعلام الإصلاح والتجديد والوعي النقدي والشجاعة الأدبية.
منذ التقيت وجيه كوثراني وعملت معه، أي منذ العام 1969 ـ 1970، وهو على ما عهدته فيه يومذاك من تواضع جم (هو سمة العالِم الحق) ومن ولع بالحقيقة ونهم الى المعرفة وبحث دائب وجهد جاد، ومن شغف الى حدود المثال، بالواقع الممتلئ تفاصيل حياة ونضال ومواقف وأفكار، هي بعض من تاريخنا المشترك ومن مستقبلنا الواعد..
كنا في خلية 23 نيسان (نسبة الى انتفاضة 23 نيسان 1969) المسؤولة عن القطاع الطلابي في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين ـ لبنان الاشتراكي (التنظيم الموحّد الذي صار لاحقاً منظمة العمل الشيوعي أيار 1971) قبل أن نتركه: وجيه (تموز 1971) وأنا (تموز 1972)... لينصرف هو الى متابعة التحصيل العلمي والبحث والدراسة في بلجيكا وغيرها.. ولأواصل أنا مسيرة البحث والدراسة في فرنسا، كما النضال والقتال في جنوب لبنان.
وكنا، وجيه وأنا، مع أحمد بيضون ووضاح شرارة وعلي حرب وسميرة حميدان وعزة شرارة وسناء البواب وحكمت العيد ونصير الأسعد ومختار حيدر.. وغيرهم.. في قلب معركة الطلاب الثانويين وانتفاضتهم ضد سياسات التصفية (العلامة اللاغية في اللغة الأجنبية) والعزل والتهميش (مسألة المعادلات) والقمع والتنكيل.. فكانت انتفاضة 1970 ـ 1971 وأداتها نشرة "صوت الثانويين".
وكنا مع المقاومة بكل أشكالها كتجسيد للحقوق العادلة للشعبين اللبناني والفلسطيني.. من انتفاضة 23 نيسان 1969 الخالدة الى تجمع الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية والتقدمية، الى الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية بقيادة كمال جنبلاط، الى لجان تحصين ودعم الجنوب، الى تجربة السيد موسى الصدر في كفرشوبا وفي كل الجنوب.. إلخ.. ومن تجربة منظمة الاشتراكيين اللبنانيين ـ لبنان الاشتراكي، الى التجربة الماوية المستقلة، الى التجارب الجماهيرية النضالية المختلفة تحت عنوان "اليسار الجديد"، الى التجارب مع الحركة الشيعية النهضوية الاصلاحية لموسى الصدر ثم مع الثورة الإيرانية بشقها الإصلاحي الديموقراطي.. انشغل وجيه في كل هذه المراحل والتجارب بهم واحد هو فهم التاريخ وفهم الواقع في نظرة علمية تبحث عن مواطن التغيير نحو الأفضل دوماً. وحين انشغل وجيه بالاتجاهات الاجتماعية ـ السياسية للواقع اللبناني والعربي (أطروحته وكتابه الأول)، أثبت قدرة وكفاءة على قراءة التاريخ واستعادة محطاته في خدمة الناس والتغيير والمستقبل.. هذا هو المصلح المعتدل، الفقيه العالِم، الباحث المؤرخ، وجيه كوثراني، الذي يعطيني ألف سبب وسبب لكي أستمر على المحبة والوداد، وعلى الصداقة والزمالة رغم كل المحن والصعاب.
في كتابه الجديد، يواصل وجيه الحوار والنقاش الذي كنا بدأناه مع شيخنا الجليل الإمام محمد مهدي شمس الدين، منقباً باحثاً في فقهنا الشيعي الإصلاحي وفي فكرنا السياسي اللبناني وفي واقعنا العملي، حاملاً الهم نفسه والهاجس نفسه، الدولة والوطن. ومن نقده استقواء أهل السياسة بالدين، الى فضحه ثقافة الحزب ـ الطائفة (أي استقواء أهل الدين بالعصبية وبالسياسة) الذي يقمع المثقف والمفكر والمواطن والوطن، الى تفكيكه ذهنية اختزال الحياة السياسية اللبنانية بالطائفة، أو بحزبها الحاكم الوحيد فيها (وعليها)، أو بثنائية حزبية عصبية بغيضة تتناتش المغانم والمواقع في الطائفة والدولة والوطن، وعلى حسابها (وكل الكلام السابق هو مني وليس من كتاب وجيه). يدعونا كوثراني الى التأكيد على أن وحدة المواطنين هي أساس وحدة الدولة/ الوطن، وليس وحدة الطائفة، وأن العقد الاجتماعي المدني بين المواطنين والدولة هو خلاص الجميع. ووجيه في ذلك يؤكد انتسابه الصريح والمعلن الى المواطنة والمدنية، وإلى الإصلاح والديموقراطية، وإلى الإنسان، المقدّس الوحيد الذي ليس فوقه أي مقدّس (حتى الدين وُجد لخدمة الإنسان وليس العكس، على ما كان يردّد أمامنا شمس الدين). ولهذا فإن وجيه يقدّم إلينا في كتابه كشف حساب نظرياً، فقهياً وكلامياً، مع كل التهويمات الإيديولوجية الدينية (والشيعية تحديداً) التي حاولت وتحاول اختزال الدين بالسياسة، واختزال السياسة بالسلطة وموازين القوة، ومع كل محاولات تقييد المواطن والوطن بقيود "وحدة الطائفة" و"شرعية الحزب وإلهيته" وعصمة القائد وقداسته.
والمسألة الأساس في كتاب "بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه" هي كيفية إنزياح ذلك البناء النظري والعملي العظيم الذي شاده كبار فقهاء الإصلاح عند الشيعة، انزياحه بقوة وبقسوة صوب أحادية نظرية ولاية الفقيه، وأحادية مرشدها وحزبها وقائده. كان وجيه كوثراني قد ابتدأ بالإطلالة على هذا الموضوع الخطير في واحد من أهم كتبه (ولعله الأهم) هو كتاب "الفقيه والسلطان" الذي ناقش فيه جدلية العلاقة بين الدين والسياسة من خلال نموذجي الدولة العثمانية والدولة الصفوية.. وهو بذلك يندرج ضمن سياق أعمال الشهيد الدكتور علي شريعتي، والمرحوم الدكتور مهدي بازركان، والشهيد الدكتور فاضل رسول. إلا أنه يتميّز عنهم باستعادته مقولة "إبن خلدون" عن "العصبية المتغلبة" التي تستقوي بالدعوة الدينية لتزداد قوة وبأساً، ولينبّه ويُحذّر الى أن اللجوء الى الدين من قبل السلطان يُفسح في المجال واسعاً أمام أي كان في المجتمع لاستخدام الدين نفسه وبالأسلوب نفسه. وهكذا فإن الإسلاميين الحركيين لم يستشعروا خطورة ترسيخ الفرقة بين أهل الأديان، واستخدموا، كما غيرهم من القوى السياسية، الحاكمة والمحكومة، السلطات كما المعارضات، ورقة الدين والخلاف الديني لترسيخ مواقعهم في الشارع، وانغمسوا في حسابات تكتيكية وانتهازية ضيقة الأفق تقوم على أساس تحريك الشارع والسيطرة عليه من دون النظر الى عواقب الأمور على الوحدة الوطنية والوطن، وعلى الشخصية الثقافية والمواطنية السوية للمواطن وللمجتمع، لا بل وعلى الدين نفسه.
وفي هذا الإطار تقع أزمة المثقف والباحث والناقد الذي عليه الانضواء في الجسد السياسي للطائفة أو "الخروج" على طائفته ودفع أثمان ذلك حين تكون الطائفة معبأة إيديولوجياً ودينياً حول قداسة حزبها وزعيمه وحول تكفير وتخوين كل "خارج" على هذا الإجماع. فيتعطل دور المثقف والباحث والمواطن، والمنتج لمعرفة ما أو لفن أو إداع، لصالح أدوار هامشية لا تسمح له "بالتأثير" في الناس..
والحقيقة أنني كنت منذ مطلع السبعينات شديد الحساسية تجاه مسألة الصلة بالناس هذه، الى حد الغرق في الشعبوية الماوية تارة، وفي الحركية النضالية والجهادية تارة أخرى، في حين أن تراث شيعة أهل البيت والأئمة منهم هو تراث التأكيد على الاستمساك بالحق والعدل (ولو على ذي قربى)... أليس هذا ما قاله علي: إعرف الحق تعرف أهله، وما أوحش طريق الحق لقلة سالكيه؟؟ أليس هذا هو تاريخ ما قاله في نهج البلاغة في ذم الحشود والناعقين مع كل ناعق في غربال؟ أليس هذا ما قاله وسلكه الأئمة الحسن والحسين وكل من جاء بعدهما من أئمة ومن صحابة ومن رجال؟ إذن فلم الخوف؟ "ما دمنا على الحق لا نبالي، وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا".. يقول وجيه كوثراني في أجمل مقطع من كتابه: "قد يسهل على أصحاب الخطاب الديني أن يعبئوا ويقودوا العامة الى ما يريده خطابهم السياسي، بل يسهّل عليهم أن ينشئوا استشهاديين تأسيساً على حقائق إيمانية مطلقة ووعداً بالجنة، بل ويسهل عليهم أن يُعمموا على الأتباع والمحازبين، وعلى جمهورهم العريض، أنهم جميعاً الأنقى والأطهر والأشرف (..) أي أنهم بتعبير سلفي قديم "الفرقة الناجية" الوحيدة. ولكن ما المحصلة إذا ما استمر العمل السياسي الإسلامي المعاصر يؤسس لنفسه أي لقياداته وكوادره وجمهوره وبرامجه ومواقفه، على قواعد وأساليب الثقافة الدينية والتعبئة الدينية وفقه الحلال والحرام، والإيمان بالمقدس ونبذ غير المقدس...؟" (إنتهى كلام وجيه)..
نعم، ما المحصلة التي سيقف بها هؤلاء أمام الله يوم القيامة، أو أمام الناس يوم الحساب الديموقراطي، أو يوم الكوارث والمآسي؟ لقد أسس الصفويون والعثمانيون لشرعنة ولايات الغلبة والاستيلاء وصولاً الى "وجوب" وحدة السلطان الديني والسلطان الزمني (رئاسة في الدين ورئاسة في الملك) في شخص السلطان. وهذا "الوجوب" استدخلته الثقافة الإسلامة "في نصوصها وأعرافها من خلال الاعتقاد الشائع أن الإسلام دين ودولة، ولا ثنائية فيه، وشكل مأساة التاريخ الإسلامي على امتداد مراحل فتنه وحروبه الأهلية". على أن ما كان يشغل بالي وبال كل من رافق وحاور الإمام شمس الدين واستفاد من علمه وحكمته، سؤال مختلف حاول وجيه الإجابة عنه من دون القطع أو الحسم بشأنه. والسؤال هو الآتي: ماذا نعني بالدولة المدنية؟ وكيف يمكن بناء هذه الدولة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من دون الوقوع في النقل الأعمى للنموذج الغربي الأصولي العلماني؟ وهل يمكن تحقيق "الانسجام" بين الدين والدولة (على ما يقول اتفاق الطائف) أم أن المطلوب تحقيق قطع وفصل كما في التجربة الغربية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟ وهل صحيح أن قانوناً وطنياً، لا طائفياً، للانتخابات النيابية، وقانوناً مدنياً للزواج والأحوال الشخصية هما فعلاً الحل لمشكلاتنا اللبنانية (الطائفية السياسية) والمدخل الى معالجة قضايا الدين والدولة في المجتمعات العربية ـ الإسلامية؟ لا يفعل وجيه كما فعل بعض المثقفين من أصدقائنا في التهكم على مشروعية هذه الأسئلة وفي عرض العضلات العلمانية الفارغة (مثال الكتيّب الذي نشرته دار النهار عن الموضوع، ومثال معظم الكتابات الصادرة عن أصولية علمانية لا معرفة سوسيولوجية لها بالواقع وتعقيداته، ولا بالتجارب الغنية للمجتمعات المختلفة).
سألت الإمام شمس الدين يوماً ما هي حقيقة انتقاداتك لكتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم"؟ وما كان سيكون موقف محمد عبده لو أنه كان حياً حين حوكم الكتاب واضطهد صاحبه؟ وما الاختلاف بين دعوتك يا سماحة الشيخ الى "دولة مدنية لا دين لها" وبين دعوى كتاب علي عبدالرازق؟ وكان الشيخ قد كتب كتابه الأول "نظام الحكم والإدارة في الإسلام" حين كان طالباً يافعاً في النجف (1954) في أجواء صحوة الهوية الإسلامية السياسية والثقافية التي أطلقها الاخوان المسلمون في مصر وكتابات سيد قطب والنبهاني يومذاك.. علماً أن الحزبية السياسية الشيعية الإسلامية هي ابنة شرعية لثقافة الاخوان وسيد قطب نفسها، وحزب الدعوة الشيعي وُلد من صلب تلك التجربة واقتدى بها.. يومها قال لي الشيخ ما قاله في مقابلة شهيرة أجراها معه وجيه كوثراني في مجلة منبر الحوار، حول العلمانية والإسلام.. قال الشيخ: "يمكن أن نتصوّر ونرسم مخططاً لدولة إسلامية لا تفترق عن أي دولة مدنية حديثة. فلنسمّها علمانية إذن، ومع الحفاظ على الخلفية الفلسفية للتشريع.. ومع الحفاظ على السمات العامة التي تميّز المسلم عن غيره وخصوصية السمات الثقافية موجودة في كل حضارة ولدى كل مسلم. وكان الإمام سباقاً الى لفت الانتباه الى الخصوصيات الثقافية والدينية والاثنية واللغوية للجماعات التي تكوّن اجتماعنا السياسي على المستوى المحلي اللبناني كما العربي والإسلامي.. ويومها قلت له حين سمعت منه عبارة "دولة لا دين لها": هي علمانية إذن وفصل كامل بين الدولة والدين واستعادة لمقولات علي عبدالرازق؟ قال الإمام بصوت حاسم: لا أبداً.. لأن علي عبدالرازق أخطأ خطأ كبيراً دلّ على عدم معرفته بالواقع الإسلامي أو على تسرعه بنقل أفكار غربية عن المسلمين، وذلك حين دافع عن موقفه بأن النبي كان رسولاً ومبشراً ونذيراً فقط وأنه لم يؤسس دولة.. وهذا خطأ تاريخي أصلاً لأن الرسول أسس دولة في المدينة وعقدها الاجتماعي هو صحيفة المدينة (أو ميثاقها ودستورها).. علي عبدالرازق وقع في ما وقع فيه طه حسين حين أخذ عن المستشرق مرغليوث وبتسرع أفكاره حول الشعر الجاهلي والقرآن.. وهما تراجعا عما كتباه، ولم يكن الأمر تحت ضغط وإكراه بقدر ما كان يدل على تواضعهما وعظمتهما، خصوصاً حين كتب طه حسين سلسلته حول الإسلام: الفتنة الكبرى، وعلي وبنوه، والشيخان، إلخ.. كما كتب العقّاد عبقرياته..
المهم أن ما أراده الشيخ وما أكد عليه في المقابلة الشهيرة مع كوثراني هو "توليد علمانيتنا الخاصة بنا، وحداثتنا الخاصة بنا، وأن ننتج ديموقراطيتنا"، وولاية الأمة على نفسها، وأن نقتبس في ذلك من الغرب "لأن الخير في كل حضارة هو "أحسن قولها" (حسب التعبير القرآني) أو هو أفضل تجاربها (بتعبيراتنا المعاصرة)".. ويقول الشيخ أيضاً: "الخشية القائمة الآن لدى العلمانيين لها ما يبررها إذا ما أردنا أن ننتج دولة على غرار تلك الدول المسماة إسلامية: دولة شمولية، بالمصطلح الحديث، أو دولة سلطانية بالمصطلح التاريخي. أنا كفقيه مسلم وإسلامي لا أوافق أبداً على دولة من هذا القبيل ولا أراها إسلامية، وأفضل عليها أي صيغة تتم برضى الناس واختيارهم".. وحين أقول إنني كنت أسير على نهج الإمام، وأختلف مع الكثير من الأصدقاء "العلمانيين" حول فهم العلاقة بين الدين والدولة، فذلك لأقول أن مساهمات وجيه كوثراني كانت تتميّز عن مساهمات غيره من العلمانيين.. فهو "المقتنع شخصياً بأكثر مفاهيم الحداثة السياسية"، كان مقتنعاً أيضاً بأن "الإصلاح الديني الذي كان شرطاً من شروط النهضة الأوروبية، غاب عن النهضة العربية والإسلامية أو أن بواكيره أُجهضت مع مقتبل النهضة الدستورية على يد الحزبية الإسلامية السلطوية وعلى يد الحزبية القومية الانقلابية التوتاليتارية". وإني أوافقه الرأي في ذلك، مع فارق بسيط هو أنني أعتبر المسؤول الأول عن إجهاض النهضة الدستورية (في حركة الدستورية والمشروطة والوفد وغيرها من التجارب) هو الحزبية القومية الانقلابية والعسكرية والتوتاليتارية حين لم تكن الحزبية الإسلامية قد ولدت بعد، أو أنها ولدت جواباً عكسياً على هذا الإجهاض.
وكتاب كوثراني يعيدنا الى استذكار تاريخ وتراث الإصلاحيين الشيعة في هذا المجال، وانطلاقاً من الموضوعة الأساس التي تخترق الكتاب من أوله الى آخره، وهي أن "ولاية الفقيه" لا تمثل الفقه الشيعي ولا تنتمي الى سياق ومرجعية الإصلاحية الشيعية الحديثة، لا بل هي قطع معها واستعادة لمفهوم توحّد السلطة الزمنية والسلطة الدينية في شخص السلطان، أي أنها استعادة "حداثوية" للنموذج الصفوي السلطاني العصبي، سبب كل مصائبنا. وبهذا المعنى فإن "ولاية الفقيه" لا تمثل حتى فقهاء الشيعة زمن العصر الصفوي، الذين لم يتوحّدوا حول المؤسسة الدينية الصفوية ولم يسلّموا بمقولة "نيابة الإمام" إلا بمعنى كونها تسمح بتعدد مرجعيات الاجتهاد والتقليد من دون معنى الصلة بالسلطة والسلطان أي بتأسيس دولة.
وقد ظلّت الغالبية الساحقة لمجتهدي الشيعة وإلى يومنا هذا تقول بمحدودية ولاية الفقيه أو لا إطلاقيتها، أو بتقييدها بحدود مرجعية الاجتهاد المعمول بها منذ غيبة الإمام المهدي. وقد وقف الشيعة على العموم ضد زجّ "نيابة الإمام" أي "الفقيه المجتهد" أو "المرجع الديني"، في المؤسسة السلطانية أي في جهاز الدولة. ونشأت بينهم تيارات واتجاهات عدة التقت كلها على تحديد ولاية الفقيه وعلى الاستقلال عن الدولة.. من الاتجاه الإخباري (أي السلفي المحافظ) الى الاتجاه الأصولي ـ الإصلاحي (ورأسه الشهيد الثاني زين الدين بن علي الجبعي العاملي الذي ذهب ضحية الصراع العثماني الصفوي حين كان يفتي أهل جبل عامل الشيعة وأهل صيدا السنة)، الى الاتجاه النقدي العرفاني الاجتماعي (أي الصوفي وصاحبه الملا صدر الدين الشيرازي وبهاء الدين العاملي وغيرهما.. علماً أن الإمام الخميني تأثر في شبابه بهذا الاتجاه كما غيره من أعلام فقهاء الشيعة في قم والنجف).. وصولاً الى الشيعة الإصلاحية الحديثة وعلمها الأول الميرزا حسين النائيني صاحب كتاب "تنبيه الأمة وتنزيه الملة".. ولعل أهم فصول كتاب كوثراني هو ذاك الذي يتحدث عن أعلام الإصلاحية الشيعية الحديثة ويعرض أبرز أفكارهم.. وهنا لفتة مهمة من الكاتب تتعلق بالمرحوم الشيخ محمد جواد مغنية إذ هو يضعه الى جانب الأعلام المؤسسين من النائيني ومحسن الأمين، الى موسى الصدر وشمس الدين، وفي ذلك ما هو جدير بالتنويه والشكر لوجيه، خصوصاً بسبب مظلومية الشيخ مغنية الذي لم يعرف الشهرة رغم إسهامه الواضح والقوي في تمتين دعائم الإصلاحية الشيعية في النجف وجبل عامل..
يبقى أن الكتاب استعرض أفكار عبدالكريم سروش (القبض والبسط في الشريعة الإسلامية) ولم يتطرّق الى أعمال محسن كديور أو العراقي أحمد الكاتب، أو الشهيد المظلوم الدكتور فاضل رسول (أنور الكردي) الذي اغتيل غدراً في يينا حين كان يقوم بتكليف من دولة إيران الإسلامية بالوساطة بينهم وبين الزعيم الكردي عبدالرحمن قاسملو.. فجاء القتلة الى منزل أنور وقتلوه هو وقاسملو.. وكان فاضل رسول مؤسس مجلة الحوار (عملت معه فيها حين كنا ما نزال في فرنسا) التي انتقل الى بيروت ليصير اسمها "منبر الحوار" ويديرها وجيه كوثراني.. ويُسجل للشهيد أنور أنه أول من ترجم ونشر أعمال علي شريعتي ومهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر، وأنه كان أشجعنا وأفضلنا على طريق الحق والعدل.
وفي الختام، فإن الإصلاح الشيعي يحتاج الى كلام واضح صريح وإلى موقف أدبي وأخلاقي شجاع وجريء، لا يخاف في الحق لومة لائم أو نعيق الغربان.. واليوم ليس هناك ما هو أوضح وأشجع من الكلام الذي قاله وجيه كوثراني في هذا الكتاب. إنه كتاب يليق بصاحبه ويليق بالشيعة ويليق بنا جميعاً، وهو أفضل الكلام في هذا الزمان...