عن فائض التدّين عند المثقفين
بقلم سعود المولى
في إحدى مداخلاته النابهة تحدث الدكتور هشام جعفر (وهو مدير موقع اسلام اون لاين الالكتروني في مصر، وعضو في الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي) فلفت النظر الى مسألة "فائض التديّن" في المجتمع المصري (ولعله العربي أيضاً)..كما أن زميله القبطي الدكتور سامح فوزي (النابه ايضاً) لفت النظر الى ظاهرة "تديين المجال العام"..(أو تطييف المجال العام إن أردتم) ..والمقصود بذلك أنه لم يعد هناك مساحات مدنية للتفاعل الانساني بين الناس كمواطنين وكأفراد وكمنتجين وكمبدعين لحياتهم....الفاعلون الأساسيون في المجتمعات العربية (ومصر هي حالة بارزة) هم اليوم القادة الدينيون..ويحدث في المجتمعات العربية عموماً اصطفاف ديني (أو طائفي أو مذهبي، ناهيك عن القبلي العشائري) والكل صار يُعرّف نفسه في الإطار الديني..الهوية الوطنية أو المدنية لم تعد هي بطاقة التعريف والتحديد للمواطن والفرد وإنما حلت محلها هوية الجماعة الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو غيرها..وتصاعد السجال الديني حتى داخل كل طرف، والأجندات الدينية صارت هي المطروحة على الساحة العامة وفي المحافل والمجالس وفي الصحافة والإعلام، ما أدى الى مصادرة الأجندات الوطنية.. وكل هذا يؤدي الى تشتيت جهد النخب والقوى الوطنية في بناء الدولة والمجتمع..
غير أن ما يثير القلق أكثر من اي شيء آخر هو اختفاء فكرة القانون... ويتوارى موضوع الدولة نفسها ومدى جديتها وقدرتها..لم يعد هناك تمييز عضوي ووظيفي بين المجال السياسي والديني والدعوي بحيث يمكن الحكم عليها وفق قواعد تحكمها.. كما انه تم استدعاء اسوأ الخطابات الدينية ما زاد الوضع تأزيماً وتأزماً.... ورغم سيل الكلام عن الحوار والعيش المشترك والوحدة الوطنية، فاننا بالمقابل لا نرى أي جهد في اتجاه بناء توافقات استراتيجية بين القوى المحلية لإنجاز مرحلة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية..
بالأمس كنا في مصر ولفت انتباهنا حدة خطابات التشكيك والتخوين حتى بين أطراف الفريق العربي للحوار من مسلمين وأقباط..وهم المفترض أن يكونوا طليعة التهدئة والحوار العقلاني وضبط النزاعات وإطفاء الحرائق..
وعلى مقلب آخر وجدنا المكتبات المصرية تعج بالكتب السخيفة التافهة والحقيرة التي تحرّض على الحقد والكراهية وتبرر سفك دماء كل مسلم مخالف لعقيدة أو مزاج صاحب الكتاب..والأشد غرابة وجود كتب صادرة عن دور نشر محترمة (دار الشروق ودار الحرية مثلاً) وعن كتاب محترمين من اليساريين والتقدميين، أبسط ما يقال فيها أنها تنم عن جهل وعن ضيق افق وعن عقل مذهبي تكفيري أصحابه من أهل الفتن ليس إلا...فهذا الشيخ عبد المنعم النمر (عضو مجمع البحوث الاسلامية وأكاديمية البحث العلمي والمجلس الأعلى للثقافة الخ..) يكتب عن "الشيعة والمهدي والدروز" خالطاً شعبان برمضان،ومقترفاً أبشع صوَر الجهل والتجهيل، والتزوير والتشويه والتحقير والدعوة الى الفتنة وسفك الدماء.. وهذا المثقف الجهبذ والكاتب الفهامة جمال بدوي يكتب عن الدولة الفاطمية "دولة التفاريح والتباريح" ناسفاً كل ما هو جميل ومجيد في تاريخ مصر المعز والأزهر وبيت الحكمة..جاعلاً من المرحلة الفاطمية مرحلة فرض المذهب الشيعي والدرزي على الناس باسنة الرماح؟؟؟ خلاصة المقال أن فائض التدين الذي تحدث عنه هشام جعفر، وتديين المجال العام الذي تحدث عنه سامح فوزي، يبرزان أكثر ما يكون في هذه الأمثلة التي ذكرناها عن كتابات مصرية، حيث أن عدداً من مثقفي التسامح والوعي والعقلانية والانفتاح صاروا يسابقون عصابات التكفير في إبراز فائض تدينهم" المزعوم ، وفي محاولة تديين مجال الثقافة الوطنية والبحث العلمي ...
وتلك لعمري هي المصيبة الكبرى التي اصابت مصر منذ عقدين من الزمان..