الجمعة، 9 أبريل 2010

مبدأ التسامح الديني ومناهضة العنف في الاتفاقيات الدولية

مبدأ التسامح الديني ومناهضة العنف في الاتفاقيات الدولية

محمد المجذوب
يعتبر التسامح من أعظم القيم والمبادئ التي يجب أن تقوم عليها المجتمعات البشرية في العصر الحديث، بعدما زالت الفواصل بين الشعوب، وتلاشت الأبعاد بين الأقطار، وتشابكت المصالح بين الدول، وامتزجت الحضارات والثقافات حتى غدت ملكاً للعالم بأسره ينهل من ينابيعها كل إنسان مريد.
ناضل الإنسان الأوروبي قرونا لتحرير نفسه وفكره من سيطرة الكنيسة وسطوة رجال الدين فنجح، منذ قرنين تقريباً، وبصورة متدرجة، ومع تبلور فكرة الدولة والمجتمع المدني، في فصل الدولة عن الكنيسة، والحصول على المشاركة في اتخاذ القرارات في الدولة، والأخذ بمفهوم التسامح الذي يدل على قدر من المغايرة المسموح بها، وعلى قدرة المجتمع على استيعاب المعارضة واحترام الاختلاف في الرأي والعقيدة. وبذلك خرج مفهوم التسامح، بمعناه الشامل، من نطاق السلوك الفردي أو الذاتي أو الاختياري الى نطاق السلوك الجماعي والدولي والإلزامي، وأصبح أساساً لكل تنظيم سياسي، في الغرب أولا، ثم في العالم.
وقد تجلى هذا التطور في الإقرار بانتفاء العصمة، واحترام حق الغير في الاختلاف، والاعتراف له بكامل الحقوق والواجبات والحريات التي يتمتع بها (أو يجب أن يتمتع بها) كل مواطن.
وجاءت النظريات الليبرالية والديموقراطية تدعم هذا الاتجاه وتدعو الى مشروعية الحكم وسيادة الإرادة العامة المنبثقة من الاقتراع العام. وأكد العديد من المفكرين الذين نادوا بالحرية الدينية أن التسامح لا يصبح فضيلة إلا اذا اقترن باحترام عقائد الآخرين.
وبدأت آنذاك ساحة التعصب، وهو نقيض التسامح، تتقلص، وبدأ الإنسان يشعر ويقتنع بمحاسن التسامح بين البشر. وهكذا نرى أن التسامح بدأ دينياً، وحظي بتأييد فلسفي، ثم اكتسب، بفعل تنامي ظاهرة التعصب، موقعاً قانونياً، وأصبح، في الأنظمة السياسية الديموقراطية، الدعامة الأساسية لتقدم مسيرة حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وليس للتسامح موقف سلبي يتمثل في تجاهل الغير واللامبالاة بما يحدث ويجري في المجتمع من مآس وظلم وقهر وتحيّز بسبب التعصب. إن الأخذ بمبدأ التسامح يقتضي رفض عدم التسامح والدفاع عن المبادئ والقيم والتشريعات التي تنادي بالتسامح.
والتسامح الديني ليس الجانب الأوحد أو الأهم من جوانب التسامح، فهناك أيضا جوانب أخرى عديدة تتمثل في التسامح السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وغياب هذه الأنواع من التسامح، وأحيانا غياب أحدها أو تغييبه، قد يكون سببا في اندلاع الاضطرابات أو المعارك والاتجاه نحو التعصب أو العنف الديني
كان الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke (1632ـ1704) في (رسائله عن التسامح) التي نشرها في العام 1689، أول الفلاسفة المتنورين الذين اعتبروا أن التسامح هو الحل العقلاني الوحيد لوضع حد للصراعات والحروب الدينية التي استفحلت آنذاك في أوروبا، وان الحرية هي هدف المجتمع السياسي المتسامح.

وجاء بعده الأديب الفرنسي فولتير Voltaire (1694ـ1778) فقال في (قاموسه الفلسفي)
الصادر في العام 1764: «كلنا ضعفاء وميالون الى الخطأ، فدعونا نتسامح بعضنا مع بعض... ذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعية والمبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة».
وجرت محاولات لإيجاد الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها التسامح، فتم الإجماع على اعتبار التسامح واجبا أخلاقيا وعنصراً مكونا لحرية الإنسان الذي لا يمكن إكراهه على أن يكون حراً، ولكن يمكن إكراهه على أن يدع الآخرين أحراراً.
ومع النظريات والتطورات الديموقراطية التي طرأت على المجتمع الدولي تحوّل التسامح من مجرد فضيلة فردية الى قيمة قانونية، وأصبح أهم ركيزة في كل تنظيم سياسي واجتماعي يحرص على توفير الحقوق والحريات لأفراده والدفاع عنها.
وهذه المكانة الرفيعة التي تبوأها التسامح، منذ القرن التاسع عشر على الصعيد الدولي، دفعت الدول الى عقد معاهدات لرعاية حقوق الإنسان والقضاء على كل أنواع التمييز بين البشر. وكانت الإرهاصات الأولى مع المعاهدات التي نصت على حظر تجارة الرقيق والقضاء على العبودية. ففي عهد عصبة الأمم تمّ، في العام 1926، إبرام اتفاقية خاصة بتحريم الرق الذي يعد حالة اجتماعية يكون فيها المرء ملكاً لشخص آخر، أو لطرف آخر، وسلعة تقتنى كالأثاث، وتباع.

وفي القرن العشرين صدرت تشريعات وطنية حرّمت العبودية. وأبرمت اتفاقيات دولية بعدها نصت على تحريمها، حتى أصبح حظر ممارسة العبودية من القواعد الآمرة في القانون الدولي العام، ومن ضمن الجرائم الدولية ضد الإنسانية التي تخضع للعقوبات أمام المحاكم الجنائية الدولية. وقد شكل ذلك حدثاً مهماً في تاريخ محاربة التعصب. وفي الذكرى الستين لتبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (في العام 2008) أطلقت منظمة اليونسكو حملة ضد الرقّ باعتباره آفة قضي عليها رسمياً مع حظر تجارة العبيد.
وميثاق الأمم المتحدة هو المرجع الأهم في الدفاع عن حقوق الإنسان وترسيخ أركان التسامح. ففي ديباجته أكدت الشعوب إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الكائن البشري وقيمته، وبحق المساواة بين الناس، وأعلنت عزمها على أن تسلك طريق التسامح وتعيش معا في سلام وحسن جوار. وفي الفقرة الثالثة من المادة الأولى ورد أن من مقاصد الأمم المتحدة «تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا وتشجيعها، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين». ونصت الفقرة الثالثة من المادة 55 على إشاعة الاحترام العالمي والفعال لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين».
وفي العام 1948، صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعتبر حدثاً تاريخياً وإنجازاً حضارياً متميزاً للمجتمع الإنساني، وخلاصة رفيعة لأنبل ما دعت إليه الكتب المقدسة والفلسفات والنظريات الإنسانية التي نشرت في القرون الماضية وعبّرت عن توق الإنسان الى الحرية والمساواة والتسامح.
وفرادة «الإعلان العالمي» تكمن في ميزات متعددة، أهمها:
1ـ الطابع الإنساني الشامل والشمولي الذي أكسب «الإعلان» بعداً إجماعياً كونياً لم تحظ أية وثيقة أخرى بمثله، وجعل منه وثيقة عالمية تعبّر عن تطلعات إنسانية تسمو على التمايزات والفروق بين البشر.
2ـ انطلاق مفهوم حقوق الإنسان في «الإعلان» من مسلّمة تعتبر هذه الحقوق نابعة من الكرامة الأصيلة والملازمة للإنسان. ومن هذه الكرامة تنبثق الحقوق الأساسية التي يملكها الإنسان، مثل الحق في الحياة والحرية والمساواة والأمن.
3ـ اعتبار «الإعلان» المرجعية العالمية لحقوق الإنسان، فصدوره بغالبية ساحقة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، والإشادة به في كل مناسبة في المحافل الدولية، وإعلان الالتزام به في كثير من الدساتير الوطنية، يضفي عليه صفة الإلزام.
4ـ الإقرار بمبدأ عالمية حقوق الإنسان. وهذا يعني أن الوصول الى هذه الحقوق كان ثمرة كفاح البشرية عبر التاريخ ضد كل أشكال الظلم والقهر والتمييز والتعصب، وحصيلة تلاقح الحضارات والثقافات وتفاعلها خلال قرون طويلة. وعالمية الحقوق تعني أيضا أنه لا يجوز استثناء أحد في أي نظام أو منطقة في العالم من التمتع الحر بتلك الحقوق.
5ـ الإقرار العالمي بأن «الإعلان» دشّن، في إطار الأمم المتحدة، قيام نظام مؤسسي لحماية حقوق الإنسان. وقد غدا «الإعلان» من أهم أعمدة ذلك النظام الذي يضم أركان ما يسمى بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ومنها العهدان الدوليان المتعلقان بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والصادران في العام 1966. ومنها البروتوكولان الاختياريان للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ومنها عشرات الاتفاقيات المتعلقة بمختلف حقوق الإنسان، مثل منع جريمة الإبادة الجماعية، ومكافحة جميع أشكال التمييز العنصري، وإلغاء الرق وتجارة الرقيق، وتحريم السخرة... ومنها عشرات الاتفاقيات المتعلقة بالآليات والمؤسسات الخاصة بمراقبة انتهاك حقوق الإنسان، وربط حماية هذه الحقوق بهدف حفظ السلام والأمن في العالم، وإنشاء محاكم جنائية دولية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية.
وكان (الإعلان العالمي) المحطة التاريخية الأولى في مسيرة تطور حقوق الإنسان. والمادة 18 منه حسمت بعض الإشكالات عندما أقرت بحق كل شخص «في حرية التفكير والضمير والدين»، واعتبرت أن هذا الحق يشمل «حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده، أو مع جماعة، وأمام الملأ، أو على حدة».
وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يقر، في المادة 18، حق الإنسان في أن يدين بدين ما، وأن يعتنق أي دين أو معتقد يختاره.
وفي العام 1981، صدر الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، وسار في الاتجاه ذاته وكرّس حرية الدين، وعرّف مصطلح التعصب والتمييز، ومضمون عبارة الحرية الدينية.
وفي 14/6/1993، عقد في فيينا المؤتمر العالمي حول حقوق الإنسان، فطالب، في برنامج العمل الصادر عنه، جميع الحكومات باتخاذ جميع التدابير المناسبة لمواجهة أشكال التعصب والعنصرية وعدم التسامح.
ولم يقتصر أمر الاهتمام بمبدأ التسامح الديني على الأمم المتحدة وأجهزتها ومؤتمراتها، بل شمل كذلك المنظمات الإقليمية التي أتيح لها إصدار العديد من البيانات والقرارات لحماية الحرية الدينية.
ففي تموز 1992، أصدر مؤتمر لمنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي اليوم) قراراً نبّه فيه الى خطورة استعمال الدين لغايات تقوم على التمييز العرقي، ودعا الى تعميق التشاور لتعزيز قيم التسامح والاعتدال والتضامن في العلاقات الأفريقية. وفي اجتماعه في تونس، في حزيران 1994، أقر مدوّنة قواعد السلوك ودعا الى ضرورة التصدي للتطرف والإرهاب.
وكان مؤتمر القمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر، في كانون الأول 1991، قراراً أكد فيه «عدم السماح لأية حركة تستغل ديننا الحنيف للقيام بأي نشاط مناوئ لأي بلد عضو، ودعا الى التنسيق بين الدول الأعضاء لتطويق ظاهرة الإرهاب الفكري والمغالاة».
وفي حركة عدم الانحياز تعرّض رؤساء الدول والحكومات، في اجتماع جاكرتا في ايلول 1992، لمسألة الحرية الدينية، واعتبروا أن الإرهاب يشكل تهديداً خطيرا يحول دون التمتع بحقوق الإنسان، ومنها الحرية الدينية.
وهناك، على المستوى الأوروبي، وثائق عديدة في هذا الصدد، منها توصية صادرة عن المجلس الأوروبي، في شباط 1993، تدعو الديانات الى تأكيد القيم الأخلاقية المتصلة بالتسامح وحرية المعتقد.
وبعد صدور «الإعلان العالمي» توالى صدور الاتفاقية الدولية الداعمة والحامية لحقوق الإنسان ومبدأ التسامح، وازدادت الجهود الدولية الرامية الى إرساء مبادئ التسامح ومقاومة التعصب، ومنها:
ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (21/2/1965 (
ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على جريمة الفصل العنصري وقمعها (30/11/1973(
ـ الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد (25/11/1981(
ـ اتخاذ لجنة حقوق الإنسان (التي حل محلها في العام 2006 مجلس حقوق الإنسان، المرتبط مباشرة بالجمعية العامة للأمم المتحدة) قراراً في العام 1986 قضى بتعيين مقرر لتقصي مظاهر التعصب ومتابعة الإجراءات الحكومية الهادفة الى القضاء على هذه الآفة.
ـ إعلان حقوق الأشخاص المنتمين الى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية (18/12/1992(
وفي 20/12/1993، صدر قرار الجمعية العامة باعتبار سنة 1995 السنة الدولية للتسامح، «اقتناعا منها بأن التسامح ـ الاعتراف بالآخرين وتقديرهم، والقدرة على العيش مع الآخرين والاستماع الى الآخرين ـ هو الأساس السليم لأي مجتمع مدني...». ونص القرار على أن تكون منظمة اليونسكو الرائدة في تنسيق أنشطة السنة الدولية للتسامح، وأهدافها:
1ـ السعي للحصول على الدعم النشط لكل فرد يؤيد التسامح كأسلوب للسلوك الشخصي.
2ـ زيادة الوعي بالمشاكل المتصلة بالتعصب والعنف في العالم.

وفي الخلاصة نبدي بعض الملاحظات والانطباعات:

أولا ـ رغم الجهود التي بذلت، منذ عدة عقود، في القانون الدولي لإرساء مبادئ التسامح بين الدول وداخل كل دولة، فإن التعصب الديني أو العرقي أو الفكري قد عاد، في الآونة الأخيرة، الى الظهور والانتشار في مختلف أنحاء العالم. ومن مظاهره اللجوء الى السلاح والقيام بالأعمال الإرهابية، واشتداد العداوات والأحقاد، واندلاع المنازعات بدعوى الدفاع عن المعتقدات. وكل ذلك يؤكد لنا أن التسامح يحتاج الى دعم وحماية على الصعيدين الوطني والدولي.
ثانيا ـ على المؤمنين بمبدأ التسامح الديني أن يتنبهوا الى أمر مهم يتلخص في أن الدين أو المذهب الديني يمكن أن يوظف لغايات سياسية، أو لغايات لا علاقة لها بالدين، مثل الصراع على الحكم بين فئات تنتمي الى دين واحد أو أديان مختلفة، أو التذرع بحجة تقرير المصير، أو الرغبة في التخلص من حاكم معين، أو التمهيد للسيطرة على بلد معين. ولهذا ينبغي لنا التمييز بين التسامح والمصالح لئلا ينقلب الدين الى مجرد ذريعة.
ثالثا ـ إن حماية مبدأ التسامح الديني أو الحرية الدينية تحتاج الى وقاية تتعهد دول العالم بتوفيرها، وتتمثل أولا في إعادة الاعتبار للدين ورفعه الى مستوى الثوابت العصية على المتغيرات، وثانيا في توجيه عناية فائقة الى طرق التربية (في المنزل والمدرسة والبرامج التربوية) التي تشكل أفضل وسيلة لإعداد أجيال تنبذ التعصب والتطرف والتمييز، وتناضل من أجل سيادة مبدأ التسامح، وثالثا في وضع برامج ودراسات، يمكن أن تنجزها منظمة اليونسكو وتعممها، تهدف الى إثبات العلاقة الجدلية بين التسامح الديني وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار داخل كل دولة وبين الدول كافة.
رابعا ـ إن اللاتسامح أنواع، أهمها وأخطرها اللاتسامح السياسي الذي تنتجه الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة والشمولية. وخطره يكمن في عملية التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو اللون. وهو يؤدي الى ممارسة أقسى درجات التعصب